معالم تجديد المنهج الفقهي نموذج الشوكاني
موقع الشبكة الاسلامية
أعد الملف كنسخة للشاملة ونسخة html ... دارة أهل الظاهر
http://www.aldahereyah.net/forums
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛
لقد عرف تاريخ الفقه الإسلامي مراحل نمو وازدهار كان فيها الفقه الإسلامي فقهاً اجتهادياً واقعياً حياً يقوم على استنباط الأحكام من أصولها (القرآن والسنة) وصياغتها بما يعالج مجريات الواقع ونوازله، ولكن ظهرت في تاريخ التشريع الإسلامي عوامل كثيرة أثّرت على العقل الفقهي وسلبته في بعض مراحل تاريخه القدرة على تقديم نظام تشريعي يستجيب للمتغيّرات.
فقد أحاطت بالفقه الإسلامي في بعض أدواره التاريخية عوامل سياسية واجتماعية وعلمية تضخّم على إثرها فقه العبادات والمعاملات على حساب فقه السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، كما تغيّرت بفعل تلك العوامل تركيبة المنظومة الفقهية، فأصبح التقليد قاعدة والاجتهاد استثناء، الأمر الذي ترك آثاراً سلبية على العقل الفقهي على مستوى المنهج والإنتاج.
أما المنهج فقد استُبدلت بنصوص الشريعة -الكتاب والسنة- نصوص الأئمة المجتهدين في الاستنباط والاستدلال الفقهيين، كما اعتنى الفقهاء بتقرير الأحكام المجردة أكثر من عنايتهم بقواعد تنزيلها على الواقع، فضمرت إلى حدّ ما صلة الفقه بالحياة العامة.
أما على مستوى الإنتاج، فقد اشتغل العقل الفقهي بعد توقف حركة الاجتهاد -في الغالب الأعم- بإنتاج تعليمي يتعامل مع المتون، ولا يلتفت إلى قضايا الأمة، وحاجات أبنائها، ومتطلبات وجودها الحضاري.
لكن على الرغم من امتداد عصر الجمود والتقليد -من منتصف القرن الرابع إلى عصر النهضة الفقهية الحديثة- فإن تاريخ الفقه في هذه المدة الطويلة لم يعدم نماذج مستثناة من الخط العام من أبرزها الإمام محمد بن علي الشوكاني، الذي انخرط في الواقع السياسي والاجتماعي، كما عاين عن كثب الواقع الثقافي والعقدي، وتعمق في درسه، وأثمر ذلك كله اجتهاداً فقهياً ثرياً ظهر جلياً في كتبه المختلفة.
ولقد جلبت شخصية الشوكاني الكثير من الباحثين الذين حاولوا التعرف على رصيده العلمي، ومدى تجاوزه للمنظومة المعرفية والفقهية التي كانت سائدة في عصره.
والمتأمل في هذه الدراسات يجدها تمحورت في مجالات عديدة من فكره، لكن جانب الفقه والأصول لم يلق الاهتمام اللازم من قبل الباحثين، إذ يلاحظ غياب الدراسة الاستجلائية الهادفة إلى استخراج منظومة الشوكاني الفقهية ومنهجه التجديدي في الفقه الإسلامي، على الرغم من أن تجديد المنهج الفقهي كان منطلق الحركة الإصلاحية التي قادها والثورة الفقهية التي سعى لإحداثها.
وما دامت أزمة المنهج في الدراسات الفقهية حاضرة، والدعوة إلى تجاوزها قائمة، فإن هذا البحث سيحدد مدى نجاح الشوكاني في تجديد المنهج الفقهي، وسيناقش إمكانية استفادة العقل الفقهي الحديث من هذا النموذج التجديدي، لإحداث نقلة نوعية في الدراسات الفقهية الحديثة، من حيث المنهج والموضوع أو على الأقل من أبعاد التجربة الشوكانية.
وعليه، يقترح البحث المحدّدات المنهجية للتجديد الفقهي المعاصر، التي تهدف في عمومها إلى ما يلي:
- إعادة بعث وإحياء الفقه الإسلامي ليكون أحد ركائز البناء الحضاري الإسلامي المنشود.
- إبراز منهج تجديد الفقه الإسلامي عند أحد علماء القرن الثالث عشر الهجري، الإمام محمد بن علي الشوكاني، باعتباره يمثل حلقة مهمة تجمع بين عصر المتقدمين والمعاصرين.
- تقويم منهج الإمام الشوكاني التجديدي من خلال إطاره التاريخي وواقع الفقه الإسلامي المعاصر.
- دراسة إشكالية تجديد الفقه الإسلامي دراسة تحاول تقصّي أهم عناصر المنظومة الفقهية التجديدية.
- دراسة وتحليل بعض الإشكاليات العلمية والمنهجية التي تثيرها الدعوة إلى تجديد الفقه الإسلامي مثل: منهج التعامل مع التراث الفقهي، تجديد المنهج الأصولي.
وللوصول إلى هذه الأهداف فإنه سيتم اعتماد: المنهج التاريخي لتحديد الإطار الذي حكم منهج الشوكاني ولبيان الخلفية التاريخية لواقع الفقه الإسلامي المعاصر؛ والمنهج الاستقرائي لجمع وتقصي المادة المتعلقة بإشكالية البحث؛ والمنهج التحليلي لشرح أهم معالم المنهج الفقهي عند الشوكاني وتفصيل مكوّنات المنظومة الفقهية التجديدية المعاصرة؛ والمنهج المقارن لمقارنة الإطار التاريخي والمعرفي الذي ظهرت فيه منظومة الشوكاني الفقهية بالإطار التاريخي والمعرفي المعاصر، مما يثير تصوراً موضوعياً وواقعياً لمنهج فقهي معاصر.
وقد حظيت إشكالية البحث الرئيسة بدراسات عدة يمكن حصرها إجمالاً في نوعين رئيسين:
النوع الأول: يتعلق بتجديد الفقه الإسلامي عموماً، وقد عد الإمام الشوكاني في بعضها أحد أمثلة هذا التجديد؛
النوع الثاني: يتعلق بشخص الإمام الشوكاني.
أولاً: دراسات حول تجديد الفقه الإسلامي:
أما الدراسات التي تناولت تجديد الفقه الإسلامي، فقد اتسمت إجمالاً بالعموم والجزئية، فمعظمها يتعرض لتجديد الفقه الإسلامي بصورة عرضية عند الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي عموماً، أو عن تجديد أصول الفقه، وضرورة تطوير العلوم الشرعية على وجه الخصوص، والقليل الذي قدّم دراسة مستقلة في الموضوع ركّز في الغالب على الدراسة الوصفية التحليلية لواقع الفقه الإسلامي أكثر من تركيزه على معالم تجديده. ومن هذه الدراسات:
- بحث: "أزمة المنهج في الدراسات الفقهية المعاصرة"([1]) للدكتور محمد كمال إمام، قدم فيه عرضاً تاريخياً تحليلياً لأزمة المنهج في الفقه الإسلامي المعاصر التي من مظاهرها:
أ- استبعاد التشريع الإسلامي عن التطبيق.
ب- ابتعاد الفقه الإسلامي عن الحياة.
وقد حاول بعد عرض هذه المظاهر بيان سبل اجتياز هذه الأزمة مقترحاً مخرجين: أولاً: فتح باب الاجتهاد؛ ثانياً: تقنين أحكام الشريعة.
- بحث الدكتور حسن الترابي حول موضوع "التجديد الفقهي" في كتابه: "قضايا التجديد: نحو منهج أصولي"([2])، تناول فيه إشكالية تجديد أصول الفقه، ولما كان علم الأصول هو المنهج المعتمد في الاستنباط الفقهي، فقد استخلص الدكتور المبررات التاريخية والعلمية والواقعية لتجديد المنهج الأصولي من خلال قراءة تحليلية نقدية في التراث الفقهي.
- كتاب الدكتور يوسف القرضاوي "شريعة الإسلام، خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان"([3]) الذي تناول فيه موضوعات ذات صلة مباشرة بالفقه الإسلامي، لاسيما في فصل "الشريعة الخالدة وأوضاعها المتجددة"، حيث أكد على ضرورة الاجتهاد، وبيّن أن المقصود بالاجتهاد هو:
أولاً: النظر في تراثنا الفقهي لاختيار أرجح الأقوال فيها وأليقها بتحقيق مقاصد الشريعة.. وهنا حدّد الدكتور بعض القواعد التي توظّف في النظر إلى التراث الفقهي.
ثانياً: العودة إلى النصوص الثابتة، والتفقه فيها، في ضوء المقاصد العامة للشريعة الإسلامية.. وهنا أيضاً بيَّن بعض قواعد النظر في النصوص، وتحريرها من التفسيرات الزمنية والموضعية.
ثالثاً: ضرورة الاجتهاد في القضايا المستجدة.
- كتاب الدكتور عباس حسني محمد: "الفقه الإسلامي آفاقه وتطوره"([4])، وقد بسط فيه آفاق الفقه الإسلامي من حيث المصدر والموضوع، مبيّناً أن امتلاك الشريعة الإسلامية لمبادئ عامة في شتى جوانب الحياة يمكّن الفقه الإسلامي من صياغة أشكال متطورة لنظم الحياة المختلفة: الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية…الخ.
كما أكد الكاتب في موضوع تطور الفقه الإسلامي وجوب تنظيم وتقنين أحكام الفقه، واستخراج النظريات الفقهية.
- ومن الكتب التي تناولت بعض أجزاء إشكالية التجديد الفقهي كتاب: "منهج البحث في الفقه الإسلامي" للدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان([5]) وقد استهدف في خطوط عريضة وبصفة موجزة إبراز خصائص البحث الفقهي و نقائصه الناشئة عن الأساليب التقليدية الموروثة في الدرس، والعرض، والتأليف، كالاعتماد على المختصرات، والنقل من غير المصادر الأصلية.
كما تناول الكتاب بإيجاز منهجية كتابة البحث الفقهي من خلال بيان طريقة إعداد خطة البحث وجمع المادة العلمية والعرض المنهجي لها.
وهذه الكتب والدراسات ستعين على فهم عمق إشكالية التجديد الفقهي ومن ثم بيان معالمه ومحدداته المنهجية.
ثانياً: دراسات حول الإمام الشوكاني:
لقد نالت شخصية الإمام الشوكاني العلمية الكثير من الدراسات القيّمة تمحورت حول خمسة موضوعات رئيسة هي:
التفسير؛ الحديث؛ التربية؛ الفلسفة وعلم الكلام ؛ الفكر والفقه.
ففي التفسير قدم الأستاذ محمد بن حسن أحمد الغماري عام 1980م رسالة دكتوراه بعنوان: "الإمام الشوكاني مفسراً"([6]). وهي دراسة تحليلية لكتاب الشوكاني "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"، وتعتبر الرسالة محاولة جادة للكشف عن منهج الشوكاني في التفسير، وتجلية مدى التزامه بأصوله.
وفي الحديث، قدّم الأستاذ عبد السلام مصطفى أبو المعاطي رسالة دكتوراه بعنوان: "الشوكاني وجهوده في الحديث"([7])، أبرز فيها جهود الشوكاني في علم الحديث من خلال الدراسة والتحليل لكتبه: "نيل الأوطار"، "إتحاف الأكابر"، "الفوائد المجموعة"، وعدداً من رسائله.
وفي التربية، قدّم الأستاذ عبد الغني قاسم الشرجي رسالة دكتوراه بعنوان: "الآراء التربوية عند الإمام الشوكاني" سنة 1985م، نشرت بعنوان: الإمام الشوكاني، حياته وفكره([8])، وقد أكد في هذه الرسالة أهمية النظرية التربوية عند الشوكاني ، وبيّن الأصول الدينية التي استمدت منها، ووسائلها، وأساليبها.
أما في الفلسفة وعلم الكلام، فقد ألف الدكتور عادل محمد علي كتابه: "الإمام الشوكاني.. سيرته وفكره"([9]) تناول فيه مصادر المعرفة عند الشوكاني، وموضوعاتها، ومناهج البحث فيها، وأهدافها، رام من خلاله اكتشاف نظرية المعرفة عند الشوكاني، كما تناولت هذه الدراسة آراءه الكلامية والفلسفية.
كما ألف الدكتور حسن عبد الله العمري كتاب: "الإمام الشوكاني رائد عصره: دراسة في فقهه وفكره"([10]).وهو يتكون من مقدمة وستة أقسام: تناول في القسم الأول سيرة الشوكاني، وفي القسم الثاني الشوكاني مجتهداً وفقيهاً، عرّف فيه بكتابه "إرشاد الفحول" في علم أصول الفقه، وكتابه "السيل الجرار" في الفقه، كما ناقش بعض القضايا التي احتواها هذان الكتابان. أما القسم الثالث فقد تناول فيه الشوكاني محدثاً، من خلال التعريف بأهم كتبه في الحديث مثل: "نيل الأوطار"، "در السحابة في مناقب القرابة والصحابة"، ورسائل أخرى. وخصّص القسم الرابع للكلام عن الشوكاني مفسراً، حيث سلّط الضوء على منهجه في التفسير من خلال كتابه "فتح القدير". وفي القسم الخامس تناول الشوكاني مؤرخاً، حيث اهتم ببيان منهجه في كتابة التاريخ من خلال كتابه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع". أما القسم السادس والأخير فقد تناول فيه الشوكاني شاعراً وأديباً من خلال قراءة في ديوانه: "أسلاك الجوهر".
لقد تناولت هذه الكتب والرسائل مجالات عدة من فكر الإمام الشوكاني، لكن جانب الفقه والأصول لم يلق منها الاهتمام اللازم؛ لذا يحاول هذا البحث سد هذه الثغرة بتسليط الضوء على منظومة الشوكاني الفقهية، ومنهجه التجديدي في الفقه الإسلامي.
وستساعد الكتب والرسائل سالفة الذكر في الكشف عن شخصية الشوكاني العلمية المتكاملة، وفي اكتشاف دور معرفته الموسوعية في تجديد المنهج الفقهي. لكن الاعتماد سيكون بالدرجة الأولى على مؤلفات الإمام الشوكاني في الفقه والأصول والتفسير والحديث والتربية والتعليم.
.......................................................................
------
([1]) محمد كمال إمام، "أزمة المنهج في الدراسات الفقهية المعاصرة"، بحث مقدم إلى ندوة قضايا المنهجية في الفكر الإسلامي قسنطينة، الجزائر، 9-12 سبتمبر 1989م (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1989م).
([2]) حسن الترابي، قضايا التجديد: نحو منهج أصولي (السودان: معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، 1990م).
([3]) يوسف القرضاوي، شريعة الإسلام: خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان ، ط2 (القاهرة: المكتب الإسلامي ، 1983م).
([4]) عباس حسني، الفقه الإسلامي آفاقه وتطوره، ط2 (السعودية: مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، 1414هـ).
([5]) عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، منهج البحث في الفقه الإسلامي، ط1 (السعودية: المكتبة المكية، لبنان: دار ابن حزم ، 1416هـ - 1996م).
([6]) محمد بن حسن أحمد الغماري، الإمام الشوكاني مفسراً (جدة: دار الشروق،1981م).
([7]) عبد السلام مصطفى أبو المعاطي، الإمام الشوكاني وجهوده في الحديث، رسالة دكتوراه مقدمة سنة 1979م، بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر.
([8]) عبد الغني قاسم الشرجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره (بيروت:دار الفكر،1988م).
([9]) عادل محمد علي، الإمام الشوكاني سيرته وفكره(القاهرة:مكتبة رياض الصالحين، 1994م).
([10])حسن عبد الله العمري،الإمام الشوكاني:رائد عصره (بيروت:دار الفكر المعاصر،1990م).(1/1)
الفصل الأول
الإطار المعرفي والمقدمات المنهجية
مقدمات منهجية لإشكالية التجديد الفقهي
إن الدراسة الموضوعية لإشكالية التجديد الفقهي تقتضي التقديم لها بمقدمات منهجية تعتبر الإطار الكلي الذي يحكم البحث. وقد حصرت هذه المقدمات في ثلاث:
1- الخلفية التاريخية لواقع الفقه الإسلامي.
2- مدى إمكانية تجدد الفقه الإسلامي.
3- تحديد دلالة مصطلحات عنوان البحث.
المقدمة الأولى: الخلفية التاريخية لواقع الفقه الإسلامي:
إن التتبع التاريخي للحركة الفقهية يرسم لنا خطاً بيانياً كثير المنحنيات الشاهدة على أدوار البعث والانحسار المتعاقبة على هذه الحركة، وعلى الوعي الشامل لدورها في الحياة. فلقد مرّ الفقه الإسلامي بأدوار مختلفة كان في ذلك أشبه بغيره من العلوم فيما يعرض لها من النهوض والانتعاش حيناً، والانكماش والانحسار حيناً آخر، وذلك تحت تأثير العوامل التي تحيط برجاله في كل عصر من عصوره. فإذا ما استثنينا عصر البعثة الذي كان عصر بناء وتأسيس للتشريع الإسلامي، نجد أن الفقه الإسلامي قد تطور في عصر الصحابة بفعل ظهور مشكلات ونوازل جديدة في واقع المسلمين، خاصة بعد انتشار الإسلام في بلاد مختلفة الثقافات والعادات، فاتسع بذلك نطاق الاجتهاد الفقهي ليشمل كثيراً من القضايا السياسية والإدارية والمالية، الأمر الذي وسمه بالواقعية، وأبعده عن الافتراض النظري للمسائل والأحكام([11]).
أما عصر التابعين، فقد شهد حركة حضارية وعلمية ودعوية أثّرت تأثيراً بالغاً في تطور الحياة الفقهية. فقد ساعد الاحتكاك الحضاري بين المسلمين والشعوب التي دخلت الإسلام، وتفرق الصحابة في الأمصار، وشيوع رواية الحديث، على اتساع دائرة البحث الفقهي، وعلى ظهور اتجاهات فقهية عديدة شكلت مدارس فقهية في مختلف العواصم الإسلامية، كمدرسة الكوفة والمدينة ومكة والشام ومصر واليمن([12]).
غير أن الملاحظ هو بروز عامل جديد أثّر في طبيعة الإنتاج الفقهي في هذا العصر، وفي العصور التي تلته، تمثل في الصراع بين الفقهاء وحكام بني أمية([13]). ومرجع هذا الصراع هو تحوّل نظام الحكم في العالم الإسلامي من الخلافة إلى الملك، فتقلّص دور الفقيه المباشر في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى إلى توسع الدراسات الفقهية في جانب العبادات والمعاملات أكثر منه في الجانب السياسي والاقتصادي والإداري.. وهذا لا يعني أن التشريع الإسلامي قد أقصي عن إدارة الحياة العامة، فكل المجالات السالفة ذكراً كان يحكمها الإسلام، ولكن البحث الفقهي النظري قد تطور أكثر في المساحات أو الموضوعات التي لم تكن محل صراع بين الفقهاء والحكام([14]).
والخلاصة أن عصر التابعين شهد تشكّل بذور إحدى أزمات الفقه الإسلامي وهي: انكماش الفقه من الناحية الموضوعية.
ثم تلى عصر التابعين عصر نشأة المذاهب الإسلامية الكبرى في أوائل القرن الهجري الثاني، وانتهى في منتصف القرن الرابع، وكان هذا العصر أزهى عصور الاجتهاد الفقهي بفعل ثلاثة عوامل أساسية([15]).
- العامل السياسي: فقد كانت بداية هذا العصر بداية قيام الدولة العباسية، هذه الدولة التي قرّب خلفاؤها الفقهاء، وأحضروهم مجالسهم العلمية، وطلب بعضهم من بعضهم، وضع قوانين مستمدة من الكتاب والسنة لتسيير بعض القطاعات العامة، كما فعل هارون الرشيد، إذ طلب من أبي يوسف وضع كتاب ينظم من خلاله الحياة الاقتصادية، فألف رحمه الله كتاب "الخراج" تعرّض فيه لكل ما يتعلق بجباية الأموال.
وهذا الاتصال بين مؤسستي الحكام والعلماء، ساهم في نمو الفقه ومشاركة الفقيه في وضع اللبنات الأساسية في بعض الدوائر الفقهية التي استأثرت بها السلطة الحاكمة، كالاقتصاد أو النظام المالي.
- العامل الاجتماعي: امتاز عصر نشأة المذاهب من الناحية الاجتماعية باحتكاك أناس من مختلف الثقافات والحضارات، وكان لهذا التبادل المعرفي والثقافي أثر في إنضاج العقل الفقهي، وتمكينه من استخراج المسائل، ووضع الضوابط العامة للفروع الفقهية المتباينة. كما نتج عن هذا الاحتكاك الحضاري والتفاعل الاجتماعي كثرة الوقائع وتنوعها، ومن ثمّ اتساع دائرة الاجتهاد في كلّ أبواب الفقه.
- العامل العلمي: شهد هذا العصر تدوين العلوم الشرعية المختلفة، ولعل أهم العلوم التي دفع تدوينها حركة الاجتهاد الفقهي هي علوم الحديث، وعلم أصول الفقه. فقد دوّنت السنة النبوية في هذا العصر تدويناً علمياً منهجياً يقوم على قواعد دقيقة، وكان من أثر ذلك أن أصبحت أدلة الأحكام من السنة ميسورة للفقهاء. كما دُوِّن علم أصول الفقه ليكون قانوناً يحكم العملية الاجتهادية.
بتلاحم هذه العوامل الثلاثة، خلّف الاجتهاد الفقهي في هذا العصر تراثاً ضخماً في شتى مجالات الحياة الإنسانية، كما جعلت من فقه الأئمة المجتهدين فقهاً اجتهادياً واقعياً يقوم على ركيزتين:
الأولى: تقرير الأحكام باستخلاصها من أصول معرفة الوحي.
الثانية: صياغة هذه الأحكام بما يعالج مجريات الواقع في البيئات التي كانوا يعيشون فيها عن طريق فقه التنزيل()، إذ اعتمدوا في سبيله بعض الأصول الاجتهادية ذات الصلة الوثيقة بالواقع مثل: المصالح المرسلة، الاستحسان، العرف وغيرها([16])، فكان منهج الاستنباط عندهم يقوم على الثنائية التالية:
النص الشرعي (محل استنباط الحكم)، والواقع العملي (محل تنزيل الحكم)، ومن هنا لم يعرف منهجهم الاجتهادي التقرير المجرد للأحكام.
إلاّ أن إشكالية انكماش الفقه من الناحية الموضوعية التي ظهرت بذورها في عصر التابعين، قد تبلورت بشكل أكثر وضوحاً في هذا العصر، إذ فضّل فقهاء هذا العصر - الذين قادوا الأمة علمياً - عدم الاصطدام المباشر والعنيف بالنظام القائم([17]) ما دام الإسلام حاضراً في المجتمع، تشريعاً وقضاءً. من هنا عالج العقل الفقهي في هذه المرحلة جميع القضايا الفردية والجماعية، وترك ثروة ضخمة في كل أبواب الفقه، لكن إنتاجه في الفقه السياسي والاقتصادي والدولي كان أقل توسعاً، بالنسبة إلى فقه العبادات والمعاملات، كماً ونوعاً.
ولقد لاحظ هذا الأمر كثير من الباحثين، منهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه: "فقه الخلافة" إذ أشار إلى أن القانون العام - الدستوري، المالي، الدولي - في الفقه الإسلامي أقل تطوراً من القانون الخاص - المعاملات، شؤون الأسرة، القضاء - وأنه لا يزال في مراحله الأولى. وأرجع ذلك إلى قيام أنظمة متعاقبة في التاريخ الإسلامي تقمع أي حركة فقهية تريد إقامة أصول الحكم على أسس من الحرية السياسية. أما القانون الخاص فقد تقدم تقدماً كبيراً؛ لأن هذه الأنظمة لم يكن يضيرها تقدمه([18]).
ثم تلى عصر نشأة المذاهب الإسلامية عصر التقليد، فقد جدّت في العالم الإسلامي بعد منتصف القرن الرابع الهجري عوامل سياسية وعلمية واجتماعية جعلت مبدأ التقليد يحلّ محل الاجتهاد في المنظومة الفقهية، إذ ابتعد الفقهاء عن الاستقلال الفكري- على تفاوت بينهم - وانتظموا في المذاهب الفقهية الموروثة، وعكفوا على نشر آرائها والدفاع عنها.
وكان في مقدمة تلك العوامل: انقسام العالم الإسلامي إلى دول متناحرة، والجهود العملاقة التي بذلها تلامذة الأئمة في دراسة وإذاعة آراء أئمتهم، ومن ثمّ تأصيل الثقة بهم والتقليد لهم، ودخول ميدان الاجتهاد الفقهي من لم يكتسبوا المؤهلات العلمية لذلك، الأمر الذي دفع ببعض أهل العلم في أواخر القرن الرابع بالحكم بغلق باب الاجتهاد([19]).
ولقد ميّز كتّاب تاريخ التشريع الإسلامي بين فترتين في عصر التقليد:
الفترة الأولى: وهي الفترة التي سبقت سقوط بغداد على يد المغول سنة 656هـ. وقد انحصر نشاط الفقهاء في هذه الفترة في خدمة الفقه المذهبي عن طريق تعليل الأحكام التي قال بها الأئمة لتوظيفها في عملية التخريج،التي اعتبرت أهم عناصر المنهج الفقهي في هذا الدور.
والتخريج:تطبيق العلل المستنبطة من الأحكام التي قرّرها الأئمة المجتهدون على الأفعال الجزئية الحادثة دون حاجة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة. كما اعتنى الفقهاء في هذه الفترة بالترجيح بين الآراء في المذهب الواحد، وبدراسة علم الخلاف بين الفقهاء، وبوضع القواعد الكلية التي تندرج تحتها الأحكام الفقهية، كل هذا في إطار التعصب لأئمة المذاهب والدفاع عن آرائهم([20]).
إن الدراسة الموضوعية لهذه الفترة تكشف أن السبب في العزوف عن الاجتهاد المستقل، والتزام المذاهب المعروفة، هو أن التطورات التي حدثت في واقع الناس وأفكارهم في هذه الحقبة الزمنية، كانت تطورات جزئية وبسيطة بسبب توقف المد الحضاري، ومن ثمَّ مكّن تعدد آراء الفقهاء واجتهاداتهم في إطار كل مذهب من تغطية الحوادث المستجدة([21]). كما تلزمنا النظرة الموضوعية لإنجازات الفقهاء في هذه الفترة أن نؤكد أن الفقهاء قدموا، رغم غياب الاجتهاد المستقل وشيوع التقليد، خدمة جليلة للفقه المذهبي عن طريق تعليله وتنظيمه وترتيب أبوابه وفصوله، الأمر الذي حفظ لنا تراث الأئمة المجتهدين، ونمَّاه.
لكن، وفي المقابل، تكشف لنا الدراسة النقدية للفترة ذاتها عن ظهور خلل جديد في المنظومة الفقهية، إضافة إلى الخلل السابق - انكماش الفقه من الناحية الموضوعية - تمثّل في: اختلال منهج الاستنباط والاستدلال، وقد تجلى هذا الخلل في مظهرين:
المظهر الأول: الاستنباط من نصوص أئمة المذاهب:
إن اعتماد فقهاء هذه الفترة مبدأ التخريج جعل مصدرهم الأول في استنباط الأحكام هي نصوص إمام المذهب المتبع، يقيسون عليها ما يجدّ من حوادث، وكأن هذه النصوص هي الأصول، إذ صار لفظ الإمام، كما قال القاضي عياض في ترتيب المدارك: "ينزل عند مُقَلِّده منزلة ألفاظ الشارع"([22])، وأصبحت مصادر الأحكام، هي نصوص الفقهاء، وأقيم بذلك سد بين الأمة وبين نصوص الكتاب والسنة.
ولا شك أن مقارنة بسيطة بين قول أبي الحسن الكرخي الحنفي: "كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ"([23])، وبين قول أبي حنيفة إمام المذهب في من سبقه من الفقهاء: "هم رجال ونحن رجال"، يظهر الانقلاب الجذري الذي مسّ المنظومة الاجتهادية في هذا الدور.
هذا ولقد أثّر هذا الخلل الذي مسّ منهج الاستنباط في منهج التلقي أو التعليم، يقول محمد علي السايس: "فبعد أن كان طالب الفقه يشتغل أولاً بدراسة الكتاب ورواية السنة، صار في هذا الدور يتلقى كتب إمام معيّن، ويدرس طريقته التي استنبط بها ما دوّنه من الأحكام، فإذا تمّ ذلك صار من الفقهاء"([24]). كما أثر ذات الخلل في منهج التأليف الفقهي، إذ انحصرت حركة التأليف في اختصار كتب الأئمة المجتهدين،أو شرحها، أو جمع ما تفرّق في كتب شتى([25]).
المظهر الثاني: التقرير المجرد للأحكام:
كانت عناية التراث الفقهي في هذا الدور بتقرير الأحكام المجردة أكثر من عنايته بمنهج تنزيلها على الواقع، فطغى بذلك فقه الفهم على فقه التنزيل، سواء بالنسبة إلى الشق التطبيقي في هذا التراث وهو الفقه، أو الشق التنظيري فيه، وهو أصول الفقه. أما الفقه فقد تضخم فيه الجانب التقريري للأحكام المجردة، وضمرت فيه إلى حد بعيد الصلة بالواقع المعيش وملابساته العينية، وهكذا أصبح التقرير المجرد للأحكام منهجاً للفقه طيلة القرون اللاحقة.
وأما أصول الفقه فقد توجهت العناية فيه إلى قواعد استنباط الأحكام من أدلتها، وأهمل بحث قواعد تنزيل هذه الأحكام على الواقع، حيث نجد الأبواب التي أشبعت بحثاً هي تلك التي تخص الاستنباط، وأما ما يمكن أن يدفع إلى إنضاج فقه التنزيل فقد كان البحث فيه خفيفاً مثل الاستحسان والمصلحة والعرف([26])، فلم يعتن فقهاء هذا الدور بتطوير هذه الآليات ولا بإعمال آليات جديدة. كما أن مبحث المقاصد ذا الصلة الوثيقة بفقه تنزيل الأحكام لم يخدم الخدمة الكافية قبل الشاطبي، كما أنه آل إلى ضمور شديد بعده.
الفترة الثانية: امتدت من سقوط بغداد إلى ظهور مجلة الأحكام العدلية في أواخر القرن (13هـ) سنة 1293هـ- 1876م([27]). وكانت مرحلة ذات طابع تقليدي خالص، انقطعت فيها صلة الفقهاء بأمهات الكتب التي خلّفها المتقدمون، التي تتعامل مع نصوص الوحي مباشرة في عملية الاستنباط. وتجلى التقليد أكثر ما تجلى في التأليف الفقهي، والتحصيل العلمي، والتقييم الدراسي.
أما التأليف، فقد اتجه الفقهاء نحو كتابة المتون، وتصنيف المختصرات التي تحتاج إلى شروح وحواشي([28]) افتقدت عنصر الإبداع والتجديد لأنها عاشت في دائرة المذهبية الضيقة، واهتمت بالمباحث الشكلية والمسائل الافتراضية.
ولقد أثّر هذا الأسلوب في التأليف على مستوى التحصيل العلمي، إذ انحصرت جهود طلاب الفقه في فهم الأسلوب، وحلّ العبارات والتراكيب([29])، فاشتغلوا بالألفاظ عن لب العلم ومضمونه، الأمر الذي أعدم فيهم مواهب الاجتهاد، وأسرهم في الحفظ الخالي عن الفهم الصحيح.
ومما عاق طالب الفقه عن اكتساب ملكة الاجتهاد، انقطاع الصلة بعلماء الأمصار([30])، إذ حلّت المطالعة المجردة محلّ التلقي المباشر كمنهج في التعليم.
أما التقييم الدراسي، فقد أصبح بفعل كثرة التصانيف في العلوم وأدواتها يركز على مدى حفظ الطالب للمسائل ولطرق تحصيلها. قال ابن خلدون:
«اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم، والوقوف على غاياته كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها، فيقع القصور ولابد، دون رتبة التحصيل»([31]).
وضرب ابن خلدون لذلك مثلاً بالمدونة في مذهب مالك، وما كتب عليها من الشروح التي اختلفت فيها طرق الكاتبين من علماء قرطبة، وبغداد، والقيروان، ومصر، فإن المتعلم كما قال: «لا يصل إلى بغيته من التحصيل ولا يسلم له منصب الفتيا إلاّ إذا أحاط بهذه الطرق علماً وميّز بينها، مع أن أحكام طريقة واحدة منها يستنفد العمر»([32]).
أما في العصر الحديث فقد واجه العقل الفقهي أصعب تحدٍ له في تاريخه الطويل، وهو استبعاد التشريع الإسلامي عن التطبيق، إذ تبنت المحاكم والهيئات التشريعية في الدولة العثمانية عام 1926م القانون المدني السويسري، فعطلت أحكام الشريعة الإسلامية كلها([33])، وكان هذا الإقصاء الذي مثّل وجهاً ثالثاً للأزمة الفقهية، نتيجة لاستيلاء الحضارة الأوربية الغازية على أغلب أنحاء العالم الإسلامي في فترة ضعف الدولة العثمانية، فكان البديل التشريعي الأوربي ضرورة استعمارية مكّنت للنفوذ الأجنبي في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ حكم التشريع المستورد كل الواقع، إلا مساحات محدودة تتعلق بأحكام الأسرة وما يرتبط بها([34]).
ومما أنجح عملية إقصاء التشريع الإسلامي، اختيار المؤسسة السياسية في البلاد الإسلامية أن تكون أداة المستعمر في فرض التبعية القانونية التي تلتها تبعية فقهية في النقل عن موسوعات الفقة الفرنسي في شرح قانون نابليون، وتبعية قضائية في الفهم والتفسير من خلال موسوعات الأحكام الفرنسية ([35]).
وهذا الواقع الجديد المفروض أقصى الفقه الإسلامي عن الحياة إقصاء شبه تام، كما ترك آثاراً جد سلبية على العقل الفقهي على مستوى المنهج والإنتاج.. فعلى مستوى المنهج أقصِي عنصر الواقع من المنظومة الفقهية التي اختزلت مصادرها في المتون والمختصرات.
أما على مستوى الإنتاج فقد استمر العقل الفقهي في الاحتفاء المجرد غير الواعي بأقوال المتقدمين، بعد أن أصبح الواقع محكوماً بغير التشريع الإسلامي.
والخلاصة هي أن إقصاء الشريعة عن كثير من جوانب الحياة كان السبب الرئيس في توقف الفقه الإسلامي، في هذه المرحلة، عن التجديد ذاتياً وموضوعياً، حيث عجز عن تجديد مناهجه وأبنيته الداخلية ليستعيد فاعليته في الحياة الفكرية والتشريعية، كما عجز عن تجديد الواقع بإصلاحه وتطويره.
لكن؛ وبما أن تاريخ الفقه الإسلامي في عصر التقليد لم يعدم نماذج مستثناة من الخط العام أمثال: ابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، والشوكاني وغيرهم، إذ نبذوا التقليد، ودعوا إلى الاجتهاد، وقادوا حركات تجديدية هدفها بعث وإحياء الفقه الإسلامي ليحافظ على المكتسبات، ويواكب المستجدات، فقد خلّفت دعوتهم هذه صدى بالغاً في العصر الحديث، وذلك بفعل التحول الجذري والتطور السريع الذي مسّ الواقع البشري، والمعارف الإنسانية، والاحتكاك الحضاري بين الأمم، فظهرت في هذا العصر نهضة فقهية هدفها التأكيد على قدرة الفقه الإسلامي على مواجهة الواقع، وامتلاكه نظريات في التشريع تزاحم النظريات الحديثة وتفوقها.
وقد تجلت هذه النهضة الفقهية المعاصرة في مظاهر ثلاثة:
1- الدعوة إلى الاجتهاد، بسبب تغيّر أوضاع الحياة تغيّراً جذرياً، ونبذ التعصب المذهبي لبناء عقلية فقهية تتساوى في نظرها المذاهب حرمة وتقديراً. فاستحدث في المؤسسات العلمية، مثل مؤسسة الأزهر، علم مقارنة المذاهب الأربعة، بهدف الموازنة بينها في الأدلة ومناهج الاستنباط والترجيح. كما استحدث علم تاريخ التشريع الإسلامي، ليقف الدارس على أطوار الفقه الإسلامي بجملته وما طرأ عليه من أسباب القوة والضعف([36]).
2 - تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، الذي عدّ أول مظهر من مظاهر التجديد. وقد كانت عملية التقنين في هذا العصر جهداً رسمياً لبعض الدول، وجهداً فردياً من بعض الفقهاء أو المؤسسات الإسلامية. وأولى محاولات التقنين جاءت من الدولة العثمانية بإصدراها لمجلة الأحكام العدلية سنة 1293هـ على المذهب الحنفي، ثم استتبعتها مشاريع أخرى في التقنين اعتمدت على المذاهب الفقهية المختلفة([37]).
ولقد كانت حركة التقنين هذه ذات أثر إيجابي في النهضة الفقهية المعاصرة، إذ ساعدت على تطوير منهجية جديدة استعان بها المشرّع من ناحية، كما وسّعت آفاق التعاون العلمي بين المذاهب المختلفة، وأبقت التفكير في تشريع إسلامي كامل أمراً قائماً في ذهن الفقهاء([38]).
3 - انتعاش حركة التأليف، التي من أسبابها اقتحام الاتجاه العقلي المتطرف الساحة الفقهية متخذاً من نقد النص الديني (الشرعي)، أو تأويله تأويلاً منحرفاً سبيلاً إلى الحداثة والتنوير.
وقد أثار الإنتاج الفكري لهذا الاتجاه مثل مؤلف: "الشعر الجاهلي" لطه حسين، أو للمتأثرين بهذا الاتجاه مثل مؤلف: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق حميّة دينية تجسدت في نشاط فقهي مكثّف في مواجهة تلك الدراسات. فظهرت مؤلفات جادة في رسم منهج التعامل مع نصوص الشريعة، وفي فقه القانون العام عند المسلمين.
كما اتجه التأليف الفقهي نحو دراسة موضوعات الفقه المختلفة باعتماد منهج الموازنة بين المذاهب الفقهية، أو بين هذه الأخيرة وبين النظريات القانونية الوضعية، كما اتجه نحو تجلية النظريات القانونية في الفقه الإسلامي مثل نظرية البطلان والضمان والتعسف، وإخراج الموسوعات الفقهية التي تقدم الفقه الإسلامي وفق خطة منهجية دقيقة([39]).
إن الاعتراف بهذه الجهود التجديدية لا يمنع من تسجيل ملاحظة هامة على النهج العام للنهضة الفقهية المعاصرة.. فالمتتبع للإنتاج الفقهي في هذه المرحلة يلحظ أن هذه النهضة قد استدرجت إلى معارك جانبية ساخنة، اختيرت فيها موضوعات فقهية شائكة كان الجمود فيها واضحاً، كمعركة حرية المرأة، فمثل هذه المعارك على أهميتها شغلت العقل الفقهي عن معركته الأساسية "التنظير الفقهي".
ذلك أن الرد على الشبهات التي أثارها الاتجاه العلماني، والحركة الاستشراقية الهادفة إلى الطعن في صلاحية التشريع الإسلامي للحياة عمل مهم، لكن إذا أخضعناه لفقه أولويات المرحلة، نجد أن الأولى كان صياغة منهج دقيق لتجديد بنية الفقه الإسلامي ومناهجه المختلفة بالتوازي مع خوض معركة الرد على الشبهات.. والدليل على ذلك أن الطاقات العلمية التي نشطت على أيديها حركة التأليف الفقهي لم تشكل في الحياة الفقهية تياراً له منهجه وقواعده ورجاله وأنصاره، بل إن الأجيال التالية اهتمت بالإنتاج الكمي على حساب الإنتاج النوعي، فكثرت المؤلفات، وبقيت الدراسات الفقهية تعاني أزمة المنهج.
وفي ختام هذه المقدمة المنهجية الأولى لموضوع البحث، لابد من التأكيد على أن العرض التاريخي والتحليلي لتاريخ الفقه الإسلامي يمكّننا من تشخيص أزمة الفقه الإسلامي، التي تتكون من فروع ثلاثة:
1- انكماش الفقه من الناحية الموضوعية.
2- اختلال منهج الاستنباط والاستدلال في عصور التقليد.
3- إقصاء التشريع الإسلامي من الحياة في القرن الأخير.
كما لابد من التأكيد أن المنظومة الفقهية عبارة عن حلقات مترابطة، فأي خلل في أيّ حلقة يتعدى أثره إلى الحلقات الأخرى. وهذا يستدعي أن يكون مشروع تجديد الفقه الإسلامي مشروعاً يتصف بالشمول، ويبتعد عن الجزئية، لأن الحل الجزئي قد يعطي نَفَساً لأي مشروع لكي يتعامل بمرونة مع بعض أجزاء الواقع، لكن لا يمكنه من تجاوز هذا الواقع إلى واقع آخر يتحقق من خلاله الاستقلال الحضاري، فالتجاوز الحضاري، فالشهود الحضاري.
المقدمة الثانية: مدى إمكانية تجدد الفقه الإسلامي:
لا شك أن التجديد عموماً مطلب ترتضيه الفطر السليمة؛ لأنه سنة الحياة وفلسفة الإنسان والتاريخ؛ غير أنه إذا أضيف إلى الدين أو علومه أثار إشكاليات كثيرة أهمها: معنى التجديد وإمكانيته.
وقد انبثقت هاتان الإشكاليتان في موضوع البحث - تجديد المنهج الفقهي- من سؤال مركزي هو: هل يتجدد الفقه الإسلامي؟ والإجابة عن هذا التساؤل اتسعت لآراء متنوعة تتقارب وتتباعد فيما بينها بقدر اشتراكها أو اختلافها في مسألتين اثنتين:
الأولى: المقدمات النظرية التي يُنطلق منها في بحث الموضوع.
الثانية: دلالة المصطلحات المركزية في الموضوع.
المقدمة النظرية الأولى: علاقة الفقه بالشريعة:
إن الدارس لفرضية إمكانية تجدد الفقه الإسلامي، وفرضية عدم إمكانية تجدده، يلحظ أن كلتا الفرضيتين قائمتان على أساس طبيعة العلاقة المتصوّرة بين الفقه والشريعة، فالافتراض النافي لإمكانية التجديد الفقهي منطلقه أن الفقه مأخوذ ومستنبط من الشريعة، وهي واجبة الاتباع فهو واجب الاتباع أيضاً، ولا فرق بين اتباع نص قرآني أو حديثي، وبين اتباع اجتهاد أو استنباط منهما([40]).
أما الافتراض المثبت لإمكانية التجديد الفقهي فمنطلقه عدم صحة الافتراض الأول؛ لأنه بني على خلل منهجي وهو اعتبار الفقه والشريعة أمراً واحداً، في حين أن الشريعة هي مجموع أحكام الله تعالى الثابتة في القرآن والسنة النبوية التي تنظم أفعال الناس، أما الفقه فهو الفهم للشريعة ولما تريده الشريعة، وبناء الأحكام في ضوئها وعلى نهجها([41]).
والحقيقة أن إثبات صحة التداخل بين مصطلح الفقه ومصطلح الشريعة أو عدمه، يقتضي الرجوع إلى أصل الكلمتين، وطبيعة كل منهما، والنتائج المترتبة على التفريق بينهما أو عدمه.
- أصل كلمتي الفقه والشريعة:
الشريعة لغة: المواضع التي يُنحدر إلى الماء منها ([42]).
أما اصطلاحاً: فقد عرفها التهانوي بأنها: «ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبيّنا وسلّم، سواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية عملية، ودوّن لها الفقه، أو بكيفية الاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية، ودوّن لها علم الكلام»([43]).
والفقه لغة: العلم بالشيء، والفهم له ([44]).
أما اصطلاحاً: فقد عرفه الجرجاني بأنه: «العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية»([45]). وعرفه الآمدي بأنه: «العلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال» ([46]).
- طبيعة الفقه والشريعة:
تنكشف طبيعة الفقه والشريعة من خلال معناهما اللغوي والاصطلاحي. فالشريعة باعتبارها ما شرعه الله للناس من دين، فهي الكتاب والسنة، أي المصادر الثابتة التي لا تتغير بمرور الزمان ولا باجتهاد العلماء. أما الفقه فهو ما يفهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد تضمن التعريف الاصطلاحي هذا المعنى في استعماله للفظة "علم"، "العلم بالأحكام الشرعية.." فالفقه إذن هو علم يستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج إلى نظر واستدلال، أي هو عمل الفقهاء في الشريعة، تفسيراً لها، واستخلاصاً للأحكام منها، وقياساً عليها فيما لم يرد فيه نص، وطلباً للمصلحة فيما يعرض من أمور.
- نتيجة التفريق بين الفقه والشريعة وعدمه:
إن النتيجة المترتبة عن عدم التفريق بين الفقه والشريعة هي تبني ثبات كليهما، وعدم تغيرهما بتغير الزمان والمكان. أما النتيجة المترتبة عن التفريق بينهما فهي التأكيد أن الثابت الذي لا يتغيّر هو الشريعة، أما الفقه فقابل للتغيّر بحسب ظروف الزمان والمكان.
مما تقدم يتضح أن اختلاف أصل الكلمتين وطبيعتهما وعدم معقولية وشرعية النتائج المترتبة على الدمج بينهما يفرض التفريق بينهما لتتجلى العلاقة بينهما. وقد أوضح الدكتور عبد الكريم زيدان أن الفرق بينهما يتجلى في أمرين أساسين هما:
1- أن الشريعة أعم من الفقه؛ لأنها تشمل الأحكام الاعتقادية والعملية، بينما يقتصر الفقه على الأحكام العملية فقط.
2- أن الشريعة الإسلامية تعني الأحكام المنزلة من عند الله في كتابه الكريم، أو على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، ومن ثمّ لا يجوز مخالفتها.
أما الأحكام الفقهية فنوعان:
أ- ما ينعدم أو يضعف فيه الجانب الاجتهادي، وذلك مثل الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، أو التي تستفاد من النص الشرعي بلا بحث.
ب- ما يغلب عليه الجانب الاجتهادي، وهذا النوع من الأحكام لا يعتبر جزءاً من الشريعة الإسلامية بمعناها الاصطلاحي، أي لا يعتبر من قبيل التشريع الإلهي الذي لا تجوز مخالفته، بل تسوغ هذه المخالفة ما دامت مستندة إلى دليل أقوى من دليل الرأي الفقهي المتروك([47]).
والنتيجة المستوحاة من هذه المقدمة الأولى هي: أنه لو جاز أن تكون الشريعة هي الفقه، مع ما نرى من اختلاف الفقهاء وتفنيد بعضهم آراء بعض، وإبطالها أحياناً ، لصدقت فينا كلمة الله تعالى: ((إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء)) (الأنعام:159).
المقدمة النظرية الثانية:
تجديد الفقه الإسلامي مبني على مسلّمة سابقة في التصور والحكم:
هي أن الفقه الإسلامي قد يتقادم ويجمد، وهو خلاف لما يعتقده كثير من الفقهاء من أنه فقه حي يحوي ثروة ضخمة في شتى مجالات الحياة([48]). والحقيقة أنه إذا ما انطلقنا من النتيجة التي توصلنا إليها في تحديد العلاقة بين الفقه والشريعة، وهي أن الفقه هو فهم الفقهاء لنصوص الشريعة، فإننا نستطيع تأكيد صحة المسلمة التي بنيت عليها إشكالية تجديد الفقه الإسلامي للاعتبارات الآتية:
1- أن بصيرة الفقيه مهما امتدت في المستقبل فإنها محكومة بقدرات الإنسان المحدودة في رؤية البعد الزمني.
2- أن الفقه الإسلامي مطالب بقضايا زمانه، ومن المعلوم أن لكل زمان قضاياه ومشكلاته، والمطلوب من الفقيه المجتهد أن ينجح في التعامل مع قضايا عصره، لكن نجاحه في ذلك لا يعني نجاحه في التعامل مع قضايا العصور اللاحقة.
3- أن استعراض تاريخ التشريع الإسلامي يدل على مرور الفقه الإسلامي بمراحل استرخاء وجمود ضعف فيها الاجتهاد، وضمر في حياة المسلمين.
بعد توضيح المقدمات النظرية لإشكالية التجديد الفقهي ننتقل إلى المسألة الثانية التي تسببت في اختلاف الرؤى حول الإشكالية ذاتها ألا وهي:
- دلالة المصطلحات المركزية في الموضوع:
لقد تقدم ضبط مصطلح الفقه والشريعة، لهذا سيقتصر الكلام في هذا الموضوع على مصطلح "التجديد" باعتباره أحد المصطلحات المركزية في البحث، ذلك أن تحديد مفهوم التجديد الفقهي مرتبط أساساً بدلالة مصطلح التجديد.
التجديد لغة: تجدّد الشيء يعني صار جديداً، وجدّده أي صيّره جديداً. والجديد نقيض البالي. فيقال "بلى بيت فلان ثم أجدّ بيتاً من شعر" أي أعاد بناءه. ويقال"جدّد الوضوء" أي أعاده، "وجدّد العهد" أي كرّره وأكده ([49]).
ولقد استعمل مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي أخذاً من الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها»([50]).والمراد بتجديد الدين: إحياء معالمه العلمية والعملية التي أبانتها نصوص الكتاب والسنة وفهم السلف([51]).
ومما سبق يتبيّن أن التجديد في أصل معناه اللغوي وفي استعماله النبوي يدل على الإحياء والبعث والإعادة، وأن هذا المعنى يكوّن في الذهن، كما بين بسطامي محمد سعيد، تصوراً تجتمع فيه معان ثلاثة يستلزم كل واحد منها الآخر:
الأول: أن الشيء المجدّد قد كان في أول الأمر موجوداً وقائماً، للناس به عهد.
الثاني: أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديماً.
الثالث: أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى([52]).
وعلى هذا التحديد اللغوي بنى بعض الباحثين تعريفهم لمفهوم التجديد. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "إن التجديد لشيء ما، هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد. وذلك بتقوية ما وهِيَ منه، وترميم ما بلى، ورتق ما انفتق، حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى" ([53]). ويقول جمال سلطان: «إن التجديد في مجال الفكر، أو مجال الأشياء على السواء، هو أن تعيد الفكرة أو الشيء الذي بلى أو قدم إلى حاله الأولى»([54]).
لكن الجدير بالملاحظة أن مصطلح التجديد في الساحة الفكرية الإسلامية قد شابه بعض الغموض، وعدم الضبط، لاكتسابه من خلال التداول العام معنى الإلغاء والتجاوز. وإذا بحثنا عن الأسباب التي حمّلت مصطلح التجديد هذا المعنى، بل وجعلته المعنى المتبادر إلى الذهن عند إطلاقه عند بعض الباحثين، نجدها تنحصر في عنصرين:
1- عدم اشتهار مصطلح التجديد في تراثنا الإسلامي.
2- بروز مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي الحديث في مرحلة بدأت تتسرّب فيها المنهجية العلمانية إلى حياتنا الفكرية والمعرفية والقيمية والفنية، فشاع استعماله الحديث عند بعض مفكري الإسلام الذين يقتربون في نسقهم الفكري من القيم والمناهج الغربية([55]) فأصبح بعضهم يتوجس من هذا المصطلح خيفة، لأن التيار العلماني استطاع تأميمه وتعبئته بمضامين جعلته رمزاً لتجاوز الشريعة.
هذان السببان جعلا عبارة تجديد الفكر الإسلامي عامة، والجانب التشريعي منه على وجه الخصوص، محلّ تحفظ وحذر.
والحقيقة أن عدم اشتهار مصطلح التجديد في تراثنا الإسلامي، وشيوعه في مرحلة تنامي الظاهرة العلمانية ثقافياً، وتعبئته بمضامين منحرفة، ليست أسباباً منطقية لرفض مصطلح التجديد لجملة اعتبارات منها:
1- أن المصطلح له أصل في اللغة العربية وفي الشرع (الحديث النبوي).
2- أن توظيف التيار العلماني للمصطلح ضمن مفاهيم لا تتفق ودلالته اللغوية والشرعية ليس مبرراً لإقصائه من المنظومة الفكرية الإسلامية، بل المطلوب ضبط معناه في إطار التصور الإسلامي من خلال قواعد اللغة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأصول التشريع الإسلامي.
فهذا العمل يمثل خطوة منهجية ضرورية لاستكمال المقدمات النظرية الضرورية لبحث موضوع التجديد عامة، وتجديد الفقه الإسلامي خاصة.
ومما تقدم يظهر أن التحليل العلمي للمقدمات النظرية التي يُنطلق منها في بحث موضوع تجديد الفقه الإسلامي، والضبط الدقيق لدلالة المصطلحات المركزية فيه، كمصطلح الفقه والشريعة والتجديد، يفضيان إلى إمكانية تجديد الفقه الإسلامي، لأنه يمثّل في معظمه - عدا الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، أو الثابتة بنص واضح الدلالة على المطلوب- فَهْم الفقهاء لأحكام الشريعة، هذا الفهم الذي يتكيّف مع الظروف والحاجات التي يفرزها واقع الناس، ويتفاعل مع المعارف والتجارب والوسائل التي تتيحها طبيعة الحياة في كل زمان ومكان.
المقدمة الثالثة: تحديد دلالة مصطلحات عنوان البحث:
قد يتبادر إلى الذهن في عنوان البحث: "معالم تجديد المنهج الفقهي" أن المقصود بالمنهج الفقهي علم أصول الفقه، باعتباره المنهج المتبع في استنباط الأحكام، والاستدلال عليها، لكن هذا ليس إلا فرعاً من فروع البحث، لأن مصطلح "المنهج الفقهي" يشمل المنهج في جميع مكوّنات العملية الفقهية: الاجتهاد، التنظير والتنزيل، البحث والصياغة، التصنيف والتدريس.
ولقد تضمن هذا البحث نموذجاً للتجديد الفقهي هدفه إبراز أحد الجهود التجديدية الجادة، وتقييمها ضمن إطارها التاريخي، وتحديد منهجية الاستفادة منها وتطويرها، ذلك أن العلم بناء تراكمي، ينمو ويتكامل بإضافة اللاحقين إلى ما بناه السابقون، لا بهدمه أو تركه جملة.
وهذه الإضافة قد تتخذ صورة التجديد والتكميل، أو التصحيح والتعديل.
ثم إن دراسة هذا النموذج يساعدنا إلى حدّ كبير على تبيّن منهج التعامل مع التراث الفقهي عامة، والتراث الفقهي التجديدي على وجه الخصوص.
أما اختيار الإمام الشوكاني نموذجاً للتجديد الفقهي، فلأن الرجل قاد ثورة فقهية شعارها الدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، في فترة تاريخية حرجة (1173هـ - 1255هـ) استحكمت فيها عوامل الضعف والتخلف والاضطراب في جميع مجالات الحياة الإسلامية: السياسية، الفكرية، الدينية، وفي دور من أدوار تاريخ التشريع الإسلامي استحكمت فيه قبضة التقليد، واستجمع فيه الفقه الإسلامي جلّ عناصر الجمود والخمول التي أثرت تأثيراً سلبياً في أهم حلقات المنظومة الفقهية، الموضوع والمنهج.
------------------------------------------------
([11]) انظر: محمد الدسوقي، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية، ط1(الدوحة: دار الثقافة، 1987م) ص151-153.
([12]) انظر: محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي (بيروت: دار القلم، د.ت) ص97-101؛ محمد الدسوقي، مرجع سابق، ص157-161.
([13]) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، ص197.
([14]) انظر: محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ط1 (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991م) ص75؛ عبد المجيد النجار، فقه التدين فهماً وتنزيلاً، سلسلة كتاب الأمة (قطر: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1410هـ) 1/131-132.
([15]) محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي(مطبعة محمد علي صبيح وأولاده،د.ت)ص83؛ محمد هشام الأيوبي،الاجتهاد ومقتضيات العصر(عمان:دارالفكر،د.ت) ص93ـ96.
() المقصود بفقه التنزيل" صيرورة الحقيقة الدينية التي وقع تمثلها في مرحلة الفهم إلى نمط عملي تجري عليه حياة الناس في الواقع". انظر: عبد المجيد النجار، فقه التدين فهماً وتنزيلاً، 2/15،16.
([16]) عبد المجيد النجار، المرجع السابق، ص65 (بتصرف).
([17]) انظر: محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ص76.
([18]) انظر: عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، ط2 (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993) ص47ـ50.
([19]) محمد الدسوقي، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية، ص182 (بتصرف).
([20]) محمد مصطفى أمبابي، الجديد في تاريخ الفقه الإسلامي (القاهرة: دارالمنار، 1986م) ص252-255؛ محمد هشام الأيوبي، الاجتهاد ومقتضيات العصر، ص133ـ139.
([21]) انظر: يوسف القرضاوي، شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، ط3 (القاهرة: المكتب الإسلامي، 1983م) ص78 (بتصرف).
([22]) محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص112، نقلاً عن القاضي عياض، ترتيب المدارك.
([23]) رسالة الإمام أبي الحسن الكرخي في الأصول، طبعت ضمن كتاب: تأسيس النظر، للإمام أبي زيد الدبوسي الحنفي (بيروت: دار ابن زيدون، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية) ص169ـ171.
([24]) محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص112.
([25]) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، ص275 (بتصرف).
([26]) عبد المجيد النجار، في فقه التدين فهماً وتنزيلاً، ص68 (بتصرف).
([27]) اعتمد هذا التحديد الزمني من اعتبر صدور مجلة الأحكام العدلية بداية عصر النهضة الفقهية الحديثة، مثل: محمد الدسوقي.
([28]) انظر: محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص117.
([29]) أحمد فراج حسني، عبد الودود السريني، النظريات العامة في الفقه الإسلامي وتاريخه (بيروت: دار النهضة العربية، 1992م) ص360.
([30]) انظر: محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص117.
([31]) ابن خلدون، المقدمة (بيروت: دار الفكر، د ت) ص531.
([32]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها .
([33]) محمد هشام الأيوبي، الاجتهاد ومقتضيات العصر، ص204.
([34]) محمد كمال إمام، أزمة المنهج في الدراسات الفقهية المعاصرة، ص3 (بتصرف).
([35]) المرجع نفسه، ص5 (بتصرف).
([36]) انظر:محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص130.
([37]) وهبة الزحيلي، جهود وتقنين الفقه الإسلامي،ط1(بيروت:مؤسسة الرسالة،1987) ص53.
([38]) انظر: محمد كمال إمام، أزمة المنهج في الدراسات الفقهية المعاصرة، ص19.
([39]) انظر: محمد الدسوقي، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية، ص186.
([40]) محمد هشام الأيوبي، الاجتهاد ومقتضيات العصر، ص188.
([41]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
([42]) ابن منظور، لسان العرب (بيروت: دار صادر، 1956م) 8/175.
([43]) محمد بن علي التهانوي، كشاف مصطلحات الفنون والعلوم (بيروت: دار صادر، د.ت)2/759.
([44]) ابن منظور، لسان العرب، 3/522.
([45]) علي بن محمد الشريف الجرجاني، التعريفات (بيروت: مكتبة لبنان،1990م) ص175.
([46]) سيف الدين الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق د. سيد الجميلي، ط2 (بيروت: دار الكتاب العربي ، 1986م) 1/8.
([47]) عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ط11 (مؤسسة الرسالة، مكتبة القدس، 1989م)، ص56ـ57.
([48]) تبنى هذا الموقف الرافض لدعوى تجديد الفقه الإسلامي الدكتور عبد العظيم إبراهمي الماطعي في كتابه الفقه الاجتهادي الإسلامي بين عبقرية السلف ومآخذ ناقديه (مصر: مكتبة وهبة، د ت).
([49]) ابن منظور، لسان العرب، 3/111؛ اسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح (مصر: دار الكتاب العربي، 1990م) 1/451.
([50]) أبو داود، السنن، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، برقم 4270 ورمز له الشيخ ناصر الدين الألباني بالصحة، انظر صحيح سنن أبي داود، ط1 (الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1989م) 3/809، حديث رقم3606، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم599، وصحيح الجامع الصغير (بيروت: المكتب الإسلامي، 1986م) حديث رقم 1874.
([51]) بسطامي محمد سعيد، مفهوم تجديد الدين، ط1 (الكويت:دار الدعوة، 1984م) ص3.
([52]) المرجع نفسه، ص14-15.
([53]) يوسف القرضاوي، "تجديد الدين في ضوء السنة"، مجلة مركز بحوث السنة والسيرة (جامعة قطر: العدد2، 1987م) ص29.
([54]) جمال سلطان، تجديد الفكر الإسلامي، ط1 (الرياض:دار الوطن، 1412هـ) ص13.
([55]) يظهر هذا السبب في كتاب الغارة على التراث الإسلامي لجمال سلطان في فصل "دعوى التجديد وخطرها على التراث"، ص76-86.(1/2)
الفصل الثاني - الإطار التاريخي والاجتماعي لنشأة الشوكاني المجدد -
المبحث الأول: التعريف بالشوكاني وعصره
المطلب الأول: تعريف عام بالإمام الشوكاني:
لقد ترجم الإمام الشوكاني لنفسه في كتابه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع "، فعرّف نسبه ومولده ووطنه، كما لخّص الأحداث البارزة التي ميّزت حياته التعليمية والعلمية ودعوته الإصلاحية.
فالإمام الشوكاني هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني([1]). ولد في يوم الإثنين من شهر ذي القعدة سنة 1173هـ، ثلاث وسبعين ومائة وألف للهجرة، بهِجْرَة شوكان([2])، إحدى قبائل خولان، بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم([3]).
والدارس لترجمة الإمام الشوكاني لنفسه يلحظ أن حياته قد اشتملت على أطوار ثلاثة: طور النشأة والطلب، وطور الإفتاء والدرس، وطور القضاء والإنتاج الفكري، وسيتم توضيح هذه الأطوار وإبرازها من خلال المبحث الثاني.
المطلب الثاني: الإطار العام لعصر الشوكاني:
عاش الشوكاني في الفترة الممتدة ما بين 1173ـ1250هـ، وقد امتاز عصره بخصائص وأحداث بارزة تفاعل معها الشوكاني، فأثّر فيها وتأثر بها، وعملت على تكوين شخصيته العلمية التي استطاعت أن تفيد، بل وتتجاوز بروحها التجديدية كثيراً من جوانب المنظومة المعرفية والفقهية لزمانه، وقد تكونت هذه الشخصية من خلال تفاعلها مع الجوانب الآتية:
- الحياة السياسية:
اتسمت الحياة السياسية في عصر الإمام الشوكاني بعدم الاستقرار، وكثرة الصراعات وذلك على المستويين: المحلي (اليمن) والعالمي.
ففي اليمن آل الحكم بعد الانسحاب العثماني (1045هـ) للأئمة الزيديين الممثلين في أسرة آل القاسم بن محمد([4])(ت1029هـ- 1620م)([5]). وقد عاصر الشوكاني أربعة من الأئمة وهم: المهدي عباس، حكم من (1161هـ/1748م) إلى (1189هـ/1775م)، وابنه المنصور علي، حكم من (1189هـ/1775م) إلى (1223هـ/1809م)، وابنه المتوكل أحمد، حكم من (1224هـ/1809م) إلى (1231هـ/1816م)، وابنه المهدي عبد الله الذي حكم من (1231هـ/ 1816م) إلى (1251هـ/1835م)([6]).
وقد شهدت الحياة السياسية في حكم هؤلاء الأربعة صراعات حادة على المستويين: الداخلي والخارجي.
فعلى المستوى الداخلي ظهر صراع أسري على الإمامة جعل الأئمة يشتغلون بتدعيم سلطانهم لمقاومة الطامعين في الإمامة من أقاربهم([7]). كما خلَد بعضهم، مثل منصور علي، إلى الدعة، وإيكال أمور الدولة إلى الوزراء([8]). واشتغل بعضهم الآخر - مثل المهدي عبد الله - بتولية الوزراء ثم عزلهم ومصادرة أموالهم، فاختلّت أمور الدولة والحكم، إذ أصبح همّ الوزراء الأول تحقيق مصلحتهم الشخصية، وعزل من دونهم من العمال، وتدرجت الطريقة حتى وصل السلب والنهب إلى القاعدة الشعبية بطرق رسمية متعارفة([9]).
ومما ميّز الحياة السياسية في اليمن أيضاً صراع النظام الإمامي مع الحركات الإنفصالية.. يقول حسين العمري: «كانت مشكلة القبائل اليمنية إحدى أعوص وأقدم المشاكل التي كانت تواجهها أيّة حكومة مركزية في صنعاء، وذلك بما تثيره من عصيان ضدّها، أو الهجوم على بعض المدن، أو المناطق القريبة أو البعيدة عن العاصمة التي لم تسلم هي نفسها من الحصار أو النهب أو القتل»([10]).
هذا إضافة إلى فساد مؤسسة القضاء لاسيما خارج العاصمة صنعاء بسبب تولي عديمي الكفاءة العلمية لمنصب القضاء، فانتشرت الرشوة، وتعرّض المنصب للبيع والشراء، وأصبح أداة من أدوات تنفيذ المظالم والعون عليها([11]).
أما على المستوى الخارجي، فقد كانت سيادة اليمن غير كاملة على أجزائها، إذ استولى الإنجليز في عهد المنصور على جزيرة "ميون" و"بريم" على مضيق باب المندب إثر احتلال نابليون بونابرت لمصر...([12]).
والجدير بالملاحظة، أن الأحوال السياسية في بلاد اليمن لم تكن بمعزل عما يجري حولها في الأقطار الإسلامية والعالمية. فالدولة العثمانية كانت تمرّ بأيامها الأخيرة بسبب وجود دول إسلامية مستقلة عنها، واستفحال الصراعات المذهبية، وتدخّل الدول الأوروبية، مثل هولندا وفرنسا وبريطانيا، في منطقة الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط بهدف نهب خيرات البلاد الإسلامية، والسيطرة على الطريق التجاري المؤدي إلى الهند عبر المياه العربية.
والخلاصة أن العالم الإسلامي في هذا العصر شهد صراعات مختلفة، داخلية كالصراع العثماني الصفوي، والصراع العثماني مع اتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، والصراع العثماني المصري؛ وخارجية كالصراع الإنجليزي المصري، والصراع العثماني الفرنسي. وجميع هذه الصراعات مهّدت للغزو الصليبي العسكري والاقتصادي الذي استهدف اقتسام البلاد الإسلامية([13]).
والجدير بالذكر بعد هذا التلخيص المركز للحياة السياسية في عصر الإمام الشوكاني، أن الإمام لم يكن بعيداً عن تلك الأحداث، لاسيما المحلية منها. فقد تولى في عهد الإمام منصور علي سنة 1209هـ منصب القضاء الأكبر، واستمر فيه بقية حكم المنصور، ومن بعدِه ابنه المتوكل أحمد، وحفيده المهدي عبد الله، حتى توفي عام 1250هـ/1834م قبل وفاة المهدي بنحو عام([14]). كما تولى في ذات الوقت منصب "كاتب الإمام" الذي يتولى كل المراسلات الداخلية والخارجية باسم الإمام ([15]).
ولطول فترة تولي الإمام الشوكاني لهذين المنصبين، فقد كان له دور علمي وسياسي ذو أثر واضح في مجريات الأحداث المعاصرة له.
- الحياة الفكرية:
لقد واكب الجمود الفكري والعلمي الاضطراب السياسي في جميع أنحاء البلاد العربية والإسلامية، لكن الدراسة التاريخية للمذهب الزيدي تؤكد تميز اليمن عن سائر البلاد بحركة فكرية وفقهية.
فعلى الرغم من الاضطرابات السياسية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحروب الناشئة عن الصراعات السياسية والقبلية في اليمن، وعلى الرغم من طغيان عنصري التعصب والتقليد على البيئة العلمية اليمنية، فإن حركة التأليف والإنتاج الفكري كانت مزدهرة في هذا العصر([16]).
والباحث عن الأسباب الموضوعية لهذه الحركة العلمية يجد أن عاملي: التعصب المذهبي، وتواطؤ بعض الفقهاء مع العامة لتحقيق بعض المصالح، عملا على تحريك الحياة الفكرية والثقافية في اليمن، إذ ظهر علماء أجلاء تصدوا لتيار الفساد والبدع، فساهمت الخصومة التي كانت بين المتعصبين وهؤلاء العلماء المجتهدين في إثراء الإنتاج العلمي([17]).
وعامل آخر ساهم في إنعاش الحياة الفكرية في اليمن هو استمرار «نشاط المسجد - بصفته المدرسة الأولى للقضاء والعلماء والأدباء - مجالاً حيوياً ومؤثراً في المناظرات الفقهية والاجتهادية، بل الأدبية واللغوية، وسائر شعب المعارف الإنسانية، ومن ثم فقد نبغ علماء وأدباء كبار في اليمن في حقبة تدنى فيها الفكر العربي الإسلامي» ([18]).
لكن الملاحظ في هذا المقام أن اليمن وإن تميّز عن سائر البلاد الإسلامية بحركة فكرية فقهية، إلا أنه شاركها في توقف العلوم العقلية والرياضية والطبيعية، التي كانت تدرس في جامعات بغداد وقرطبة في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، إذ اعتزل العالم الإسلامي النهضة الأوروبية الحديثة، فبعدت الشقة بينه وبين التقدم العلمي الحديث([19]).
- الحياة الدينية
لقد استقر في اليمن المذهب الزيدي والشافعي([20])، ولكن المذهب الذي ساد في عصر الشوكاني هو المذهب الزيدي الذي عُرف بتفتّحه في العقائد على مذهب المعتزلة، وفي الفروع على مذاهب أهل السنة([21]). وتميز المذهب الزيدي عن باقي المذاهب بخاصية جوهرية وهي فتح باب الاجتهاد، وعدم المناداة بغلقه، بل جعل الاجتهاد شرطاً لمن يؤهل نفسه لمنصب الإمامة الزيدية([22]).
ولكن على الرغم من كون التعصب والتزمت -كما أكد حسين العمري- «أمرين بعيدين عن جوهر الفكر الزيدي وقواعده العقلية التي انفتحت على الفكر الاعتزالي من ناحية، وعلى مدرسة أهل السنة من ناحية أخرى في مختلف مراحل تطور الفكر اليمني»([23])، فقد شاع في عصر الإمام الشوكاني التقليد لأئمة المذهب، والتعصب لآرائهم، والتزام التخريج على أقوالهم. وقد ساعد هذا الجو على نمو طبقة طفيلية من المتفقهين تجاري العامة في معتقداتهم كسباً لودّهم، أو تملقاً لصاحب سلطان([24]).
ولقد كان لهذا التغير الجذري الذي مسّ منهج التفكير الفقهي في المذهب الزيدي أثر بالغ على واقع الحياة الدينية في اليمن، إذ أصبح المذهب الزيدي، كما قال الدكتور قاسم غالب: «يُفرَض على الطلبة رغبة ورهبة، ويفرض كحُكم، فلم يستطع أي قاض أن يحكم بغيره، وكان كل طالب... يقرأ المذهب الزيدي، يشجَّع بالمال صغيراً، وبالحكم كبيراً، وكل طالب لا يدرسه يحارب في رزقه وأهله، ويطرد من الدراسة»([25]).
ومن هنا يتبين أن البيئة الدينية التي عاش فيها الشوكاني كانت بيئة المتناقضات: أصول تبيح الاجتهاد وتقره، وواقع يفرض التقليد والتعصب المذهبي.. أصول تقوم على العلم، وواقع يُبنى على الأهواء، إذ كثيراً ما انساق العوام لتحريض بعض العلماء من خصوم أهل الاجتهاد، فيقومون بثورات جماعية ضدّهم، مثلما حدث مع محمد بن إسماعيل الصنعاني([26]) والشوكاني([27]).
ولعل أهم أسباب سيطرة التعصب المذهبي على المنطق الفكري والديني اليمني في هذا العصر هو ظهور فرق وطوائف دينية مختلفة ومتصارعة منها: المعتزلة، والإسماعيلية، والصوفية، وغيرها. ولقد سجل الإمام الشوكاني مواقفه الواضحة من كل فرقة في كتب ورسائل علمية أبرز فيها جوانب الصواب والخطأ في فكرها ومعتقداتها([28]).
- الحياة الاجتماعية والاقتصادية:
شهدت اليمن في هذا العصر تدهوراً رهيباً للحياة الاجتماعية، فقد كان للثورات الداخلية القبلية، كما بين الإمام الشوكاني، دور كبير في «نشر الخوف والرعب في أوساط المجتمع اليمني عن طريق الغزوات المتلاحقة التي كانت تهدف إلى الحصول على المقررات المالية ونهب المواطنين»([29]). كما عرف المجتمع اليمني في هذا العصر ظلماً اجتماعياً سببه تعفّن الجهاز الإداري، وإسناد منصب القضاء لغير أهله([30]).
أما الحياة الاقتصادية فلقد كان لتدهور الأحوال السياسية بشكل عام أثره البالغ على الوضع الاقتصادي للدولة، التي اقتصرت إيراداتها على الضرائب، إلى جانب الزراعة التي يقوم بها أفراد الشعب والتجارة([31]). كما أدت الفتن التي نزلت بالبلاد إلى ضيق المعاش وتقطع كثير من أسباب الرزق وعسر المكاسب حتى ضعفت تجارة الناس ومكاسبهم، وأفضى ذلك إلى ذهاب كثير من الأملاك([32]). كما خنقت منافذ التجارة اليمنية الخارجية بسبب سعي الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا، إلى السيطرة على كل موانئ البحر الأحمر في اليمن، وفقدَ بذلك اليمن مصدر دخل هام، إذ سيطر الأمريكان والأوروبيون منذ القرن التاسع عشر الميلادي - الثاني عشر الهجري- على تجارة البن اليمني العالمي([33]).
ومما زاد الوضع الاقتصادي تأزماً لجوء بعض الأئمة لمواجهة الأزمات الاقتصادية التي تفاقمت بسبب فساد الإدارة، وضغط الاضطرابات الداخلية والأحداث الخارجية إلى زيادة الضرائب، وإحداث ضرائب جديدة، والتغيير المستمر للعملة، والتلاعب بقيمتها.
وبمثل هذا الإجراء ترتفع الأسعار، وتضعف قيمة العملة الشرائية، ويخسر الناس الكثير من الأموال النقدية التي كانت في أيديهم([34]). وكثيراً ما يخرج تحت هذا الضغط الاقتصادي الجنود الذين لم يتسلّموا مرتّباتهم خارج العاصمة صنعاء لقطع الطرق، وسلب المسافرين، ونهبهم([35]).
ولقد انتقد الشوكاني هذه السياسة الاقتصادية في بعض قصائده الشعرية([36])، وفي كتابه "الدواء العاجل في دفع العدو الصائل" الذي درس فيه أسباب تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية في اليمن، كما حاول رسم سياسة اقتصادية محكمة يتحقق بها العدل الاجتماعي.
------------------------------------------------------
([1]) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (القاهرة: دار الكتاب الإسلامي)1/478.
([2]) المرجع نفسه،2/215.
([3]) المرجع نفسه،1/480.
([4]) محمد يحيى الحداد، التاريخ العام لليمن، ط1(بيروت: دار التنوير، 1986) 4/89.
([5]) المرجع نفسه، 4/74.
([6]) عادل محمد علي، الإمام الشوكاني سيرته وفكره،1/15.
([7]) عبد الحميد البطريق، من تاريخ اليمن الحديث (طبعة 1969م) ص43. نقلاً عن عادل محمد علي، المرجع نفسه، 1/46؛ عبد الغني الشراجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص139.
([8]) انظر: محمد يحيى الحداد، التاريخ العام لليمن، 4/122.
([9]) قاسم غالب وآخرون، من أعلام اليمن، ص32، نقلا عن عادل محمد علي، المرجع نفسه، 1/56 (بتصرف).
([10]) حسين عبد الله العمري، مئة عام من تاريخ اليمن الحديث، ط2 (دمشق: دار الفكر، 1988) ص93.
([11]) حسين عبد الله العمري، المرجع نفسه، ص81-83 (بتصرف).
([12]) انظر محمد يحيى الحداد، التاريخ العام لليمن، 4/123.
([13]) انظر: عبد الغني قاسم الشراجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص137 وما بعدها.
([14]) انظر: حسين عبد الله العمري، المرجع نفسه، ص64.
([15]) عادل محمد علي، الإمام الشوكاني: سيرته وفكره، 1/53 (بتصرف).
([16]) عبد الغني قاسم الشراجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص145.
([17]) انظر: عادل محمد علي، المرجع نفسه، 1/70؛ عبد الغني قاسم الشراجي، المرجع نفسه، ص145.
([18]) حسين عبد الله العمري، مئة عام من تاريخ اليمن الحديث، ص16.
([19]) انظر: المرجع نفسه، ص14-15.
([20]) عبد الواسع بن يحي الواسعي، تاريخ اليمن فرجة الهموم (القاهرة: المطبعة السلفية، 1346هـ) ص292، نقلاً عن عادل محمد علي، الإمام الشوكاني: سيرته وفكره،1/63.
([21]) محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية (بيروت: دار الفكر العربي، د ت) 2/495.
([22])حسين عبد الله العمري، مئة عام من تاريخ اليمن الحديث، ص17، محمد أبو زهرة، المرجع نفسه، 2/496-500.
([23]) حسين عبد الله العمري، مقدمة كتاب: ديوان الشوكاني: أسلاك الجوهر، ط2 (دمشق: دار الفكر، 1986) ص19.
([24]) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع،1/234؛ القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، تحقيق عبد الرحمن عبد الخالق، ط3(الكويت: دار القلم، 1983)ص47-48.
([25]) قاسم غالب وآخرون، من أعلام اليمن، ص109، نقلا عن عادل محمد علي، الإمام الشوكاني سيرته وفكره، 1/68.
([26]) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع، 2/134.
([27]) المرجع نفسه، 1/233.
([28]) عبد الغني قاسم الشراجي، الإمام الشوكاني: حياته وفكره، ص140.
([29]) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع، 2/178.
([30]) عبد الغني قاسم الشراجي، المرجع نفسه، ص143.
([31])أحمد شلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي (القاهرة:مكتبة النهضة المصرية،1980) ص511
([32]) محمد بن علي الشوكاني، الدواء العاجل في دفع العدو الصائل، ص28، ضمن الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية r (بيروت: دار الكتب العلمية، 1930م) ص28.
([33]) انظر: حسين عبد الله العمري، مئة عام من تاريخ اليمن الحديث، ص268.
([34]) انظر: المرجع نفسه، ص150-151، 208.
([35]) المرجع نفسه، ص152.
([36]) محمد بن علي الشوكاني، أسلاك الجوهر، ص233-234(1/3)
الفصل الثاني
المبحث الثاني: العوامل المحددة لظاهرة التجديد عند الشوكاني »
الإطار المعرفي والمقدمات المنهجية
مقدمات منهجية لإشكالية التجديد الفقهي
إن الدراسة الموضوعية لإشكالية التجديد الفقهي تقتضي التقديم لها بمقدمات منهجية تعتبر الإطار الكلي الذي يحكم البحث. وقد حصرت هذه المقدمات في ثلاث:
1- الخلفية التاريخية لواقع الفقه الإسلامي.
2- مدى إمكانية تجدد الفقه الإسلامي.
3- تحديد دلالة مصطلحات عنوان البحث.
المقدمة الأولى: الخلفية التاريخية لواقع الفقه الإسلامي:
إن التتبع التاريخي للحركة الفقهية يرسم لنا خطاً بيانياً كثير المنحنيات الشاهدة على أدوار البعث والانحسار المتعاقبة على هذه الحركة، وعلى الوعي الشامل لدورها في الحياة. فلقد مرّ الفقه الإسلامي بأدوار مختلفة كان في ذلك أشبه بغيره من العلوم فيما يعرض لها من النهوض والانتعاش حيناً، والانكماش والانحسار حيناً آخر، وذلك تحت تأثير العوامل التي تحيط برجاله في كل عصر من عصوره. فإذا ما استثنينا عصر البعثة الذي كان عصر بناء وتأسيس للتشريع الإسلامي، نجد أن الفقه الإسلامي قد تطور في عصر الصحابة بفعل ظهور مشكلات ونوازل جديدة في واقع المسلمين، خاصة بعد انتشار الإسلام في بلاد مختلفة الثقافات والعادات، فاتسع بذلك نطاق الاجتهاد الفقهي ليشمل كثيراً من القضايا السياسية والإدارية والمالية، الأمر الذي وسمه بالواقعية، وأبعده عن الافتراض النظري للمسائل والأحكام([11]).
أما عصر التابعين، فقد شهد حركة حضارية وعلمية ودعوية أثّرت تأثيراً بالغاً في تطور الحياة الفقهية. فقد ساعد الاحتكاك الحضاري بين المسلمين والشعوب التي دخلت الإسلام، وتفرق الصحابة في الأمصار، وشيوع رواية الحديث، على اتساع دائرة البحث الفقهي، وعلى ظهور اتجاهات فقهية عديدة شكلت مدارس فقهية في مختلف العواصم الإسلامية، كمدرسة الكوفة والمدينة ومكة والشام ومصر واليمن([12]).
غير أن الملاحظ هو بروز عامل جديد أثّر في طبيعة الإنتاج الفقهي في هذا العصر، وفي العصور التي تلته، تمثل في الصراع بين الفقهاء وحكام بني أمية([13]). ومرجع هذا الصراع هو تحوّل نظام الحكم في العالم الإسلامي من الخلافة إلى الملك، فتقلّص دور الفقيه المباشر في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى إلى توسع الدراسات الفقهية في جانب العبادات والمعاملات أكثر منه في الجانب السياسي والاقتصادي والإداري.. وهذا لا يعني أن التشريع الإسلامي قد أقصي عن إدارة الحياة العامة، فكل المجالات السالفة ذكراً كان يحكمها الإسلام، ولكن البحث الفقهي النظري قد تطور أكثر في المساحات أو الموضوعات التي لم تكن محل صراع بين الفقهاء والحكام([14]).
والخلاصة أن عصر التابعين شهد تشكّل بذور إحدى أزمات الفقه الإسلامي وهي: انكماش الفقه من الناحية الموضوعية.
ثم تلى عصر التابعين عصر نشأة المذاهب الإسلامية الكبرى في أوائل القرن الهجري الثاني، وانتهى في منتصف القرن الرابع، وكان هذا العصر أزهى عصور الاجتهاد الفقهي بفعل ثلاثة عوامل أساسية([15]).
- العامل السياسي: فقد كانت بداية هذا العصر بداية قيام الدولة العباسية، هذه الدولة التي قرّب خلفاؤها الفقهاء، وأحضروهم مجالسهم العلمية، وطلب بعضهم من بعضهم، وضع قوانين مستمدة من الكتاب والسنة لتسيير بعض القطاعات العامة، كما فعل هارون الرشيد، إذ طلب من أبي يوسف وضع كتاب ينظم من خلاله الحياة الاقتصادية، فألف رحمه الله كتاب "الخراج" تعرّض فيه لكل ما يتعلق بجباية الأموال.
وهذا الاتصال بين مؤسستي الحكام والعلماء، ساهم في نمو الفقه ومشاركة الفقيه في وضع اللبنات الأساسية في بعض الدوائر الفقهية التي استأثرت بها السلطة الحاكمة، كالاقتصاد أو النظام المالي.
- العامل الاجتماعي: امتاز عصر نشأة المذاهب من الناحية الاجتماعية باحتكاك أناس من مختلف الثقافات والحضارات، وكان لهذا التبادل المعرفي والثقافي أثر في إنضاج العقل الفقهي، وتمكينه من استخراج المسائل، ووضع الضوابط العامة للفروع الفقهية المتباينة. كما نتج عن هذا الاحتكاك الحضاري والتفاعل الاجتماعي كثرة الوقائع وتنوعها، ومن ثمّ اتساع دائرة الاجتهاد في كلّ أبواب الفقه.
- العامل العلمي: شهد هذا العصر تدوين العلوم الشرعية المختلفة، ولعل أهم العلوم التي دفع تدوينها حركة الاجتهاد الفقهي هي علوم الحديث، وعلم أصول الفقه. فقد دوّنت السنة النبوية في هذا العصر تدويناً علمياً منهجياً يقوم على قواعد دقيقة، وكان من أثر ذلك أن أصبحت أدلة الأحكام من السنة ميسورة للفقهاء. كما دُوِّن علم أصول الفقه ليكون قانوناً يحكم العملية الاجتهادية.
بتلاحم هذه العوامل الثلاثة، خلّف الاجتهاد الفقهي في هذا العصر تراثاً ضخماً في شتى مجالات الحياة الإنسانية، كما جعلت من فقه الأئمة المجتهدين فقهاً اجتهادياً واقعياً يقوم على ركيزتين:
الأولى: تقرير الأحكام باستخلاصها من أصول معرفة الوحي.
الثانية: صياغة هذه الأحكام بما يعالج مجريات الواقع في البيئات التي كانوا يعيشون فيها عن طريق فقه التنزيل()، إذ اعتمدوا في سبيله بعض الأصول الاجتهادية ذات الصلة الوثيقة بالواقع مثل: المصالح المرسلة، الاستحسان، العرف وغيرها([16])، فكان منهج الاستنباط عندهم يقوم على الثنائية التالية:
النص الشرعي (محل استنباط الحكم)، والواقع العملي (محل تنزيل الحكم)، ومن هنا لم يعرف منهجهم الاجتهادي التقرير المجرد للأحكام.
إلاّ أن إشكالية انكماش الفقه من الناحية الموضوعية التي ظهرت بذورها في عصر التابعين، قد تبلورت بشكل أكثر وضوحاً في هذا العصر، إذ فضّل فقهاء هذا العصر - الذين قادوا الأمة علمياً - عدم الاصطدام المباشر والعنيف بالنظام القائم([17]) ما دام الإسلام حاضراً في المجتمع، تشريعاً وقضاءً. من هنا عالج العقل الفقهي في هذه المرحلة جميع القضايا الفردية والجماعية، وترك ثروة ضخمة في كل أبواب الفقه، لكن إنتاجه في الفقه السياسي والاقتصادي والدولي كان أقل توسعاً، بالنسبة إلى فقه العبادات والمعاملات، كماً ونوعاً.
ولقد لاحظ هذا الأمر كثير من الباحثين، منهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه: "فقه الخلافة" إذ أشار إلى أن القانون العام - الدستوري، المالي، الدولي - في الفقه الإسلامي أقل تطوراً من القانون الخاص - المعاملات، شؤون الأسرة، القضاء - وأنه لا يزال في مراحله الأولى. وأرجع ذلك إلى قيام أنظمة متعاقبة في التاريخ الإسلامي تقمع أي حركة فقهية تريد إقامة أصول الحكم على أسس من الحرية السياسية. أما القانون الخاص فقد تقدم تقدماً كبيراً؛ لأن هذه الأنظمة لم يكن يضيرها تقدمه([18]).
ثم تلى عصر نشأة المذاهب الإسلامية عصر التقليد، فقد جدّت في العالم الإسلامي بعد منتصف القرن الرابع الهجري عوامل سياسية وعلمية واجتماعية جعلت مبدأ التقليد يحلّ محل الاجتهاد في المنظومة الفقهية، إذ ابتعد الفقهاء عن الاستقلال الفكري- على تفاوت بينهم - وانتظموا في المذاهب الفقهية الموروثة، وعكفوا على نشر آرائها والدفاع عنها.
وكان في مقدمة تلك العوامل: انقسام العالم الإسلامي إلى دول متناحرة، والجهود العملاقة التي بذلها تلامذة الأئمة في دراسة وإذاعة آراء أئمتهم، ومن ثمّ تأصيل الثقة بهم والتقليد لهم، ودخول ميدان الاجتهاد الفقهي من لم يكتسبوا المؤهلات العلمية لذلك، الأمر الذي دفع ببعض أهل العلم في أواخر القرن الرابع بالحكم بغلق باب الاجتهاد([19]).
ولقد ميّز كتّاب تاريخ التشريع الإسلامي بين فترتين في عصر التقليد:
الفترة الأولى: وهي الفترة التي سبقت سقوط بغداد على يد المغول سنة 656هـ. وقد انحصر نشاط الفقهاء في هذه الفترة في خدمة الفقه المذهبي عن طريق تعليل الأحكام التي قال بها الأئمة لتوظيفها في عملية التخريج،التي اعتبرت أهم عناصر المنهج الفقهي في هذا الدور.
والتخريج:تطبيق العلل المستنبطة من الأحكام التي قرّرها الأئمة المجتهدون على الأفعال الجزئية الحادثة دون حاجة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة. كما اعتنى الفقهاء في هذه الفترة بالترجيح بين الآراء في المذهب الواحد، وبدراسة علم الخلاف بين الفقهاء، وبوضع القواعد الكلية التي تندرج تحتها الأحكام الفقهية، كل هذا في إطار التعصب لأئمة المذاهب والدفاع عن آرائهم([20]).
إن الدراسة الموضوعية لهذه الفترة تكشف أن السبب في العزوف عن الاجتهاد المستقل، والتزام المذاهب المعروفة، هو أن التطورات التي حدثت في واقع الناس وأفكارهم في هذه الحقبة الزمنية، كانت تطورات جزئية وبسيطة بسبب توقف المد الحضاري، ومن ثمَّ مكّن تعدد آراء الفقهاء واجتهاداتهم في إطار كل مذهب من تغطية الحوادث المستجدة([21]). كما تلزمنا النظرة الموضوعية لإنجازات الفقهاء في هذه الفترة أن نؤكد أن الفقهاء قدموا، رغم غياب الاجتهاد المستقل وشيوع التقليد، خدمة جليلة للفقه المذهبي عن طريق تعليله وتنظيمه وترتيب أبوابه وفصوله، الأمر الذي حفظ لنا تراث الأئمة المجتهدين، ونمَّاه.
لكن، وفي المقابل، تكشف لنا الدراسة النقدية للفترة ذاتها عن ظهور خلل جديد في المنظومة الفقهية، إضافة إلى الخلل السابق - انكماش الفقه من الناحية الموضوعية - تمثّل في: اختلال منهج الاستنباط والاستدلال، وقد تجلى هذا الخلل في مظهرين:
المظهر الأول: الاستنباط من نصوص أئمة المذاهب:
إن اعتماد فقهاء هذه الفترة مبدأ التخريج جعل مصدرهم الأول في استنباط الأحكام هي نصوص إمام المذهب المتبع، يقيسون عليها ما يجدّ من حوادث، وكأن هذه النصوص هي الأصول، إذ صار لفظ الإمام، كما قال القاضي عياض في ترتيب المدارك: "ينزل عند مُقَلِّده منزلة ألفاظ الشارع"([22])، وأصبحت مصادر الأحكام، هي نصوص الفقهاء، وأقيم بذلك سد بين الأمة وبين نصوص الكتاب والسنة.
ولا شك أن مقارنة بسيطة بين قول أبي الحسن الكرخي الحنفي: "كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ"([23])، وبين قول أبي حنيفة إمام المذهب في من سبقه من الفقهاء: "هم رجال ونحن رجال"، يظهر الانقلاب الجذري الذي مسّ المنظومة الاجتهادية في هذا الدور.
هذا ولقد أثّر هذا الخلل الذي مسّ منهج الاستنباط في منهج التلقي أو التعليم، يقول محمد علي السايس: "فبعد أن كان طالب الفقه يشتغل أولاً بدراسة الكتاب ورواية السنة، صار في هذا الدور يتلقى كتب إمام معيّن، ويدرس طريقته التي استنبط بها ما دوّنه من الأحكام، فإذا تمّ ذلك صار من الفقهاء"([24]). كما أثر ذات الخلل في منهج التأليف الفقهي، إذ انحصرت حركة التأليف في اختصار كتب الأئمة المجتهدين،أو شرحها، أو جمع ما تفرّق في كتب شتى([25]).
المظهر الثاني: التقرير المجرد للأحكام:
كانت عناية التراث الفقهي في هذا الدور بتقرير الأحكام المجردة أكثر من عنايته بمنهج تنزيلها على الواقع، فطغى بذلك فقه الفهم على فقه التنزيل، سواء بالنسبة إلى الشق التطبيقي في هذا التراث وهو الفقه، أو الشق التنظيري فيه، وهو أصول الفقه. أما الفقه فقد تضخم فيه الجانب التقريري للأحكام المجردة، وضمرت فيه إلى حد بعيد الصلة بالواقع المعيش وملابساته العينية، وهكذا أصبح التقرير المجرد للأحكام منهجاً للفقه طيلة القرون اللاحقة.
وأما أصول الفقه فقد توجهت العناية فيه إلى قواعد استنباط الأحكام من أدلتها، وأهمل بحث قواعد تنزيل هذه الأحكام على الواقع، حيث نجد الأبواب التي أشبعت بحثاً هي تلك التي تخص الاستنباط، وأما ما يمكن أن يدفع إلى إنضاج فقه التنزيل فقد كان البحث فيه خفيفاً مثل الاستحسان والمصلحة والعرف([26])، فلم يعتن فقهاء هذا الدور بتطوير هذه الآليات ولا بإعمال آليات جديدة. كما أن مبحث المقاصد ذا الصلة الوثيقة بفقه تنزيل الأحكام لم يخدم الخدمة الكافية قبل الشاطبي، كما أنه آل إلى ضمور شديد بعده.
الفترة الثانية: امتدت من سقوط بغداد إلى ظهور مجلة الأحكام العدلية في أواخر القرن (13هـ) سنة 1293هـ- 1876م([27]). وكانت مرحلة ذات طابع تقليدي خالص، انقطعت فيها صلة الفقهاء بأمهات الكتب التي خلّفها المتقدمون، التي تتعامل مع نصوص الوحي مباشرة في عملية الاستنباط. وتجلى التقليد أكثر ما تجلى في التأليف الفقهي، والتحصيل العلمي، والتقييم الدراسي.
أما التأليف، فقد اتجه الفقهاء نحو كتابة المتون، وتصنيف المختصرات التي تحتاج إلى شروح وحواشي([28]) افتقدت عنصر الإبداع والتجديد لأنها عاشت في دائرة المذهبية الضيقة، واهتمت بالمباحث الشكلية والمسائل الافتراضية.
ولقد أثّر هذا الأسلوب في التأليف على مستوى التحصيل العلمي، إذ انحصرت جهود طلاب الفقه في فهم الأسلوب، وحلّ العبارات والتراكيب([29])، فاشتغلوا بالألفاظ عن لب العلم ومضمونه، الأمر الذي أعدم فيهم مواهب الاجتهاد، وأسرهم في الحفظ الخالي عن الفهم الصحيح.
ومما عاق طالب الفقه عن اكتساب ملكة الاجتهاد، انقطاع الصلة بعلماء الأمصار([30])، إذ حلّت المطالعة المجردة محلّ التلقي المباشر كمنهج في التعليم.
أما التقييم الدراسي، فقد أصبح بفعل كثرة التصانيف في العلوم وأدواتها يركز على مدى حفظ الطالب للمسائل ولطرق تحصيلها. قال ابن خلدون:
«اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم، والوقوف على غاياته كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها، فيقع القصور ولابد، دون رتبة التحصيل»([31]).
وضرب ابن خلدون لذلك مثلاً بالمدونة في مذهب مالك، وما كتب عليها من الشروح التي اختلفت فيها طرق الكاتبين من علماء قرطبة، وبغداد، والقيروان، ومصر، فإن المتعلم كما قال: «لا يصل إلى بغيته من التحصيل ولا يسلم له منصب الفتيا إلاّ إذا أحاط بهذه الطرق علماً وميّز بينها، مع أن أحكام طريقة واحدة منها يستنفد العمر»([32]).
أما في العصر الحديث فقد واجه العقل الفقهي أصعب تحدٍ له في تاريخه الطويل، وهو استبعاد التشريع الإسلامي عن التطبيق، إذ تبنت المحاكم والهيئات التشريعية في الدولة العثمانية عام 1926م القانون المدني السويسري، فعطلت أحكام الشريعة الإسلامية كلها([33])، وكان هذا الإقصاء الذي مثّل وجهاً ثالثاً للأزمة الفقهية، نتيجة لاستيلاء الحضارة الأوربية الغازية على أغلب أنحاء العالم الإسلامي في فترة ضعف الدولة العثمانية، فكان البديل التشريعي الأوربي ضرورة استعمارية مكّنت للنفوذ الأجنبي في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ حكم التشريع المستورد كل الواقع، إلا مساحات محدودة تتعلق بأحكام الأسرة وما يرتبط بها([34]).
ومما أنجح عملية إقصاء التشريع الإسلامي، اختيار المؤسسة السياسية في البلاد الإسلامية أن تكون أداة المستعمر في فرض التبعية القانونية التي تلتها تبعية فقهية في النقل عن موسوعات الفقة الفرنسي في شرح قانون نابليون، وتبعية قضائية في الفهم والتفسير من خلال موسوعات الأحكام الفرنسية ([35]).
وهذا الواقع الجديد المفروض أقصى الفقه الإسلامي عن الحياة إقصاء شبه تام، كما ترك آثاراً جد سلبية على العقل الفقهي على مستوى المنهج والإنتاج.. فعلى مستوى المنهج أقصِي عنصر الواقع من المنظومة الفقهية التي اختزلت مصادرها في المتون والمختصرات.
أما على مستوى الإنتاج فقد استمر العقل الفقهي في الاحتفاء المجرد غير الواعي بأقوال المتقدمين، بعد أن أصبح الواقع محكوماً بغير التشريع الإسلامي.
والخلاصة هي أن إقصاء الشريعة عن كثير من جوانب الحياة كان السبب الرئيس في توقف الفقه الإسلامي، في هذه المرحلة، عن التجديد ذاتياً وموضوعياً، حيث عجز عن تجديد مناهجه وأبنيته الداخلية ليستعيد فاعليته في الحياة الفكرية والتشريعية، كما عجز عن تجديد الواقع بإصلاحه وتطويره.
لكن؛ وبما أن تاريخ الفقه الإسلامي في عصر التقليد لم يعدم نماذج مستثناة من الخط العام أمثال: ابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، والشوكاني وغيرهم، إذ نبذوا التقليد، ودعوا إلى الاجتهاد، وقادوا حركات تجديدية هدفها بعث وإحياء الفقه الإسلامي ليحافظ على المكتسبات، ويواكب المستجدات، فقد خلّفت دعوتهم هذه صدى بالغاً في العصر الحديث، وذلك بفعل التحول الجذري والتطور السريع الذي مسّ الواقع البشري، والمعارف الإنسانية، والاحتكاك الحضاري بين الأمم، فظهرت في هذا العصر نهضة فقهية هدفها التأكيد على قدرة الفقه الإسلامي على مواجهة الواقع، وامتلاكه نظريات في التشريع تزاحم النظريات الحديثة وتفوقها.
وقد تجلت هذه النهضة الفقهية المعاصرة في مظاهر ثلاثة:
1- الدعوة إلى الاجتهاد، بسبب تغيّر أوضاع الحياة تغيّراً جذرياً، ونبذ التعصب المذهبي لبناء عقلية فقهية تتساوى في نظرها المذاهب حرمة وتقديراً. فاستحدث في المؤسسات العلمية، مثل مؤسسة الأزهر، علم مقارنة المذاهب الأربعة، بهدف الموازنة بينها في الأدلة ومناهج الاستنباط والترجيح. كما استحدث علم تاريخ التشريع الإسلامي، ليقف الدارس على أطوار الفقه الإسلامي بجملته وما طرأ عليه من أسباب القوة والضعف([36]).
2 - تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، الذي عدّ أول مظهر من مظاهر التجديد. وقد كانت عملية التقنين في هذا العصر جهداً رسمياً لبعض الدول، وجهداً فردياً من بعض الفقهاء أو المؤسسات الإسلامية. وأولى محاولات التقنين جاءت من الدولة العثمانية بإصدراها لمجلة الأحكام العدلية سنة 1293هـ على المذهب الحنفي، ثم استتبعتها مشاريع أخرى في التقنين اعتمدت على المذاهب الفقهية المختلفة([37]).
ولقد كانت حركة التقنين هذه ذات أثر إيجابي في النهضة الفقهية المعاصرة، إذ ساعدت على تطوير منهجية جديدة استعان بها المشرّع من ناحية، كما وسّعت آفاق التعاون العلمي بين المذاهب المختلفة، وأبقت التفكير في تشريع إسلامي كامل أمراً قائماً في ذهن الفقهاء([38]).
3 - انتعاش حركة التأليف، التي من أسبابها اقتحام الاتجاه العقلي المتطرف الساحة الفقهية متخذاً من نقد النص الديني (الشرعي)، أو تأويله تأويلاً منحرفاً سبيلاً إلى الحداثة والتنوير.
وقد أثار الإنتاج الفكري لهذا الاتجاه مثل مؤلف: "الشعر الجاهلي" لطه حسين، أو للمتأثرين بهذا الاتجاه مثل مؤلف: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق حميّة دينية تجسدت في نشاط فقهي مكثّف في مواجهة تلك الدراسات. فظهرت مؤلفات جادة في رسم منهج التعامل مع نصوص الشريعة، وفي فقه القانون العام عند المسلمين.
كما اتجه التأليف الفقهي نحو دراسة موضوعات الفقه المختلفة باعتماد منهج الموازنة بين المذاهب الفقهية، أو بين هذه الأخيرة وبين النظريات القانونية الوضعية، كما اتجه نحو تجلية النظريات القانونية في الفقه الإسلامي مثل نظرية البطلان والضمان والتعسف، وإخراج الموسوعات الفقهية التي تقدم الفقه الإسلامي وفق خطة منهجية دقيقة([39]).
إن الاعتراف بهذه الجهود التجديدية لا يمنع من تسجيل ملاحظة هامة على النهج العام للنهضة الفقهية المعاصرة.. فالمتتبع للإنتاج الفقهي في هذه المرحلة يلحظ أن هذه النهضة قد استدرجت إلى معارك جانبية ساخنة، اختيرت فيها موضوعات فقهية شائكة كان الجمود فيها واضحاً، كمعركة حرية المرأة، فمثل هذه المعارك على أهميتها شغلت العقل الفقهي عن معركته الأساسية "التنظير الفقهي".
ذلك أن الرد على الشبهات التي أثارها الاتجاه العلماني، والحركة الاستشراقية الهادفة إلى الطعن في صلاحية التشريع الإسلامي للحياة عمل مهم، لكن إذا أخضعناه لفقه أولويات المرحلة، نجد أن الأولى كان صياغة منهج دقيق لتجديد بنية الفقه الإسلامي ومناهجه المختلفة بالتوازي مع خوض معركة الرد على الشبهات.. والدليل على ذلك أن الطاقات العلمية التي نشطت على أيديها حركة التأليف الفقهي لم تشكل في الحياة الفقهية تياراً له منهجه وقواعده ورجاله وأنصاره، بل إن الأجيال التالية اهتمت بالإنتاج الكمي على حساب الإنتاج النوعي، فكثرت المؤلفات، وبقيت الدراسات الفقهية تعاني أزمة المنهج.
وفي ختام هذه المقدمة المنهجية الأولى لموضوع البحث، لابد من التأكيد على أن العرض التاريخي والتحليلي لتاريخ الفقه الإسلامي يمكّننا من تشخيص أزمة الفقه الإسلامي، التي تتكون من فروع ثلاثة:
1- انكماش الفقه من الناحية الموضوعية.
2- اختلال منهج الاستنباط والاستدلال في عصور التقليد.
3- إقصاء التشريع الإسلامي من الحياة في القرن الأخير.
كما لابد من التأكيد أن المنظومة الفقهية عبارة عن حلقات مترابطة، فأي خلل في أيّ حلقة يتعدى أثره إلى الحلقات الأخرى. وهذا يستدعي أن يكون مشروع تجديد الفقه الإسلامي مشروعاً يتصف بالشمول، ويبتعد عن الجزئية، لأن الحل الجزئي قد يعطي نَفَساً لأي مشروع لكي يتعامل بمرونة مع بعض أجزاء الواقع، لكن لا يمكنه من تجاوز هذا الواقع إلى واقع آخر يتحقق من خلاله الاستقلال الحضاري، فالتجاوز الحضاري، فالشهود الحضاري.
المقدمة الثانية: مدى إمكانية تجدد الفقه الإسلامي:
لا شك أن التجديد عموماً مطلب ترتضيه الفطر السليمة؛ لأنه سنة الحياة وفلسفة الإنسان والتاريخ؛ غير أنه إذا أضيف إلى الدين أو علومه أثار إشكاليات كثيرة أهمها: معنى التجديد وإمكانيته.
وقد انبثقت هاتان الإشكاليتان في موضوع البحث - تجديد المنهج الفقهي- من سؤال مركزي هو: هل يتجدد الفقه الإسلامي؟ والإجابة عن هذا التساؤل اتسعت لآراء متنوعة تتقارب وتتباعد فيما بينها بقدر اشتراكها أو اختلافها في مسألتين اثنتين:
الأولى: المقدمات النظرية التي يُنطلق منها في بحث الموضوع.
الثانية: دلالة المصطلحات المركزية في الموضوع.
المقدمة النظرية الأولى: علاقة الفقه بالشريعة:
إن الدارس لفرضية إمكانية تجدد الفقه الإسلامي، وفرضية عدم إمكانية تجدده، يلحظ أن كلتا الفرضيتين قائمتان على أساس طبيعة العلاقة المتصوّرة بين الفقه والشريعة، فالافتراض النافي لإمكانية التجديد الفقهي منطلقه أن الفقه مأخوذ ومستنبط من الشريعة، وهي واجبة الاتباع فهو واجب الاتباع أيضاً، ولا فرق بين اتباع نص قرآني أو حديثي، وبين اتباع اجتهاد أو استنباط منهما([40]).
أما الافتراض المثبت لإمكانية التجديد الفقهي فمنطلقه عدم صحة الافتراض الأول؛ لأنه بني على خلل منهجي وهو اعتبار الفقه والشريعة أمراً واحداً، في حين أن الشريعة هي مجموع أحكام الله تعالى الثابتة في القرآن والسنة النبوية التي تنظم أفعال الناس، أما الفقه فهو الفهم للشريعة ولما تريده الشريعة، وبناء الأحكام في ضوئها وعلى نهجها([41]).
والحقيقة أن إثبات صحة التداخل بين مصطلح الفقه ومصطلح الشريعة أو عدمه، يقتضي الرجوع إلى أصل الكلمتين، وطبيعة كل منهما، والنتائج المترتبة على التفريق بينهما أو عدمه.
- أصل كلمتي الفقه والشريعة:
الشريعة لغة: المواضع التي يُنحدر إلى الماء منها ([42]).
أما اصطلاحاً: فقد عرفها التهانوي بأنها: «ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبيّنا وسلّم، سواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية عملية، ودوّن لها الفقه، أو بكيفية الاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية، ودوّن لها علم الكلام»([43]).
والفقه لغة: العلم بالشيء، والفهم له ([44]).
أما اصطلاحاً: فقد عرفه الجرجاني بأنه: «العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية»([45]). وعرفه الآمدي بأنه: «العلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال» ([46]).
- طبيعة الفقه والشريعة:
تنكشف طبيعة الفقه والشريعة من خلال معناهما اللغوي والاصطلاحي. فالشريعة باعتبارها ما شرعه الله للناس من دين، فهي الكتاب والسنة، أي المصادر الثابتة التي لا تتغير بمرور الزمان ولا باجتهاد العلماء. أما الفقه فهو ما يفهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد تضمن التعريف الاصطلاحي هذا المعنى في استعماله للفظة "علم"، "العلم بالأحكام الشرعية.." فالفقه إذن هو علم يستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج إلى نظر واستدلال، أي هو عمل الفقهاء في الشريعة، تفسيراً لها، واستخلاصاً للأحكام منها، وقياساً عليها فيما لم يرد فيه نص، وطلباً للمصلحة فيما يعرض من أمور.
- نتيجة التفريق بين الفقه والشريعة وعدمه:
إن النتيجة المترتبة عن عدم التفريق بين الفقه والشريعة هي تبني ثبات كليهما، وعدم تغيرهما بتغير الزمان والمكان. أما النتيجة المترتبة عن التفريق بينهما فهي التأكيد أن الثابت الذي لا يتغيّر هو الشريعة، أما الفقه فقابل للتغيّر بحسب ظروف الزمان والمكان.
مما تقدم يتضح أن اختلاف أصل الكلمتين وطبيعتهما وعدم معقولية وشرعية النتائج المترتبة على الدمج بينهما يفرض التفريق بينهما لتتجلى العلاقة بينهما. وقد أوضح الدكتور عبد الكريم زيدان أن الفرق بينهما يتجلى في أمرين أساسين هما:
1- أن الشريعة أعم من الفقه؛ لأنها تشمل الأحكام الاعتقادية والعملية، بينما يقتصر الفقه على الأحكام العملية فقط.
2- أن الشريعة الإسلامية تعني الأحكام المنزلة من عند الله في كتابه الكريم، أو على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، ومن ثمّ لا يجوز مخالفتها.
أما الأحكام الفقهية فنوعان:
أ- ما ينعدم أو يضعف فيه الجانب الاجتهادي، وذلك مثل الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، أو التي تستفاد من النص الشرعي بلا بحث.
ب- ما يغلب عليه الجانب الاجتهادي، وهذا النوع من الأحكام لا يعتبر جزءاً من الشريعة الإسلامية بمعناها الاصطلاحي، أي لا يعتبر من قبيل التشريع الإلهي الذي لا تجوز مخالفته، بل تسوغ هذه المخالفة ما دامت مستندة إلى دليل أقوى من دليل الرأي الفقهي المتروك([47]).
والنتيجة المستوحاة من هذه المقدمة الأولى هي: أنه لو جاز أن تكون الشريعة هي الفقه، مع ما نرى من اختلاف الفقهاء وتفنيد بعضهم آراء بعض، وإبطالها أحياناً ، لصدقت فينا كلمة الله تعالى: ((إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء)) (الأنعام:159).
المقدمة النظرية الثانية:
تجديد الفقه الإسلامي مبني على مسلّمة سابقة في التصور والحكم:
هي أن الفقه الإسلامي قد يتقادم ويجمد، وهو خلاف لما يعتقده كثير من الفقهاء من أنه فقه حي يحوي ثروة ضخمة في شتى مجالات الحياة([48]). والحقيقة أنه إذا ما انطلقنا من النتيجة التي توصلنا إليها في تحديد العلاقة بين الفقه والشريعة، وهي أن الفقه هو فهم الفقهاء لنصوص الشريعة، فإننا نستطيع تأكيد صحة المسلمة التي بنيت عليها إشكالية تجديد الفقه الإسلامي للاعتبارات الآتية:
1- أن بصيرة الفقيه مهما امتدت في المستقبل فإنها محكومة بقدرات الإنسان المحدودة في رؤية البعد الزمني.
2- أن الفقه الإسلامي مطالب بقضايا زمانه، ومن المعلوم أن لكل زمان قضاياه ومشكلاته، والمطلوب من الفقيه المجتهد أن ينجح في التعامل مع قضايا عصره، لكن نجاحه في ذلك لا يعني نجاحه في التعامل مع قضايا العصور اللاحقة.
3- أن استعراض تاريخ التشريع الإسلامي يدل على مرور الفقه الإسلامي بمراحل استرخاء وجمود ضعف فيها الاجتهاد، وضمر في حياة المسلمين.
بعد توضيح المقدمات النظرية لإشكالية التجديد الفقهي ننتقل إلى المسألة الثانية التي تسببت في اختلاف الرؤى حول الإشكالية ذاتها ألا وهي:
- دلالة المصطلحات المركزية في الموضوع:
لقد تقدم ضبط مصطلح الفقه والشريعة، لهذا سيقتصر الكلام في هذا الموضوع على مصطلح "التجديد" باعتباره أحد المصطلحات المركزية في البحث، ذلك أن تحديد مفهوم التجديد الفقهي مرتبط أساساً بدلالة مصطلح التجديد.
التجديد لغة: تجدّد الشيء يعني صار جديداً، وجدّده أي صيّره جديداً. والجديد نقيض البالي. فيقال "بلى بيت فلان ثم أجدّ بيتاً من شعر" أي أعاد بناءه. ويقال"جدّد الوضوء" أي أعاده، "وجدّد العهد" أي كرّره وأكده ([49]).
ولقد استعمل مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي أخذاً من الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها»([50]).والمراد بتجديد الدين: إحياء معالمه العلمية والعملية التي أبانتها نصوص الكتاب والسنة وفهم السلف([51]).
ومما سبق يتبيّن أن التجديد في أصل معناه اللغوي وفي استعماله النبوي يدل على الإحياء والبعث والإعادة، وأن هذا المعنى يكوّن في الذهن، كما بين بسطامي محمد سعيد، تصوراً تجتمع فيه معان ثلاثة يستلزم كل واحد منها الآخر:
الأول: أن الشيء المجدّد قد كان في أول الأمر موجوداً وقائماً، للناس به عهد.
الثاني: أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديماً.
الثالث: أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى([52]).
وعلى هذا التحديد اللغوي بنى بعض الباحثين تعريفهم لمفهوم التجديد. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "إن التجديد لشيء ما، هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد. وذلك بتقوية ما وهِيَ منه، وترميم ما بلى، ورتق ما انفتق، حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى" ([53]). ويقول جمال سلطان: «إن التجديد في مجال الفكر، أو مجال الأشياء على السواء، هو أن تعيد الفكرة أو الشيء الذي بلى أو قدم إلى حاله الأولى»([54]).
لكن الجدير بالملاحظة أن مصطلح التجديد في الساحة الفكرية الإسلامية قد شابه بعض الغموض، وعدم الضبط، لاكتسابه من خلال التداول العام معنى الإلغاء والتجاوز. وإذا بحثنا عن الأسباب التي حمّلت مصطلح التجديد هذا المعنى، بل وجعلته المعنى المتبادر إلى الذهن عند إطلاقه عند بعض الباحثين، نجدها تنحصر في عنصرين:
1- عدم اشتهار مصطلح التجديد في تراثنا الإسلامي.
2- بروز مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي الحديث في مرحلة بدأت تتسرّب فيها المنهجية العلمانية إلى حياتنا الفكرية والمعرفية والقيمية والفنية، فشاع استعماله الحديث عند بعض مفكري الإسلام الذين يقتربون في نسقهم الفكري من القيم والمناهج الغربية([55]) فأصبح بعضهم يتوجس من هذا المصطلح خيفة، لأن التيار العلماني استطاع تأميمه وتعبئته بمضامين جعلته رمزاً لتجاوز الشريعة.
هذان السببان جعلا عبارة تجديد الفكر الإسلامي عامة، والجانب التشريعي منه على وجه الخصوص، محلّ تحفظ وحذر.
والحقيقة أن عدم اشتهار مصطلح التجديد في تراثنا الإسلامي، وشيوعه في مرحلة تنامي الظاهرة العلمانية ثقافياً، وتعبئته بمضامين منحرفة، ليست أسباباً منطقية لرفض مصطلح التجديد لجملة اعتبارات منها:
1- أن المصطلح له أصل في اللغة العربية وفي الشرع (الحديث النبوي).
2- أن توظيف التيار العلماني للمصطلح ضمن مفاهيم لا تتفق ودلالته اللغوية والشرعية ليس مبرراً لإقصائه من المنظومة الفكرية الإسلامية، بل المطلوب ضبط معناه في إطار التصور الإسلامي من خلال قواعد اللغة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأصول التشريع الإسلامي.
فهذا العمل يمثل خطوة منهجية ضرورية لاستكمال المقدمات النظرية الضرورية لبحث موضوع التجديد عامة، وتجديد الفقه الإسلامي خاصة.
ومما تقدم يظهر أن التحليل العلمي للمقدمات النظرية التي يُنطلق منها في بحث موضوع تجديد الفقه الإسلامي، والضبط الدقيق لدلالة المصطلحات المركزية فيه، كمصطلح الفقه والشريعة والتجديد، يفضيان إلى إمكانية تجديد الفقه الإسلامي، لأنه يمثّل في معظمه - عدا الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، أو الثابتة بنص واضح الدلالة على المطلوب- فَهْم الفقهاء لأحكام الشريعة، هذا الفهم الذي يتكيّف مع الظروف والحاجات التي يفرزها واقع الناس، ويتفاعل مع المعارف والتجارب والوسائل التي تتيحها طبيعة الحياة في كل زمان ومكان.
المقدمة الثالثة: تحديد دلالة مصطلحات عنوان البحث:
قد يتبادر إلى الذهن في عنوان البحث: "معالم تجديد المنهج الفقهي" أن المقصود بالمنهج الفقهي علم أصول الفقه، باعتباره المنهج المتبع في استنباط الأحكام، والاستدلال عليها، لكن هذا ليس إلا فرعاً من فروع البحث، لأن مصطلح "المنهج الفقهي" يشمل المنهج في جميع مكوّنات العملية الفقهية: الاجتهاد، التنظير والتنزيل، البحث والصياغة، التصنيف والتدريس.
ولقد تضمن هذا البحث نموذجاً للتجديد الفقهي هدفه إبراز أحد الجهود التجديدية الجادة، وتقييمها ضمن إطارها التاريخي، وتحديد منهجية الاستفادة منها وتطويرها، ذلك أن العلم بناء تراكمي، ينمو ويتكامل بإضافة اللاحقين إلى ما بناه السابقون، لا بهدمه أو تركه جملة.
وهذه الإضافة قد تتخذ صورة التجديد والتكميل، أو التصحيح والتعديل.
ثم إن دراسة هذا النموذج يساعدنا إلى حدّ كبير على تبيّن منهج التعامل مع التراث الفقهي عامة، والتراث الفقهي التجديدي على وجه الخصوص.
أما اختيار الإمام الشوكاني نموذجاً للتجديد الفقهي، فلأن الرجل قاد ثورة فقهية شعارها الدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، في فترة تاريخية حرجة (1173هـ - 1255هـ) استحكمت فيها عوامل الضعف والتخلف والاضطراب في جميع مجالات الحياة الإسلامية: السياسية، الفكرية، الدينية، وفي دور من أدوار تاريخ التشريع الإسلامي استحكمت فيه قبضة التقليد، واستجمع فيه الفقه الإسلامي جلّ عناصر الجمود والخمول التي أثرت تأثيراً سلبياً في أهم حلقات المنظومة الفقهية، الموضوع والمنهج.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) محمد كمال إمام، "أزمة المنهج في الدراسات الفقهية المعاصرة"، بحث مقدم إلى ندوة قضايا المنهجية في الفكر الإسلامي قسنطينة، الجزائر، 9-12 سبتمبر 1989م (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1989م).
([2]) حسن الترابي، قضايا التجديد: نحو منهج أصولي (السودان: معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، 1990م).
([3]) يوسف القرضاوي، شريعة الإسلام: خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان ، ط2 (القاهرة: المكتب الإسلامي ، 1983م).
([4]) عباس حسني، الفقه الإسلامي آفاقه وتطوره، ط2 (السعودية: مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، 1414هـ).
([5]) عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، منهج البحث في الفقه الإسلامي، ط1 (السعودية: المكتبة المكية، لبنان: دار ابن حزم ، 1416هـ - 1996م).
([6]) محمد بن حسن أحمد الغماري، الإمام الشوكاني مفسراً (جدة: دار الشروق،1981م).
([7]) عبد السلام مصطفى أبو المعاطي، الإمام الشوكاني وجهوده في الحديث، رسالة دكتوراه مقدمة سنة 1979م، بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر.
([8]) عبد الغني قاسم الشرجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره (بيروت:دار الفكر،1988م).
([9]) عادل محمد علي، الإمام الشوكاني سيرته وفكره(القاهرة:مكتبة رياض الصالحين، 1994م).
([10])حسن عبد الله العمري،الإمام الشوكاني:رائد عصره (بيروت:دار الفكر المعاصر،1990م).
([11]) انظر: محمد الدسوقي، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية، ط1(الدوحة: دار الثقافة، 1987م) ص151-153.
([12]) انظر: محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي (بيروت: دار القلم، د.ت) ص97-101؛ محمد الدسوقي، مرجع سابق، ص157-161.
([13]) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، ص197.
([14]) انظر: محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ط1 (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991م) ص75؛ عبد المجيد النجار، فقه التدين فهماً وتنزيلاً، سلسلة كتاب الأمة (قطر: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1410هـ) 1/131-132.
([15]) محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي(مطبعة محمد علي صبيح وأولاده،د.ت)ص83؛ محمد هشام الأيوبي،الاجتهاد ومقتضيات العصر(عمان:دارالفكر،د.ت) ص93ـ96.
() المقصود بفقه التنزيل" صيرورة الحقيقة الدينية التي وقع تمثلها في مرحلة الفهم إلى نمط عملي تجري عليه حياة الناس في الواقع". انظر: عبد المجيد النجار، فقه التدين فهماً وتنزيلاً، 2/15،16.
([16]) عبد المجيد النجار، المرجع السابق، ص65 (بتصرف).
([17]) انظر: محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ص76.
([18]) انظر: عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، ط2 (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993) ص47ـ50.
([19]) محمد الدسوقي، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية، ص182 (بتصرف).
([20]) محمد مصطفى أمبابي، الجديد في تاريخ الفقه الإسلامي (القاهرة: دارالمنار، 1986م) ص252-255؛ محمد هشام الأيوبي، الاجتهاد ومقتضيات العصر، ص133ـ139.
([21]) انظر: يوسف القرضاوي، شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، ط3 (القاهرة: المكتب الإسلامي، 1983م) ص78 (بتصرف).
([22]) محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص112، نقلاً عن القاضي عياض، ترتيب المدارك.
([23]) رسالة الإمام أبي الحسن الكرخي في الأصول، طبعت ضمن كتاب: تأسيس النظر، للإمام أبي زيد الدبوسي الحنفي (بيروت: دار ابن زيدون، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية) ص169ـ171.
([24]) محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص112.
([25]) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي، ص275 (بتصرف).
([26]) عبد المجيد النجار، في فقه التدين فهماً وتنزيلاً، ص68 (بتصرف).
([27]) اعتمد هذا التحديد الزمني من اعتبر صدور مجلة الأحكام العدلية بداية عصر النهضة الفقهية الحديثة، مثل: محمد الدسوقي.
([28]) انظر: محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص117.
([29]) أحمد فراج حسني، عبد الودود السريني، النظريات العامة في الفقه الإسلامي وتاريخه (بيروت: دار النهضة العربية، 1992م) ص360.
([30]) انظر: محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص117.
([31]) ابن خلدون، المقدمة (بيروت: دار الفكر، د ت) ص531.
([32]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها .
([33]) محمد هشام الأيوبي، الاجتهاد ومقتضيات العصر، ص204.
([34]) محمد كمال إمام، أزمة المنهج في الدراسات الفقهية المعاصرة، ص3 (بتصرف).
([35]) المرجع نفسه، ص5 (بتصرف).
([36]) انظر:محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص130.
([37]) وهبة الزحيلي، جهود وتقنين الفقه الإسلامي،ط1(بيروت:مؤسسة الرسالة،1987) ص53.
([38]) انظر: محمد كمال إمام، أزمة المنهج في الدراسات الفقهية المعاصرة، ص19.
([39]) انظر: محمد الدسوقي، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية، ص186.
([40]) محمد هشام الأيوبي، الاجتهاد ومقتضيات العصر، ص188.
([41]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
([42]) ابن منظور، لسان العرب (بيروت: دار صادر، 1956م) 8/175.
([43]) محمد بن علي التهانوي، كشاف مصطلحات الفنون والعلوم (بيروت: دار صادر، د.ت)2/759.
([44]) ابن منظور، لسان العرب، 3/522.
([45]) علي بن محمد الشريف الجرجاني، التعريفات (بيروت: مكتبة لبنان،1990م) ص175.
([46]) سيف الدين الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق د. سيد الجميلي، ط2 (بيروت: دار الكتاب العربي ، 1986م) 1/8.
([47]) عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ط11 (مؤسسة الرسالة، مكتبة القدس، 1989م)، ص56ـ57.
([48]) تبنى هذا الموقف الرافض لدعوى تجديد الفقه الإسلامي الدكتور عبد العظيم إبراهمي الماطعي في كتابه الفقه الاجتهادي الإسلامي بين عبقرية السلف ومآخذ ناقديه (مصر: مكتبة وهبة، د ت).
([49]) ابن منظور، لسان العرب، 3/111؛ اسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح (مصر: دار الكتاب العربي، 1990م) 1/451.
([50]) أبو داود، السنن، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، برقم 4270 ورمز له الشيخ ناصر الدين الألباني بالصحة، انظر صحيح سنن أبي داود، ط1 (الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1989م) 3/809، حديث رقم3606، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم599، وصحيح الجامع الصغير (بيروت: المكتب الإسلامي، 1986م) حديث رقم 1874.
([51]) بسطامي محمد سعيد، مفهوم تجديد الدين، ط1 (الكويت:دار الدعوة، 1984م) ص3.
([52]) المرجع نفسه، ص14-15.
([53]) يوسف القرضاوي، "تجديد الدين في ضوء السنة"، مجلة مركز بحوث السنة والسيرة (جامعة قطر: العدد2، 1987م) ص29.
([54]) جمال سلطان، تجديد الفكر الإسلامي، ط1 (الرياض:دار الوطن، 1412هـ) ص13.
([55]) يظهر هذا السبب في كتاب الغارة على التراث الإسلامي لجمال سلطان في فصل "دعوى التجديد وخطرها على التراث"، ص76-86.(1/4)
الفصل الثاني
المبحث الثالث: مشاركة الشوكاني في الحياة العامة
المطلب الثالث: ممارسته العمل السياسي:
اشتغل الإمام الشوكاني إضافة إلى الإفتاء والقضاء بالسياسة. وكانت ممارسته للعمل السياسي صادرة عن دافعين أساسيين: الأول واجبه الوظيفي، والثاني: قناعته الفكرية.
أما واجبه الوظيفي، فمن خلال عمله قاضياً ومفتياً للديار اليمنية كان يأخذ البيعة لأئمة عصره عند توليهم الحكم من إخوانهم وأعمامهم وسائر آل قاسم وجميع الأعيان([119]). وهذه المهمة أكسبته نفوذاً سياسياً، ذلك أن "من هذه البيعة تكون قوة الإمام (أي الخليفة) الحقيقية"([120]).
ولقد وظّف الشوكاني هذا الحق السياسي الذي ضمنته له وظيفته الدينية - قاضي القضاة - في محاولة إصلاح الواقع السياسي، وذلك بمساندة المتوكل أحمد في إحداث الإنقلاب الأبيض على أبيه الإمام المنصور علي، الذي أوكل شؤون إدارة الدولة إلى وزرائه فاضطربت أمور الحكم، وخرجت بعض القبائل عليه، فكثر النهب والقتل، وحوصرت صنعاء فثار ابنه المتوكل أحمد على هذه الأوضاع، وساءت علاقته بأبيه، فتدخل الشوكاني للمصالحة بينهما بصفته قاضي القضاة. وكانت نتيجة هذه المساعي أن سُلّمت السلطة إلى الابن - المتوكل أحمد - على أن يحكم باسم أبيه([121]).
أما قناعته الفكرية فتمثلت في رفضه مبدأ اعتزال العلماء الوظائف العامة في أجهزة الحكم والدولة، معتقداً أن زهد أهل العلم في شغل مراكز التغيير والإصلاح في المجتمع يفضي إلى ابتعاد المجتمع والدولة عن شريعة الإسلام، وإلى انتشار الظلم، ومن ثَمّ التدهور العام للمجتمع الإسلامي([122]).
وهذا الموقف الفكري جعله يقبل منصب "كاتب الحاكم" المكلف بتحرير مراسلات الخليفة. فلقد تولى المراسلات الخارجية التي جرت بين صاحب نجد عبد العزيز بن سعود، وبين الإمام منصور علي([123]). كما تولى الرد على رسالة أمير مكة للإمام المنصور حول الحملة الفرنسية على مصر([124]).
كما أهله هذا المنصب لقيادة المفاوضات التي جرت بين المتوكل أحمد وابنه المهدي عبد الله من بعده وبين آل سعود، وكذلك المفاوضات التي جرت بين المتوكل أحمد ومحمد علي باشا حاكم مصر([125]). كما كان المفاوض الرئيسي بين النظام اليمني الحاكم وزعماء القبائل المتمردة على سلطته([126]).
ومن خلال عمله كاتباً للحكام مارس الشوكاني مهنة المستشار السياسي للنظام الحاكم، فكان يرافق أئمة زمانه في زياراتهم الميدانية التفقدية لمناطق اليمن، فينصح لهم، وينتقد قراراتهم التي ليس لها أيّ مسوّغ شرعي يبررها([127]).
كما كان يصطحبهم في رحلاتهم العسكرية الهادفة إلى إخماد الفتن الداخلية، فيشير عليهم في تخطيطهم العسكري، كما ينتقد ما يصدر عن جنودهم من تجاوزات شرعية([128]).
ولما كانت السياسة الاقتصادية العادلة في نظره أحد عوامل استقرار الدولة([129])، فقد جعل من اهتماماته السياسية نقد وتصويب السياسية الاقتصادية والمالية للدولة. إذ انتقد في قصيدة له لجوء المنصور علي إلى التغيير المستمر للعملة والزيادة في الضرائب، وإحداث ضرائب جديدة لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي عرفها المجتمع اليمني في عهده([130]).
ونجح في إقناع المنصور علي بإصدار مرسوم حرره الشوكاني بيده يقضي برفع المظالم عن الرعية، والاقتصار في المأخوذ منهم على ما ورد به الشرع([131]).
وبصفته رئيس القضاء أمر حكام الأقاليم بتنفيذ المرسوم وبتكليف رجال أمناء يعلمون الناس معالم دينهم([132]).
لكن العهد لم يطل بتطبيق هذا المرسوم تحت ضغط المقلّدة وبطانة السوء([133]) ومع ذلك لم ييأس الشوكاني من الإصلاح، فألف بعد ذلك مباشرة رسالته "الدواء العاجل في دفع العدو الصائل"، حاول فيها أن "يشخّص أدواء المجتمع اليمني التي تمثّلت له في الجهل العام بالشريعة وأحكامها، وفساد الإدارة مع ضعف مركزية الدولة وسلطانها، فكان لذلك أسوأ الأثر في معيشة الناس واقتصاد البلاد"([134]).
والملاحظ في نشاطه السياسي أنه عدّ الشعر بمثابة المنشورات السياسية، إذ اتخذه وسيلة لذيوع آرائه ومواقفه الانتقادية لسياسات الدولة تارة، ولبعض رجالاتها تارة أخرى. فحوّل الشعر بذلك من ترف ذهني وتلاعب بديعي إلى نفير للإصلاح ومنبر للتوجيه.
وخلاصة هذا الفصل: أن شخصية الشوكاني التجديدية كانت نتيجة حياة علمية مغايرة للأنماط الفكرية السائدة في عصره، المتسمة بتمزق المعرفة، وعزلة العلماء عن الحياة والواقع.
فالرجل كان صاحب معرفة موسوعية، وممارسة حياتية وسياسية واسعة كوّنت لديه معرفة متكاملة جعلت علمه يتفاعل مع عمله، فيثمر تعاملاً أصيلاً مع واقع الحياة وتطوراته.
------------------------------------
([119]) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع، 1/377،467.
([120]) محمد الخضري، تاريخ الأمة الإسلامية، المكتبة التجارية الكبرى، ص65، نقلاً عن عادل محمد علي، الإمام الشوكاني سيرته وفكره، 1/56.
([121]) انظر: محمد بن علي الشوكاني، المرجع نفسه، 1/462. حسين عبد الله العمري، مئة عام من تاريخ اليمن الحديث، ص162.
([122]) عبد الغني قاسم الشراجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص363، نقلاً عن محمد ابن علي الشوكاني، رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين (مخ)، ص29.
([123]) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع، 2/8.
([124]) المرجع نفسه، 2/8-23.
([125]) انظر: حسين عبد الله العمري، الإمام الشوكاني، مرجع سابق، ص217.
([126]) انظر: المرجع نفسه، ص219 ـ220.
([127]) محمد بن حسن أحمد الشجني الذماري، التقصار في علماء الأمصار، ص50ـ62، نقلاً عن عبد الغني قاسم الشراجي، المرجع نفسه، ص235ـ236.
([128]) انظر حسين عبد الله العمري، مئة عام من تاريخ اليمن الحديث، ص171، 174، 231-232.
([129]) انظر، محمد علي الشوكاني، ديوان الشوكاني: أسلاك الجوهر، ص194.
([130]) المرجع نفسه، ص233- 234.
([131]) المرجع نفسه، ص234- 235.
([132]) انظر نص المرسوم الذي أثبته حسين عبد الله العمري بين ملحقات كتابه: الإمام الشوكاني رائد عصره، ص465- 466.
([133]) حسين عبد الله العمري، الإمام الشوكاني رائد عصره، ص127.
([134]) المرجع السابق، ص128.(1/5)
الفصل الثالث
مقدمة:
لقد صاغت العوامل الموضوعية والذاتية التي تناولها الفصل السابق نظرية تجديد الفقه الإسلامي عند الإمام الشوكاني رحمه الله، التي عكست بعمق فلسفته في إصلاح منهج التفكير الفقهي، هذا الإصلاح الذي شمل جلّ مفردات المنظومة الفقهية.
ويكشف هذا الفصل عن الأسس المنهجية التي بنى عليها الشوكاني تجديده للمنهج الفقهي، وهي:
- تحريم التقليد، والدعوة إلى الاجتهاد؛
- تحقيق علم أصول الفقه؛
- تجديد منهجية الدراسات الفقهية(1/6)
الفصل الثالث
المبحث الأول: تحريم التقليد.. والدعوة إلى الاجتهاد
المطلب الأول: ضبط مفهوم التقليد:
لقد كان ضبط مفهوم التقليد أول خطوة منهجية خطاها الإمام الشوكاني في بحث هذا الموضوع، وتكمن دقة هذه الخطوة في اعتبارات أربعة:
أولاً: أن التعاريف الاصطلاحية للتقليد قد تعددت وتنوعت.
ثانياً: أنه ترتب على هذا التعدد والتنوع اختلاف بين العلماء في الأحكام المستنبطة والتصورات المصوغة في موضوع التقليد.
ثالثاً: أن عدم تحقيق وضبط مفهوم التقليد وتعدد تعريفاته الاصطلاحية أفرز إشكاليات منهجية بين علماء الأصول، من بينها: هل قبول قول الرسول e يسمى تقليداً أم لا؟ وهل قبول قول غيره من الصحابة والتابعين يسمى تقليداً أم لا؟([1])، وقد اختلفت الإجابة عن مثل هذه التساؤلات بسبب الاختلاف في تحديد حقيقة التقليد.
رابعاً: أن المفهوم الذي حدده الشوكاني لمصطلح التقليد اتخذه ضابطاً منهجياً في دراسته لكل مباحث التقليد. من هنا جنّب الإمام الشوكاني بضبطه لمفهوم مفردة التقليد نفسه الكثير من الاختلافات المنهجية.
فبعدما ذكر الشوكاني التعاريف الاصطلاحية المختلفة للتقليد مثل: "العمل بقول الغير من غير حجة"، و"قبول القول من غير حجة تظهر على قوله"، وغيرها من التعريفات([2])، انتقدها وعلّق عليها، ثم حرّر تعريفه الاصطلاحي للتقليد بقوله: «هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة»([3]).
وقد استخرج من قيود هذا التعريف فوائد عديدة أهمها:
- إخراج العمل بقول الرسول e، لأن قوله وفعله هو نفسه حجة.
- قبول رواية الراوي إن روى عمن تقوم به الحجة([4]).
واستحضر هاتين الفائدتين، واستثمرهما في بيان حقيقة التقليد، والتفريق بينه وبين بعض المصطلحات التي تستعمل على أنها مترادفات له مثل: الاقتداء، الاتباع، الاستصواب، الموافقة.
المطلب الثاني: دراسة ظاهرة التقليد:
لما كان منطلق الشوكاني في الإصلاح والتجديد مراجعة المنظومة المعرفية التي سادت عصور الانحطاط، ومن ثمّ إعادة صياغة العقلية الإسلامية التي ستتولى مسؤولية تجديد منهج ومحتوى العملية الاجتهادية في شتى فروع المعرفة، درس ظاهرة التقليد دراسة متكاملة شملت أبعاداً مختلفة. وفي الآتي تفاصيل هذه الأبعاد:
- البعد الفقهي:
لقد درس الإمام الشوكاني التقليد بوصفه ظاهرة فقهية تحتاج إلى حكم شرعي واضح يلتزم به المكلّف. ولأهمية هذا الجانب من الدراسة ومحوريته، لم ير الإمام الشوكاني بداً من بحث هذا الموضوع بحثاً مستفيضاً معتمداً على منهجية واضحة ودقيقة تمثلت في الخطوات الآتية:
1- تحديد الآراء المستقرة في المسألة:
لقد حصَرَ الإمام الشوكاني اختلاف العلماء في التكييف الشرعي للتقليد في مذاهب ثلاثة([5]): مذهب الجمهور وهو المنع من التقليد؛ ومذهب بعض الحشوية وهو وجوب التقليد مطلقاً وحرمة النظر؛ ومذهب كثير من أتباع الأئمة الأربعة وهو وجوبه على العامي وحرمته على المجتهد.. ووافق الشوكاني مذهب الجمهور لأن المذهب الثاني فيه إيجاب للجهل على الناس، والمذهب الثالث أوّل أصحابه كلام أئمتهم الأربعة بالمنع بالتفريق بين العامي والمجتهد.
2- مناقشة أدلة المجوّزين للتقليد:
لما كان القائل بعدم التقليد قائماً في مقام المنع، وكان القائل بالجواز قائماً في مقام الإثبات، كان الدليل في نظر الشوكاني على مدعي الجواز، من هنا قدّم في دراسته الفقهية للتقليد حجج المجوزين له على الأدلة المثبتة للمنع([6])، كما حرص على حصر أدلة المجوزين ومناقشتها بإسهاب، وتبيين أنها في الجملة إما خارجة عن محلّ النزاع، وإما أنها دليل على المقلدة لا لهم، وإما أنها ضعيفة لا تثبت بها الحجة. ومن أبرز هذه الأدلة:
- احتجاجهم من القرآن الكريم بقوله تعالى: ((فَاسْئَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) (الأنبياء: 7) على أن الله تعالى أمر من لا علم له بسؤال من له علم. وقد رد الشوكاني على هذا الاستدلال بأن الآية واردة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيده سياقها: ((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) ، فأكثر المفسرين على أن الآية نزلت رداً على المشركين لما أنكروا كون الرسول e بشراً.
وعلى فرض أن المراد هو السؤال العام، فالمأمور بسؤالهم هم أهل الذكر، والذكر هو كتاب الله وسنة رسول الله e، فالسؤال إذن يكون عما فيهما.. من هنا، كانت هذه الآية حجة على المقلدة وليست لهم، لأن مفادها السؤال عن الدليل، وهم استدلوا بها على جواز الأخذ بأقوال الرجال من دون سؤال عن الدليل، وهذا هو التقليد([7]).
- واحتجاجهم أيضاً بقوله تعالى: ((يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْكُمْ )) (النساء:59) على أن أولي الأمر هم العلماء، وطاعتهم تكون فيما يفتون به([8]). ولم ير الإمام الشوكاني لهذه الآية أية دلالة على مراد المقلدين؛ لأنه لا طاعة للعلماء إلاّ إذا أمروا بطاعة الله، وإلا فقد ثبت عن الرسول e أنه قال: « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([9]) وأن العلماء وعلى رأسهم الأئمة الأربعة أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم، فطاعتهم ترك تقليدهم، وأنه لا يبعد أن تكون الطاعة المرادة لأولي الأمر في الآية هي في الأمور التي ليست من الشريعة، كتدبير الحروب وأمور المعاش، لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلاً تحت طاعة الله وطاعة الرسول. كما لا يبعد أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيّرة وواجبات الكفاية.
- كما استدلوا على جواز التقليد من السنة بأحاديث كثيرة أهمها: تلك الآمرة بالاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم كحديث: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»([10]) الذي نفى الشوكاني قيام الحجة به، لأنه روي من طرق صرّح أئمة الجرح والتعديل أنه لم يصح شيء منها([11])، وحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي...»([12]) الذي لا دلالة فيه - في نظر الشوكاني- على مراد المقلدة، وهو تقليد إمام من الأئمة دون المطالبة بالدليل. ذلك أن الأخذ بما سنّه الخلفاء الراشدون ليس إلاّ امتثالاً لأمر الرسول e بذلك، وهو في المقابل لم يأمرنا بالاستنان بسنة عالم من علماء الأمة، فكيف يسوغ الاستدلال بهذا الذي ورد فيه نص على ما لم يرد فيه نص؟
وأمر آخر، أن قياس أئمة المذاهب على الخلفاء الراشدين لا يصح، لأن الرسول e جعل سنتهم كسنته في اتباعها لأمر يختص بهم ولا يتعداهم إلى غيرهم، ولو كان الإلحاق بالخلفاء الراشدين سائغاً لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحبة والعلم مقدماً على من لم يشاركهم في مزية من المزايا. ثم إن سلوك المقلدين العملي يثبت أنهم لم يقلدوا الخلفاء الراشدين لهذا الدليل، بل يردون ما جاء عنهم إذا خالف أراء أئمتهم.
ولم يبرح الإمام الشوكاني مقام الكلام عن أحاديث الاقتداء بالصحابة، حتى بيّن أن المراد بالاستنان والاقتداء بهم، هو أن يأتي المستن والمقتدي بمثل ما أتوا به، وهم لا يأتون بفعل، ولا بقول، إلاّ وفق فعل الرسول e وقوله، فالاقتداء بهم هو اقتداء بالرسولe، وإنما أرشد الناس إلى ذلك لأنهم المبلّغون عنه، الناقلون شريعته إلى من بعده من أمته، فالفعل وإن كان لهم، فهو على طريقة الرواية لفعل الرسول e([13]).
- كما استدلوا على جواز التقليد بأقوال بعض الصحابة رضي الله عنهم وأفعالهم، مثل ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في موضوع الكلالة «إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر»، وقوله لأبي بكر رضي الله عنه في موضع آخر «رأينا تبع لرأيك»([14]). فقد رد الإمام الشوكاني على هذا الاستدلال بما وقع من مخالفة عمر لأبي بكر في غير مسألة، كمخالفته له في سبي أهل الردة، وفي الأرض المغنومة... إلخ، فإن قالوا خالفه في هذه المسائل لأن اجتهاده كان على خلاف اجتهاد أبي بكر، فيجاب عنهم: ووافقه في المسألة لأن اجتهاده كان موافقاً لاجتهاده ،وليس هذا من التقليد في شيء.
ورد على استدلالهم بقول عمر لأبي بكر: «رأينا تبع لرأيك»، بأن هذه المقالة واردة في قصة طويلة، وأن المقلدة قد اجتزؤوا منها الجزء الذي يسند دعواهم، ولو نظروا في القصة كلّها لكانت حجة عليهم لا لهم، لأن وقائعها تثبت أن عمر رضي الله عنه قرر بعض ما رآه أبو بكر ورد بعضه الآخر، وأن متابعته في بعض ما رآه ليس من التقليد، بل هو من الاستصواب لما جاء به من الآراء([15]).
- ومن جملة ما استدلوا به أيضاً أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون والرسول e بين أظهرهم وهذا تقليدهم. ويجيب الشوكاني: أنهم «كانوا يفتون بالنصوص من الكتاب والسنة وذلك رواية منهم، ولا شك أن قبول الرواية ليس بتقليد، بل هو قبول للحجة، والتقليد إنما هو قبول للرأي من دون حجة»([16]).
- كما استدلوا على جواز التقليد بدعوى الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين، ولقد أبطل الشوكاني هذه الدعوى التي أثارها بعض المتأخرين ممن صنّف في الأصول لاعتراضات منها: أنهم إن أرادوا إجماع خير القرون، فتلك دعوى باطلة، لأن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض هذه القرون. وإن أرادوا إجماع الأئمة الأربعة، فقد قالوا بالمنع من التقليد، ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك. وإن أرادوا إجماع من بعدهم، فوجود المنكرين لذلك من ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم. وإن أرادوا إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة فقد تقرر في الأصول أن المعتبر في الإجماع إنما هم المجتهدون دون غيرهم([17]).
بل إن الشوكاني أكد أن كبار العلماء بين منكر للتقليد، وساكت عنه سكوت تقية، مخافة ضرر، أو فوات نفع([18]).
ومما سبق يتضح أن الإمام الشوكاني في مناقشته لأدلة المجوزين للتقليد بذل جهداً علمياً فائقاً في تحديد حقيقة التقليد والمقلد، وذلك من خلال التفريق بينه وبين بعض المصطلحات والمفاهيم التي يُظن أنها تشترك معه في المعنى، كالاتباع، وقبول الرواية، والاقتداء، والاستصواب، والموافقة.
فالاتباع كما قال: "هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله، وصحة مذهبه، أما التقليد فهو أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه (أي القول)"([19])، ولهذا عدّ قوله تعالى: (( فَاسْئَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) (الأنبياء: 7) دليل على الاتباع لا التقليد([20]).
وقبول الرواية هو قبول للحجة، والتقليد هو قبول الرأي المجرد عن الحجة.
والاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم هو اقتداء بالنبي e؛ لأنهم المبلغون عنه، في حين أن التقليد هو قبول قول من لا تقوم به حجة دون مطالبته بدليل.
والاستصواب هو أن يظهر لك صواب قول فتوافق صاحبه فيه، والتقليد هو أن تأخذ القول دون علم بصحته أو بطلانه.
ومما تصدى له الإمام الشوكاني في مناقشته لدعاة التقليد، الشبهات التي أثاروها تبريراً لتمسكهم بالتقليد، وعزوفهم عن الاجتهاد. ومن هذه الشبه قولهم: لو أن التقليد غير جائز، لكان الاجتهاد واجباً على كل فرد من أفراد العباد، وهو تكليف بما لا يطاق لسببين: الأول أن الطباع البشرية متفاوتة، فمنها ما هو قابل للعلوم الاجتهادية، ومنها ما هو قاصر عن ذلك، وهو غالب الطباع. الثاني: أنه على فرض أنها قابلة له جميعها، فوجوب تحصيله على كل فرد يؤدي إلى تعطيل المعايش التي لا يتم بقاء النوع الانساني بدونها، فإذا ما اشتغل أصحاب الحرف بالعلم تعطلت حرفهم، وأفضى ذلك إلى انخرام نظام الحياة، وفي هذا ضرر ومشقة مخالفة لمقصود الشارع([21]).
وأجاب الشوكاني عن هذه الشبهة: أنه ليس المطلوب من كل إنسان أن يبلغ رتبة الاجتهاد، بل المطلوب أن يكون القاصرون إدراكاً وفهماً كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم، إذ أنهم لم يكونوا مقلدين ولا منتسبين إلى فرد بعينه، بل كان الجاهل منهم يسأل العالم عن الحكم الشرعي الثابت في الكتاب والسنة، فيفتيه به، ويرويه له، لفظاً أو معنى، فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي([22]).
ومن شبههم أيضاً أن العلم كان ميسراً لمن كان قبلهم، ولكنه الآن أصبح تحصيله صعباً عليهم، وعلى أهل عصورهم المتأخرة. وقد نقض الشوكاني هذه الشبهة مبيناً أن الاجتهاد قد يسّره الله تعالى للمتأخرين تيسيراً لم يكن للسابقين لتوفر تفاسير القرآن، ومجامع السنة المطهرة، ولتصنيف العلماء في علوم كل منهما([23]).
3- الاستدلال على منع التقليد بأدلة إضافية:
لم يكتف الشوكاني في دراسته الفقهية لموضوع التقليد بمناقشة أدلة وشبه المجوزين له، بل عمد إلى التدليل على رأيه الذي تبناه، - وهو عدم جواز التقليد على غير المجتهد، وأنه لابد أن يسأل أهل الذكر عن الأحكام، وأدلتها - بأدلة مستقلة أهمها:
1- أن الخطاب القرآني لم يأمرنا برد شرائع الله سبحانه إلى آراء الرجال، بل إلى كتاب الله وسنة رسول e: (( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ)) (النساء 59)([24]).
2- أن الآيات القرآنية الواردة في ذم تقليد الآباء، مثل قوله: ((وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى? مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـ?فِرُونَ )) (الزخرف:23-24)، وإن كان موردها في الكفار، فالمراد بها ذم من أعرض عما أنزله الله تعالى، وأخذ بقول سلفه.. من هنا صح تأويلها في المقلدين لاتحاد العلة، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب([25]).
3- أنه قد انعقد الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات، وعلى أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له عند عدم الدليل، ولا يجوز لغيره أن يعمل به، فهذان الإجماعان يجتثّان التقليد من أصله([26]).
4- أن وقوع الاجتهاد في المذاهب الأربعة، وكذا المذهب الزيدي، والهادوي، حجة على المقلدة([27]).
والخلاصة المستفادة من دراسة الشوكاني للتقليد بوصفه ظاهرة فقهية، هي تصنيفه للمسلم: إلى مسلم قادر على فهم الكتاب والسنة، ومالك لأدوات الاجتهاد، فهذا يجب في حقه الاجتهاد ويحرم عليه التقليد، ومسلم غير قادر على الفهم ومفتقد لأدواته، فهذا يحرم عليه التقليد أيضاً، ويجب عليه السؤال لمن يثق به ليصل إلى الدليل.
- البعد العقدي:
من الأبعاد التي وظفها الشوكاني كذلك في دراسة موضوع التقليد، البعد العقدي، فقد أقام الدليل والحجة على أن التقليد ينافي مقتضيات الإيمان والعبودية لله تعالى لاعتبارات منها:
أن الله تعالى أمر المسلمين برد الأمور المتنازع فيها إلى الله ورسوله فقال: ((فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ )) وجعل ذلك من موجبات الإيمان به إذ قال تعالى: ((إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ)) (النساء:59) فإذا انتفى الرد انتفى الإيمان.
ومنها أن الحامل للمقلدة على التقليد هو الغلو في تعظيم أئمتهم، وامتثال آرائهم، فصاروا بهذا التعظيم المبالغ، وما استوجبه من طاعة مطلقة أرباباً من دون الله تعالى، فصدق فيهم قوله تعالى: ((?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ )) (التوبة:31).
ومنها أن الله تعالى إنما بعث إلى عباده رسولاً واحداً، وأنزل إليهم كتاباً واحداً، وجميع الأمم أولها وآخرها متعبّدون بما شرعه الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان رسوله e، ومن جملة من هو متعبّد بهذه الشريعة رسول الله e، فكيف بالأئمة المتبعين الذين هم أفراد من العالم؟.
وعليه فلا مسوّغ للمقلدة في تقليد أحد العلماء في جميع أقواله، وإيثارها على قول غيره، بل على الكتاب والسنة([28]).
- البعد المعرفي:
من مقتضيات الدراسة الشمولية لظاهرة التقليد عند الشوكاني تحديد موقع هذا السلوك الفكري في ميزان العلم والمعرفة، وهو ما جعله يحرص في مواضع متفرقة، وبأساليب ومضامين مختلفة، على بيان ماهية التقليد في نظر العلم والمعرفة. ولاشك أن محاولة جمع وترتيب هذه المتفرقات ترتيباً منهجياً سيعطي صورة متكاملة عن التقليد كظاهرة معرفية، كما رسمها الإمام الشوكاني.
وقد كانت أولى خطواته في هذا النوع من البحث هو تحديد مفهوم العلم. فبيّن أن حد العلم - عند أهل العلم والنظر - هو: التَبَيُّنُ وإدراك المعلوم على ما هو به، فمن بان له الشيء فقد علمه([29]).. وحدّه عند العلماء والمتكلمين -كما قال ابن عبد البر- هو: «ما استيقنته وتبينته، وكل من استيقن شيئاً وتبينه فقد علمه».
وهذا التحديد الدقيق لمفهوم العلم جعل الإمام الشوكاني يخلص إلى قاعدتين اثنتين: أولاهما: أن العلم هو معرفة الحق بدليله. ثانيتهما: أن الرأي الذي لا يستند إلى دليل ليس من العلم. وقد استأنس في ذلك بقول ابن عبد البر: «ولا أعلم بين متقدمي علماء هذه الأمة وسلفها خلافاً أن الرأي ليس بعلم حقيقة، وأما أصول العلم فالكتاب والسنة» أي الدليل([30]).
فعلى هاتين المقدمتين أسس الإمام الشوكاني إجابته عن السؤال المحوري في الموضوع، وهو: هل التقليد علم؟ وهل المقلد عالم؟ فأثبت أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأكد صحة هذه النتيجة بأدلة منها: قوله تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) (الإسراء:36 ). ومنها الإجماع الذي نقله ابن عبد البر حين قال: «أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم»([31]).
ومنها أن التقليد قائم على فكرة توقف العلم، إذ ادعى المقلدة أن الله تعالى قد رفع ما تفضّل به عن من قبلهم من الأئمة من كمال الفهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، وهي دعوى في نظر الشوكاني من أبطل الباطلات، بل هي جهالة من الجهالات، لأن نهاية العلم كما يؤكد ليست كبدايته، بل هو سائر في طريق التطور والكمال والنضج العقلي عن طريق ازدياد المعارف وتطورها([32]). وهي قناعة ألف على أساسها الإمام الشوكاني كتابه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع"، حيث ذكر فيه أصنافاً من المجتهدين كدليل عملي وواقعي على أن باب الاجتهادلم ينسد، وأن الأمة لن تعدم أبداً من يقوم فيها بالحجة([33]).
إن إجابة الشوكاني عن السؤال السابق بالنفي، وضعته أمام سؤال آخر وهو: إن لم يكن التقليد علماً فما هو؟ فكان جوابه أن المقلد إذا تكلم فيما لا يعرفه فهو جاهل من جهتين: كونه لا يعرف ذلك الشيء، وكونه تكلم فيما لا يعرفه([34]).
وإذا كان التقليد جهلاً، فهو بالضرورة في مسائل الشرع تقوّل على الله عز وجلّ بما لم يقل، بصريح قوله تعالى: ((... وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (الأعراف:33)([35]).
والشوكاني في بحثه عن التقليد كظاهرة معرفية، لم يقف عند حدّ إثبات أن التقليد جهل وليس بعلم، بل تعداه إلى التأكيد على مبدأين هامين هما:
أولاً: أهمية ومحورية الدليل في المنظومة المعرفية الإسلامية:
وهذه نقطة جوهرية في إعادة صياغة العقلية الإسلامية عموماً، والفقهية على وجه الخصوص، هذه العقلية التي أصبحت في عصور التقليد والجمود تتعامل مع أقوال العلماء تخريجاً وقياساً دون النص الشرعي. من هنا أكد الإمام الشوكاني ارتباط العلم بالدليل، وأن الرجوع إلى الكتاب والسنة في مسائل الدين من مقتضيات المنهج العلمي السليم([36]).
ثانياً: اختلال منهج المقلدة:
وقد اعتمد في بيان ذلك طريقة الحوار المنطقي، متدرجاً معهم بما يسلمون به للوصول إلى نقطة الخلاف، فلا يسعهم إلا التسليم. وكثيراً ما كشفت هذه الحوارات أن تفكير المقلد لا يقوم على منهج سليم تتفق مقدماته مع نتائجه، بل يقوم عل التناقض، من جانبين:
- تناقض في منهج تفكيرهم ذاته: يتجلى في اعتراف المقلد أنه التزم التقليد - أخذ رأي الغير دون دليل - لأنه لا يعقل الحجة، ولكن إذا سئل عن سبب تقليده لعالم بعينه من جملة علماء الأمة في كل أمور دينه أجاب: لأنه أعلم من غيره. والسؤال المثار: من أين له معرفة العالم والأعلم، وهو مقر على نفسه أنه لا يطالب بالحجة، ولا يعقلها إذا جاءته.فهو يشهد بجوابه هذا على بطلان دعواه الأولى.
وأمر آخر، أن المقلد يعترف في كل مسألة من مسائل الفروع الذي هو مقلد فيها أنه لا يدري ما هو الحق فيها، لكن إذا أرشده «البعض» إلى أن التقليد غير جائز في دين الله أخذ في المخاصمة والاستدلال بجواز التقليد، فهلا أنزل نفسه -كما قال الشوكاني - في هذه المسألة الأصولية المتشعبة تلك المنزلة التي كان ينزلها في مسائل الفروع([37]).
- تناقض قناعتهم الفكرية مع سلوكهم العملي: يتجلى ذلك في قبولهم ممن ينتسب إلى مذهبهم الترجيح بين روايتين لإمامهم، وإن كان ذلك المرجّح مقلداً غير مجتهد ولا قريب من رتبة الاجتهاد، ولا يقبلون ممن هو في رتبة إمامهم، أو أكثر مثل ذلك، ولو عضد ترجيحه بالآيات المحكمة والأحاديث المتواترة. بل إنهم يقبلون من موافقيهم مجرد التخريج على مذهب إمامهم والقياس على ما ذهب إليه ويجعلونه ديناً، ويحلون به ويحرمون، ولا يقبلون من مخالفهم مجرد الترجيح بين روايتين لإمامهم([38]).
وخلاصة تحليل الشوكاني لشخصية المقلّد العلمية أنه لا منهج له ولا منطق، وأن هذه المذاهب الفقهية كما قال: «قد صار كل واحد منها كالشريعة عند أهله، يذودون عنه كتاب الله وسنة رسوله ويجعلونه جسراً يدفعون به كل ما يخالفه كائناً ما كان»([39]).
- البعد الاجتماعي:
درس الإمام الشوكاني التقليد كظاهرة اجتماعية، وحاول من خلالها الإجابة عن جملة من الأسئلة مثل: متى وكيف نشأ؟ ما أسباب انتشاره في المجتمع الإسلامي عموماً، وفي أوساط المشتغلين بالعلم على وجه الخصوص؟ وما هي آثاره على بنية المجتمع النفسية والاجتماعية والعلمية، وكيان الأمة عموماً؟
وقد أكدت أجوبة الشوكاني وتحقيقاته أن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض القرون الثلاثة الخيّرة، وأن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان من بعد انقراض الأئمة الأربعة([40])، وهذا يدل على أن ظاهرة التقليد مستحدثة، ولم تنشأ مع نشأة التفكير الفقهي، بل ولا حتى مع نشأة المدارس الفقهية، وإنما ظهرت بعد استقرار المذاهب، فهي إذن دخيلة على النسق المعرفي الإسلامي الأصيل.
وبناء على هذه المقدمات، سعى الإمام الشوكاني إلى بيان الأسباب الحقيقية لانتشار التقليد في المجتمع الإسلامي وطغيانه على التفكير الفقهي، فكان من جملة الأسباب التي حررها([41]):
أولاً: إن طبائع الجاهلين بعلم الشريعة من مقلدة وعامة وسلطان وأعوانه متقاربة، وهم لكلام من يجانسهم في الجهل أكثر قبولاً من كلام من يخالفهم في ذلك من أهل العلم، ولهذا طبقت هذه البدعة جميع البلاد الإسلامية، وصارت شاملة لكل فرد من أفراد المسلمين.
ثانياً: إن النشأة على آراء مذاهب معينة - وهو حال سائر أمة الإسلام - تجعل المنتمين إليها يستنكرون بطبعهم ما خالف مذاهبهم، لاعتقادهم أنها هي الشريعة، وأن من خرج عنها خارج عن الدين.
ثالثاً: إن إهمال المنهج العلمي في دراسة آراء العلماء، وتقديسهم وخشية تصويبهم، كان سبباً آخر في انتشار التقليد.
وإضافة إلى هذه الأسباب التي ساقها الشوكاني، فقد شاركت أهم الأطراف المكوّنة للمجتمع الإسلامي- وهم: علماء التقليد، العامة، الملوك، وكثير من علماء الاجتهاد - في ترسيخ بدعة التقليد حتى أصبحت هي الأصل الحاكم، والمبدأ المهيمن على التفكير والسلوك.
أما علماء التقليد، فقد كان لهم الدور الأكبر في تجذير التقليد في عقلية المجتمع الإسلامي من خلال إصرارهم على بدعة التقليد، وتحسينهم لها في عيون أهل الجهل، وانتقاصهم من شأن العلماء المجتهدين، ونسبتهم إلى الابتداع ومخالفة الأئمة المتّبعين. ومما قوى نفوذهم توليهم لجميع المناصب الدينية في المجتمع، كالتدريس والإفتاء والقضاء، واتخاذها منابر لنصرة التقليد، وإشاعة روح التعصب، ومقاطعتهم لكبار العلماء لاشتغالهم بعلوم الاجتهاد، وهي عند هؤلاء المقلدة ليست من العلوم النافعة، لعدم عدّها من شروط التأهل لممارسة الوظائف الدينية، وتنصيبهم لأنفسهم حماة للدين، ولمذاهب الأئمة المتبوعين ضدّ اجتهادات العلماء المحققين المخالفة لما استقر في المذهب، فنالوا بذلك المصداقية من العامة، والمشروعية في تمثيل الزعامة العلمية من السلطة، فأصبحوا بذلك من صنّاع الرأي العام([42]).
أما العامة فقد شاركوا في ترسيخ التقليد بسبب افتقادهم القدرة على التمييز بين العالم وغيره، واستدلالهم على العلم بالمناصب والقرب من السلطان وكثرة الأتباع، إضافة إلى أن طباعهم مجبولة على سرعة الانقياد. والسبب في ذلك أنهم ضموا إلى فقدان العلم فقدان العقل لاسيما في أمور الدين، ولهذا لم يكتشفوا بطلان دعوى المقلدة أن العمل بنص من الكتاب أو السنة يستلزم الانحراف عن إمام المذهب المتبع. إن فقدان العامة لهذه المؤهلات والقدرات جعلت منهم أداة ضغط في يد علماء التقليد، يصنعون بهم الرأي العام بعد أن صيروهم حكاماً على العلماء، فانقلبت بذلك موازين الحياة العلمية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي([43]).
أما الحكام فقد شارك أغلبهم في انتشار التقليد، لاشتراكهم مع العامة في استدلالهم على العلم بكثرة الأتباع، فإذا نظروا إلى حلقات علماء التقليد ووجدوها كثيرة العدد، لم يبق عندهم شك أن شيوخ تلك الحلقات أعلم الناس فيقبلون قولهم في كل أمر يتعلق بالدين. وفي المقابل يلحظ الحكام أن العلماء المجتهدين إذا درّسوا في علم من علوم الاجتهاد لا يجتمع عليهم إلا النفر القليل، فيكون مقام هؤلاء العلماء عند الحكام وأعوانهم أقل من مقام ذلك المقلد، الذي اجتمع عليه المقلدون([44]).
أما علماء الاجتهاد فقد ساهم كثير منهم بطريق غير مباشر في استحكام بدعة التقليد بسبب زهدهم في إنكار هذه البدعة، ومداهنة ومداراة العامة وعلماء المقلدة اتقاءً لشرهم وخوفاً من تعرضهم للتبديع والتجهيل والتضليل، وهذه السياسة زادت أنصار التقليد تجرؤاً على ما هم فيه([45]).
ولم يقف الإمام الشوكاني في دراسته الاجتماعية لظاهرة التقليد عند حدّ بيان تاريخ ظهورها وأسباب انتشارها، بل أضاف إلى ذلك حلقة دراسية أخرى، وهي تتبع الآثار المترتبة على التقليد، فبيّن أن هذه البدعة بدأت باعتقاد جواز أخذ رأي «الغير» دون حجة، ثم تدرجت إلى الاقتصار على تقليد واحد من العلماء دون غيره، ثم إلى اعتقاد الصواب في كل آرائه، والخطأ في آراء غيره، ثم إلى تبرير عدم عمله بدليل من الأدلة بأنه تركه لما هو أرجح منه عنده، ثم تدرجت ببعضهم إلى وصف بعض الأحاديث التي لم يعمل بها إمامهم بالكذب والبطلان، ثم إلى نشوب عداوة ضارية بين أهل المذاهب المختلفة، لاعتقاد أنصار كل مذهب أن إمامهم هو الأعلم.
من هنا، اتخذ التقليد كظاهرة اجتماعية أبعاداً كثيرة شكلت خطراً على كيان الأمة ووحدتها([46])، ولما كانت مآلات الأفعال معتبرة في استنباط الأحكام، صرح الشوكاني أنه «لو لم يكن من شؤم هذه التقليدات والمذاهب المبتدعات إلاّ مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام مع كونهم أهل ملة واحدة، ونبي واحد، وكتاب واحد، لكان ذلك كافياً في كونها غير جائزة»([47]).
المطلب الثالث: خلفية وتداعيات القول بسد باب الاجتهاد:
كان من نتائج شيوع التقليد كمبدأ في المنظومة الفقهية دعوى سد باب الاجتهاد، وقد كان من مقتضى تحريم الشوكاني للتقليد ودعوته للاجتهاد، دراسة وتحليل جذور وتداعيات هذه الدعوى.
أما الجذور فقد أرجع الشوكاني القول بسد باب الاجتهاد إلى أسباب ذاتية في علماء التقليد، فقال «وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أتوا من قبل أنفسهم، فإنهم لما عكفوا على التقليد واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة، حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهّله الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسنة»([48]).
وفصّل كلامه هذا في موضع آخر بيّن فيه أن مصدر هذه الدعوى قصور علمي عند المقلدين المشتغلين بطلب علم التقليد، لأن انكبابهم على حفظه وفهمه، وعدم الالتفات إلى غيره أورثهم فتوراً أو جموداً فكرياً اتخذ صوراً وأشكالاً كثيرة أهمها: انبهارهم بعظيم قدر إمامهم، وامتلاء قلوبهم هيبة ممن تقرر عندهم أنه في درجة لم يبلغها أحد. وكذا عدّهم أي مجتهد مخالف لإمامهم في مسألة مخالف لشيء قطعي، وإن استدل على رأيه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة، ولا يزالون منتقصين له بهذه المخالفة انتقاصاً شديداً على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع المشهورة([49]).
والملاحظ أن الشوكاني لم يحاول إيجاد مبررات شرعية، ولا علمية، ولا اجتماعية لدعوى سدّ باب الاجتهاد، كما فعل غيره عندما برّر هذه الدعوى بعبث عديمي الأهلية في أحكام الشريعة باسم الاجتهاد، وأن الجوانب النظرية في الإسلام قد توسعت حتى لم تعد تضيق بالعصور جميعاً([50]).
ولعل السبب في إصراره واقتصاره على السبب الذاتي أن المبررات المقدمة لغلق باب الاجتهاد كانت في نظره غير منطقية ومتناقضة، ذلك أن سد باب الاجتهاد إذا كان سببه قطع طريق العبث بالشريعة الإسلامية على فاقدي أهلية الاجتهاد، فلماذا تشن حرب على من هو أهل للاجتهاد إذا اجتهد؟ وهو ما عبّر عنه الشوكاني بقوله: «وإن أنكروا القول بذلك (أي بسد باب الاجتهاد)، وقالوا باب الاجتهاد مفتوح، والتمسك بالتقليد غير حتمي لهم، فما بالكم ترمون كلّ من عمل بالكتاب والسنة، وأخذ دينه منهما بكل حجر ومدر»([51]).
ومعنى هذا الكلام عند الشوكاني أنه: إذا كان الدافع لسد باب الاجتهاد هو ممارسة عديمي الأهلية للاجتهاد، أفلا يمكن ضبط هذه المسألة بتحديد علمي لشروط المجتهد دون اللجوء إلى السد المطلق أمام القادر والعاجز؟
وبما أن المقلدة صرحوا بأن استحالة الاجتهاد سببه استحالة تحقيق شروطه، وهو ما حكاه الشوكاني على لسانهم حيث قال: «إن العلم كان ميسراً لمن كان قبلهم، ولكنه الآن أصبح تحصيله صعباً عليهم، وعلى أهل عصورهم المتأخرة»([52])، فهذا معناه أن باب الاجتهاد سواء فتح أو سدّ، فقد عدم داخلوه.
إن محاولة تقييم هذا الرأي (ذاتية دعوى سد باب الاجتهاد)، تبين أن الإمام الشوكاني كان متوافقاً ونظرته العامة لقضية التقليد والاجتهاد؛ ذلك لأنه أكد عند تحديده للآراء المستقرة في مسألة التقليد أن كبار العلماء وجمهورهم يقولون بعدم جواز التقليد، فلم يضع احتمال صدور دعوى سد باب الاجتهاد منهم، لأن مثل هذا الاحتمال يستحيل عقلاً وشرعاً، فلم يبق إلاّ أن أنصار التقليد أصدروا هذه الدعوى لسبب خاص بهم، وهو عجزهم عن استيفاء شروط الاجتهاد.
أما تداعيات سد باب الاجتهاد، فقد أكد الشوكاني أن هذه المقالة تستلزم أربع نتائج خطيرة لا يتقبلها العقل الإسلامي وهي:
أولاً: هذه المقالة - سد باب الاجتهاد - تسلتزم سد باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله e لأن العلماء العارفين بهما لم يبق لهم سبيل على البيان الذي أمرهم الله به: ((وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)) (آل عمران:187) وإذا لم يبق من أهل الملة الإسلامية من يفهم الكتاب والسنة، لم يبق سبيل إليهما، وإذا انقطع السبيل إليهما، فكم حكم منهما لا عمل عليه، ولا التفات إليه، سواء وافق المذهب أو خالفه، لأنه لم يبق من يفهمه ويعرف معناه إلى آخر الدهر([53]).
ثانياً: تستلزم نسخ الشريعة وذهاب رسمها، وبقاء مجرد اسمها. وقد علّل الشوكاني هذا المضمون بقوله: «فقد انقطعت أحكام الكتاب والسنة - لأنه لم يبق من يفهمهما - وارتفعت من بين العباد، ولم يبق إلا مجرد تلاوة القرآن ودرس كتب السنة، ولا سبيل إلى التعبد بشيء منها»([54]).
والناسخ لها في نظر الشوكاني هو كما قال: «ما ابتدعوه من التقليد في دين الله فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة، بل لا شريعة إلا ما قد تقرر في المذاهب... والعمل على المذاهب لا على ما وافقها منهما (الكتاب والسنة)، وإن يخالفها أحدهما أو كلاهما فلا عمل عليه ولا يحل التمسك به، هذا حاصل قولهم ومفاده»([55]).
ثالثاً: تستلزم دعوى غلق باب الاجتهاد أن شريعة الله مقيدة بزمن محدود وليست مطلقة، وهذه نتيجة حتمية لقولهم: لم يبق في أهل الإسلام من يفهم الكتاب والسنة. وعبّر الشوكاني عن هذا بقوله:
«فكذبوا على الله وادعوا عليه سبحانه أنه لا يتمكن من أن يخلق خلقاً يفهمون ما شرعه لهم، وتعبدهم به، حتى كان ما شرعه لهم من كتابه وعلى لسان رسوله e ليس بشرع مطلق، بل شرع مقيّد مؤقت إلى غاية، هي قيام هذه المذاهب، وبعد ظهورها لا كتاب ولا سنة، وهذا وإن أنكروه بألسنتهم، فهو لازم لهم لا محيص لهم عنه، ولا مهرب، وإلا فأيّ معنى لقولهم: قد انسد باب الاجتهاد ولم يبق إلا مخرج التقليد»([56]).
وهذا يستلزم رد ما صح عن الرسول e كقوله: « لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة»([57])، وقوله: «يبعث الله لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»([58]).
فهذه المسائل الأربع يستلزمها في نظر الشوكاني القول بسد باب الاجتهاد ضرورة، فإذا ما أصر المقلدة على هذه الدعوى لزمهم الإقرار بهذه المسائل.
وبناء على هذه التداعيات التي اقتضاها القول بسد باب الاجتهاد، اعتبر الشوكاني هذه المقالة من أسوأ مفاسد التقليد ونتائجه حيث قال: «إن هذه المقالة بخصوصها أعني انسداد باب الاجتهاد، لو لم يحدث من مفاسد التقليد إلا هي، لكان فيها كفاية ونهاية، فإنها حادثة رفعت الشريعة بأسرها، واستلزمت نسخ كلام الله ورسوله، وتقديم غيرهما واستبدال غيرهما بهما»([59]).
المطلب الرابع: مقتضيات حرمة التقليد.. والدعوة إلى الاجتهاد:
لقد ترتب على نظرية الشوكاني في التقليد والاجتهاد التي كشفت المطالب السابقة عن معالمها، قضايا أساسية تناولت المستوى المنهجي والعملي. وفي ما يأتي تفاصيل ما ترتب على نظريته في هذين المستويين:
أولاً: على المستوى النظري: إن أول ما ترتب على نظرية الشوكاني في التقليد، فيما يخص الجانب النظري، هو إحداث صنف ثالث بين المجتهد والمقلد، ذلك أن الشوكاني لم يفرض على جميع أفراد العباد بلوغ مرتبة الاجتهاد، لكنه في المقابل لم يبح لغير المجتهد التقليد، بل أحدث مرتبة وسط بين المجتهد والمقلد، وهو العامل بالدليل بواسطة المجتهد، أو السائل للمجتهد عن الأحكام الشرعية وأدلتها.
وقد كان اقتراحه لهذا الصنف الجديد على خلاف ما استقر عند كثير من الأصوليين - وعلى رأسهم الغزالي- الذين لم يروا في الأمر إلا أحد وجهين: إما اجتهاد للقادر، وإما تقليد للعامي، أو الذي لم يصل إلى درجة الاجتهاد.
والملاحظ أن إحداث الشوكاني لهذا الصنف كان أكثر اتساقاً وروح الدين الإسلامي، الذي يخاطب في الإنسان عقله وفكره، من الرأي الذي حصر المكلّفين في صنفين: إما مجتهد أو مقلد.
ومن مقتضيات نظرية التقليد والاجتهاد عند الشوكاني، على المستوى النظري أيضاً، وجوب التمسك بالدليل على العالم وغير العالم، فلا فرق بين العالم وغيره في نظر الشوكاني في وجوب التمسك بالدليل، والأخذ بما جاء عن الشارع، وإنما الفارق الوحيد بينهما هو أن العالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره، لأنه قد استعد لذلك بما استجمع من معارف الاجتهاد. أما الجاهل فيمكنه الوقوف على الدليل بسؤال العلماء عنه، فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها، فيكون بذلك عاملاً بالرواية لا بالرأي([60]).
ولقد استدل الشوكاني على صحة هذا المبدأ بأن العالم الذي قلده غيره إذا كان قد أجهد نفسه في طلب الدليل، ولم يجده ثم اجتهد رأيه فهو معذور، وكذا إذا أخطأ في اجتهاده فهو معذور، بل مأجور. أما المقلد، أو الجاهل، أو غير العالم فلا عذر له إذا قلّد في دين الله من هو مخطئ، لأن عدم مؤاخذة المجتهد على خطئه لا يستلزم عدم مؤاخذة من قلده في ذلك الخطأ، لا عقلاً ولا شرعاً ولا عادة([61]).
ثانياً: على المستوى العملي: أما على المستوى العملي فقد رأى الشوكاني ضرورة بيان واجب العلماء وأولي الأمر نحو المقلدين. إذ حمّلهم مسؤولية النهي عن التقليد وما ترتب عليه من مفاسد، واعتبر هذا الإنكار من أولويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: «وواجب على كل من له ولاية يأمر فيها بمعروف أو ينهى عن منكر أن يجعل نهي المنكر الذي عليه هؤلاء (المقلدة) عنوان كل نهي ينهى به عن منكر»([62]) وذلك لاعتبارين:
الاعتبار الأول: أن أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم تتناول مثل هذا لم تتناول غيره([63]).
الاعتبار الثاني: أن النيل من عرض فرد من أفراد المسلمين منكر لا يخالف فيه مسلم فكيف بما جاء بما هو من أعظم البهتان، وأقبح الشتيمة للشريعة المحمدية والدين الإسلامي ولعلماء المسلمين([64]).
ولما كان من أهم شروط نجاح عملية الإرشاد والإصلاح فهم المصلح لطبيعة المدعو، وإدراكه لبنى المجتمع النفسية والاجتماعية والتاريخية التي تكوّن المناخ الذي يعيش فيه المدعو، ودراسته لأبعاد شخصيته ومداخلها، وتحديده لنوع الخطاب المؤثر فيها، لم يكتف الشوكاني، بوصفه مصلحاً، بتحميل العلماء والأمراء مسؤولية النهي عن المنكر، بل سعى إلى تعيين الفئات المكوّنة للمجتمع الإسلامي، وتحديد مواصفات ومضامين الخطاب الموجه لكل فئة حسب قدراتها الإدراكية واستعداداتها العلمية.
من هنا صنّف أعضاء المجتمع الإسلامي إلى أربعة أصناف([65]):
الصنف الأول: أهل العلم الذين يفهمون الحجة، وإنما حال بينهم وبين الرجوع إليها اعتقادهم أحقية التقليد واستقصار أنفسهم عن معرفة الحق بنص الدليل. فهؤلاء يعتمد معهم تسهيل ما تعاظموه من الحق ببيان أن الله تعبد جميع الأمة بما في الكتاب والسنة، وأنه لم يخص بفهمها السلف دون الخلف، وأن الكتاب والسنة وجميع العلوم التي يستعان بها على فهمهما مدونة وميسرة للمتأخرين أكثر مما كانت للمتقدمين.
الصنف الثاني: الذين لا يفهمون الحجة ويتبنون التقليد، وهؤلاء أنفع ما يلقنهم هو ترغيبهم في علوم الاجتهاد، وتعريفهم أن المقصود بها هو الوصول إلى ما وصل إليه علماء الإسلام، فإذا ما استعدوا لفهم الحجة اتبع معهم المسلك الأول.
الصنف الثالث: العامي المتعصب والذي لا يهتدي إلى طلب علوم الاجتهاد بوجه من الوجوه، فأقرب ما يسلكه العالم معه هو أن ينظر إلى أقوال الإمام الذي يقلده القائمة على أدلة ناهضة، فيبيّن له رجحان قوله، ثم يصنع معه هذا الصنيع في المسائل التي يعتقدها تقليداً أو يجمد عليها قصوراً، فإن انتفع بذلك فهو المطلوب، وإن لم ينتفع فأقل الأحوال السلامة من شرّه.
والملاحظة على هذا التصنيف الذي اعتمده الشوكاني تشابه وتداخل بين الصنف الثاني والثالث إلى حدّ يجعل الأولى إدراجهما ضمن قسم واحد.
الصنف الرابع: العامي الصرف، الذي لا يعرف التقليد ولا غيره، فهذا أسرع الناس انقياداً وأقرب إلى القبول إن سلِمَ من بلايا ما يلقيه إليه المتعصبون.
ومما رآه الشوكاني على المستوى العملي تأكيده على عدم تولي المقلد القضاء والإفتاء.
أما القضاء فلأن المقلد لم يندب إليه شرعاً لعلتين([66]):
العلة الأولى: أن الله تعالى أمر حكام العباد أن يحكموا بينهم بما أنزل، والمقلد لا يعرف ما أنزله الله، بل يقر بأنه حكم بقول أحد العلماء، ولا يدري هل حكم هذا العالم من المسائل التي استدل عليها بالدليل أم لا، كما أنه لا يدري أهو مصيب في الاستدلال أم مخطئ.
العلة الثانية: أن النبي e صنّف القضاة إلى ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة. فالقاضي الذي في الجنة هو الذي قضى بالحق وهو يعلم أنه الحق، وهذا لا ينطبق على المقلد لأنه لا يعرف الحق من الباطل في كلام إمامه.
أما القاضيان اللذان في النار: قاض قضى بغير الحق، وقاض قضى بالحق وهو لا يعلم أنه الحق. والصورتان تنطبقان على القاضي المقلد لأنه إذا قضى بما قاله إمامه وهو لا يدري أحق هو أم باطل فهو أحد الرجلين: إما قضى بالحق وهو لا يعلم بأنه الحق، أو قضى بغير الحق، وعلى كلا التقديرين فهو من قضاة النار بنص الحديث.
أما الإفتاء فقد حرّمه الشوكاني على المقلد لأنه لا يعرف أحكام الشريعة الإسلامية على التحقيق فقال: «لا يحل له (أي المقلد) أن يفتي من يسأله عن حكم الله أو حكم رسوله، أو عن الحق، أو عن الثابت في الشريعة، أو عما يحل له ويحرم عليه، لأن المقلد لا يدري بواحد من هذه الأمور على التحقيق، بل لا يعرفها إلا المجتهد»([67]).
وإضافة إلى هذه الأسباب والتعليلات، فإن الدافع الجوهري لتحريم الشوكاني القضاء والإفتاء على المقلد هو أن التقليد إذا كان لا يصح لمن كان مقتصراً في التقليد على ما تدعو إليه حاجته مما يتعلق بأمور عبادته، ومعاملته، فهو من باب أولى ممتنع على من رشح نفسه لفتيا السائلين والقضاء بين المتخاصمين، لأن جهله لم يعد مقصوراً عليه بل تعداه إلى غيره([68]). من هذا المنطلق رفض الإمام الشوكاني أن يتولى القضاء والإفتاء إلا من كان مجتهداً.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص265.
([2]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([3]) نفسه.
([4]) نفسه.
([5]) المرجع السابق، ص267ـ268 (باختصار).
([6]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص18.
([7]) المرجع السابق، ص18ـ19 (باختصار).
([8]) المرجع السابق، ص34.
([9]) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والطبراني بلفظ "لا طاعة في معصية الله.."، وفي بعض طرقه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، انظر: الهيثمي أبو بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (بيروت: دار الكتاب العربي، غ م)، 3/226؛ وانظر: ناصر الدين الألباني، صحيح سنن أبي داود، ط1 (الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج،1989م) 2/498، حديث رقم 2285.
([10]) أخرجه ابن عبد البر في جامع العلم وقال: "هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث ابن غصين مجهول"؛ أخرجه ابن حزم في الإحكام من طريق سلام بن سليم وقال: "وهذه رواية ساقطة". انظر: الألباني، ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الضعيفة، ط5 (بيروت: المكتب الإسلامي، 1985م) 1/78.
([11]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص29ـ30.
([12]) أخرجه أحمد في المسند، 4/126؛ أبو داود في السنن، 5/13، رقم4607؛ والترمذي في السنن، 5/44، رقم2677؛ وابن حبان في صحيحه، 1/5، رقم42.
([13]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص32 (بتصرف).
([14]) المرجع السابق، ص22
([15]) المرجع السابق، ص22ـ28 (باختصار).
([16]) المرجع السابق، ص36.
([17]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول، ص268 (باختصار).
([18]) محمد علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص45-46.
([19]) المرجع السابق، ص158.
([20]) المرجع السابق، ص89.
([21]) المرجع السابق، ص38 (بتصرف).
([22]) المرجع السابق، ص38-39 (باختصار).
([23]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص254
([24]) المرجع السابق، ص268
([25]) انظر: محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص72.
([26]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص267.
([27]) انظر: الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص136ـ143.
([28]) انظر: محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1976م) ص21 ،333؛ القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص70.
([29]) انظر: المرجع السابق، ص325؛ القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص80 ،81.
([30]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص313ـ322؛ القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص80.
([31]) المرجع السابق، ص63.
([32]) انظر: محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول، ص254.
([33]) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع، 1/217.
([34]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص357.
([35]) انظر: المرجع السابق، ص326.
([36]) المرجع السابق، ص317.
([37]) انظر: المرجع السابق، ص329ـ330 (بتصرف)، والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص95ـ96 (بتصرف).
([38]) محمد علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص344 (بتصرف).
([39]) المرجع السابق، ص345.
([40]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص44-45.
([41]) انظر: الشوكاني، أدب الطلب، ص40، 41، 59؛ القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص56، 85.
([42]) انظر: محمد علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص46-49.
([43]) المرجع السابق، ص67-68.
([44]) المرجع السابق، ص48.
([45]) انظر: المرجع السابق، ص47؛ قطر الولي، ص358ـ359.
([46]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص39؛ أدب الطلب، ص70ـ71.
([47]) المرجع السابق، ص40.
([48]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص254.
([49]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص52ـ53.
([50]) انظر كمثال: بديع الزمان سعيد النورسي، كليات رسائل النور، الكلمة السابعة والعشرون، ط1 (اسطنبول: دار سوزلر، 1992م) 1/562، وما بعدها.
([51]) محمد علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص65.
([52]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص254.
([53]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص345؛ والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص64.
([54]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص345.
([55]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص63-64.
([56] ) المرجع السابق، ص64-65.
([57]) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة بلفظ "لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" انظر: محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (بيروت: دار المعرفة، غ.م) حديث رقم 1249.
([58]) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في القرن المائة، برقم 4270، ورمز له الشيخ ناصر الدين الألباني بالصحة؛ انظر: صحيح سنن أبي داود، 3/809، حديث رقم 3606؛ وانظر: الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 599؛ وصحيح الجامع الصغير، حديث رقم1874.
([59]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص65-66.
([60]) المرجع السابق، ص86 (بتصرف).
([61]) انظر، المرجع السابق، ص87 (بتصرف).
([62]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص357ـ358.
([63]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب ومنتهى الأرب، ص87.
([64]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص358.
([65]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب ومنتهى الأرب، ص110ـ112 (باختصار).
([66]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص98-100.
([67]) المرجع السابق، ص108.
([68]) المرجع السابق، ص97-99.
([69]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص2.
([70]) المرجع السابق، ص3.
([71] ) المرجع السابق، ص2.
([72]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([73]) المرجع السابق، ص250.
([74]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([75]) نفسه.
([76]) نفسه.
([77]) نادية شريف العمري، الاجتهاد في الإسلام، ط3 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1985م) ص83 (بتصرف).
([78]) المرجع السابق، ص190 (بتصرف).
([79]) محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ط2 (القاهرة: مكتبة دار التراث، 1979م) ص509-511.
([80]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول،ص250.
([81]) نفسه.
([82]) المرجع السابق، ص251.
([83]) نفسه.
([84]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([85]) نفسه.
([86]) نفسه.(1/7)
الفصل الثالث
المبحث الثاني: تحقيق الحق من علم أصول الفقه
المطلب الأول: مبررات تجديد علم الأصول عند الشوكاني:
لقد كان الأساس الثاني الذي أقام عليه الشوكاني تجديد المنهج الفقهي هو تجديد علم أصول الفقه بتحقيق الحق منه. وتمثلت مبررات هذا العمل المنهجي في أمرين:
الأول: أن أصول الفقه هو منهج استنباط الأحكام الفقهية، وأي تجديد في الفقه يقتضي تجديداً في أصوله.
الثاني: أن التراث الأصولي صار يؤخذ مسلمات لا مجال لنقاشها، وبالتحقيق والتمحيص يتبيّن أن منه ما لا مستند له من الشرع، وقد عبّر عن ذلك بقوله: «علم أصول الفقه لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يلجأ إليه عند تحرير المسائل وتقرير الدلائل في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة وقواعده المحررة تؤخذ مسلمة عند كثير من الناظرين، كما تراه في مباحث الباحثين وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد لما قاله بكلمة من كلام أهل الأصول، أذعن له المنازعون وإن كانوا من الفحول، لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن قواعد مؤسسة على الحق الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلة علمية من المعقول والمنقول، تقصر عن القدح في شيء منه أيدي الفحول وإن تبالغت في الطول»([69]).
وقد نتج عن هذا التصور الذي استقر في العقل الفقهي والأصولي عن علم أصول الفقه تكريس التقليد، وهو ما جعل الرأي البحت في نظر الشوكاني يحل محل الدليل في التفكير الأصولي والفقهي حيث قال: «....هذا الفن الذي رجع كثير من المجتهدين بالرجوع إليه إلى التقليد من حيث لا يشعرون، ووقع غالب المتمسكين بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون»([70]).
فهذه المبررات حملت الشوكاني على تصنيف كتابه "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول"، والذي التزم فيه منهجاً خاصاً قوامه عدم ذكر «المبادئ التي يذكرها المصنفون في هذا الفن، إلا ما كان لذكره مزيد فائدة يتعلق بها تعلقاً تاماً وينتفع بها فيه انتفاعاً زائداً»([71]).
المطلب الثاني: مجالات تجديد علم الأصول عند الشوكاني:
لقد أفصح الإمام الشوكاني في مقدمة كتابه إرشاد الفحول عن المقصد الذي توخاه من تحقيق علم أصول الفقه، وعن مجالات هذا التحقيق فقال: «حملني ذلك بعد سؤال جماعة لي من أهل العلم على هذا التصنيف في هذا العلم الشريف قاصداً به إيضاح راجحه من مرجوحه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحاً لما يصلح منه للرد إليه وما لا يصلح للتعويل عليه، ليكون العالم على بصيرة في علمه، يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق الحقيق بالقبول حجاب»([72]).
وهذه المقالة تبين أن تجديد علم أصول الفقه عنده هو تحقيقه وتمحيصه، وأنه يكون من خلال مجالين اثنين:
المجال الأول: بيان الراجح من المرجوح والسقيم من الصحيح.
والمجال الثاني: بيان ما يصلح للرد إلى علم أصول الفقه وما لا يصلح.
وفي الآتي تفصيل المجالين:
المجال الأول: بيان الراجح من المرجوح والسقيم من الصحيح:
وأهم ما قام به الشوكاني في هذا المجال تحقيق بعض المفردات الأصولية نظراً لأهميتها، ويمكن الاكتفاء في هذا المقام بالتمثيل لأهم المفردات التي تساعد على تصور فكره الأصولي.
المفردة الأولى: نظرية الاجتهاد:
وتناولها من زوايا متعددة أهمها:
أولاً: ضبط مفهوم الاجتهاد والمجتهد:
لقد أورد الشوكاني في تحديده لمفهوم الاجتهاد تعريفات عديدة، منها تعريف ابن الحاجب: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي»([73])، وتعريف الآمدي: «استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه»([74]) وغيرها من التعريفات التي اشتملت على قيود مانعة من دخول أفراد غير المعرّف فيها.
لكن التعريف الذي ارتضاه الإمام الشوكاني وتولى شرح قيوده قيداً قيداً هو: «بذل الوسع في سبيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط»([75]). والفارق بين التعريفات التي ساقها وبين هذا التعريف الذي تبناه أن الأولى ليست شاملة لجميع أفراد المعرّف، إذ أنها ركزت على عنصرين: المستثمر للحكم، أي المجتهد، وثمرة الاجتهاد، ولم تتضمن طرق استثمار الأحكام أي الاستنباط، وهو ما اشتمل عليه التعريف الذي تبناه. وقد استثمر الشوكاني هذا القيد في ضبط مفهوم المجتهد حيث قال: «ويخرج بطريق الاستنباط نيل الأحكام من النصوص ظاهراً، أو حفظ المسائل، أو استعلامها من المفتي، أو بالكشف عنها في كتب العلم، فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي، فإنه لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي»([76]).
وفحوى كلامه هذا أن المجتهد هو الذي يستطيع نيل الحكم الشرعي بطريق الاستنباط من الكتاب والسنة، وأن مجرد حفظ فروع الفقه ومسائله في مذهب ما، لا يجعل من صاحبه مجتهداً. من هذا المنطلق لم يعد الشوكاني ما اصطلح على تسميته - بعد استقرار المذاهب وشيوع التقليد- بمجتهدي المذهب (وهم نوعان: مجتهدو التخريج ومجتهدو الفتيا) من أهل الاجتهاد.
والسبب في ذلك أن النوع الأول يقتصر عمله على تطبيق العلل الفقهية التي استخرجها إمامه فيما لم يعرض له من مسائل، وليس له أن يجتهد في مسائل قد نص عليها في المذهب إلا في دائرة معيّنة، وهي أن يكون استنباط الإمام فيها مبنياً على اعتبارات لا وجود لها في عرف المتأخرين([77]).فالاستنباط عند هذا النوع من العلماء لا يكون من الكتاب والسنة، بل من أقوال الإمام المتبّع. أما النوع الثاني أي مجتهدو الفتيا فعملهم يقتصر على ترجيح بعض الأقوال على بعض بقوة الدليل أو بغيره مما لا يعد استنباطاً أصلاً([78]).
ثانياً: ضبط شروط الاجتهاد:
تعرض الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" إلى شروط الاجتهاد بشكل إجمالي([79])، ثم توسّع الأصوليون بعده في تفصيل هذه الشروط، ويعد عمل الإمام الغزالي خلاصة ما انتهى إليه العلماء السابقون في ضبط شروط الاجتهاد، كما أصبح قدوة لمن بعده في اعتماد منهج التخفيف في الشروط الأساسية. وبعد استقرار المذاهب وشيوع التقليد توسعت كتب المتأخرين في الحديث عن شروط الاجتهاد، وسبب ذلك أن العلماء قسّموا الاجتهاد بالنسبة إلى المجتهد إلى: اجتهاد مطلق، واجتهاد مقيّد، وقسّموا هذا الأخير إلى مراتب، الأمر الذي اقتضى منهم بيان شروط كل مرتبة.
أما الشوكاني فقد اعتمد منهجاً خاصاً في بيان شروط الاجتهاد يتوافق ونظريته العامة في التقليد والاجتهاد، ويخدم دعوته التجديدية للفقه وأصوله.. ويمكن تحديد معالم هذه المنهجية في النقاط الآتية:
- حصر حديثه في شروط الاجتهاد على المجتهد المطلق، لأنه لا يدرج باقي الأقسام والمراتب ضمن دائرة الاجتهاد.
- تأكيده الشروط التأهيلية الأساسية التي يجب تحققها في المجتهد، بحيث إذا تخلف أحدها لم يكن أهلاً لهذا المنصب، وهي: العلم بنصوص الكتاب والسنة؛ معرفة مسائل الإجماع لمن يقول بحجيته؛ العلم باللغة العربية؛ العلم بأصول الفقه؛ العلم بالناسخ والمنسوخ؛ وأعرض عن الشروط التي لا يتوقف عليها وجود ملكة الاجتهاد، وبلوغ درجة المجتهد، وإنما تسمو بصاحبها إلى درجة الكمال. وهي شروط أدى التمسك بها عند المتأخرين إلى الحكم باستحالة تحقيق جميعها في عالم واحد، ومن ثمّ الإعلان عن شغور منصب الاجتهاد.
- عدم الإطناب في شرح الشروط غير المكتسبة، كالبلوغ، والعقل، والاكتفاء بذكرها فقط لأنها شروط التكليف فهي بدهية.
- النظر الاجتهادي في مناقشة الشروط الأساسية، وتحقيق ما يراه الحق بعد مناقشة آراء العلماء في تفاصيل هذه الشروط.
ففي الشرط الأول، وهو العلم بنصوص الكتاب والسنة، وافق ما استقر عليه العلماء من تخفيف فقال: «ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام»([80])، ولكن كانت له بعض الاعتراضات في التفاصيل. ففي العلم بالكتاب، اعترض على الغزالي وابن العربي تقديرهما آيات الأحكام بخمسمائة آية فقال: «ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح، وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال»([81]).
وفي العلم بالسنة، علّق على اختلاف العلماء في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة، إذ قيل خمسمائة، وقيل ألفٌ ومائتين، وقيل غير ذلك، فقال: «ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب من قبيل الإفراط، وبعضه من قبيل التفريط. والحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة أن المجتهد لابد أن يكون عالماً بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن، كالأمهات الست وما يلحق بها، مشرفاً على ما اشتملت عليه المسانيد، والمستخرجات، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة، ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه، بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك»([82]).
وقد ردّ الشوكاني بكلامه هذا على ما ذهب إليه الغزالي، وجماعة من الأصوليين، من أن المجتهد يكفيه أن يكون عنده أصلٌ يجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود([83]).كما عدّ الشوكاني من مستلزمات العلم بالسنة، العلم بمصطلح الحديث فقال: «وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة»، وذكر تخفيفاً في هذا الشرط فقال:
«وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجال عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح وما لا يوجبه من الأسباب، وما هو مقبول منها، وما هو مردود، وما هو قادح من العلل، وما هو غير قادح»([84]).
وفي الشرط الثالث وهو العلم باللغة العربية، أكد أنه على المجتهد «أن يكون عالماً بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه»([85])، ولا يشترط في نظره «أن يكون حافظاً لها عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكناً من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك»([86])، ولكنه رفض التخفيف الذي هو محل اتفاق جميع الأصوليين، وهو أنه يكفي المجتهد أن يعلم من اللغة والنحو القدر الذي يفهم به خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال، ولا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرّد([87]). وإنما اشترط على المجتهد في الأحكام أن يبلغ درجة الاجتهاد في العربية وعلومها إذ قال:
«وإنما يتمكن من معرفة معانيها، وخواص تراكيبها، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا، من كان عالماً بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان، حتى يثبت له في كل فن من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظراً صحيحاً، ويستخرج منه الأحكام استخراجاً قوياً»([88]).
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الرأي لم يذهب إليه من الأصوليين غير الإمام الشوكاني والإمام الشاطبي([89]).وإذا حاولنا فهم خلفية هذا الموقف من خلال كلامه السابق يتبيّن أن الشوكاني اشترط الاجتهاد في علم اللغة للمجتهد، لأن ذلك يمكنّه من النظر المستقل في الأدلة، ويعصمه من التقليد. ذلك لأنه إذا وقع نزاع، أو خلاف في معنى، أو حكم توقف عليه فهم نص شرعي، تعيّن عليه بذل الوسع في معرفة الحق بين المختلفين، ولا يسوغ له أن يعمل على أحد المذاهب النحوية، أو البيانية في تقرير حكم إلاّ أن يستبين له رجحانه بدليل، وإلا كان مقلداً. فالتقليد في اللغة في نظر الشوكاني يخلّ بحقيقة الاجتهاد.
ومما ترتب على موقفه هذا، رفض ما ذهب إليه بعض الأصوليين، كابن عرفة وابن الوزير([90])من جواز اكتفاء المجتهد بقراءة مختصر في اللغة العربية، فقال: «ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون - النحو والصرف والبيان - هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الإطلاع على مطوّلاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث، وبصراً في الاستخراج، وبصيرة في حصول مطلوبه. والحاصل أنه لابد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن».
واستثنى الشوكاني من علوم اللغة علم البلاغة، فلم ير ضرورة الإحاطة به لفهم كتاب الله تعالى، لأنها ليست لازمة لاستخراج الأحكام، وإنما هي لمعرفة بلاغة القرآن الكريم وما عليه من إعجاز([91]).
أما في الشرط الرابع وهو العلم بأصول الفقه، فقد أكد الشوكاني أنه على المجتهد «أن يكون عالماً بعلم أصول الفقه؛ لأنه عماد الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه»([92]).. ومقصوده بالعلم هنا هو النظر المستقل وعدم التقليد، وهو ما جعله يقول: «وعليه أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصل إلى ما هو الحق فيها، فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط فيه وخلط»([93]).
وفحوى كلام الشوكاني أنه من كان مقلداً في القضايا الأصولية، لن يكون مستقلاً في استنباطه للفروع الفقهية، ذلك لأن النتائج تتبع المقدمات، فمن لم يكن مجتهداً في إحدى مقدمات الاجتهاد، فليس بمجتهد.
إن الدراسة التحليلية لشروط الاجتهاد عند الشوكاني تبيّن أن العلوم التي ضمّنها تلك الشروط هي المطلوبة لبلوغ رتبة الاجتهاد، وأن التبحر في غيرها ليس مراداً للقدرة على الاجتهاد، ولا مانع منه عند الإمكان، فإن به فقط يظهر التفاوت بين المجتهدين، وهذا يؤكد قناعة أساسية في فكر الشوكاني التجديدي، وهي أن الاجتهاد يسّره الله تعالى لعباده وشروطه مقتدر على تحصيلها، فلا رخصة في التزام التقليد، ولا مبرر للحكم بغلق باب الاجتهاد بدعوى عدم وجود من هو أهل لممارسته، وهو ما لخصه بقوله:
«والذي أدين الله به أنه: لا رخصة لمن علم لغة العرب، ما يفهم به كتاب الله، بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف، وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، أو السنة المطهرة، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحداً أو جماعة أو الجمهور» ([94]).
ثالثاً: مراتب الاجتهاد:
فرق الشوكاني في حديثه عن شروط الاجتهاد بين نوعين من العلوم: علوم مطلوبة لبلوغ رتبة الاجتهاد، وهي التي ضمّها شروط الاجتهاد الخمسة، وعلوم ليست شرطاً لبلوغ رتبة الاجتهاد، ولكن يظهر بها التفاوت بين المجتهدين. من هذا المنطلق جعل مراتب الاجتهاد مرتبتين:
المرتبة الأولى: هو المجتهد الذي كملت له جميع أنواع علوم الدين، وصار قادراً على استخراج الأحكام من الأدلة متى شاء، وكيف شاء، فيصير ببلوغه هذه المرتبة من العلم إماماً مرجوعاً إليه، مستفاداً منه مأخوذاً بقوله، مدرساً ومفتياً ومصنفاً، وهذه الطبقة العالية من طبقات المجتهدين([95]).
وعلو هذه المرتبة تقتضي في نظر الشوكاني الإحاطة بعلوم أخرى غير تلك التي حوتها شروط الاجتهاد، منها علم المنطق الذي يمكّن المجتهد من إدراك الحجج العقلية واستيعاب المباحث المنطقية التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد([96]).ومنها علم الكلام لمعرفة حقيقة الاعتقادات وإنصاف كل فرقة بالترجيح أو التجريح على بصيرة([97])،كما يفيد في حسن فهم علوم أخرى كعلم التفسير وعلم تفسير الحديث. ومنها علم التاريخ، عده من العلوم المطلوبة لهذه الطبقة من المجتهدين([98]).وكثيراً ما يوظّف الشوكاني هذا العلم في تحقيق بعض المسائل الفقهية أو الأصولية، كما فعل في مسألة خلو العصر عن المجتهد، إذ أثبت بالدليل التاريخي عدم وقوع الخلو، كما سيأتي بيانه([99]).ومنها العلوم الفلسفية كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب.
هذا، وقد حذر المجتهد من أن يثنيه تنفير بعض أهل العلم من هذه العلوم عن الاشتغال بها قائلاً: « ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات، فإنها كما قدمنا لك من التقليد، وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم، غير محكوم عليك، واختر لنفسك ما يحلو، وليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء»([100]).
كما رفض أن يحصر مجتهد هذه المرتبة نفسه في دائرة العلوم الشرعية دون التفتح على باقي العلوم، فقال: « ولقد وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعاً عظيماً وفائدة جليلة في دفع المبطلين، والمتعصبين، وأهل الرأي البحت، ومن لا اشتغال له بالدليل». وقرر في الأخير أن « العلم بكل فن خير من الجهل به بكثير، ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة»([101]).
المرتبة الثانية: المجتهد الذي بإمكانه معرفة ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره، ودون أن تتعدى فوائد معارفه إلى غيره كما هو الحال عند مجتهد المرتبة الأولى([102]). وشروط هذا الصنف من المجتهدين هي شروط الاجتهاد الخمسة التي حددها الشوكاني، إذ قال:
«فمن علم بهذه العلوم علماً متوسطاً يوجب ثبوت مطلق الملكة في كل واحد منها صار مجتهداً مستغنياً عن غيره، ممنوعاً من العمل بغير دليل، وعليه أن يبحث عند كل حادثة يحتاج إليها في دينه عن أقوال أهل العلم وكيفية استدلالهم في تلك الحادثة، وما قالوه، وما رد عليهم به، فإنه ينتفع بذلك انتفاعاً كاملاً، ويضم إلى علمه علوماً، وإلى فهمه فهوماً، وهو وإن قصر عن أهل الطبقة الأولى فليس بمحتاج فيما يتعلق به من أمر الدين إلى زيادة على هذا المقدار([103])».
رابعاً: إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد:
لقد أخذت إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد حيزاً كبيراً في نظرية الاجتهاد عند الشوكاني، وذلك لاعتبارات ثلاثة:
الاعتبار الأول: أنها كانت المقدمة النظرية التي أُسست عليها دعوى غلق باب الاجتهاد. فقد ادعى من قال بخلو العصر عن المجتهد بجواز ذلك شرعاً وعقلاً([104]). من هنا أقام الشوكاني استدلاله ببطلان هذه الدعوى على عدم جوازها شرعاً وعقلاً.
أما الأول فقد استفاده من الحكم الشرعي للاجتهاد، وهو أنه فرض كفاية إذا لم يوجد من يقوم به أثم الجميع، فهو إذن واجب على الأمة الإسلامية، وقد لخص هذا في قوله: «لا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضاً يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد، ويدل على ذلك ما صح عنه e من قوله: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة». وأما عدم الجواز العقلي فاحتج له بأن من طبيعة العلوم والمعارف أن تزداد وتتطور، فقال معترضاً على من ادعوا جواز خلو العصر من مجتهد:
«إن قالوا ذلك باعتبار أن الله عز وجلّ رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه الأئمة من كمال الفهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالة من الجهالات، وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم، وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضاً دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيراً لم يكن للسابقين، لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دوّنت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، والسنة المطهرة قد دوّنت، وتكلم الأئمة على التفسير والتخريج والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح من قَبْل هؤلاء المنكرين، يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر. فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سوي» ([105]).
الاعتبار الثاني: تغيّر مضمون الإشكالية من جواز الخلو وعدمه إلى جواز وجود المجتهد وعدمه. ذلك لأن الذين قالوا بجواز خلو العصر عن مجتهد لم يكتفوا به، بل تجاوزوا ذلك في الواقع إلى عدم جواز وجود مجتهد في عصرهم، وما بعده، فقد نقل الشوكاني عن الرافعي قوله: «الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم»([106])، كما نقل عن القَفّال والغزالي والرازي أنه قد خلا العصر عن المجتهد([107]).
والملاحظ هنا أن الإشكالية قد أخذت بعداً آخر، إضافة إلى الإمكان الشرعي والعقليّ، وهو الوقوع التاريخي، وما دام الأمر تعلق بالوقوع الفعلي، لم يجد الشوكاني بداً من الاستناد إلى علم التاريخ لإبطال هذه الدعوى فقال: «إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرافعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم. ومن كان له إلمام بعلم التاريخ والإطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتده أهل العلم في الاجتهاد»([108]).
وزيادة في البيان والتأكيد، لم يقف الشوكاني عند حد استقراء التاريخ الإسلامي عموماً، بل انتقل إلى تاريخ المذهب الشافعي، باعتبار أن العلماء الذين صرحوا بعدم وجود مجتهد شافعية، فقال:
«ولما كان هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية فها نحن نصرّح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد، فمنهم ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سيد الناس، ثم تلميذه زين الدين العراقي، ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني، ثم تلميذه السيوطي. فهؤلاء ستة أعلام، كلُ واحدٍ منهم تلميذ من قبله، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها، وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة، محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة، عالم بعلوم خارجة عنها. ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعداد لبعضهم فضلاً عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل»([109]).
كما حاول الشوكاني أن يفنّد دعوى عدم وجود مجتهد من داخل المذهب الشافعي ذاته، إذ نقل عن الزركشي قوله: «ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد»، ثم علّق قائلاً: «وهذا الإجماع من هذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي»([110]). يقصد قول الرافعي: «الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم».
الاعتبار الثالث: إن القول بعدم جواز وجود مجتهد اقتضى القول بوجوب تقليد المذاهب المبتدعة وحصر الحق فيها وحدها واستقر في العقل الفقهي، كما قال الشوكاني: «أنه لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها» ([111]).فأصبح التقليد أمراً واجباً، والاجتهاد أمرًا منكراً.
يؤكد هذا ما نقله الشوكاني على لسان أنصار المذاهب إذ قال: «فقالت طائفة منهم ليس لأحد أن يجتهد بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر، والهذيل، ومحمد بن الحسن الشيباني، والحسن ابن زياد اللؤلؤي، وإلى هذا ذهب غالب المقلدة من الحنفية، وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: "ليس لأحد أن يجتهد بعد المائتين من الهجرة"، وقال آخرون: ليس لأحد أن يجتهد بعد الأوزاعي، وسفيان الثوري، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك، وقال آخرون ليس لأحد أن يجتهد بعد الشافعي»([112]).
والملاحظ في هذا الاستشهاد أن الشوكاني ركز على مدعي خلو العصر عن المجتهد المطلق المستقل، لأنه لا يعتبر غيره من مجتهدي المذاهب من أهل الاجتهاد كما سبق بيانه. ولكن في الحقيقة، الأمر تعدى الحكم بانعدام المجتهد المطلق إلى الحكم بانعدام مجتهد المذهب أيضاً. قال صاحب "فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت": «ثم إن من الناس من حكم بوجوب الخلو من بعد العلامة النسفي، واختتم الاجتهاد به، وعنوا الاجتهاد في المذهب. وأما الاجتهاد المطلق، فقالوا اختتم بالأئمة الأربعة، حتى أوجبوا تقليد واحد من هؤلاء الأربعة»([113]).
وقال عالم الأقطار الشامية ابن أبي الدم، بعد سرده شروط الاجتهاد المطلق: «هذه الشرائط يعز وجودها في زماننا في شخص من العلماء، بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق... بل ولا مجتهد في مذهب إمام تعتبر أقواله وجوهاً مخرجة على مذهب إمامه»([114]).
والحاصل أن الشوكاني بعد دراسته التحليلية لأبعاد ومرتكزات إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد، خلص إلى أن وقوع الخلو ممنوع شرعاً وعقلاً وواقعاً، و أنها دعوى باطلة لا يلزم بها أحد فقال:
«وبالجملة فتطويل البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير فائدة، فإن أمره أوضح من كل واضح، وليس ما يقوله من كان من أُسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف، ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال.. ومن حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عزّ وجلّ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبّدهم الله بالكتاب وبالسنة»([115]).
خامساً: تجزؤ الاجتهاد:
من المسائل التي ميّزت نظرية الاجتهاد عند الشوكاني وجعلتها أساس التجديد الفقهي، قضية تجزؤ الاجتهاد. والمقصود بتجزؤ الاجتهاد أن يجتهد العالم في استنباط بعض الأحكام دون بعض([116]).وأول من أثار هذه الإشكالية وحكم بجوازها الإمام الغزالي في كتابه المستصفى([117]) وتبعه في ذلك جمهور الأصوليين كالآمدي، والقرافي، وابن القيم، وابن الهمام، وابن دقيق العيد، وابن السبكي، وابن قدامة، وغيرهم([118]).حجتهم في ذلك أنه قد تمْكُن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمأخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد([119]).
أما الإمام الشوكاني فقد ذهب إلى عدم جواز تجزئة الاجتهاد لسببين: أولهما: تعلق علوم الاجتهاد بعضها ببعض.. وثانيهما: أن ثبوت ملكة الاجتهاد تجعل العالم قادراً على الاجتهاد في جميع أبواب ومسائل الفقه. وهو ما سطره في قوله:
«إن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر، وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، ويأخذ بعضها بحجزة بعض، ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة، فإنها إذا تمت كان مقتدراً على الاجتهاد في جميع المسائل، وإن احتاج بعضها إلى فريد بحث، وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك، ولا يثق من نفسه لتقصيره، ولا يثق به الغير. لذلك فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة، فتلك الدعوى تبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهاداً مطلقاً، فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لا يتعقله»([120]).
ثم إن شدة تمسك الشوكاني بمنع تجزء الاجتهاد جعلته يرفض التفريق بين معرفة باب من أبواب الفقه، وبين معرفة مسألة من مسائله، إذ أجاز بعض العلماء الاجتهاد في الأول ومنعوا من الثاني. وقد سجل هذا الرفض بقوله:
«ولا فرق عند التحقيق في امتناع تجزؤ الاجتهاد، فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى وعدم المانع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق، وأما من ادعى الإحاطة بما يحتاج إليه في باب دون باب، أو في مسألة دون مسألة، فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك، لأنه لا يزال يجوّز الغير ما قد بلغ إليه علمه، فإن قال قد غلب ظنه بذلك فهو مجازف، وتتضح مجازفته بالبحث معه»([121]).
إن محاولة فهم موقف الشوكاني هذا فهماً يحقق الارتباط العضوي والانسجام الداخلي بين هذا العنصر والعناصر السابقة في نظرية الاجتهاد، يؤكد أن رفض الإمام الشوكاني لمبدأ تجزؤ الاجتهاد سببه أمرين: أولهما: إزالة فكرة صعوبة الاجتهاد وتعذره، وتأكيد يسر شروطه، وتحصيل ملكته، فإذا ثبتت ملكة الاجتهاد، تمكن العالم من الاجتهاد في كل الأحكام. ثانيهما: أن الاجتهاد الجزئي كان هو المنفذ الذي يتنفس منه العلماء بعد غلق باب الاجتهاد. قال الزحيلي: «.... كان - الاجتهاد الجزئي- هو النافذة التي استطاع بها العلماء تخفيف غلو أو سد باب الاجتهاد، نزولاً تحت عامل الضرورة أو الحاجة التي تصادف العلماء في كل زمن للإفتاء في حكم الحوادث المتجددة»([122]).
وحيث إن الإمام الشوكاني قد أبطل هذه الدعوى وفنّد مرتكزها الشرعي، وهو جواز خلو العصر عن المجتهد، فما الداعي إلى فتح هذا المنفذ - القول بتجزؤ الاجتهاد - خاصة وأنه لا يرى قيام فرض الاجتهاد إلاّ بالمجتهد المطلق، وغيره ليس معدوداً من أهل الاجتهاد؟
المفردة الثانية والثالثة: الإجماع والقياس:
من المفردات الأصولية التي راجعها الشوكاني وحقق مباحثها: الإجماع والقياس. أما الإجماع، فلم يعده دليلاً شرعياً، لعدم ورود دليل على حجيته، حيث قال: «إنه ليس بدليل شرعي على فرض إمكانه، لعدم ورود دليل يدل على حجيته»([123]). وهذا الموقف جعله يركز في دراسته التحقيقية للإجماع على موضوع الحجية أكثر من تركيزه على إمكانية الإجماع في نفسه، وإمكان العلم به، وإمكان نقله.
ومرتكزه في نفي حجية الإجماع أنه لم يرد دليل على حجيته، وأن أدلة القائلين بحجيته خارجة عن محل النزاع ولا تدل على مطلوب المستدلين بها، وهو اعتبار قول المجمعين حجة شرعية تصير ديناً ثابتاً على كل الأمة إلى يوم القيامة. إذ علّق على استدلالهم بقوله تعالى: (( وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ)) (البقرة:143) بقوله:
«ليس في الآية دلالة على محل النزاع أصلاً، فإن ثبوت كون أهل الإجماع بمجموعهم عدولاً لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تعم بها البلوى، فإن ذلك أمر إلى الشارع لا إلى غيره، وغاية ما في الآية أن يكون قولهم مقبولاً إذا أخبرونا عن شيء من الأشياء، وأما كون اتفاقهم على أمر ديني يصير ديناً ثابتاً عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة فليس في الآية ما يدل على هذا، ولا هي مسوقة لهذا المعنى، ولا تقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام»([124]).
كما علّق على استدلالهم بحديث النبي e: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» بقوله: «إن غاية ما فيه أنه e أخبر عن طائفة من أمته بأنهم يتمسكون بما هو الحق، ويظهرون على غيرهم، فأين هذا من محل النزاع؟»([125]).
وقد استند الشوكاني في موقفه الرافض لعدّ الإجماع مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي بعدم إمكان وقوعه، لعدة موانع أهمها: اتساع البلاد الإسلامية، وكثرة الحاملين للعلم، وتعذر الاستقراء التام لما عند كل واحد منهم، فإن الأعمار الطويلة - كما قال- لا تتسع لذلك فضلاً عن الأعمار القصيرة([126]).
وأما القياس: فلم يعده الإمام الشوكاني - خلافاً لما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين - أصلاً من أصول الشريعة يُستدل به على الأحكام التي يرد بها السمع، حيث قال: «فالقياس الذي يذكره أهل الأصول ليس بدليل شرعي تقوم به الحجة على أحد من عباد الله، ولا جاء دليل شرعي يدل على حجيته، وإن زعم ذلك من لا خبرة له بالأدلة الشرعية ولا بكيفية الاستدلال بها»([127]).
والإمام الشوكاني لم ينف كل ما يسمى قياساً، بل استثنى ما كان منصوصاً على علته، أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق، أو كان من فحوى الخطاب، أو لحن الخطاب، فقال: «فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته، وما قطع فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب، أو لحن الخطاب، على اصطلاح من يسمى ذلك قياساً، وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة»([128]).
إنّ الدراسة المستفيضة لنظرية القياس عند الإمام الشوكاني تبيّن أنه رفض القياس على مستويين. أولاً: رفضه كدليل شرعي، أي بوصفه مصدراً للأحكام.. ثانياً: رفضه كمنهج للبحث عن الحكم الشرعي.
أما رفضه للقياس كدليل شرعي مستقل فيعود إلى سببين:
السبب الأول: أن المثبتين للقياس قد استدلوا بآيات لا تدل في نظره على حجيته، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام([129]) منها قوله تعالى: ((فَ?عْتَبِرُواْ ي?أُوْلِى ?لاْبْصَـ?رِ)) (الحشر:2)، وقوله تعالى: ((فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ?لنَّعَمِ)) (المائدة: 95)، وقوله عز وجلّ: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)) (النساء: 83) ، كما استدلوا بأحاديث خارجة عن محل النزاع؛ مثل: حديث النبي e لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن، إذ اعتبروا قوله «أجتهد رأيي ولا آلوا» دليل على حجية القياس، لكن الشوكاني فسّر الاجتهاد بالرأي بأنه استفراغ الجهد في الطلب للحكم من النصوص الخفية؛ وعلى التسليم بأنه يدل على القياس فإنه كما قال:
«لا دلالة للحديث إلا على العمل بالقياس في أيام النبوة، لأن الشريعة إذ ذاك لم تكمل، فيمكن عدم وجدان الدليل في الكتاب والسنة، وأما بعد أيام النبوة فقد كمل الشرع لقوله تعالى: (( ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) (المائدة:3)، ولا معنى للإكمال إلاّ وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع، إما بالنص على كل فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة، ومما يؤيّد ذلك قوله تعالى: ((مَّا فَرَّطْنَا فِى ?لكِتَـ?بِ مِن شَىْء)) (الأنعام:38) »([130]).
كما رد الإمام الشوكاني استدلالهم بما ثبت عن النبي e من قياسات قائلاً: «هذه الأقيسة صادرة عن الشارع المعصوم، الذي يقول الله سبحانه فيما جاءنا به عنه: ((إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى?)) (النجم:4)، ويقول في وجوب اتباعه: ((وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ )) (الحشر:7)، وذلك خارج عن محل النزاع، فإن القياس الذي كلامنا فيه إنما هو قياس من لم تثبت له العصمة، ولا وجب اتباعه، ولا كان كلامه وحياً، بل من جهة نفسه الأمارة وبعقله المغلوب بالخطأ. وقد قدمنا أنه وقع الاتفاق على قيام الحجة بالقياسات الصادرة عنه e»([131]).
أما استدلالهم بإجماع الصحابة على حجية القياس، فقد نفى الإمام الشوكاني حصوله، وأكد أنه لوحدث «لكان ذلك إنما هو على القياسات التي وقع النص على علتها، والتي قطع فيها بنفي الفارق، فما الدليل على أنهم قالوا بجميع أنواع القياس الذي اعتبره كثير من الأصوليين وأثبتوه بمسالك تتغلغل فيها العقول حتى تأتي بما ليس من الشرع في ورد ولا صدر؟»([132]).
السبب الثاني: أن الأقيسة الثلاثة التي استثناها من النفي العام، وقال بحجيتها، مدلول عليها بدليل الأصل، مشمولة به، مندرجة تحته، حيث قال في بيان ذلك:
«وأما ما كانت العلة فيه منصوصة، فالدليل هو ذلك النص على العلة، لأن الشارع كأنه صرح باعتبارها إذا وجدت في شيء من المسائل من غير فرق بين كونه أصلاً أو فرعاً. وهكذا ما وقع القطع فيه بنفي الفارق، فإنه بهذا القدر قد صار الأمران اللذان لا فارق بينهما شيئاً واحداً، ما دل على أحدهما دلّ على الآخر من دون تعدية، ولا اعتماد أصلية ولا فرعية. وأما فحوى الخطاب ولحنه، فهذان راجعان إلى المفهوم والمنطوق، وإن سماهما بعض أهل العلم بقياس الفحوى»([133]).
من هنا استنتج الشوكاني أن تسمية هذا النوع بالقياس إنما هو مجرد اصطلاح فقال: «وإن كان - القياس- مع القطع بنفي الفارق، أو كان بثبوت الفرق بفحوى الخطاب أو كانت العلة منصوصة، فهذا وإن أطلق عليه اسم القياس فهو داخل دلالة الأصل، مشمول بما دلّ عليه، مأخوذ منه، وتسميته قياساً إنما هو مجرد اصطلاح»([134]).. وبهذا الاعتبار لم يعد الشوكاني القياس دليلاً شرعياً مستقلاً، بل صرّح في موضع آخر بأنه من مفهوم الموافقة([135]).
أما رفضه للقياس كمنهج للبحث عن الحكم الشرعي، فيرجع كذلك إلى سببين:
السبب الأول: أن المسائل الأصولية تستفاد من لغة العرب، أو من دليل شرعي، أو من علم من العلوم المعتبرة في الترجيح، وما لا يرجع من مسائل هذا الفن إلى هذه الأصول الثلاثة فهو من علم الرأي المذموم([136]).
ومدلول مصطلح الرأي المذموم عند الشوكاني هو ما «كان في معارضة أدلة الكتاب والسنة، أو كان بالخرص والظن مع التقصير عن معرفة النصوص، أو كان متضمناً تعطيل أسماء الله تعالى وصفاته، أو كان مما أحدثت به البدع وغيرت به السنن»([137]). وما دام العلم هو معرفة الحق بدليله، وكل ما لا يبنى على دليل فهو من علم الرأي المذموم([138])، فإن مسالك العلة التي أثبت بها الأصوليون القياس - إلا ما كان راجعاً منها إلى العلة المنصوصة، والقطع بنفي الفارق، وفحوى الخطاب - فهي في نظر الشوكاني «شعبة من شعب الرأي، ونوع من أنواع الظنون الزائفة، وخصلة من خصال الخيالات المختلفة" لأنه "لم يدل عليها دليل من الشرع»([139]).
السبب الثاني: أن القياس قد اتُخِذَ ذريعة عند كثير من أهل الرأي للتلاعب بنصوص الكتاب والسنة، فلم يعد بهذا المنحى الذي اتخذه منهجاً سليماً في استنباط الأحكام الشرعية. قال الشوكاني:
«ولقد تلاعب كثير من أهل الرأي بالكتاب والسنة تلاعباً لا يخفى إلاّ على من لا يعرف الإنصاف بهذه الذريعة القياسية، وعوّلوا على ما هو منه أوهن من بيت العنكبوت، وقدموه على آيات قرآنية وأحاديث نبوية (...) ومن أنكر هذا، فلينظر المصنفات في الفقه، ويتتبع مسائلها المبنية على مجرد القياس، المبني على غير أساس، مع وجود أدلة نيرة، وبراهين مرضية، ومن هذا الباب دخل أهل الرأي، وإليه خرجوا من أبواب الأدلة الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله»([140]).
مما سبق، يتبيّن أن الإمام الشوكاني رفض القياس من منطلقين، منطلق نقلي، لأنه لم يثبت دليل شرعي يدل على حجيته، ومنطلق منهجي لأن جل مسالك العلة التي أثبت بها الأصوليون القياس هي -في نظر الشوكاني - مجرد خيال ليس على ثبوتها إشارة من علم.
تعليق:
إن دراسة الشوكاني الأصولية التحقيقية لمفردة القياس كشفت عن التزامه بثلاثة مبادئ في الاجتهاد الأصولي التجديدي:
المبدأ الأول: عدم الاعتداد بمجرد الاسم دون النظر في معاني المسميات وحقائقها. فقد نظر الشوكاني في معاني مفردة القياس وحقّقها، وأثبت ما رآه صواباً منها، وفنّد ما لم يكن كذلك. وهذا المبدأ يعصم الأصولي المحقق من التسليم المسبق بكل مسائل هذا الفن، ويساعده على النظر المستقل فيها.
المبدأ الثاني: دفع النزاع بإيجاد مخرج من الخلاف، ومن ثمّ تصحيح بعض المفاهيم التي أنتجتها حدّة الخلاف. فقد حاول الشوكاني تضييق الهوة بين النافين للقياس، والمثبتين له، فقال:
«ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياساً، وإن كان منصوصاً على علته، أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً عليه بدليل الأصل، مشمولاً به، مندرجاً تحته، وبهذا يهون عليك الخطب، ويصغر عندك ما استعظموه، ويقرب لديك ما بعدوه، لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظياً، وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه، واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي، لا عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً»([141]).
وبناءً على هذا الموقف التقريبي، هوّن الشوكاني من بعض المواقف الأصولية التي أفرزها الخلاف الحاد بين نفاة القياس ومثبتيه، التي منها عدم الاعتداد بخلاف من أنكر القياس؛ وقد نسب هذا القول إلى القاضي أبي بكر، والغزالي، والأستاذ أبي إسحاق الذي نسبه بدوره إلى الجمهور. حجتهم في ذلك أن من أنكر القياس لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هو متمسك بالظواهر، فهو كالعامي الذي لا معرفة له([142])، وكذلك قول الجويني: «إن منكري القياس ليسوا من علماء الأمة ولا من حملة الشريعة، لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها»([143]).
ولقد انتقد الإمام الشوكاني هذا الرأي وتعليلاته قائلاً: «ولا يخفاك أن هذا التعليل يفيد خروج من أنكر القياس وأنكر العمل به كما كان من كثير من الأئمة، فإنهم أنكروه عن علم به لا عن جهل له»([144])، ثم أكد أن دعوى نصوص الشريعة لا تفي بعشر معشارها لا تصدر إلا عمن لم يعرف نصوص الشريعة حق معرفتها»([145]).
المبدأ الثالث: إن المعرفة الحقة لمفردات الأصول هي السبيل السليم لاتخاذ موقف علمي تجاهها، وأن رفض أي دليل من الأدلة لا يعني بحال من الأحوال الزهد أو التزهيد في العلم به، هذا ما أكده الشوكاني في قوله: «وإني وإن حذرته - أي طالب العلم - عن العمل بهذا القياس، فلا أحذره عن العلم به، وتطويل الباع في معرفته، والإحاطة بما جاء به المصنفون من أهل الأصول في مباحثه، فإنه لا يعرف صحة ما قلته إلا من عرفه حق معرفته»([146]).
المجال الثاني: بيان ما يصلح للرد إلى علم أصول الفقه وما لا يصلح() .
لقد بيّن الشوكاني أن فرز القضايا الأصولية الأصيلة عن القضايا الدخيلة على هذا العلم، تفيد في معرفة المسائل التي يصلح رد الفروع إليها وتحكيمها عند تعارض الأدلة، فقال عند حديثه عن التباس ما هو من الرأي البحت بشيء من العلوم التي هي مواد الاجتهاد:
«وكثيراً ما يقع ذلك في أصول الفقه، فإنه قد اختلط فيها المعروف بالمنكر، والصحيح بالفاسد، والجيّد بالردئ، فربما يتكلم أهل هذا العلم على مسائل من مسائل الرأي ويحررونها ويقررونها وليست منه في شيء، ولا تعلق لها به بوجه، فيأتي الطالب لهذا العلم إلى تلك المسائل فيعتقد أنها منه، فيرد إليها المسائل الفروعية، ويرجع إليها عند تعارض الأدلة، ويعمل بها في كثير من المباحث، زاعماً أنها من أصول الفقه ذاهلاً عن كونها من علم الرأي»([147]).
أما الضابط المنهجي الذي تعرف به المسائل التي هي من علم الأصول، والمسائل التي هي عارية عليه، فيتمثل في رد مسائل هذا الفن إلى المصادر المستفادة منها، ذلك أن مسائل الأصول تستفاد في نظر الشوكاني من لغة العرب، أو من دليل شرعي، أو من علم من العلوم التي لها دخل في الترجيح، فيرد المسألة إلى الأصل المستفادة منه فيتبيّن هل هي من علم أصول الفقه أم دخيلة عليه.
لقد حاول الشوكاني تطبيق هذا الضابط المنهجي على المباحث الأساسية في علم الأصول، مبتدئاً بمبحث الدلالات، مبيّناً أن من مسائله ما هو راجع إلى لغة العرب رجوعاً ظاهراً، ومثّل لذلك بقوله:
« كبناء العام على الخاص، وحمل المطلق على المقيد، ورد المجمل إلى المبيّن، وما يقتضيه الأمر والنهي، ونحو هذه الأمور، فالواجب على المجتهد أن يبحث عن مواقع الألفاظ العربية، وموارد كلام أهلها، وما كانوا عليه في مثل ذلك. فما وافقه فهو الأحق بالقبول والأولى بالرجوع إليه... هذا على فرض عدم وجود دليل شرعي يدل على ذلك، فإن وجد فهو المقدم على كل شيء»([148]).
ومنها ما هو مختلف فيه مثل: هل يبنى العام على الخاص مطلقاً، أم مشروطاً بشرط أن يكون الخاص متأخراً؟ وهل يحمل المطلق على المقيّد مع اختلاف السبب أم لا؟ ومعنى الأمر الحقيقي، هل هو الوجوب أم غيره؟ ومعنى النهي الحقيقي، هل هو التحريم أم غيره؟([149])
في مثل هذه القضايا قال: « فإذا أردت الوقوف على الحق في بحث من هذه الأبحاث فانظر في اللغة العربية، واعمل على ما هو موافق لها، مطابق لما كان عليه أهلها، واجتنب ما خالفها، فإن وجدت ما يدل على ذلك من أدلة الشرع، كما تقف عليه في الأدلة الشرعية - من كون الأمر يفيد الوجوب، والنهي يفيد التحريم- فالمسالة أصولية، لكونها قاعدة كلية شرعية لكون دليلها شرعياً، كما أن ما يستفاد من اللغة من القواعد الكلية أصولية لغوية».
ثم أضاف: « فهذه المباحث، وما شابهها من مسائل النسخ ومسائل المفهوم والمنطوق، الراجعة إلى لغة العرب، المستفادة منها على وجه يكون قاعدة كلية، هي مسائل الأصول، والمرجع لها، الذي يعرف به راجحها من مرجوحها، هو العلم الذي هي مستفادة منه، مأخوذة من موارده ومصادره»([150]).
كما طبق الشوكاني الضابط نفسه على مباحث القياس واستخلص أن المعتبر منه هو ما كان راجعاً إلى الشرع، أو معلوماً من لغة العرب فقال: «وأما مباحث القياس فغالبها من بحت الرأي، الذي لا يرجع إلى شيء مما تقوم به الحجة.. وبيان ذلك أنهم جعلوا للعلة مسالك عشرة لا تقوم الحجة بشيء منها إلا ما كان راجعاً إلى الشرع، كمسلك النص على العلة، أو ما كان معلوماً من لغة العرب كالإلحاق بمسلك إلغاء الفارق، وكذلك قياس الأولى المسمى عند البعض بفحوى الخطاب»([151]).
وعن مباحث الكتاب والسنة والإجماع قال: « فما كان من تلك المباحث الكلية مستفاداً من أدلة الشرع، فهو أصولي شرعي، وما كان مستفاداً من مباحث اللغة فهو أصولي لغوي، وما كان مستفادا من غير هذين، فهو من علم الرأي»([152]). كما اعتبر من محض الرأي، الاستحسان، والاستصحاب، والتلازم([153]).
وأما المباحث المتعلقة بالاجتهاد والتقليد، وشرع مَنْ قبلنا، وقول الصحابي، فهي في نظره «... شرعية، فما انتهض عليه دليل الشرع منها فهو حق، وما خالفه فباطل» ([154]).. وأما المباحث المتعلقة بالترجيح فيرى أنه: « إن كان المرجح مستفاداً من علم من العلوم المدونة، فالاعتبار بذلك العلم، فإن كان له مدخل في الترجيح، كعلم اللغة، فإنه مقبول، وإن كان لا مدخل له إلا لمجرد الدعوى كعلم الرأي فإنه مردود»([155]).
إن استيعاب هذا الضابط المنهجي، وحسن تطبيقه على مباحث علم أصول الفقه، يمكّن الباحث في نظر الشوكاني من فائدتين: الأولى: تنبيهه إلى أن بعض ما دونه أهل الأصول في الكتب الأصولية ليس من الأصول في شيء، الثانية: إرشاده إلى العلوم التي تستمد منها المسائل المدونة في الأصول، ليرجع إليها عند النظر في تلك المسائل، حتى يكون على بصيرة ويصفو له هذا العلم([156]).
-----------------------------------------------
([87]) أبو حامد الغزالي، المستصفى، ط2 (لبنان: دار الكتب العلمية،1983م)2/352.
([88]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول، ص251ـ252.
([89]) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، 4/114- 117.
([90])الوافي المهدي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ط1 (المغرب:دار الثقافة،1984م) ص431.
([91]) إبراهيم إبراهيم هلال، الإمام الشوكاني والاجتهاد والتقليد، تحقيق القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد (القاهرة: دار النهضة العربية، 1979م) ص54.
([92]) محمد بن علي الشوكاني، المرجع السابق، ص52.
([93]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([94]) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع،2/84،وما بعدها.
([95]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب ومنتهى الأرب، ص126ـ152.
([96]) المرجع السابق، ص143.
([97]) المرجع السابق، ص145.
([98]) المرجع السابق، ص151.
([99]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول، ص253ـ254.
([100]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([101]) المرجع السابق، ص156.
([102]) المرجع السابق، ص170.
([103]) المرجع السابق، ص173.
([104]) نادية شريف العمري، الاجتهاد في الإسلام، ص223ـ224.
([105]) المرجع السابق، ص254.
([106]) المرجع السابق، ص253.
([107]) نفسه.
([108]) نفسه.
([109]) المرجع السابق، ص254.
([110]) نفسه.
([111]) محمد بن علي الشوكاني، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، ص63.
([112]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص346.
([113]) محمد بن نظام الدين الأنصاري، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (لبنان: دار الكتب العلمية، 1983م) 2/399.
([114]) يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ط2 (الكويت: دارالقلم،1989م) ص94.
([115]) محمد بن علي الشوكاني،إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص254.
([116]) نادية شريف العمري، الاجتهاد في الإسلام، ص164.
([117]) أبو حامد الغزالي، المستصفى، 2/353.
([118]) نادية شريف العمري، الاجتهاد في الإسلام، ص166.
([119]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص255.
([120]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([121]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([122]) وهبة الزحيلي، الوسيط في أصول الفقه، ط2(دمشق:المطبعة العلمية،1969م) ص527.
([123]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص204.
([124]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول، ص77.
([125]) المرجع السابق، ص78.
([126]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص204.
([127]) محمد بن علي الشوكاني،أدب الطلب، ص208.
([128]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول، ص203-204.
([129]) المرجع السابق، ص201.
([130]) المرجع السابق، ص202ـ203.
([131]) المرجع السابق، ص203.
([132]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([133]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص208ـ209.
([134]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص320.
([135]) محمد بن علي الشوكاني،إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ص204.
([136]) انظر: محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص119ـ120.
([137]) محمد بن علي الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص320.
([138]) المرجع السابق ص321.
([139]) محمد بن على الشوكاني، إرشاد الفحول، ص201ـ202.
([140]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص209.
([141]) محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول، ص204.
([142])المرجع السابق، ص80.
([143]) المرجع السابق، ص210.
([144]) المرجع السابق، ص81.
([145]) المرجع السابق، ص210.
([146]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص210.
() لقد التزم الشوكاني مبدأ بيان ما ليس من علم الأصول، في كتابه إرشاد الفحول، لكن في كتابه "أدب الطلب ومنتهى الأرب" بيّن أهمية هذا النوع من التحقيق، ووضع الضابط المنهجي لمعرفة ما يصلح للرد إلى علم الأصول وما لا يصلح، وحاول تطبيقه على المباحث الأساسية في علم أصول الفقه.
([147]) المرجع السابق، ص119-120.
([148]) المرجع السابق، ص120.
([149]) المرجع السابق، ص120-121.
([150]) المرجع السابق، ص121.
([151]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
([152]) المرجع السابق، ص121ـ122.
([153]) المرجع السابق، ص122.
([154]) نفسه.
([155]) نفسه.
([156]) نفسه.(1/8)
الفصل الثالث
المبحث الثالث: تجديد منهج الدراسات الفقهية
لقد مثّلت دعوة الشوكاني للاجتهاد، وتحقيقه لعلم أصول الفقه أسس إصلاح منهج التفكير الفقهي على مستوى التنظير. أما على مستوى التطبيق فقد تركز عمل الإمام في مراجعة منهج الدراسات الفقهية الذي تأثر تأثراً واضحاً بفلسفة التقليد.. وقد أقام هذه المراجعة على جملة من المبادئ وهي:
المطلب الأول: الاحتكام إلى الدليل:
لقد أخذ الدليل مركز الثقل في منظومة الشوكاني الفقهية، وكان من مقتضيات هذا الموقف المنهجي، التزام الشوكاني مبدأ الاحتكام إلى الدليل في دراساته الفقهية، حيث أقام مذهبه الفقهي على الأخذ بالكتاب والسنة الثابتة، والاجتهاد بما لا يتنافى والنصوص، وضمن مقاصد الشريعة وروحها، وعليه عد الإمام الشوكاني الدليل الأصل في كل اجتهاد، والفيصل في كل خلاف فقهي، فلا يرجح رأياً ولا ينصره إلا إذا دلت عليه الأدلة الناهضة. والدارس لكتابات الشوكاني الفقهية يلاحظ هذا الموقف بوضوح.
ففي باب "حكم الأذنين في الوضوء" في كتاب "نيل الأوطار" ذكر الشوكاني ذهاب القاسمية، واسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل إلى الوجوب، محتجين بحديث ابن عباس الذي مفاده أن النبي e مسح داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهرهما فمسح ظاهرهما وباطنهما([157])، وأن الأحاديث التي نصت على أن الأذنين من الرأس تفيد أن الأمر بمسح الرأس أمر بمسحهما، فثبت وجوب المسح بالدليل القرآني.
لكن الشوكاني رد بعدم انتهاض الأحاديث الواردة في ذلك، ورجح استحباب مسح الأذنين على الوجوب لأنه كما قال (لا يصار إلى الوجوب إلا بدليل ناهض وإلا كان من التقول على الله بما لم يقل) ([158]).
ومن مظاهر احتكام الشوكاني إلى الدليل، الاستقلالية في الاجتهاد، والأخذ بظاهر النص، والجمع بين الأدلة ما أمكن.
أ ـ الاستقلالية في الاجتهاد:
إن الأرضية الأصولية القوية التي ارتكز عليها الشوكاني جعلت آراءه الفقهية تتميز بالاستقلالية، فهو لا يجعل مذهباً من المذاهب، أو قولاً من الأقوال مصدره في فهم النصوص واستنباط الأحكام، بل يبحث المسائل بحثاً مستقلاً، فإن وافق غيره في النتيجة فهي موافقة اجتهاد لا موافقة تقليد.
ومن مظاهر استقلاليته، عدم ميله لطرف معين في جميع اجتهاداته، بل غالباً ما يوافق عالماً في مسائل، ويخالفه في أخرى، مثال ذلك: ما ذكره في معرض تفسيره لقوله تعالى: (( ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً)) (الأحزاب:56) فقد ناقش مسألة الصلاة على النبي e في الصلاة، هل هي واجبة أم لا؟ فذكر رأي الجمهور بأنها سنة مؤكدة وليست واجبة، ثم ذكر رأي الشافعي القائل بوجوبها مع الإعادة عند تركها عمداً، لكنه اختار في الأخير القول بوجوبها مع عدم الإعادة على تاركها، فوافق بذلك الشافعي في القول بوجوبها وخالفه في الإعادة عند تركها عمداً([159]).
ومن مظاهر استقلاليته أيضاً عدم تبنيه لموقف أي طرف من المخالفين جملة وتفصيلاً، بل يذكر أدلة كل فريق، ويناقشها، فيثبت صحة بعضها، ويرد بعضها الآخر، ثم يسعى إلى التوفيق بينهما، أو الخروج برأي جديد يرفع به الخلاف ويدفع النزاع، يظهر هذا جلياً في مناقشته لمسألة عدة المطلقة في تفسيره لقوله تعالى: ((وَ?لْمُطَلَّقَـ?تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـ?ثَةَ قُرُوء)) (البقرة: 228)، إذ ذكر اختلاف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية، فقال فريق: هي الحيض، وقال آخر: هي الطهر، حسب المعنيين اللغويين للقرء، ثم عرض أدلة كل فريق، فرد بعضها، وأقر بعضها الآخر، ثم حاول التوفيق بن الرأيين اعتماداً على الأدلة الصحيحة التي استدل بها الطرفان فقال: «ويمكن أن يقال إنها تنقضي العدة بثلاثة أطهار، أو بثلاث حيض، ولا مانع من ذلك، فقد جوّز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه، وبذلك يجمع بين الأدلة، ويرتفع الخلاف ويندفع النزاع» ([160]).
ومن دلائل استقلاليته أيضاً، وقوفه من رأي الجمهور موقف الحكم، وعدم اعتباره دليلاً في ذاته، بل يزنه بميزان القرآن والسنة، فإن وافقهما أخذ به على سبيل الاستئناس، وإلا طرحه. ومن الشواهد على ذلك ما ورد في "باب ما جاء في آنية الذهب والفضة" في "نيل الأوطار"، حيث نقل عن النووي انعقاد الإجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمالات في إناء الذهب، أو الفضة، إلا رواية عن داوود في تحريم الشرب فقط، وقول قديم للشافعي والعراقيين، فقال بالكراهة دون التحريم، وقد رجع عنه، وتأوله أيضاً صاحب التقريب، ولم يحمله على ظاهره ([161])، فوافق الشوكاني الجمهور في تحريم الأكل والشرب فيهما، وخالفهم في الاستعمال. وعلل ذلك بأن قياس سائر الاستعمالات على الأكل والشرب قياس مع الفارق، وعلق على حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال، بأنه غير منعقد، لمخالفة داوود وآخرين، ولما في حجية الإجماع من النزاع، وخلص في الأخير إلى جواز اتخاذ آنية الذهب والفضة لسائر الاستعمالات، فقال: «والحاصل أن الأصل الحِل، فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلمه الخصوم، ولا دليل في المقام بهذه الصفة، فالوقوف على ذلك الأصل المعتضد بالبراءة الأصلية هو وظيفة المنصف الذي لم يخبط بسوط هيبة الجمهور»([162]).
ب ـ الأخذ بظاهر النص والجمع بين الأدلة ما أمكن:
من تداعيات احتكام الشوكاني إلى الدليل، أخذه بظاهر النص في الغالب، فهو لا يحمل النص فوق معناه الظاهر، بل يحرص على فهم مقصده على عمومه دون تخصيص بغير مخصص، فمنهجه الاستنباطي يدور حول مضمون النص ومعناه، ولا يغادر ظاهره إلا بمسوغ أصولي معتبر. ومن القضايا التي يبرز فيها هذا المسلك ما جاء في زكاة الفطر، والقدر الذي يعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة([163])، فقد أورد آراء عدة لبعض الفقهاء، غير أنه رجح منها الرأي الذي يذهب إلى أنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً لقوت يوم وليلة، ويعلل هذا بأن الزكاة طهرة للصائم ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك، ولأن النصوص أطلقت، ولم يخص غنياً ولا فقيراً. فقد روي عن ابن عباس أنه قال: فرض رسول الله e زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات"([164]).
أما الجمع بين الأدلة ما أمكن، فالإمام الشوكاني لا يلجأ إلى النسخ، أو الترجيح بين النصوص إلا إذا تعذر الجمع، مخالفاً بذلك المنهج الذي استقر في عصور التقليد.
ففي مسألة الاستعانة بالكفار على الكفار قال: «وأما الاستعانة بالكفار على الكفار، فقد وقع ذلك منه e في غير موطن، ووقع منه الرد لمن أراد إعانته من المشركين على قتال المشركين، وقال لعمر: "إنه لا يستعين بمشرك"([165])، ويمكن الجمع بأن الجواز مع الحاجة ورجاء النفع، والرد مع عدمها، أو لأحدهما، فيكون ذلك مفوضاً إلى الإمام»([166]).
كما اعترض في أثناء تفسيره لقوله تعالى: ((فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى ?لسَّلْمِ وَأَنتُمُ ?لاْعْلَوْنَ)) (محمد:35)، على من قال من أهل العلم إنها ناسخة لقوله تعالى: (( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَ?جْنَحْ لَهَا)) (الأنفال:61)، فقال: «ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداءً، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص»([167]).
المطلب الثاني: الاعتماد على اللغة العربية في استنباط الأحكام:
لما كانت اللغة العربية هي اللغة التي حملت الخطاب الإلهي، عدها الشوكاني شرطاً أولياً في فهم خطاب الشارع، وأساساً مقدماً في استنباط أحكام الشرع. من هنا كان منهجه في بحث كل جملة أو لفظة لغوية يتوقف عليها حكم شرعي: تحديد معناها اللغوي، مستشهداً على ذلك بما يؤيده من أشعار، أو كلام أهل اللغة. فإذا تحرر لديه معنى النص على أساس اللغة، استنبط الحكم الشرعي. وقد أفاده هذا المنهج كثيراً في الترجيح بين الروايات والأقوال.
ففي موضوع قصر الصلاة في السفر قال الإمام الشوكاني: «هذه المسألة قد اضطربت فيها الأقوال واضطربت فيها مذاهب الرجال»([168]). ثم حرر رأيه فيها بناءً على المعنى اللغوي لمصطلح السفر فقال: «فالواجب الرجوع إلى ما يصدق عليه أنه سفر، وأن القاصد إليه مسافر، ولا ريب أن أهل اللغة يطلقون اسم المسافر على من شد رحله وقصد الخروج من وطنه إلى مكان آخر، فهذا يصدق عليه أنه مسافر، وأنه ضارب في الأرض، ولا يطلقون اسم المسافر على من خرج مثلاً إلى الأمكنة القريبة من بلده لغرض من الأغراض، فمن قصد السفر قصر إذا حضرته الصلاة ولو كان في ميل بلده»([169]).
كما رفض في موضوع زكاة الحلي استدلال من استدل على وجوبها بما ورد من ذكر الزكاة في الورق والرقة في الأحاديث، لأنه قد ثبت في كتب اللغة كالصحاح والقاموس وغيرهما، أن الورق والرقة اسم للدراهم المضروبة، فلا يصح الاستدلال بهذين اللفظين على وجوب الزكاة في الحلية([170]).
المطلب الثالث: ربط الفروع الفقهية بالقواعد الأصولية:
من الخصائص الواضحة في فقه الشوكاني، التلازم بين الفقه وأصول الفقه، ولا أدل على ذلك من كتابيه "نيل الأوطار" و"السيل الجرار" اللذين أقام فيهما جسوراً قوية ومتماسكة بين العلمين، فنجده فيهما يذكر الأدلة من الكتاب والسنة، ثم يحللها تحليلاً يكشف عن حقيقة معناها، ثم يستعين أخيراً في استنباط الحكم الشرعي بالقواعد الأصولية المناسبة. وهو ما جعل مؤلفاته الفقهية نشراً مرتباً للأدلة الشرعية، يجمع أمرها عقد منتظم من القواعد الأصولية. ومن ميزات هذا المنهج في الدراسات الفقهية أنه يكسب الحكم المستنبط قوة، كما يبيّن للقارئ الطريقة التي سلكها الإمام في استنباط الأحكام، الأمر الذي ينمّي لديه ملكة التحليل والاستدلال.
ومن أمثلة ذلك دراسة الشوكاني لمسألة الوضوء من لحوم الإبل، حيث تطرق إلى اختلاف العلماء في لحوم الإبل: هل هي من نواقض الوضوء، أم لا؟ فذهب الأكثرون إلى أنها غير ناقضة، لحديث جابر رضي الله عنه "أنه كان آخر الأمرين منه e عدم الوضوء مما مست النار"([171]). وذهب آخرون إلى انتقاض الوضوء بلحوم الإبل محتجين بأحاديث منها: حديث جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله e: «أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، توضأ من لحوم الإبل»([172]).
وفي أثناء المناقشة، وافق الشوكاني النووي على أن حديث جابر عام وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام. ثم ناقش الشوكاني مذهب المعتبرين أن العام المتأخر وهو حديث ترك الوضوء مما مست النار ناسخ لأحاديث الوضوء من لحوم الإبل، وأوضح أن أحاديث الأمر بالوضوء من لحوم الإبل لم تشمل ولم تخص النبي e وعليه فلا يعتبر تركه للوضوء مما مست النار ناسخاً؛ لأنه كما تقرر في الأصول أن فعل النبي e لا يعارض القول الخاص بنا ولا ينسخه.
ثم نبه الشوكاني في الأخير إلى أهمية هذه القضية الأصولية في الدراسات الترجيحية، فقال: «وهذه مسألة مدونة في الأصول مشهورة، وقلّ من يتنبه لها من المصنفين في مواطن الترجيح، أو اعتبارها أمراً لا بد منه، وبه يزول الإشكال في كثير من الأحكام التي تعد من المضايق»([173]).
المطلب الرابع: ربط البحث الفقهي بالحديث وعلومه:
كان من نقائص البحث الفقهي في عصور التقليد ضعف الصلة بين الفقه والحديث، فأهل الفقه - كما يذكر الشوكاني- بضاعتهم في الحديث مزجاة، لا يميزون صحيحه من سقيمه، بل يذكرون في مؤلفاتهم الموضوعات ويفرعون عليها مسائل ليست من الشريعة، فيأتون من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان([174])، وكان هذا الوضع «هو السبب الأعظم في اختلاط المعروف بالمنكر في كتب الفقه»([175]).
من هنا رأى الإمام الشوكاني أن من متطلبات تجديد الفقه الإسلامي ربط البحث الفقهي بالحديث و علومه، لأن السنة النبوية مصدر رئيس في استنباط الأحكام، والاستدلال عليها، وهي مراتب وأقسام. فمعرفة درجة الحديث من حيث الصحة وحكم الأئمة المختصين فيه، هو أساس الاستنباط الصحيح للأحكام الشرعية، والتقييم العلمي لاستدلالات الفقهاء وآرائهم. وقد صرح الإمام الشوكاني بذلك في قوله:
« فإن المتصدر للتصنيف في كتب الفقه، وإن بلغ في إتقانه، وإتقان علم الأصول وسائر الفنون الآلية إلى حد يتقاصر عنه الوصف، إذا لم يتقن علم السنة، ويعرف صحيحه من سقيمه، ويعول على أهله في إصداره وإيراده، كانت مصنفاته مبنية على غير أساس، لأن علم الفقه هو مأخوذ من علم السنة، إلا القليل منه، وهو ما قد صرح بحكمه القرآن الكريم»([176]).
وقد جسد الإمام الشوكاني هذه القناعة فعلياً في كتبه، ففي باب صفة التيمم في "نيل الأوطار" أورد حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي يدل على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو قول جمهور العلماء، وعامة أهل الحديث، لكنه ذكر أن بعض الفقهاء ذهبوا إلى أن الواجب ضربتان: ضربة للوجه وأخرى لليدين، كما ذهب ابن المسيب، وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات، ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة للذراع([177]).
وقد نبه الشوكاني إلى أن أصح الآثار المرفوعة عن عمار هي ضربة واحدة، وما روي عن ضربتين فكلها طرق مضطربة، كما ذكر ما علّ به العلماء كل طريق، ورجح بعد هذا رواية ضربة واحدة لعدم صحة الزيادة الواردة في الطرق الأخرى للحديث، فقال: «وبهذا يتبين لك أن أحاديث الضربتين لا تخلو جميع طرقها من مقال، ولو صحت لكان الأخذ بها متعيناً لما فيها من الزيادة، فالحق الوقوف على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار من الاقتصار على ضربة واحدة حتى تصح الزيادة على ذلك المقدار»([178]).
المطلب الخامس: الاستدلال بالمعقول:
إن تمسك الإمام الشوكاني بالنص لم يمنعه من الاستدلال بالمعقول في الفهم والاستدلال ومناقشة المخالف، إذ نجده يعمل عقله إلى أبعد الحدود في استثمار معاني النص، وتقوية استدلالاته، ومناقشة استدلالات المخالف. ولقد ساعده علمه الواسع وتأمله العميق في الأدلة الشرعية على كشف الكثير من المعاني المعقولة التي لا يملك العقل السليم رفضها.
ففي مسألة استقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما عند قضاء الحاجة، بيّن أن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها ثابت عن جماعة من الصحابة، رووا النهي عن استقبالها واستدبارها مرفوعاً إلى النبيe، وبعض هذه الأحاديث في الصحيحين وبعضها في غيرهما.وأما البيت المقدس فلم يرد فيه إلا حديث معقل بن أبي معقل، أخرجه أبو داود، وفي إسناده أبو زيد الراوي له عن معقل، وهو مجهول فلا تقوم به الحجة. وأما ما قيل من أن بيت المقدس يكون له حكم الكعبة بالقياس، فهذا القياس في نظر الشوكاني باطل، لأنه كما قال: «إن كان الجامع الشرف، لزم ذلك في كل محل شريف، وإن تفاوت الشرف، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً مسجده e، ومسجد قباء، ونحوهما. وإن كان بجامع أن بيت المقدس قد كان قبلة قبل استقبال الكعبة، فقد نسخ ذلك، وإن كان ذلك لكونه تستقبله اليهود فقد تقرر في الشريعة الأمر بمخالفتهم»([179]).
وأما النهي عن استقبال القمرين واستدبارهما عند قضاء الحاجة فقال عنه:
« فهذا من غرائب أهل الفروع، فإنه لم يدل على ذلك دليل، لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، وإن كان ذلك بالقياس على القبلة، فقد اتسع الخرق على الراقع. وأعجب من هذا إلحاق النجوم النيّرات بالقمرين، فإن الأصل باطل، فكيف بالفرع؟ وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء، فإن لها شرفاً عظيماً لكونها مستقر الملائكة، ثم يلحق الأرض؛ لأنها مكان العبادات والطاعات، ومستقر عباد الله الصالحين، فحينئذ يضيق على قاضي الحاجة الأرض بما رحبت، ويحتاج أن يخرج عن هذا العالم عند قضاء الحاجة»([180]).
ومما انتقده الشوكاني، استناداً إلى المعقول، ترخيص صاحب الأزهار للرجال لبس الحلي بقصد إرهاب العدو، فقال:
«الإرهاب للعدو إنما يكون بالعدد والمدد والعدة والشدة والسلاح المعد للكفاح، ولهذا يقول الله عز وجل: ((وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )) (الأنفال:60)، وأي إرهاب يحصل في صدر العدو لمن تظاهر له في الحلي والحلل؟ فإن هذا اللابس إنما تشبه بربات الحجال، وخرج من عديد الرجال، وهل يقول عاقل إن ملابس النساء تثير شيئاً من المهابة في صدر أحد من بني آدم؟».
وختم انتقاده بقوله: « والحاصل أن الترهيب على العدو هو مقصد من مقاصد الشرع، ولكنه لا يكون إلا بما عرفناك، لا بما أراده المصنف، فإن هذا لا يجري على شرع ولا عرف، ولا رواية، ولا دراية، وإنما هو صنيع النساء ومن يشابههن من المترفين»([181]).
المطلب السادس: ربط الحكم الفقهي بالبعد الاجتماعي:
لقد كان الواقع الاجتماعي معطى أساسياً بالنسبة للإمام الشوكاني في تحليل النصوص الشرعية، واستنباط الأحكام منها، إذ قدّر في اجتهاداته الفقهية الخاصة بقضايا المجتمع ما ينبغي أن يكون انطلاقاً مما هو كائن في حياة الناس من أوضاع وأعراف وعادات، يظهر ذلك جلياً في إبطاله لبعض التصرفات المالية الجائزة أصلاً، كالهبة والنذر والوقف والوصية التي اتخذها سكان بعض المناطق اليمنية وسيلة لحرمة البنات من الميراث.
فقد وصف الشوكاني هذه الظاهرة الاجتماعية قائلاً: «ما وقع من بعض من نزعة عرق إلى ما كانت عليه الجاهلية، من عدم توريث الإناث، فإنهم يخرجون أموالهم أو أكثرها أو أحسنها إلى الذكور من أولادهم بصورة الهبة والنذر والوصية أو الوقف» ([182]).. بل حملهم التحايل على ميراث المرأة إخراج أموالهم وفق الصور السابقة إلى أولاد أولادهم، وهذا ما أوضحه الشوكاني في قوله: « ومن جملة ما تلطف به من له أولاد، ذكور وإناث، أن يعمدوا إلى أولاد أولادهم الذكور، فينذرون [عليهم]، ويوصون لهم، ويقولون أنهم فعلوا ذلك لغير وارث، ولم يفعلوا ذلك إلا لقصد تقليل نصيب بناتهم وتوفير نصيب الذكور»([183]).
وقد لاحظ الشوكاني من خلال ممارسته لوظيفة القضاء والإفتاء أن هذا التصرف المتناقض مع أحكام الشريعة صار سلوكاً اجتماعياً عاماً فقال: « وهذه الذريعة الشيطانية قد عمت و طمّت، خصوصاً أهل البادية»([184])، مبيناً أن الذي ساعد على انتشارها هو إنفاذ طائفة من العلماء لمثل تلك التصرفات، والحكم بصحتها، بحجة أن الشارع سوّغ للناس الهبة والنذر والوصية، مغترين في ذلك بمجرد الاسم، دون النظر في معاني المسميات وحقائقها، غير متعقلين للفرق بين هذه التصرفات الباطلة، وبين التصرفات المالية الشرعية، ولا فاهمين للمغايرة الكلية بينهما، ولا متأملين للأسباب التي تصدر عنها تلك الأمور، ولا مدركين أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء، وأن مجرد الاسم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال، وأنه لو كان الحكم يدور على التسمية، لكان الخمر المسمى ماء حلالاً، وكان الماء المسمى خمراً حراماً.
وإدراكاً منه لمآلات هذا السلوك وخلفيته، أقر الشوكاني أنه من خصص بعض ورثته بهبة، أو نذر، أو وصية بقصد المفاضلة بين الورثة بطلت هذه التصرفات، ولم تكن شرعية، لأنها مشتملة على ضرار، ولأنها حيل، القصد منها قطع ميراث وارث، وهذا من أعظم الحيف والإثم([185]).
ولتأكيد صدق هذه العلل التي بنى عليها الحكم، قام الشوكاني بمسح اجتماعي، تبين من خلاله عدم شرعية مآلات تلك التصرفات المالية حيث قال: «وقد تتبعت هذا فما وجدت أحداً يوصي لأولاد أولاده، أو ينذر عليهم، إلا ومعه بنات، أو له ميل إلى بعض الأولاد دون بعض، ولا يفعلون ذلك لمقصد صالح إلا في أندر الحالات وأقلها»([186]).
المطلب السابع: مراعاة مقاصد الشريعة:
من عناصر منهج الدراسات الفقهية عند الامام الشوكاني، مراعاة أسرار الشريعة ومقاصدها العامة في فهم النصوص، وتطبيقها على الجزئيات والوقائع.
ومن هذا المنطلق أخذ على كثير من الفقهاء قولهم بخروج الماء المستعمل عن الطهورية، واصفاً اجتهادهم هذا وما ترتب عليه من تفريعات، بأنه بعيد عن روح الشريعة الإسلامية السهلة حيث قال: «وللحنفية والشافعية وغيرهم مقالات في المستعمل ليس عليها أثارة من علم، وتفصيلات وتفريعات عن الشريعة السمحة السهلة بمعزل» ([187]).
كما رفض قول من حكم بوقوع طلاق السكران عقوبة له، لأنه لم يربط بين الحكم ومناط التكليف، وهو العقل، فقال: «والحاصل أن السكران الذي لا يعقل، لا حكم لطلاقه لعدم المناط الذي تدور عليه الأحكام، وقد عين الشارع عقوبته ، فليس لنا أن نجاوزها برأينا، ونقول: يقع طلاقه عقوبة له ، فيجمع له بين غرمين»([188]).
ومن مظاهر اعتبار الشوكاني لمقاصد الشريعة في الاجتهاد الفقهي تأكيده ضرورة علم الفقيه أن هذه الشريعة المطهرة السمحة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد([189])، مع ملاحظته أن هذا الجلب والدفع لا يكونان مطلقين، ولكن في حالات لخصها في قوله:
«...ما لم يرد فيه نص يخصه، ولا اشتمل عليه عموم، ولا تناوله إطلاق... وأما مواقع النصوص، وموارد أدلة الكتاب والسنة، ومواطن قيام الحجج، فلا جلب نفع، ولا دفع ضرر أولى من ذلك، وأقرب منه إلى الخير، وأولى منه بالبركة، فهو في الحقيقة مصالح مجلوبة ومفاسد مدفوعة، وإن قصرت بعض العقول عن إدراك ذلك، والإحاطة بكنهه، والوقوف على حقيقته»([190]).
-----------------------------------------------
([157]) أخرجه الترمذي رقم (36 )، وقال: حديث حسن صحيح.
([158]) محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار من أحاديث سيّد الأخيار (القاهرة: دار الحديث، د.ت)1/161.
([159]) محمد بن علي الشوكاني، فتح القدير، 4/292.
([160]) المرجع نفسه، 1/307.
([161]) محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار، 1/67.
([162]) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
([163]) انظر: نيل الأوطار، 4/186.
([164]) أبو داود، السنن، حديث رقم(1609).
([165]) أخرجه مسلم،1/97، حديث رقم(1817)؛ وأحمد بن حنبل، 5/106.
([166]) محمد بن علي الشوكاني، السيل الجرار، 4/520.
([167]) محمد بن علي الشوكاني، السيل الجرار، 1/307.
([168]) المرجع نفسه، 1/307.
([169]) المرجع نفسه، 1/308.
([170]) المرجع نفسه، 2/21.
([171]) أبو داود، السنن، حديث رقم(192)، النسائي، 1/108.
([172]) مسلم، حديث رقم (360)، وأحمد بن حنبل، 5/106.
([173]) انظر محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار، 1/202-203.
([174]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص74،75،76.
([175]) المرجع نفسه، ص80.
([176]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص80.
([177]) محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار، 1/265.
([178]) المرجع نفسه، ص266.
([179]) محمد بن علي الشوكاني، السبيل الجرار، 1/69-70.
([180]) المرجع نفسه، 1/70.
([181]) المرجع نفسه، 4/124.
([182]) محمد علي الشوكاني، أدب الطلب، ص198.
([183]) المرجع السابق، ص203.
([184]) المرجع السابق، ص201.
([185]) انظر: المرجع السابق، ص200ـ202 .
([186]) المرجع السابق، ص203.
([187]) محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار، 1/25.
([188]) المرجع نفسه، 8/238.
([189]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب ومنتهى الأرب، ص186.
([190]) المرجع نفسه، ص189.(1/9)
الفصل الرابع
مظاهر التجديد الفقهي عند الشوكاني
تمهيد
لقد تجلى التجديد الفقهي عند الإمام الشوكاني، الذي بني على ثلاثة أسس منهجية: تحريم التقليد والدعوة إلى الاجتهاد، وتحقيق علم أصول الفقه، وتحديد منهجية الدراسات الفقهية، في مظاهر ثلاثة أساسية، شملت أهم عناصر المنظومة الفقهية.
وقد تمثلت هذه المظاهر في:
- ضبط مقومات البحث الفقهي؛
- التجديد في الموضوع الفقهي؛
- تجديد الفكر التربوي الفقهي.
وسيسلط الضوء في هذا الفصل على هذه المظاهر، وبيان أهميتها في بناء نموذج التجديد الفقهي عند الإمام الشوكاني.(1/10)
الفصل الرابع
المبحث الأول: ضبط مقومات البحث الفقهي
لقد أثر التقليد على بنية البحث الفقهي، حيث أصبح الانتماء المذهبي يحكم مقدمات البحث، ونتائجه، الأمر الذي أفقد البحث الفقهي القدرة على اجتهاد جديد أو مستقل، وحصره في دائرة تقرير الموروث والدفاع عنه. وقد وصف الشوكاني هذا الوضع فقال:
«فإن في علماء المذاهب الأربعة من هو أوسع علماً، أو أعلا قدراً من إمامه الذي ينتمي إليه، ويقف عند رأيه، ويقتدي بما قاله في عبادته، ومعاملته، وفي فتاواه وفضائله، ويسري ذلك إلى مصنفاته، فيرجح فيها ما يرجحه إمامه، وإن كان دليله ضعيفاً، أو موضوعاً، أو لا دليل بيده أصلاً، بل مجرّد محض الرأي، ويدفع من الأدلة المخالفة له ما هو أوضح من شمس النهار؛ تارة بالتأويل المتعسف، وحيناً بالزور الملفق»([1]).
من هنا اقتضت النهضة الفقهية في نظر الشوكاني تحرير العقل الفقهي من القيود التي ضربت عليه، وتزويده بآليات جديدة للبحث تعصمه من التعصب وتقيمه على مبدأ الإنصاف والموضوعية.
وعلى هذا الأساس جاء كلام الشوكاني في هذا المحور تأكيداً على مظاهر الإنصاف، ونتائجه العلمية والمنهجية والتربوية، فبيّن أن من مقتضيات البحث الفقهي التي تحقق الإنصاف ما يأتي:
المطلب الأول: الاحتكام إلى الدليل:
إن انقطاع العقل الفقهي في عصور التقليد عن مصادر التشريع الأصلية (الكتاب والسنة)، وإنزال أقوال أئمة المذهب منزلة النص الشرعي جعل البحث الفقهي يقوم على مقدمات جاهزة دون تمحيص لها ولا تحقيق.. وهذا الأمر جعل الإمام الشوكاني يعد من مقوّمات البحث العلمي، قيامه على مقدمات ونتائج يسندها الدليل الصحيح. حيث قال: «فالمعيار الذي لا يزيغ، أن يكون طالب العلم مع الدليل في جميع موارده ومصادره، لا يثنيه عنه شيء، ولا يحول بينه وبينه حائل ...»([2]).
المطلب الثاني: ضبط منهج التعامل مع التراث الفقهي:
لقد سعى الشوكاني، أثناء ضبطه لمقومات البحث الفقهي، إلى تحديد معالم منهج التعامل مع التراث الفقهي، فلخصه في مبادئ ثلاثة:
المبدأ الأول: عدم اتخاذ اجتهادات العلماء حجة شرعية. ذلك أن تحيّز المذاهب داخل أطرها الخاصة أفرز اعتقاداً معيّناً، وهو أن ما صدر عن رجال المذهب السابقين صحيح مطلق الصحة وصالح عبر الزمان والمكان، ولا يمكن إخضاعه لأي تطوير، أو تعديل، أو إضافة. وهذا الاعتقاد صيّر آراء أئمة المذاهب حجة في ذاتها، وأكسبها موقع الدليل الشرعي في البحث الفقهي، واعتبرت محاولة إخضاعها للاختبار والتحقيق طعناً في شخصية الأئمة العلمية، وخدشاً في سمعة الباحث، وتشكيكاً في انتمائه المذهبي. وقد سعى الشوكاني إلى تفنيد هذه القناعات، وإثبات مخالفتها لأسس التديّن، وقوانين البحث العلمي. هذه الأسس وتلك القوانين التي تقتضي كما قال:
«أن تكون منصفاً لا متعصباً في شيء من هذه الشريعة لعالم من علماء الإسلام، بأن تجعل ما يصدر عنه من الرأي، ويروى له من الاجتهاد حجة عليك، وعلى سائر العباد، فإنك إن فعلت ذلك كنت قد جعلته شارعاً لا مشرّعاً، مُكلِّفاً لا مُكلَّفاً، ومتعبَّداً لا متعبِّداً... فإنه وإن فضلك بنوع من أنواع العلم، وفاق عليك بمدرك من مدارك الفهم، فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكوماً عليه متعبداً بما أنت متعبد، فضلاً عن أن يرتفع عن هذه الدرجة إلى درجة يكون رأيه فيها حجة على العباد، واجتهاده لازماً لهم، بل الواجب عليك أن تعترف له بالسبق، وتقر له بعلو الدرجة اللائقة به في العلم، معتقداً أن ذلك الاجتهاد الذي اجتهده.. هو الذي لا يجب عليه غيره، ولا يلزمه سواه، لما ثبت في الصحيح عنه e من طرق أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»([3]).
كما رفض في ذات السياق اعتقاد أن الأئمة باجتهادهم قد كفوا من جاء بعدهم مؤونة الاجتهاد، بل الأصل الجد والاجتهاد لبلوغ مكانتهم العلمية فقال: «وليس لك أن تعتقد أن صوابه صواب لك، أو خطأه خطأ عليك، بل عليك أن توطن نفسك على الجد والاجتهاد، والبحث بما يدخل تحت طوقك، وتحيط به قدرتك، حتى تبلغ إلى ما بلغ إليه من أخذ الأحكام الشرعية من ذلك المعدن الذي لا معدن سواه، والموطن الذي هو أول الفكر وآخر العمل. فإن ظفرت به فقد تدرجت من هذه البداية إلى تلك النهاية، وإن قصرت عنه لم تكن ملوماً بعد أن قررت عند نفسك، وأثبت في تصورك أنه لا حجة إلاّ لله، ولا حكم إلاّ منه، ولا شرع إلا ما شرعه، وأن اجتهادات المجتهدين ليست بحجة على أحد، بل هي مختصة بمن صدرت عنه لا تتعداه إلى غيره، ولا يجوز له أن يحمل عليها أحداً من عباد الله. ولا يحل لغيره أن يقبلها عنه، أو يجعلها حجة عليه يدين الله بها، فإن هذا شيء لم يأذن الله به، وأمر لم يسوغه لأحد من عباده»([4]).
المبدأ الثاني: إعمال النظر المستقل في دراسة التراث الفقهي، وهذا يعني عدم رفض أو قبول ما استقر فيه من آراء، لا لصحتها أو عدم سلامتها في ذاتها، بل لمكانة القائلين بها، وهو ما لخصه في قوله: «ومن حق الإنصاف ولازم الاجتهاد أن لا يحسن الظن، أو يسيئه بفرد من أفراد أهل العلم، على وجه يوجب قبول ما جاء به، أورده من غير إعمال فكر، وإمعان نظر، وكشف وبحث، فإن هذا شأن المقلدين، وصنيع المتعصبين، وإن غرته نفسه بأنه من المنصفين»([5]).
المبدأ الثالث: عدم اعتبار الكثرة مقياساً للصحة. وفيه قال:
«وأن لا يغتر بالكثرة، فإن المجتهد هو الذي لا ينظر إلى من قال، بل إلى ما قال، فإن وجد نفسه تنازعه إلى الدخول في قول الأكثرين، والخروج عن قول الأقلين، أو إلى متابعة من له جلالة قدر، ونبالة ذكر، وسعة دائرة علم، لا لأمر سوى ذلك، فليعلم أنه قد بقي فيه عرق من عروق العصبية، وشعبة من شعب التقليد، وأنه لم يوف الاجتهاد حقه»([6]).
المطلب الثالث: أخذ كل فن من الفنون عن أهله:
من مقتضيات البحث الفقهي السليم عند الشوكاني: أخذ كل فن من الفنون عن أهله، ذلك أن أخذ العلوم عن غير أهلها مخالف لمقتضيات الإنصاف، وهو ما أوضحه بقوله: «لأن إنصاف الرجال لا يتم حتى يؤخذ كل فن عن أهله، كائناً من كان، فإنه لو ذهب العالم الذي قد تأهل للاجتهاد يأخذ مثلاً الحديث عن أهله، ثم يريد أن يأخذ ما يتعلق بتفسيره في اللغة عنهم، كان مخطئاً في أخذ المدلول اللغوي عنهم، وهكذا أخذ المعنى الإعرابي عنهم، فإنه خطأ، بل يأخذ الحديث عن أئمته بعد أن يكشف عن سنده، وحال رواته، ثم إذا احتاج إلى معرفة ما يتعلق بذلك الحديث من الغريب رجع إلى الكتب المدونة في غريب الحديث، وكذا سائر كتب اللغة المدونة في الغريب وغيره. وإذا احتاج إلى معرفة بنية كلماته رجع إلى علم الصرف، وإذا احتاج إلى معرفة إعراب أواخر كلمة رجع إلى علم النحو، وإذا أراد الإطلاع على ما في الحديث من دقائق العربية وأسرارها رجع إلى علم المعاني والبيان. وإذا أراد أن يسلك طريقة الجمع والترجيح بينه وبين غيره رجع إلى علم أصول الفقه. فالعالم إذا صنع ظفر بالحق من أبوابه، ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه، وأما من أخذ العلم عن غير أهله، ورجح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها، وأعرض عن كلام أهلها، فإنه يخبط ويخلط، ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإنصاف»([7]).
المطلب الرابع: التحقيق في بعض القواعد المقررة في الفقه وأصوله:
لقد تضمن التراث الإسلامي في نظر الإمام الشوكاني قواعد لا مستند لها من اللغة أو الشرع، ولكن شيوعها بين العلماء جعلها ترتقي إلى درجة القطعية، وتصبح قانوناً تعرض عليه نصوص الكتاب والسنة. وفي بيان ذلك قال: «ومن جملة أسباب التعصب التي لا يشعر بها كثير من المشتغلين بالعلوم، ما ذكره كثير من المصنفين من أنه يردّ ما خالف القواعد المقررة. فإن من لا عناية له بالبحث يسمع هذه المقالة ويرى ما صنعه كثير من المصنفين من ردّ الأدلة من الكتاب والسنة إذا خالفت تلك القاعدة، فيظن أنها في اللوح المحفوظ. فإذا كشفها وجدها في الغالب كلمة تكلم بها بعض من يعتقده الناس من أهل العلم الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، لا مستند لها إلاّ محض الرأي وبحت ما يُدعى من دلالة العقل»([8]).
من هنا عدّ الشوكاني من مقومات البحث الفقهي الموضوعي الكشف عن مثل هذه القواعد في علم الفقه وأصوله، وبيان ضعفها، وعدم صحة التمسك بها في إنشاء الأحكام، حيث قال:
«وهكذا نجد في علم أصول الفقه قاعدة قد أخذها الآخر عن الأول، وتلقنها الخلف عن السلف، وبنوا عليها القناطر، وجعلوها إماماً لأدلة الكتاب والسنة، يجيزون ما أجازته ويردون ما ردته، وليست من قواعد اللغة الكلية، ولا من القوانين الشرعية، بل لا مستند لها إلا الخيال المختل، والظن الفاسد والرأي البحت... كاستدلالهم بمثل: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة"، وبمثل: "نحن نحكم بالظاهر".. فالمغرور من يرقى بها من كونها موضوعة إلى كونها صحيحة، ثم من كونها صحيحة إلى كونها قطعية، وهكذا ما وقع في كثير من أبواب الفقه... من ذكر قواعد يطردونها في جميع المسائل، ويظنون أنها من قواعد الشرع الثابتة بقطعيات الشريعة، ومن كشف عن ذلك وجد أكثرها مبنياً على محض الرأي الذي ليس عليه أثارة من علم، ولا يرجع إلى شيء من الشرع»([9]).
وبعد هذا الوصف قرر الشوكاني وجوب التحقيق في مثل هذه القواعد وعدم اتخاذها مسلمات تنبني عليها مقدمات البحث ونتائجه، فقال: «فعلى من أراد الوصول إلى الحق، والتمسك بشعار الإنصاف أن يكشف عن هذه الأمور، فإنه إذا فعل ذلك.. لم يحل بينه وبين الحق ما ليس من الحق»([10]).
المطلب الخامس: مراجعة قواعد الجرح والتعديل:
يرى الإمام الشوكاني أن من الأسباب المانعة من التزام الإنصاف في الدراسات الفقهية «التقليد في علم الجرح والتعديل لمن فيه عصبية من المصنفين فيه»([11]) والسبب في ذلك أنه كما قال: «إذا تصدى لذلك (أي للجرح والتعديل) بعض المصابين بالتقليد كان العدل عنده من يوافقه في مذهبه الذي يعتقده، والمجروح من خالفه كائناً من كان»([12]). وقد دعا الشوكاني من خفي عليه هذا الأمر أن ينظر في مصنفات الحفاظ بعد انتشار المذاهب، وتقيّد الناس بها، وكذا في كتب المؤرخين فيلاحظ بوضوح أن «الموافقة في المذهب حاملة على ترك التعرض لموجبات الجرح، وكتم الأسباب المقتضية لذلك. فإن وقع التعرض لشيء منها نادراً أكثر المصنف من التأويلات الموجبة لدفع ذلك الجارح خارجاً. وإن كان الكلام على أحوال المخالفات كان الأمر بالعكس من ذلك»([13]).
وأوضح الشوكاني أن كلامه هذا لا يجب أن يفهم منه أنه يتهم علماء الجرح والتعديل بالكذب المتعمد، وإنما هو أثر من آثار التقليد على العلوم والمعارف، فقال: «ولا أقول إنهم يتعمدون الكذب ويكتمون الحق، فهم أعلى قدراً وأشد تورعاً من ذلك، ولكن رسخ في قلوبهم حب مذاهبهم فأحسنوا الظن بأهلها، فتسبب عن ذلك ما ذكرنا، ولم يشعروا بأن هذا الصنيع من أشد التعصب، وأقبح الظلم، بل ظنوا أن ذلك من نصرة الدين، ورفع منار المحقين، ووضع أمر المبطلين، غفلة منهم وتقليداً»([14]).
من هنا اعتبر الشوكاني من مقتضيات الإنصاف في البحث الفقهي، مراجعة قواعد الجرح والتعديل بعد انتشار المذاهب واستفحال التقليد، وذلك بالتزام قواعد جديدة في عمليتي الجرح والتعديل تضمن موضوعية الحكم، قواعد ينبغي التعويل فيها -كما قال- على:
«أن القادح إن كان يرجع إلى أثر يتعلق بالرواية كالكذب فيها، وضعف الحفظ، والمجازفة، فهذا هو القادح المعتبر، وإن كان يرجع إلى شيء آخر فلا اعتداد به. وإن كان المتكلم متلبساً بشيء من هذه المذاهب، فهو مقبول في جرح من يجرحه من الموافقين له، وتزكية من يزكيه من المخالفين له، وأما ما جاء بما يقتضي تعديل الموافق وجرح المخالف، فهذا مما ينبغي التوقف فيه، حتى يعرف من طريق غيره أو يشتهر اشتهاراً يقبله سامعه»([15]).
المطلب السادس: مراعاة الدلائل والكليات العامة:
من مقومات البحث الفقهي عند الإمام الشوكاني مراعاة الدلائل والكليات العامة، كونها ضوابط تضمن الاستنباط الموضوعي للأحكام، وتعصم الباحث من النظر الجزئي، وتزوده بمقاييس دقيقة لتقييم الآراء المطروحة في الموضوع، واختبار مدى صحتها من خلال وضعها في إطار كلّي، وبيان مدى توافقها معه([16]).
المطلب السابع: أخذ الأدلة الشرعية من مواطنها:
يرى الإمام الشوكاني أن أخذ أدلة الموضوع محلّ البحث من كتب الفقه المذهبي نقيصة من نقائص البحث الفقهي، ذلك أن الانتماء المذهبي سيوجه لا محالة عرض مؤلفي هذه الكتب، ومناقشتهم، وترجيحهم لأدلة الموضوع، وهذه النقيصة في نظر الإمام الشوكاني مما يخل بالإنصاف لأنه، كما قال: «من أسباب الوقوع في غير الإنصاف أن يأخذ طالب الحق أدلة المسائل من مجاميع الفقه التي يعزى مؤلفها إلى مذهب من المذاهب، فإن من كان كذلك يبالغ في إيراد أدلة مذهبه، ويطيل ذيل الكلام عليها، ويصرّح تارة بأنها أدلة، وتارة بأنها حجج، وتارة بأنها صحيحة، ثم يطفف لخصمه المخالف فيورد أدلته بصيغة التمريض، ويعنونها بلفظ الشبه، وما يؤدي هذا المعنى»([17]).
والإنصاف في نظر الشوكاني يقتضي استقاء الأدلة من مظانها، لأنه كما أضاف: «إذا اقتصر طالب الحق على النظر في مثل هذه المؤلفات وقع في الباطل وهو يظنه الحق، وخالف الحق وهو يظنه الباطل، والذي أوقعه في ذلك اقتصاره في البحث والنظر على ذلك الكتاب الذي ألفه ذلك المتعصب، وإحسان الظن به...»([18]).
وخلاصة القول فيما يخص ضبط الإمام الشوكاني لمقومات البحث الفقهي: إنه سعى من خلال تلك المقومات السبعة إلى تأطير دقيق ومنضبط لمنهج البحث الفقهي ليعصم البحث والباحث من الزلل.
ولقد لخص الإمام الشوكاني هذه المقومات في كلمات موجزة، عبّرت بدقة عن منهج التجديد الفقهي عنده وعن مواصفات الشخصية التجديدية، فقال:
«وبالجملة، فالمجتهد على التحقيق، هو من يأخذ الأدلة الشرعية من مواطنها، على الوجه الذي قدمناه، ويفرض نفسه موجوداً في زمن النبوة، وعند نزول الوحي، وإن كان في آخر الزمان، وكأنه لم يسبقه عالم، ولا تقدمه مجتهد. فإن الخطابات الشرعية تتناوله كما تناولت الصحابة، من غير فرق، وحينئذٍ يهون الخطب، وتذهب الروعة التي نزلت بقلبه من الجمهور، وتزول الهيبة التي تداخل قلوب المقصرين»([19]).
-----------------------------------------
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب ومنتهى الأرب، ص104.
([2]) المرجع نفسه، ص91.
([3]) المرجع نفسه، ص32-33، والحديث متفق عليه من حديث عمر بن العاص بلفظ "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد" انظر: محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ص195، رقم1118.
([4]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب و منتهى الأرب ، ص33-34.
([5]) المرجع نفسه، ص154.
([6]) نفسه.
([7]) المرجع نفسه، ص76.
([8]) المرجع نفسه، ص112.
([9]) المرجع نفسه، ص113.
([10]) المرجع نفسه، ص113.
([11]) المرجع نفسه، ص116.
([12]) نفسه.
([13]) نفسه.
([14]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
([15]) المرجع نفسه، ص117.
([16]) المرجع نفسه، ص189ـ192.
([17]) المرجع نفسه، ص114.
([18]) المرجع نفسه، ص114- 115.
([19]) المرجع نفسه، ص154- 155.(1/11)
الفصل الرابع
المبحث الثاني: التجديد في الموضوع الفقهي
لقد كان لاستحكام التقليد، وظهور دعوى غلق باب الاجتهاد الأثر البالغ في حركة نمو الفقه الإسلامي عموماً، لكن درجة التأثير اختلفت باختلاف الموضوعات الفقهية. فقد استمر فقه الفرد - عبادات، معاملات- على ما أصابه من جمود ضمن الممارسة اليومية للمسلمين، واستمر الوعي به، وتدريسه للمتعلمين، في حين أن فقه الدولة (اقتصاد، وسياسة، وإدارة... إلخ) ضعف وعي المسلمين به، وكان له شبه اختفاء في المناهج الدراسية([20])، وأصبحت تصورات كثير من العلماء في عصر الإمام الشوكاني يحكمها إما: تبرير الواقع والخضوع له، أو رفضه واعتزاله.
أما الإمام الشوكاني، فإن ممارسته للعمل السياسي، وتوليه لمنصب القضاء العام، منحاه فرصة المشاركة في تخطيط وتنفيذ برامج الدولة السياسية، والاقتصادية، والإدارية، والاجتماعية، الأمر الذي جعل فكره الفقهي يتفتح على قضايا المجتمع العامة، ومن ثمَّ ينعكس على إنتاجه الفقهي الذي لم يتوقف عند حدّ حفظ وشرح التراث السياسي والاقتصادي الموروث، بل تعداه إلى صياغة برامج ميدانية إصلاحية تسير على أساسها شؤون الدولة العامة.. وهذا البعد الجديد الذي أعطاه الشوكاني لفقهه جعله ينتقل من فقه الكتب إلى فقه البرامج والمؤسسات.
المطلب الأول: الفقه السياسي:
ففي الفقه السياسي، تعرض الشوكاني في رسائل مختلفة لقضايا سياسية هامة أفرزتها طبيعة نظام الحكم السائد في البلاد الإسلامية، وما ترتّب عليه من قناعات ومواقف سياسية ميّزت الفكر السياسي في عصره مثل: مبدأ فصل الدين عن الدولة، مبدأ الصلة بالحكام، عوامل الاستقرار السياسي.
هذه الموضوعات وغيرها، مثلت منطلق الإصلاح السياسي عند الشوكاني، ذلك لأن الوصول إلى تصور شرعي فيها سيساهم إلى حدّ كبير في تصحيح المفاهيم الخاطئة التي أنتجتها النظرة الجزئية للدين الإسلامي، والتدين به في عصور الانحطاط، والتأكيد على البعد الشمولي للإسلام، وأنه نظام حياة لا ينحصر في علاقة الإنسان بربه فقط.
أما مبدأ فصل الدين عن الدولة، فقد اهتم الشوكاني ببيان جذوره التاريخية، ونتائج تطبيقه في المجتمع الإسلامي؛ لأنه صار العقيدة السياسية لكثير من أنظمة الحكم في العالم الإسلامي. فأعاد جذوره إلى جينكزخان (548 - 624هـ) ملك التتار الذي شرّع مجموعة من القوانين الوضعية الخاصة بمراسيم الملوك والرعية، وفرضها على رعاياه من المسلمين، وسار على هذا النهج أولاده من بعده. ولما أسلم بعض حفدته، وبقي فيهم الملك في أرض الإسلام، التزموا العمل بهذه القوانين في الأمور المتعلقة بالملك مع إسلامهم، فرسخ هذا المبدأ في البلاد الإسلامية، وبلور مفاهيم خاطئة اتخذها الحكام مبرراً للتمسك بهذا المبدأ، مثل: أن الملك لا يصلح بالتدبيرات الشرعية، ولا يقوم بغير تلك القوانين الوضعية([21]).
وأما مبدأ الصلة بالحكام، فقد رفض الشوكاني اعتزال العلماء للمناصب، لأن زهدهم في مراكز التغيير في المجتمع والدولة يؤدي إلى زيادة ابتعادها عن تعاليم الإسلام، ورأى في المقابل أن اشتغال رجال العلم في أجهزة الحكم والدولة يعد وسيلة هامة لتحقيق العدل، وترشيد الحكام، وتخفيف ظلمهم. ومما قاله في هذا الشأن:
«ولا يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة الملوك، لتعطلت الشريعة المطهرة، لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية، من ديانة ومعاملة، وعم الجهل وطمّ، وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهاراً، ولا سيما من الملك وخاصته وأتباعه»([22]).
وخالف الشوكاني أولئك الذين يجعلون من شيوع المنكرات ذريعة لاعتزال مراكز التغيير في المجتمع والدولة، ورد استدلالهم القائم على سد الذرائع باستدلال منطقي عقلي فحواه أن وجود المنكرات أمر ملازم لكل دولة مسلمة تلت فترة الخلافة الرائدة، حيث أصبح نظام الحكم ملكياً([23]).واقترح دراسة إشكالية الصلة بالحكام في ضوء مقاصد الشريعة، وقواعدها العامة، كقاعدة دفع الضرر الأعلى بالضرر الأدنى،حيث قال:
«فالمتصل بهم من أهل المناصب الدينية قد يغضي في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات لا لرضى، بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم منه، ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشدد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدون، لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع»([24]).
كما وضع الشوكاني ضابطاً هاماً في الاتصال بالحكام، وهو عدم تبرير ظلمهم وعدم المشاركة في تنفيذه فقال:
«لكن هذا المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم، بل ليفتي بين الناس بحكم الله، فإن كان الأمر هكذا، فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته لم يكن على هؤلاء من ظلمه شيء، إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم، ولو أقل قليل وأحقر حقير، كان مع ما هو فيه من المنصب مأجور أبلغ أجر، لأنه قد صار مع منصبه في حكم من يطلب الحق، ويكره الباطل، ويسعى بما تبلغ إليه طاقته في دفعه، ولم يعنه على ظلمه، ولا سعى في تقرير ما هو عليه أو تحسينه، أو إيراد الشبه في تجويزه، فإن أدخل نفسه في شيء من هذه الأمور فهو في عداد الظلمة»([25]).
فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم في نظر الشوكاني يضبطها فقه الأولويات، والموازنات، القائم على معرفة الضرر الأكبر والأخف. لكن إدراكاً منه أن مبدأ عزلة المناصب والحكام صار قناعة فقهية عامة في المجتمع الإسلامي بأسره، أكد الإمام الشوكاني ضرورة تحرر العلماء من ضغط الواقع، وعدم تأثرهم بالأحكام الظالمة التي قد يصدرها المجتمع عليهم من جراء اتصالهم بالحكام، التي مرجعها في الأساس إلى الجهل بقواعد الضرر والمصلحة في الشريعة الإسلامية([26]).
ومن الموضوعات التي تضمنها فقه الشوكاني السياسي موضوع الاستقرار السياسي، ولعل اهتمامه بهذه الإشكالية كان نتيجة معايشته استفحال الصراع السياسي في البلاد الإسلامية عامة، واليمن خاصة، فحدّد الشوكاني عوامل ثلاثة أساسية للاستقرار السياسي وهي: القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية والمناصب الدينية([27])، باعتبارها مصدر المشروعية للنظام الحاكم، والمنفذ الأساس لأهل العلم في إصلاح الراعي والرعية.
المطلب الثاني: الفقه الاقتصادي:
أما في الفقه الاقتصادي، فقد عالج الشوكاني السياسة المالية التي قام عليها اقتصاد اليمن، لاسيما في فترة الأزمات الاقتصادية التي حدثت بسبب فساد الإدارة والفتن الداخلية والحروب مع الدول المجاورة، وهي فرض ضرائب كثيرة ومختلفة، بمباركة وفتوى شرعية من بعض العلماء، بحجة أن « الدولة لا تقوم إلا بذلك، ولا تتّم إلا بما جرت به العادة من الجبايات، ونحوها»([28])، الأمر الذي أثّر سلباً على مستوى الشعب المعيشي.
وقد رفض الشوكاني هذه الضرائب، والجبايات - غير الزكاة وما أوجبه الشرع الحنيف- وما فتئ، باعتباره كاتب الخليفة وقاضي القضاة، ينصح الإمام منصور علي بن العباس الذي تبنى سياسة التعسّف في الضرائب بأن العدل في الرعية يقتضي عدم مطالبتهم إلا بما أوجبه الله تعالى، وقد كان أن قبل المنصور نصيحة الشوكاني، وكلّفه بكتابة مرسوم إلى جميع الرعايا يتضمن إصلاحات اقتصادية([29]). فكتب الإمام الشوكاني مرسوماً([30]) نصّ فيه على «أن جميع رعاياه (رعايا الخليفة) في جميع الأقطار، وكل ما شملته دولته المباركة في الأنجاد والأغوار ليس عليهم من المطلب، إلاّ ما أثبته الشرع الشريف في جميع ما يملكونه، كائناً ما كان، مما فيه حق لله عزّ وجلّ، لا يخاطبون بغير ذلك»([31]).
ولم يقف الشوكاني عند حدّ ضمان الملكية الخاصة، بل أثبت حق الدفاع عنها فقال: «فمن طلب نقيراً أو قطميراً زائداً على ما أوجبه الله تعالى فلا طاعة له، وعلى المسلمين أن يأخذوا على يده، وينعوا أمره إلى القاضي في الجهة، وعلى القاضي أن ينهي ذلك إلى الحضرة الإمامية حتى يناله من العقوبة ما يزجر به من رام أن يفعل كفعله»([32]).
وأكثر من ذلك فقد هدّد القضاة بالعزل إذا تهاونوا في تطبيق هذا المرسوم، فقال: «وإذا داهن القاضي ظالماً أو حابى رجلاً رام غير ما فرضه الله، فقد استحق أن يعزل عن هذه الوظيفة الدينية، فليس بمستحق لها ولا مأمون عليها»([33]).. كما أمر بتعميم هذا المنشور ونشره في سائر البلاد، فقال: «وعلى كل حاكم أن يقرأ هذا على رعية القطر الذي هو فيه ويجمعهم، وينقل لأهل كل قرية صورة بخطه وعلامته ليبقى بأيديهم مستمراً يدفعون به ظلم كل ظالم وجور كل جائر»([34]).
وإدراكاً منه للعلاقة الجدلية بين تفشي الجهل ومزاولة الظلم على الرعية، أمر الشوكاني حكام الجهات بتعيين معلّمين يعلّمون الناس معالم دينهم([35]).
والجدير بالذكر في هذا المقام، أن موقف الشوكاني الذي تضمّنه هذا المرسوم لم يكن علاجاً جزئياً لظاهرة التعسف في الضرائب، بل كان اجتهاداً فقهياً أصيلاً هدفه تصويب السياسية الاقتصادية الجائرة، وما تخلفه من ظلم اجتماعي لقيامها على نهب واستنزاف المواطنين، بحجة مصلحة الوطن والجهاد في سبيل الله، وهو ما جعله يؤلف في هذا الموضوع رسالة "تنبيه الأمثال على عدم وجوب الاستعانة من خالص المال"، كما ناقش الإشكالية ذاتها في كتابه "السيل الجرار"، حيث وافق صاحب الأزهار على جواز الاستعانة بأموال المواطنين بشرط خشية استئصال الكفار لقطر من أقطار المسلمين.
لكنه اشترط شرطاً آخر وهو أن تكون الاستعانة على جهة الاقتراض، واحتج لذلك بقوله: «لأن دفع ما ينوب المسلمين من النوائب يتعيّن إخراجه من بيت مالهم، وهو مقدم على أخذ فاضل أموال الناس، لأن أموالهم خاصة بهم، وبيت المال مشترك بينهم، فإن كان لا يمكن القضاء من بيت المال في المستقبل، فقد حق الوجوب على المسلمين»([36]).
وقد جعل من شرط خشية استئصال قطر من أقطار المسلمين، ضابطاً للتفريق بين ما يباح من الاستعانة بخالص الأموال، وما لا يباح فقال: «وإذا تقرر لك هذا، فاعلم أن هذه الاستعانة المقيّدة بهذه القيود المشروطة باستئصال قطر من أقطار المسلمين، هي غير ما يفعله الملوك في زمانك من أخذ أموال الرعايا زاعمين أن ذلك معونة لجهاد مؤلف، قد منعوه ما هو مؤلف به من بيت مال المسلمين، أو جهاد من أبى من الرعايا أن يسلم ما يطلبونه منه من الظلم البحت الذي لم يوجبه الشرع، أو جهاد من يعارضهم في الإمامة وينازعهم في الزعامة، فاعرف هذا، فإن هذه المسألة قد صارت ذريعة لعلماء السوء يفتون بها من قَرّبهم من الملوك، وأعطاهم نصيبهم من الحطام»([37]).
كما سعى الشوكاني في بعض رسائله إلى ترشيد السياسة الاقتصادية لبلاده من خلال تناوله لبعض القضايا المهمة كدور الدولة في علاج مشكلة البطالة([38])، ومدى تدخل الدولة في توزيع الدخل، إذ بيَّن في رسالته "بلوغ السائل أمانيه بالتكلم في المصارف الثمانية"، أن للدولة صلاحية واسعة في صرف أموال الزكاة بحسب الأولويات التي تقتضيها مصلحة الإسلام وأهله([39]).
وفي موضوع توزيع الزكاة أعطى لمصرف "في سبيل الله" تفسيراً واسعاً لأوجه التوزيع عليه، إذ جعله يشمل كل طريق يوصل إلى الله تعالى ويحقق مصلحة الإسلام والمسلمين وليس فقط الجهاد، فقال: «أقول: سبيل الله، طريق الله المراد هنا الطريق إلى الله عز وجل، لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به (أي المجاهد)، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقاً إلى الله عز وجل، وهذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل عنها شرعاً»([40]).
ومن الفئات التي أدرجها في هذا المصرف العلماء، فقال: «ومن جملة سبيل الله الصرف على العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية، فإن لهم في مال الله نصيباً، سواء كانوا أغنياء، أو فقراء، بل الصرف في هذه الجهة من هذه الأمور، لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين، وبهم تحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام»([41]).
المطلب الثالث: الفقه الإداري والاجتماعي:
أما في المجال الإداري والاجتماعي، فقد ألف الشوكاني رسالة "الدواء العاجل في دفع العدو الصائل"، شخّص من خلالها أدواء المجتمع اليمني التي تمثلت في استفحال الأمية الدينية في المجتمع، وفساد الأجهزة الإدارية لمؤسسات الدولة وهياكلها، وما انجر عنه من تدهور اجتماعي. وقد قسم المجتمع اليمني في دراسته هذه إلى ثلاثة أقسام:
رعايا يأتمرون بأمر الدولة، ورعايا خارجون عن سلطان الدولة، وسكان المدن.. وتشترك هذه الفئات الثلاث في الجهل العام بالشريعة الإسلامية على تفاوت بينها، الأمر الذي أدى إلى ضعف الالتزام الديني، واستفحال الآفات الاجتماعية في أوساط المجتمع اليمني([42]).
كما ناقش في هذه الرسالة نفسها سبب الفساد الإداري ومظاهره، فأكد أن مصدر الخلل هو عدول أولي الأمر عن القيام بوظائفهم الأساسية من حفظ شرع الله، وإقامته بين الناس، واستغلال مناصبهم الإدارية في خدمة أغراضهم الشخصية، وتحسين وضعيتهم المالية حيث قال: «فإن الأمور الشرعية والفرائض الدينية هي التي شرّع الله نصب الأئمة والسلاطين والقضاة لإقامتها، ولم يشرّع نَصْبَ هؤلاء لجمع المال من غير وجهه، ومصادرة الرعايا في أموالهم بإضفاء ما أوجبه الله عليهم»([43]) وبيّن أن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل ولاية قد انحصرت في ثلاثة أشخاص: عامل وكاتب وقاض.
أما العامل فلا عمل له إلا استخراج الأموال من أيدي الرعايا بالحق والباطل، عازف عن واجبه الوظيفي في إقامة الواجبات الدينية، والنهي عن المنكرات الشرعية، بل إن وقوع الرعايا في هذه المعاصي أحب الأشياء إلى العامل، لأنه يفتح له ذلك باب أخذ الأموال. أما الكاتب فهو شريك العامل، إذ ليس له من أمر إلا جمع ديوان يكتب فيه المظالم التي يأخذها العامل من الرعايا. أما القاضي فهو جاهل بالشرع، وبأحكام القضاء، تارك لمستلزمات وظيفته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع الظلم عن الرعية، والأخذ على يد الظالم، همه جمع الأموال من الخصوم والدفاع عن منصبه ببعضها([44]).
ولقد أدى انتشار الأمية الدينية واستفحال الفساد الإداري في مؤسسات الدولة وأجهزتها،كما أكد الشوكاني، إلى صراعات داخلية أدت إلى إزهاق النفوس، وهتك المحارم، وإطاحة المدن، كما تسببت في أزمات اقتصادية حادة أدت إلى ضيق المعاش، وتقطع كثير من أسباب الرزق، وعقر المكاسب حتى ضعفت أموال الناس، وتجاراتهم، ومكاسبهم، وأفضى إلى ذهاب كثير من الأملاك([45]).
وما يميّز دراسة الإمام الشوكاني للوضع الإداري، وما ترتب عليه من آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية، هو ربط كل ذلك بسنن الله الاجتماعية في إنزال العقوبات العامة على الأفراد والمجتمعات من جراء شيوع المعاصي، والمخالفات، وتضييع أولي الأمر لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث قال: «فإنها قد دلت الأدلة القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية أن العقوبة العامة لا تكون إلا بأسباب أعظمها التهاون بالواجبات وعدم اجتناب المقبحات، فإن انضم إلى ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المكلّفين به لا سيما أهل العلم والأمر القادرين على إنفاذ الحق، ودفع الباطل، كانت العقوبة قريبة الحدوث... والحاصل أنه لا فرق بين من فعل المعصية، وبين من رضي بها ولم يفعلها، وبين من لم يرض بها، لكن ترك النهي عنها مع عدم المسقط لذلك عنهم، ومن كان أقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذنبه أشد، وعقوبته أعظم، ومعصيته أفظع»([46]).
ومما حاوله الإمام الشوكاني بعد هذا، هو إعطاء تصور لعلاج هذه الأمراض التي أصابت أنظمة الدولة والمجتمع، وقد أقام تصوره هذا على مبدأين:
المبدأ الأول: إلزامية التعليم: حيث نادى بضرورة « بذل المال في إصلاح الرعايا، وتعليمهم فرائض الإسلام، وإلزامهم بها، والأخذ على الولاة في الأقطار أن يكون معظم سعيهم، وغاية همهم هو دعاء من يتولون عليه من الرعايا إلى ما أوجبه الله عليهم، ونهيهم عما نهاهم عنه»([47])، كما اعتبر من مهمة القضاة تعيين معلم في كل قرية يعلم أهلها فرائض الإسلام، والعلوم على الوجه الشرعي([48]).
المبدأ الثاني: ضبط شروط تولي المناصب العامة لاسيما منصب القضاء فقال: «وانتخاب القضاة في كل قطر أولاً ممن جمع الله لهم بين العلم والعمل، والزهد والورع، ويكونون ثانياً من الباذلين نفوسهم لإصلاح الرعايا وتعليمهم فرائض الله، ودفع المظالم الواردة عليهم، ويقبضون ما أوجب الله عليهم، فإن في ذلك ما هو أنفع من الأشياء التي تؤخذ على وجه الظلم»([49]).
إن الدارس لرسالة "الدواء العاجل في دفع العدو الصائل" يكتشف أن الإمام الشوكاني عالج من خلالها إشكالية متقدمة على زمانه. وهي إشكالية أسس التقدم وأسباب التخلف، إذ عد مبدأ الالتزام الديني، والعدالة، وعدم الاستبداد، شرط في بناء أنظمة الدولة المختلفة (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والإدارية).. وهذه المبادئ ذاتها هي التي تبلورت فيما بعد عند رجالات الإصلاح: الأفغاني، محمد عبده، الكواكبي، وغيرهم، لتكون أسس النهضة الإسلامية الحديثة.
إن تبني الإمام الشوكاني لمبدأ الاجتهاد، وممارسته للوظائف العامة، جعلته يحرص على معالجة مشاكل واقعه الاجتماعي، كالظلم الإداري الناتج عن عبث رجال الجهاز الحاكم، والظلم المالي المتمثل في التعسف في الضرائب، والظلم الاجتماعي كالتحايل على ميراث المرأة باسم الوصايا والنذور وغيرها، كل هذه القضايا جعلت من عنصر الواقع معطى أساسياً في صياغته للأحكام.
-------------------------------------
([19]) المرجع نفسه، ص154- 155.
([20]) انظر: حسن الترابي، "قراءة أصولية في الفقه الإسلامي السياسي"، بحث مقدم ضمن مجلة التجديد التي تصدرها الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، السنة الثانية، العدد الثالث، فبراير 1998، ص76.
([21]) محمد بن علي الشوكاني، عقد الجمان في شأن حدود البلدان (مخطوط)، ص151-152 ، نقلاً بتصرف عن عبد الغني قاسم الشراجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص358-360.
([22]) محمد بن علي الشوكاني، رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين (مخطوط) ص29، نقلاً عن عبد الغني قاسم الشراجي، ص363.
([23]) المرجع نفسه، ص364.
([24]) المرجع نفسه، ص361-362.
([25]) المرجع نفسه، ص361.
([26]) المرجع نفسه، ص362.
([27]) محمد بن علي الشوكاني، ديوان الشوكاني: أسلاك الجوهر، ص 187 ـ 188.
([28]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب و منتهى الأرب ، ص37.
([29]) حسن عبد الله العمري، الإمام الشوكاني رائد عصره، ص120.
([30]) نشر حسن عبد الله العمري الوثيقة التي تضمنت نص المرسوم في كتابه سالف الذكر لأول مرة في قسم الملحقات، ص463ـ466.
([31]) المرجع نفسه، ص464.
([32]) نفسه.
([33]) المرجع نفسه، ص464-465.
([34]) المرجع نفسه، ص465.
([35]) انظر المرجع نفسه، ص466.
([36]) محمد بن علي الشوكاني، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، 4/520.
([37]) نفسه.
([38]) محمد بن علي الشوكاني، أمناء الشريعة، ص207. نقلاً عن عبد الغني قاسم الشراجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص375.
([39]) عبد الغني قاسم الشراجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص380.
([40]) نفسه؛ نقلاً محمد ابن علي الشوكاني، بلوغ السائل أمانيه بالتكلم في المصارف الثمانية (مخطوط) ص7-8.
([41]) محمد بن علي الشوكاني، وبل الغمام (مخطوط) ص130. نقلاً عن: المرجع نفسه، ص381.
([42]) محمد بن علي الشوكاني، الدواء العاجل في دفع العدو الصائل، ص 29-37.
([43]) المرجع نفسه، ص36.
([44]) المرجع نفسه، ص30-33 بتصرف.
([45]) انظر المرجع نفسه، ص28.
([46]) المرجع نفسه، ص27ـ28.
([47]) المرجع نفسه، ص35.
([48]) نفسه.
([49]) نفسه(1/12)
الفصل الرابع
المبحث الثالث: تجديد الفكر التربوي الفقهي
لقد اكتفت المدرسة الفقهية - بجميع مذاهبها - في عصور التقليد بما أنتجه مؤسسو المذاهب، وتلامذتهم، في ميادين العلوم وطرائق التعليم، وصار الاجتهاد فيما انتشر واستقر ابتداعاً وخروجاً عن تعاليم المذهب، الأمر الذي أدى إلى تقوقع الفكر الفقهي داخل الإطار المذهبي، وظهور أخلاقيات غير إسلامية حكمت الحركة العلمية والعلاقات الفكرية والاجتماعية في إطار المدرسة الفقهية كان أهمها: إنكار المذاهب التفاعل مع بعضها بعضاً، ونهي الأتباع عن الإطلاع على ما عند الآخرين، فأصبحت الحركة العلمية بجميع مكوّناتها مجندة لخدمة المذهب المتبع، وصارت الدروس تلقى، والمؤلفات تكتب نصرة للمذاهب المتبعة وتفنيداً للمخالفة. وانعكس هذا الوضع التربوي الذي أنتجه مبدأ التقليد والتعصب المذهبي على التربية الفقهية ومناهجها، وأدى إلى تجاوز كثير من مبادئ التعلم ونظريات التعليم التي بنيت عليها العلوم في القرون الأولى([50]).
وقد دفع هذا الواقع الذي آل إليه الفكر التربوي الفقهي الإمام الشوكاني إلى تأليف كتابه "أدب الطلب ومنتهى الأدب" في مجال التربية والتعليم، بهدف معالجة مضاعفات التقليد والتعصب في الفكر التربوي عموماً، والفقهي على وجه الخصوص، إدراكاً منه أن عقلية التقليد، وما أنتجته من تعصب مذهبي، قد أثرت بل تحكمت في منطق البحث، والتعليم الفقهي، وأن مجرد الدعوة إلى الاجتهاد وتحقيق المنهجية الأصولية لا يكفي لبعث فقه يتعامل مع نصوص الشرع، ويتفاعل مع حاجات المجتمع، بل الأمر يقتضي إضافة حلقة جديدة لحلقات التجديد السابقة، ألا وهي: تجديد الفكر التربوي الفقهي.
وكانت معالجة الإمام الشوكاني لمضاعفات التقليد والتعصب المذهبي في الفكر التربوي الفقهي من زاويتين: الأولى: تجديد مناهج التدريس الفقهي، الثانية: تجديد منهج التأليف الفقهي.
المطلب الأول: تجديد مناهج التدريس الفقهي:
لقد أثّر المفهوم المذهبي للتربية، الذي نشأ في عصور التقليد، على المناهج التربوية ومؤسسات التعليم، الأمر الذي جعل الفكر التربوي الفقهي يقوم عل الخصائص الآتية:
- ابتناء مؤسسات التعليم على مناهج مذهبية الطابع، تلتزم بتعليم مذهب معيّن، رافضة أي تفاعل مع المذاهب الأخرى. وهو ما جعل كل مذهب يحدد تصوراً جزئياً للتربية الفقهية لا يتعدى حدود الإطار المذهبي الذي حصر نفسه فيه.
- ضعف صلة الفقه بالعلوم الشرعية الأخرى، كأصول الفقه، والحديث، وعلم الكلام، وغيرها، مما أفرز التعامل مع القضايا المطروحة بتصور جزئي أوقع الفكر التربوي الإسلامي عموماً في إشكالية التمزق المعرفي الذي كان أحد أسباب جموده.
- قطع الصلة بين الفقه والعلوم العقلية، بسبب رد الفعل السلبي تجاه طغيان التيارات الفلسفية والعقدية، مما أفرز فقدان التوازن بين العلوم الدينية والعلوم الطبيعية، إذ اقتصرت المدارس القائمة على علوم الدين واللغة، ونظرت بارتياب إلى العلوم الطبيعية والدراسات الاجتماعية. ولقد تبنى هذا المفهوم الضيّق لمنهاج التعليم الفقهي الكثير من ممثلي النظرية التربوية الفقهية بعد الإمام أبي حامد الغزالي، وعلى رأسهم الإمام ابن جماعة في كتابه "تذكرة السامع والمتكلم"، إذ حصر التكوين الفقهي في طلب العلوم الشرعية دون غيرها([51]).
- عدم تصنيف طلبة العلم إلى طبقات، وتحديد برنامج كل طبقة، وهو ما تسبب في غياب التحديد العلمي لأهداف العملية التعليمية في مراحل الطلب المختلفة، والاقتصار على بيان الهدف العام للتعلم، وهو إرادة الخير للنفس، والناس، والتعلم من أجل العمل، والتحذير من المقاصد الجانبية التي تصرف طالب العلم عن غايته الأساسية: كجمع المال، والرغبة في الرياسة.
إن هذه الخصائص مجتمعة جعلت الفكر التربوي الفقهي بعد أبي حامد الغزالي يتناول الإنسان الفقيه الذي ينحصر دوره في نشر المذهب، وفي الانحصار داخل بعض العلوم والتفقه فيها([52]).
ولقد أحسن الإمام الشوكاني التعبير عن هذه النقائص التي أصابت مناهج التربية الفقهية في عصور التقليد من خلال وصفه لخريجي هذه المناهج حيث قال: «... عاطل عن كل معقول ومنقول، لم تحظ من علم الفقه الذي ألفه أهل مذهبك إلا بمختصر من المختصرات، فضلاً عن مؤلفات غير أهل مذهبك في الفقه، فضلاً عن المؤلفات في سائر العلوم، فأنت من علامة القيامة، ومن دلائل رفع العلم»([53]).
وقد سعى الإمام جهده في تجديد مناهج التدريس الذي أقامه على أساسين مهمين: التصنيف الطبقي للطلبة مع ضبط برنامج لكل طبقة، وشمولية المنهج الدراسي.
الأساس الأول: التصنيف الطبقي للطلبة وضبط برنامج لكل طبقة:
لقد أقام الإمام الشوكاني العملية التربوية على أساس تصنيف طلبة العلم إلى أربع طبقات بحسب تفاوت هممهم، وتباين مقاصدهم، ثم حدد الأهداف العلمية لكل طبقة، وخصّ الطبقات الثلاث الأولى لدراسة العلم الشرعي() وهي:
أولاً: من قصد «البلوغ إلى مرتبة في الطلب لعلم الشرع، يكون عند تحصيلها إماماً مرجوعاً إليه، مستفاداً منه، مأخوذاً بقوله، مدرساً، مفتياً، مصنفاً»([54]).
ثانياً: من قصد معرفة «ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف، والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره، من دون أن يتصور البلوغ إلى ما تصوره أهل الطبقة الأولى من تعدي فوائد معارفهم إلى غيرهم، والقيام في مقام أكابر الأئمة»([55]).
ثالثاً: من «يرغبون إلى إصلاح ألسنتهم، وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع ... من دون قصد منهم إلى الاستقلال، بل يعزمون على التعويل على السؤال عند عروض التعارض، والاحتياج إلى الترجيح»([56]).
وبناءً على هذا التقسيم الثلاثي لطلبة العلم الشرعي، حدّد الإمام الشوكاني البرنامج الدراسي لكل طبقة، ووسائل تنفيذه، فرتب العلوم حسب التدرج في الطلب، كما عيّن مراجع كل علم، ورتبها حسب مراحل الطلب، مبيّناً القيمة العلمية لكلّ مرجع، وما يتميّز به عن غيره. كما أوضح الأساليب التعليمية المتبعة في تلقي كل علم من العلوم، فقال فيما يخص تلقي علم الحديث ومستويات الأخذ به: «ينبغي لطالب العلم بعد أن يقيم لسانه بما يحتاج إليه من النحو أن يقبل على سماع الكتب التي جمع فيها أهل العلم متون الأحاديث مقطوعة الأسانيد، كجامع الأصول، والمشارق، وكنز العمال، والمنتقى لابن تيمية، وبلوغ المرام لابن حجر، والعمدة. ثم يسمع الكتب التي فيها الأسانيد، كالأمهات الست، ومسند أحمد، وصحيح ابن خزيمة، وابن حبّان، وابن الجارود، وسنن الدارقطني، والبيهقي .. فإذا قضى وطره من سماع كتب المتن والإسناد، اشتغل بشروح هذه المؤلفات، فيسمع منها ما تيسّر له سماعه، ويطالع ما لم يتيسّر له سماعه، ويستكثر من النظر في المؤلفات في علم الجرح والتعديل، بل يتوسع في هذا العلم بكل ممكن وأنفع ما ينتفع به مثل: النبلاء، وتاريخ الإسلام، وتذكرة الحفاظ، والميزان، فإنه يجد في هذه المؤلفات من الاختلاف في المترجم له، وذكر أسباب الجرح والتعديل ما لا يجده في غيرها كتهذيب الكمال وفروعه»([57]).
الأساس الثاني: شمولية المنهج الدراسي:
لقد حصر التقليد حركة العقل الفقهي في أقوال أئمة المذهب المتبع، الأمر الذي أفضى إلى تضييق مساحة المعطيات التي تتأسس عليها المعرفة الفقهية، فأصيب العقل الفقهي بالنظرة الجزئية، لإقصائه من مجال البحث والنظر، المعطيات النصية من الكتاب والسنة، وآراء أئمة المذاهب الأخرى، والعلوم العقلية. وقد انعكس هذا على المنهج الدراسي الذي قام على نوع من الحجر ضرب على عقول طلبة العلم، فحرموا من حقهم الطبيعي في حرية الإطلاع على مختلف المعطيات المعرفية المفيدة في تكوينهم العلمي.
من هنا كان من أهداف الإمام الشوكاني في تجديد مناهج التدريس الفقهي تربية العقل الفقهي على مبدأ الشمولية في سعيه المعرفي، من خلال منهج دراسي يضمن انفتاح الطالب على التراث الفقهي بأكمله، وعلى العلوم العقلية والأدبية.
أما الانفتاح على التراث الفقهي، فقد أكد فيه الإمام الشوكاني على العناصر الآتية:
- الإطلاع على فقه المذاهب كلّها، ذلك أن التفقه على مذهب واحد يثبت للطالب الفقاهة الصورية دون الفقاهة الحقيقية([58]).
- الإطلاع على كتب المحققين الجامعة لآراء وأدلة المذاهب، كمؤلفات ابن المنذر، وابن قدامة، وابن حزم، وابن تيمية، ومن سلك مسالكهم([59])، فإن مثل هذه المؤلفات توسع أفق الطالب العلمي، وتقوي ملكة الاستدلال عنده.
- دراسة مؤلفات أهل الإنصاف، الذين لا يتعصبون لمذهب من المذاهب، ولا يقصدون إلا تقرير الحق، لأنها تنمي ملكة النقد، والقدرة على المقارنة لدى الطالب.. أكد الشوكاني هذا المعنى في قوله: «... ينتفع بها، ويستعين بأهلها، فينظر فيما قد حرروه من الأدلة، وقدروه من المباحث، ويعمل فكره في ذلك، فيأخذ ما يرتضيه ويزيد عليه ما بلغت إليه قدرته، ووصلت إليه ملكته، غير تارك البحث عن تصحيح ما قد صححوه، وتضعيف ما قد ضعفوه على الوجه المعتبر»([60]).
أما الانفتاح على العلوم العقلية والأدبية، فقد أكد الإمام الشوكاني ضرورة إطلاع أهل الطبقة الأولى من الطلبة، على وجه الخصوص، على العلوم العقلية والأدبية، إذ المتصور منهم الإلمام بمختلف العلوم العامة بعد رسوخهم في علوم الشريعة، فقال: «فإذا قدّمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية، فاشتغل بما شئت، واستكثر من الفنون ما أردت، وتبحر في الدقائق ما استطعت»([61]). ولم يحصر هذه العلوم في عدد معين أو أنواع معينة، بل اعتبر أن "العلم بكل فن خير من الجهل به بكثير، ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العليّة والمنزلة الرفيعة"([62]).
ومن العلوم العقلية التي أرشد إلى تعلمها:
- علم المنطق؛ لأن «العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي، يستفيد به الطالب مزيد إدراك، وكمال استعداد عند ورود الحجج العقلية عليه»([63]).
- العلوم التطبيقية؛ لأنها في نظر الشوكاني «من أعظم ما يصقل الأفكار، ويصفي القرائح، ويزيد القلب سروراً، والنفس انشراحاً، كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب»([64]).
وفي إطار دعوته إلى دراسة هذه العلوم، انتقد ظاهرة أفرزها تقوقع المنهج التربوي الفقهي على العلوم الشرعية دون غيرها، وهي التشنيع على بعض العلوم العقلية دون معرفة حقيقتها، معتبراً هذا السلوك مخالفاً لمبدأ الإنصاف، وحطاً من قدر العلم والمعرفة، فقال: «وإني لأعجب من رجل يدّعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم لا يدري به، ولا يعرفه، ولا يعرف موضوعه، ولا غايته، ولا فائدته، ولا يتصوره بوجه من الوجوه. وقد رأينا كثيراً ممن عاصرنا، ورأيناه يشتغل بالعلم، ويصنّف في مسائل الشرع، ويقتدي به بالدليل، فإذا سمع مسألة من فن من الفنون التي لا يعرفها: كعلم المنطق، والكلام، والهيئة، ونحو ذلك، نفر منه طبعه، ونفّر عنه غيره، وهو لا يدري ما تلك المسألة ولا يعقلها قط، ولا يفهم شيئاً منها»([65]).
وأكد الشوكاني أن السلوك العلمي يقتضي السكوت، أو الكف عن ذم أو مدح أي علم من العلوم حتى يتم الوقوف على حقيقته، قائلاً: «... فما أحق من كان هكذا، بالسكوت، والاعتراف بالقصور، والوقوف حيث أوقفه الله، والتمسك في الجواب إذا سئل عن ذلك بقوله: لا أدري، فإن كان ولا بد متكلماً، ومادحاً أو قادحاً، فلا يكون متكلماً بالجهل، وعائباً لما لا يفهمه، بل يقدم بين يدي ذلك، الاشتغال بذلك الفن حتى يعرفه حق المعرفة، ثم يقول بعد ذلك ما شاء»([66]).
ولقد اعتبر الشوكاني هذه العلوم أدوات مفيدة للدفاع عن الحق ولإيصاله للآخرين فقال: «ولقد وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعاً عظيماً، وفائدة جليلة في دفع المبطلين والمتعصبين وأهل الرأي البحت ومن لا اشتغال له بالدليل»([67]). وضرب على ذلك مثالاً بعلم المنطق، وكيف أنه يسهّل إمكانية الدخول في حوار علمي مع أصحاب التخصصات العقلية، ويمكّن من مناقشتهم وإقناعهم بمقتضى منطق تفكيرهم فقال: «فإنه إذا اشتغل من يشتغل منهم بفن من الفنون، كالمشتغلين بعلم المنطق، جعلوا كلامهم ومذكراتهم في قواعد فنهم، ويعتقدون لعدم اشتغالهم بغيره أن من لا يجاريهم في مباحثه ليس من أهل العلم ولا هو معدود منهم، وإن كان بالمحل العالي من علوم الشرع، فحينئذ لا يبالون بمقاله، ويوردون عليه ما لا يدري ما هو، ويسخرون منه، فيكون في ذلك من المهانة على علماء الشريعة ما لا يقدر قدره. وأما إذا كان العالم المتشرع المتصدر للهداية إلى المسالك الشرعية والمناهج الإنصافية عالماً بذلك، فإنه يجري معهم في فنهم فيكبر في عيونهم، ثم يعطف عليهم، فيبين لهم بطلان ما يعتقدونه بمسلك من المسالك التي يعرفونها، فإن ذلك لا يصعب على مثله. ثم بعد ذلك يوضح لهم أدلة الشرع، فيقبلون منه أحسن قبول، ويقتدون به أتم قدوة»([68]).
وبيَّن الشوكاني أن الجهل بهذه العلوم يقطع طريق الصلة بين عالم الشريعة وعلماء التخصصات الأخرى، كما يفوّت على هؤلاء فرص الإطلاع على العلم الشرعي، وهو ما لخصه في قوله: «وأما العالم الذي لا يعرف ما يقولون، فغاية ما يجري بينه وبينهم خصام وسباب ومشاتمة، فهو يرميهم بالاشتغال بالعلوم الكفرية، ولا يدري ما هي تلك العلوم، وهم يرمونه بالبلادة وعدم الفهم، والجهل بعلم العقل، ولا يدرون ما لديه من علم الشرع»([69]).
وإضافة إلى العلوم العقلية، فقد أكد الشوكاني ضرورة إطلاع أهل الطبقة الأولى خاصة على أشعار فحول الشعراء، واستخراج لطائف المعاني منها، فإنه يقتدر بذلك على النظم والتصرف في فنونه، لأن من كان بهذه المنزلة الرفيعة من العلم، ولا يقتدر على النظم كان ذلك خدشة في وجه محاسنه ونقصاً في كماله([70]).
كما حثّ الشوكاني أصحاب هذه الطبقة على النظر في بلاغات أهل الإنشاء المشهورين بالبيان، وفصاحة اللسان لاكتساب القدرة على حسن الإنشاء، والسبب في ذلك كما قال: «.. أنه ينبغي أن يكون كلامه - أي المجتهد - على قدر علمه، وهو إذا لم يمارس جيد النظم والنثر كان كلامه ساقطاً عن درجة الاعتبار عند أهل البلاغة، والعلم شجرة ثمرتها الألفاظ»([71]). كما أن عدم تمكنه من حسن الإنشاء والتعبير يجعله في نظر الشوكاني ضحية من يتقنون التلاعب بالألفاظ والمصطلحات، وهذا ما عبر عنه قائلاً: «وما أقبح بالعالم المتبحر في كل فن أن يتلاعب به في النظم والنثر من لا يجاريه في علم من علومه، ويتضاحك منه من له أدنى إلمام بمستحسن الكلام ورائق النظام»([72]).
إن المستفاد من دعوة الشوكاني إلى التفتح على العلوم العقلية والأدبية أنها أدوات تمكّن الفقيه من اقتحام الساحة الثقافية، والعلمية العامة، وإيصال الخطاب الإسلامي إلى جميع فئات المجتمع، والخروج من دائرة الحديث مع الذات.
المطلب الثاني: التجديد في التأليف الفقهي:
اتجه الفقهاء في الفترة المتأخرة لعصر التقليد - بعد سقوط بغداد- نحو كتابة المتون، وتصنيف المختصرات التي تحتاج إلى شروح وحواشي، وهو عمل افتقد في مجمله عنصر الإبداع والتجديد، لأنه انحصر في إطار المذهبية الضيقة، واهتم بالمباحث الشكلية، والمسائل الافتراضية، والقضايا الفرعية الجدلية على حساب القضايا الجوهرية([73]).وفي خضم هذا الجو الذي حكم حركة التأليف الفقهي اعتُبر الخروج عن نص المتن، أو الشرح، أو الحاشية سلوكاً يطعن في الانتماء المذهبي، بل وحتى العقدي أحيانا.
لكن الإمام الشوكاني شذّ عن هذا النسق برفضه لمبدأ التقليد، وخلعه لرداء المذهبية، فجاءت مؤلفاته الفقهية بمثابة الثورة على التقليد والتعصب، فهو ينطلق في دراساته الفقهية من مبدأ الرجوع المباشر إلى النص الشرعي، والنظر المستقل في الأدلة، فلا يقول في مسألة من الفقه إلا بما أداه إليه الدليل. وقد التزم مبدأ الاستقلالية، وعدم التقليد في كل مؤلفاته الفقهية، حتى أصبحت نموذجاً لفقه الدليل، وقد عبرّ الشوكاني عن هذا المبدأ في مقدمة كتابه "نيل الأوطار" الذي يعد عملاً علمياً موسوعياً في الدراسات الفقهية والحديثية حيث قال: «فدونك يا من لم تذهب ببصر بصيرته أقوال الرجال، ولا تدنست فطرة عرفانه بالقيل والقال، شرحاً يشرح الصدور، ويمشي على سنن الدليل، وإن خالف الجمهور، وإني معترف بأن الخطأ والزلل هما الغالبان على من خلقه الله من عجل، ولكني قد نصرت ما أظنه الحق بمقدار ما بلغت إليه الملكة، ورضت النفس حتى صفت عن قذر التعصب الذي هو بلا ريب الهلكة»([74]).
كما ظهر تطبيقه الجلي لذات المبدأ في كتابه "الدراري المضيئة" الذي دوّن فيه فقهه في جميع الأبواب والأدلة التي بني عليها.
إن رفض الشوكاني لمبدأ التقليد وتبنيه لمبدأ الاجتهاد جعل مؤلفاته الفقهية تتميّز بخصائص انعدمت في أغلب مؤلفات عصور التقليد، لاسيما المتأخرة منها. ولعل أهم تلك الخصائص، هي دراسته الشاملة والمستقصية لمختلف الآراء الفقهية، إذ أنه لم يتقيّد في كتبه بالمذهب الزيدي، ولا بمذاهب أهل السنة الأربعة المشهورة، بل اتخذ كما قال الدكتور عبد الغني قاسم الشراجي «من تراث جميع مذاهب المسلمين بستاناً، أخذ يستأصل منه كل عشب ضار، ويقطف منه كل ما طاب ثمره»([75])، فيذكر آراء وأدلة كل فريق في موضوع البحث ثم يناقشها مناقشة مسهبة تقوم على أساس الفهم الدقيق لأبعاد تلك الآراء واستدلالاتها، لينتهي في الأخير بأسلوب منطقي ومناقشة علمية دقيقة، إلى تحرير الرأي الذي يراه الحق.
وبهذا المنهج الذي سلكه أصبحت الدراسات الفقهية المقارنة نمطاً مميّزاً لمؤلفاته التي عدت فيما بعد من أهم المصادر الموسوعية التي يعوّل عليها في دراسة الفقه المقارن.
والخاصية الأخرى التي امتازت بها مؤلفات الشوكاني هي النقد العلمي للموروث الفقهي، فلم تكن كتبه الفقهية مجرد حواشٍ، أو شروح على الشروح في مذهب من المذاهب، كما هو حال معاصريه في اليمن وخارجه، بل كانت كتبه في هذا المجال اجتهادات انتقادية لا تخضع لأية قوالب مذهبية، وأحسن ما يمثل هذه الميزة كتابه "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار" الذي هو عبارة عن دراسة نقدية لكتاب "الأزهار" المشهور الذي ألفه أحمد بن يحيى المرتضى الملقب بالمهدي (775-840هـ) جمع فيه الفقه الهادوي، واتخذه علماء المذهب، وأتباعه من بعده، أساساً لفقه المذهب، فالتفوا حوله بالاستظهار والشرح والتعليق، حتى أصبح عمدة الهادوية في عباداتهم ومعاملاتهم في اليمن([76]).يضاف إلى ذلك أن التاريخ السياسي لمؤلفه جعله يكتسب نوعاً من القداسة، كما أن تولي أحفاد المؤلف الإمامة جعل الكتاب يمثّل مذهب الدولة([77]).
فلم تمنع كل هذه المعطيات الشوكاني أن يؤلف كتابه السيل الجرار، وينقد الكتاب نقداً لاذعاً في بعض جوانبه، سيما الجانب السياسي.
إن فهم البعد الديني والسياسي لهذا الكتاب في المجتمع اليمني يجعلنا ندرك مدى الشجاعة الأدبية التي اتصف بها الشوكاني، ومكانة الكتاب الذي تناوله بالشرح والنقد. فقد انتقد الإمام الشوكاني من خلال دراسته لكتاب الأزهار الفقه السياسي الذي يقوم عليه نظام الأئمة في اليمن. فناقش المذهب الهادوي في إيجابه الخُمس على صيد البر والبحر، وما يغنم في الحرب والخراج، وما يؤخذ من أهل الذمة، فقال: «والحاصل أن إيجاب الخمس في هذه الأنواع الثلاثة، لم يكن لدليل ولا لرأي مستقيم. وإذا تقرر لك هذا، عرفت أنه لا يجب الخمس إلا في الغنيمة في الكفار، وفي الركاز، وما عدا ذلك فليس إلا مجرد دعاوى لا برهان عليها من معقول ولا منقول»([78]).
كما فنّد ما زعمه الهادوية من أن الأرض التي فتحت بدون قتال ملك للإمام وتورث عنه، واعتبر هذا القول مخالف للآية الكريمة: ((مَّا أَفَاء ?للَّهُ عَلَى? رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ?لْقُرَى? فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَامَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ)) (الحشر:7) لأنه قصر الآية على مصرف من المصارف التي ذكرها الله عزّ وجلّ([79]).
كما انتقد الشوكاني في هذا الكتاب شعارات المذهب الهادوي وأحكامه التي اتخذها العامة والخاصة مقياساً لتمييز الأتباع عن غيرهم، ومثال ذلك: "حي على خير العمل" في الأذان، والجمع بين صلاتي الظهر والعصر وصلاتي المغرب والعشاء بدون عذر، وصيام يوم الشك، وعدم رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واعتبار الرفع عملاً مفسداً للصلاة، وتحريم قول آمين خلف الإمام بعد قراءة الفاتحة، إلى غير ذلك من المسائل.
والحقيقة أن الإمام الشوكاني قد بيّن في كتابه "السيل الجرار" بشكل صريح كيف أن التقليد يكرس استبداد السلطة السياسية، بل ويعطيها المشروعية، وكيف أنه يفقد السلطة العلمية المتبنية له (أي للتقليد) استقلاليتها وفعاليتها في الحياة الدينية، والعلمية، ويجعلها خادمة للنظام الحاكم، ومنافحة عن مشروعيته.
وإضافة إلى الخاصيّتين السابقتين، فقد تميّز إنتاج الشوكاني الفقهي بمعالجة قضايا المجتمع، من خلال رسائل مستقلة مثل رسالة: "الدواء العاجل في دفع العدو الصائل" التي حلّل فيها أدواء المجتمع اليمني الاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية، كما أعطى تصوراً لمعالجتها؛ ورسالة "الاتصال بالسلاطين" التي عالج فيها إشكالية عزوف أهل العلم عن تولي المناصب العامة؛ ورسالة "إنشاءات النساء"([80]) التي ناقش فيها شروط نفاذ تصرفات المرأة المالية في المجتمع اليمني، ذلك أن جهل النساء اليمنيات، لاسيما الساكنات بالبوادي، لموجبات التمليك، وعدم علمهن بالألفاظ الموجبة لانتقال ملكهن إلى «الغير»، كثيراً ما عرضهن للتغرير، من هنا دعا الشوكاني في هذه الرسالة إلى ضرورة مراعاة عنصر الرضا الحقيقي لنفاذ تصرفاتهن، وذلك بهدف الحفاظ على ممتلكاتهن، فلا يستحوذ عليها الآخرون بناء على جهلهن بصيغ التمليك.
-------------------------------------------
([50]) انظر للتوسع: ماجد عرسان الكيلاني، الفكر التربوي عند ابن تيمية، ط2 (المدينة المنورة: مكتبة دار التراث، 1986م) ص216ـ217؛ محمد فاضل الجمالي، نحو البناء التربوي في العالم الإسلامي (تونس: الدار التونسية للنشر، د.ت) ص141.
([51]) ماجد عرسان الكيلاني،الفكر التربوي عند ابن تيمية، ص42،56؛ وعبد الأمير شمس الدين، المذهب التربوي عند ابن جماعة، ط1(بيروت:دار القلم،1984م) ص46.
([52]) المرجع نفسه، ص41-42.
([53]) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب و منتهى الأرب، ص81.
() خصص الشوكاني الطبقة الرابعة لمن يقصد التخصص في علم من العلوم غير الشرعية كالمحاسبة والفلسفة والطب...إلخ.
([54]) المرجع نفسه، ص126.
([55]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
([56]) المرجع نفسه، ص173-174.
([57] ) المرجع نفسه، ص149-150.
([58]) المرجع نفسه، ص183.
([59]) المرجع نفسه، ص153.
([60]) المرجع نفسه، ص154.
([61]) المرجع نفسه، ص157.
([62]) المرجع نفسه، ص156.
([63]) المرجع نفسه، ص143.
([64]) المرجع نفسه، ص156.
([65]) المرجع نفسه، ص157.
([66]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
([67]) المرجع نفسه، ص157.
([68]) المرجع نفسه، ص158.
([69]) نفسه.
([70]) المرجع نفسه، ص155.
([71]) نفسه.
([72]) نفسه.
([73]) انظر: محمد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص117.
([74]) محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار، 1/3.
([75])عبد الغني قاسم الشراجي، الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص209.
([76]) انظر: محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع، 1/122-126.
([77]) انظر: الشوكاني، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ، مقدمة المحقق، محمود إبراهيم زايد، 1/15-11.
([78]) محمد بن علي الشوكاني، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار،2/94.
([79]) المرجع نفسه، ص106ـ108.
([80]) نقل بعض نصوص هذه الرسالة، التي ما تزال مخطوطاً، عبد الغني قاسم الشراجي في كتابه: الإمام الشوكاني حياته وفكره، ص354-355.(1/13)
الفصل الرابع
المبحث الرابع: تقويم عام لنظرية التجديد الفقهي عند الشوكاني »
لقد أدرك الإمام الشوكاني الأزمة الحضارية التي كانت تعانيها الأمة الإسلامية في عصره، كما أدرك أن مكمن الداء هو غلق باب الاجتهاد والحكم بوجوب تقليد المذاهب المستقرة في الأمة الإسلامية، فأصبح بذلك الاجتهاد أمراً منكراً، والتقليد أمراً واجباً. إن التزام السواد الأعظم للأمة بهذا الحكم الفقهي - وجوب التقليد- واقتناعه بدعوى استحالة الاجتهاد، جعل مبدأ التقليد هو الأصل في المنظومة المعرفية الإسلامية، وقد أثرت هذه القناعة على البنية النفسية والعقلية والاجتماعية للأمة الإسلامية، وغابت بسبب ذلك القيم العلمية التي بنيت عليها العلوم في القرون الثلاثة الأولى، كالاستقلال الفكري، وحرية الرأي، وتسرّب الجمود والركود في جوانب الحياة كلها.
ففي الجانب التشريعي، انحصر نشاط الفقهاء في خدمة المذهب الفقهي، عن طريق تعليل الأحكام التي قررها الأئمة المجتهدون، وتطبيقها على الحوادث المستجدة، فأصبحت نصوص إمام المذهب المصدر الأول والأساس في استنباط الأحكام، وأقيم بذلك سد بين الأمة وبين نصوص الكتاب والسنة.
وفي الجانب العقدي، أصبح الخروج عن المذهب أمراً يخدش في الانتماء العقدي، ويعد نوعاً من أنواع الردة، لاسيمافي اليمن، حيث يسيطر المذهب الهادوي.
وفي الجانب الاجتماعي، أثر التقليد في تماسك المجتمع الإسلامي ووحدته، بسبب اتباع كل طائفة لمذهب معين، واعتقاد الصواب فيه وحده دون غيره.
أما في الجانب السياسي، فإن سيطرة نزعة التقليد لموروث المتقدمين حصرت العقل الفقهي في دائرة فقه الكتب الموروثة، وصرفته عن معالجة المشاكل الواقعية، الأمر الذي جعل الفقيه يعيش في عزلة عن قضايا الحياة العامة.ثم إن طول مدة هذه العزلة، وعدم التحرك الجاد للخروج عنها، جعلا الدعوة إلى الاجتهاد - التي رفع شعارها بعض العلماء المجتهدين - ونقد ومراجعة أراء المتقدمين تعد دعوة إلى هدم نظام الحكم، لاسيما إذا كان هذا الأخير متبنياً لمذهب معين وفارضاً له على الحيّز الجغرافي الذي تحت سلطته.
وأمام هذه الأزمة الحضارية التي خلفها مبدأ التقليد، رأى الإمام الشوكاني أن البعث الحضاري يحتاج إلى إعادة صياغة بنية العقل المسلم، وذلك بإقامته على مبدأ الاجتهاد الذي يقتضي الرجوع في معرفة الأحكام الشرعية إلى مصادر الشريعة الإسلامية، والاحتكام إلى الدليل في تقويم التراث الفقهي، وعدم إضفاء صفة القداسة والعصمة على اجتهادات المتقدمين.
إن القراءة السطحية لنظرية الاجتهاد والتقليد عند الإمام الشوكاني توحي بوجود تناقض داخل بنية هذه النظرية، ذلك لأن رفض التقليد حتى للإنسان الفاقد لآليات الاجتهاد، ومطالبته بالسؤال عن الدليل لا عن آراء العلماء، والدعوة إلى الاجتهاد المستقل والمطلق في الفروع والأصول، وترك التمذهب بالمذاهب الفقهية الموجودة، يفضي من الناحية الاجتماعية - على الأقل- إلى ما أفضى إليه التقليد من فرقة، وتمزق اجتماعي وفكري.
لكن المحلل لأجزاء نظرية الاجتهاد والتقليد عند الإمام الشوكاني، وفكره الأصولي، ومنهجه في الدراسات الفقهية والتربوية، يدرك أن تحريم الشوكاني للتقليد ودعوته إلى الاجتهاد هو الطريق السليم في نظره إلى تحقيق الوحدة الفقهية بين المسلمين. ومفهوم الوحدة الفقهية - من خلال استقراء معالم تجديد المنهج الفقهي عنده- هي اشتراك المسلمين في الأسس المنهجية الكبرى للتفكير الفقهي.
فقد عد الإمام الشوكاني مبدأ الاجتهاد هو العامل المؤسس لهذه الوحدة، لأنه يزود الفقهاء بمبادئ منهجية مشتركة تفرض تجانساً منطقياً بين الفقهاء في منهجية التعامل مع النص الشرعي والتراث الفقهي، والواقع المعيش، ولا ضير بعد ذلك أن تختلف الطرائق الإجرائية في فروع الاجتهاد الفقهي. وتتمثّل هذه المبادئ في (الموضوعية؛ والانفتاح على التراث الفقهي؛ والروح النقدية).
أما الموضوعية، فلأن التقليد يفرض على العقل الفقهي وصاية خارجية تمنعه من التعامل المباشر والمستقل مع معطيات الموضوع المدروس، في حين أن مبدأ الموضوعية يضمن للعقل الفقهي صلة مباشرة بمادة البحث، فيدرس الموضوع بحسب معطياته.. ومن شأن هذا المبدأ أن يؤسس قاعدة مشتركة بين الفقهاء في معالجة تطبيقات القضية المدروسة، ويكون اختلافهم بعدها فرعياً جزئياً سببه تفاوت المعطيات، وليس العوامل الذاتية ،كالتعصب للرأي، وتقديس آراء الآخرين.
أما الانفتاح على التراث الفقهي كله؛ فلأنه يمكّن الفقيه من استيعاب الرصيد الفقهي لمختلف المذاهب ، الأمر الذي يوسع الأفق المعرفي لديه، ويجعله يسلك في بحثه مسلك المقارنة بين الآراء المختلفة، ومن ثمّ يهتدي إلى مكامن الضعف والقوة فيها، كما يحرره من التعصب المذهبي الذي يعد أهم عامل من عوامل الفرقة.
أما الروح النقدية، فإن الانفتاح الواسع على مجمل التراث الفقهي يجبر العقل الفقهي أن يسلك في حركته المعرفية مسلك النقد والتمحيص، وهذا عامل مهم في عملية الترشيد الفقهي.
وهذا طبعاً لا ينفي وجود ثغرات في تنظير الشوكاني لهذه الدعوة، فإن عمله هذا وإن رام منه الدقة فقد لابسته بعض الثغرات، من هنا وجب تقييم نموذج الشوكاني التجديدي من خلال الإطار التاريخي الذي وجد فيه، وهذا يساعد على فهم وتفسير بعض المواقف التي تعتبر متشدّدة إذا ما قيست بمقاييس العصر الراهن، كاشتراطه الاجتهاد على المفتي، ورفضه لمبدأ تجزؤ الاجتهاد.
فقد اتسع النشاط القضائي في الحياة المعاصرة، إذ تناول كل قضايا مؤسسات المجتمع وعلاقات الأفراد، وأنشطتهم المختلفة، من هنا احتاج القاضي في الدرجة الأولى إلى تكوين تخصصي في إطار نوعية المجال القضائي الذي يمارس مهنته فيه: المعاملات، الجنايات…إلخ.
أما مبدأ تجزؤ الاجتهاد، فإن اتساع وتشعب فروع العلوم والمعرفة، وتنوع التخصصات العامة والدقيقة، يجعل من المستحيل أن تجتمع كل هذه المعارف في شخص واحد، من هنا لا يمكن رفض اجتهاد أفراد أكفاء في إطار تخصصاتهم، لاسيما تلك المتعلقة بالمجال الطبيّ، ومجال الحياة العامة: كالإدارة، والاقتصاد، والسياسة، بل هذا النوع من الاجتهاد هو عصب الاجتهاد الجماعي الذي يقوم على تكاتف جهود العلماء من تخصصات مختلفة.
وإضافة إلى ما سبق، فإن أبرز ثغرة لابست جهد الشوكاني التجديدي الإفراط في التمسك الظاهري بالنص، والمطالبة بالدليل، على حساب مقاصد الشريعة الإسلامية.
إن حرص الإمام الشوكاني على استرجاع مكانة الدليل (النص الشرعي) في المنظومة الفقهية، وعدّه مبدأ الاحتكام إلى الدليل أساس المنهج الفقهي والأصولي، جعله يغفل في بعض الأحيان عن مراعاة مقاصد الشريعة وروحها، رغم تأكيده أهمية اعتبارها في فهم وتنزيل النصوص.
ولعل السبب في ذلك، كما أعتقد، هو اعتماد سياسة رد الفعل لما كانت تعاني منه الحياة الفقهية في عصره من اشتغال بغير علم الكتاب والسنة، وتبني أراء العلماء دون النظر فيها.
ولعل أبرز مثال على إغفال الإمام الشوكاني لمقاصد الشريعة موضوع زكاة التجارة، فإنه رأى عدم وجوب الزكاة في أموال التجارة لعدم قيام الدليل على ذلك، ولأن التجارة في عصر الرسول e كانت قائمة في أنواع ما يتجر به، ولم ينقل عنه ما يوجب الزكاة فيها، ولما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه»([81]).. فظاهر ذلك عدم وجوب الزكاة في العبد والفرس في جميع الأحوال، أي سواء أكانت للتجارة أم لغيرها([82]).
والحقيقة أن الله تعالى فرض الزكاة في أموال الأغنياء لمقاصد شرعية أهمها: تطهير أنفسهم، ومواساة الفقراء، ومساعدة الدولة والأمة في إقامة المصالح العامة، وسد ذريعة الفساد بسبب تضخم الأموال، وانحصارها في أناس معدودين. فلا يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها التجار الذين ربما يمتلكون معظم ثروة الأمة.
وفي إطار الحديث عن المقاصد، تجدر الإشارة إلى ملاحظة هامة وهي عدم وجود كتاب "الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي مصدراً ضمن مؤلفات الشوكاني الفقهية والأصولية، رغم أن الفاصل الزمني بين الرجلين يقرب من خمسة قرون، ورغم إطلاّع الشوكاني الواسع على مصادر البحث في التراث الفقهي والأصولي. فهل السبب -كما قرر المرحوم عبد الله دراز - يعود إلى كتاب الموافقات نفسه، أي أن طريقة تأليفه، والمباحث المبتكرة التي اشتمل عليها هي التي تسببت في عدم تداوله([83])، أم أن الأمر يعود إلى الشوكاني نفسه، إذ أن القضية الجوهرية التي شغلت فكره الإصلاحي التجديدي هي الرجوع إلى التعامل المباشر مع النص الشرعي، وبيان أدوات فهمه؟
ذلك لأنه في عصر التقليد انقطعت الصلة المباشرة بالنص الشرعي، وقلَّ الاشتغال بأدوات فهمه، وتحول الهدف إلى مجرد فهم قول إمام المذهب والتخريج عليه، الأمر الذي جعل الإمام الشوكاني يركز في إعادة بناء المنظومة الفقهية والأصولية على فقه النص أكثر من تركيزه على فقه التنزيل، وإن شهد منهجه الفقهي مراعاة واضحة لفقه التنزيل لاسيما اجتهاداته المتصلة بقضايا المجتمع، لكنها لم ترق إلى درجة التقنين والتقعيد.
ومع هذه الثغرات، فإن المبدأ الرئيس الذي يستفاد ويتمسك به من فكر الإمام الشوكاني التجديدي هو الاجتهاد، وعدم تعطيل العقول بالركون إلى التقليد. وأما شروط هذا الاجتهاد وآلياته وتطبيقاته، فتخضع لا محالة لظروف وحاجات ونوعية المعارف والعلوم في كل عصر، وهذا ما التزمه الإمام الشوكاني في ذكره لشروط الاجتهاد لاسيما تلك المتعقلة بالطبقة الأولى، فقد راعى فيها متطلبات الحياة العلمية في عصره.
ومع أن الإمام الشوكاني لم يحدث الانقلاب الفكري والاجتماعي اللازم لتصويب الحياة الإسلامية في مجتمعه، إلا أن أثره استمر في التاريخ الإسلامي ، حيث استلهمت أفكاره حركات الإصلاح التي شهدها العالم الإسلامي في العصر الحديث، في المشرق والمغرب.
فقد وضع صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا الإمام الشوكاني على رأس العلماء المجددين المصلحين، الذين تعد كتبهم أعظم مادة للحركات الإصلاحية في العصر الحديث . ففي مقال له عن الموضوع ذكر أنه:
«لم يجئ بعد الإمام ابن حزم من يساميه أو يساويه في علمه وقوة حجته…إلا شيخ الإسلام محمد تقي الدين بن تيمية..وكذا أبو عبد الله محمد بن القيم وارث علم أستاذه ابن تيمية وموضحه… وأن أنفع ما كتب بعدهم كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني، ومن أنفعها في كتب فقه الحديث كتاب "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، ومن كتب أصول الفقه كتاب"إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول"، كلاهما للإمام الجليل المجدد مجتهد اليمن في القرن الثاني عشر محمد بن علي الشوكاني...فهؤلاء أشهر أعلام المصلحين في الإسلام...من علماء الحديث والفقه الذين تعد كتبهم أعظم مادة للإصلاح فيما نحن بصدده»([84]).
وقال عنه العلامة الفاضل بن عاشور رحمه الله :
«ولم يخل القرنان: الثاني عشر والثالث عشر، بالمشرق والمغرب من رجال يتطلعون في تحاريرهم الفقهية، وفتاويهم، إلى السمو عن منزلة التحرير والتخريج إلى حد محدود مثل: البسولي والرهوني في المغرب، وبيرم الثاني وإسماعيل التميمي بتونس، وابن عابدين بالشام، ولكن اثنين ارتفعا ارتفاعاً فائقاً إلى مقام الاجتهاد، أولهما من الهند وهو ولي الله الدهلوي (ت1176هـ)، وثانيهما الإمام الشوكاني (ت1255هـ)، فهذان هما اللذان استقلا بالنظر في المسائل استقلالاً تاماً شاملاً، وجددا معاني الأصول ومعاني الأحكام، لاسيما ثانيهما الذي توفي في أوائل() القرن الماضي، فلقد ترك من بين كتبه المهمة شاهدين زكيين في كتاب "نيل الأوطار" و "إرشاد الفحول" على أنه قد ارتقى إلى مقام النظر في الأدلة ، والاستنباط منها ، وأنه لم يقل في مسألة من الفقه إلا بما أداه إليه الدليل، وأن له في الأدلة و مناهجها أنظار تساوي الأنظار الاجتهادية الأصيلة التي بنيت عليها كتب أصول الفقه»([85]).
ولهذه المكانة العلمية التي تبوأها الإمام الشوكاني عده جل من كتب عنه مجدد القرن الثالث عشر الهجري ورائداً من رواد النهضة الفكرية في العالم الإسلامي في العصر الحديث.
---------------------------------------
([81]) أخرجه مسلم، باب: لا زكاة على مسلم في عبده ولا فرسه، حديث رقم982. انظر: صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط1 (القاهرة: دار الحديث،1991م).
([82]) محمد بن علي الشوكاني، الدراري المضيئة (بيروت: دار الجيل، 1987م)2/212.
([83]) انظر: مقدمة عبد الله دراز لكتاب أبي إسحاق الشاطبي، الموافقات (لبنان: دار المعرفة، د.ت) 1/11-12.
([84]) محمد رشيد رضا، مجلة المنار، المجلد الثامن عشر، الجزء الخامس، يونيو 1915م، مطبعة المنار بمصر.
() لعلها محرفة عن أواسط فقد توفي الشوكاني سنة 1255هـ.
([85]) الفاضل بن عاشور، بحث عن الاجتهاد في كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث، ص62، نقلاً عن: يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص95ـ96.(1/14)
الفصل الخامس - محددات منهجية للبحث في تجديد المنهج الفقهي
مقدمة »
إن موضوع تجديد المنهج الفقهي ما يزال بكراً، يحتاج إلى أن تبذل فيه جهود مركزة، تحدد المداخل، والمجالات، والضوابط، والمعوقات. ومن أجل المساهمة الفعّالة في دفع عجلة البحث في هذا الموضوع، وإخراجه من دائرة الجدال النظري إلى ساحة التحرك العملي، يخصص هذا الفصل لمناقشة بعض المحددات المنهجية الضرورية للتنظير في التجديد الفقهي، ليس بهدف الوصول إلى تصور نهائي لمنهج التجديد، وإنما بهدف تفكيك وتحليل الإشكاليات النظرية والتطبيقية التي تعترض بحث الموضوع، ومن ثمّ فتح آفاق جديدة وجادة لهذا البحث.
وهناك حاجة ملحة للوقوف على محددات منهجية خمسة، نظراً لمحوريتها، وبالتالى أهميتها في موضوع تجديد المنهج الفقهي. وهي:
أولاً: الفصل في مفهوم تجديد المنهج الأصولي.
ثانياً: ضبط إشكالية تعليل الأحكام.
ثالثاً: استحداث أطر جديدة في التصنيف الفقهي.
رابعاً: الموضوع الفقهي.
خامساً: دراسة إشكالية انفصال مؤسسة الاجتهاد عن سلطة التشريع في الدولة الحديثة.
وتأتي دراسة هذه المحددات الخمسة، بالنظر إلى أن دراستها دراسة مستفيضة كفيلة بأن تحدد بوضوح معالم تجديد المنهج الفقهي، هذه المعالم التي ستحدد بدورها الضوابط التفصيلية لعملية التجديد.(1/15)
الفصل الخامس - محددات منهجية للبحث في تجديد المنهج الفقهي
المحدد الأول: بيان مفهوم تجديد المنهج الأصولي »
لا شك أن أهم إشكالية أثارتها قضية تجديد الفقه الإسلامي هي تجديد علم أصول الفقه، والسبب في ذلك العلاقة التلازمية بين العلمين. وبما أن قضية تجديد أصول الفقه تعد عند الكثيرين الخطوة الأولية للكلام عن تجديد الفقه، فقد تناولها كثير من الباحثين بالدراسة والتحليل. وقد أفرزت هذه الدراسة وذلك التحليل إشكاليات فرعية، بعضها يمس مبدأ التجديد في حد ذاته، وبعضها يمس منهج التجديد وتطبيقاته. لكن أهم خطوة منهجية يجب على الباحثين الفصل فيها هي المشروعية التاريخية لتجديد علم أصول الفقه، لأن هذه القضية تمثل المقدمة المنهجية الأولى لبحث الموضوع. وذلك؛ لأن حصول أي اتفاق على مستواها سيجنب الباحثين الكثير من الاختلافات اللفظية الخارجة عن محل النزاع، والذي يكون فيها مورد الإثبات غير مورد النفي.كما ستمكّن هذه الخطوة الباحث في الموضوع أن ينظر إليه نظرة موضوعية مجردة عن ردود الأفعال التي تفرزها الأطروحات المختلفة في الموضوع.
والحقيقة أن الدراسة لتاريخ علم أصول الفقه تبين أنه مر بمراحل تاريخية مختلفة، عالج في كل مرحلة منها إشكاليات وأبعاداً جديدة اختلفت عن تلك التي عالجها في المرحلة السابقة لها، وذلك بغية تحقيق الاستجابة المطلوبة للتحديات الفكرية والواقعية التي واجهته في كل مرحلة.. والذي يؤكد هذه الحقيقة التاريخية محطات بارزة في حركية الفكر الأصولي. فإذا اعتبرنا الإمام الشافعي المحطة الأولى، نجد أن جهده في كتابه "الرسالة" تمثل في ضبط مسيرة الاجتهاد بجمع أشتات مناهج الاستنباط التي كانت في عصره، وعرضها في صورة منظمة، وجعلها علماً متناسق الأجزاء، إلا أن تدوين الإمام الشافعي لعلم أصول الفقه لا يعنى اكتمال هذا العلم بحيث لم يُبق مجالاً لمن بعده، بل إن الفكر الأصولي شهد بعد الإمام الشافعي تطوراً في الشكل والمضمون، بسبب تنوع مدارك وتخصصات العلماء الذين بحثوا في هذا العلم – محدثون، ولغويون، وعلماء كلام، وغيرهم- وكذلك بسبب دخول فن التصنيف، والترتيب على كل العلوم، بما فيها علم أصول الفقه.
ولعل أهم محطة في التجديد الأصولي بعد الإمام الشافعي هو الإمام الرازي الجصاص (م370هـ) في كتابه "الفصول في الأصول"([1])، الذي تضمن إضافات على مستوى المضمون والشكل. فعلى مستوى المضمون أكمل المباحث اللغوية، ومدلولات الألفاظ، والموضوعات المشتركة بين الكتاب والسنة، والمباحث التي تستقل بها السنة عن الكتاب، كما طور البحث في دليل الإجماع، والقياس، والاستحسان، ومبحث الاجتهاد. أما على مستوى الشكل والصياغة، فقد تجاوز العرض المتفرق لمباحث الأصول الذي شهده كتاب "الرسالة" للشافعي، وذلك بترتيبه للأبواب والفصول ترتيباً منطقياً، وعرضه لمباحث الكتاب عرضاً علمياً منظماً.
كما مثل كتاب "المستصفى" لأبى حامد الغزالي (م 505هـ) محطة مهمة في تجديد علم أصول الفقه، إذ تضمن إضافة نوعية على مستوى المضمون تمثلت في مقدمة في مدارك العقول، واحتوت مباحث كلامية ولغوية هي من صميم علم المنطق. واعتبر الإمام الغزالي هذه المقدمة مدخلاً ضرورياً لجميع العلوم بما فيها علم أصول الفقه، وأن من لم يُحِطْ بها فلا ثقة بعلومه أصلاً. كما بحث بمنهجية جديدة موضوع القياس، وباقي الأدلة المختلف فيها. أما على مستوى الصياغة، فقد رتب الغزالي في كتابه "المستصفى" المادة الأصولية في إطار هيكلة لم يسبق إليها، حيث قسم الموضوعات الأصولية على أربعة محاور، المحور الأول: الحكم، والثاني: أدلة الأحكام، والثالث: كيفية استثمار الأحكام، والرابع: حكم المستثمر.
وقد تبنى الأصوليون بعد الإمام الغزالي هذه الهيكلة، الأمر الذي جعل كتاب "المستصفى" نقطة الاستقرار لكل من المضمون والشكل في مجال أصول الفقه إلى غاية القرن الثامن الهجري، حيث مثل كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي نقلة نوعية في علم أصول الفقه. وذلك لأن الفكر الأصولي بعد القرن الخامس وجد نفسه أمام معضلتين:
المعضلة الأولى: هي تركيز التأليف الأصولي على الركن الأول من ركني هذا العلم، أي علوم اللسان العربي، وإهمال الركن الثاني، ألا وهو علم أسرار التشريع ومقاصده. وقد سجل الدكتور عبد الله دراز هذه الحقيقة في مقدمة كتاب الموافقات حيث قال:
«وقد وقف الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكون منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك دائر بين تلخيص، وشرح، ووضع له في قوالب مختلفة، وهكذا بقي علم أصول الفقه فاقداً قسماً عظيماً، وهو شطر هذا العلم الباحث عن أحد ركنيه، حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري لتدارك هذا النقص وإنشاء هذه العمارة الكبرى في هذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هذا العلم الجليل»([2]).
المعضلة الثانية: تميز واقع الاستدلال الفقهي في معظم أصوله بالظن، وعدم تقارب المدارك فيه بسبب تبعية أصول الفقه لمقتضيات المذاهب الفقهية المختلفة، فاقتضى هذا الوضع الذي استقر عليه علم أصول الفقه، أن يمس جهد الشاطبي التجديدي صلب المنهج الأصولي، لينعكس بعد ذلك على موضوعاته وهيكله.
فقد بنى الشاطبي المنهج الأصولي على ركيزتين:
الركيزة الأولى: استجلاء مقاصد الشريعة لعظيم أهميتها في عملية استنباط الأحكام.
الركيزة الثانية: بناء علم أصول الفقه على منهج الاستقراء، أي استقراء الفروع الفقهية لاستخلاص قواعد الاستنباط، وذلك عن طريق البحث في جملة من الأصول المقاصدية التشريعية التي من شأنها التقريب بين مدارك الفقهاء، وتوحيد منطلقاتهم النظرية.
مما سبق يتبين أن جهد الشاطبي الأصولي التجديدي جاء لإكمال الشطر الثاني من علم الأصول، وهو العلم بمقاصد الشرع، كما جاء أيضاً لتصحيح المنهج الأصولي، بتقريب هوة الاختلاف النظري فيه، وفي ذلك إحياء لهذا المنهج، وإعطاؤه دفعة جديدة تجعله منهجاً فعالاً منتجاً، جامعاً لا مفرقاً.
إن هذا الهدف الذي وجه الإمام الشاطبي جهده إليه أنتج إضافات نوعية كانت فتحاً لعلم أصول الفقه، ذلك أن اعتبار الشاطبي المقاصد أساس النظر الأصولي، وسعيه لتقعيدها كعلم قائم بذاته، جعلته يؤسس لفقه التنزيل، هذا الجانب الذي كان يمثل البعد الغائب في الفكر الأصولي. وبهذا العمل الجبار انتقل الشاطبي بعلم أصول الفقه من دائرة التنظير للفهم إلى دائرة التنظير للتنزيل، وقد مكنّه هذا المنحى الذي اتخذه من تطوير البحث في بعض الأدلة، كالاستحسان، والمصلحة، وسد الذرائع، إذ خرج بها من دائرة المناقشة النظرية حول المفهوم والحجية إلى استثمارها كمناهج وآليات لفهم الواقع، واعتبارها عند تنزيل الأحكام الشرعية.
كما راجع نظرية الاجتهاد، ففرق بين الاجتهاد النظري والاجتهاد التطبيقي الذي عبر عنه بالاجتهاد في تحقيق المناط، وعرفه بقوله: «أن يثبت الحكم الشرعي بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله»([3]). واقتضى التأصيل لهذا النوع من الاجتهاد من الإمام الشاطبي ضبط أصوله، وهي في نظره ثلاثة: تحقيق المناط، واعتبار مآلات الأفعال، واعتبار المقاصد.
كما راجع شروط المجتهد، إذ عد معرفة الواقع أساس الاجتهاد التطبيقي، وهذا شرط لم يذكره الأصوليون في شروط الاجتهاد بالتنصيص عليه صراحة وإن كان متضمناً في اجتهاداتهم().
لكن الجدير بالذكر في هذا المقام أن جهد الإمام الشاطبي لم يكن له أي أثر في التطبيق، نظراً للوضعية التي كان يعيشها الفقه الإسلامي في تلك الفترة، ذلك أنه بسبب استفحال دعوى غلق باب الاجتهاد في عصور التقليد المتأخرة، لم يبق متداولاً من علم أصول الفقه إلا القسم المتعلق بدلالة الألفاظ، مع طغيان المجادلات اللفظية عليه.
وإضافة إلى هذه المحطات الرئيسة التي تؤكد ملازمة حركة التجديد للفكر الأصولي عموماً، فقد لازم النظر التجديدي بعض الموضوعات الحساسة لعلم أصول الفقه، كان أهمها مصدر الإجماع، والقياس. فالقول بالإجماع انتقل من القول بحجيته بإطلاق، إلى القول بحجيته عند الصحابة فقط، واستحالة تحققه بعدهم، كما هو القول عند ابن حزم الأندلسي، والإمام أحمد بن حنبل، والشوكاني، وغيرهم. والقياس اختلف في مفهومه، ثم في حجيته. فهو عند الشافعي رديف الاجتهاد، وهو عند غيره ليس كذلك، وهو عند بعضهم حجة، وهو عند بعضهم الآخر ليس بحجة، كابن حزم، وداود الظاهري، والشوكاني، كما تردد فيه آخرون كالغزالي، وقد ظهر تردده بوضوح في كتابه "أساس القياس" الذي يفهم منه بقوة عدم اعتباره القياس دليلاً مستقلاً، لأنه في الحقيقة مدلول النص، أو عموم النص([4]).
والمجال في هذا البحث ليس مجالاً للترجيح بين هذه الآراء أكثر منه لبيان استساغة فقهائنا الأجلاء الاختلاف في مفردات هذا العلم، واقتراح آراء متباينة في شأنها، لأنها ليست مفردات معصومة، بل هي اجتهادات بشر مستقاة من نصوص الكتاب والسنة، واجتهادات البشر قد تزل أحياناً وتصيب أحياناً أخرى، فلا ضير من التعليق عليها، ومخالفتها، شريطة أن تكون المخالفة مؤسسة على حجج علمية، لا على هوى.
وإذا تأكد أن التحقيق، والتجديد، والتطوير، قد لازم الفكر الأصولي، ومفرداته منذ نشأته، احتاج المقام بعد ذلك إلى تأكيد حقيقة تاريخية أخرى، وهي أن توقف حركة الاجتهاد أثرت سلباً في نمو علم أصول الفقه، إذ اقتصر الباحثون فيه في عصر التقليد على شرح الكتب السابقة دون أي إضافة، أو اختصارها اختصاراً مخلاً أحالها إلى ألغاز([5]). من هنا لم يشهد علم أصول الفقه في عصور التقليد، لاسيما المتأخرة منها نمواً نوعياً - تستثنى من هذا نماذج معينة كابن تيمية، والشاطبي، والشوكاني رحمهم الله تعالى- بل فقد وظيفته؛ لأن باب الاجتهاد قد أقفل، فلم تعد ثمّة حاجة إلى بذل مجهود في تنظير قواعد الاستنباط أو التنزيل.
إن هذا الأمر يؤكد أن فتح باب الاجتهاد من جديد، والسعي إلى تجديد الفقه الإسلامي، يقتضيان بالضرورة تجديد علم أصول الفقه ليستوعب المستجدات، ويحقق الاستجابة المطلوبة للتحديات الفكرية، والواقعية، والتشريعية التي تواجه المشروع الإسلامي، وهو ما جعل دعوة تجديد علم أصول الفقه تبرز بقوة في الساحة الفقهية، والفكرية المعاصرة.
غير أن المتأمل في الأطروحات النقدية للمنهجية الأصولية يجدها تفتقر إلى إشكالية واضحة وموحدة، الأمر الذي أفرز تيارين رئيسين داخل الحركة النقدية، لكل منها تصور خاص للإشكالية، ولمنهج معالجتها.
التيار الأول: يمثله في الغالب الأعم المتخصصون في الفقه وأصوله، أطروحتهم تمثل نقداً للمنهجية الأصولية من داخل المنظومة الأصولية([6]).
و إشكالية علم أصول الفقه في نظر هذا التيار تتركز في مفرداته، وهيكلة مادته، وهذا لا يمنع من أن يقدم هذا العلم - إن تمت قراءته قراءة إسلامية واعية - مؤشرات هامة على طريق معالجة إشكالية المنهج، وذلك من خلال الالتزام بما يأتي:
- تطوير مفهوم هذه المفردات، وضبطها، وجعلها أقرب إلى الواقع العملي، ومثاله: تطوير مفردة الإجماع بالتنازل عن بعض شروطه حتى لا يبقى مثالاً نظرياً؛ والقياس باعتماد قياس المصلحة، والعدول عن القياس الجزئي؛ والاجتهاد بمراجعة شروطه وأدواته.
- إعادة هيكلة المادة الأصولية، أي بحثها تحت تقسيمات جديدة، ليتولد عنها مفاهيم أعمق، واستعمال أفضل لأدوات الأصول، مما سيؤدي في النهاية إلى فقه متجدد خادم للموضوعات المثارة في عصرنا الحاضر.
ومن مقتضيات إعادة هيكلة المادة الأصولية، إلغاء ما ليس من علم الأصول، وإعطاء الأولوية لمقاصد الشريعة، وتنمية دراستها، والعمل على وضع قواعد وضوابط لها.
كما أكد هذا التيار على استخدام علم أصول الفقه لأدوات المنهج التجريبي، والاستفادة منها في معرفة العرف، والعادة، والمصلحة، والضرر، والحاجة. فكل هذه القضايا قواعد أصولية، وجزء من قضايا هذا المنهج، ولا يمكن أن يستغنى فيها عن الوسائل والأدوات المستعملة في المنهج التجريبي([7]).
وما يلاحظ على هذا التيار، اتفاق كبير بين ممثليه على موضوع تطوير المفردات الأصولية، في حين يلاحظ اختلاف واضح بينهم في منهج إعادة هيكلة علم أصول الفقه، كما يلاحظ غموض بعض عناصر منهج تجديد المنهجية الأصولية عند بعضهم.
التيار الثاني: يمثله كثير من المفكرين المهتمين بإشكالية إصلاح مناهج الفكر، وهم في الغالب من خارج دائرة التخصص الشرعي، وأطروحتهم تمثل نقداً للمنهجية الأصولية من الخارج([8])؛ واعتبروا أن إشكالية المنهج الأصولي في بنيته ومفرداته، فقدموا تصوراً لمفهوم التجديد مغايراً لتصور التيار الأول، تمثّل هذا التصور في إعادة بناء منهجية اجتهادية جديدة، تقوم على مستويين:
المستوى الأول: تجاوز المفردات الأصولية التي هي عبارة عن مفاهيم نظرية لا تنتج علماً ولا تواكب واقعاً مثل القياس والإجماع، ومبدأ الضرورة.
المستوى الثاني: العودة مباشرة إلى النظر في النص القرآني لاستلهام الأدوات المعرفية الكفيلة بصياغة منهجية تساعد على فهم قضايانا، وتطوير معارفنا.
ولعل أهم ملاحظة يمكن تقديمها على هذا التصور لتجديد علم أصول الفقه، هي أن الدعوة إلى اجتياز المحك المنهجي التقليدي - المنهجية الأصولية - دون إعطاء بديل منهجي واضح محدد ومضبوط هو علاج لأزمة بإثارة أزمة أخرى، ذلك أن مثل هذه الدعوة تحاول معالجة "الفراغ التشريعي" الذي سببه - كما يقرر هذا التيار - عجز المنهج الأصولي عن الاستجابة للمستجدات، بـ "فراغ منهجي" عن طريق الدعوة إلى البحث في النص القرآني والواقع الإنساني دون استحداث منهج بحث كامل متكامل.
إن الناظر في المناهج المقترحة في تجديد المنهجية الأصولية - التي مثّلها بصفة إجمالية تياران- يجدها تفتقر إلى إشكالية واضحة وموحدة، وهذا الأمر أثّر سلباً في مبدأ تجديد علم الأصول، إذ شكّك بعضهم في مشروعية الدعوة وعلميتها، بينما تخوف بعضهم الآخر من أن تفتح هذه الدعوة باباً لكثير من الانحرافات المنهجية والفكرية، وإن كان الإنصاف العلمي يقتضي الإقرار بأن عدم اهتمام بعضهم بهذه الدعوة سببه افتقاد القدرة على التجديد والمراجعة. وذلك لأن دراسات أصول الفقه الحالية دراسات نظرية لا مجال فيها للدراسة التطبيقية التي تؤهل المتخصصين في هذا العلم لاستعمال معاييره وقواعده، واختبارها في معالجة الوقائع المستجدة، الأمر الذي جعل هذه الأدوات عبارة عن معرفة موروثة، وليس منهج بحث يمكن استخدامه لإنعاش الحياة التشريعية في العصر الحاضر.
وردود الأفعال هذه تجاه دعوة تجديد أصول الفقه، تفرض التأكيد على قضية هامة، وهي ضرورة اهتمام ذوي التخصصات الشرعية بمراجعة المنهجية الأصولية، حتى لا ينتهي الأمر إلى قطيعة بين الفكر الديني الذي لا يتأسس على الأصول، والفكر الأصولي الذي لا يتعايش مع الواقع.
ومما يلاحظ أيضاً على التيارين الممثلين لدعوة تجديد أصول الفقه، عدم تطبيق أطروحاتهما النظرية على قضايا الواقع، واختبار مدى صحة نتائجها، الأمر الذي جعل هذه الدعوة لا تتجاوز الجدل النظري، بحيث ما قدّم إلى الآن أفكار، ومبادئ، وخطط، لم يتم اختبارها بشكل دقيق كامل في إطار أكاديمي، الأمر الذي أوجد صراعاً نظرياً يتعلّق كثيراً بالألفاظ والمصطلحات.. وهذه المرحلة يفترض أن تُتجاوز؛ لأن العلم في الحقيقة لا ينتج بالاكتفاء بالحوار حول كيفية إنتاج معرفة.
مما سبق يتبيّن أن المطلوب في موضوع تجديد المنهجية الأصولية هو: صياغة إشكالية ناظمة موحدة، ووضع بديل منهجي محدد ومنضبط. ومما يساعد على ذلك:
1- دراسة أصول الفقه، منهجاً: أي دراسة المنهج في ذاته، وليس موضوعاته، ومحاولة التعرف على مكوناته وعناصره من خلال بيان الأسس والمبادئ التي يقوم عليها، والمراحل والخطوات التي يمر بها الأصولي من بداية الاستدلال إلى آخره، والشروط التي ينبغي تحقيقها ليمكن الوفاء بمقتضيات هذا المنهج ومتطلباته.
فهذا النوع من الدراسة سيكون على النحو الذي يقوم به علماء المناهج في دراستهم لمختلف المناهج (التاريخي، والاستقرائي..إلخ)، وسيفيد في إعطاء تصور دقيق لعلم أصول الفقه، وللمشكلات التي يمكن أن تواجه الباحث فيه.
2- صياغة المادة الأصولية في شكل نظريات، على غرار النظريات الفقهية، يتم من خلالها معالجة الموضوعات الأصولية في إطار كلي شمولي. وهذا النوع من التصنيف يمكّن من فهم أعمق وأشمل للقضايا الأصولية، ويظهر مبنى الخلاف، وسببه، كما يبين فائدة بعض الأدلة التي يثار حولها نقاش كبير([9]).
---------------------------------------------
([1]) الجصاص أحمد بن علي، الفصول في الأصول (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1985م).
([2]) عبد الله دراز، مقدمة كتاب الموافقات للشاطبي،1/6.
([3]) الشاطبي، الموافقات، 4/89 -90.
() أكد ابن القيم أهمية معرفة عادات الناس للمفتي والحاكم، انظر كتابه: إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط2 (لبنان: دار الفكر،1977م) 4/204-205.
([4]) انظر: الغزالي أبو حامد، أساس القياس، تحقيق فهد محمد السرحان (الرياض: مكتبة العبيكان، 1993م) ص108-109.
([5]) انظر: محمد الخضري، أصول الفقه، ص10-11.
([6]) انظر: محمد الدسوقي، "نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه"، مجلة إسلامية المعرفة، العدد الثالث، 1996م، ص111-148؛ طه جابر العلواني، أصول الفقه، منهج بحث ومعرفة، ط2 (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995) و"قواعد في منهجية تجديد علم أصول الفقه"، المستقلة، العدد164، السنة 1997م؛ جمال الدين عطية، النظرية العامة للشريعة الإسلامية، ط1، 1991م، ص189، "علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية" محاضرة قدمها في كلية الشريعة، جامعة قطر، 1988، طبع المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص15-16.
([7]) انظر: طه جابر العلواني، قواعد في منهجية تجديد علم أصول الفقه، ص8؛ وجمال الدين عطية، علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، ص14-16.
([8]) من رموز هذا التيار الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، في كتابيه: "أزمة العقل المسلم" و"النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية".
([9]) انظر في ذلك: علي جمعة محمد، علم أصول الفقه وعلاقته بالفلسفة الإسلامية، ط1 (فرجينيا: المعهد العالمي للذكر الإسلامي، 1996م) ص27-31.(1/16)
الفصل الخامس
المحدد الثاني: ضبط إشكالية تعليل الأحكام:
إن المتدبر في الإنتاج العلمي للنهضة الفقهية المعاصرة، يلحظ أن مبدأ تعليل الأحكام قد مثّل المقدمة المنهجية لجلّ الاجتهادات المعاصرة، لاسيما تلك التي اتخذت من مبدأ اعتبار المصلحة والمقاصد الشرعية منهجاً في استنباط الأحكام التي تستجيب لحاجات العصر ومتغيراته.
لكن الملفت لانتباه أي باحث في تلك الاجتهادات، هو الاختلاف في منهجية التعامل مع هذا المبدأ - أي مبدأ تعليل الأحكام - الأمر الذي أفرز اختلافاً كبيراً، وصل أحياناً إلى حد التناقض في تطبيقات هذا المبدأ على الوقائع الجزئية، ومن ثمّ في طبيعة المنهجية الاجتهادية الكفيلة بتجديد الفقه الإسلامي.
وقد مثّلت إشكالية «الاختلاف في منهجية التعامل مع مبدأ تعليل الأحكام» اتجاهات عديدة، بعضها تمسك بالإطار المنهجي الذي استقر في علم أصول الفقه تجاه هذه القضية، وبعضها انطلق من الإطار نفسه، لكنه اجتهد فيه وحوّره، وبعض آخر تجاوز هذا الإطار إلى إطار جديد.
وفي ما يلي عرض موجز للأطر المنهجية لهذه الاتجاهات:
الاتجاه الأول: مثّلت لديه المبادئ المستقرة في علم أصول الفقه حول أقسام النص الشرعي، من حيث الظن والقطع، ومعنى قاعدة «لا اجتهاد مع النص»، وقاعدة «الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً»، ومجال تطبيقهما، الإطار المنهجي الذي حكم تصوراته لمبدأ تعليل الأحكام.
فالنصوص الشرعية تنقسم - وفق التقسيم العقلي والواقعي- إلى أربعة أقسام: نصوص ظنية الثبوت والدلالة معاً؛ نصوص ظنية الثبوت قطعية الدلالة؛ نصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة؛ نصوص قطعية الثبوت والدلالة معاً.
وقاعدة «لا اجتهاد مع النص» إنما وضعت لضبط طبيعة الاجتهاد ومجالاته في القسم الأخير من النصوص، ومعناها أنه: لا اجتهاد مع النص القطعي الثبوت والدلالة، وأن هذا النوع من النصوص يكون الاجتهاد فيه، أي في فهمه والاستنباط منه، ولا يكون الاجتهاد معه، أي في مقابلته ومعارضته.
وهذا المعنى محل إجماع الفكر الأصولي بجميع مذاهبه، لاعتبارات أهمها: أن معنى قطعية الدلالة في النص أنه لا يحتمل التأويل ولا النسخ، بل له معنى واحد لا يتسع لغيره، وأن الأحكام القطعية هي التي تمثّل الثوابت التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، وهي التي تمثل الوحدة الفكرية والشعورية والعملية للأمة الإسلامية. وأمر آخر، أن القطعيات اليقينية في الثبوت والدلالة هي التي يحتكم إليها عند النزاع، ويرجع إليها عند الاختلاف في تعيين إحدى دلالات النص الظني أو ترجيحها، فإذا كانت هي موضع خلاف لم يبق ما يحتكم إليه.
وقد ترتب على هذا الضبط الاصطلاحي لمدلول قاعدة «لا اجتهاد مع النص» تحديد المجال التطبيقي لقاعدة «الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً»، إذ اختص تطبيقها بالنصوص الظنية الدلالة فقط([10]).
الاتجاه الثاني: انطلق في تطبيقه لمبدأ تعليل الأحكام على القضايا الاجتهادية من الإطار المنهجي الذي استقر في علم أصول الفقه، لكنه اجتهد فيه وحوّره([11]).
الاتجاه الثالث: لم ينطلق هذا الطرف في اجتهاداته المبنية على مبدأ تعليل الأحكام من الإطار المنهجي الذي استقر عليه علم أصول الفقه وهو: تقسيم النصوص الشرعية إلى نصوص ظنية الثبوت والدلالة، ونصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، ونصوص ظنية الثبوت قطعية الدلالة، ونصوص قطعية الثبوت والدلالة معاً، واعتبار القسم الأخير من الثوابت التي لا يلحقها تغيير أو تبديل، بل استبدل هذا الإطار بإطار منهجي آخر يقوم أساساً على مبدأ اعتبار أبعاد الزمان والمكان في النصوص التشريعية([12]).
والدراسة التحليلية النقدية لأطروحة هذا الاتجاه في التعامل مع مبدأ تعليل الأحكام تكشف عن نوع من الثورة على المنهجية الأصولية ودعوة تطبيقية لبناء منهجية اجتهادية جديدة من أهم مبادئها: بيان وظيفة النص التشريعي؛ إعطاء مفهوم جديد لوظيفة السنة النبوية؛ إعطاء مفهوم جديد لمصطلح الثوابت.
ومما يؤخذ على هذا الاتجاه أنه لم ينطلق في بناء منهجه البديل من نقد الأسس المنهجية التي يقوم عليها الفكر الأصولي في قضية تعليل الأحكام، بل انطلق في التنظير من أمثلة جزئية ملحة احتاجت إلى حلّ، والموقف المتخذ منها عمّمه على الجزئيات الأخرى ليستخرج منها نظرية جامعة.
والحقيقة أن من طبيعة الجزئيات أنها لا تتشابه، ولا تنضبط بضابط واحد. ومن ثمّ كان الأصل في التنظير المنهجي الانطلاق من القضايا المجردة ثم تطبيقها على الجزئيات فيُتحصل على قواعد عامة واستثناءات لهذه القواعد.
إن مبدأ مراعاة علل النصوص وظروفها لبنة هامة في بناء منهج أصيل في تجديد الفقه الإسلامي. والعرض السابق للاتجاهات المعاصرة الرئيسة في التعامل مع مبدأ تعليل الأحكام يبيّن أنه قد استقرت حول هذا المبدأ نظريات في الفكر الأصولي هي بحاجة إلى تحقيق وتنضيج، كما ظهرت أطروحات جديدة هي بحاجة إلى تمحيص وتقييم.
من هنا اقتضى البحث في إشكالية تجديد الفقه الإسلامي، تعميق البحث في موضوع تعليل الأحكام، وتجاوز مجرد الترجيح بين آراء المذاهب الفقهية والتقييم العام للأطروحات المعاصرة، إلى صياغة نظرية في التعليل تستوعب نظرية المتقدمين وأطروحات المعاصرين وتأتي بما يفيد المنهجية الإسلامية.
ولعل مما يساعد على بناء نظرية في التعليل، الاهتمام بالقضايا الآتية:
- ضبط منهج في استخراج العلل: إن مبدأ تعليل الأحكام قائم في الأصل على استنباط العلل ومراعاتها في فهم الأحكام وتنزيلها، والملاحظ في الاجتهادات المعاصرة، المبنية على هذا المبدأ، اختلافها في تحديد علل النصوص والأحكام. ففي موضوع التصوير مثلاً، نجد أن بعضهم قد أباح بعض أنواع التصوير، كالفوتوغرافي والسينمائي والتلفزيوني، وحرّم المجسّم منه، أي التماثيل؛ لأن العلة في تحريم التصوير هي مضاهاة خلق الله([13])، في حين أباح آخرون كل أنواع التصوير حتى المجسّم منه؛ لأن علة تحريم التصوير في نظرهم هي مشابهة الوثنية، فالتصوير حُرّم لقرب العهد بالوثنية وما كان فيها من صور تعبد من دون الله تعالى([14]).
كما يلاحظ على بعض الاجتهادات أيضاً ترسيم فرضيات تحتاج إلى إثبات، واعتبارها عللاً، وبناء الحكم عليها، مثل موضوع تنصيف شهادة المرأة الوارد في قوله تعالى: (( وَ?سْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ?مْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ?لشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ?لاْخْرَى?)) (البقرة:282). فقد اعتبر بعض الباحثين أن علة تنصيف شهادة المرأة، ومرجعه أن المرأة لم تكن وقت نزول الآية الكريمة ذات مشاركة فعالة في الحياة العامة، لاسيما ما يتعلق بالقضايا المالية والتجارية، مما جعلها تجهل هذا الميدان، فإذا أدركت المرأة قضايا التجارة أصبح الحكم الأصلي المساواة بينها وبين الرجل في الشهادة([15]).
إن الجزم بعدم دراية المرأة بقضايا المعاملات المالية والتجارية في الجاهلية وبداية الإسلام، افتراض يحتاج إثباته إلى دراسة تاريخية استقصائية، لاسيما وقد سجل التاريخ وجود نماذج لنساء تاجرات قبل البعثة كخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وبعد البعثة لاسيما في سوق المدينة المنورة. ثم إن الآية الكريمة نزلت في المداينة، والشهادة إنما هي على دَيْنٍ مكتوب، وهذا لا يتطلب خبرة في المعاملات التجارية، بل كل ما يتطلبه معرفة القراءة والكتابة.. وعلى فرض أن الأمر يتطلب دراية تخصصية بشؤون التجارة، فهل كل امرأة مثقفة في العصر الحاضر على دراية كافية بالمعاملات الاقتصادية التي أصبحت أكثر تعقيداً مما كانت عليه أيام نزول آية المداينة؟
ومن دوافع ضبط منهج في استخراج العلل، ابتناء بعض الاجتهادات على علل قاصرة، كتعليل تحريم الربا باستغلال حاجة الفقير، وتعليل تحريم الزنا بمنع اختلاط الأنساب.
- ضبط مدلول مصطلح الثوابت والمتغيرات في تعليل الأحكام: إن اختلاف الدراسات المعاصرة في تحديد دلالة الثوابت والمتغيرات، ومنهج التعامل معهما، يقتضي بحثاً منهجياً يحدد ضوابط التفريق بين الثابت والمتغير، ويضبط علاقتهما بالأحكام العقدية والتعبدية والتشريعية.
- تطبيقات مبدأ تعليل الأحكام على السنة النبوية: ركز جل العلماء المعاصرين - المنطلقين من الإطار المنهجي الأصولي - في بحث تطبيقات مبدأ تعليل الأحكام على السنة النبوية؛ لأنها تمثّل الجانب التطبيقي والعملي للقرآن الكريم. فأقروا ابتداء تقسيم الإمام القرافي لتصرفات النبي e إلى ما صدر عنه بوصف الإمامة وما صدر عنه بوصف التبليغ والفتوى، وبناء على ذلك قسّموا السنة النبوية إلى تشريعية وغير تشريعية، وسعوا من هذا المنطلق إلى التنظير لتطبيقات مبدأ تعليل الأحكام على السنة.
لكن الملاحظ في الجهود المبذولة في هذا المضمار اختلافها في طبيعة الموضوعات التي تندرج تحت كل قسم، وذلك بسبب اختلاف المنهجية المتبعة في تصنيف تصرفات النبي e ضمن ما هو تشريعي وما ليس بتشريعي([16]).
وتؤكد الرؤى المتقاربة أحياناً والمتباعدة أحياناً أخرى في تطبيق مبدأ تعليل الأحكام على السنة النبوية، أن هذا الجزء من النظرية مازال بحاجة إلى بحث وتحقيق، تضبط من خلالهما منهجية تصنيف تصرفات النبي e وضوابط التفريق بين القسم التشريعي وغير التشريعي من تصرفاته.
----------------------------------------------
([10]) يعتبر د.يوسف القرضاوي أحسن من مثل هذا التيار من المعاصرين؛ انظر: يوسف القرضاوي، "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، ص178-179، حوار حول العلاقة بين النص والاجتهاد، حولية كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية (الدوحة: العدد العاشر، 1413هـ -1992م) ص14-16.
([11]) أبرز من مثّل هذا الطرف من المعاصرين الدكتور محمد عمارة في كتابه "معالم المنهج الإسلامي"، في محور "النص والاجتهاد"، حيث تبنى فيه التقسيم العقلي والواقعي للنص الشرعي الذي استقر في الفكر الأصولي، إلا أنه في تطبيق قاعدة «لا اجتهاد مع النص» على النصوص القطعية الثبوت والدلالة، فرّق بين الثوابت الدينية والمتغيّرات الدنيوية.
([12]) وممن حاول التنظير للاستعمال المنهجي لهذا المبدأ الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، إذ أقام تصوره التنظيري على أساس التفريق بين نصوص القرآن الكريم ذاتها من جهة، والتفريق بينها وبين نصوص السنة النبوية من جهة أخرى. فأقر ابتداءً أن نصوص القرآن الكريم في الغالب الأعم تمثّل قواعد كلية تعلو عن الزمان والمكان، أما نصوص السنة التشريعية فكلها في نظره نسبية لا تعلو عن الزمان والمكان؛ انظر عبد الحميد أبو سليمان، النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية؛ السنة النبوية ومنهجها في بناء المعرفة والحضارة (عمان: مؤسسة آل البيت، بالتنسيق مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1989م).
([13]) انظر: يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص143 و155.
([14]) انظر: طه جابر العلواني، إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم، ط1 (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م)، ص16.
([15])Taha Jabar Al-Alwani, "The Testimony of Women", American Journal of Islamic Social Sciences, Summer 1996. pp. 173-197.
([16]) انظر: محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ط17(القاهرة: دار الشروق،1997م)؛ يوسف القرضاوي، السنة مصدر للمعرفة والحضارة، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 1997م)؛ يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية، ط3 (الرياض: مكتبة المؤيد، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991م).(1/17)
الفصل الخامس
المحدد الثالث: استحداث أطر جديدة للتصنيف الفقهي:
لقد كان من مظاهر النهضة الفقهية المعاصرة انتعاش حركة التأليف، التي كان من أسبابها اقتحام الاتجاه العقلي «المتطرف» الساحة الفقهية متخذاً من نقد النص الديني سبيلاً إلى التجديد. فظهرت، كنوع من رد الفعل لهذا التيار، مؤلفات جادة في رسم منهج التعامل مع نصوص الشريعة، وفي عرض نظم الإسلام ومبادئه، وقد أدى هذا النوع من التأليف دوره في تثبيت ثقة المسلمين بدينهم وتراثهم، لكن لما كان التأليف التنظيري أولى وأهم من التأليف الدفاعي في حقول المعرفة المختلفة، وجب إثارة السؤال الآتي: إلى أين وصل التصنيف الفقهي في اتجاه التنظير؟
وسيكون جوابه الصحيح أن حركة التأليف في الفقه الإسلامي في المرحلة المعاصرة لم تتوقف عند جمع المسائل الفرعية، بل خطت خطوات جادة في طريق بناء نظريات فقهية متكاملة تضبط التعريفات، والشرائط، والأركان، والآثار، وغير ذلك، وتتخذ من المسائل الفرعية أمثلة تطبيقية، فاتجه البحث الفقهي نحو دراسة موضوعات فقهية موروثة، أو موضوعات من واقع الحياة المعاصرة، دراسة مقارنة بين المدارس الفقهية الإسلامية، وبين النظم القانونية الوضعية الأخرى.
وعلى الرغم من أن المنهج المقارن قد حرر البحث الفقهي من المنهج الدفاعي القائم على التعصب لمذهب فقهي معيّن، لكنه تسبب في أحيان كثيرة - في أثناء المقارنة بين الفقه الإسلامي، والنظريات الوضعية الأخرى - في التقيّد بالنظرية محل المقارنة، وأحياناً يكون الفرق بينها وبين الإسلام كبيراً وجذرياً، فتصبح المقارنة متكلّفة. من هنا كان الأولى في التنظير الفقهي بناء النظرية الإسلامية بناء أصيلاً متميزاً دون التقيّد بالنظريات الأخرى([17]).
إن تطوير الصناعة الفقهية باتجاه التنظير بحاجة إلى مداخل أهمها: تطوير علوم المناهج، وترتيب الموضوعات الفقهية.
أما علوم المناهج فمثل: علم الفروق، والقواعد الفقهية، وعلم الخلاف، ونحوها، فهذه العلوم نشأت بفعل تطور الفقه الإسلامي وأصبحت فروعاً مستقلة، وهي مهمة جداً في جمع مادة النظريات الإسلامية الأساسية والفرعية، وفي بناء أركان النظرية وفروعها.
ورغم هذه الأهمية، فإن الكتابات المعاصرة لم تتقدم بهذه العلوم كثيراً عما فعله المتقدمون، وأبرز مثال على ذلك القواعد الفقهية، فرغم الدور الذي حظي به هذا العلم في حركة التقنين في العصر الحديث، فإن جهود المعاصرين اقتصرت على شرح القواعد التي نصت عليها مجلة الأحكام العدلية، ولم يقتحم مجال الحصر والتصنيف لهذه القواعد إلا أفراداً معدودين كالأستاذ أحمد الزرقا الذي صنف القواعد الفقهية إلى أساسية، وفرعية، كما أضاف قواعد جديدة([18]).
أما ترتيب الموضوعات الفقهية؛ فلأن من أسباب صعوبة البحث في مصادر الفقه ومدوناته تداخل الموضوعات الفقهية([19])، بحيث يذكر الموضوع الفقهي، أو المسألة الفقهية في غير بابها المناسب لها، وإنما تذكر استطراداً في باب من الأبواب، ثم يغفل ذكرها في موضعها المناسب لها، اعتماداً على ذكرها سابقاً دون الإحالة عليها. مثال ذلك بيع الوفاء، يذكر عند بعضهم في البيوع الفاسدة، وعند بعضهم الآخر في خيار الشرط، وعند آخرين في الإكراه([20]). من هنا استلزم التنظير الفقهي ترتيب الموضوعات الفقهية بحسب مناسبات ذكرها في مصادر المذاهب الفقهية.
إن اعتبار التنظير من أولويات التصنيف الفقهي، لا يعني بحال من الأحوال إهمال إجراءات أخرى فنية ومنهجية تمسّ مضمون المادة الفقهية وشكلها، التي اهتم ببيانها جلّ من كتب في سبل تيسير الفقه الإسلامي، وتطوير مناهج البحث فيه([21]).. ومن تلك الإجراءات:
- صياغة المادة الفقهية بلغة بسيطة وأسلوب سهل، وتفادي شرح المسائل بالأمثلة الفقهية الغريبة، التي فقدت وجودها الاجتماعي والعملي في المجتمعات المعاصرة.
- ترجمة المقادير الشرعية إلى مقادير العصر، كالصاع، والوسق، والذراع، والدينار، والدرهم، وغيرها، في نصاب الزكاة، والسرقة، والدية، ونحوها.
- حذف المسائل التي لم تعد قائمة في زماننا: مثل أحكام الرق والرقيق.
- الاستفادة من الكتابات العصرية المتخصصة في بيان الحكمة من التشريع: مثل ما كتبه الأطباء في بيان أضرار الخمر، وما كتبه الاقتصاديون عن الآثار المدمرة للربا.
- الاستعانة بوسائل الإيضاح: كالرسوم التوضيحية، الخطوط البيانية، الجداول، الخرائط وغيرها، في بيان الأحكام الفقهية.
- استخدام معارف العصر في بيان الحكم الشرعي، أوفي ترجيح بعض الآراء الفقهية، أو مراجعة أحكام مأخذها معرفة بشرية أثبت تطور المعارف الإنسانية، والعلوم الكونية خطأها؛ لأنها بنيت أصلاً على استقراء ناقص، أو على ثقة بأقوال بعض الناس، أو بمعلومات معينة لم يتوافر لها من وسائل التمحيص العلمي ما توفر في عصرنا لهذا النوع من العلوم. وهذا الجانب يختص أكثر ما يختص بالعلوم الطبية، والكونية.
- تزويد الكتب الفقهية بالفهارس التحليلية التفصيلية، التي تهتم بتصنيف جزئيات المسائل والموضوعات أقساماً وأنواعاً، حسب طبيعتها وموضوعاتها.
- التزام البحث الفقهي علامات الترقيم الإملائية.
وهذه الإجراءات، لا تحتمل - فيما أرى- نقاشاً، خلافاً لإجراءات أخرى مقترحة، مجال الأخذ والرد فيها أوسع، أهمها:
الاستفادة من العلوم الاجتماعية ومناهجها، لصياغة منهجية تكاملية بين هذه العلوم وعلم الفقه وأصوله([22]) حتى تكون الدراسات الفقهية المعاصرة صادقة، وشاملة، والأحكام أكثر توافقاً وتطابقاً مع الواقع. وقد حدّد مجال الاستفادة من هذه العلوم في أمرين:
الأول: تنزيل الحكم الشرعي؛ ذلك لأن الاجتهاد التطبيقي يمر بمرحلتين:
أ - مرحلة التعرف على الواقعة محل الاجتهاد، وما دامت الواقعة قد أصبحت عبارة عن ظواهر معقدة، لابد أن يستعان بمختلف المناهج للتعرف عليها.
ب - مرحلة تطبيق الحكم على الواقعة، وهذا التطبيق يدخل فيه، إلى جانب الناحية الشرعية، جوانب نفسية، واجتماعية، واقتصادية، يجب أن تراعى حتى يكون الحكم مصيباً للحقيقة، ومحققاً للعدالة.
الثاني: تجديد أدوات الاستنباط الفقهي، فإن جلّ المصادر التبعية (العرف، الاستحسان، المصلحة المرسلة)، التي هي في الحقيقة عبارة عن مناهج في البحث يقوم بتوظيفها العقل البشري، المجال فيها واسع لتدخل مناهج العلوم الاجتماعية، وأبرز مثال على ذلك العرف. فإن التعرف عليه من صميم عمليات البحث الاجتماعي الذي يتم التوصل إليه بمناهج علم الاجتماع.
والحقيقة أن مبدأ إيجاد منهجية تكاملية بين علم الفقه والعلوم الاجتماعية مبدأ سليم، يقتضيه الفهم الصحيح لواقع الناس، والتطبيق السليم لأحكام الإسلام ونظمه. إلاّ أن الإشكال الذي يمكن أن يطرح حول هذا الإجراء المنهجي هو:
ما المقصود بالتكامل المنهجي بين هذين النوعين من العلوم؟ وما ضوابط هذا التكامل المنشود؟ هل معناه اتخاذ العلوم الاجتماعية ومناهجها معايير يجدد على أساسها الفقه الإسلامي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما مدى دقة وعلمية هذه المعايير التي ستنبني عليها الأحكام الشرعية؟
إن الدافع لإقرار مبدأ صياغة منهجية تكاملية بين علم الفقه وأصوله، والعلوم الاجتماعية، والتحفظ في تطبيقاته هو اضطراب هذه النظريات، وعدم استقرارها العلمي، وهو ما سيؤدي بطبيعة الحال إلى اضطراب نتائجها التي ستبنى عليها الأحكام الشرعية.. ومصدر هذا الاضطراب الأمور الآتية:
- الإطار المرجعي العام للعلوم الاجتماعية: فقد صيغت مناهج هذه العلوم في إطار الفكر الغربي، الذي اعتبر العقل والحواس المصدرين الوحيدين للمعرفة، فاختزل المنهج العلمي في عناصره التجريبية الحسية، كما اختزل الحقيقة الإنسانية في جوانبها المادية، ومن هذا المنطلق فصل بين العلوم الإنسانية والعناصر «اللاهوتية»، وحاول تطبيق المنهج التجريبي عليها، ودراستها دراسة كلية، فأهمل ثنائية الروح والمادة([23]).
وهذه الحقيقة معروفة، وعلى أساسها تقوم مشاريع أسلمة العلوم، وإصلاح مناهج الفكر، لكن المراد بيانه في موضوع الإشكالية هو حضور هذا الإطار المرجعي في كل مراحل البحث في العلوم الاجتماعية، فهو «يؤثر بطريق مباشر وغير مباشر في عملية البحث العلمي سواء فيما يتعلق بتوجيه الأنظار إلى موضوعات دون أخرى، وفي فرض الفروض، وتحويل المفاهيم إلى متغيّرات، أو بالنسبة لجمع المادة اللازمة للبحث بالتأثير على نقط الاهتمام، وعلى الملاحظات التي يحاول ربطها مع غيرها من الواقع، بما يؤثر في تنظيم الحقائق الناتجة عن عملية البحث، أو تفسير ما تمّ الحصول عليه من نتائج»([24]).
وهذا يؤكد خاصية من خصائص هذه العلوم وهي التوظيف الأيديولوجي لأدوات ونتائج البحث.
- تناقض النظريات في العلوم الاجتماعية: فهذه العلوم تفتقر فروعها إلى نظرية عامة قادرة على تفسير الواقع الاجتماعي والإنساني من جوانبه المختلفة تفسيراً موضوعياً متفقاً عليه، وهذا يبيّن مدى خضوع هذه النظريات للذاتية، والتوجيهات المذهبية مما يحول دون بلوغ الأهداف العلمية([25]).
- الاختلاف في أدوات البحث: ترتب على تعدد النظريات في هذه العلوم وتناقضها، اختلاف في أدوات بحث وتحليل وتفسير الظواهر الاجتماعية والنفسية، ومن ثم اختلاف نتائج الدراسات. فالمتصفح لكتب مناهج البحث الاجتماعي، يطلع - ولا شك - على الصراع الدائر بين المشتغلين بعلم الاجتماع حول تأكيد أولوية الأسلوب الكمي أو الأسلوب الكيفي في بحوث هذا العلم. واختلافهم كذلك في أسلوب تحليل المضمون، فرغم إقرارهم بأهمية هذا الأسلوب في البحث الاجتماعي، إذ أنه يساعد في الوصف العلمي لظاهرة الدراسة، إلا أن هذا لم يمنع بعض الكتابات المنهجية التي عنيت بهذا الأسلوب من تسجيل بعض مشكلاته المنهجية، وأهمها: هل تحليل المضمون منهج، أم أسلوب، أم أداة؟ وهل دوره يقتصر على وصف المادة المحللة، أو تحليلها أو تفسيرها؟ وهل مهمته قاصرة على لمس المستوى الظاهر في المادة، أم سبر غورها، لتبين بعض ما هو كامن فيها؟
كما اختلف المشتغلون بالعلوم الاجتماعية في ماهية وجوهر المسح الاجتماعي الذي يعد من أهم طرق البحث في علم الاجتماع، فنجد بعضاً منهم يعتبره منهجاً من مناهج البحث، وبعضاً آخر يراه نمطاً من أنماط البحث الاجتماعي، وبعضاً ثالثاً يراه طريقة من طرق الدراسة وجمع البيانات.
كما انتقدت كتب مناهج البحث الاجتماعي المسح الاجتماعي من عدة وجوه أهمها: أنه يركز على الأبعاد الكمية المستعرضة أكثر من تركيزه على التعمق في الظواهر والقضايا المدروسة بسب تركيزه على المجال، أكثر من العمق([26]).
إن هذه المشكلات المنهجية التي تعاني منها العلوم الاجتماعية ومناهجها - وباعتراف علمائها - تفرض عدم أخذها ونتائج الدراسات المعتمدة عليها بوصفها مسلّمات أو أدلة علمية قطعية، تُبنى على أساسها أحكام شرعية، بل الوضع يقتضي استيعاب هذه المناهج نظرياً، والقدرة على توظيفها الإيجابي ميدانياً، وعدم تبني الدراسات الجاهزة التي يُجهل مدى دقة الأدوات والمناهج التي استعملت فيها.
__________________________________________
([17]) جمال الدين عطية،التنظير الفقهي،ط1 (السعودية:مطبعة المدينة:1989م) ص192.
([18]) أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية (دمشق: دار القلم، 1993).
([19]) تناول الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان هذا الموضوع في بحث مستقل، عنوانه: "ترتيب الموضوعات الفقهية ومناسباتها في المذاهب الأربعة"، نشره مركز البحث العلمي والتراث الإسلامي بجامعة أم القرى، سنة 1408هـ، 1988م.
([20]) عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، منهج البحث في الفقه الإسلامي، ط1 (السعودية: المكتبة المكية، لبنان:دار ابن حزم، 1416هـ-1996م).
([21]) انظر: يوسف القرضاوي، "نحو فقه ميسر معاصر"، مجلة إسلامية المعرفة، السنة الثانية، العدد الخامس، يوليو1996، ص101-105، وشريعة الإسلام، ص123-127؛ عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، منهج البحث في الفقه الإسلامي، ص98، 251، 254.
([22]) انظر: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، المرجع نفسه، ص98-99؛ جمال الدين عطية، علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، محاضرة في كلية الشريعة، جامعة قطر، 1988، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص15-16.
([23]) انظر: محمد محمد أمزيان، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، ط1 (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1991م) ص50-61؛ جمال الدين عطية، علم أصول الفقه والعلوم الاجتماعية، ص9.
([24]) فاروق يوسف أحمد،مناهج البحث العلمي(القاهرة:مكتبة عين شمس،1978م) ص56.
([25]) انظر: المرجع نفسه، ص58؛ ومحمد محمد أمزيان، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، ص105.
([26]) عبد الباسط، محمد عبد المعطي، البحث الاجتماعي محاولة نحو رؤية نقدية لمنهجه وأبعاده (مصر:دار المعرفة الجامعية،1990م) ص140، 142، 291، 302، 316.(1/18)
الفصل الخامس
المحدد الرابع: الموضوع الفقهي
من الملاحظات التي أثارها الباحثون المعاصرون في التراث الفقهي الإسلامي، تطور البحث الفقهي في الموضوعات المتعلقة بفقه الأفراد: العبادات والمعاملات، أكثر من تطوره في الموضوعات المتعلقة بفقه الدولة والمجتمع: الاقتصاد، السياسة، الإدارة، العلاقات...الخ.
هذه الدعوى وإن بالغ فيها بعضهم كالشيخ علي عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم»([27])، فإن القراءة المتأنية للتراث الفقهي تؤكد وجود فارق كميّ ونوعيّ بين الفقهين - فقه الفرد وفقه الدولة - وقد يكون لهذا الفارق ما يبرره آنذاك مما ينقله من النقيصة إلى الواقعية ومراعاة متطلبات الظرف، لكن ليس له ما يبرره اليوم؛ لأن الواقع والظروف يتطلبان غير ذلك.
من هنا كان من أولويات تجديد الفقه الإسلامي تنمية البحث في الموضوعات المتصلة بالمجتمع والدولة. وتطوير البحث في هذا الجانب من الفقه الإسلامي، يجب أن لا يكون تلقائياً عفوياً، وإنما يتطلب تتبع خطوات منهجية دقيقة تضمن صحة المقدمات وسلامة النتائج. ومن ذلك:
أولاً: تبيّن الخلفية التاريخية لهذا النوع من الفقه، لتحديد الثغرات المراد سدها والآثار المترتبة عليها.
ثانياً: تحديد مواضع ومنهجية الاجتهاد فيه.
ولتوضيح ماهية وأهمية هذه الخطوات لا بأس من التمثيل بأحد موضوعات فقه الدولة ألا وهو الفقه السياسي([28]).
فعلى الرغم من أن التجربة السياسية الإسلامية في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت وستظل أغنى تجربة، في متانة أطرها النظرية وطهارة وسائلها بالمقارنة مع أيّ تجربة بشرية أخرى، إلا أن الصراع العقدي والسياسي الذي ظهر مبكراً في المجتمع الإسلامي حدد بنسبة معينة وجهة الفكر السياسي الإسلامي.
فموضوع الإمامة مثلاً - وهو من المباحث الأساسية في الفقه السياسي الإسلامي - لما كان موضع خلاف ونقاش كبيرين بين الفرق الإسلامية، أدرج ضمن مباحث علم الكلام بوصفه موضوعاً من موضوعات العقيدة، الأمر الذي جعل كتب الفقه تنصرف عن دراسته دراسة موسعة ومعمقة، باعتباره جزءاً من فقه الفروع.
كما أن تغير نظام الحكم بعد الخلافة الراشدة من حكم شوري إلى حكم ملكي، وما ترتب عليه من امتداد سلطة الدولة إلى جلّ ميادين التنظيم الاجتماعي، جعل الفكر السياسي الإسلامي لا يواصل تنمية البحث في موضوعات أساسية. فمثلاً حين نراجع بواكير التراث السياسي نجد بداية حركة التصنيف فيه تتمحور حول مسألة الإمامة والخراج، أي ما يتعلق بتدبير شؤون الملك والسياسة، وتنظيم المنابع المالية للدولة، لكن هذين المحورين لم يشهدا تطوراً ينقل البحث فيهما من التأليف الفروعي إلى التنظير الشمولي. وإن كان الدكتور عبد الرزاق السنهوري قد استثنى من هذا التعميم الإمام الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية"، إذ عالج مسائل الخلافة - كما قال - بشيء من التوسع، فإنه سرعان ما استدرك، مبيّناً أنه - أي الماوردي - اهتم بالناحية الإدارية في أحكام الخلافة أكثر من ناحيتها الدستورية([29]).
وللأسباب السياسية ذاتها لم يطرق الفكر السياسي الإسلامي بجدية أبواب عدة موضوعات، كتلك المتعلقة بشؤون المواطنة، وحقوق الرعية، والأمن السياسي والاجتماعي، وأحكام المعارضة السياسية([30])، فمثل هذه القضايا لا يعثر عليها إلا في مساحات محدودة ضمن تراثنا السياسي.
ولعل السبب في هذا المنحى الذي نحاه الفقه السياسي الإسلامي، هو عزوف الفقهاء عن الخوض بتوسع وعمق في أحكام الخلافة خشية الاصطدام بنظم الحكم غير الشورية، أو خشية التسبب في فتنة تكسر شوكة الدولة الإسلامية أمام أعدائها.
ولقد كان لهذا الاختيار في الواقع مبررات موضوعية، جعلته يعكس مراعاة الفقهاء لفقه الأولويات والموازنات، ذلك أن أنظمة الحكم بعد الخلافة الراشدة لم تنكر أن الإسلام يوجب قيام نظام الحكم على البيعة، إلا أن أكثرها لم يحترم مبدأ حرية البيعة الذي توجبه الشورى، وأمام هذا الوضع اعتبر الفقهاء أن وحدة الأمة الإسلامية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوحدة الدولة. وما كان لهم في الحقيقة أن يفرقوا بين الوحدتين، لأن الواقع أكد صحة هذا المبدأ. فتغيّر طبيعة نظام الحكم من شورى إلى ملكي لم يوقف الفتوحات الإسلامية التي تولت مهمة نشر الإسلام ومد دعوته إلى أقصى بلاد العالم.
إن بيان الخلفية التاريخية لواقع الفقه السياسي الإسلامي، ليس دعوة لتجاوز هذا التراث، أو التشكيك في قيمته العلمية، لكن لتأكيد أن تراثنا السياسي بحاجة إلى قراءة جادة تكشف الأبعاد الغائبة فيه لبعثها من جديد.
وإن مما يساعد على تحديد هذه الأبعاد الغائبة في تراثنا الفقهي السياسي، تجنب نوعين من القراءة:
الأولى: قراءته من منظور الفكر السياسي الغربي، بإسقاط المفاهيم السياسية الغربية عليه أثناء التحليل والتفسير.
الثانية: قراءته قراءة مثالية تنزيهية تعمد إلى تجاهل مشكلاته التاريخية، وما نجم عنها من مفاهيم وتصورات.
ولا شك أن هذه القراءة الموضوعية ستكتشف - بعد تحديدها للأبعاد الغائبة في الفقه السياسي الإسلامي - أن الدراسات المعاصرة في الفقه السياسي، مازالت تركز على كليات النظام السياسي الإسلامي وكيفية بنائه، ولم تخطو خطوات هامة نحو تقديم صيغ تنظيمية للقيم السياسية الإسلامية. ولعل السبب في ذلك أن الفقه السياسي المعاصر قد اكتفى بما تمّ إنجازه في فقه الأحكام السلطانية من جهة، ومن جهة أخرى فإن التجربة السياسية الإسلامية المعاصرة لم تنضج بعد، ومازال خطابها يركز على المبادئ، ولم تنتقل بعد إلى صياغة البرامج.
إلا أن قيام الدولة الحديثة على غرار النموذج الغربي، فرض على التجربة السياسية الإسلامية المعاصرة الأخذ بآليات العمل السياسي في المشاركة السياسية، والاهتمام بموضوع الحريات العامة، وتدعيم وجود المجتمع المدني، إلى غيرها من المواقف، الأمر الذي يوجب على الفكر السياسي الإسلامي المعاصر تطوير البحث النظري في مثل هذه الموضوعات، وتقديم صيغ تنظيمية للقيم السياسية الإسلامية.
لكن ما يجب تأكيده هو أن تقديم صيغ تنظيمية هي مرحلة متأخرة في التنظير السياسي، يسبقها التحديد الدقيق لمواضع ومنهجية الاجتهاد في الفقه السياسي.. وفي هذا الإطار يركز البحث على إشكاليات كثيرة أهمها: إشكالية المنهج والمفاهيم.
أما المنهج، فإن صياغة النظرية السياسية الإسلامية تقتضي بناء منهج لفقه التنظير السياسي؛ منهج ينطلق أساساً من الأصول الشرعية: الكتاب والسنة، ويستوعب التجربة السياسية الإسلامية؛ منهج يجمع بين الشق التنظيري القيمي والشق التغييري الواقعي.
كما تقتضي الدراسة على مستوى المنهج، تحديد منهجية التعامل مع الأدوات المنهجية المتبعة في الدراسات السياسية الغربية، وكذا تأسيس مناهج للبحث في موضوعات الفكر السياسي والنظم السياسية وفروع العلوم السياسية من منظور إسلامي.
أما المفاهيم، فإن من مقتضيات التنظير السياسي الإسلامي ضبط وتأصيل المفاهيم الشرعية الإسلامية، وتحديد الموقف العلمي من المفاهيم والمصطلحات العلمانية الغربية.
----------------------------------------------
([27]) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، ط2(بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1988م).
([28]) تم اختيار هذا الموضوع لأن البحث فيه لم يتطور كتطور البحث في مجال الاقتصاد. وذلك نتيجة إنشاء البنوك الإسلامية وظهور مشاكل في التطبيق، الأمر الذي وجّه البحث في الاقتصاد الإسلامي من الحديث في العموميات والكليات إلى البحث في التفاصيل والتطبيقات.
([29]) عبد الرزاق أحمد السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، ط2 (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م) ص49.
([30]) للتوسع انظر: راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993) ص187.(1/19)
الفصل الخامس
المحدد الخامس: دراسة إشكالية انفصال مؤسسة الاجتهاد عن سلطة التشريع في الدولة الحديثة »
المحدد الخامس: دراسة إشكالية انفصال مؤسسة الاجتهاد عن سلطة التشريع في الدولة الحديثة
إن الدراسة الواقعية والموضوعية لموضوع تجديد الفقه الإسلامي تقتضي عدم قصر البحث على الجانب التنظيري الذي يتناول منهج التجديد ومجالاته وضوابطه، دون القضايا التي تمس الجانب التطبيقي الميداني، كمعوّقات التجديد. ولعل أهم عائق في طريق تجديد علم الفقه هو: انفصال مؤسسة الاجتهاد عن سلطة التشريع في الدولة الحديثة.
فبعد قيام الدولة الحديثة، انفصلت مؤسسة الاجتهاد عن سلطة الدولة، فاختص الاجتهاد الفقهي بصورة عامة، بشؤون الفرد، واختص اجتهاد الدولة بالمرافق العامة، فامتد نفوذ الدولة التشريعي إلى كل ميادين التنظيم الاجتماعي بتطبيق القانون الوضعي، وما بقي خاضعاً للاجتهاد الفقهي كالأحوال الشخصية، وبعض جوانب الملكية العقارية، وبعض الجرائم في بعض الدول الإسلامية، عمدت فيه الدولة إلى تقنين الأحكام التي تطبق عليه، وما لم تقننه ألزمت القضاء بالرجوع للحكم فيه إلى مذهب فقهي معيّن، وبهذا لم يعد لمؤسسة العلماء أو الاجتهاد أي دور في وضع القاعدة القانونية الملزمة.
إن غياب الوضع الدستوري الملائم لصياغة الأحكام الفقهية الاجتهادية في شكل قاعدة قانونية ملزمة، هو أهم عقبة في طريق تجديد الفقه الإسلامي، وذلك لاعتبارات منهجية وأخرى واقعية.
أما الاعتبارات المنهجية، فأهمها أن التحليل التاريخي لأزمة المنهج في الدراسات الفقهية يبيّن أن من أسباب إقصاء الفقه الإسلامي عن الواقع التشريعي في العصر الحديث، القطيعة الحقيقية التي حدثت بين السلطة السياسية والسلطة العلمية، وهذه الإشكالية كما هو باد تتكوّن من طرفين، الحاكم والفقيه، فلا يمكن بحال من الأحوال تصور الحل من طرف واحد، وتحميل الفقيه وحده مسؤولية إعادة الفقه الإسلامي إلى ميادين الحياة العامة.
أما الاعتبارات الواقعية فأهمها:
- أن الممارسة الميدانية تمثّل مدداً للفقه، ووسيلة لنمو وتطور النظم الاجتماعية المتبناة، فإذا لم تجد مناهج التجديد الفقهي سبيلاً للممارسة والتطبيق بقيت مجرد أفكار وخطط نظرية.
- إن الاقتراحات الميدانية التي يقدمها بعض الباحثين لعلاج إشكالية انفصال مؤسسة الاجتهاد عن سلطة التشريع، كتكوين العلماء لهيئة تشريعية مستقلة وغيرها، متعذر من الناحية التطبيقية؛ لأن النظام الدستوري في الدولة الحديثة يرفض تسليم مهمة التشريع إلى غير مؤسسات الدولة.
- إن الفصل الذي تقوم عليه الدولة الحديثة بين ما هو مدني وما هو شرعي يبقي الفقه الإسلامي بعيداً عن التطبيق.
إن هذه الاعتبارات مجتمعة، تفرض على الباحث في التجديد الفقهي التفكير في السبيل الكفيل بتحقيق وحدة مؤسسة التشريع، والقضاء على الفصل بين ما هو مدني يدخل في اجتهاد الدولة وبين ما هو شرعي يختص بالعلماء، كما تفرض عليه التفكير في سبل احتكاك العلماء مع المجتمع من جهة، وسبل تفتح المجتمع على مفهوم الدين ومبادئه العامة في تنظيم العلاقات الاجتماعية من جهة أخرى.
إن هذه القضايا ومثيلاتها تعد من أولويات البحث في تجديد الفقه الإسلامي، ذلك أن الجدل النظري حول التجديد لا يكسب الفقه الإسلامي مواقع في التنفيذ وإدارة شؤون الحياة، ما دام وضع القاعدة القانونية محكوماً بالتنظيمات الدستورية القائمة.(1/20)
الخاتمة
إن الدراسة لنموذج التجديد الفقهي عند الإمام الشوكاني، التي ركزت أساساً على العوامل المحددة لظاهرة التجديد عنده، والأسس المنهجية التي على أساسها نظر لهذا التجديد، والمظاهر التي عكست هذا التنظير، وكذا العرض التحليلي لبعض المحددات المنهجية الضرورية في بحث موضوع تجديد المنهج الفقهي في العصر الراهن، كل هذه المحاور الأساسية التي تناولها موضوع البحث انتهت إلى نتائج كثيرة، أهمها ما يأتي:
1- إن الدراسة التحليلية لتاريخ الفقه الإسلامي بيَّنت أن أزمة المنهج في الدراسات الفقهية تتكون من ثلاثة فروع:
أ - انكماش الفقه من ناحية الموضوع.
ب- اختلال منهج الاستنباط والاستدلال في عصور التقليد.
ج- إقصاء التشريع الإسلامي من الحياة في العصر الحديث.
2- إن عدم اشتهار مصطلح التجديد في التراث الإسلامي، وشيوعه في مرحلة تنامي الظاهرة العلمانية، وتعبئته بمضامين منحرفة، لا ينبغي أن يكون سبباً في رفضه، لأن المصطلح ذو أصل في اللغة، وفي الشرع. وعليه فالمطلوب ضبط معناه في إطار التصور الإسلامي.
3- قابلية الفقه الإسلامي للتجدد؛ لأنه يمثل في أغلبه ـ ما عدا الأحكام القطعية المعلومة من الدين بالضرورة ـ اجتهادات الفقهاء في فهم النصوص الشرعية وفي إطار محددات زمانية ومكانية معينة.
4- إن المنظومة الفقهية عبارة عن حلقات مترابطة، فأي خلل يمس حلقة من حلقاته سيتعدى أثره إلى الحلقات الأخرى، وهذا يستدعي أن يشمل مشروع تجديد الفقه الإسلامي جميع مكونات العملية الفقهية: التنظير والتنزيل، البحث والصياغة، التصنيف والتدريس.
5- أهمية دراسة النماذج الفقهية التجديدية في تراثنا الفقهي، وتقييمها ضمن إطارها التاريخي، وتحديد منهجية الاستفادة منها وتطويرها.
6- أهمية نموذج الشوكاني في التجديد الفقهي، لوجوده في عصر استحكم فيه التقليد على التفكير الفقهي من جهة، وللأثر الذي تركه في الحركات الإصلاحية الحديثة في المشرق والمغرب.
7- إن شخصية الشوكاني التجديدية كانت نتاج حياة علمية مغايرة للأنماط الفكرية السائدة في عصره، المتسمة بالتمزق المعرفي، وعزلة جل العلماء عن الحياة والواقع. فمعرفته الموسوعية، وممارسته للسياسة والقضاء، كونت لديه معرفة متكاملة جعلت علمه يتفاعل مع عمله، فيثمر تعاملاً أصيلاً مع واقع الحياة، وتطوراته.
8- إن نظرية التجديد عند الشوكاني قائمة على ثلاثة أسس منهجية هي: تحريم التقليد والدعوة إلى الاجتهاد، تحقيق علم أصول الفقه، وتجديد منهجية الدراسات الفقهية.
9- تجلى التجديد الفقهي عند الإمام الشوكاني (رحمه الله) في ثلاثة مظاهر أساسية هي:
أ- ضبط مقومات البحث الفقهي، بالتأكيد على مبدأ الإنصاف، ونتائجه العلمية والمنهجية والتربوية.
ب- التجديد في الموضوع الفقهي، إذ أن ممارسة الشوكاني للسياسة، وتوليه للقضاء جعله ينفتح على قضايا المجتمع العامة، فألف في الفقه السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي والإداري.
ج- تجديد الفكر التربوي الفقهي، إذ عالج مضاعفات التقليد والتعصب في الفكر التربوي الفقهي من خلال تجديد مناهج التدريس والتأليف الفقهي.
10- إن التقليد في نظر الشوكاني هو سبب أزمة الأمة الحضارية، وإن البعث الحضاري يحتاج إلى إعادة تشكيل بنية العقل المسلم، بإقامته على مبدأ الاجتهاد.
11- إن الاجتهاد هو العامل المؤسس للوحدة الفقهية بين المسلمين؛ لأنه يزود الفقهاء بمبادئ منهجية مشتركة في التفكير الفقهي، وهي: الموضوعية، الانفتاح على التراث الفقهي كله، والروح النقدية.
12- إن حرص الشوكاني على استرجاع مكانة الدليل - النص الشرعي - في المنظومة الفقهية، جعله يفرط أحياناً في التمسك بظاهر النص، والمطالبة بالدليل على حساب مقاصد الشريعة.
13- إن تجديد المنهج الفقهي مازال بحاجة إلى مزيد دراسة تضبط المفهوم والمنهج، وموضوع الضوابط والمجالات.
14- إن التنظير للتجديد الفقهي يحتاج إلى بحث بعض المحددات المنهجية التي تساهم في تفكيك وتحليل الإشكاليات النظرية، والتطبيقية التي تعترض بحث الموضوع. وأهم هذه الإشكاليات:
أ- بيان مفهوم تجديد المنهجية الأصولية بصياغة إشكالية ناظمة، ووضع بديل منهجي محدد ومنضبط.
ب- ضبط إشكالية تعليل الأحكام بصياغة منهج منضبط يجمع بين التنظير والتطبيق.
ج- استحداث أطر جديدة للتصنيف الفقهي، تتمثل أساساً في تطوير الصناعة الفقهية باتجاه التنظير عن طريق تطوير علوم المناهج، وترتيب الموضوعات الفقهية، واعتماد الإجراءات الفنية في تنظيم المادة الفقهية، وكذلك تحديد ضوابط الاستفادة من العلوم الاجتماعية ومناهجها في تجديد الفقه الإسلامي، وصياغة منهجية تكاملية بين هذه العلوم.
د- إثراء البحث في الموضوع الفقهي، بتعميق الدراسة في الموضوعات المتصلة بالمجتمع والدولة، وتحديد منهجية الاجتهاد فيها.
هـ- دراسة إشكالية انفصال مؤسسة الاجتهاد عن سلطة التشريع في الدولة الحديثة، ومحاولة إيجاد السبل الكفيلة بتحقيق وحدة مؤسسة التشريع لضمان صياغة الأحكام الفقهية الاجتهادية في شكل قواعد قانونية منضبطة.
ويبقى أخيراً أنّ تقييم نموذج الشوكاني الفقهي التجديدي ضمن إطاره التاريخي، وفي إطار المحددات الزمانية والمكانية التي عايشها، تؤكد نجاحه في تجديد المنهج الفقهي. والسر في هذا النجاح - في رأيي- هو إدراكه لطبيعة الأزمة التي عاشها التفكير الفقهي في عصره، وأثرها البالغ في المنظومة المعرفية الإسلامية، وعلى جوانب الحياة المختلفة: العقدية، والتشريعية، والاجتماعية، والسياسية.
فكان الهدف الأساس الذي سخر الإمام الشوكاني له كل جهوده، هو إعادة تشكيل العقلية الفقهية بإقامتها على مبدأ الاجتهاد، وتحريرها من تبعية التقليد، سعياً منه إلى بناء وحدة فقهية بين المسلمين تواجه التمزق الاجتماعي والفكري الذي أفرزه التقليد. هذه الوحدة التي تمثل في نظر الشوكاني أحد الحلول الضرورية للأزمة الحضارية التي عاشتها الأمة الإسلامية في عصره.
ولعل أهم ثمرة يمكن أن يقطفها العقل الفقهي من نموذج الإمام الشوكاني التجديدي، هي إدراك محورية مبدأ الاجتهاد في الفقه الإسلامي، واستشعار أهمية التركيز على الشمولية عند اقتراح مناهج التجديد الفقهي. وقد مثل جهد الإمام الشوكاني نموذجاً رائعاً لهذه الشمولية، وتلك المحورية.
ولما كانت مناهج التجديد الفقهي تخضع لظروف وحاجات الناس ، ولنوع ومستوى المعارف في كل عصر، فقد تضمن البحث اقتراحاً بدراسة ستة محددات منهجية يمكن أن يستفاد منها في دراسة وتحليل الإشكاليات النظرية و التطبيقية التي تعترض عملية التنظير للتجديد الفقهي في العصر الراهن.
وبعد، فقد بذلت جهدي ما استطعت، وحاولت الكشف عن شخصية الإمام الشوكاني العلمية الفذة، من خلال الكشف عن أهم مكوناتها، ألا وهي النزعة الاجتهادية التجديدية؛ هذه النزعة التي ألقت بظلالها على جميع تراثه الفقهي.. كما حاولت استصحاب هذه النزعة وهذا التراث لأقترح - بناء على ذلك- معالم ناظمة لتجديد المنهج الفقهي المعاصر. فحسبها أنها محاولة، أرجو أن تكون جادة.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.(1/21)