- - - - - - - - - - - - - -
مع
كتاب الله
جمع وترتيب
بهجت بن فاضل بن بهجت
- - - - - - - - - - - - - -
المقدمة
... الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة وجعلنا خير أمة وبعث فينا رسولا منا يتلوا علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة .
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد فالقرآن الكريم كتاب الله عزوجل الذي أُنزل على رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم هدى ورحمة ونوراً وعصمة وفضلاً منه ونعمة ، فلا سبيل لصلاح حال هذه الأمة واستقامتها وعزتها وكرامتها ، وقوتها ووحدتها ، وانتفاضها ونهضتها ، وتقدمها وسيادتها إلا بالتمسك بهذا الكتاب المبين .
قال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( (النحل:89) .
ولقد جعل الله تبارك وتعالى القرآن الكريم للأدواء شفاءً ، وللصدور جلاءً ، وأن خير القلوب قلب واعٍ للقرآن الكريم ، وخير الألسنة لسان يتلوه ، وخير البيوت بيت يكون فيه ، وأنه أعظم الكتب منزلة ، فهو النور المبين الذي لا يشبهه نور ، والبرهان المستبين الذي ترتقي به النفوس وتنشرح به الصدور ، لا شيء أفصح من بلاغته ، ولا أرجح من فصاحته ، ولا أكثر من إفادته ، ولا ألذ من تلاوته ، من تمسك به فقد نهج منهج الصواب ، ومن ضل عنه فقد خاب وخسر وطرد عن الباب.
فليعيرنى كلا منكم قلبه هذه اللحظات لنحيا مع كتاب الله
التعريف بالقرآن الكريم
القرآن الكريم كلام الله تعالى المنزل على قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم ، المعجز بلفظه ومعناه ، المتحدى بأقصر سورة منه ، المتعبد بتلاوته ،المنقول إلينا بالتواتر ، المكتوب فى المصاحف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس .(1/1)
والتواتر :هو نقل جمع غفير عن جمع غفير عن جمع غفير يستحيل تواطؤهم على الكذب .
القرآن الكريم كلام الله منه بدا، بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيًا فى أوجز لفظ وأعجز أسلوب ، فأعيت بلاغته البلغاء ، وأعجزت فصاحته الفصحاء، وأسكتت حكمته الحكماء،وأزهلت روعته الخطباء ، فالقرآن هوالحجة البالغة ، والدلالة الدامغة ، والنعمة الباقية ،والعصمة الواقية ، وهوشفاء الصدور والحكم العدل فيما أحكم وتشابه من الأمور، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية،فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر .
قد وصف الله كتابه بأوصاف جليلة عظيمة تنطبق على جميعه ، وتدل أكبر دلالة على أنه الأصل والأساس لجميع العلوم النافعة ، والفنون المرشدة لخير الدنيا والآخرة ، وتدل على عظمته وبركته وتأثيره وشموله ، وأنه حاكم على ما قبله من الكتب
قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87)
وقال تعالى : ( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (ق: 1)
وقال تعالى : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29)
وقال تعالى : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام:155)
وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة:77)
وقال تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (الإسراء : 9)
وقال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21)(1/2)
وقال تعالى : (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون) (التوبة: 124-125)
وقال تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(الأنعام: 19)
وقال تعالى : (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52).
وقال تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)
وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ )(المائدة: 48) .
وصفه الله بالهدى والرشد ، والفرقان ، وأنه مبين وتبيان لكل شيء ؛ فهو في نفسه هدى ، ويهدي الخلق لجميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم ، ويرشدهم إلى كل طريق نافع ، ويفرق لهم بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وبين أهل السعادة والشقاوة بذكر أوصاف الفريقين ، وفيه بيان الأصول والفروع بذكر أدلتها النقلية والعقلية ، فوصفه بهذه الأوصاف المطلقة العامة التي لا يشذ عنها شيء في آيات كثيرة .(1/3)
وقيد هدايته في بعض الآيات بعدة قيود : قيد هدايته بأنه هدى للمؤمنين المتقين ؛ لقوم يعقلون ، ويتفكرون ، ولمن قصده الحق ، وهذا بيان منه تعالى لشرط هدايته ؛ وهو أن المحل لا بد أن يكون قابلا وعاملا ، فلا بد لهدايته من عقل وتفكير وتدبر لآياته ؛ فالمعرض الذي لا يتفكر ولا يتدبر آياته لا ينتفع به ، ومن ليس قصده الحق ولا غرض له في الرشاد ، بل قصده فاسد ، وقد وطن نفسه على مقاومته ومعارضته ، ليس له من هدايته نصيب ؛ فالأول حرم هدايته لفقد الشرط ، والثاني لوجود المانع ؛ فأما من أقبل عليه ، وتفكر في معانيه وتدبرها بحسن فهم ، وحسن قصد ، وسلم من الهوى ، فإنه يهتدي به إلى كل مطلوب ، وينال به كل غاية جليلة ومرغوب .
ووصفه بأنه رحمة ، وهي الخير الديني والدنيوي والأخروي المترتب على الاهتداء بالقرآن ، فكل من كان أعظم اهتداء به فله من الرحمة والخير والسعادة والفلاح بحسب ذلك .
ووصفه بأنه نور ، وذلك لبيانه وتوضيحه العلوم النافعة ، والمعاني الكاملة ، وأن به يخرج العبد من جميع الظلمات : ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والشقاء ، إلى نور العلم واليقين والإيمان والطاعة والرشاد المتنوع .
ووصفه بأنه شفاء لما في الصدور ، وذلك يشمل جميع أمراض القلوب ؛ فهو يوضح أمراض القلوب ويشخصها ، ويرشد العباد إلى كل وسيلة يحصل بها زوالها وشفاؤها ، فيذكر لهم أمراض الجهل والشكوك والحيرة وأسباب ذلك ، ويرشدهم إلى قلعها بالعلوم النافعة واليقين الصادق ، وسلوك الطرق الصحيحة المزيلة لهذه العلل ، ويذكر لهم أمراض الشهوات والغي ، ويبين لهم أسبابها وعلاماتها وآثارها الضارة ، ويذكر لهم ما به تعالج من المواعظ والتذكر والترغيب والترهيب ، والمقابلة بين الأمور ، وترجيح ماترجحت مصلحته العاجلة والآجلة .(1/4)
ووصفه بأنه كله صلاح ، ويهدي إلى الإصلاح ، وإلى أقوم الأمور وأرشدها وأنفعها في كل شيء من دون استثناء ، وهذا الوصف المحيط لا يخرج عنه شيء ، فهو إصلاح للعقائد والقلوب ، وللأخلاق والأعمال ، ويهدي إلى كل صلاح ديني ودنيوي بحيث تقوم به الأمور ، وتعتدل به الأحوال ، ويحصل به الكمال المتنوع من كل وجه بالإرشاد إلى كل وسيلة نافعة تؤدي إلى المقاصد والغايات المطلوبة ، فلا سبيل إلى الهداية والصلاح والإصلاح لجميع الأمور إلا بسلوك الطرق التي أرشد إليها القرآن ، وحث العباد عليها .
حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (الحجر :9).
فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) (الإسراء:9).
هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (إبراهيم :1).(1/5)
فتح الله به أعيناعميا،وآذانا صما،وقلوبا غلفا،وضمن للمسلمين الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم تَلَوْه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بما شرع، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم.
قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) (البقرة : 121).
قال ابن عباس: "يتَّبعونه حق اتباعه، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه". وقال قتادة: "هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا بكتاب الله فصدَّقوا به، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه".
نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ) (الجن: 1 - 3).
وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (الأحقاف: 30 - 31).
من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (الزخرف : 4).(1/6)
وقال سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) (المائدة: 48).
قال علماء التفسير: "وعلُوُّ القرآن على سائر كتب الله وإن كان الكل من عنده بأمور، منها:
= أنه زاد عليها بسور كثيرة؛ فقد جاء في الحديث أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خُصَّ بسورة الحمد، وخواتيم سورة البقرة، وفي مسند الدارمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن السبع الطوال مثل التوراة ، والمئين مثل الإنجيل، والمثاني مثل الزبور، وسائر القرآن بعد هذا فضل"
= ومنها: أن الله جعل أسلوبه معجزا، وإن كان الإعجاز في سائر كتب الله تعالى من حيث الإخبار عن المغيبات، والإعلام بالأحكام، ولكن ليس فيها الأسلوب الخارج عن المعهود، فكان القرآن أعلى منها بهذه المعاني وأمثالها وإلى هذا الإشارةُ
بقوله تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (الزخرف :4).
ومما يدل على هذا أيضا قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (آل عمران: 110) قال الحافظ ابن كثير :"وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم -القرآن- الذي شرفه الله تعالى على كل كتاب أنزله، وجعله مهيمنا عليه، وناسخا له وخاتما له؛ لأن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الأرض جملة واحدة، وهذا القرآن نزل منجما بحسب الوقائع لشدة الاعتناء به، وبمن أنزل عليه، فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة".
وهذا الكتاب المبارك قرر كثيرا من الحقائق العلمية الكونية في معرض الاستدلال على وجود الله وقدرته ووحدانيته،
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) (الأنبياء: 30)
وحث على الانتفاع بكل ما يقع تحت أبصارنا في الحياة مما خلقه الله
قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (يونس: 101)(1/7)
وقال جلت قدرته: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الجاثية: 13).
فعلى المسلمين أن يُعملِوا أفكارهم في علوم الكون، ولا يحرموا أنفسهم فوائد التمتع بثمرات هذه القوى العظيمة التي أودعها الله لخلقه في خزائن سماواته وأرضه.
نعم إن الحديث عن القرآن الكريم لا يَنْضَب معينه، فهو الذي حَبَّب إلى المسلمين العدل والشورى، وكره إليهم الظلم والاستبداد، شعار متبعيه: قوة الإيمان، وإنكار الذات، والإيثار، والرحمة فيما بينهم.
فلنعش مع القرآن الكريم: تلاوة وفهما، وعملا وحفظا، فمعايشة القرآن من أجلِّ الأعمال التي يتصف بها المؤمنون،
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (فاطر: 29 - 30).
فالله تبارك وتعالى يشيد في هاتين الآيتين بالتالِينَ لكتابه، تلاوة مصحوبة بالتدبر الذي ينشأ عنه الإدراك والتأثر، ومما لا شك فيه أن التأثر يفضي بالقارئ -لا محالة- إلى العمل بمقتضى قراءته.(1/8)
حقا، إن القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه كلام الله، وهو المنهج السماوي للبشر كافة، وللخلق عامة، وهو المرجع الأول في أمور دِين المسلمين، وهو الحكم الذي إليه يحتكمون، وفصل قضائه الذي إليه ينتهون، والأحكام التي وردت في القرآن الكريم لم تصدر دفعة واحدة، بل نزلت تدريجيا طوال مدة الرسالة، فبعضها لتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه، وبعضها لتربية هذه الأمة الناشئة، علما وعملا، والبعض الآخر نزل بمناسبة حالات وقعت فعلا للمسلمين في حياتهم اليومية، في أوقات مختلفة، وأزمنة متفرقة، فكلما وقع منها حادث نزل من القرآن الكريم ما يناسبه ويوضح حكم الله فيه، من ذلك الأقضية والوقائع التي كانت تحدث في المجتمع الإسلامي في عهد التشريع، فيحتاج المسلمون إلى معرفة حكمها، فتنزل الآيات مبينة حكم الله فيها.
والقرآن الكريم مصدر الشريعة الإسلامية التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافةالناس ، قال الله تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1)
وقال تعالى:(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ*اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيد) (ابراهيم: 1-2) .
وأما السنة النبوية فهي المصدر الثاني للتشريع ، ولا خلاف بين الفقهاء على أنها حجة في التشريع بجانب القرآن الكريم
قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌرَحِيمٌ) (آل عمران:31)(1/9)
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (النساء: 59).
وقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80)
وقال سبحانه وتعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )(النحل: 44).
وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(الأحزاب: 36)
وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(الحشر: 7).
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
الأول : أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
والثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، وتفسيرا له.
والثالث: أن تكون موجبة لحكمٍ سكتَ القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما".
لذا فالسنة قد تؤكد ما ورد في القرآن الكريم من أحكام، وقد تفسر نصوصه، أو تفصل ما أجمل من أحكامه، وقد تُنشئ حكما لحالات لم يرد بشأنها نص في الكتاب، ومع ذلك لا يلجأ إلى السنة دليلا للأحكام إلا عند خلو القرآن من نص يفي بالمطلوب، فالسنة هي التي وضحت لنا نحن المسلمين أن الصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة، وهي التي بينت لنا عدد ركعاتها وأركانها، وهي التي بينت لنا حقيقة الزكاة، وعلى من تجب وأنصبتها، وكيفية الحج والعمرة، وأن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر، وبينت مواقيته، وعدد الطواف.(1/10)
فعلى كل من يدعي أنه متمسك بالقرآن، ويهجر السنة أن يبادر إلى تجديد إيمانه، وبالرجوع إلى الله تعالى قال سبحانه: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى )(طه : 82).
فالقرآن الكريم، والسنة المطهرة هما وحي الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهما مصدرا التشريع الإسلامي الذي رد الإنسان إلى فطرته، وجعل منه بشرا يعرف طريقه إلى الحياة، مرددا
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ )(الأعراف:43)
أسماء القرآن الكريم
لقد ذكر العلماء و المفسرون أسماءً عديدة للقرآن الكريم استخرجوها من نفس القرآن أو من الأحاديث الشريفة ،وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أكثر من تسعين إسما للقرآن الكريم ولكن أشهر وأصح ماثبت من هذه الأسماء هى :
** القرآن : قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ..) (البقرة : 185)
** الكتاب : قال تعالى : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ )(البقرة:2)
** الفرقان : قال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (الفرقان :1) .
** الذكر : قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )(الحجر:9)
(وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) (الأنبياء : 50)
** التنزيل : قال تعالى :(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء : 192)
خصائص القرآن الكريم(1/11)
** القرآن كلام الله تعالى المنزل على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم المبدوء بسورة الفاتحة ، المختوم بسورة الناس ، وهو ونور الأبصار والبصائر ، فلا طريق إلى الله سواه. هو كلام الله العظيم ، وصراطه المستقيم ، ودستوره القويم ، ناط به كل سعادة ، هو رسالة الله الخالدة ، ومعجزته الدائمة ، ورحمته الواسعة وحكمته البالغة ، ونعمته السابغة . هو حجة الرسول صلى الله عليه وسلم الدامغة ، وآيته الكبرى شاهدة برسالته وناطقة بنبوته ، هو كتاب الإسلام في عقائده ، وعباداته ، وحِكَمه وأحكامه ، وآدابه وأخلاقه وقصصه ومواعظه ، وأخباره ، وهدايته ودلالته ، هو أساس رسالة التوحيد ، والمصدر القويم للتشريع ، ومنهل الحكمة والهداية والرحمة المسداة ، والنور المبين للأمة ، والمحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك .
فالقرآن كنز معان ، وبحر حقائق ، ونهر جواهر ، ودرج زواهر ، ومعين درر ، وجمال نظم ، وعذوبة لفظ ، ودقة أسلوب ، وبهاء رونق ، وكمال بيان .
** التعبد بتلاوته فى الصلاة وغيرها وأخذ الثواب على قراءته لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لاأقول "ألم" حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ) (رواه الترمذى).
** الصلاة لاتصح إلا بقراءة القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم :( لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) (متفق عليه)(1/12)
** الله جل جلاله تعهد بحفظه ،قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)( الحجر :9) وقد مرت بالقرآن أحداث عظيمة ، وأهوال جسيمة ، وعوامل خطيرة ، وتكالب عليه الأعداء ، وتداعت عليه الأمم ولو مر بعض ذلك على غير القرآن لأصابه ما أصاب الكتب السابقة من التحريف والتغيير والتبديل . أما القرآن فقد مر بهذه الأحوال المتماوجة والدواعي المتكالبة ولم تنل مه بغيتها ، بل وصل إلينا كما أنزله الله لم يتغير ، ولم يتبدل ، ولم يتغير ما طالته الأفواه النافخة ، ولا نالته الأصوات اللاغية . ليتم الله نوره ولو كره الكافرون .
أما الكتب السابقة فلم يتعهد الله بحفظها ، بل أوكل أمر حفظها إلى أهلها فقال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) ( المائدة : 44 )
** لا يمسه إلا المطهرون : قال تعالى :( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(الواقعة : 79)
أنزل الله القرآن بواسطة أفضل الملائكة على أفضل الأنبياء لخير أمة أخرجت للناس فأخرجهم به من الظلمات إلى النور ومن رجس الجاهلية إلى طهارة الإسلام فحق لهذا الكتاب أن يتهيأ المسلمون لتلاوته وأن يستعدوا لها بالطهارة ليست الطهارة الصغرى كما يفهمها بعض الناس ، ولكنها الطهارة الكبرى بكل معانيها :
طهارة القلب : من الكفر والشرك فلا يمس القرآن كافر ولا يُمكن من ذلك ، لا يسافر بالمصحف إلى بلاد الكفر ، وطهارة القلب أيضًا من الرياء والنفاق ، وأن يراد بالتلاوة غير وجه الله كمن يقرأه للرياء والسمعة أو ليقال هو قارئ أو كمن يقرأه للتكسب أو لينال به شيئاً من حطام الدنيا.(1/13)
طهارة اللباس : فينبغي أن تكون ثيابه طاهرة نظيفة نقية ، وأن يتطيب وأن يلبس من الثياب أحسنها ، وأن يستعد لها كما يستعد لملاقاة الملوك فإنه مناج ملك الملوك
طهارة الفم : فينبغي أن ينظف فاه ويستاك ويخلل أسنانه اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه من بعده .
** القران سليم من التناقض لقوله تعالى :( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء:82)
** تيسير حفظه عن ظهر قلب لقوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:40) ، فمن أشرف خصائص القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى كلف الأمة بحفظه كله بحيث يحفظه عدد كثير يثبت به التواتر وإلا أثمت الأمة كلها ، وليس هذا لكتاب غير القرآن ،ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم سبيلاً فيه حث على حفظ القرآن إلا و أرشد إليه وحث عليه فحفظه عدد كبير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وما زالت المسيرة مستمرة يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم .
** القران معجز لا يستطيع أحد أن يأتي بسورة مثله ، وقد تحدى الله العرب فعجزوا : قال الله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (يونس:38)
** لا يعلو عن أفهام العامة ولا يَقَصُر عن مطالب الخاصة ، يقرأ فيه العامي فيشعر بجلاله ويذوق حلاوته ، وتغشاه هدايته فيخشع قلبه ، وتدمع عيناه فينقاد له ويذعن ، ويقرأ فيه العالم فيدرك فصاحته ، وتهيمن عليه بلاغته ، ويملكه بيانه ، وتنجلي له علومه ومعارفه ، وتدهشه أخباره وأنباؤه فيجد فيه زمام فكره ، وقيادة عقله ، ومنهج علمه ، ومحار فكره ، ورفعة شأنه فيذعن لربه ويؤمن بشرعه ، والآيات هي هي هنا وهناك لم تتغير ولم تتبدل .(1/14)
** تنزل السكينة والرحمة على قارىء القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم : (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه فيما يبنهم إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ) (رواه مسلم وغيره)
** القرآن للأحياء لا للأموات قال الله تعالى عن القرآن : (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) (يس:70)
وقوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم:39)
وقد استنبط الإمام الشافعى من هذه الآية أن القراءة لا يصل ثواب إهدائها الى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم
واما قراءة الولد لأبويه فيصل ثواب القراءة لأن الولد من سعى أبيه كما ورد في الحديث (..وان ولده من كسبه) (صححه محقق جامع الاصول )
** القرآن شفاء القلوب من أمراض الشرك والنفاق وغيرها، وفيه بعض الآيات والسور لشفاء الأبدان : كسورة الفاتحة والمعوذات وغيرها مما ثبت في السنة الصحيحة.
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (يونس:57)
وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الاسراء:82)(1/15)
والقرآن شفاء للأمراض النفسية وما أحوج مجتمعاتنا المعاصرة إلى التداوي بالقرآن لهذا الداء الوبيل في عالم تتنازعه الأهواء المادية والشهوات الجسدية والملذات الدنيوية ، وإنما تحدث الأمراض النفسية حين يعرض الإنسان عن القرآن وعن ذكر الله ، قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ( طه : 124 ) وقال سبحانه وتعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ( الزخرف : 36 ) ، أما العلاج والشفاء فهو قرين الذكر، قال تعالى : (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ( الرعد : 28 ) . ولكن ينبغي أن نعلم أن الاستشفاء بالقرآن يستدعي كمال اليقين وقوة الاعتقاد وسلامته
** القران يشفع لصاحبه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اقرؤوا القرآن فانه يأتى يوم القيامة شفيعا لأصحابه) (رواه مسلم )
**القرآن مهيمن على الكتب التى قبله ، قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) (المائدة:48)
قال ابن كثير بعد أن ذكر أقوالا فى تفسير المهيمن :
" وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله ، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله ، هذا الكتاب العظيم الذى أنزل آخر الكتب وخاتمها ، وأشملها وأعظمها ، وأكملها ، حيث جمع فيه محاسن ماقبله ، وزاده من الكمالات ماليس فى غيره ، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها ، وتكفل الله بحفظه"
** القرآن الكريم صادق فى أخباره ، عدل فى أحكامه .قال الله تعالى :( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )(الأنعام:115)(1/16)
قال قتادة: صدقا فيما قال ، وعدلا فيما حكم ، يقول صدقا فى الأخبار ، وعدلا فى الطلب ، فكل ماأخبر به حق لامرية فيه ولا شك ، وكل ماأمر به فهو العدل الذى لاعدل سواه ، وكل مانهى عنه فباطل ، فإنه لاينهى إلا عن مفسدة كما قال تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ )(الأعراف:157)
** القصة فى القرآن حقيقة لاخيال : فقصة موسى مع فرعون واقعة قال تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ )(القصص:3)
ومثلها قصة أصحاب الكهف ، فهى حقيقة،قال تعالى:(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ)
(الكهف:13)
وجميع ماقص الله فى القرآن حق ، قال تعالى :( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ )(آل عمران:62)
** القرآن يجمع بين مطلب الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ )(القصص:77)
** القرآن فيه كل مايحتاجه البشر من عقائد وعبادات وأحكام ومعاملات وأخلاق وسياسة واقتصاد وغير ذلك من أمور الحياة اللازمة للمجتمع ،قال تعالى :( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(الأنعام:38)
قال القرطبى عند تفسير قوله تعالى :( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) :
أى فى القرآن : ماتركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه فى القرآن ، إما دلالة مبينة مشروحة ، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من الإجماع ، أومن القياس الذى ثبت بنص الكتاب .
ثم قال :فصدق خبر الله بأنه مافرط فى الكتاب من شئ إما تفصيلا أو تأصيلا.
وقال تعالى :( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)
(النحل:89)(1/17)
** القرآن الكريم له تأثير قوى على النفوس من الإنس والجن ، فقد تأثر به كثيرا من المشركين حتى قال الوليد بن المغيرة :" فوالله ماهو بشعر ولابسحرولابهذى من الجنون ، وإن قوله من كلام الله ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلوا ومايعلى عليه".
أما الجن فقد قال نفر منهم :( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)(الجن:1&2)
** الذى يتعلم القرآن ويعلمه للناس هو خيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم :( خيركم من تعلم القرآن وعلمه)(رواه البخارى)
** " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذى يقرؤه ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" (متفق عليه)
** القرآن جعله الله هاديا ومبشرا فقال تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)(الإسراء:9)
** القرآن يسكن القلوب ،ويثبت اليقين ، والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين،قال تعالى : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28)
** القرآن يبدل الله به حزن المؤمن فرحا ، قال صلى الله عليه وسلم:( ما قال عبد قط إذا أصابه هم و حزن : اللهم إني عبدك و ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي و نور صدري و جلاء حزني و ذهاب همي ، إلا أذهب الله عز و جل همه و أبدله مكان حزنه فرحاً ، قالوا : يا رسول الله ، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات قال : أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)(رواه أحمد)(1/18)
** القرآن الكريم يدعو فى أكثر سوره إلى التوحيد .
**القرآن الكريم مصدر الشريعة الإسلامية الأول أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى نور الإيمان والتوحيد والعلم ، قال تعالى : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(إبراهيم:1)
** القرآن الكريم يخبر عن الحوادث المستقبلة التى لاتعلم إلا بالوحى كقوله تعالى :( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)(القمر:45) ،وقد هزم المشركون يوم بدر وهربوا من المعركة ، وأخبر القرآن عن أمور كثيرة قد تحققت فيما بعد كتغلب الروم على الفرس ،قال تعالى :( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(الروم:2-5)
**الاستعاذة عند تلاوة القرآن لقول الله تعالى : (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(النحل:98)
** وجوب الاستماع والإنصات إليه لمن كان مؤتما فى الصلاة وخطبة الجمعة لقول الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(الأعراف:204)
فإذا قرئ عليكم القرآن فاستمعوا له ، لتفهموا آياته وأنصتوا إليه لتعقلوه ليرحمكم ربكم .
آيات القرآن الكريم
عدد آيات القرآن الكريم:
6236 آية عند الكوفيين ،6666 آية عند غير الكوفيين ، وهذه الآيات تشتمل على:(1/19)
أوامر:1000 آية ، نواهى : 1000 آية ، الوعد: 1000 آية ، الوعيد: 1000 آية ، القصص والأخبار :1000 آية ، العبر والأمثال :1000 آية ، الحلال والحرام : 500 آية ، الدعاء : 100 آية ، الناسخ والمنسوخ : 66 آية .
عدد كلمات القرآن الكريم : سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وسبع وثلاثون كلمة .
عدد حروف القرآن الكريم : ثلاثمائة ألف وأربعون ألف وسبعمائة وأربعون حرف .
وذلك في30 جزءاً ينقسم كل منها الى حزبين كل حزب فيه أربعة أرباع ، وبذلك يضم القرآن الكريم 60 حزباً و 240 ربعاً.
ترتيب آيات القرآن الكريم:
ترتيب آيات القرآن الكريم توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه عن جبريل عن رب العالمين.
تنكيس القرآن:
ـ النوع الأول: تنكيس القرآن بمعنى تنكيس الآيات أن يقرأ السورة من آخر آية إلى أول آية فهذا حرام عند العلماء، أما إن قرأ آيات من السورة ثم طرأ عليه في الركعة الثانية أن يقرأ آيات قبلها فهذا لا شيء فيه وإن كان خلاف الأَولى.
ـ النوع الثاني: تنكيس السور، بمعنى أن يقرأ سورة قبل التي بعدها أو السورة المؤخرة أولا ثم يقرأ السورة التي قبلها، فهذا جائز ولا شيء فيه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وإن كان استعماله على وجه الدوام خلاف الأولى لكن إذا فعله الإنسان أحيانا فإن هذا جائز لا إشكال فيه .
الفائدة من معرفة الآيات القرآنية:
أولا : العلم بأن كل ثلاث آيات قصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وفي حكمها الآية الطويلة، ذلكم أن الله سبحانه وتعالى قد بين في القرآن أو تحدى العرب أن يأتوا بسورة من مثله، وأقصر سورة في القرآن هي سورة الكوثر مكونة من ثلاث آيات، فكل ثلاث آيات في القرآن يقع بها الإعجاز والتحدي ويقع في نظيرتها أو في مثلها إذا كانت الآية طويلة.
إذن معرفة أو تحديد موقع الإعجاز من كلام الله سبحانه وتعالى يكون في ثلاث آيات فأكثر.(1/20)
الثاني: بين العلماء رحمهم الله تعالى أن الوقوف على رأس الآية سنة متبعة، يعني كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف على رؤوس الآي، وفي صلاته عليه الصلاة والسلام.
إذن فعلينا أن نتعرف على نهايات الآيات أو على كل آية على حدة، ونعرف حدها بداية ونهاية حتى نقف على رأسها لنتبع بذلك السنة الثابتة.
الثالث: ذكر السيوطي رحمه الله تعالى أن هناك جملة من الأحكام الفقهية تترتب على معرفة الآيات، منها مثلا:
**وجوب قراءة آية كاملة فى خطبة الجمعة ، ويكفى شطرها إن كانت طويلة في الخطبة عند بعض العلماء فإن بعض العلماء يرى أن من الواجب على الخطيب في خطبة الجمعة أن يقرأ آية كاملة من القرآن الكريم أو شطر الآية إذا كانت الآية طويلة، وأن الخطبة لا تصح إلا بهذا وهذا قول عند جماعة من الفقهاء.
** ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح ما بين الستين إلى المائة، إذن كيف نعرف المقدار مقدار قيام النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح إذا لم نكن نعرف هذه الآيات وتحديد بداياتها ونهاياتها ، حتى أيضا مقدار ما بين الأذان والإقامة كان الصحابة يقدرونه بخمسين آية مما يدل على أن التقدير بالآيات كان معروفا عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
**ومن ذلك أيضا اعتبارها في قيام الليل في قراءة قيام الليل، فقد ورد حديث عند ابن السني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين) ، وقد علق الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى على هذا الحديث، فقال وجدت جزئي تبارك وعم يعدلان ألف آية، يعني من قام بهذين الجزئين فقد تحقق له هذا الفضل العظيم الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وهو أنه من قام بألف آية كتب من المقنطرين أي أصحاب القناطير.
أطول آية في القرآن:
آية الدين في سورة البقرة أطول آية باتفاق العلماء(1/21)
وهنا لفتة لطيفة:
وهي أننا نلاحظ أن جملة من الآيات الطويلة جاءت في تنظيم حياة المسلمين وبيان معاملاتهم، والتدقيق في أحوالهم حتى تنتظم أمورهم، ولا يقع بينهم شحناء ولا شقاق،
إنظر لآية الدين كلها في الأموال وفي توثيقها وكتابتها وضبطها والإشهاد عليها من أجل ألا يقع بين المسلمين خلاف ولا شقاق .
انظر إلى آيات المواريث آيات طويلة، لم يدع الله سبحانه وتعالى قسمة الأموال لأحد، وإنما قسمها بنفسه سبحانه وتعالى؛ لأن المال عصب الحياة وقريب إلى قلوب الناس، ومن أجله تقع كثير من الخلافات، فجعل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات طويلة لتنظم حياة الناس المالية،
وكذلك آيات العدد والطلاق وغيرها لتكون حياة الناس منتظمة طيبة قليلة الخلاف والشقة والنزاع.
أعظم آية في القرآن
هي آية الكرسي ، لأنها قد استوعبت في توحيد الرب سبحانه وتعالى بأنواع التوحيد الثلاث، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وقد ذكر فيها من أسماء الله خمسة، وذكر فيها من صفات الله أزيد من خمس وعشرين صفة، وليس فيها شيء آخر غير ذكر الرب سبحانه وتعالى وأسماءه وصفاته، فمن أجل ذلك كانت هذه الآية أعظم آية في القرآن الكريم، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فقال: (يا أبا المنذر أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ فقال آية الكرسي، قال ليهنك العلم أبا المنذر) يعني مدحه على ما آتاه الله من علم عندما استنبط أن آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله؛ لأن التوحيد هو أعظم شيء يقوم به المسلم ويتقرب به إلى ربه سبحانه وتعالى.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يحل بينه وبين دخول الجنة إلا الموت)(رواه النسائى)(1/22)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر. فذكر الحديث وفيه أن الشيطان قال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ) فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح" الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "صدقك وهو كذوب" ( رواه البخارى)
قال تعالى : (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة : 255)
قال السعدى رحمه الله فى تفسير هذه الآية:
هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأنه
" لا إله إلا هو "
أي : لا معبود بحق سواه فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه وكل ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة وقوله :
" الحي القيوم "(1/23)
هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات كالسمع والبصر والعلم والقدرة ونحو ذلك والقيوم : هو الذي قام بنفسه وقام بغيره وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء وسائر أنواع التدبير كل ذلك داخل في قيومية الباري ولهذا قال بعض المحققين : إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب وإذا سئل به أعطى ومن تمام حياته وقيوميته أنه
" لا تأخذه سنة ولا نوم "
والسنة النعاس
" له ما في السماوات وما في الأرض "
أي : هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال :
" من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه "
أي : لا أحد يشفع عنده بدون إذنه فالشفاعة كلها لله تعالى ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ولا يبتدئ الشافع قبل الإذن ثم قال
" يعلم ما بين أيديهم "
أي : ما مضى من جميع الأمور
" وما خلفهم "
أي : ما يستقبل منها فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور متقدمها ومتأخرها بالظواهر والبواطن بالغيب والشهادة والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى ولهذا قال :
" ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض "(1/24)
وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتها وعظمة من فيها والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش وما لا يعلمه إلا هو وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال فكيف بعظمة خالقها ومبدعها والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب فلهذا قال :
" ولا يؤوده "
أي : يثقله
" حفظهما وهو العلي "
بذاته فوق عرشه العلي بقهره لجميع المخلوقات العلي بقدره لكمال صفاته
" العظيم "
الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته فهذه الآية بمفردها عقيدة في جانب عظمة العلي العظيم فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ويحق لمن قرأها متدبرا متفهما أن يمتلىء قلبه من اليقين والعرفان والإيمان وأن يكون محفوظا بذلك من شرور الشيطان .
فضل الآيتين الآخيرتين من سورة البقرة :
• عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنه من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه) . ( متفق عليه )
= في معنى كفتاه أقوال أحدهما: كفتاه قراءة في قيام الليل، والثاني: كفتاه من كل سوء ومن الشيطان، والثالث: كفتاه أجرًا فأجرها عظيم.(1/25)
• وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يُقرآن في دار ثلاث ليال فيقر بها شيطان) . ( رواه الترمذى وصححه الألبانى )
أرجى آية
أخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي رضي الله عنه ما في القرآن أوسع آية من (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر:53)
قال الشوكاني رحمه الله: واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه، لاشتمالها على أعظم بشارة...
قال الطبرى فى تفسيره:
روى جريرعن الشعبيّ, قال: تجالس شتير بن شكل ومسروق فقال شتير: إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك, وإما أن أحدّث فتصدّقني فقال مسروق: لا بل حدّث فأصدّقك, فقال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكبر آية فرجا في القرآن يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فقال مسروق: صدقت.
قال السعدى فى تفسيره:
يخبر تعالى عباده المسرفين أي : المكثرين من الذنوب بسعة كرمه ويحثهم على الإنابة ، قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال :
" قل "
يا أيها الرسول ومن قام مقامه ، من الدعاة لدين الله ، مخبرا للعباد عن ربهم :
" يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم "
باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب ، والسعي في مساخط علام الغيوب .
" لا تقنطوا من رحمة الله "
أي : لا تيأسوا منها ، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا ، وتراكمت عيوبنا ، فليس لها طريق يزيلها ، ولا سبيل يصرفها ، فتبقون بسبب ذلك ، مصرين على العصيان ، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن ، ولكن اعرفوا ربكم ، بأسمائه الدالة على كرمه وجوده . واعلموا
" إن الله يغفر الذنوب جميعا "(1/26)
من الشرك ، والقتل ، والزنا ، والربا ، والظلم ، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار .
" إنه هو الغفور الرحيم "
أي : وصفه المغفرة والرحمة ، وصفان لازمان ، ذاتيان ، لا تنفك ذاته عنهما ، ولم تزل آثارهما ، سارية في الوجود ، مالئة للموجود . تسح يداه من الخيرات ، آناء الليل والنهار ، ويوالي النعم والفواضل على العباد في السر والجهار ، والعطاء أحب إليه من المنع ، والرحمة سبقت الغضب وغلبته .
الآية الفاذة الجامعة (أحكم آية)
قال تعالى :(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (الزلزلة:7&8)
روى الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن هذه الآية أنها الآية الفاذة الجامعة ، وقال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن.
كان ابن عباس يقول: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة، مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة.
أجمع آية
روى ابن جرير عن الشعبي قال : سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90)
ولقد أمر عمر بن عبد العزيز المسلمين أن يختموا بها خطبة الجمعة بدلا من كلمات الشقاق والفرقة التي كان البعض يختم بها خطبة الجمعة، إرضاء لاتجاه معين، أو تعصبا لفئة بعينها.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية :
فالعدل الذي أمر الله به، يشمل العدل في حقه ، وفى حق عباده .(1/27)
فالعدل في ذلك، أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدى العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية، والمركبة منهما، في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدى كل وال، ما عليه، تحت ولايته، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى أي الخلافة، وولاية القضاء، ونواب الخليفة، ونواب القاضي.
والعدل هو: ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه.
ومن العدل في المعاملات ، أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعوضات، بإيفاء جميع ما عليك، فلا تبخس لهم حقا، ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم .
فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحبة ، وذلك كنفع الناس ، بالمال والبدن، والعلم ، وغير ذلك من أنواع النفع ، حتى يدخل فيها الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول والنبات وغيره.
وخص الله إيتاء ذي القربى وإن كان داخلا في العموم لتأكد حقهم ، وتعين صلتهم وبرهم ، والحرص على ذلك. ويدخل في ذلك جميع الأقارب، قريبهم وبعيدهم، لكن كل من كان أقرب، كان أحق بالبر.
وقوله: (وينهى عن الفحشاء)
هو كل ذنب عظيم، استفحشته الشرائع والفطر، كالشرك بالله ، والقتل بغير حق ، والزنا، والسرقة ، والعُجب ، والكبر، واحتقار الخلق ، وغير ذلك من الفواحش.
ويدخل في المنكر كل ذنب ومعصية، تتعلق بحق الله تعالى.
(والبغي) : كل عدوان على الخلق، في الدماء، والأموال، والأعراض .
فصارت هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، لم يبق شيء ، إلا دخل فيها، فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة على عدل أو أحسان، أو إيتاء ذي قربى، فهي مما أمر الله به .وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر، أو بغي، فهي مما نهى الله عنه. وبها يعلم حسن ما أمر الله به، وقبح ما نهي عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال وترد إليها سائر الأحوال والأعمال .فتبارك من جعل من كلامه، الهدى، والشفاء، والنور، والفرقان بين جميع الأشياء .
ولهذا قال:(1/28)
(يعظكم) أي: بما بينه لكم في كتابه يأمركم بما فيه غاية صلاحكم ونهيكم، عما فيه مضرتكم. (لعلكم تذكرون): ما يعظكم به، فتفهمونه وتعقلونه وتعملوا بمقتضاه فسعدتم سعادة لا شقاوة معها.
وهكذا جمعت تلك الآية الأمر بالخير كله ، والنهى عن الشر كله. فماذا لو وضع المسلم هذه الآية نصب عينيه وفقه ما فيها، وعمل بمقتضاها، وعمل المسلمون جميعا بما في هذه الآية الجامعة الكافية، لعشنا في سعادة بالغة وأمن وأمان فلا فُحش ولا منكر ولا بغي، بل عدل وإحسان وصله رحم .
آية الغلول
قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )(آل عمران:161).
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية : " أي يأتي به حاملاً له على ظهره وعلى رقبته ، معذباً بحمله وثقله ، ومرعوباً بصوته ، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد ".
والأصل في الغلول: الأخذ من الغنيمة قبل أن تُقسم، ويدخل فيه كل أخذ من بيت مال المسلمين، ويدخل فيه كل أخذ أو كل أثرة من مصالح المسلمين دون رضى الأمة بذلك.
روى الإمام أحمد رضوان الله عليه في مسنده: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: "هذا لكم، وهذا أُهدي إلي" فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: (ما بال العامل! نبعثه على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي؟ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهدى إليه أم لا، والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثغاء، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟) قالها صلى الله عليه وسلم ثلاثا ً(1/29)
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال : (قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره قال لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس لها حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك وعلى رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك وعلى رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك أو على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك وقال أيوب عن أبي حيان فرس له حمحمة). (رواه البخاري)
وقال أبو عيسى الترمذي : عن معاذ بن جبل قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في إثري، فرددتُ، فقال: أتدري لم بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(آل عمران:161).
وروى الإمام أحمد فى مسنده : عن عبادة بن الصامت : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أدوا الخيط و المخيط ، و إياكم و الغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة) .
وروى أبو داود عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه قال فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه فقال بعه وتصدق بثمنه).
من صور الغلول اليوم التهاون في الأموال العامة :
والسؤال: هل يوجد غلول في هذا الزمان؟(1/30)
نعم ، إن كثيراً من المسلمين يتهاونون بمصالح الأمة التي هي بين أيديهم، فتجد موظفاً تحت يده مصلحة، يستخدم أوراق دائرته في كتابة أولاده وأطفاله، ويستخدم أوراقاً وأقلاماً لعمله لمصالحه الشخصية، ويستخدم سيارة لا يؤذن له أن يتصرف فيها إلا في مهمات عمله، وإنجاز ما وُكل إليه، فتراه يجد هذه السيارة فرصة للذهاب والإياب، للسفر والتنقل، لكل متعة ونزهة برية، من الذي أحل لك هذا؟! ومن الذي جوَّز لك هذا؟! ومن أين لك هذا؟! كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل الولاة في زمنه، إذا جاء أحد ومعه مال وفير، قال له: (من أين لك هذا؟)إذا كان ذلك المال يختص به لنفسه.
إن كثيراً منا قد تساهل بهذا الأمر تساهلاً عظيماً في هذا الزمان، فتراه يستخدم آلة التصوير ليصور الأوراق لأولاده وبناته في مكتبه، وتراه يستخدم الورق والأقلام والسيارة أين الورع في أموال المسلمين؟! وأين الزهد؟! وأين المراقبة والمحاسبة يا عباد الله؟!
رحم الله زماناً وأهله مضوا يوم أن كانوا يحاسبون النفس عن القليل والكثير.
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذات يوم وقد جاء غلام له بتمر، فأكل منه تمرة، وكانت عادة الصديق ألا يأكل طعاماً من يد خادمه إلا بعد أن يسأله: من أين لك هذا؟، فأكل الصديق ذات مرة من ذلك الطعام قبل أن يسأله، فلما ابتلعها سأل خادمه وقال له: (من أين لك هذا التمر؟ فقال: تلك كهانة كنت تكهنت بها في الجاهلية لرجل فأعطاني عليها هذا، فأدخل الصديق رضوان الله عليه أصبعه في حلقه، فأخذ يستجرها ويخرجها" يتقيأ" حتى كاد يهلك من شدة ما جهد نفسه بذلك، حتى خرجت تلك التمرة، وخرج سائر ما في بطنه، فقال له الغلام: لقد شققت على نفسك، فقال: والله لو لم تخرج هذه التمرة إلا مع روحي لأخرجتُها)(1/31)
الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا عباد الله! أين المسلمون في هذا الزمان عن تلك الصورة الإيمانية الرائعة؟! أين المسلمون في هذا الزمان الذي لا يبالي أحدهم أي مال وقع في يده, وأي لقمة وضعها في فمه، وأي متاع أدخله بيته؟! أيدري أنه حلال أو حرام؟! فيا عباد الله: راقبوا الله جل وعلا فإنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ...) (رواه الترمذى)
فتباً لدنيا حلالها حساب، وحرامها عذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله! معاشر المؤمنين: إننا نرى رأي العين في هذا الزمان بعض المسلمين يظنون أن من الذكاء، ومن الحنكة، ومن القدرة العقلية، أن يخدع دائرة ما، أو محكمة ما، أو جهة ما، لينال منها صكاً يتقوى به على مال أخيه بالحرام، أو ليزور طريقة لكي ينهب ويسلب شيئاً من متاع أخيه بالحرام. ألا يظن أولئك أن الخصومات تُعاد يوم القيامة؟!(1/32)
من ظن أن الخصومة في الدنيا منجية منتهية فظنه خطأ، وعلمه جهل. وليتذكر وليعلم أن الخصومات ستُعاد يوم القيامة، وسيقف الناس بين يدي الله للقصاص حتى يقاد للشاة القرناء من الشاة الجلحاء. فما بالكم برجل خَصِيْمُه أمة محمد أجمع، من تناول سيارة أو متاعاً أو مالاً أو أرضاً بغير حق، فاقتطعها دون سائر الأمة أتظنون أن خصمه واحد؟! لا والله، بل نحن وكل أمة محمد خصيمه يوم القيامة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! فانتبهوا لذلك يا عباد الله، ولا يَتَجَرَّأَنَّ أحدٌ على مال لم يتأكد أنه حلال له، ولا يتسلطن أحد على مال قل أو كثر، وإلا فليعلم أنه سيُحاسب حساباً شديداً، سيجده محمولاً على رقبته: (من غل شاة جيء به يوم القيامة تيعر وهي على كتفه، ومن غل بعيراً جاء يحمله يوم القيامة وله رُغاء يسمعه أهل الموقف على كتفه، ومن غل غرساً جاء يحملها يوم القيامة ولها حمحمة معلومة) ومن غل شيئاً قليلاً أو كثيراً إلا جُعل ناطقاً أمامه، حتى الذهب والفضة، من غل صامتاً، أي: ذهباً أو فضة جاء به يوم القيامة يحمله. فاتقوا الله يا عباد الله، وخففوا الحمل في هذه الدنيا، لا تثقلوا كواهلكم بحقوق الناس وأعراضهم ودمائهم، فحسب ابن آدم أن يغدو بما اجترح من الذنوب والسيئات، عسى الله أن يتجاوز، وعسى الله أن يتدارك الجميع برحمته.
أعظم الغلول
روى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الغلول عند الله عزوجل ذراع من الأرض ، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة) ولا حول ولا قوة إلا بالله!(1/33)
هذا عمر بن عبد العزيز جاءه أحد الولاة وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين وكان الوقت ليلاً وكانوا يستضيئون بشمعة بينهما ، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله قال له عمر : انتظر فأطفأ الشمعة وقال له : الآن اسأل ما بدا لك ، فتعجب الوالي وقال : يا أمير المؤمنين لما أطفأت الشمعة ؟ فقال عمر : كنت تسألني عن أحوال المسلمين وكنت أستضيء بنورهم ، وأما الآن فتسألني عن حالي فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين .
و جاءوا له بزكاة المسك فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته ورعاً عن المال العام فقالوا : يا أمير المؤمنين إنما هي رائحة ؟!! فقال: وهل يستفاد منه إلا برائحته
فما أحوجنا لجزء من مثل هذا الورع والخشية من الله..!
هذه القصة فتحت شهيتي للحديث عما نراه ونشاهده من أمور كثيرة استهان بها الكثير من الناس وخاصة الموظفين والموظفات ..
-أحدهم يضع هاتفه الجوال جانباً ثم يتكلم من هاتف العمل في أموره الشخصية
- آخر يرسل العامل أو الفراش في العمل ليقضي له حاجة أو يأتي له بطعام من المطعم القريب ..!!
- وثالث يستخدم سيارة العمل في قضاء حاجياته..!!
-ورابع وهو مسؤول يستخدم سائق العمل لتوصيل أولاده من وإلى مدارسهم أو لشراء حاجيات البيت من السوق أو الجمعية !!
-وخامس لا يأبه من الخروج مبكراً من العمل بحجة أنه لا يوجد تقدير للموظف من حيث الراتب أو العلاوات فهو ينتقم بطريقته الخاصة !!
-وسادس يتقبل الهدية من المراجعين أو من أولياء أمور الطلاب بحجة إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتقبل الهدايا !!
-وسابع يستخدم حاسوب العمل في طباعة أوراقه الخاصة .
-وثامن يستخدم فاكس الدائرة الحكومية في إرسال سيرته الذاتية هنا وهناك.
-وتاسع يطيل في سنة الظهر القبلية والبعدية في مصلى العمل أو في المسجد في حين إنه في أيام الإجازة لا يصليها(1/34)
وعاشر يحمل معه أقلام وأدوات العمل إلى البيت ليوزعها على أطفاله لأن الخزنة عنده ممتلئة من مثلها نسأل الله السلامة
فأين نحن جميعاً ومنهج سلفنا الصالح في أعمالهم وورعهم وتقواهم
لقد استهان الناس كثيراً بحرمات الله ولكثرة فعلها اعتادوها حتى أصبح المنكر عليهم غريباً ، متشدداً ، منغلقاً ، أصبحت الكبائر صغائر ،وأضحت المحرمات حلائل ، وأمست المنكرات غنائم ، ونسوا أن الجبال من الحصى ...... وأن البحر من القطرة ..
وتناسوا قوله تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
يا من أخذتم الهدية والإكرامية بسبب مناصبكم ووجاهتكم ... أفلا جلستم في بيوت آبائكم أو في بيوت أمهاتكم فتنظرون أيهدى لكم أم لا ؟؟ والله ما أعطيتموها لسواد عيونكم ولا لجمال وجوهكم ولا لطول قاماتكم بل جاءتكم من أجل مناصبكم التي أنتم عليها أمناء .
إن لم يركم البشر فرب البشر يراكم ...فسيفضحكم يومها على رؤوس الأشهاد ..
ستحملون ما أخذتم على اعناقكم ... بعير له رغاء أوبقرة لها خوار أوشاة تيعر ..
فالجزاء من جنس العمل ... فما أنتم يومها فاعلون حين تنطق ألسنتكم وجوارحكم بما أخزيتم ....؟
إن الأمر جد خطير ، وأن الخطب جلل ، والعقوبة جد أليمة
فاقرؤوا ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم : (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة....) (رواه مسلم)
قال أحد الدعاة : والغلول ولو لشيء يسير قد يذهب بالحسنات العظام بل حتى بالجهاد في سبيل الله(1/35)
واقرأ هذا الحديث لتدرك كيف أن الغلول يذهب حتى حسنات الجهاد : ففي البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد له يقال له مدعم أهداه له أحد بني الضباب فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد فقال الناس هنيئا له الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين فقال هذا شيء كنت أصبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك أو شراكان من نار (
فيا أيها المسلم لاتكن غولاً تأكل غلولاً .. طهر نفسك من خيانة الأمانة ومن الغلول ومن إهدار المال العام بأي شكل من الأشكال فإن الله سيحاسبك على كل صغيرة وكبيرة فلا تستهين بالمعصية مهما صغرت بل انظر إلى عظمة من تعصي.
آيات الوصايا العشر
سميت بذلك لإشتمالها على عشر وصايا عظيمة من الله للبشرية ، وهذه الآيات في موضعين من القرآن الكريم :
الأول في سورة الأنعام :
قال تعالى :(1/36)
( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ( الأنعام:151-153)
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات:
يقول تعالى ، لنبيه صلى الله عليه وسلم :
" قل " لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله ، " تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " تحريما عاما ، شاملا لكل أحد ، محتويا على سائر المحرمات ، من المآكل ، والمشارب ، والأقوال ، والأفعال .
" ألا تشركوا به شيئا "
أي : لا قليلا ولا كثيرا . وحقيقة الشرك بالله : أن يعبد المخلوق ، كما يعبد الله ، أو يعظم كما يعظم الله ، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية . وإذا ترك العبد الشرك كله ، صار موحدا ، مخلصا لله في جميع أحواله . فهذا حق الله على عباده ، أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا . ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال :(1/37)
" وبالوالدين إحسانا " من الأقوال الكريمة الحسنة ، والأفعال الجميلة المستحسنة . فكل قول وفعل ، يحصل به منفعة للوالدين ، أو سرور لهما ، فإن ذلك من الإحسان ، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق .
" ولا تقتلوا أولادكم " من ذكور وإناث " من إملاق " أي : بسبب الفقر وضيقتكم من رزقهم ، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة . وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال ، وهم أولادهم ، فنهيهم عن قتلهم ، لغير موجب ، أو قتل أولاد غيرهم ، من باب أولى ، وأحرى .
" نحن نرزقكم وإياهم " أي : قد تكفلنا برزق الجميع ، فلستم الذين ترزقون أولادكم ، بل ولا أنفسكم ، فليس عليكم منهم ضيق .
" ولا تقربوا الفواحش " وهي : الذنوب العظام المستفحشة . " ما ظهر منها وما بطن "
أي : لا تقربوا الظاهر منها ، والخفي ، أو المتعلق منها بالظاهر ، والمتعلق بالقلب والباطن . والنهي عن قربان الفواحش ، أبلغ من النهي عن مجرد فعلها ، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ، ووسائلها الموصلة إليها .
" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله " وهي : النفس المسلمة ، من ذكر ، وأنثى ، صغير ، وكبير ، بر ، وفاجر ، والكافرة التي قد عصمت ، بالعهد والميثاق .
" إلا بالحق " كالزاني المحصن ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه ، المفارق للجماعة .
" ذلكم " المذكور " وصاكم به لعلكم تعقلون " عن الله وصيته ، ثم تحفظونها ، ثم تراعونها ، وتقومون بها . ودلت الآية ، على أنه بحسب عقل العبد ، يكون قيامه بما أمر الله به .
" ولا تقربوا مال اليتيم" بأكل ، أو معاوضة على وجه المحاباة لأنفسكم ، أو أخذ من غير سبب
" إلا بالتي هي أحسن " أي : إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم ، وينتفعون بها . فدل هذا ، على أنه لا يجوز قربانها ، والتصرف بها ، على وجه يضر اليتامى ، أو على وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة .(1/38)
" حتى يبلغ " اليتيم ، " أشده " أي : حتى يبلغ ويرشد ، ويعرف التصرف . فإذا بلغ أشده ، أعطي ، حينئذ ، ماله ، وتصرف فيه على نظره . وفي هذا دلالة على أن اليتيم قبل بلوغ الأشد محجور عليه ، وأن وليه يتصرف في ماله بالأحظ ، وأن هذا الحجر ، ينتهي ببلوغ الأشد .
" وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " أي : بالعدل ، والوفاء التام . فإذا اجتهدتم في ذلك ، فإننا
" لا نكلف نفسا إلا وسعها " أي : بقدر ما تسعه ، ولا تضيق عنه . فمن حرص على الإيفاء ، في الكيل ، والوزن ، ثم حصل منه تقصير ، لم يفرط فيه ، ولم يعلمه ، فإن الله غفور رحيم . وبهذه الآية استدل الأصوليون ، بأن الله لا يكلف أحدا ، ما لا يطيق ، وعلى أن من اتقى الله ، فيما أمر ، وفعل ما يمكنه من ذلك ، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك .
" وإذا قلتم " قولا تحكمون به بين الناس ، وتفصلون بينهم الخطاب ، وتتكلمون به على المقالات والأحوال ، " فاعدلوا " في قولكم ، بمراعاة الصدق فيمن تحبون ، ومن تكرهون والإنصاف ، وعدم كتمان ما يلزم بيانه . فإن الميل ، على من تكره بالكلام فيه ، أو في مقالته ، من الظلم المحرم . بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع ، فالواجب عليه ، أن يعطي كل ذي حق حقه ، وأن يبين ما فيها ، من الحق والباطل ، ويعتبر قربها من الحق ، وبعدها منه . وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين ، في لحظه ، ولفظه .
" وبعهد الله أوفوا " وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد ، من القيام بحقوقه ، والوفاء بها ، ومن العهد الذي يقع التعاهد به بين الخلق . فالجميع ، يجب الوفاء به ، ويحرم نقضه ، والإخلال به .
" ذلكم " الأحكام المذكورة ، " وصاكم به لعلكم تذكرون " ما بينه لكم من الأحكام ، وتقومون بوصية الله لكم ، حق القيام ، وتعرفون ما فيها ، من الحكم والأحكام . ولما بين كثيرا من الأوامر الكبار ، والشرائع المهمة ، أشار إليها ، وإلى ما هو أعم منها فقال :(1/39)
" وأن هذا صراطي مستقيما " أي : هذه الأحكام وما أشبهها ، مما بينه الله في كتابه ، ووضحه لعباده ، صراط الله الموصل إليه ، وإلى دار كرامته ، المعتدل السهل المختصر .
" فاتبعوه " لتنالوا الفوز والفلاح ، وتدركوا الآمال والأفراح . " ولا تتبعوا السبل " أي : الطرق المخالفة لهذا الطريق .
" فتفرق بكم عن سبيله " أي : تضلكم عنه وتفرقكم ، يمينا وشمالا . فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم ، فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم .
" ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " ، فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم ، علما وعملا ، صرتم من المتقين ، وعباد الله المفلحين .
والموضع الثاني في سورة الإسراء ويكاد أن يكون شرحا للموضع الأول:
قال تعالى :(1/40)
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً* وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً* وَلا(1/41)
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً * وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا )(الإسراء:23-39)
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات:
لما نهى تعالى عن الشرك به ، أمر بالتوحيد ، فقال :
" وقضى ربك" قضاء دينيا ، وأمرا شرعيا . " أن لا تعبدوا " أحدا من أهل الأرض والسموات والأحياء والأموات ،" إلا إياه " لأنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي له كل صفة كمال ، وله من كل صفة أعظمها ، على وجه لا يشبهه أحد من خلقه ، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة ، الدافع لجميع النقم ، الخالق ، الرازق ، المدبر لجميع الأمور ، فهو المتفرد بذلك كله ، وغيره ليس له من ذلك شيء . ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال :
" وبالوالدين إحسانا " أي : أحسنوا إليهما ، بجميع وجوه الإحسان ، القولي والفعلي ، لأنهما سبب وجود العبد ، ولهما من المحبة للولد ، والإحسان إليه ، والقرب ، ما يقتضي تأكد الحق ، ووجوب البر ،" إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما " أي : إذا وصلا إلى هذا السن ، الذي تضعف فيه قواهما ، ويحتاجان من اللطف والإحسان ، ما هو معروف .
" فلا تقل لهما أف " وهذا أدنى مراتب الأذى ، نبه به على ما سواه . والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية ،" ولا تنهرهما " أي : تزجرهما ، وتتكلم كلاما خشنا " وقل لهما قولا كريما " بلفظ يحبانه ، وتأدب ، وتلطف معهما ، بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما ، وتطمئن به نفوسهما ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد ، والأزمان .(1/42)
" واخفض لهما جناح الذل من الرحمة "أي : تواضع لهما ، ذلا لهما ، ورحمة ، واحتسابا للأجر ، لا لأجل الخوف منهما ، أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد ، التي لا يؤجر عليها العبد ،" وقل رب ارحمهما " أي : ادع لها بالرحمة أحياء ، وأمواتا . جزاء على تربيتهما إياك ، صغيرا .
وفهم من هذا ، أنه كلما ازدادت التربية ، ازداد الحق . وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه ، تربية صالحة غير الأبوين ، فإن له على من رباه حق التربية .
" ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا "
أي : ربكم تعالى مطلع على ما أكنته سرائركم ، من خير وشر ، وهو لا ينظر إلى أعمالكم وأبدانكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وما فيها من الخير والشر ،" إن تكونوا صالحين "
بأن تكون إرادتكم ومقاصدكم دائرة على مرضاة الله ورغبتكم فيما يقربكم إليه ، وليس في قلوبكم إرادات مستقرة لغير الله .
" فإنه كان للأوابين " أي : الرجاعين إليه في جميع الأوقات " غفورا " فمن اطلع الله على قلبه ، وعلم أنه ليس فيه إلا الإنابة إليه ومحبته ، ومحبة ما يقرب إليه ، فإنه ، وإن جرى منه في بعض الأوقات ، ما هو مقتضى الطبائع البشرية ، فإن الله يعفو عنه ، ويغفر له الأمور العارضة ، غير المستقرة ، " وآت ذا القربى حقه " من البر والإكرام ، الواجب والمسنون ، وذلك الحق ، يتفاوت بتفاوت الأحوال ، والأقارب ، والحاجة وعدمها ، والأزمنة . "والمسكين " آته حقه من الزكاة ومن غيرها ، لتزول مسكنته " وابن السبيل "وهو : الغريب المنقطع به عن بلده ،" ولا تبذر تبذيرا " يعطى الجميع من المال ، على وجه لا يضر المعطى ، ولا يكون زائدا على المقدار اللائق ، فإن ذلك تبذير ، وقد نهى الله عنه وأخبر :(1/43)
" إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " لأن الشيطان ، لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة ، فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك ، فإذا عصاه ، دعاه إلى الإسراف والتبذير . والله تعالى ، إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها ، ويمدح عليه ، كما في قوله ، عن عباد الرحمن الأبرار
" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما "
وقال هنا " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " كناية عن شدة الإمساك والبخل .
" ولا تبسطها كل البسط " فتنفق فيما لا ينبغي ، وزيادة على ما ينبغي ،" فتقعد "إن فعلت ذلك
" ملوما " أي : تلام على ما فعلت " محسورا " أي : حاسر اليد فارغها ، فلا بقي ما في يدك من المال ولا خلفه مدح وثناء .
وهذا الأمر بإيتاء ذي القربى ، مع القدرة والغنى . فأما مع العدم ، أو تعسر النفقة الحاضرة ، فأمر تعالى أن يردوا ردا جميلا فقال :
" وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها " أي : تعرضن عن إعطائهم إلى وقت آخر ، ترجو فيه من الله تيسير الأمر .
" فقل لهم قولا ميسورا " أي : لطيفا برفق ، ووعد بالجميل ، عند سنوح الفرصة ، واعتذار بعدم الإمكان ، في الوقت الحاضر ، لينقلبوا عنك ، مطمئنة خواطرهم ، كما قال تعالى :
" قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى " وهذا أيضا ، من لطف الله تعالى بالعباد ، أمرهم بانتظار الرحمة والرزق منه ، لأن انتظار ذلك عبادة ، وكذلك وعدهم بالصدقة والمعروف عند التيسر ، عبادة حاضرة ، لأن الهم بفعل الحسنة ، حسنة ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير ، وينوي فعل ما لم يقدر عليه ، ليثاب على ذلك ، ولعل الله ييسر له بسبب رجائه . ثم قال تعالى :
" إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء " من عباده " ويقدر " أي : يضيقه على من يشاء ، حكمة منه ،" إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " فيجزيهم على ما يعلمه صالحا لهم ، ويدبرهم ، بلطفه وكرمه .(1/44)
" ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا "
وهذا من رحمته بعباده ، حيث كان أرحم بهم من والديهم ، فنهى الوالدين أن يقتلوا أولادهم ، خوفا من الفقر والإملاق ، وتكفل برزق الجميع . وأخبر أن قتلهم كان خطئا كبيرا ، أي : من أعظم كبائر الذنوب ، لزوال الرحمة من القلب ، والعقوق العظيم ، والتجرؤ على قتل الأطفال ، الذين لم يجر منهم ذنب ولا معصية .
" ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا "
النهي عن قربان الزنى أبلغ من النهي عن مجرد فعله ، لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه ، فإن : « من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه » ، خصوصا هذا الأمر ، الذي في كثير من النفوس ، أقوى داع إليه . ووصف الله الزنى وقبحه بأنه
" كان فاحشة " أي : إنما يستفحش في الشرع والعقل ، والفطر ، لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله ، وحق المرأة ، وحق أهلها ، أو زوجها ، وإفساد الفراش ، واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد . وقوله :
" وساء سبيلا " أي : بئس السبيل ، سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم .(1/45)
" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا " وهذا شامل لكل نفس " حرم الله " قتلها من صغير وكبير ، وذكر وأنثى ، وحر وعبد ، ومسلم وكافر له عهد . " إلا بالحق " كالنفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه ، المفارق للجماعة ، والباغي في حال بغيه ، إذا لم يندفع إلا بالقتل " ومن قتل مظلوما " أي : بغير حق " فقد جعلنا لوليه " وهو ، أقرب عصباته وورثته إليه " سلطانا " أي : حجة ظاهرة على القصاص من القاتل وجعلنا له أيضا تسلطا قدريا على ذلك ، وذلك حين تجتمع الشروط الموجبة للقصاص ، كالعمد العدوان ، والمكافأة " فلا يسرف "الولي " في القتل إنه كان منصورا " والإسراف ، مجاوزة الحد ، إما أن يمثل بالقاتل ، أو يقتله بغير ما قتل به ، أو يقتل غير القاتل . وفي هذه الآية ، دليل على أن الحق في القتل للولي ، فلا يقتص إلا بإذنه ، وإن عفا سقط القصاص . وإن ولي المقتول ، يعينه الله على القاتل ، ومن أعانه حتى يتمكن من قتله . " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا " وهذا من لطفه ورحمته تعالى باليتيم ، الذي فقد والده ، وهو صغير ، غير عارف بمصلحة نفسه ، ولا قائم بها ، أن أمر أولياءه بحفظه ، وحفظ ماله ، وإصلاحه ، وأن لا يقربوه " إلا بالتي هي أحسن " من التجارة فيه ، وعدم تعريضه للأخطار ، والحرص على تنميته ، وذلك ممتد إلى أن " يبلغ " اليتيم " أشده "أي : بلوغه ، وعقله ، ورشده ، فإذا بلغ أشده ، زالت عنه الولاية ، وصار ولي نفسه ، ودفع إليه ماله . كما قال تعالى : " فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " " وأوفوا بالعهد " الذي عاهدتم الله عليه ، والذي عاهدتم الخلق عليه . " إن العهد كان مسؤولا "(1/46)
أي : مسؤولون عن الوفاء به . فإن وفيتم ، فلكم الثواب الجزيل ، وإن لم تفعلوا ، فعليكم الإثم العظيم . " وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا "وهذا أمر بالعدل وإيفاء المكاييل والموازين بالقسط ، من غير بخس ولا نقص . ويؤخذ من عموم المعنى ، النهي عن كل غش ، أو مثمن ، أو معقود عليه ، والأمر بالنصح ، والصدق في المعاملة ." ذلك خير " من عدمه " وأحسن تأويلا " أي : أحسن عاقبة ، به يسلم العبد من التبعات ، وبه تنزل البركة . " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " أي : ولا تتبع ما ليس لك به علم ، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله ، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك . " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله ، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته ، أن يعد للسؤال جوابا ، وذلك لا يكون ، إلا باستعمالها ، بعبودية الله ، وإخلاص الدين له ، وكفها عما يكرهه الله تعالى . " ولا تمش في الأرض مرحا " أي : كبرا وتيها وبطرا ، متكبرا على الحق ، ومتعاظما في تكبرك على الخلق . " إنك " في فعلك ذلك " لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا " بل تكون حقيرا عند الله ومحتقرا عند الخلق ، مبغوضا ممقوتا ، قد اكتسبت شر الأخلاق ، واكتسيت بأرذلها ، من غير إدراك لبعض ما تروم . " كل ذلك " المذكور الذي نهى الله عنه فيما تقدم من قوله : " ولا تجعل مع الله إلها آخر " والنهي عن عقوق الوالدين وما عطف على ذلك " كان سيئه عند ربك مكروها " أي : كل ذلك يسوء العاملين ويضرهم ، والله تعالى يكرهه ويأباه ." ذلك " الذي بيناه ووضحناه من هذه الأحكام الجليلة " مما أوحى إليك ربك من الحكمة " فإن الحكمة ، الأمر بمحاسن الأعمال ، ومكارم الأخلاق ، والنهي عن أراذل الأخلاق ، وأسوإ الأعمال . وهذه الأعمال المذكورة في هذه الآيات(1/47)
، من الحكمة العالية ، التي أوحاها رب العالمين لسيد المرسلين ، في أشرف الكتب ، ليأمر بها أفضل الأمم ، فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا . ثم ختمها بالنهي عن عبادة غير الله ، كما افتتحها بذلك فقال " ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم " أي : خالدا مخلدا ، فإنه من يشرك بالله ، فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار . " ملوما مدحورا " أي : قد لحقتك اللائمة ، واللعنة ، والذم من الله ، وملائكته ،والناس أجمعين.
سور القرآن الكريم
معنى السورة :
تعريف السورة شرعا : طائفة مستقلة من آيات القرآن الكريم مفتتحة ببسم الله الرحمن الرحيم ذات بداية و نهاية .
عدد سور القرآن :
عدد سور القرآن الذي استقر عليه مائة وأربعة عشر سورة، وهذا الذي اتفق عليه الصحابة في مصحف عثمان ولم يختلفوا عليه واستقر الأمر عليه في الأمة إلى يومنا هذا.
عدد السور المكية 87 سورة ، عدد السور المدنية 27 سورة .
عدد السور التى تبدأ بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة .
خمس سور تبدأ بـ"الحمد لـ....." وهي : الفاتحة والانعام والكهف وسبأ وفاطر.
سبع سور تبدأ بتسبيح الخالق جل وعلا "سبح- يسبح- سبحان" وهي : الإسراء والأعلى والتغابن والجمعة والصف والحشر والحديد.
أسماء السور :
تنقسم سور القرآن من حيث التسمية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما له اسم واحد، فهناك جملة من سور القرآن ليس لها إلا اسم واحد مثل سورة الأنعام، لا تُعرف إلا بهذا الاسم، ومثل سورة الأعراف لا تعرف إلا بهذا الاسم، وهكذا سورة الكهف ومريم والأنبياء وطه وغيرها من السور ليس لها إلا اسم واحد.(1/48)
القسم الثاني: ما له أكثر من اسم، فإما أن يكون لهذه السورة اسمان، وإما أن يكون لها ثلاثة أسماء، وإما أن يكون أكثر من ذلك، فمثال ما له اسمان سورة محمد: تسمى محمد وتسمى القتال، ومثال ما له ثلاثة أسماء سورة غافر: يقال غافر والمؤمن والطول، لقول الله عز وجل (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ)(غافر: 3)، فتسمى أيضا سورة الطول.
وما له أكثر من ثلاثة مثل: التوبة، وأكثر منها ـ وهي أكثر سور القرآن أسماء ـ سورة الفاتحة، فقد عد بعض العلماء لها خمسة وعشرين اسما، والتوبة من أسماءها ماذا؟ الفاضحة والمقشقشة أو المشقشقة، وأيضا براءة والتوبة، وعدد من الأسماء ذكرها المفسرون في بداية تفسير سورة التوبة، وأما الفاتحة فذكر في أسماءها قرابة خمس وعشرين اسما، منها أم الكتاب والفاتحة والسبع المثاني والحمد والشافية والرقية والكافية والصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن ربه (قسمت الصلاة بين بين عبدي نصفين ) وغير ذلك من الأسماء التي ذكرها أهل العلم في مقدمة تفسير سورة الفاتحة.
القسم الثالث: وهو أن تسمى أكثر من سورة باسم واحد كالزهراوين والحواميم والطواسين والمسبحات والسبع الطوال والمعوذات.
الزهراوين : البقرة وآل عمران
والحواميم : هي المفتتحة بـ حم، وهي سبع سور متوالية يقال فيها الحواميم ، وهى سورة غافر ثم فصلت ثم الشورى ثم الزخرف ثم الدخان ثم الجاثية ثم الأحقاف فهي سبع سور متوالية.
الطواسين: ما افتتح بـ طسم ما افتتح بـ طس أو طسم وهي ثلاث سور: طسم الشعراء وطس النمل وطسم القصص.
والمسبِّحات : السورالتي ابتدأت بسبح أو يسبح أو سبحان وهي سبع سور: الإسراء ، الحديد ، الحشر ، الصف ، الجمعة ، التغابن، الأعلى.(1/49)
والسبع الطوال: يقصد بها السبع الأول من القرآن الكريم الموصوفة بالطول الشديد، بدايتها البقرة ثم آل عمران ثم النساء ثم المائدة ثم الأنعام ثم الأعراف هذه السادسة والسابعة اختلف فيها فقيل هي سورة الأنفال والتوبة سواء، وقيل سورة يونس
والمعوذات : يراد بها السور الثلاث الأخيرة من القرآن الكريم، وهي سورة الإخلاص وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس.
مصدر التسمية :
يرجِّح الزركشي في البرهان والسيوطي في الإتقان أن تسمية سور القرآن توقيفية، يعني أن هذه الأسماء صدرت ووردت وجاءت من النبي صلى الله عليه وسلم .
أقسام سور القرآن :
عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت السبع الطوال مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزبور وفضلت بالمفصل) هذا الحديث رواه الإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فهذا الحديث يبين لنا أن سور القرآن قد قسمت إلى أربعة أقسام كل قسم له طابع معين من حيث الطول :
القسم الأول : السبع الطوال :
أولها البقرة وآخرها براءة لأنهم كانوا يعدون الأنفال وبراءة سورة واحدة ، وبذلك لم يفصلوا بينهما؛ لأنهما نزلتا جميعا في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسميت طول لطولها
القسم الثانى : المئون :
ما يلي السبع الطول، سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربه ، مثل سورة يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل والكهف والإسراء ومريم .
القسم الثالث : المثاني :(1/50)
ما كان بعد المئين وهي مثل سورة يس والصافات والزمر وغافر والحواميم، هذه كلها من المثاني؛ لأنها يكثر تكرارها وإعادتها وتلاوتها في الصلاة وغيرها، وكما قال الله عز وجل (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ)، يعني تُثَنَّى فيه الأحكام والأخبار والعقائد والقصص مرة بعد أخرى وسميت الفاتحة السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات تثنى أي تكرر وتعاد في كل ركعة من ركعات الصلاة ، قال الله سبحانه وتعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ )
القسم الرابع : المفصل :
ما يلي المثاني من قصار السور، سمي مفصلا لكثرة الفصول التي بين السور ببسم الله الرحمن الرحيم ، يبدأ بسورة ق ، وينتهى بسورة الناس، وقد ذكر العلماء أن المفصل ثلاثة أقسام : طوال وأوساط وقصار
طوال : من ق إلى نهاية المرسلات.
أوساط : من عم إلى نهاية الليل.
قصار: من الضحى إلى سورة الناس.
ومعرفة المفصل مهمة حتى نقتدى فى صلاتنا برسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم بأبى هو وأمى وروحى ، فقد كان يقرأ في المغرب غالبا من قصار المفصل ، ويقرأ في الظهر والعصر والعشاء من أوساط المفصل غالبا، ويقرأ في الفجر من طوال المفصل غالبا، ولذلك ينبغي على الإنسان أن يعرف هذا وخصوصا من الأئمة أن يعرفوا هذا الأمر حتى يقرأوا بالناس في صلاتهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاته الجهرية والسرية.
أعظم سورة فى القرآن الكريم(1/51)
عن أبي سعيد بن المعلى قال : (كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ،ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). (رواه البخاري)
تشتمل الفاتحة على المقاصد الأساسية للقرآن الكريم كَكُلٍّ فهي:
أوَّلاً: تُعلِّم المؤمن الحمد والثناء على الله عزَّ وجل، بما هو أهله ، على ما أنعم به وتفضَّل عليه، وعلى سائر المخلوقات.
ثانياً: فيها إقرار باتِّصاف الله تعالى بالصفات الَّتي لا غنى للإنسان الضعيف الخطَّاء عن فيضها، ومنها هاتان الصفتان (الرَّحمن الرَّحيم) فالرحمن عظيم الرحمة، والرحيم دائم الرحمة. كما أن لفظ الرحمن يدل على من تصدر عنه الرحمة، ولفظ الرحيم يدل على شمولية هذه الرحمة، وقد أوردهما الله تعالى بصيغ المبالغة دلالة على شموليَّتهما وسعتهما، قال تعالى: (..ورحمتي وسِعَتْ كُلَّ شيءٍ) (الأعراف : 156) فرحمته تعالى وسعت الكون كلَّه، فكيف بها لا تسع أخطاء الإنسان، وهفواته وزلاَّته، ما قلَّ منها وما كثر؟ فإذا أقلع عنها وتاب منها، وأناب إلى الله بصدق وعزيمة، غفرها الله تعالى له ولو كانت ملء قراب الأرض.
ثالثاً: فيها إعلان وبيان عن وحدانيَّة الله تعالى وربوبيَّته للعالمين، وتأكيد على أنه القادر القاهر المتصرِّف في الأكوان وسائر المخلوقات، والمالك للحساب والجزاء في يوم لا ينفع المرء فيه إلا عمله.
رابعاً: فيها تعليم المؤمن صدق التوجُّه الكلِّي الخالص لله تعالى بحسن التوكُّل عليه ، والاستعانة به في كلِّ أمر، مع بذل أفضل جهد ممكن في تعاطي الأسباب بالشكل الوافي.(1/52)
خامساً: فيها تذكير للإنسان بأنه معرَّض للضلال والضياع ، وأنه قد يصيب وقد يخطئ ، لأن عقله وإدراكه محدودان ، فهو في حاجة مستمرة إلى الله عزَّ وجل ، وعليه أن يلجأ إليه دائماً ليلهمه الصَّواب والثبات.
سادساً: تشير إلى وجود معارج السعداء ليسعى المؤمن للوصول إليها، وكذلك منازل الأشقياء ليجتهد في الابتعاد عنها والخلاص منها0
وقفات مع سورة النور
سورة النور سورة مدنية تهتم بالآداب الإجتماعية عامة وآداب البيوت خاصة وقد وجّهت المسلمين إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة بما فيها من توجيهات رشيدة وآداب سامية تحفظ المسلم ومجتمعه وتصون حرمته وتحافظ عليه من عوامل التفكك الداخلي والإنهيار الخلقي الذي يدمّر الأمم.
وسميّت بهذا الإسم لما فيها من إشعاعات النور الربًاني بتشريع الأحكام والآداب والفضائل الإنسانية التي هي قبس من نور الله على عباده وفيض من فيوضات رحمته.وتشبيه النور بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دريّ يوقد من شجرة مباركة، هذا التشبيه كأنه يدلّ على أن النور حتى نحافظ عليه مضيئاً يجب أن نحيطه بما يحفظه والفتيل الذي به نشعل النور إنما هو الآية الأولى في السورة هذه الآية الشديدة التي تحرك الناس لإضاءة مصباح مجتماعاتهم الصالحة بتحقيق الضمانات الأخلاقية حتى يبقى النور مشعّاً.
تبدأ السورة بآية شديدة جداً (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (آية:1) وفيها تنبيه للمسلمين لأن السورة فيها أحكام وآداب هي قوام المجتمع الإسلامي القويم.(1/53)
وقد نزلت فيها آيات تبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها بعد حادثة الإفك (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آية :11) وكل الآيات التي سبقتها إنما كانت مقدمة لتبرءتها. ثم يأتي التعقيب في (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (الآية: 12)
وفيها توجيه للمسلمين بإحسان الظنّ بإخوانهم المسلمين وبأنفسهم وأن يبتعدوا عن سوء الظن بالمؤمنين، وشددت على أهمية إظهار البيّنة (لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (آية: 13)
ويأتي الوعظ الإلهي في (الآية:17) (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). فالسورة بشكل عام هي لحماية أعراض الناس وهي بحقّ سورة الآداب الإجتماعية.
تنتقل الآيات إلى:(1/54)
عقوبة الزناة :(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (آية: 2)، والأصل في الدين الرأفة والرحمة أما في أحوال الزناة فالأمر يحتاج إلى الشدة والقسوة وإلا فسد المجتمع جرّاء التساهل في تطبيق شرع الله وحماية حدوده، لذا جاءت الآيات تدل على القسوة وعلى كشف الزناة . لكن يجب أن نفهم الدلالة من هذه الآية، فالله تعالى يأمرنا بأن نطبق هذه العقوبة بعد أن نستكمل بعض الضمانات لحماية المجتمع التي تتحدث عنها بالتفصيل الآيات التالية في السورة ، وبعدها لو حدثت حادثة زنا لا يقام الحد حتى يشهد أربع شهود ومن غير الشهود لا يطبق الحدّ فكأن إقامة الحد مستحيلة وكأنما في هذا توكيد على أن الله تعالى يحب الستر ولا يفضح إلا من جهر بالفاحشة ولنا أن نتخيل أي إنسان يزني أمام أربع شهود إلا إذا كان فاجراً مجاهراً عندها هذا هو الذي يقام عليه الحدّ حتى لا يفسد المجتمع بفجوره وتجرئه على الله وعلى أعراض الناس في مجتمعه. فلو كان قد وقع في معصية ولم يكن له إلا ثلاث شهود لا يقام عليه الحد ويجب عليه التوبة والاستغفار.
ولهذا جاءت في السورة آيات التوبة والمغفرة . (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (آية :10) و(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آية :5) (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آية :14) و(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (آية:20).(1/55)
والملاحظ في هذه السورة تقديم الزانية على الزاني وذلك لأن المرأة هي التي تقع عليها مسؤولية الزنا فهي لو أرادت وقع الزنا وإن لم ترد لم يقع فبيدها المنع والقبول، وهذا على عكس عقوبة السرقة (والسارق والسارقة) فهنا قدم السارق لأن طبيعة الرجل هو الذي يسعى في الرزق على أهله فهو الذي يكون معرضاً لفعل هذه الجريمة هذا والله أعلم.
ضمانات لحماية المجتمع:
الإستئذان:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (آية :27) تعلمنا الآيات ضرورة الإستئذان لدخول البيوت وحتى داخل البيت الواحد للأطفال والخدم في ساعات الراحة التي قد يكون الأب والأم في خلوة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (آية :58) ومن آداب الإسلام أن لا يدخل الأبناء على والديهم بدون استئذان.
غضّ البصر وحفظ الفرج:
(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (آية :30) وهذا توجيه للرجال والنساء معاً فهم جميعاً مطالبون بغض البصر.
الحجاب:(1/56)
(وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آية :31)
تسهيل تزويح الشباب :
(وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (آية :32) وتسهيل هذا الزواج لحماية الشباب الذي بلغ سن الزواج وبالتالي حماية المجتمع كاملاً.
منع البغاء:
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آية :33)
منع إشاعة الفواحش بإظهار خطورة انتشارها:(1/57)
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَعْلَمُونَ) (آية :19) و(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (آية23&24). فلقد لعن الله تعالى الذين يشيعون الفاحشة أو يرمون المحصنات وحذرهم من عذابه في الدنيا والآخرة.
حد القذف:
حذّرنا الله تعالى في هذه السورة من قذف المحصنات وبيّن لنا العقوبة التي تقع على هؤلاء وهي لعنة الله وعذابه في الدنيا والآخرة ، (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(آية:23) وحد القذف فى هذه الآية:
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ولاتقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(آية:4)
آية النور:
هذه الآية التي سميّت السورة باسمها فيها من الإعجاز ما توقف عنده الكثير من العلماء. ووجودها في سورة النور هو بتدبير وبحكمة من الله تعالى، فلو طبّق المجتمع الإسلامي الضمانات التي أوردتها الآيات في السورة لشعّ النور في المجتمع ولخرج الناس من الظلمات إلى النور، وشرع الله تعالى هو النور الذي يضيء المجتمع ولذا تكررت في السورة (آيات مبيّنات ، وآيات بيّنات) 9 مرّات لأن هذه الآيات وما فيها من منهج تبيّن للناس طريقهم والنور من خصائصه أن يبيّن ويَظهر ويكشف.(1/58)
هذا النور الذي ينير المجتمع الإسلامي إنما مصدره (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (آية :35)
وينزل هذا النور في المساجد (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) (آية :36)
وينزل على (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (آية :37)
والذي لا يسير على شرع الله يكون حاله كما في الآيات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) (آية 39&40)
سورة الأخلاق(1/59)
سورة مدنية تتحدث عن أدب العلاقات والتعامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين والناس عامة وهى سورة الآداب الإجتماعية ، وهي على وجازتها سورة جليلةٌ ضخمة ، تتضمن حقائق التربية الخالدة ، وأسس المدنيّة الفاضلة ، وهى مليئة بالآداب العالية ، والأخلاق السامية ، والمثل النيرة التي تقود الإنسانية إلى العلياء والكمال ، والحصافة والسماحة والجمال. هى سورة الحجرات ، ولقد سمَّاها بعض المفسرين "سورة الأخلاق". وهى من عظام السور القرآنية ، التي تضع للمسلم أروع المثل الإنسانية العليا في الأخلاق ، في الآداب ، والأعمال ، والمعاملات ، وهي جديرة بالدراسة ، حرية بالفهم والنظر إلى ما فيها من كنوز هذا القرآن العظيم ، الذي أنزله الله رحمة للعالمين ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
أهم أغراض السورة :
وفي سورة الحجرات بيان للأدب مع الله عز وجل , والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفيها آداب عامة لتعامل المسلمين بعضهم مع البعض الآخر . وقد إشتملت هذه السورة على أروع المثل الإسلامية والإنسانية .
وفي هذه السورة قررت الحرية الشخصية للمسلم داخل بيته , حتى لا يباح لأحد أن ينقب عنه . إذ أن بيت الرجل حصن له , لا يدخله أحد إلا بإذنه .
وفي هذه السورة حفظ للمسلم عرضه في غيبته وحضوره . وفيها النهي عن التفاخر بالأنساب , والنهي عن فعل الجاهلية الأولى .
وفيها طلب التثبت في الأخبار وعدم الإسراع في تصديق أخبار الفاسقين .
وفيها التنبيه والتوجيه من الله عزوجل للمؤمنين إلى طريق المجد الحقيقي في الدنيا والآخرة . كما حث الله فيها على العمل . حتى جعلت الأعمال جزءا من الإيمان تنويها بما لها من الشأن عند الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة.
وفي هذه السورة ندب للمسلم أن يكون معوانا على الحق , نصيرا له ولأهله , يدفع الظالمين , ويقف في صف المظلومين , حتى ينصفوا إنصافا كاملا .(1/60)
وفي السورة دعوة إلى الجهاد بالنفس والمال في سبيل نصرة الحق وإعلاء كلمة الله عز وجل .
ونستعرض هذه الآداب فيما يلي:
الأدب مع الشرع:
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هذا الأدب الرفيع الذي أدَّب الله به المؤمنين، تجاه شريعة الله وأمر رسوله ، وقد قرن الله عزّ وجل في هذه الآية نفسه برسوله عليه الصلاة والسلام ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ الوحيد عن ربه ، ونبّه المؤمن إلى أنه دائماً في حضرة ربه (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)( الحديد: 4) ، وعليه احترام الرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد لأوامره ؛ لأن ذلك من صميم تقوى الله وهذه التقوى تقتضي الالتزام بأمور منها :
عدم تقديم رأيه على أوامر الله ورسوله في الكتاب والسنة ، فلا يقول ولا يقضي في الدين بخلاف ما تنص عليه الشريعة ، ولا يجعل لنفسه تقدما على الله ورسوله في المحبة والولاء ، بل يكون رأيه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه والسلام ، وتكون محبته وولاؤه لله ورسوله أقوى وأشد من محبته وولائه لنفسه وأهوائه ومصالحه، ولا يفتات على الله شيئاً أو يقطع أمراً حتى يحكم الله فيه ، ويأذن به على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام .
الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)
وقد نهى الله تعالى في هذه الآية عن ثلاثة أمور :(1/61)
**عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن به من الكلام والآراء والأحكام .
**عن رفع الصوت بحضرته .
**عن الجفاء في مخاطبته ومحاورته .
كما أمر بتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته ، والتزام توجيهاته وأوامره . وبما أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم حيا كحرمته ميتا ، وكلامه المسموع منه مباشرة ككلامه المروي عنه بعد موته في الرفعة والإلزام ، فقد وجب على كل من يسمع حديثه وسنته وهديه ألا يرفع صوته عليه أو يعرض عنه ؛ لأن رفع الصوت والجهر به في حضرته صلى الله عليه وسلم أو عند تلاوة سنته دليل على قلة الإيمان ، ثم عقب سبحانه على هذا التوجيه بقوله :( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ( الحجرات: 3)، أي أنهم صُبُرٌ على التقوى مجربون لها ومدربون عليها ، وأقوياء على تحمل مشاقها ؛ فحكم بذلك بالإخلاص والإيمان والتقوى للمؤمنين الذين يتصفون بالمحبة لله ورسوله والولاء لهما، وتقديم أحكام الشرع على آرائهم وأهوائهم ومصالحهم ، والاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيا وميتا وغض الصوت بحضرته أو عند سماع سنته .
ويستنبط الفقهاء بالقياس من هذا التوجيه القرآني وجوب احترام الوالدين والعلماء وذوي السابقة في الدعوة والجهاد وكبار السن ، والرفق بهم وعدم رفع الصوت بين أيديهم ، والاستحياء بحضرتهم.
أدب تلقّي الأخبار:(1/62)
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) ومن الأدب الخاص إِلى الأدب العام تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل، فتأمر المؤمنين بعدم السماع للإِشاعات، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار، لا سيما إن كان الخبر صادراً عن شخص غير عدل أو شخص متَّهم، فكم من كلمةٍ نقلها فاجر فاسق سبَّبت كارثةً من الكوارث، وكم من خبرٍ لم يتثبَّت منه سامعه جرَّ وبالاً، وأحدث انقساماً
أدب الأخوّة بين المؤمنين و الإصلاح في حال وقوع خلاف:
قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) دَعَت السورة إِلى الإِصلاح بين المتخاصمين، ودفع عدوان الباغين .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب أمريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (رواه مسلم).
الآداب الإجتماعية بين المسلمين :(1/63)
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)
حذرت السورة من السخرية والهمز واللمز، ونفَّرت من الغيبة والتجسس والظن السيء بالمؤمنين، ودعت إِلى مكارم الأخلاق، والفضائل الاجتماعية، وحين حذرت من الغيبة جاء النهي في تعبير رائع عجيب، أبدعه القرآن غاية الإِبداع، صورة رجل يجلس إِلى جنب أخٍ له ميت ينهش منه ويأكل لحمه ، ويا له من تنفير عجيب!!
وقد أوعد الله جل وعلا الذين يلمزون الناس في قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)
فالسخرية هي: أن ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الاحتقار والاستصغار ، ولعل من سخرت منه أو احتقرته أعلى وأجل منك في ساعته تلك ، ولعله يتوب بعد ذلك فتقبل توبته ، ولعله يسلم فيحسن إسلامه وتكون مرتبته عند الله أعلى منك . ولعل سخريتك منه تثير في نفسه العزة بالإثم ، فيزداد صدودا عن الحق وحقدا على أهله ، فيكون لك من الوزر بذلك نصيب .
واللمز هو: ذكر الإنسان أخاه في حضرته بعيوبه .
أما النبز فهو: مناداة الإنسان أخاه بألقاب يكرهها أو يعدها محقرة ، أو مثيرة للسخرية .(1/64)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث, ولا تجسسوا ولاتحسسوا ولا تنافسوا ولاتحاسدوا, ولا تباغضوا ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخواناً) ( رواه البخاري)
وعن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم:( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) (رواه الترمذي)
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم, قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) (رواه أحمد وأبو داود)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس)(رواه أحمد).
قال قتادة:( يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا) هل تدرون ما التجسس ؟ هو أن تتبع أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سرّه.
أدب التعامل مع الناس بشكل عام :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم ؟ قال: (أكرمهم عند الله أتقاهم)(رواه البخارى)(1/65)
وقد تأخر ذكر أدب التعامل مع الناس في السورة وهذا ليرشدنا أنه قبل أن نتعامل مع الناس بأدب علينا أن نحقق ونكتسب كل الآداب السابقة في التعامل مع رسولنا وفيما بيننا حتى نتميّز بأخلاقنا وآدابنا وحتى نترك عند الناس من غير المسلمين الإنطباع الحسن لأن الخلق الحسن قد يفتح من البلاد وقلوب العباد ما لا تفتحه الحروب والمعارك. وكم من الناس دخلوا في الإسلام بأخلاق المسلمين الفاتحين لا بالسيف.
أدب التعامل مع الإيمان ومع الله تعالى:
قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) وختمت السورة بالحديث عن الأعراب الذين ظنوا الإِيمان كلمةً تقال باللسان، وجاءوا يمنُّون على الرسول إِيمانهم، فبينت حقيقة الإِيمان، وحقيقة الإِسلام، وشروط المؤمن الكامل وهو الذي جمع الإِيمان والإِخلاص والجهاد والعمل الصالح.
سورة التكاثر .. رسالة إلى المتعلقين بالدنيا
قال تعالى :( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ*كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ *كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
شرح الكلمات:
ألهاكم: أي شغلكم عن طاعة الله تعالى.
التكاثر: أي التباهي بكثرة المال.
حتى زرتم المقابر: أي تشاغلتم بجمع المال والتباهي بكثرته حتى متم ونقلتم إلى المقابر.
كلا: أي ما هكذا ينبغي أن تفعلوا فارتدعوا عن هذا التكاثر.
سوف تعلمون: أي إذا دخلتم قبوركم علمتم خطأكم في التكاثر في الأموال والأولاد.
كلا: أي حقاً.
لو تعلمون علم اليقين: أعني علماً يقينياً عاقبة التكاثر لما تفاخرتم بكثرة أموالكم.
لترون الجحيم: أي النار.
يومئذ: أي يوم ترون الجحيم عين اليقين.(1/66)
عن النعيم: أي تنعمتم به وتلذذتم من الصحة والفراغ والأمن والمطاعم والمشارب.
معنى الآيات:
قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر) هذا خطاب الله تعالى للمشتغلين بجمع المال وتكثيره للمباهاة به والتفاخر الأمر الذي ألهاهم عن طاعة الله ورسوله فماتوا ولم يقدموا لأنفسهم خيراً فقال تعالى لهم ألهاكم أي شغلكم التكاثر أي في الأموال للتفاخر بها والمباهاة بكثرتها (حتى زرتم المقابر) أي بعد موتكم نقلتم إليها لتبقوا فيها إلى أن تخرجوا منها للحساب والجزاء أي يوم القيامة.
وقوله لهم: (كلا) أي ما هكذا ينبغي أن تفعلوا فارتدعوا عن هذا السلوك المفضي بكم إلى الهلاك والخسران. (سوف تعلمون) عاقبة تشاغلكم عن طاعة الله وطاعة رسوله والتزود للدار الآخرة.
(ثم كلا سوف تعلمون) كرر الوعيد والتهديد. وقوله: (لو تعلمون علم اليقين) أي حقاً لو تعلمون ما تجدونه في قبوركم ويوم بعثكم ونشوركم لما تشاغلتم بالأموال وتكاثرتم فيها.
وقوله: (لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين) هذا جواب قسم نحو وعزتنا لترون الجحيم أي النار وذلك يوم القيامة، المشرك يراها ويصلاها، والمؤمن يراها وينجيه الله منها. ثم لترونها عين اليقين أي الأمر الذي لا شك فيه إذ يؤتى بجهنم فيراها أهل الموقف أجمعون.
وقوله: (ثم لتسألن يومئذ) أي يوم ترون الجحيم عين اليقين (عن النعيم) الذي كان لكم في الدنيا من صحة وفراغ وأمن وطعام وشراب. فمن أدى شكره نجا، ومن لم يؤد شكره أخذ به ولا يعفى إلا عن ثوب يستر العورة وكسرة خبز تسد الجوعة وجحر يكن من الحر والبرد وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمرو بن التيهان "هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة يشير إلى بسر ورطب وماء بارد" وصح أيضاً: "إنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟.
من هداية الآيات:(1/67)
** التحذير من جمع المال وتكثيره مع عدم شكره وترك طاعة الله ورسوله من أجله.
** إثبات عذاب القبر وتأكيده بقوله حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون أي في القبر.
** تقرير عقيدة البعث وحتمية الجزاء بعد الحساب والاستنطاق والاستجواب.
** حتمية سؤال العبد عن النعم التي أنعم الله تعالى عليه بها في الدنيا فإن كان شاكراً لها فاز
وإن كان كافراً لها أخذ والعياذ بالله.
فضائل سور القرآن
من تحقيقات الشيخ الالبانى رحمه الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء رواه مسلم وصححه الألباني في صحيح الجامع .
من الأحاديث الصحيحة التي وردت فضل بعض سور القرآن
سورة الفاتحة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض ، لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك ؛ فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة (البقرة) ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته) (رواه مسلم)
• عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت أصلي، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، قُلت: يا رسول الله إني كنت أصلِّي، قال: "ألم يقل الله: ( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ( ؟ ثم قال: ألا أعلَّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟" فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله، إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: "( الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" ( رواه البخارى )(1/68)
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب وهو يصلي
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي
فألتفت أبي ولم يجبه وصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال أبى : السلام عليك يا رسول الله
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وعليك السلام ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك؟ فقال : يا رسول الله إني كنت في الصلاة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أفلم تجد فيما أوحي إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ؟
قال : بلى ولا أعود إن شاء الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ؟
قال :نعم يا رسول الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تقرأ في الصلاة ؟
قال : فقرأ أم القرآن
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. (رواه الترمذى).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم). (رواه البخاري)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام.
فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام
فقال : اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل
فإذا قال العبد :الحمد لله رب العالمين
قال الله تعالى : حمدني عبدي
وإذا قال : الرحمن الرحيم
قال الله تعالى :أثنى علي عبدي
وإذا قال :مالك يوم الدين
قال :مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي
فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين
قال :هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل(1/69)
فإذا قال :اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
قال :هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). (رواه مسلم)
عن أبي سعيد الخدري قال : كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية
فقالت : إن سيد الحي سليم وإن نفرنا غيب فهل منكم راق ؟
فقام معها رجل ما كنانأبنه برقية فرقاه فبرأ فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا فلما رجع
قلنا له : أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي ؟
قال : لا ما رقيت إلا بأم الكتاب
قلنا لا تحدثوا شيئا حتى نأتي أو نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم. (رواه البخاري)
سورة البقرة :
قال النواس بن سمعان الكلابي : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما). (رواه مسلم)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة). (رواه مسلم)
سورة آل عمران ..
عن أبى أمامة الباهلي رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طيرصواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة ، قال معاوية بلغني أن البطلة السحرة ) (رواه مسلم ) ..
=أطلق عليهما الزهراوين لنورهما وهدايتهما وعظم أجرهما.
= الغمامة والغياية ما يظل الإنسان.
= فرقان: أي جماعتان أو قطيعان(1/70)
= تحاجان: تدافعان وتجادلان.
= البطلة: قال بعض العلماء: السحرة.
سورة هود:
قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله قد شبت قال : ( شيبتني " هود " و " الواقعة " و
" المرسلات " و " عم يتساءلون " ، و "إذا الشمس كورت " ) ( رواه الترمذي)
وقال عليه الصلاة والسلام : ( شيبتني هود و أخواتها قبل المشيب )( صحيح الجامع)
سورة الإسراء
قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ " الزمر " و " بني إسرائيل " ( أي سورة الإسراء )( رواه الترمذي وصححه الألباني )
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان لا ينام حتى
يقرأ المسبحات ويقول فيها آية خير من ألف آية ) (رواه الترمذي وصححه الألباني)
المسبحات : هي السور التي تفتتح بقوله تعالى " سبح " أو " يسبح " .. وهن سور الإسراء ، الحديد ، الحشر ، الصف ، الجمعة ، التغابن ، والأعلى
سورة الكهف
عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة
الكهف عُصم من الدجال وفي رواية من آخر سورة الكهف) ( رواه مسلم)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من " فتنة " الدَّجال ) (رواه أبى داود وصححه الألباني)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورا يوم القيامة ، من مقامه إلى مكة ، و من قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره ، و من توضأ فقال : سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك و أتوب إليك ، كتب في رق ، ثم جعل في طابع ، فلم يكسر إلى يوم القيامة ) ( رواه الحاكم وصححه الألباني)
عن أبي سعيد الخدري قال: ( من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق ) ( رواه الدارمى وصححه الألباني)(1/71)
عن أبي سعيد الخدري قال :قال صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين ) (رواه الحاكم وصححه الألباني)
سورة طه:
عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( اسْمُ اللَّهِ الأَعظَمُ فِي سُوَرٍ مِنَ القُرآنِ ثَلَاثٍ : فِي البَقَرَةِ وَآلِ عِمرَانَ وَ طَهَ) (رواه ابن ماجه والحاكم وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة)
سورة الفتح :
عن زيد بن أسلم عن أبيه : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك قال عمر فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي قال فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن وجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً). (رواه البخاري)
سورة تبارك:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتىغفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك ) ( رواه الترمذي وصححه الألباني)
عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :( سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر ( . ( رواه الترمذى وصححه الألبانى)
عن جابر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ " آلم " تنزيل السجدة ، و " تبارك الذي بيده الملك " ) ( رواه الترمذي وصححه الألباني)
سورة الكافرون
عن فروة بن نوفل رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أويت إلى فراشي فقال :(1/72)
(اقرأ قل يا أيها الكافرون فإنها براءة من الشرك )
قال شعبة أحيانا يقول مرة وأحياناً لا يقولها ( رواه الترمذي وصححه الألباني)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ) (حسنه الألباني)
سورة النصر:
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه : (أليس معك ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ؟ قال: بلى قال: ربع القرآن )(رواه الترمذي وقال حديث حسن).
سورة الإخلاص والمعوذتين
عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن ؟ .
قالوا : وكيف يقرأ ثلث القرآن ؟
قال : ( قل هو الله أحد ) تعدل ثلث القرآن . (رواه مسلم )
عن أبي سعيد : (أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن). (رواه البخاري)
عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله إني أحب هذه السورة ( قل هو الله أحد )
فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن حبك إياها يدخلك الجنة ) (رواه الترمذي وصححه الألباني)
عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، : ( عن أبيه ، معاذ بن أنس الجهني صاحب النبي صلى الله عليه و سلم ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات ، بنى الله له قصراً في الجنة ، فقال عمر بن الخطاب : إذاً استكثر يا رسول الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثر و أطيب .) (رواه أحمد وصححه الألبانى)(1/73)
عن معاذ بن عبد الله بن خبيب بن أبية قال : خرجنا في ليلة مطيرة وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا ، قال : فأدركته فقال : قل فلم أقل شيئا ثم قال : قل فلم أقل شيئا قال : قل فقلت ما أقول ، قال : ( قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وتصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء ) ( رواه الترمذي وصححه الألباني)
عن أبي هريرة قال أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ ( قل هو الله أحد الله الصمد )
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :وجبت
قلت :وما وجبت ؟
قال صلى الله عليه وسلم: الجنة (رواه الترمذي وصححه الألباني)
عن عقبة بن عامر قال : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عقبة ألا أعلمك سورا ما أنزلت في التوراة و لا في الزبور و لا في الإنجيل و لا في الفرقان مثلهن ، لا يأتين عليك إلا قرأتهن فيها ، قل ( هوالله أحد ) و ( قل أعوذ برب الفلق ) و ( قل أعوذ برب الناس )
(رواه أحمد وصححه الألباني)
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط؟ قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس) . (رواه مسلم )
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ, ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات. ( رواه البخارى ).
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه. (متفق عليه)
الأحاديث الضعيفة التي وردت في فضائل بعض السور
هام جداً(1/74)
لم أضع الأحاديث الضعيفة لكي يؤخذ بها .. وإنما وضعتها لكي يعلم الناس أنها ضعيفة !!!
سورة الفاتحة :
(فاتحة الكتاب تجزي ما لايجزي شيء من القرآن، ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان، وجعل القرآن في الكفة الأخرى، لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات)
)فاتحة الكتاب شفاء من السم)
(إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت ( فاتحة الكتاب ) و ( قل هو الله أحد ) ؛ فقد أمنت من كل شيء إلا الموت)
)فاتحة الكتاب و آية الكرسي لا يقرؤهما عبد في دار فيصيبهم ذلك اليوم عين إنس و جن)
(فاتحة الكتاب شفاء من كل داء) ، (فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن)
سورة البقرة
(آيتان هما قرآن ، و هما يشفعان ، و هما مما يحبهما الله ، الآيتان في آخر سورة البقرة (
(من قرأ سورة البقرة؛ توج بتاج في الجنة )
(إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن ، سورة البقرة ، من قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، و من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام(
سورة آل عمران :
(من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة، صلى الله عليه و ملائكته حتى تجب الشمس)
(اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " إلى آخره..)
)الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء،وأدناه أن تحب على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله؟ قال الله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)
(من قرأ آخرآل عمران في ليلة؛ كتب له قيام ليلة)
(من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة؛ صلت عليه الملائكة إلى الليل)
(ما من رجل يكون على دابة صعبة فيقول في أذنها : (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) (آل عمران:83) ؛ إلا وقفت لإذن الله تعالى)(1/75)
(ما خيب الله تعالى عبدا قام في جوف الليل ، فافتتح سورة ( البقرة ) و ( آل عمران ) ، و
نعم كنز المرء ( البقرة ) و ( آل عمران )
سورة هود
(شيبتني هود و أخواتها ، و ما فعل بالأمم قبلي)
(اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة)
(شيبتني هود و أخواتها ، الواقعة و الحاقة و إذا الشمس كورت)
)شيبتني سورة هود و أخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل )
(شيبتني هود و أخواتها : ذكر يوم القيامة ، و قصص الأمم )
سورة الكهف
(ألا أخبركم بسورة ملأت عظمتها ما بين السماء و الأرض ؟ و لقارئها من الأجر مثل ذلك، و من قرأها غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام ؟ قالوا : بلى قال : سورة الكهف)
(سورة الكهف تدعى في التوراة : الحائلة ؛ تحول بين قارئها وبين النار )
(من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف؛ عصم من فتنة الدجال )
سورة طه:
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى قرأ " طه " و " يس " قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام ، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لأمة ينزل هذا عليها ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا )
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه :( يا رب طه و يس ويا رب القرآن العظيم )
( من قرأ " طه " أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار )
سورة يس
( إن الله تبارك وتعالى قرأ ( طه ) و ( يّس ) قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأمة ينزل هذا عليهم ، وطوبى لألسن تتكلم بهذا ، وطوبى لأجوف تحمل هذا )
(من دخل المقابر فقرأ سورة يّس خفف عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات )
(إن لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس ، ومن قرأ يس ؛ كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات )
)من قرأ يس ابتغاء وجه الله ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، فاقرؤوها عند موتاكم )
)من قرأ يس في صدر النهار؛ قضيت حوائجه )(1/76)
( من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفورا له )
( من داوم على قراءتها كل ليلة ثم مات مات شهيدا )
تنبيه ..تنبيه .. تنبيه .. تنبيه
جميع الروايات الواردة بفضل سورة ( يس ) ضعيفة أو موضوعة كما حققها شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في كتبه ..
سورة الدخان
(من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة؛ غفر له )
(من قرأ سورة ( الدخان ) في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك )
(من صلى بسورة الدخان في ليلة بات يستغفر له سبعون ألف ملك )
( من قرأ ( حم الدخان ) في ليله الجمعة أو يوم الجمعة ؛ بنى الله له بها بيتا في الجنة )
(من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفورا له ،ومن قرأ الدخان ليلة الجمعة أصبح مغفورا له )
سورة غافر :
(من قرأ ( الدخان ) كلها ، وأول ( حم غافر ) إلى (وإليه المصير ) ، و ( آية الكرسي ) حين يمسي ؛ حفظ بها حتى يصبح ، ومن قرأها حين يصبح ، حفظ بها حتى يمسي)
سورة الحشر:
(من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم ، من الشيطان الرجيم ، و قرأ ثلاث آيات من آخر سورة ( الحشر ) ، وكل الله به سبعين ألف ملك ، يصلون عليه حين يمسي ، و إن مات في ذلك اليوم ، مات شهيدا ، و من قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة )
(من قرأ خواتيم ( الحشر ) من ليل أو نهار ، فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة )
)اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر)
(إذا أخذت مضجعك فاقرأ سورة الحشر ، إن مت مت شهيدا )
سورة الرحمن:
(لكل شىء عروس ، و عروس القرآن الرحمن )
سورة الواقعة:
(علموا نساءكم سورة الواقعة، فإنها سورة الغنى )
( من قرأ سورة الواقعة و تعلمها، لم يكتب من الغافلين ، و لم يفتقر هو و أهل بيته)
(من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا )(1/77)
عن شجاع عن أبي فاطمة : " أن عثمان بن عفان رضي الله عنه عاد ابن مسعود في مرضه فقال ما تشتكي قال ذنوبي قال فما تشتهي قال رحمة ربي قال ألا ندعوا لك الطبيب قال الطبيب أمرضني قال ألا آمر لك بعطائك قال منعتنيه قبل اليوم فلا حاجة لي فيه قال فدعه لأهلك وعيالك قال إني قد علمتهم شيئا إذا قالوه لم يفتقروا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قرأ " الواقعة " كل ليلة لم يفتقر "
سورة الزلزلة :
(إذا زلزلت تعدل نصف القرآن)
سورة الشرح و سورة الفيل:
(من قرأ في الفجر بـ ألم نشرح و ألم تر كيف ،لم يرمد )
سورة القدر:
(قراءة سورة إنا أنزلناه عقب الوضوء )
)من قرأ في إثر وضوئه :( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) مرة واحدة كان من الصديقين ، و من قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء ، و من قرأها ثلاثا حشره الله محشر الأنبياء )
سورة الإخلاص والمعوذتين:
(من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذى يموت فيه ، لم يفتن في قبره ،وأمن من ضغطة القبر ، و حملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة )
)من قرأ قل هو الله أحد عشرين مرة بنى الله له قصرا في الجنة)
(من قرأقل هو الله أحد مائتي مرة ، غفرت له ذنوب مائتي سنة )
(من قرأ قل هو الله أحد مائتي مرة كتب الله له ألفا و خمسمائة حسنة ، إلا أن يكون عليه دين)
(من مر بالمقابر فقرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة ، ثم وهب أجره للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات )
) من صلى الصبح ثم قرأ قل هو الله أحد مائة مرة قبل أن يتكلم ، فكلما قرأ قل هو الله أحد غفر له ذنب سنة(
(من قرأ بعد صلاة الجمعة ( قل هو الله أحد ) و ( قل أعوذ برب الفلق ) و ( قل أعوذ برب الناس ) سبع مرات؛أجاره الله بها من السوء إلى الجمعة الأخرى )
كيف كان يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي من جبريل(1/78)
1 -أحيانا يأتي جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في صفة رجل من البشر وكان كثيرًا ما يأتي في صورة دحية الكلبي .
2 -وأحيانًا يأتي ولا يراه الحاضرون ، وقد يسمعون له دويًّا وصلصلة كصلصلة الجرس .
ودل على هاتين الحالتين من الوحي ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي ثم يفصم عني وقد وعيته وأحيانا ملك في مثل صورة الرجل فأعي ما يقول)هذا والقرآن الكريم لم ينزل منه شيء إلا عن طريق جبريل عليه السلام ولم يأت منه شيء عن تكليم أو إلهام أو منام ، بل كله أوحي به في اليقظة وحيا جليًّا
نزول القرآن
نزل القرآن أول ما نزل على الرسول صلي الله عليه وسلم في ليلة القدر في رمضان، قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:3-4) . (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(البقرة: 185) .
وكان عمر النبي صلي الله عليه وسلم أول ما نزل عليه القرآن أربعين سنة على المشهور عند أهل العلم ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وسعيد بن المسيِّب وغيرهم . وهذه السِّن هي التي يكون بها بلوغ الرشد وكمال العقل وتمام الإدراك .
والذي نزل القرآن من عند الله تعالى إلى النبي صلي الله عليه وسلم ، جبريل أحد الملائكة المقربين الكرام ، قال الله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء:192- 195) .(1/79)
وقد كان لجبريل عليه السلام من الصفات الحميدة العظيمة ، من الكرم والقوة والقرب من الله تعالى والمكانة والاحترام بين الملائكة والأمانة والحسن والطهارة ؛ ما جعله أهلاً لأن يكون رسول الله تعالى بوحيه إلى رسوله قال الله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين) (التكوير:19- 21) . وقال تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى*وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (لنجم:5-7) .
وقال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:102)
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :عن واثلة ابن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان ، و أنزلت التوراة لست مضين من رمضان و الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، و أنزل الفرقان لأربع و عشرين خلت من رمضان).
نزول القرآن مفرقا (منجما)
قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )(الشعراء : 192-195) .
وقال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )(النحل : 102) .
وقال تعالى: (حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ )(الجاثية 1-3) .
وقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )(البقرة : 23)(1/80)
وقال تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )(البقرة : 97) .
فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه العربية وأن جبريل نزل به على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذا النزول غير النزول الأول إلى السماء الدنيا فالمراد به نزوله منجما ، فقد نزل القرآن الكريم على مدى ثلاث وعشرين سنة ثلاث عشرة بمكة على القول الراجح ، وعشر بالمدينة المنورة .
من الأدلة على نزول القرآن مفرقًا قوله تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا )(الإسراء : 106) .
والمعنى : جعلنا نزوله مفرقا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت ، ونزلناه تنزيلًا بحسب الوقائع والأحداث.
الحكم التي تستفاد من نزول القرآن مفرقًا (منجما)
1- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)( الفرقان : 32-33 )
2- أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئًا فشيئًا، لقوله تعالى : (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ) (الإسراء : 106 )
3- تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القرآن وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلى نزول الآية، لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإفك واللعان .(1/81)
4- التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه، ألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتا، فنزل في شأنه أولا قوله تعالى : (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) (البقرة : 219 ) فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئا إثمه أكبر من نفعه .
ثم نزل ثانيا قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء : 43 ) فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات،
ثم نزل ثالثا قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (المائدة : 90-92 ) فكان في هذه الآيات المنع من الخمرمنها باتا في جميع الأوقات، بعد أن هيئت النفوس، ثم مرنت على المنع منه في بعض الأوقات .
أول ما نزل من القرآن مطلقًا
أول ما نزل قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )(العلق : 1-5) .(1/82)
ويدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال "اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق )
آخر ما نزل من القرآن مطلقًا
آخر ما نزل قوله تعالى في آخر سورة البقرة (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (البقرة : 281)
ويدل على ذلك ما رواه النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) الآية
وروى ابن مردويه بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال آخر آية نزلت من القرآن (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )الآية وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ، ثم مات ليلة الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول .
الأوائل المقيدة والأواخر المقيدة
هذا البحث كثير ، ولهذا يكتفى فيه بذكر نماذج من الأوائل المقيدة والأواخر المقيدة : حسب ما ذكره العلماء فأقول :
أول سورة نزلت بتمامها : سورة الفاتحة .
أول آية نزلت في الخمر:
قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )(البقرة : 219) .
أول ما نزل في الجهاد:(1/83)
قال تعالى :(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )إلى قوله (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )(الحج : 39-41) .
أول ما نزل في شأن القتل:
قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا )(الإسراء : 33) .
أول ما نزل في الأطعمة:
قال تعالى :(قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا...)(الأنعام: 145).
نماذج من الأواخر المقيدة
آخر ما نزل في تحريم الخمر:
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )(المائدة : 90&91)
آخر آية نزلت في شأن القتل:
قال تعالى :(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا )(النساء : 93) .
آخر ما نزل يذكر النساء خاصة:
(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى...) (آل عمران: 195).
آخر ما نزل في المواريث:
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ...) (النساء: 176).
آخر سورة نزلت بتمامها:
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ........) (النصر).
فوائد معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل
** معرفة الناسخ والمنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو أكثر في موضع واحد وحكم إحداهما يغاير الآية الأخرى تغايرًا لا يمكن معه الجمع فنلجأ حينئذ إلى معرفة المتقدم فيعلم أنه منسوخ بالمتأخر .(1/84)
** تاريخ التشريع الإسلامي وذلك مثل ما إذا عرفنا أن الآيات التي فيها الأمر بالصلاة نزلت بمكة قبل الهجرة ، وأن الآيات التي فيها الأمر بالزكاة وبالصوم كانت في السنة الثانية للهجرة بالمدينة المنورة ، وأن آيات الحج نزلت في السنة السادسة على الراجح كان بالإمكان ترتيبها ترتيبا شرعيًّا فنقول : أول ما فرض الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج .
وكذلك إذا علم أن آية (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) (الحج : 39) نزلت بالمدينة في السنة الثانية علم أن الجهاد فرض في المدينة في السنة الثالثة وهكذا .
** من الفوائد كذلك معرفة التدرج في التشريع ويتوصل به إلى معرفة حكمة الله في أخذ الشعوب بهذه السياسة الحكيمة في الإسلام ، وذلك مثل ما إذا عرفنا ترتيب الآيات التي نزلت في شأن الخمر ، ومثل ما إذا علمنا أن الآيات الداعية إلى أصول العقائد ، نزلت أولًا بمكة ، بخلاف الآيات النازلة في الأحكام التشريعية التفصيلية والعملية ، فإنها نزلت بالمدينة ، فإنه ما لم تعرف الأصول ويطمئن إليها ، لا يسهل الأخذ بالفروع.
أنواع نزول القرآن
ينقسم نزول القرآن إلى قسمين: ابتدائي، وسببي.
- ابتدائي: وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه، وهوغالب آيات القرآن، ومنه قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). (البقرة: 185)، وغير ذلك.
- سببي: وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه، وهو أقسام:
** أن يكون إجابة عن سؤال، مثل: قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).(البقرة: 189).
** أن يكون بياناً وإيضاحاً عن الحوادث والنوازل، مثل: قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (التوبة: 65).(1/85)
** أن يكون لمعرفة حكم واقعة من الوقائع ، مثل قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة: 1)
حفظ القرآن وكتابته وجمعه
يطلق جمع القرآن ويراد به عند العلماء أحد معنيين.
المعنى الأول:
جمعه بمعنى حفظه. وجماع القرآن: حفاظه، وهذا هو الذي ورد في قوله تعالى في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد كان يحرك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا نزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصا على أن يحفظه (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:16-19).
المعنى الثاني:
جمع القرآن بمعنى كتابته كله، ويدل له ما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري في قصة جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه ومما ورد فيه:
قول عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: (وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن) ، وقول أبي بكر الصديق لزيد بن ثابت رضي الله عنهما: (فتتبع القرآن فاجمعه) أي: اكتبه كله ، وقول زيد بن ثابت رضى الله عنه (فتتبعت القرآن أجمعه من العسف واللخاف وصدور الرجال) ( أخرجه البخارى)
حفظ القرآن الكريم
أولا: حفظ القرآن الكريم في السماء
لقد حظي كتاب الله عز وجل بالحفظ والعناية منذ أن كان في السماء حيث أودعه الله كتابا مكنونا وأقسم الله تعالى على هذه الحقيقة بقسم عظيم فقال : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )( الواقعة : 75 - 80)(1/86)
وقال عز وجل (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) (عبس : 13- 16 ) . فهو في اللوح المحفوظ ، مصون مستور عن الأعين ، لا يطلع عليه إلاّ الملائكة المقربون ، ولا يمسه في السماء إلاّ الملائكة الأطهار ، ولا يصل إليه شيطان ، ولا يُنال منه فالشياطين لا تمس هذا الكتاب ، وليس لها سبيل إليه ، وإنما تحف به الملائكة المقربون ، ويؤكد الله تعالى وصفه بكونه مكنونا بوصفه بكونه محفوظا في قوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )( البروج : 21 &22 ) .
ثانيا: حفظ القرآن الكريم في طريقه إلى الأرض
حفظ الله عز وجل القرآن الكريم وهو في طريقه إلى الأرض فجاء به روح مطهر ، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل ، ولا وصول لها إليه ، قال تعالى (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ )(الشعراء : 210 & 211 ) ، وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة .
وحَفِظَه من الشياطين التي كانت تسترق السمع طلبا لخبر السماء ، فحفِظه بالحرس الأقوياء من الملائكة ، وبالكواكب التي تحرق وتمنع من أراد استراق السمع .
قال تعالى (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا *وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا *وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا )(الجن : 8- 10 )
وقال عز وجل (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ *لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ *دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ *إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (الصافات : 7- 10)(1/87)
إذن حفظ الله عز وجل القرآن الكريم وهو في السماء ، وعند نزوله منها ، وبعد نزوله إلى الأرض .
ثالثا: حفظ القرآن الكريم على الأرض
لقد حفظ الله عز وجل القرآن الكريم على الأرض بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استقبله فأحسن الاستقبال ، وحفظه أتم حفظ ، وقام به خير قيام ، وبلغه أحسن تبليغ والشواهد على ذلك كثيرة منها :
1 - قوله تعالى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )(القيامة : 16 - 19) . فكان صلى الله عليه وسلم حين نزول القرآن عليه يتعجل ويبادر بأخذه ، واختلف في سبب ذلك .
* فقيل : لما يجده من المشقة عند النزول ، فيتعجل لتزول المشقة سريعا .
* وقيل خشية منه صلى الله عليه وسلم أن ينساه ، أو يتفلت منه شيء .
* وقيل : لأجل أن يتذكره .
* وقيل : من حبه إياه .
ومما ورد في تفسير هذه الآيات ما أخرجه البخاري وغيره عن موسى بن أبي عائشة أنه سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ )قال : وقال ابن عباس : "كان يحرك شفتيه إذا أُنْزِل عليه ، فقيل له : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ )يَخْشى أن يَتَفَلَّتَ منه (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )أن نجمعه في صدرك (وَقُرْآنَهُ )أن تَقْرأَهُ (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ )يقول : أُنْزِل عليه (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )أن نُبِيَّنه على لسانك".
تدل هذه الآيات على تكفل الله المطلق لهذا القرآن : وحيا ، وحفظا ، وجمعا ، وبيانا ، وأن على الرسول صلى الله عليه وسلم التلقي والاتباع ثم البلاغ ، فكان كلما نزلت عليه آية أو آيات جمعها الله له في صدره ، فوعاها قلبه ، واشتغل بها لسانه لنفسه وللمسلمين .(1/88)
2 - قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى )( الأعلى : 6) حيث تكفل الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم برفع مشقة استظهار القرآن وحفظ قلبه له فلا ينسى ما يقرئه ربه .
3 - حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ القرآن الكريم ومدارسته في كل أوقاته ، فكان يحيي الليل بتلاوة آيات القرآن في الصلاة عبادةً ، وتلاوةً ، وتدبرا لمعانيه ، حتى تفطرت قدماه الشريفتان من كثرة القيام امتثالا لأمر الله تعالى القائل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا *نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا )( المزمل :1 - 4)
4 - مدارسة جبريل عليه السلام القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم ومع تكفل الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم بحفظه وجمعه في صدره حتى لا يضيع منه شيء ، فإن جبريل عليه السلام لم يكتف بتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن ، بل كان يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام في كل عام مرة حتى يزداد ثبات قلب النبي صلى الله عليه وسلم به ، وليطمئن جبريل عليه السلام أكثر على ما بلغه به .
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير ، وأجود ما يكون في شهر رمضان ؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ ، يَعْرِضُ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ ، فإذا لقيه جبريلُ كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة ).
وعندما دنا أجل النبي صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين فقد ورد في صحيح البخاري : قال مسروق عن عائشة رضي الله عنها ، عن فاطمة عليها السلام : (أسَرّ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن جبريل يعارضُني بالقرآن كلَّ سنة ، وأنَّه عارضني العام مرتين ، ولا أُراهُ إلاّ حضر أجلي ).(1/89)
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : (كان يَعْرضُ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرةً ، فعرضَ عليه مرتين في العام الذي قبض ، وكان يعتكف كلَّ عام عشرا ، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض ).
5 - تعليم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بنفسه :
فقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم تعليم المسلمين القرآن بنفسه ، وأمره الله عز وجل بأن يقرأه على الناس على مكث ، أي : تؤدَة وتمهل ، كي يحفظوا لفظه ويفقهوا معناه . كما قال تعالى (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا )(الإسراء : 106 )
وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : "والله لقد أَخذتُ من في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة".
وأخرج عنه أنه قال : (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنْزِلتْ عليه والمرسلات ، وإنا لنتلقَّاها من فِيه ).
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا القرآن ، فإذا مَرّ بسجود القرآن سجد وسجدنا معه ).
وأخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا التشهد كما يُعَلِّمنا السورة من القرآن )وفي رواية ابن رُمْح (كما يُعَلِّمنا القرآن ).
وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا الاستخارة في الأمور كما يُعَلِّمُنا السورة من القرآن ).
وأخرج الطبري عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : أنهم يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا تعلّموا عشر آيات لم يُخلِّفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل ، فتعلّمنا القرآن والعمل جميعا".
وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا عجز أحدهم عن تفريغ وقت لتحصيل القرآن الكريم مباشرة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم أناب عنه من يحصل عنه .(1/90)
أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوبُ النزولَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما ، فإذا نزلتُ جئتهُ بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعلَ مثل ذلك.
وكان من نتيجة ذلك أن كثر الحفاظ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ويقرؤونه عليه ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "اقرأ عليّ ، قلتُ : اقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : فإني أحب أن اسمعه من غيري ، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا )(النساء : 41) قال : أمسك ، فإذا عيناه تذرفان )
وكان مسجده صلى الله عليه وسلم عامرا بتلاوة القرآن يضج بأصوات الحفاظ فأمرهم رسول الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا .
وكان كل حافظ للقرآن ينشر ما حفظه ، ويعلمه للأولاد والصبيان والذين لم يشهدوا نزول الوحي ، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع كل مهاجر جديد إلى أحد الحفاظ ليعلمه حفظ القرآن الكريم ، فشاع حفظه بين الرجال والنساء ، حتى إن المرأة المسلمة كانت ترضى سورة من القرآن أو أكثر مهرا لها ، ومما ورد في ذلك ما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد قال : (أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فقالت : إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما لي في النساء من حاجة ، فقال رجل : زوجنيها ، قال : أعطها ثوبا ، قال لا أجد ، قال : أعطها ولو خاتما من حديد ، فاعتلَّ له ، فقال : ما معك من القرآن ؟ قال : كذا وكذا ، قال فقد زوجتكها بما معك من القرآن ).(1/91)
وخير دليل على كثرة الحفاظ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قتل منهم في بئر معونة المعروفة بـ "سرية القراء" سبعون رجلا ، كما قتل منهم يوم اليمامة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه سبعون قارئا .
وذكر أبو عبيد في كتابه "القراءات" عددا كبيرا من القراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر كثيرا من المهاجرين ، وكثيرا من الأنصار ، وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
ويتبين من ذلك أن الله عز وجل حفظ القرآن على الأرض بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أصحابه رضوان الله عليهم والتابعين وكافة المؤمنين بعد ذلك .
عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم
بعض الأمثلة الدالة على هذه المسألة :
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تلقي القرآن وحفظه
أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته بحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الأول ، وكان هو صلى الله عليه وسلم أشد تلهفًا على حفظ القرآن ، ولهذا كان إذا نزل عليه الوحي بشيء من القرآن يحرك به لسانه استعجالًا في حفظه فنهاه الله عن ذلك في قوله : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )( القيامة : 16-19) ، ولعل ذلك والله أعلم لئلا ينشغل بالحفظ عن الفهم قال ابن حجر رحمه الله : (وكان من أصل الدين أن المبادرة إلى أفعال الخير مطلوبة ، فنبه أنه قد يعترض على هذا المطلوب ما هو أجل منه وهو الإصغاء إلى الوحي وتفهم ما يرد منه ، والتشاغل بالحفظ قد يصد عن ذلك فأمر أن لا يبادر إلى التحفظ لأن تحفيظه مضمون على ربه وليصغ إلى ما يرد عليه إلى أن ينقضي فيتبع ما اشتمل عليه).(1/92)
أخرج البخاري بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ )قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل عليه بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرف منه ، فأنزل الله الآية التي في ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )قال : علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ )فإذا أنزلناه فاستمع (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )علينا أن نبينه بلسانك ، قال : فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله ).
نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة شيء عنه غير القرآن الكريم
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج . . . ).
قال ابن كثير رحمه الله في معنى هذا الحديث : (أي لئلا يختلط بالقرآن ، وليس معناه أن لا يحفظوا السنة ويرووها ).
قلت : ويؤيد قول ابن كثير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : (وحدثوا عني ولا حرج )فرواية الحديث وتناقله مشافهة لا حرج فيها بل هي ضرورة لا بد منها لنشر الدين حيث كان الصحابة يتناقلون أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ويبلغ الشاهد الغائب كما ثبت ذلك في أحاديث كثيرة ، إنما كان النهي عن كتابة الحديث وكل ما سوى القرآن ، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ثمة شيء مكتوب متداول غير القرآن الذي باكتمال نزوله اكتملت كتابته وتدوينه .
توجيهه صلى الله عليه وسلم الكتَّاب بكتابة كل آية في موضعها(1/93)
البحث في هذه المسألة قد يطول ، وقد بسط العلماء الحديث عنها عند ذكر ترتيب القرآن هل هو توقيفي أو اجتهادي ممن جمع القرآن؟ قال ابن حجر رحمه الله : (وروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عباس عن عثمان بن عفان قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : " ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا").
تشجيعه صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن وحفظه
لمَّا كان صلى الله عليه وسلم مهتمًا بتلاوة القرآن وحفظه- وكان ذلك شغله الشاغل- وجه أتباعه إلى ذلك ، وقد ورد عدد كبير من الأحاديث الدالة على ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم : (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه ) وقوله صلى الله عليه وسلم : (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأ بها ).
وقوله صلى الله عليه وسلم : (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران )وقوله صلى الله عليه وسلم : (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ).
أمره صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعاهد القرآن حتى لا يتفلت
وكما أمر ورغب صلى الله عليه وسلم في حفظ القرآن - كما سبق- أمر صلى الله عليه وسلم بتعهد القرآن ومراجعة حفظه باستمرار ، حتى لا يتفلت وينسى ، ومما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما : (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة ، إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت ).(1/94)
وفي رواية لمسلم من حديث موسى بن عقبة : (وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه )وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بئس ما لأحدهم يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نُسِّي ، استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيًّا من صدور الرجال من النعم بعقلها ) وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًّا من الإبل في عقلها ).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : (مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ، ومثل الذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد له أجران ).
ويلحظ في الأحاديث السابقة كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه تفلت القرآن من صاحبه إن لم يتعاهده بالمراجعة والحفظ بالإبل المعقلة فما دام فيها عقالها فهي موجودة محفوظة بإذن الله وإن انفلت عقالها ذهبت ولربما ضاعت قال ابن حجر رحمه الله : (شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد ، فما زال التعاهد موجودًا فالحفظ موجود كما أن البعير ما دام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ ، وخصّ الإبل بالذكر لأنها أشدُّ الحيوان الإنسي نفورًا وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة"
أمره صلى الله عليه وسلم بتحسين الصوت بالقراءة
حسن الصوت بالقراءة مطلوب وتزيين الصوت بالقراءة سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ينبغي ألا يتجاوز هذا التحسين الحد المطلوب ، وقد نص العلماء على تحريم المبالغة والتنطع في بعض الأحكام التي تخرج القراءة عن حدها ، وتسلب القرآن حلاوته وطلاوته ، ومما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على تحسين الصوت بالقراءة والتغني بالقرآن ما يلي :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن )هذا لفظ البخاري وزاد غيره : (يجهر به ).(1/95)
وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ).
قال النووي عند شرح هذه الأحاديث : : (وقال الشافعي وموافقوه معناه : تحزين القراءة وترقيقها ، واستدلوا بالحديث الآخر : (زينوا القرآن بأصواتكم ).
وعن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود ).
ولفظ الإمام مسلم فيه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استماع القراءة بالصوت الحسن فعن أبي بردة عن أبي موسى قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : "لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة ، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود ).
ولقد كان صوته صلى الله عليه وسلم حسنًا بل أحسن الأصوات بقراءة القرآن الكريم وذلك كما جاء في رواية البراء رضي الله عنه قال : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ )فما سمعت أحدًا أحسن منه صوتا ).
هذه الأدلة كما هو واضح من مدلولها فيها الحث الصريح على التغني بالقرآن ولكن فهم بعض من لم يؤت سعة من العلم هذا الأمر على غير مراده حتى دخلت في القرآن ألحان الغناء فأصبحت قراءة بعض القراء ليست مقصودة لذاتها بقدر ما هي مقصودة لصوت القارئ ، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
حرصه صلى الله عليه وسلم على استماع القرآن من غيره(1/96)
ومن تمام عنايته صلى الله عليه وسلم بالقرآن كان يحب أن يسمعه من غيره من صحابته ، فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ عليَّ القرآن" قال فقلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : " إني أشتهي أن أسمعه من غيري" فقرأت النساء حتى إذا بلغت : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا )رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل ) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : (قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيِّ : "إن الله أمرني أن أقرأ عليك : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) قال : وسماني؟ قال "نعم" قال ، فبكى )وفي لفظ قال : (الله سماني لك؟ قال : " الله سماك" فجعل أبيٌّ يبكي ).
انظر حفظك الله إلى هذه الأحاديث العظيمة وما يستفاد منها وهو تشهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يستمع القرآن من غيره وإنها لمرتبة عظيمة لأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما .
نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستعجال في القراءة
الناس في قراءة القرآن صنفان : صنف يقرأ القرآن بتعقل وتدبر لمعانيه ، فهذا لا يهمه أن يختم القرآن في أسبوع أو شهر ، وصنف آخر يقرأ القرآن ليزداد عدد الحروف التي يقرأها ، ويكون له بكل حرف عشر حسنات ، كما ثبت في الحديث الصحيح ، وهذا الصنف هو الذي يكون همه أن يختم القرآن في أقصر مدة ممكنة .(1/97)
قال ابن حجر ( قال النووي : والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني ، وكذا من كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه ، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرؤه هذرمة ، والله أعلم).
وقد يجتمع الأمران في شخص واحد فمرة يقرأ القرآن قراءة فهم وتمعُّن في معانيه ومبانيه ، ومرة يقرؤه قراءة يريد بها الإكثار من الحسنات ، وقد ورد كل ذلك عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن مدار الكلام في هذا المبحث على الأحاديث الواردة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستعجال ، والحقيقة أن أكثر هذه الأحاديث مروية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، فقد كان شابًّا قويًّا فتيًّا يريد أن يستمتع بقوته وشبابه-ورد نص ذلك في بعض الروايات- في طاعة الله فكان يصوم الأيام المتواصلة ، ويقرأ القرآن في ليلة واحدة .(1/98)
أخرج البخاري رحمه الله بسنده عن عبد الله بن عمرو قال : (أنكحني أبي امرأة ذات حسب فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها فتقول : نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشًا ولم يفتش لنا كنفًا منذ أتيناه ، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "القني به" ، فلقيته بعد ، فقال : " كيف تصوم؟ " قال : قلت : أصوم كل يوم قال : "وكيف تختم؟ " قال : كل ليلة ، قال : "صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر" ، قال : قلت أطيق أكثر من ذلك ، قال : " صم ثلاثة أيام في الجمعة" قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك ، قال : " أفطر يومين وصم يومًا ، قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك ، قال : "صم أفضل الصوم ، صوم داود ، صيام يوم وإفطار يوم ، واقرأ في كل سبع ليال مرة" ، فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذاك أني كبرت وضعفت ، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل ، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أيامًا وأحصى ، وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئًا فارق النبي صلى الله عليه وسلم عليه ).
وقد أخرج الشيخان وغيرهما الحديث بألفاظ متقاربة ، ولكنها تختلف في ذكر الأيام التي حددها له الرسول صلى الله عليه وسلم ليختم فيها ، ففي بعض الروايات ثلاثة أيام وفي بعضها سبعًا .
وأخرج أبو داود أحد هذه الأحاديث وفي آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث ).
ولعل نهي الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بسبب أنه يخشى على أمته من الملل ، فإذا طال العمر يدبُّ الوهن إلى جسم الإنسان وقد يصيبه الفتور ، ولكن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع .(1/99)
وقد أخرج الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صيامًا منه في شعبان وكان يقول : "خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يملَّ حتى تملوا" وكان يقول : " أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل ).
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الإسراع في القراءة خوفًا على أتباعه من الملل ما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ).
وثمة سبب آخر لنهيه عليه الصلاة والسلام عن الإسراع ألا وهو الحث على التدبر فالإسراع في التلاوة وتدبر المعاني نقيضان قد لا يلتقيان ، وقد سبق ذكر الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث )، وأخرج مسلم بسنده عن شقيق قال : (جاء رجل من بني بجيلة يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله ، فقال إني أقرأ المفصل في ركعة فقال عبد الله : هذًّا كهذّ الشعر؟ . . . ).
قال النووي رحمه الله : (وهو شدة الإسراع والإفراط في العجلة ففيه النهي عن الهذ ، والحث على الترتيل والتدبر وبه قال جمهور العلماء).
وقال النووي -في معنى قول ابن مسعود في إحدى روايات الحديث المذكور : إن أقوامًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع : (معناه أن قومًا ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان فلا يجاوز تراقيهم فيصل إلى قلوبهم ، وليس ذلك هو المطلوب ، بل المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب)
تحريم القول في القرآن بغير علم(1/100)
ومما يدل على شدة عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن أنه حرم القول فيه بغير علم ، حتى ولو أصاب القائل في قوله ، أي أن تفسير القرآن بدون علم حرام وإن كان صوابًا فعن جندب بن عبد الله قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ).
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم ، فمن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ).
لذا ... أوصي نفسي وإخواني بالحرص على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء وعلى رأس ذلك اهتمامه وعنايته بالقرآن الكريم ، وأن لا نجعل همنا فقط إقامة حروف القرآن وضبط تجويده دون تدبر لمعانيه وعمل بما فيه ، أسأل الله أن يرزقني وإياكم حب القرآن وحفظه والعمل به والوقوف عند حدوده وأن يجعلنا ممن يكون لهم القرآن يوم القيامة شافعًا وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
أولا: جمع القرآن بمعنى حفظه
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مولعا بالوحي، يترقب نزوله عليه بشوق، فيحفظه ويفهمه، مصداقا لوعد الله(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) فكان بذلك أول الحفّاظ، ولصحابته فيه الأسوة الحسنة، شغفا بأصل الدين ومصدر الرسالة، وقد نزل القرآن في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر، وكلما نزلت آية حفظت في الصدور، ووعتها القلوب، والأمة العربية كانت بسجيتها قوية الذاكرة، تستعيض عن أميتها في كتابة أخبارها وأشعارها وأنسابها بسجل صدورها.(1/101)
ومن أشهر الحفاظ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب ). وهؤلاء الأربعة: اثنان من المهاجرين هما: عبد الله بن مسعود، وسالم، واثنان من الأنصار هما: معاذ، وأبي. رواه الحاكم والترمذي، وقال حسن صحيح، وصححه السيوطي.
ـ وعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد ؟ قال: أحد عمومتي.
ـ وروي من طريق ثابت عن أنس كذلك قال: "مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرادء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو يزيد ". وذكر هؤلاء الحفاظ السبعة أو الثمانية، لا يعني الحصر، فإن النصوص الواردة في كتب السير والسنن تدل على أن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ القرآن، ويُحَفِّظونه أزواجهم وأولادهم. ويقرؤون به في صلواتهم بجوف الليل، حتى يسمع لهم دوي كدوي النحل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على بيوت الأنصار، ويستمع إلى ندى أصواتهم بالقراءة في بيوتهم، فعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك ؟ لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود ) رواه مسلم.
ـ وعن عبد الله بن عمرو قال: "جمعت القرآن، فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اقرأه في شهر )" رواه أحمد وصححه السيوطي في بعض الروايات.(1/102)
من هذه النصوص يتبين لنا أن حفظة القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا جمعا غفيرا، فإن الاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذا الأمة. قال ابن الجزري شيخ القراء في عصره: "إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة ".
ثانيا : جمع القرآن بمعنى كتابته
اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتَّابا للوحي من أجلاء الصحابة. كعلي، ومعاوية، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، تنزل الآية فيأمرهم بكتابتها، ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، حتى تظاهر الكتابة في السطور الجمع في الصدور، كما كان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، دون أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيحفظونه في العسب، واللخاف، والكرانيف، والرقاع، والأقتاب، وقطع الأديم، والأكتاف.
السعف : وهو الجزء البعيد عن النخلة الأم الذي ينبت عليه الخوص .
العسيب : وهو الجزء الذي يليه أي هو أقرب إلى النخلة منه ولا ينبت عليه خوص بل ينبت عليه السُّلاء وهو شوك النخلة .
الكرناف : وهو الجزء الأعرض الملاصق للنخلة وهذا الجزء هو الذي يبقى في النخلة بعد قطع الجريدة .
الرقاع : قال ابن حجر : جمع رقعة وقد تكون من جلد أو ورق .
قطع الأديم : هي جلود الحيوانات الطاهرة وربما كانت تمثل أفضل ما يمكن الكتابة عليه لتوفرها وسهولة حملها ،وقيل : هي باطن الجلدة التي تلي اللحم أو ظاهرها الذي عليه الشعر.
الأكتاف : قال ابن حجر : هو العظم الذي للبعير أو الشاة كان إذا جف كتبوا عليه.
الأقتاب : قال ابن حجر : جمع قَتَب وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه.
اللخاف : قال ابن كثير : اللخاف جمع لخفة وهي القطعة من الحجارة مستدقة ، وروى البخاري عن محمد بن عبيد الله أنه قال : اللخاف : يعنى الخزف .(1/103)
وهذا يدل على مدى المشقة التي كان يتحملها الصحابة في كتابة القرآن، حيث لم تتيسر لهم أدوات الكتابة إلا بهذه الوسائل، فأضافوا الكتابة إلى الحفظ. وكان جبريل يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل سنة في ليالي رمضان. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ) متفق عليه. وكان الصحابة يعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لديهم من القرآن حفظا وكتابة كذلك.
ولم تكن هذه الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعة في مصحف عام، بل عند هذا ما ليس عند ذاك، وقد نقل العلماء أن نفرا، منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود قد جمعوا القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر العلماء أن زيد بن ثابت كان عرضه متأخرا عن الجميع.(1/104)
وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن محفوظ في الصدور، ومكتوب في الصحف على نحو ما سبق، مفرق الآيات والسور، أو مرتب الآيات فقط، وكل سورة في صحيفة على حدة، بالأحرف السبعة الواردة. ولم يجمع في مصحف عام، حيث كان الوحي يتنزل تباعا فيحفظه القراء، ويكتبه الكتَبَة، ولم تدع الحاجة إلى تدوينه في مصحف واحد، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترقب نزول الوحي من حين لآخر، وقد يكون منه الناسخ لشيء نزل من قبل، وكتابة القرآن لم يكن ترتيبها بترتيب النزول بل تكتب الآية بعد نزولها، حيث يشير صلى الله عليه وسلم إلى موضع كتابتها بين آية كذا وآية كذا في سورة كذا، ولو جمع القرآن كله بين دفتي مصحف واحد لأدى هذا إلى تجديد الكتابة كلما نزل شيء من الوحي. قال الزركشي: "وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف لئلا يفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن أكمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم ".
وهذا الحفظ والكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسُمى الجمع الأول.
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه(1/105)
قام أبو بكر بأمر الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواجهته أحداث جسام في ارتداد جمهرة العرب، فجهز الجيوش وسيرها لحروب المرتدين، وكانت غزوة أهل اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة تضم عددا كبيرا من الصحابة القُرَّاء. فاستشهد في هذه الغزوة سبعون قارئا من الصحابة، فهال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودخل على أبي بكر رضي الله عنه وأشار عليه بجمع القرآن وكتابته خشية الضياع، فإن القتل قد استحر يوم اليمامة بالقراء ـ ويخشى إن استحر بهم في المواطن الأخرى أن يضيع القرآن ويُنْسى، فنفر أبو بكر من هذه المقالة، وكبر عليه أن يفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل عمر يراوده حتى شرح الله صدر أبي بكر لهذا الأمر، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت أحد كتاب الوحي لمكانته في القراءة والكتابة والفهم والعقل، وشهوده العرضة الأخيرة، وقص عليه قول عمر، فنفر زيد من ذلك كما نفر أبو بكر من قبل، وتراجعا حتى طابت نفس زيد للكتابة، وبدأ زيد بن ثابت في مهمته الشاقة في جمع القرآن معتمدا على المحفوظ في صدور القراء، والمكتوب لدى الكتبة، وبقيت تلك الصحف التي جمعها عند أبي بكر، حتى إذا توفي سنة ثلاث عشرة للهجرة صارت بعده إلى عمر، وظلت عنده حتى مات، ثم كانت عند حفصة ابنته صدرا من ولاية عثمان حتى طلبها عثمان من حفصة.(1/106)
عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: "إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أريد أن تأمر بجمع القرآن ، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر: هو والله خير ، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد : قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمرني به من جمع القرآن ، قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: هو والله خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله صدر أبي بكر وعمر ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) (التوبة: 128). حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر".
وقد راعى زيد بن ثابت نهاية التثبت، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، وقوله في الحديث: "ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره ". لا ينافي هذا، ولا يعني أنها ليست متواترة، وإنما المراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره، وكان زيد يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، لأن زيدا كان يعتمد على الحفظ والكتابة معا، فكانت هذه الآية محفوظة عند كثير منهم، ويشهدون بأنها كتبت، ولكنها لم توجد مكتوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري.(1/107)
وقد عرفنا أن القرآن كان مكتوبا من قبل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب. فأمر أبو بكر بجمعه في مصحف واحد مرتب الآيات والسور، وأن تكون كتابته غاية من التثبت مشتملة على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، فكان أبو بكررضي الله عنه أول من جمع القرآن بهذه الصفة في مصحف.
مدة جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر
استغرق جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه قرابة خمسة عشر شهرا حيث بدأ بعد معركة اليمامة التي وقعت في أواخر السنة الحادية عشرة أو أوائل الثانية عشرة وانتهى قبل وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكانت في الشهر السادس من السنة الثالثة عشرة ، وتم ذلك جمعا وكتابة قبل وفاته رضي الله عنه ، ويدل على ذلك قول زيد بن ثابت . كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله).
جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه
اتسعت الفتوحات الإسلامية، وتفرّق القراء في الأمصار، وأخذ أهل كل مصر عمن وفد إليهم قراءته، ووجوه القراءة التي يؤدون بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل بها، فكانوا إذا ضمهم مجمع أو موطن من مواطن الغزو عجب البعض من وجود هذا الاختلاف، وقد يقنع بأنها جميعا مسندة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يحول دون تسرب الشك للناشئة التي لم تدرك الرسول، فيدور الكلام حول فصيحها وأفصحها، وذلك يؤدي إلى الملاحاة إن استفاض أمره ومردوا عليه، ثم إلى اللجاج والتأثيم، وتلك فتنة لا بد لها من علاج.(1/108)
فلما كانت غزوة "أرمينية " وغزوة "أذربيجان " من أهل العراق، كان فيمن غزاها حذيفة بن اليمان فرأى اختلافا كثيرا في وجوه القراءة، وبعض ذلك مشوب باللحن، مع إلف كل لقراءته، ووقوفه عندها، ومماراته مخالفة لغيره، وتكفير بعضهم الآخر، حينئذ فزع إلى عثمان رضي الله عنه وأخبره بما رأى، وكان عثمان قد نمى إليه أن شيئا من ذلك الخلاف يحدث لمن يقرئون الصبية، فينشأ هؤلاء وبينهم من الاختلاف ما بينهم، فأكبر الصحابة هذا الأمر مخافة أن ينجم عنه التحريف والتبديل، وأجمعوا أمرهم أن ينسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، ويجمعوا الناس عليها بالقراءات الثابتة على حرف واحد، فأرسل عثمان إلى حفصة، فأرسلت إليه تلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت الأنصاري، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشيين، فأمرهم أن ينسخوها في المصاحف، وأن يكتب ما اختلف فيه زيد مع رهط القرشيين الثلاثة بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم.(1/109)
عن أنس: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: "أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى" ، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بسواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، قال زيد: "آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: 23). فألحقناها في سورتها في المصحف.
وهذا يدل على أن ما صنعه عثمان قد أجمع عليه الصحابة، وهو من أعظم مناقب عثمان رضي الله عنه، ليجتمع الناس على قراءة واحدة وحرف واحد من الأحرف السبعة. واحتبس بالمدينة واحدا هو المصحف الذي يسمى الإمام. وتسميته بذلك لما جاء في بعض الروايات من قوله: "اجمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما ". وتلقت الأمة ذلك بالطاعة، وتركت القراءة بالأحرف الستة الأخرى، ولا ضير في ذلك، فإن القراءة بالأحرف السبعة ليست واجبة، ولو أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة القراءة بها جميعا لوجب نقل كل حرف منها نقلا متواترا تقوم به الحجة، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فدل هذا على أن القراءة بها من باب الرخصة، وأن الواجب هو تواتر النقل ببعض هذه الأحرف السبعة وهذا هو ما كان.(1/110)
عن سويد بن غفلة قال: قال علي: "لا تقولوا في عثمان إلا خيرا. فوالله ما فعل الذي فعل في المصحف إلا عن ملأ منا . قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ قد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف ، قلنا : فَنِعم ما رأيت ".
الفرق بين جمع أبي بكر وعثمان
يتبين من النصوص أن جمع أبي بكر يختلف عن جمع عثمان في الباعث والكيفية، فالباعث لدى أبي بكر رضي الله عنه لجمع القرآن خشية ذهابه بذهاب حملته، حين استحر القتل بالقراء.
والباعث لدى عثمان رضي الله عنه كثرة الاختلاف في وجوه القراءة، حين شاهد هذا الاختلاف في الأمصار وخطأ بعضهم بعضا.
وجمع أبي بكر للقرآن كان نقلا لما كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وجمعا له في مصحف واحد مرتب الآيات والسور. مقتصرا على ما لم تنسخ تلاوته، مشتملا على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن.
وجمع عثمان للقرآن كان بالاقتصار على حرف واحد، وتوحيد خط المصحف، واعتماد ما فيه دون ما سواه وهو المسمى بالجمع الثالث، وكان سنة 25 هجرية.
المكي والمدني
خصائص المكي والمدني:
إن الآيات المكية من القرآن هي التي نزلت في صدر الإسلام وهي الفترة التي يحدها من الزمن ثلاثة عشرعاماً أمضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة معذباً مضطهداً يقابل الإيذاء بالمسالمة مع المضي في الدعوة إلى الحق الذي أوحي إليه.
والآيات المدنية هي التي نزلت بعد الهجرة وهي الفترة التي يحدها من الزمن عشرة أعوام بنى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية.
وإننا لنجد خصائص كل من القسمين مستمدة من طبيعة هاتين المرحلتين التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الدعوة.
فالآيات المكية تمتاز بما يلي :
أولاً: ذكر قصص الأنبياء والأمم الخالية ودعوة الناس إلى الاعتبار بهم.(1/111)
ثانياً: المناقشة والحجاج وعرض الأدلة على وجود الله تعالى ووحدانيته فهو المقصد الأول من الدين ، وعلى بعث الأرواح مع أجسادها بعد الموت.
ثالثاً: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الصبر على الأذى تأسياً بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين.
رابعاً: يغلب على الآيات المكية أن تكون قصيرة ليتمكن الرسول والمؤمنون من حفظها ، ولتكون ذات وقع معين في الأذن تبعث على الرهبة والخشية ، ويبين ذلك أن سورة الأنفال مدنية وآياتها خمس وسبعون آية ، وسورة الشعراء مكية وآياتها مئتان وسبع وعشرون آية ، مع أن كلاً من السورتين نصف جزء من القرآن.
فهذه الخصائص التي نجدها في الآيات المكية هي من طبيعة المرحلة التي كانت تمر بها الدعوة الإسلامية.
* أما خصائص الآيات المدنية فهي ما يلي :
أولاً: البحث في الأحكام والتشريعات المتعلقة بالعبادات والمعاملات والتي تبين الفرائض والحدود وغيرها.
ثانياً: الأمر بالجهاد والقتال والتعليق على الغزوات وما يتعلق بها من شأن الغنائم والأسرى والمنافقين.
ثالثاً: البحث في شؤون الحكم والشورى وضرورة الرجوع فيهما إلى الكتاب والسنة.
رابعاً: يغلب على الآيات المدنية أن تكون طويلة فيها اللين والهدوء ووعد المسلمين بالفوز والنصر.
وبهذا الخصائص نستطيع أن نميز بين السور المكية والمدنية .
فوائد معرفة المكي والمدني:
- ظهور بلاغة القرآن في أعلى مراتبها، حيث يخاطب كل قوم بما تقتضيه حالهم من قوة وشدة، أولين وسهولة.
- ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته، حيث يتدرج شيئاً فشيئاً بحسب ما تقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للقبول والتنفيذ.
- تربية الدعاة إلى الله تعالى، وتوجيههم إلى أن يتبعوا ما سلكه القرآن في الأسلوب والموضوع من حيث المخاطبين، بحيث يبدأ بالأهم فالأهم، وتستعمل الشدة في موضعها والسهولة في موضعها.(1/112)
- تمييز الناسخ من المنسوخ فيما لو وردت آيتان مكية ومدنية يتحقق فيهما شروط النسخ، فإن المدنية ناسخة للمكية لتأخرها عنها.
الناسخ والمنسوخ
أ - تعريف النسخ لغة واصطلاحاً:
- يأتي النسخ في اللغة بمعنيين: أحدهما: الرفع والإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل. والثاني: النقل والتحويل، يقال: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه ، يشهد له قوله تعالى:(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ)(النحل: 101).
ومعناه في الاصطلاح: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخرعنه ، وهو رفع الحكم الشرعي، بخطاب شرعي. وعلى هذا فلا يكون النسخ بالعقل والاجتهاد . فالحكم المرفوع يسمى : المنسوخ .
والدليل الرافع يسمى : الناسخ ، ويسمى الرفع : النسخ .
فعملية النسخ على هذا تقضي منسوخاً وهو الحكم الذي كان مقرراً سابقاً ، وتقتضي ناسخاً ، وهو الدليل اللاحق.
ب - ما يقع فيه النسخ:
يقع النسخ في الأحكام الفرعية العملية من الأوامر والنواهي، وأما العقائد، وأمهات الأخلاق والفضائل كالبر والصدق والأمانة والعدل، وأصول العبادات والمعاملات، كالصلاة والصيام والزكاة، وكذا مدلولات الأخبار المحضة، كل ذلك لايقع فيه نسخ.
ج- طرق معرفة الناسخ والمنسوخ:
**. النقل الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي، كحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " رواه مسلم ، وقول أنس رضي الله عنه في قصة أصحاب بئر معونة: ونزل فيهم قرآن قرأناه ثم نُسخ بَعْدُ ( بلِّغوا عنا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضيَ عنا ورضينا عنه ) رواه البخاري .
**. إجماع الأمة على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ.
**. معرفة المتقدم من المتأخر من جهة التاريخ.
أنواع النسخ
والنسخ على أنواع هى :
نسخ القرآن بالقرآن:(1/113)
ومثاله نَسْخُ قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (البقرة:219) فقد نسختها آية: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) وهذا النوع من النسخ جائز بالاتفاق .
نسخ القرآن بالسنة وهو قسمان :
- نسخ القرآن بالنسبة الآحادية، والجمهور على عدم جوازه.
- نسخ القرآن بالسنة المتواترة :
أ- أجازه الإمام أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد، واستدلوا بقوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)(البقرة: 180) فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا وصية لوارث " ولا ناسخ إلا السنة . وغيره من الأدلة .
ب- منعه الإمام الشافعي ورواية أخرى لأحمد، واستدلوا بقوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)(البقرة: 106) قالوا: السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.
نَسْخُ السنة بالقرآن:
كنسخ التوجُّه إلى قبلة بيت المقدس، الذي كان ثابتًا بالسنة بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة:144). ونَسْخُ وجوب صيام يوم عاشوراء الثابت بالسنة، بصوم رمضان في قوله تعالى: (َمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة:185) .
نَسْخُ السنة بالسنة:
ومنه نسخ جواز نكاح المتعة، الذي كان جائزًا أولاً، ثم نُسخ فيما بعد؛ فعن إياس بن سلمة عن أبيه، قال: ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثم نهى عنها ) رواه مسلم وقد بوَّب البخاري لهذا بقوله: باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخراً .
أقسام النسخ في القرآن:(1/114)
ينقسم النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام:
نسخ التلاوة والحكم معاً: مثاله قول عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن ، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن " رواه مسلم. ولا يجوز قراءة منسوخ التلاوة والحكم في الصلاة ولا العمل به ، لأنه قد نسخ بالكلية. إلا أن الخمس رضعات منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.
نسخ التلاوة وبقاء الحكم: مثاله: آية الرجم وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم )، فحكم الرجم للثيب الزاني ثابت، ولكن هذه الآية منسوخ تلاوتها فليست من القرآن ، ومنه ما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها: ( ثم نسخن بخمس معلومات ) فإن تحديد الرضاع المحرِّم بخمس رضعات، ثابت حكمًا لا تلاوة .
وهذان القسمان: نسخ والتلاوة والحكم معا ونسخ التلاوة وبقاء الحكم قليل في القرآن الكريم ، ونادر أن يوجد فيه مثل هذان القسمان ، لأن الله سبحانه أنزل كتابه المجيد ليتعبد الناس بتلاوته ، وبتطبيق أحكامه.
3. نسخ الحكم وبقاء التلاوة: وهذا القسم هو الذي اهتم به العلماء، وألفت فيه الكتب، وذكر المؤلفون فيه الآيات المتعددة ومثاله :
قيام الليل :
المنسوخ: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا) (المزمل: 1- 3)
الناسخ: قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ)(المزمل:20).
النسخ: وجه النسخ أن وجوب قيام الليل ارتفع بما تيسر، أي لم يَعُدْ واجباً.
محاسبة النفس:(1/115)
المنسوخ: قوله تعالى: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ )(البقرة: 284).
الناسخ: قوله تعالى:( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا )(البقرة:286 ).
النسخ: وجهه أنَّ المحاسبة على خطرات الأنفس بالآية الأولى رُفعت بالآية التالية.
حق التقوى :
المنسوخ: قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ )(آل عمران: 102).
الناسخ: قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: 16).
النسخ: رفع حق التقوى بالتقوى المستطاعة.
ما الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة ؟
إن القرآن كما يُتلى ليعرف الحكم منه ، والعمل به ، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى ، فيثاب عليه ، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
إن النسخ غالباً يكون للتخفيف ، فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ورفع المشقة ، حتى يتذكر العبد نعمة الله عليه.
إعجاز القرآن وأنواعه
تعريف المعجزة:
المعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدى سالم من المعارضة يظهره الله على يد رسله ،ولاتخضع للأسباب والمسببات ، ولايمكن لأحد أن يصل إليها عن طريق الجهد الشخصى ، أو الكسب الذاتى وإنما هى هبة من الله سبحانه وتعالى .
وجوه الإعجاز القرآني:
ذكر العلماء وجوهاً كثيرة للإعجاز القرآني، وأهمها أربعة:
1. الإعجاز البياني
لو تأمل غواصوا بحار المعانى فى دقائقها وتدبروا فى حقائقها لعلموا علم اليقين أن مصدرية القرآن دليل إعجازه .
فالقرآن الكريم كلام الله تعالى الذى هو منبع كل حكمة ، ومعدن كل فضيلة ،وقد تحدى الله به فرسان اللغة ، وأساطين البيان ، وأرباب البلاغة والكلام ، ولايزال التحدى قائما إلى يوم القيامة قال تعالي: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَو كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (الإسراء :88)(1/116)
وكما قال الله تعالي: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ(...(الطور :33&34)
ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال فى سورة هود:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )(هود : 13)
ثم تنازل إلى سورة فقال فى سورة يونس:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )(يونس : 38) وكذلك في سورة البقرة وهى مدنية أعاد التحدي بسورة منه، وأخبر تعالى أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا لا في الحال ولا في المآل.
فقال تعالى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)( البقرة :23&24)
وهكذا وقع، فانه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره ولا نظير سورة منه،وهذا لا سبيل إليه أبدا؛ فإنه كلام رب العالمين الذي لا يشبهه شيء من خلقه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق؟
فهذا الكتاب المجيد أداء لغوي عربي متناه في الدقة والحبك والمعنى والرقي بحيث يعجز أبلغ البلغاء العرب عن محاكاته، ولذلك كف الفصحاء العرب عن محاكاته.. لماذا؟ لأنهم يعلمون انهم لو حاولوا لأصبحوا عرضة للاستهزاء والسخرية والتعيير.. اما السفهاء فقد حاولوا فوقعوا في هوة الاستهزاء والسخرية..(1/117)
فمنذ تلا المصطفى عليه الصلاة و السلام في قومه ما تلقى من كلمات ربه ، أدركت قريش ما لهذا البيان القرآني من إعجاز لا يملك أي عربي يجد حسَّ لغته و ذوقها الأصيل ، سليقة و طبعاً ، إلا أن يسلم بأنه ليس من قول البشر.
من هنا كان حرص طواغيت الوثنية من قريش ، على أن يحولوا بين العرب و بين سماع هذا القرآن ، فكان إذا أهل الموسم و آن وفود العرب للحج ، ترصدوا لها عند مداخل مكة ، و أخذوا بسبل الناس لا يمر بهم أحد حذروه من الإصغاء إلى ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من كلام قالوا إنه السحر يفرق بين المرء و أبيه و أخيه ، و بين المرء و زوجه وولده و عشيرته ، و ربما وصلت آيات منه إلى سمع أشدهم عداوة للإسلام، فألقى سلاحه مصدقاً و مبايعاً ، عن يقين بأن هذه الكلمات ليست من قول البشر.
جاء فى سيرة ابن هشام أن عمر بن الخطاب خرج ذات مساء متوشحاً سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم و رهطاً من أصحابه ، فلقيه في الطريق من سأله :
ـ أين تريد يا عمر ؟
أجاب : أريد محمداً هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش و سفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتا ، فأقتله .
قال له صاحبه :
ـ غرتك نفسك يا عمر ! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض و قد قتلت محمداً ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟
سأله عمر ، وقد رابه ما سمع :
ـ أي أهل بيتي تعني؟
فأخبره أن أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ابن عمه قد أسلما .
فأخذ " عمر " طريقه إلي بيت صهره مستثار الغضب ، يريد أن يقتله و يقتل زوجته فاطمة . فما كاد يدنو من الباب حتى سمع تلاوة خافتة لآيات من سورة طه ، فدخل يلح طلب الصحيفة التي لمح أخته تخفيها عند دخوله ....
و انطلق من فوره إلي البيت الذي اجتمع فيه المصطفى بأصحابه ، فبايعه ، وأعز الله الإسلام بعمر ، وقد كان من أشد قريش عداوة للإسلام و حرباً للرسول ..(1/118)
وما أن سمع أسيد بن حضير وسعد بن معاذ القرآن من مصعب بن عمير حتى أسلاما من فورهما.
فهل فرض القرآن إعجازه على هؤلاء الذين استنارت بصائرهم فآمنوا بمعجزة المصطفى بمجرد سماعهم آيات منها ، دون غيرهم ممن لجوا في العناد و التكذيب ؟
إن القرآن لم يفرض إعجازه البياني من أول المبعث ، على هؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان به فحسب ، بل فرضه كذلك على من ظلوا على سفههم و شركههم ، عناداً و تمسكاً بدين الآباء و نضالاً عن أوضاع دينية و اقتصادية و اجتماعية لم يكونوا يريدون لها أن تتغير .
و في الخبر أن من طواغيت قريش و صناديد الوثنية العتاة من كانوا يتسللون في اوئل عصر المبعث خفية عن قومهم ، ليسعوا آيات هذا القرآن دون أن يملكوا إرادتهم .
روى " ابن إسحاق " في السيرة أن أبا سفيان بن حرب العبشي ، و أبا جهل ابن هشام المخزومي ، والأخنس بن شريق الزهري ، خرجوا ذات ليلة متفرقين على غير موعد ، إلى حيث يستمعون من رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلى و يتلو القرآن في بيته . فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، و لا أحد منهم يعلم بمكان صاحبيه . فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا و قال بعضهم لبعض :
" لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً " ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة التالية ، عاد كل منهم إلى مجلسه لا يدري بمكان صاحبيه .
فباتوا يستمعون للمصطفى حتى طلع الفجر فتفرقوا و جمعهم الطريق فتلاوموا ، وانصرفوا على ألا يعودوا .
لكنهم عادوا فتسللوا في الليلة الثالثة و باتوا يستعمون إلى القرآن ،وعندما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدوا معه ،عن بن عباس رضي الله عنهما : (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس)( رواه البخاري).
إعجاز النظم في القرآن الكريم(1/119)
يقصد بنظم القرآن طريقة تأليف حروفه وكلماته وجمله وسكبها مع أخواتها فى قالب محكم للدلالة على المعانى بأوضح عبارة ، فى أعذب سياق ، وأجمل نظم .
إن النظم القرآنى البديع بهر العرب بحسن مبادئ الآيات ، وتماسك الكلمات واتساقها فى التراكيب .
قال تعالى :( حم *تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (فصلت : 1-5)
هذه الآيات بتأليفها العجيب ، و نظمها البديع حينما سمعها عتبة بن أبي ربيعة و كان من أساطين البيان استولت على أحاسيسه ، و مشاعره ، وطارت بلبه ، ووقف في ذهول ، و حيرة ، ثم عبر عن حيرته و ذهوله بقوله : " و الله لقد سمعت من محمد قولاً ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة ...و الله ليكونن لقوله الذي سمعته نبأ عظيم" .
بعض مزايا النظم القرآنى وأمثلة عليها:
1- التناسق بين العبارة والموضوع الذى يراد تقريره :مثال ذلك :
قال تعالى : (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ .... )(الأنبياء : 46)
فى سياق بيان الضعف البشرى أمام جبروت الخالق تبارك وتعالى فأراد بيان ضعفهم أمام العذاب الخفيف القليل ، فأتى بكلمات كلها تتجه إلى إظهار الغرض ، مستهم ، نفحة ، وهذه الكلمات كلها مسوقة إلى هدف واحد وهو وصف هذا العذاب بالقلة والضآلة ليبين أن المذنبين يندمون ويتأسفون على ماعملوا عند تعرضهم لنفحة بسيطة من عذاب الله .
2- اهتمامه بالجملة القرآنية واختيار المكان المناسب فيها للكلمة المعبرة :
قال تعالى : (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ....)(البقرة : 223)(1/120)
كلمة " حرث "لتشبيه النساء به دون غيرها من المترادفات ، وفى اختيار هذه الكلمة دون سواها لطف الكناية فى ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه ، وصلة الزوج بزوجه فى هذا المجال الخاص ، وبين ذلك النبت الذى يخرجه الحرث ، وذلك النبت الذى تخرجه الزوج ومافى كليهما من تكثير وعمران وفلاح .
هذه اللطائف لاتستفاد من أى كلمة مرادفة ، وبذلك تلاحظ أن القرآن الكريم يتناول من الكلمات المترادفة أدقها دلالة على المعنى وأتمها تصويرا وتشخيصا للصورة وأجملها وأحلاها إيقاعا ووزنا بالنسبةإلى نظائرها .
قال تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) فقال (وَاشْتَعَلَ) لم يقل وتبدل أو تغير ... لأن الإشتعال يقول عنه أهل اللغة هو تحول المادة من حالة إلى حالة أخرى بحيث لايمكن أن ترجع للحالة الأولى البتة وهكذا حال الشيب لايمكن رجوعه للسواد إطلاقا .. وقد حدث جدل عظيم بين أهل الفلسفة هل الشيب عرض أم جوهر و ببساطة أجاب القرآن على هذه إذ أن كلمة(شيبا) جاءت نكرة ومن قواعد اللغة أن النكرة فرع ليست أصلا والشيب كذلك ليس أصلا،، فياله من تعبير.
قال تعالى : (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) لم يقولوا افترسه أو ذبحه إنما قالوا (أكله) وذلك أن إخوة يوسف أرادوا التخلص من يوسف نهائيا لأنهم لو قالوا افترسه لطالب أبوهم يعقوب ببقية المفترس وبالتالي يتبين كذبهم ويفتضح أمرهم فقالوا (أكله) أي لم يبق منه شئ فأنظر إلى الاختيار الدقيق لألفاظ القرآن .
قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )(الكوثر : 2)(1/121)
لماذا جاء اللفظ(انحر) ولم يقل اذبح ؟ هل هذا لأجل الفاصلة في السورة فحسب أم هي روعة البلاغة القرآنية ؟ يقول أهل اللغة أن النحر خاص بالإبل، والذبح خاص بالغنم وغيرها ، فمعلوم أن الله أعطى نبيه الخير العميم وقال(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) على أصح الأقوال ثم أمره بأفضل العبادات وهي الصلاة وأيضا أمره بأفضل القرابين وأنفسها عند العرب وهي الإبل وقال (َانْحَرْ) فجمعت هذه الكلمة حسنا إلى حسن ، روعة التعبير وجمال الفاصلة للآية .
3- النظم القرآنى يهتم بالإيقاع والإنسجام فى اللفظ والنغم :
فيؤتى بالكلمة وتوضع فى مكان معين من العبارة بحيث لو تغير وضعها تقديما أو تأخيرا أو حذفا لأختل ذلك التناسق اللفظى وذلك الوزن الخاص ، ومن أمثلة ذلك :
قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى )(النجم : 19&20)
فلو حذفت كلمة (الأخرى) أو كلمة (الثالثة) لاختل الوزن ولتأثر الإيقاع .
وكذلك قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى)(النجم : 21&22)
فلو قيل :ألكم الذكر وله الأنثى تلك قسمة ضيزى بحذف كلمة إذا ،لاختل الإيقاع ،فكأن هذه الحروف والكلمات موزونة بميزان شديد الحساسية ،تميله أخف الحركات والإهتزازات .
الأسلوب القرآني الفريد
الأسلوب القرآني:هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، ولقد اتفق العلماء قديماً وحديثاً على أن للقرآن أسلوباً خاصاً به مغايراً لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف.(1/122)
وكان العرب الفصحاء يدركون هذا التمايز في الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب، روى مسلم في صحيحه (أن أُنَيساً أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيتُ رجلاً بمكة على دينك، يزعُمُ أن الله أرسله، قلتُ: فما يقول الناس، قال : يقولون شاعر، كاهن، ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون)
ولقد أبرز العلماء ميزات للأسلوب القرآني اختص بها من بين سائر الكلام، فمن هذه الميزات:
أولاً: المرونة والمطاوعة في التأويل:
نجد في الأسلوب القرآني مرونة في التأويل ومطاوعة على التقليب بحيث لا يدانيه أسلوب من الأساليب، وهذه المرونة تجعله واسع الدلالة سعة المورد الذي تزدحم عليه الوفود ثم تصدر عنه وهي ريّانة راضية.
فالأسلوب القرآني يشفي قلوب العامة ويكفي الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير وسواد الناس ويملأ فراغ نفوسهم بالترغيب والترهيب والجمال الأخاذ في تعابيره ومشاهده، وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلىمزيد من الحكمة والفكرة، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون ومنتهاه ونظامه ودقة صنعه وإبداعه.
وهذه المرونة من أسباب خلود القرآن فإن الأساليب العربية طوال أربعة عشر قرناً قد عراها كثير من التغير والتلوين اللفظي والذهني، ومع ذلك فإن القرآن بقي خالداً بأسلوبه المتميّز وبخصائصه الفريدة يتجدّد مع العصور وظل رائع الأثر على ترامي الأجيال إلى هذه الأيام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(1/123)
إن الأسلوب القرآني لم يستغلق فهمه على العرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ولم يكن لهم إلا الفطرة السليمة الذوّاقة للجمال، وفهمه وتفاعل معه من جاء بعد ذلك من أهل العلوم والأفكار، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وقد أثبتت العلوم الحديثة المتطورة كثيراً من حقائقه التي كانت مخفيّة عن السابقين، وفي علم الله ما يكون من بعد.
ثانياً: اعتماد الأسلوب القرآني الطريقة التصويرية في التعبير:
من السمات البارزة للأسلوب القرآني هو اعتماده الطريقة التصويرية للتعبير عن المعاني والأفكار التي يريد إيضاحها، وسواء كانت معاني ذهنية مجردة، أو قصصاً غابرة، أو مشاهد ليوم القيامة وغيرها من المجالات.
إن الأسلوب القرآني يحمل تاليه إلى أجواء الصور وكأنه ينظر في تفصيلات الصورة المجسّمة أمامه، وكأن المشهد يجري أمامه حيّاً متحرّكاً، ولا شك أن الفكرة أو المعنى الذي يراد إيضاحه يكون أقرب إلى الفهم وأوضح في الذهن مما لو نقل المعنى مجرّداً من تلك الصور الحية، ويكفي لبيان هذه الميزة أن نتصور هذه المعاني كلها في صورها التجريدية ثم نقارنها بالصورة التي وضعها فيها القرآن الكريم، فمثلاً:
أ - معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان: إذا أردنا أن نتصور هذا المعنى مجرّداً في الذهن يمكن أن نقول: إنهم ينفرون أشد النفرة من دعوة الإيمان فيتملّى الذهن وحده معنى النفور في برودة وسكون، ولنمعن النظر في الأسلوب القرآني وهو يصوّر لنا هذا المعنى في هذه الصور الغريبة ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ) (المدثر:49ـ 51).(1/124)
فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال وانفعال السخرية وشعور الجمال: السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان، والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاّها الخيال في إطار من الطبيعة تشرد فيه الحمر تيبعها قسورة، فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ وتنفعل نفسه مع الصورة التي نُقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين.
لقد شبه الله تعالى فرار الكافرين عن تذكرة النبي صلى الله عليه وسلم كفرار حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدُعون إلى الإيمان، أنظر أخي إلى جمالية هذا التشبيه الرائع الذي لا يصدر إلا عن إله عالم بخبايا النفس الإنسانية طبعاً هذا التشبيه له عدة مدلولات منها شدة فرارهم من النبي، وسخرية من سلوهم الغير مبرر
ب - ومعنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله ! يمكن أن يؤدي في عدة تعبيرات ذهنية مجردّة، كأن، يقول إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء فيصل المعنى إلى الذهن مجرَّداً باهتاً.
ولكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج: 73)
فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة ، والصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة حيث وُضعت في أذهان معتنقيها في أقدس صورة والربط بينها وبين مخلوق حقير. ولم يكتف بهذا الربط بل حشد لهذا المخلوق جموعأً ضخمة فعجزوا عن خلقه، ثم في الصورة التي تنطبع في الذهن من طيرانهم خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه، وفشلهم مع اتباعهم عن هذا الاستنقاذ.(1/125)
ت - ومعنى انتهاء الكون ثم محاسبة الناس على أعمالهم ودخول المحسنين الجنة والمسيئين النار، ولذة أهل النعيم والترحيب بهم وشقاء أهل العذاب وتبكيتهم: كل ذلك يمكن أن يفهمها الإنسان مجردة وهي حقائق لم تقع بعد. فالتعبير عنها بكلمات مجردة تنقل الفكرة إلى الذهن باهتة ، ولكن التعبير القرآني وضع لنا هذه الحقائق في إطار زاهٍ حافل بالحركة وكأن المرء ـ حين يقرؤها ـ يعيش أجوائها، وتنقبض النفس لمشاهدة الأهوال وتخضع لقوة الجبار وتتشوّق لمرافقة السعداء.(1/126)
فهذا مشهد يوم القيامة قال تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )(سورة الزمر:66ـ75)(1/127)
إنه مشهد رائع حافل، يبدأ متحركاً ثم يسير وئيداً حتى تهدأ كل حركة ويسكن كل شيء ويخيّم على الساحة جلال الصمت ورهبة الخشوع،ويبدأ المشهد بالأرض جميعاً في قبضة ذي الجلال، وها هي السماوات جميعاً مطوّيات بيمينه.
إنها صورة يرتجف لها الحسّ ويعجز عن تصويرها الخيال، ثم ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث، فيصعق من يكون باقياً على ظهرها من الأحياء. ولا نعلم كم مضى من الوقت حتى انبعثت الصيحة الثانية (فإذا هم قيام ينظرون). و بغير ضجيج وعجيج، تجتمع الخلائق. فعرش ربك هنا تحف به الملائكة فما يليق الصخب في مثل هذا المقام.
(أشرقت الأرض بنور ربها) أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض، أشرقت بالنور الهادئ (بنور ربها) فإذا هي تكاد تشفّ من الإشراق، (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء)، وطوي كل خصام وجدال في هذا المشهد خاصة (وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون).
فلا حاجة إلى كلمة واحدة تقال ولا إلى صوت واحد يرتفع. وهكذا تجمل هنا عملية الحساب والجزاء، لأن المقام مقام روعة وجلال.
وإذا تم الحساب وعرف المصير وجّه كل فريق إلى مأواه(وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) حتى إذا وصلوا إليها بعيداً هناك استقبلتهم حزنتها بتسجيل استحقاقهم لها وتذكيرهم بما جاء بهم إليها (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ
هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) فالموقف موقف إذعان واعتراف وتسليم (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ )(1/128)
وكذلك وجه الذين اتقوا ربهم إلى الجنة حتى إذا وصلوا هناك استقبلهم خزنتها بالسلام والثناء (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) وارتفعت أصوات أهل الجنة بالحمد والدعاء: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
ثم يختم الشريط المصور بما يلقي في النفس روعة ورهبة وجلالاً تتسق مع المشهد كله وتختمه خير ختام(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
ثالثاً: طريقة الأسلوب القرآني المتميزة في المُحاجة والاستدلال:
لقد أورد القرآن الكريم من أفانين القول في سياق محاجّة الكفار وتصحيح زيغ المحرّفين والوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه ما يخرج عن طوق البشر الإحاطة بمثل هذه الأساليب في أوقات متقاربة أو متباعدة، فالنفس الإنسانية لا تستطيع التحول في لحظات عابرة في جميع الاتجاهات بل تتأثر بحالة معينة، ولا تستطيع التحول عنها إلى أتجاه معاكس إلا ضمن بيئة ملائمة.
أما الأسلوب القرآني فيلاحظ فيه الانتقال في شتى الاتجاهات في لحظات متقاربة متتالية، وأحياناً تكون مترادفة. فمن مشرّع حكيم يقر الدساتير والأنظمة في تؤدة وأناة ورويّة، إلى وعيد وتهديد لمن يرغب عن التشريعات ويريه سوء المصير، إلى غافر يقبل توبة العبد إذا تاب وأناب، إلى معلم يعلم كيفية الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى بأدعية لا تخطر على البال، إلى مقر لحقائق الكون الكبرى، ومن مرئيات الناس ومألوفاتهم والتدرج بهم إلى أسرار سنن الله في الكون(1/129)
ومن الأمور المميزة للأسلوب القرآني طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها وهي ذات حقيقة ضخمة تتناسب والموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . تامل في قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ *أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(الواقعة: 57ـ74)
ومثل هذه الإشارات ترد كثيراً في القرآن الكريم لتجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكررة قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، يقرر بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير وحياة للأرواح والقلوب ويقظة في المشاعر والحواس.
إن هذه الظواهر هي حقائق ضخمة ولكن الإلف والعادة بلّدت حواس الناس فلا تشعر بدلالاتها.(1/130)
إن الأنفس من صنع الله، وما حول الناس من ظواهر الكون من إبداع قدرته، والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده، وهذا القرآن قرآنه. ومن ثمّ يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم، يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لديهم التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها لأنهم غافلون عن مواضيع الإعجاز فيها.
يمسهم الأسلوب القرآني بهذه اللفتات الاستفهامية المتتالية ليفتح عيونهم على السر الهائل المكنون، سرّ القدرة العظيمة وسرّ الوحدانية المفردة ليثير في فطرتهم الإقرار الأول في عالم الذر (...ألست بربكم )(الأعراف: 172)
إن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره إنها المصدر الذي صدر منه الكون، فطريقة بنائه هي طريق بناء الكون من أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق.
والقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني، المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل، الزرع، الماء، النار، الموت.
وأي إنسان علي ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي إنسان مهما كان بدائياً لم يشهد نشأة جنينية ونشأ حياة نباتية ومسقط ماء وموقد نار ولحظة وفاة؟
إن انفراد الأسلوب القرآني بهذه الميزات لهو دليل مصدره الإلهي فما الأسلوب إلا صورة فكرية عن صاحبه.
2. الإعجاز التشريعى
هو آية بينة ، ودليل ساطع ، وبرهان قاطع على أن القرآن كلام الخالق الذى يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
فالقرآن الكريم أول من وضع حقوق الإنسان وذلك منذ أربعة عشر قرنا ،وضمن للإنسان فى تشريع محكم من وضع العليم الخبير جل وعلا سبحانه ،وضع للإنسان تشريعا محكما يضمن له السعادة فى الدنيا والآخرة .(1/131)
فالقرآن الكريم هو الذى خاطب الإنسان بوجه عام ، هو الذى نادى على الناس على إختلاف ألوانهم ، وأجناسهم ، وأشكالهم ، وألسنتهم ، نادى عليهم بهذا النداء العام الذى لايفرق بين أبيض وأسود ، ولا بين أحمر وأبيض ،ولايفرق بين عربى وعجمى إلا بالتقوى والعمل الصالح ، ذلكم المبدأ والنداء الذى يضمن للإنسان طهارة آدميته وإنسانيته ، فيخاطب ربنا تبارك وتعالى كل الناس بهذا التشريع المحكم فيقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات : 13) ، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح .
خصائص التشريع القرآنى
أولا : ربانى المصدر قرآنى الدليل :
وذلك لأنه من عند الله سبحانه وتعالى ودليله قرآن أنزله الله جل وعلا على قلب البشير النذير صلى الله عليه وسلم ، فتشريع القرآن متسم بكل كمال ، وبكل جمال ، وبكل جلال ، متسم بكل ما لمن وضعه سبحانه من كمال وجمال وجلال .
ولهذا فقد عبر الله سبحانه عن كتابه القرآن بأبلغ العبارات وألطف الإشارات، فقال سبحانه (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء : 10)
ووصفه بالمبارك فقال سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(ص:29) وما ذاك إلا لسموهذا الكتاب، وعظمة منزّله، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وهذا بعكس ما يضعه البشر، لأن ما يضعونه يصلح لزمن دون زمن أو لجماعة دون أخرى.
ثانيا: التدرج فى الأحكام :
لم ينزل القرآن جملة واحدة ، وإنما نزل بمقتضى الأحداث والمشكلات والأزمات وللإجابة على الأسئلة والإستفسارات التى تعرض على النبى صلى الله عليه وسلم ليجيب عليها :(1/132)
قال تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ....)(البقرة: 189)
وقال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ ....)(البقرة:215)
وقال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ...)(البقرة:217)
وقال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ..........)(البقرة:219)
وقال تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ..............)(البقرة:220)
وقال تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء ...)(البقرة:222)
وقال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ...........)(المائدة:4)
وقال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي..)(الأعراف : 187)
وقال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ .........)(الأنفال : 1)
وقال تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ........)(الإسراء : 85)
وقال تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً )(الكهف : 83)
وقال تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً )( طه : 105)
وقال تعالى : (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ......)(الأحزاب:63)
ومن أمثلة هذا التدرج فى الأحكام : تحريم الخمر:
المرحلة الأولى :(1/133)
قال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)(البقرة : 219) وفى ذلك تهيئة للنفوس لتتقبل ماسينزله ربنا تبارك وتعالى من تشريع لتحريم الخمر
المرحلة الثانية:
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ..)(النساء:43) فمنعهم من الخمر فى أوقات محددة معلومة وهى أوقات الصلوات لتتهيأ النفوس بعد ذلك على ترك الخمر بالكلية .
المرحلة الثالثة:
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة : 90)
قالت أم المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت الصديق رضى الله عنها :( حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا ) رواه البخارى
فهذا التدرج يتفق مع الفطرة التى فطر الناس عليها ، ومع هذه النفس البشرية لأنه تشريع الخالق الذى يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .
ثالثا : التكامل والشمول :
فهو لا يقتصر على تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض، منعزلة عن الرقابة الإلهية في السر والعلن، وإنما ينظم هذا التشريع هذه المعاملات على أساس من مراعاة علاقة الإنسان بخالقه على أكمل وجه، وتقدير الجانب الخلقي في التعامل على حب الخير، ومنع الأذى ، وطهارة النفس، وصفاء القلب ، وعلو النفس ، والترفع عن الدناءات ، وهذه الخصائص جعلت التشريع القرآني خالداً إلى يوم القيامة لايُنقَضُ ولا ينسخ، ويجمع بين المثالية والواقعية.(1/134)
قال تعالى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )(فصلت : 42)
ويبدو التكامل في التشريع القرآني من خلال صلته المتلازمة بين العقيدة والعبادة والشورى كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(الشورى : 38)
رابعا : التوازن والإعتدال :
هذا التشريع يجمع للإنسان بين روحه وعقله ، لايقدس الروح إلى حد الشلل عن الحياة ، ولايقدس المادة إلى حد الطغيان والإرتكاس فى الشهوات ، ولايرفع العقل إلى حد أن يصبح العقل إلها يعبد من دون الله
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )(الجمعة : 9&10)
جمع بديع فى هذه الآيات بين الروح والبدن ، فهو تشريع متوازن ، معتدل ، ولذلك يجمع نبينا بأبى هو وأمى وروحى صلى الله عليه وسلم ، يجمع هذا المنهج فى دعاء نبوى جميل فى صحيح مسلم فيقول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وسلم:( اللهم أصلح لى دينى الذى هو عصمة أمرى ،وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى ، وأصلح لى آخرتى التى فيها معادى ، وأجعل الحياة زيادة لى فى كل خير ، وأجعل الموت راحة لى من كل شر )
فلا إفراط ولاتفريط ، فيحول النبى صلى الله عليه وسلم هذا التشريع إلى واقع عملى بين الناس فكان صلوات ربى وسلامه عليه ، كان قرآنا يمشى بين الناس ،
وما أروع الكلمة التي ذكرها ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين حين قال:(1/135)
(الشريعةعدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمةإلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة)
خامسا: التميز والمفاصلة :
هذا التشريع يربى أصحابه تربية فذة فريدة ، يصيغ من يتربون عليه صياغة فريدة لانظير لها ، ولامثيل لها ، فالمؤمن الذى يتربى على التشريع القرآنى متميز ، له هوية ، له شخصية ، لايقبل البتة أن يذوب فى بوتقات شرقية أو غربية تصطدم مع منهجه ومع التشريع الربانى، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن) (رواه البخاري) وفى هذا تحذير شديد من متابعة غير المؤمنين
فالمؤمن يعتز بعقيدته وعبادته وأخلاقه وسلوكه ويعتز بأن كله لله سبحانه وتعالى ،
قال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )(الأنعام : 162&163)
فالمؤمن صاحب شخصية فذة فريدة ، لايعرف الهوان ، ولاالضعف ، ولاتتسرب الهزيمة إلى قلبه ، ولايتسلل القنوط واليأس إلى فؤاده أبدا ، قال تعالى : (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(آل عمران : 139).
سادسا: التيسير ورفع المشقة والحرج ودفع الضرر:
هذا التشريع يتفق مع مصالح العباد ، لايعنت الخلق أبدا ، قال تعالى :
(...يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..)(البقرة:185)
(...مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ...)(المائدة:6)
( ... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ..)(الحج:78)
(مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ ...)(الأحزاب:38)(1/136)
(لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا...)(البقرة:286)
(..لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا...)(الأنعام :152)
(...لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا...)(الطلاق:7)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...)(التغابن:16)
والنبى صلى الله عليه وسلم يبين لنا التطبيق العملى لهذا التيسير فى كثير من المواضع فيقول بأبى هو وأمى وروحى :
(فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، و إذا نهيتكم عن شيء فدعوه)(رواه أحمد)
(إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..)(رواه البخارى)
وعن أنس بن مالك قال (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر انا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني). (رواه البخاري)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال ما هذا الحبل قالوا هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد). (رواه البخاري)
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها). (رواه البخاري)
أصول التشريع القرآنى
أولا:إقرار عقيدة التوحيد :(1/137)
إن الحياة كلها لتبدو تافهة القيمة ، مبتورة الهدف ، معدومة النفع إن لم تكن مرتبطة بمنشئها الأول جل جلاله ، وإن لم تكن من أجل قدوسها الأعظم تبارك وتعالى ، ولذلك فإن القرآن يؤصل عقيدة التوحيد فى إسلوب بديع يخاطب الفطرة ، ويستنطق أعماق أعماق الوجدان، ليستنطق الألسنة ، وليخاطب القلوب التقية النقية ، وليخاطب العقول الذكية الألمعية ، لتنطق الألسنة بوحدانية وألوهية رب البرية جل جلاله ، تارة بالحوار، وتارة بالترغيب ، وثالثة بالترهيب ، ورابعة بالقصص ، وخامسة بالمثل ، وسادسة بوصف الجنة ، وسابعة بوصف النار..إلى غير ذلك من أساليب القرآن البديعة ، فأعظم كتاب للتوحيد هو كتاب ربنا جل وعلا، فإذا أردنا أن نرد الأمة إلى التوحيد بشموله وكماله ، وأن نرد البشرية كلها إلى التوحيد بشموله وكماله ، فما علينا إلا أن نقدم القرآن للبشرية عامة وإلى الأمة خاصة وأن تعود البشرية عامة والأمة خاصة إلى كتاب الله لتردد مع السابقين الأولين قولتهم الخالدة سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
يقرر القرآن عقيدة التوحيد فى آيات دقيقة محكمة فيقول جل وعلا:
(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )(البقرة : 163)
(اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(البقرة : 255)
(شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران : 18)(1/138)
(وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(القصص : 70)
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ *أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ *أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)( النمل : 60-64]
(وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص : 88)(1/139)
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ *هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر : 24)
(إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ)(الصافات : 4)
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ )(سورة الإخلاص )
لله في الآفاق آيات لعلّ أقلها هو ما إليه هداكَ
ولعل ما في النفس من آياته عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكَ
والكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيراً لها أعياكَ
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبِّه أرداكَ
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكَ
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكَ
قل للبصير وكان يحذر حفرة ً فهوى بها من ذا الذي أهواكَ
بل سائل الأعمى خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكَ
قل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكَ
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاءِ لدى الولادة ما الذي أبكاكَ
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّه فاسأله من ذا بالسموم حشاكَ
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأُ فاكَ
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاّكَ
بل سائل اللبن المصفى كان بين دمٍ وفرثٍ من الذي صفّاكَ
وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا ميت فاسأله من يا حي قد أحياكَ
قل للنبات يجف بعد تعهدٍ ورعايةٍ من بالجفافِ رماكَ
وإذا رأيت النبت في الصحراء يربو وحده فاسأله من أرباكَ
وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراكَ(1/140)
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبعد كل شيء ما الذي أدناكَ
قل للمرير من الثمار من الذي بالمر من دون الثمارغذاكَ
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواكَ
وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراكَ
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساكَ
وإذا ترى صخراً تفجر بالمياه فسله من بالماء شق صفاكَ
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال سرى فسله من الذي أجراكَ
وإذا رأيت البحر بالماء الأجاج طغى فسله من الذي أطغاكَ
وإذا رأيت الليل يغشى داجياً فاسأله من يا ليل حاك دجاكَ
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحكاً فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكَ
ستجيب ما في الكون من آياته عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكَ
ربي لك الحمد العظيم لذاتك حمداً وليس لواحدٍ إلاّ كَ
يا مدرك الأبصار والأبصار لا تدري له ولكنه إدراكَ
إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء أستبين علاكَ
يا مُنبت الأزهار عاطرة الشذى ما خاب يوماً من دعا ورجاكَ
يا مجري الأنهار عاذبة الندى ما خاب يوماً من دعا ورجاكَ
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي با لله جل جلاله أغراكَ
والتوحيد صيحة كل رسالة ودعوة كل نبوة :
قال تعالى : (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ..) (المائدة : 72)
وقال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف : 59)
وقال تعالى : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) (الأعراف : 65)
وقال تعالى : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف : 73)(1/141)
وقال تعالى : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف : 85)
وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ )(النحل : 36)
وقال تعالى : (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (العنكبوت : 16)
ثانيا : تصحيح العبادة :
إن الغاية التى خلق الله الكون كله من أجلها ، وخلق الجنة والنار ، وأنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، هى أن يفرد الخلق الحق وحده بالألوهية والعبادة .
قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ )(الذاريات : 56)
وقال تعالى : (....فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف : 110)
وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام : 162)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار) (رواه البخارى)
ومقتضى العبودية أن يقول الرب جل وعلا : أمرت ونهيت ، وأن يقول العبد : سمعت وأطعت ، كما أن من مقتضى العبودية أن يسلم العبد قلبه ، وسمعه ، وبصره ، وكيانه كله لربه جل وعلا ، وأن يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم ليقوده رسول الله إلى بر الإيمان والأمان وإلى سعادة الدنيا والآخرة .
ثالثا :إبراز مكانة العقل:(1/142)
إن نور الوحى القرآنى والتشريع الربانى لايطمس نور العقل ، بل يباركه ، ويزكيه ، ويقويه وينميه ، بشرط ألا يتجاوز العقل حده ، وأن يعرف العقل قدره ، وأن يسجد العقل مع الكون كله لله رب العالمين ، فالقرآن رفع مكانة العقل ، والتشريع القرآنى والنبوى بين أن العقل مناط التكليف ، أى إذا فقد الإنسان عقله سقط عنه التكليف ، ولقد تردد ذكر العقل في القرآن زهاء خمسين مرة ، وذُكِرَ أولو الألباب بضع عشرة مرة ، وأولو النهى مرتين، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمنها:
قال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة : 164)
وقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)(آل عمران : 190)
وقال تعالى : (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد : 4)
وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(النحل : 12)
وقال تعالى : (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )(النحل : 67)(1/143)
وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )(الروم : 24)
وقال تعالى : (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )(الجاثية : 5)
وقال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ)(الأنعام: 50)
وهذه الآيات وأمثالها دعوة قوية لإعمال العقل في هذا الكون وما أودع فيه من أسرار ومنافع، وذلك من أجل الاستفادة من طاقاته في بناء الحياة المزدهرة للفرد والأسرة والمجتمع على حد سواء.
وفى السنة النبوية الشريفة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل)(رواه أبو داود)
لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا" ...
كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلا ...
نور النبوة مثل نور الشمس للعين البصيرة فاتخذه دليلا ...
فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها ... فالعقل لا يهديك قط سبيلا..
طرق الهدى محدودة ... إلا على من أمَّ هذا الوحى والتنزيلا ...
فإذا عدلت عن الطريق تعمدا ... فاعلم أنك ما أردت وصولا ...
يا طالبا درك الهدى بالعقل دون بالنقل ...لن تلقى لذاك دليلا...
ومن المستحيل أن يتعرف الإنسان على حقائق الوحى الربانى وعلى أمور الغيب وعلى حقائق وخصائص وأصول التشريع إلا بأن يعود العقل بخضوع وتواضع إلى حقائق الوحى القرآنى الربانى والنبوى .
رابعا: تصحيح وتقويم الأخلاق :
هذه الغاية تأتى بعد إقرار التوحيد وإفراد الله جل وعلا بالعبادة(1/144)
قال تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران : 164)
وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )(الجمعة : 2)
وكأن قضية البعثة تختزل بعد التوحيد فى تزكية النفس وتصحيح الأخلاق وتقويم مافسد وماأعوج منها، والآيات التى تدعو إلى مكارم الأخلاق كثيرة جدا ولامجال لحصرها الآن ، ولكن نأخذ مثلا هذه الآية :
قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(النحل : 90)
هذه هى أجمع آية ،جمع بديع بين الدنيا والآخرة ، وبين الدين والدنيا ، والتطبيق العملى لهذه الأخلاق نجده فى أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد مدحه المولى الكريم بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )(القلم : 4)
وقال صلى الله عليه وسلم :( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )(رواه الحاكم)
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)(رواه أبو داود)
وقال صلى الله عليه وسلم :(إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (رواه أبو داود)
وسئل النبى عن أكثر مايدخل الناس الجنة قال : (تقوى الله وحسن الخلق)( رواه الحاكم)
خامسا : المساواة والعدالة بين الناس :
الناس جميعا فى إنسانيتهم سواء ، وفى طهارة آدميتهم سواء ، لافرق لعربى على أعجمى ، ولا لأبيض على أسود ، ولاأسود على أحمر إلا باتقوى والعمل الصالح ،(1/145)
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )(الحجرات : 13)
وقال تعالى : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(النحل : 90)
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن
تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً )(النساء : 135)
ولقد ساوى الإسلام بين بلال الحبشى ، وصهيب الرومى ، وحمزة القرشى ، ومعاذ الأنصارى ، وسلمان الفارسى ، لافرق بين هذا وذاك .
وقال صلى الله عليه وسلم : (يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، و إن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي و لا لعجمي على عربي و لا لأحمر على أسود و لا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) (رواه أحمد)
عن عائشة رضى الله عنها: أن قريش أهمهم شأن المرأة المخزومية التى سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتشفع فى حد من حدود الله) ثم قام، فاختطب، ثم قال: [إنما أهلك الذين قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها] (رواه البخارى).
سادسا:الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:(1/146)
هذا الأصل هو القطب الأعظم فى هذا الدين ، وهو المهمة التى ابتعث الله لها النبيين والمرسلين ، ولو أهمل بساطه ، وطوى علمه، لفش الضلالة ، وعمت الجهالة ، وانتشر الفساد ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، ولن يشعروا بذلك إلا يوم التناد ، لذا جعل ربنا جل وعلا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أصل من أصول التشريع القرآنى ، بل وشرطا من شروط خيرية أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم
حيث قال تعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) (آل عمران : 110) هذه الخيرية مستمدة من إيمان الأمة بالله ، وأمرها بالمعروف ، ونهيها عن المنكر،
ولقد أمرنا الله عزوجل فى كتابه الكريم فقال تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(آل عمران : 104)
وقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ
إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(التوبة : 71) قدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فى هذه الآية ، وما ذلك إلا لعظم شأنه، وبين سبحانه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة ، فدل ذلك على أن الرحمة، إنما تنال بطاعة الله واتباع شريعته، ومن أخص ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/147)
وقال صلى الله عليه وسلم : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). (رواه مسلم)
وفي الصحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يؤتي بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه - أي أمعاؤه - فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون مالك يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال فيقول لهم بلى ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه)
هذه حال من خالف قوله فعله - نعوذ بالله - تسعر به النار، ويفضح على رؤوس الأشهاد، يتفرج عليه أهل النار، ويتعجبون كيف يلقى في النار. هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، وتندلق أقتاب بطنه، يسحبها، لماذا؟! لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، فعلم بذلك أن المقصود الأمر بالمعروف مع فعله، والنهي عن المنكر مع تركه. وهذا هو الواجب على كل مسلم، وهذا الواجب العظيم أوضح الله شأنه في كتابه الكريم، ورغب فيه، وحذر من تركه، ولعن من تركه، فالواجب على أهل الإسلام أن يعظموه، وأن يبادروا إليه، وأن يلتزموا به طاعة لربهم عز وجل، وامتثالاً لأمره، وحذراً من عقابه سبحانه وتعالى.
سابعا: لاإكراه فى الدين :
قال تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة : 256)
يقول ابن كثير فى تفسيره لهذه الآية:(1/148)
يقول تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الاسلام فانه بين واضح جلى دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه بل من هداه الله للاسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فانه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا.
أما من دخل الدين طائعا ، محبا ، غير مكره ، فلا يجوز أن يخرج منه ومن خرج فهو مرتد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من بدل دينه فاقتلوه). (رواه البخاري)
ثامنا : التكافل الإجتماعى :
إن المجتمع المسلم هو الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظاما وخلقا وسلوكا وفقا لما جاء به الكتاب والسنة واقتداء بالصورة التي طبق بها الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده .
لقد ظهر مفهوم التكافل الاجتماعي في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. يقول الله تعالى في قرآنه الكريم: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (الحجرات : 10)
وقال تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (التوبة : 71)
كما ورد في السنة الكثير من الأحاديث التي تحث المسلمين على التآخي و الإيثار من أجل الآخرين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)(رواه مسلم)
وقال عليه الصلاة والسلام : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (رواه مسلم)(1/149)
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(رواه البخارى)
ولقد أوضح الإسلام أن المال الذي وهبه الله لعباده ليس ملكا خاصا لهم وإنما هو ملك لله. وذلك يستدعي أن المسلم لا ينفق المال فقط كما تلهمه أهواءه و إنما يكون الإنفاق حسب التعاليم التي أتى بها الله تعالى.
فالإسلام يوضح أن الكون كله بمن عليه هو ملك لله و ليس للبشر.
فلقد قال الله تعالى (وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )( آل عمران : 189)
وقال تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ…)(النور:33) وكون المال ملك لله، فهو أمانة في يد الإنسان إلى أن يسأل عليه يوم القيامة.
ومن أهم الأساسيات التي حث عليها الله تعالى في جميع رسالاته هو الإنفاق في سبيل الله. فلقد قال الله تعالى في قرآنه الكريم، (هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )(محمد : 38)
وقال تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران:180)
وقد وصل إلزام الإسلام على المسلم أن يعطي لأخيه المحتاج إلى الحد أنه إذا لم تكفي الزكاة و الصدقات، فعلى المجتمع ككل أن يشارك بعضه بعضا في الكفاف. كما قال الله تعالى، (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ )( الحشر:7)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعاناً و جاره جائع إلى جنبه )(رواه الحاكم)(1/150)
وقال صلى الله عليه وسلم: ( وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى )(رواه أحمد)
عن أبي كبشة الأنماري قال : : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ثلاث أقسم عليهن و أحدثكم حديثا فاحفظوه قال : فأما الثلاث الذي أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد صدقة ، و لا ظلم عبد بمظلمة فيصبر عليها إلا زاده الله عز و جل بها عزا ، و لا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر ، و أما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه فإنه قال : إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله عز و جل مالا و علما فهو يتقي فيه ربه و يصل فيه رحمه و يعلم لله عز و جل فيه حقه ، قال : فهذا بأفضل المنازل ، قال : و عبد رزقه الله عز و جل علما و لم يرزقه مالا ، قال : فهو يقول : لو كان لي مال عملت بعمل فلان ، قال : فأجرهما سواء ، قال : و عبد رزقه الله مالا و لم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه عز و جل و لا يصل فيه رحمه و لا يعلم لله فيه حقه ، فهذا بأخبث المنازل ، قال : و عبد لم يرزقه الله مالا و لا علما فهو يقول : لو كان لي مال لعملت بعمل فلان ، قال : هي نيته فوزرهما فيه سواء)(رواه أحمد)
وقال صلى الله عليه وسلم : (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). (رواه مسلم)
من ثم نجد أن التكافل الاجتماعي هو حق أساسي من حقوق الإنسان التي كفلها الله تعالى لعباده منذ أربعة عشر قرنا. فنجد أن حق الإنسان في حياة كريمة هو من القواعد الثابتة في المنهج الإسلامي و ليس فقط نتيجة تجارب إنسانية ظهرت مع تقدم النظم السياسية والاقتصادية كما حدث في العالم الغربي في القرن العشرين ، و لقد أوجد الإسلام وسائل عديدة للمسلم لكي يتحقق التكافل الاجتماعي منها الزكاة، الصدقات، الوقف و يعد صدقة جارية، الديات، الكفارات، و النذور.(1/151)
ومن أمثلة الإعجاز التشريعى فى آيات الله : تحريم الدماء
قال تعالى في محكم كتابه: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (الأنعام:145) ووَصَفَ القرآن نبينا عليه الصلاة والسلام فقال: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ)(الأعراف:157) .
لقد أثبت العلم بما لا يدع مجالاً للشك أن الدماء التي أودعها الله لحوم الحيوانات تحمل من الجراثيم والمضار الكثير الكثير، ومن هنا ندرك الحكمة والمقصد الشرعي من التذكية التي أمر بها الشارع قبل تناول لحوم الحيوانات، وذلك أن في هذه التذكية إخراجاً لتلك الدماء الخبيثة الضارة .
والسر في تحريم الدم المسفوح ما أثبته العلم اليوم من أن الدم يعتبر مرتعاً صالحاً لتكاثر الجراثيم ونموها، ثم هو فوق ذلك لا يحتوي على أي مادة غذائية، بل إنه عسر الهضم جدًا، حتى إنه إذا صُبَّ جزء منه في معدة الإنسان تقيأه مباشرة، أو خرج مع البراز دون هضم على صورة مادة سوداء .(1/152)
وقد أكدت جميع الأبحاث العلمية في هذا المجال، أن الأضرار الناجمة عن شرب الدم أو طبخه كبيرة للغاية بسبب ما يحويه الدم من الجراثيم، فضلاً عن أن الدم - على عكس ما يُتصور - هو عنصر فقير جدًا من الناحية الغذائية، وأن القدر البروتيني الذي يحويه الدم يأتي مختلطًا بعناصر شديدة السُّمِّية، وغاية في الضرر، الأمر الذي يجعل الإقدام على تناوله مجازفة كبرى، وإلقاء للنفس في التهلكة، بل هو فوق ذلك، يحتوي على عناصر سامة يأتي في مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو غاز قاتل خانق، وهذا ما يفسر تحريم المختنق من الحيوان أيضًا، وذلك أن "المختنقة" إنما تموت عن طريقة تراكم هذا الغاز في دمائها ما يؤدي إلى نَفَاقها .
ولا يخفى عليك أن تكرار شرب الدماء لمن اعتاد عليها، وهي مشبعة بهذا الغاز القاتل، مؤدٍّ إلى أضرار صحية بالغة الخطورة قد تودي بحياة الإنسان .
وما أتينا عليه من العواقب الوخيمة المترتبة على تعاطي الدماء كافٍ فيما نحسب لتحريمها وتشريع القوانين المانعة لتعاطيها .
بقي أن نقول لك: إن الإسلام قد عفى عن قليل الدماء لعدم إمكانية التحرز منه، وعدم تحقق الضرر فيه، ولذلك جاء النص القرآني بتحريم الدم الموصوف بالمسفوح:(أَوْ دَماً مَّسْفُوحا) (لأنعام:145) وهذا يدل على أن الدم الذي يبقى عالقًا في اللحم غير داخل في التحريم، يقول الطبري في ذلك: "وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم عند إعلامه عباده تحريمه إياه المسفوح منه دون غيره الدليل الواضح على أنه إن لم يكن مسفوحًا فهو حلال غير نجس" .
فسبحان الذي علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم، وامتن عليه بذلك بقوله: (َعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(لنساء:113) .(1/153)
وسبحان الذي أكرم العالم بهذا الدين القويم، والصراط المستقيم، والمنهج المبين:(قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ )(لمائدة:15) .
ومن أمثلة ذلك أيضا : تحريم إتيان النساء فى وقت المحيض:
اتفقت كلمة أهل العلم على أن شريعة الإسلام مبناها وأساسها مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها، كما ذكر ابن القيم رحمه الله .
واستنادًا إلى ما اتفق عليه أهل العلم وقرروه فإن كل حكم شرعي جاءت به الشريعة لابد أن يكون إما جالبًا لمصلحة أو دارئًا لمفسدة، وأن وراءه حكمة تشريعية سواء ظهرت لنا أم لم تظهر، وسواء علمها البعض أم جهلها البعض الآخر .
وإذ تقرر ما ذكرنا فإن تحريم قربان النساء فترة المحيض هو من هذا القبيل، ونزيد على ما تقدم ما أثبته العلم الحديث من حقائق في هذا المجال فنقول: إن النص القرآني في شأن الحيض قد ذكر أمرين اثنين:
الأول: وصف الحيض بأنه أذىً .
والثاني: الأمر باعتزال النساء فترة المحيض .
أما بخصوص الأمر الأول، فإن الحيض هو دم طبيعي يأتي المرأة البالغة عادة كل شهر مرة، يخرج منها لفترة تتراوح بين اليومين وسبعة أيام على الأغلب، وتختلف كمية الدم الذي يخرج من امرأة لأخرى، وَفْقَ الحالة الجسدية والنفسية .
وسيلان دم المحيض يرجع إلى التغيرات المهمة التي تحصل للغشاء المبطن للرحم، التي تؤدي بدورها إلى تمزق العروق الدموية، فيسيل الدم منه، وما يلبث الغشاء المخاطي للرحم أن يسقط مصحوبًا بالدماء، مشكِّلاً سيلان الحيض .(1/154)
بيد أن أكثر تأثيرات المحيض شدة وعمقًا، ما يُصيب المرأة وينتابها من حالة نفسية وجسدية، فقُبَيْلَ بدء الحيض ينخفض لدى المرأة تركيز حمرة الدم، وتعداد الكريات الحمراء، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض مقاومة جسم المرأة للأمراض أثناء فترة الحيض، وزيادة القابلية للالتهابات والإصابات الجسمية، مع تزايد أعراض الاضطراب والارتعاش والتوتر العصبي، وتبدل المزاج، وسرعة الاستثارة، ويُرافق كل ذلك تغيُّر في القدرة على الحكم على الأشياء .
وإضافة لما تقدم من تغيُّرات تحدث للمرأة فترة المحيض، فقد دلت الدراسات على أن نسبة الإنتاج لدى المرأة تنخفض وقت المحيض، وتزداد نسبة الانتحار وجرائم النساء في بعض المجتمعات بشكل ملحوظ في تلك الفترة .
وتأسيسًا على ما أثبته العلم من تغيرات وتبدلات ترافق المرأة قُبيل وأثناء فترة الحيض يمكننا إدراك وجه الإعجاز التشريعي للقرآن حين عبَّر عن كل ذلك بلفظ واحد هو لفظ "الأذى" قال تعالى: { قل هو أَذىً } (البقرة:222) .
ويقال أيضًا: إنه يُمكن لكل من حباه الله قدرًا من الحس والآدمية، أن يدرك بوضوح أن الرغبة في إتيان المرأة وقت حيضها - والحالة على ما ذكرنا - إنما هي رغبة بهيمية شاذة، بل هي أدنى وأحط، إذ قد ثبت أن ذكور الحيوانات تتخير المواسم الفطرية الملائمة لقربان الأنثى، وعُلِمَ أيضًا أن الوطء فترة الحيض لا يمكن مطلقًا أن يُنتج حملاً؛ لأن عملية التبويض لا تكون إلا قبل الحيض بأسبوعين كاملين تقريبًا .
وفوق هذا وذاك، فإن الوطء أثناء الحيض هو في الحقيقة إدخال للجراثيم إلى الرحم في وقت تكون فيه الأجهزة الدفاعية لدى المرأة في حالة ضعف وخمول، بحيث لا تستطيع المقاومة المطلوبة، وإذا أضفنا إلى ما سبق أن وجود الدم في تلك الفترة يُعد عاملاً مساعدًا ومنشطًا لتكاثر الجراثيم ونموها، أدركنا وجه الإعجاز القرآني في تحريمه لقربان المرأة وقت المحيض .(1/155)
ولا يخفى عد كل ما تقدم أن إتيان المرأة في المحيض، لا يمثل مخالفة لما شرعه العليم الخبير فحسب، ولا يمثّلُ منافاة لما تقتضيه قواعد الذوق السليم والفطرة النقية كذلك، وإنما يُعَدُّ ارتكاسًا في حمأة موبوءة بالغة الإيذاء والضرر بالمرأة صحيًا ونفسيًا، ويعد كذلك إصرارًا على التردي في متاهات الجهالة والبدائية، وخاصة بعد أن قال العلم كلمته المحايدة في هذا الشأن، فهل من معتبر ؟!
وصدق الله القائل:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت:53) وقال تعالى : (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(يونس:32) .
3. الإعجاز الغيبي
ينقسم إلى :
** غيب الماضى :
لقد سمى الله سبحانه وتعالى الأخبار عن الأمم السابقة غيبا فمن هذه الأخبارعلى سبيل المثال:
قصة مريم ابنة عمران :
فقال تعالى : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ...... إلى قوله تعالى : ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ )(آل عمران : 35-44)
قصة نوح عليه السلام :
فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ .......إلى قوله تعالى :تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )(هود : 25-49)
قصة يوسف عليه السلام :(1/156)
فقال تعالى :( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ...... إلى قوله تعالى ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) (يوسف : 4-102)
قصة أصحاب الكهف :
فقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ....إلى قوله تعالى وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً )(الكهف : 9-25)
قصة موسى عليه السلام
فقال تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ....إلى قوله تعالى وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )(القصص : 7-46)
إن ورود أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية بهذا الشكل المفصل الدقيق فى القرآن الكريم دليل على أنه وحى من الله سبحانه وتعالى وليس من عند البشر .
** غيب الحاضر :(1/157)
يقصد بغيب الحاضر ماجرى فى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حوادث لم يحضرها ثم نزل القرآن الكريم متضمنا لها ومخبرا بحقيقة ماجرى ،ويؤخذ إلى جانب ذلك صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه حيث لم يكن له علم بما دار فى غيابه وماخطط وماجرى تنفيذه حتى أماط القرآن الكريم اللثام على هذه الأمور ، فالغاية الأساسية من الغيب الحاضر هو تأييد الدعوة والأخذ بيدها والسير بها على بينة من أمرها ، والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ )(المجادلة : 8)
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ) (آل عمران : 118)
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ )(الممتحنة : 1)(1/158)
وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)(البقرة : 204)
وقال تعالى : (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ )(المنافقون : 8)
** غيب المستقبل :
يقصد به ماذكره القرآن الكريم من حوادث ستقع سواء كان ذلك بتحديد مدة لوقوع هذه الحوادث كما حدد غلبة الروم ببضع سنين ، أو أطلق من غير تحديد للمدة الزمنية وهو الشأن فى أغلب الحالات ، ومن أمثلة ذلك :
قال تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ )(الروم : 2-4)
وقال تعالى عن الوليد بن المغيرة :( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً..... سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) (المدّثر : 11-26)
وقال تعالى عن أبى جهل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ..... كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) (العلق : 9-19)
وقال تعالى عن أبى لهب : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ..... فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) (المسد : 1-5)
فلو لم يكن القرآن الكريم من علام الغيوب والمحيط بالماضى والمستقبل لما صح ذلك فى كل ماأخبر به ، فلو آمن واحد من هؤلاء الثلاثة الذين دمغهم القرآن بالكفر ، وصار فى الأشقياء ذكرهم ، لأنطفأت شعلة الإسلام ولقامت الحجة على القرآن ومن جاء به .
وأى معجزة أبهر وأقهر من أمر لايكلف صاحبه أكثر من كلمة يقولها بلسانه ثم لايقولها ولاتسمح الحياة بأن يقولها ، أفلا يدل هذا جليا أن القرآن من عند خالق الحياة والممات ، والذى مصير كل شئ بيده ومآل كل أمر إليه .(1/159)
ولو ذهبنا نتتبع أخبار القرآن الكريم فى هذا الجانب من الغيب لطال بنا المسير ، وإنما نشير إلى جملة من الآيات الكريمة فى هذا الشأن فمن هذه الآيات :
قال تعالى : (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (المائدة : 67)
قال تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ )(القمر : 45)
قال تعالى :(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ) (الفتح : 27)
قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) ( النور : 55)
قال تعالى :(قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) (الفتح : 16)
إن ظاهرة الإخبار بالمغيبات فى القرآن الكريم وتصديق الوقائع لها وعدم تخلف الصدق عنها ولو فى جزئية بسيطة لدليل على أنه وحى ممن خلق الأرض والسماوات العلى أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون دلالة على صدقه .
4. الإعجاز العلمي
تعريف الإعجاز العلمي:هو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي،وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهكذا يظهر اشتمال القرآن أو الحديث على الحقيقة الكونية، التي يؤول إليها معنى الآية أو الحديث، ويشاهد الناس مصداقها في الكون، فيستقر عندها التفسير، ويعلم بها التأويل، كما قال تعالى: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (الأنعام:67).(1/160)
وقد تتجلى مشاهد أخرى كونية عبر القرون، تزيد المعنى المستقر وضوحاً وعمقاً وشمولاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوتى جوامع الكلم فيزداد بها الإعجاز عمقا وشمولاً، كما تزداد السنة الكونية وضوحا بكثرة شواهدها المندرجة تحت حكمها.
قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(فصلت : 53)
والحديث عن الإعجاز العلمى يحتاج إلى مجلدات ، ولكننا نكتفى بذكر بعضا من هذه المعجزات العلمية للقرآن الكريم ، وأدعوكم للبحث والإطلاع على المزيد لتقفوا على عظمة دستوركم ، المنزل من عند ربكم جل وعلا .
قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِيْنَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاْتِ وَ الأَرْضَ كَاْنَتَاْ رَتْقَاً فَفَتَقْنَاْهُمَاْ) ) الأنبياء:3)
لقد بلغ ذهول العلماء في مؤتمر الشباب الإسلامي الذي عقد في الرياض 1979م ذروته عندما سمعوا الآية الكريمة و قالوا: حقاً لقد كان الكون في بدايته عبارة عن سحابة سديمية دخانية غازية هائلة متلاصقة ثم تحولت بالتدريج إلى ملايين الملايين من النجوم التي تملأ السماء ،عندها صرح البروفيسور الأمريكي بالمر قائلاً: إن ما قيل لا يمكن بحال من الأحوال أن ينسب إلى شخص مات قبل 1400سنة لأنه لم يكن لديه تليسكوبات و لا سفن فضائية تساعد على اكتشاف هذه الحقائق فلا بد أن الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله وقد أعلن البروفيسوربالمر إسلامه في نهاية المؤتمر.
قال تعالى : ( وَ جَعَلْنَاْ مِنَ المَاْءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاْ يُؤْمِنُوْنَ ) (الأنبياء:30)
وقد أثبت العلم الحديث أن أي كائن حي يتكون من نسبة عالية من ا لماء و إذا فقد 25 بالمائة من مائه فإنه سيقضي نحبه لا محالة لأن جميع التفاعلات الكيماوية داخل خلايا أي كائن حي لا تتم إلا في وسط مائي. فمن أين لمحمد صلى الله عليه و سلم بهذه المعلومات الطبية ؟؟(1/161)
قال تعالى : ( وَ السَّمَاْءَ بَنَيْنَاْهَاْ بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوْسِعُوْنَ ) (الذاريات:47)
وقد أثبت العلم الحديث أن السماء تزداد سعة باستمرار فمن أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بهذه الحقيقة في تلك العصور المتخلفة؟ هل كان يملك تليسكوبات و أقماراً اصطناعية؟!! أم أنه وحي من عند الله خالق هذا الكون العظيم؟؟؟ أليس هذا دليلاً قاطعاً على أن هذا القرآن حق من الله ؟؟؟
قال تعالى : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِيْ لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاْ ذَلِكَ تَقْدِيْرٌ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْمِ ) (يس :38)
وقد أثبت العلم الحديث أن الشمس تسير بسرعة 43200 ميل في الساعة و بما أن المسافة بيننا وبين الشمس 92مليون ميل فإننا نراها ثابتة لا تتحرك و قد دهش بروفيسور أمريكي لدى سماعه تلك الآية القرآنية و قال إني لأجد صعوبة بالغة في تصور ذلك العلم القرآني الذي توصل إلى مثل هذه الحقائق العلمية التي لم نتمكن منها إلا منذ عهد قريب.
قال تعالى : ( وَ تَرَى الْجِبَاْلَ تَحْسَبُهَاْ جَاْمِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاْبِ صُنْعَ اللهِ الَّذِيْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (النمل:88)
كلنا يعلم أن الجبال ثابتات في مكانها ، و لكننا لو ارتفعنا عن الأرض بعيداً عن جاذبيتها وغلافها الجوي فإننا سنرى الأرض تدور بسرعة هائلة (100ميل في الساعة) و عندها سنرى الجبال و كأنها تسير سير السحاب أي أن حركتها ليست ذاتية بل مرتبطة بحركة الأرض تماماً كالسحاب الذي لا يتحرك بنفسه بل تدفعه الرياح ، و هذا دليل على حركة الأرض ،فمن أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بهذا ؟ أليس الله ؟؟
قال تعالى : ( وَأَرْسَلْنَاْ الرِّيَاْحَ لَوَاْقِحَ ) ) سورة الحجر:22)(1/162)
وهذا ما أثبته العلم الحديث إذ أن من فوائد الرياح أنها تحمل حبات الطلع لتلقيح الأزهار التي ستصبح فيما بعد ثماراً، فمن أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بأن الرياح تقوم بتلقيح الأزهار؟ أليس هذا من الأدلة التي تؤكد أن هذا القرآن كلام الله ؟؟؟
قال تعالى : ( كُلَّمَاْ نَضَجَتْ جُلُوْدُهُمْ بَدَّلْنَاْهُمْ جُلُوْدَاً غَيْرَهَاْ لِيَذُوْقُواْ الْعَذَاْبَ)( النساء:56)
وقد أثبت العلم الحديث أن الجسيمات الحسية المختصة بالألم و الحرارة تكون موجودة في طبقة الجلد وحدها، ومع أن الجلد سيحترق مع ما تحته من العضلات و غيرها إلا أن القرآن لم يذكرها لأن الشعور بالألم تختص به طبقة الجلد وحدها. فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه المعلومة الطبية ؟ أليس الله ؟؟
قال تعالى : ( يَخْلُقُكُمْ فِيْ بُطُوْنِ أُمَّهَاْتِكُمْ خَلْقَاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِيْ ظُلُمَاْتٍ ثَلاْثٍ ) (الزمر:6)
لم يكن محمد طبيباً ، و لم يتسن له تشريح سيدة حامل ، و لم يتلقى دروساً في علم التشريح و الأجنة ، بل و لم هذا العلم معروفاً قبل القرن التاسع عشر ، إن معنى الآية واضح تماماً وقد أثبت العلم الحديث أن هناك ثلاثة أغشية تحيط بالجنين و هي:
أولاً : الأغشية الملتصقة التي تحيط بالجنين و تتألف من الغشاء الذي تتكون منه بطانة الرحم و الغشاء المشيمي و الغشاء السلي و هذه الأغشية الثلاث تشكل الظلمة الأولى لالتصاقهاببعضها.
ثانياً : جدار الرحم و هو الظلمة الثانية.
ثالثاً:جدار البطن وهوالظلمة الثالثة .
فمن أين لمحمد محمد صلى الله عليه و سلم بهذه المعلومات الطبية ؟؟؟
قال تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ* أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) ( القيامة: 1-4)(1/163)
الآيات المباركة في مورد الاحتجاج والرد على بعض الجاحدين والمنكرين للبعث يوم القيامة فقدم القرآن دليلا حيا نعيشه اليوم: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) والبنان رؤوس أصابع اليد فقد صاغها الله سبحانه صياغة فريدة من حيث خطوطها وتشابكها بشكل متميز بين أفراد البشر جميعا حيث يختص كل منا بهذه الميزة في أصابعه وقد اكتشف ذلك العلم الحديث وبدأ يستفيد من ذلك في ضبط المحاكم والاعترافات أو تصويرها لضبط الجاني في المسائل الجنائية كالقتل والسرقة وما شابه ذلك .
فضل القرآن الكريم من القرآن والسنة
أولا : آيات وردت في فضل القرآن الكريم :
قال الله تعالى :( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (الإسراء : 9&10)
وقال تعالى (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام : 122)
وقال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (البقرة : 185)(1/164)
وقال تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) (الزمر :23)
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )(فصلت :41& 42)
وقال تعالى :(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ )(يونس : 1)
وقال تعالى :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ )(يونس : 57)
وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) (الفرقان : 1)
وقال تعالى: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (النمل:1&2)
وقال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام : 92)
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر : 29&30)
وقال تعالى (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف : 170)(1/165)
وقال تعالى ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (البقرة : 1&2)
وقال تعالى(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً )(الكهف : 109)
وقال تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) (القمر : 17)
وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (لقمان : 27)
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ) (النساء : 174)
ومن فضائله أنه كلام الله فقد قال سبحانه وتعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) (التوبة : 6)
ثانيا:أحاديث وردت فى فضل القرآن الكريم:
أهل القرآن هم أهل الله
- عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تعالى أهلين من الناس قالوا : يا رسول الله من هم ؟ قال : هم أهل القران أهل الله وخاصته)(صحيح الجامع (
- حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ((أخرجه مسلم)
صاحب القرآن يرتقى في درجات الجنة بقدر ما معه من الآيات :
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يقال لصاحب القران اقرأ و ارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) (صحيح الجامع)
القرآن يقدم صاحبه عند الدفن :(1/166)
حديث جابر رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول : أيهم أكثر أخذاً للقرآن ؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد (أخرجه البخاري)
نزول الملائكة والسكينة والرحمة للقرآن وأهله :
حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) (أخرجه مسلم)
(يتلون كتاب الله ويتدارسونه ) أي يتعاهدونه خوف النسيان .
مضاعفة ثواب قراءة الحرف الواحد من القرآن أضعافاً كثيرة :
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن : ألف حرف ولام حرف ، وميم حرف ((صحيح الجامع)
إكرام حامل القرآن فى الدنيا:
عن عامر بن واثلة أن نافع بن الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة. فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض ، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين" . ( رواه مسلم )
عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط )(صحيح الجامع)
(إن من إجلال الله ) أي تبجيله وتعظيمه ،
(غير الغالي فيه) الغلو التشديد ومجاوزة الحد
(والجافي عنه) أي وغير المتباعد عنه المعرض عن تلاوته وإحكام قراءته ومعرفة معانيه والعمل بما فيه .
وحملة القرآن هم الأئمة في الصلوات :(1/167)
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنُّة, فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرةَ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِلما .." صحيح ( رواه مسلم )
إكرام حامل القرآن حين ينشق عنه قبره يوم القيامة :
عن بُريدة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وإن القرآن يلقي صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرَّجُل الشاحب فيقول لهُ: هل تعرفُني؟ فيقول: ما أعرِفُكَ، فيقول: أنا صاحبُكَ القرآن الذي أظمأتُكَ في الهواجر و أسهرتُ ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيُعطى المُلك بيمنه والخُلد بشماله ويُوضَع على رأسه تاج الوقار ويُكسى والداه حُلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان: بِمَ كُسينا هذه؟ فيُقال: بِأَخْذ ولدِكُمَا القرآن, ثُم يقال لهُ: اقرأ واصعد في درجة الجنة وغُرفها فهو في صُعود ما دام يقرأ هزًا كان أو ترتيلاً" .
حديث أبى هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يجيء صاحب القرآن يوم القيامة ، فيقول : يا رب حله ، فيلبس تاج الكرامة . ثم يقول : يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ، ثم يقول : يا رب ارض عنه ، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة ( (صحيح الجامع)
وأخرج الحاكم في المستدرك من حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به ألبس يوم القيامة تاجًا من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس ويكسى والديه حلة لا تقوم بهما الدنيا فيقولان: بما كسينا هذا فيقال: بأخذ ولدكما القرآن".
خيركم من تعلم القرآن وعلمه :
حديث عثمان رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه ((أخرجه البخاري)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن(1/168)
قال طلحة بن مصرف : سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى ؟ فقال : لا . فقلت : كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية ؟ قال : أوصى بكتاب الله. أخرجه البخاري
قال الحافظ : قوله ( كيف كتب على الناس الوصية ) أو كيف ( أمروا بالوصية ) أي كيف يؤمر المسلمون بشيء ولا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لتلاء القرآن بالرحمة :
حديث ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً . فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة وقال : (رحمك الله إن كنت لأواهاً تلاء للقرآن) وكبر عليه أربعا)ً قال الترمذي : حديث حسن
فضيلة حافظ القرآن :
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ، ريحها طيب وطعمها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة ، لا ريح لها وطعمها حلو . ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ، ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ، ليس لها ريح وطعمها مر) أخرجه البخاري ومسلم
فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه :
حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام ، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده ، وهو عليه شديد فله أجران ( أخرجه البخاري ومسلم
أذِن الله تعالى لمن يتغنى بالقرآن :
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ماأذن الله لشئ ماأذن لنبى يتغنى بالقرآن) أخرجه البخارى ومسلم
معنى قوله ( أذِن ) استمع ، ومعنى قوله ( يتغنى بالقرآن ) تحسين الصوت
غبطة صاحب القرآن :(1/169)
عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناءالنهار ورجل آتاه الله مالاً فهوينفقه آناء الليل وآناء النهار) (البخارى ومسلم) الحسد المذكور في الحديث هو الغبطة
حفظ القرآن خير من متاع الدنيا:
عن عقبة بن عامر الجهني قال : (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين زهراوين بغير إثم بالله عز وجل ولا قطع رحم قالوا كلنا يا رسول الله قال فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين وإن ثلاث فثلاث مثل أعدادهن من الإبل). رواه أبو داود
فضائل متنوعة :
عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا قرأ بن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله وفي رواية أبي كريب يا ويلي أمر بن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار). رواه مسلم
الله تعالى يباهى بالمجتمعين على القرآن الملائكة :
عن أبي سعيد الخدري قال : (خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك قالوا والله ما أجلسنا إلا ذاك قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك قالوا والله ما أجلسنا إلا ذاك قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة). رواه مسلم
فضل قراءة القرآن في الصلاة(1/170)
• عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟" قلنا: نعم. قال: "فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان" . ( رواه مسلم )
= الخلفات: هي الحوامل من الإبل إلى أن يمضي عليها نصف أمدها ثم هي عشار والواحدة خلفة وعشراء.
فضائل تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه
- أثنى الله عز وجل على التالين لكتاب الله فقال: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ) (فاطر: 29-30) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ) رواه مسلم.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترُجَّة، ريحها طيب وطعمها طيب ) رواه البخاري ومسلم.
- ولاشك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه هو أكثر كمالاً لأنه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر على نفسه والنفع المتعدي إلى غيره، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ) رواه البخاري.
فضائل حفظ القرآن الكريم:
- ميّز الله عز وجل القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
- ولقد يسّر الله سبحانه وتعالى تلاوة القرآن وحفظه لعباده فقال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر: 17). فنجد الطفل الصغير والأعجمي وغيرهما، يقبل على حفظ القرآن، فييسر الله له ذلك، رغم أنه لا يعرف من العربية ولا الكتابة شيئاً .(1/171)
- ولقد حثّ الإسلام على حفظ شيء من القرآن ولو كان يسيراً، وأن يجتهد في الزيادة عليه، وشبّه النبي صلى الله عليه وسلم قلب الرجل الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن بالبيت الخرب الخالي من العمران، المهدم الأركان .. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه السيوطي.
فضائل أهل القرآن الكريم وتفضليهم على غيرهم :
أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الدائمين على تلاوة القرآن ودراسته، العاكفين على تدبر معانيه وتعلم أحكامه ، حتى سماهم أهل الله وخاصته .
- قال صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الحافظ العراقي والسيوطي.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ) رواه البخاري.
- وعن جابر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول : (أيهما أكثر أخذاً للقرآن ؟ فإن أُشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد) رواه البخاري.
فضائل ختم القرآن ، وفي كم يختم ؟
- يستحب اغتنام ختم القرآن والدعاء عقبه لأنه من مظان إجابة الدعاء.
- قال قتادة : "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا ". رواه الدارمي.
- وأما المدة التي يختم بها القرآن فتختلف باختلاف الأشخاص، ولكن ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة.
- عن مكحول قال: "كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك ".
- وكره العلماء أن يختم في أقل من ثلاث ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ) رواه أبو داود والترمذي وصححه.(1/172)
- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: (اقرأ القرآن في شهر ) قال: إني أجد قوة. قال: (اقرأه في عشر ) قال: إني أجد قوة. قال: (اقرأ في سبع ولا تزد على ذلك ) رواه البخاري ومسلم.
هجر القرآن الكريم
التحذير من هجره:
جاءت النصوص الكريمة من الكتاب والسنة ترشد الأمة إلى تعاهد القرآن بالتلاوة والتدبر، وتحذر كل الحذر من التقصير في حقِّه، أو هجران تلاوته والعمل به.
ولقد حكى الله عز وجل شكوى الرسول الله صلى الله عليه وسلم لربه هجران قومه للقرآن فقال سبحانه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان: 30).
وتوعّد الله سبحانه الذين يعرضون عنه فقال: (َقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً) (طه: 99-101) . ثم صوّر حالة ذلك المعرض يوم القيامة فقال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124).
أنواع هجر القرآن
1.هجر سماعه وتلاوته:
- لا يوجد على وجه البسيطة كتاب يحرم هجره، ويجب تعاهده وتلاوته إلا القرآن الكريم، فإن هذا من خصائصه التي لا يشاركه فيها أي كتاب.
- وقد أثنى الله عز وجل على الذين يتعاهدون كتاب ربهم بالتلاوة فقال: (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران: 113).
- وحتى لا يقع الناس في هجران القرآن، فقد بحث العلماء مسألة: في كم يقرأ القرآن، وقالوا: "يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوماً لا يقرأ فيها القرآن ".
2.هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه:
- يحرم هجر العمل بالقرآن الكريم، لأن القرآن إنما نزل لتحليل حلاله وتحريم حرامه والوقوف عند حدوده.(1/173)
فلا يجوز ترك العمل بالقرآن، فإن العمل به هو المقصود الأهم والمطلوب الأعظم من إنزاله.
3.هجر تحكيمه والتحاكم إليه:
- أنزل الله عز وجل كتابه الكريم حتى يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ونهاهم سبحانه عن تحكيم أو تحاكم إلى غير القرآن.
- فالقرآن الكريم هو دستور المسلمين، وهو الحكم فيما اختلفوا فيه من أمور دينهم ودنياهم، فلا يجوز هجره لابتغاء الحكم في غيره.
4.هجر تدبره وتفهمه وتعقل معانيه:
- تدبر القرآن الكريم وتعقل معانيه مطلب شرعي، دعا إليه القرآن وحثّت عليه السنة، وعمل به الصحابة والتابعون ومن بعدهم، قال تعالى:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص: 29). وقال أيضاً: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24). وعليه فلا يجوز هجر تدبره وتأمل معانيه وأحكامه.
5.هجر الاستشفاء به والتداوي به في أمراض القلوب والأبدان:
وردت نصوص كثيرة في أن القرآن الكريم شفاء، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 82). وقال: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء) (فصلت: 44).
وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم صور تطبيقية عديدة للتداوي بالقرآن، سواء كان دواء للأبدان، أو للنفوس . وهجر الاستشفاء بالقرآن خلاف السنة، فهو مذموم وممقوت.
وجميع هذه الأنواع من هجر القرآن واقعة بيننا ومتفشية فينا الآن. ومن صور هذا الهجران ما يلي:
- عدم قراءته. فمن منا يقرأ القرآن يوميا؟! إن القرآن مقسم إلى ثلاثين جزء، ومتوسط كل جزء عشرون صفحة. فهل من الصعب قراءة عشرين صفحة يوميا؟ إنه أمر لا يستغرق منك سوى نصف ساعة. إن قراءة الصحف اليومية تستغرق من المرء أكثر من ساعة يوميا، فهل قراءة تلك الصحف أهم من قراءة القرآن؟!!(1/174)
وسماع القرآن ... لقد استبدلناه بسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام والتمثيليات ومتابعة المباريات.
وأخلاقنا الآن في وادٍ وما ينادي به القرآن من التحلي بقويم الأخلاق في وادٍ آخر.
ونعرف حلاله وحرامه ولا نقف عندهما، بل نتفاخر بالتملص منهما، ونصف من يلتزم بهما بالسذاجة وقلة الخبرة.
وتعلمنا كيف نجادل لا لإثبات تعاليم ربنا ولكن لكي نتفلت منها، ونعمل بغيرها. ظننا أن التقدم الخادع الذي أحدثته الأمم من حولنا إنما مرجعه للتخلي عن الدين، فلما تخلينا عن ديننا انحرفنا وزغنا عن طريق التمكين.
التخلي عن التحاكم إليه في حياتنا وفي معاملاتنا.
تركنا فهم معانيه ومن ثم تدبر آياته، وأصبح معظم ما نعرفه عنه عكس المراد به.
تركنا تعلم لغته ولجأنا إلى لغات المستعمر، وأصبح تجنب الحديث باللغة العربية والرطانة بهذه اللغات مصدر فخر وإعزاز بيننا.
تركنا التداوي به ولجأنا إلى الاعتماد على الأسباب المادية فقط.(1/175)
إني لأعجب من أمة تهجر كتاب ربها وتُعرض عن سنة نبيها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟ إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض. إن التمكين الذي وعد به الله، والذي تحقق من قبل لهذه الأمة، كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل، الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن. إن الذين يحلمون بنزول النصر من الله لمجرد أننا مسلمون لواهمين. ذلك أن تحقق النصر له شروط. قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) (النور:55 ). كما أن ما بعد النصر له شروط. قال الله تعالى: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَو! ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ ) (الحج:41 ) فعودوا إلى كتاب ربكم تنالوا نصره في الدنيا وتدخلوا جنته في الآخرة.
آداب قارئ القرآن
ينبغي لقارئ القرآن أن يتأدب بالآداب التالية:
1.الإخلاص :
أن يريد بقراءته وجميع عباداته وجه الله عز وجل ، والتقرب إليه دون شيء آخر، من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند الناس، أو صرف وجوه الناس إليه، أو غير ذلك مما سوى التقرب إلى الله تعالى.
- قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة: 5).
- وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) رواه البخاري ومسلم.(1/176)
2.تعظيم القرآن وتكريمه:
يجب تعظيم القرآن الكريم وتنزيهه وصيانته وعدم الاستخفاف به، ومن مظاهر تعظيمه وتكريمه:
- اجتناب الضحك والحديث في أثناء القراءة، إلا كلاماً يضطر إليه .
- عدم مس المصحف لمن كان به حدث أكبر من جنابة أو حيض.
- عدم توسده.
- عدم بيعه لغير المسلم.
- عدم السفر به إلى بلاد الكفر إذا خيف وقوعه في أيدي من لا يراعي حرمته.
- منع المجنون والصبي الذي لا يميز من مسه مخافة انتهاك حرمته.
- إلى غير ذلك مما يتنافى مع حرمته وتعظيمه.
3. تعاهد القرآن وتكرار ختمه:
- يستحب الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته ، فقد قال تعالى مثنياً على من كان ذلك دأبه:
(يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ) (آل عمران: 113).
وقال صلى الله عليه وسلم (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ) رواه الدارمي الترمذي، وقال حسن صحيح .
- ويستحب إذا فرغ من ختم القرآن أن يشرع في أخرى عقيب الختمة، وكان ذلك دأب السلف الصالح.
4.تدبره وتفهمه وتعقل معانيه:
- ينبغي قراءة القرآن بالتدبر والتفهم، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص: 29).
- والمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض معانيه، فكان كالمرآة يرى بها ما حَسُن من فعله وما قَبُح، فما حذّره مولاه حَذِره، وما خوّفه به من عقابه خافه، وما رغّب فيه مولاه رَغِب فيه ورجاه.
- وقراءة القليل مع التدبر والتفكر فيه أفضل من قراءة الكثير من غير تدبر ولا تفكر. قال رجل لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث؟ فقال ابن عباس: لأَن أقرا البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إليّ من أن أقرأ كما تقول.
5.العمل به واتباع أوامره واجتناب نواهيه:
- إن المقصود الأهم من إنزال القرآن الكريم هو العمل به، وذلك باتباع ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه.(1/177)
- فلا يليق بالمسلم أن يقيم حروف القرآن، ويضِّيع أحكامه وحدوده. إنه بذلك يتعرّض لسخط الله وغضبه.
قال أنس رضى الله عنه: ربّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه.
6. تعليمه وإقراؤه للناس:
- تعليم القرآن لمن لا يعلمه من أفضل القربات والطاعات، وقد رتَّب الله عز وجل عليه الأجر الكثير، وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على معلِّم القرآن، وجعله خير الناس وأفضلهم، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ) رواه البخاري.
- وقد تسابق أهل الخير والصلاح إلى هذا الفضل ، فبنوا المدارس لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم، وأنفقوا الأموال الطائلة لتسهيل تعلم القرآن وحفظه على الناس، وتيسير سبله.
- وقد هيأ الله سبحانه وتعالى في كل عصر وفي كل مصر من يحمل لواء تعليم القرآن الكريم وتدريسه، مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9). وهذا مظهر من مظاهر حفظه.
آداب تلاوة القرآن
ينبغي لقارئ القرآن أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى فيراعي الأدب مع القرآن ومع كلامه سبحانه، فمن الآداب التي ينبغي مراعاتها وتعاهدها:
1. الطهارة:
- يستحب لمن أراد قراءة القرآن من ليل أونهار أن يتطهر لذلك وأن يستاك، لأن في ذلك تعظيماً للقرآن الذي هو كلام الله عز وجل، ولأن الملائكة تدنو منه عند تلاوته للقرآن.
- ويجوز له أن يقرأ من غير طهارة، لكن لايمس المصحف بل يقرأ من حفظه.
- أما الجنب والحائض فإنه يحرم عليهما قراءة القرآن، سواء كان آية أو أقل منها، ويرخص للحائض عند الضرورة، كخوف نسيان أو في مقام التعليم أن تقرأ القرآن وتحمله مع وجود حائل كالقفازين.
- ويباح للجنب أو الحائض إذا ظهرت عند عدم وجود الماء التيمم وقراءة القرآن والصلاة.
2. القراءة في مكان ملائم:(1/178)
- يستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار، وأفضل الأماكن المسجد، لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة. وتكره القراءة في مكان مستقذر، كأماكن قضاء الحاجة والمزابل ونحو ذلك.
- ويستحب عند القراءة أن يستقبل القبلة.
3. الاستعاذة والبسملة:
إذا أراد الشروع في القراءة فإنه يستحب له أن يستعيذ، لقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل: 98). أي: إذا أردت القراءة.
- وصفة الاستعاذة المختارة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ومن استعاذ بغيرها من الصيغ الواردة فجائز.
ويجهر بالاستعاذة إذا كان بحضرة من يسمعه، لأن الجهر بالتعوذ إظهار شعار القراءة، وحتى ينصت السامع للقراءة من أولها لئلا يفوته منها شيء.
- وإذا قطع القراءة أو فصلها بفاصل وطال استأنف الاستعاذة.
- وأن يقول بعدها: بسم الله الرحمن الرحيم
- ويستحب أن يحافظ على قراءة البسملة في أول كل سورة سوى براءة.
4. ومن آداب التلاوة:
حضور القلب، والخشوع والتدبر للمقروء.
- وأن يقرأ القرآن جالساً متخشعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً أو على فراشه أو على غير ذلك من الأحوال جاز وله أجر، ولكن ذلك خلاف الأَولى.
- ويستحب أن يُحضر قلبه الحزن عند القراءة وأن يتباكى، وأن يتأمل مافيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في ذلك، قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 23).
فإن لم يحضره حزن وبكاء، فليبك على فقد ذلك، فإنه من أعظم المصائب.(1/179)
- وقد ذم الله عز وجل من استمع القرآن فلم يخشع له قلبه فقال: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ). (النجم: 59-60) .
5. الترتيل والتجويد:
- يستحب للقارئ أن يرتل قراءته؛ لما فيه من التدبر والتفكر، ولأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيراً في القلب، قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً). (المزمل: 4).
- وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة جزأين في قدر ذلك الزمان بلا ترتيل .
- قال رجل لابن مسعود: "إني قرأت المفصل في ركعة ، فقال ابن مسعود: هذّاً كهَذّ الشّعر؟ لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين سورتين في كل ركعة ". متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
6. تحسين الصوت بالقرآن:
- يستحب تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها، فإن لم يكن حسن الصوت فليحسنه ما استطاع، قال صلى الله عليه وسلم: (زيِّنوا القرآن بأصواتكم ) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه.
- وقال البراء رضي الله عنه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون ، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه " رواه البخاري ومسلم.
- ويستحب طلب القراءة من حسن الصوت والإصغاء إليها ، قال ابن مسعود رضى الله عنه : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اقرأ عليَّ القرآن "فقلت " يارسول الله ، أقرأ عليك وعليك أُنزل، قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري ). رواه البخاري ومسلم.
وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يطلبون ممن صوته حسنٌ قراءة القرآن .
- وينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله عز وجل قد خصّه بخير عظيم، وليجعل مراده حين يقرأ للناس أن ينتبه أهل الغفلة من غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل، وينتهوا عما نهاهم، وبهذا ينتفع بحسن صوته وينتفع الناس به.
7. السجود عند آيات السجود:(1/180)
يسن للقارئ والمستمع أن يسجد للتلاوة كلما مرّ بسجدة، وسواء كان في الصلاة أو غيرها، فإنه بذلك يرضي رّبه عز وجل، ويغيظ عدّوه الشيطان.
فضل السجود :
= أحب الأعمال إلى الله حيث يُدخل صاحبه الجنة لما ثبت في صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال : لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قال : قلت : بأحب الأعمال إلى الله ، فسكت ثم سألته فسكت فسكت ثم سألته الثالثة ، فقال : سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة"
= مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة : لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي قال : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي : " سل " فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة . قال صلى الله عليه وسلم : " أو غير ذلك ؟ " قلت : هو ذاك ، قال : " فأعني على نفسك بكثرة السجود ".
= يرفع الله به الدرجات ، ويحط به السيئات : لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه سيئة "(رواه أبو داود)
= إذا سجد بن آدم اعتزل الشيطان يبكي ، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا قرأ بن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار".(أخرجه مسلم )
= أقرب ما يكون العبد من الله إذا سجد : لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أقرب ما يكون العبد من الله تعالى أن يكون ساجداًُ "(أخرجه مسلم )(1/181)
= وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة قالوا : وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق ، قال : أرأيت لو دخلت صبرة فيها خيل دهم بهم وفيها فرس أغر محجل أما كنت تعرفه فيها ؟ قال : بلى ، قال : " فإن أمتي يومئذ غر من السجود محجلون من الوضوء" (أخرجه أحمد والترمذى )
= ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود "(أخرجه البخارى ومسلم )
- وفي القرآن خمس عشرة سجدة هى :
)وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ( (الأعراف :205 )
)قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( (الرعد :16 )
)وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( (النحل :49 )
)قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ( (الإسراء :107-109)(1/182)
)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ( (مريم :58 )
)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ )(الحج :18(
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ((الحج :77 )
)وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَاوَزَادَهُمْ نُفُورا ((الفرقان :60)
)أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( (النمل :25 )
)إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( (السجدة :15)
)قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( (ص :24)(1/183)
)وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( (فصلت :37 )
)فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا )( النجم :62)
)وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ)(الانشقاق :21)
)كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ( (العلق :19)
ويستحب لمن يسجد للتلاوة: أن يسبح ثلاث مرات (سبحان ربي الأعلى ) ثم يقول: (اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين ) (رواه مسلم) .
- ويقول: (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً ، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود ). (رواه الترمذي ، وحسنه الألباني).
8. الدعاء عند التلاوة:
- يستحب للقارئ إذا مرّ بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مرّ بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب، أو يقول: اللهم إني أسألك العافية أو أسألك المعافاة من كل مكروه، أو نحو ذلك. وإذا مرّ بآية تنزيه لله تعالى نزّهه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أوجلت عظمة ربنا.
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة .. فقلت يركع عند المئة ، ثم مضى ، فقلت يصلي بها، ثم افتتح آل عمران فقرأها ، ثم افتتح النساء فقرأها ، يقرأ مترسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوّذ ) رواه البخاري.
تجويد القرآن
علم التجويد:
علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية ، وتجويد الحروف هو الإتيان بها جيدة اللفظ تطابق أجود نطق لها وهو نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غاية علم التجويد:
بلوغ الإتقان في تلاوة القرآن. أو هو: صون اللسان عن اللحن في تلاوة القرآن.
تعريف اللحن(1/184)
هو الخطأ والإنحراف والميل عن الصواب . وهو قسمان : اللحن الجلي واللحن الخفي
اللحن الجلي
وهو خطأٌ يطرأ على اللفظ فيُخِلُّ بعُرْفِ القراءة ومبنى الكلمة ، سواء أخلَّ بالمعنى أم لم يُخِلّ
-واللحن الجَلِيُّ قد يكون في الحروف ، أو الكلمات ، أو الحركات والسكنات
(أ) في الحروف : وله ثلاث صور
إبدالُ حرفٍ مكان حرف : مثال ذلك
إبدال الثاء من ( ثَيِّبات ٍ) بالسين ، وإبدال الضاد من ( فمن اضطُرّ َ) بالطاء .
زيادةُ حرفٍ على مبنى الكلمة : مثال ذلك :
يُقرأ : ( ولا تسألن ) والصواب: ( ولتُسْألُن َّ) ، ويُقرأ : ( فترميهم بحجارة ) والصواب : ( ترميهم بحجارة )
إنقاصُ حرفٍ من مبنى الكلمة : مثال ذلك :
يُقرأ : ( إذا جاءت الطَّامَة ) والصواب : ( فإذا جاءت الطَّامَةُ ) .
ويُقرأ: ( ولتموتن إلا وأنتم مسلمون ) والصواب : ( ولا تموتُنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون ) .
(ب) في الكلمات : وله ثلاث صور:
إبدالُ كلمةٍ بكلمة : مثال ذلك :
يُقرأ : ( والله غفورٌ رحيمٌ ) والصواب : ( والله غفورٌ حليمٌ ) .
ويُقرأ : ( إنك أنت العزيز الحكيم ) والصواب : ( إنك أنت العليمُ الحكيم ) .
زيادةُ كلمةٍ على الآية : مثال ذلك :
يُقرأ : ( أو تحرير رقبةٍ مؤمنة ) والصواب : ( أو تحريرُ رقبةٍ ) .
إنقاصُ كلمةٍ من الآية : مثال ذلك :
يُقرأ : ( ولله ما في السموات والأرض ) والصواب : ( ولله ما في السموات وما في الأرض )
(جـ) بالحركات والسكنات : مثال ذلك :
إبدالُ الضمةِ من : ( الحَمْدُ لله ) بفتحةٍ أو كسرة ، وإبدال السكون من : ( أَنْعَمْت َ) بفتحة .
واللَّحْنُ الجليُّ إذا حدث في سورة الفاتحة ، وأخل بالمعنى ، يُبطِل الصلاة .
أما إن لم يخل بالمعنى ، فلا يبطل الصلاة ، ولكن مع الإثم
بينما اللحن الجلي إذا حدث في غير سورة الفاتحة ، فلا يبطل الصلاة ، سواء أَخَلَّ بالمعنى أم لم يُخِلّ به ، إلا إذا كان مُتَعَمَّدَاً .
اللحن الخفي(1/185)
هو خَلَلٌ يطرأ على الألفاظ ، فيُخِلُّ بالعُرْفِ ولا يُخِلُّ بالمبنى ، سواء أخَلَّ بالمعنى أم لم يُخِلّ به ، وهو نوعان
نوعٌ يعرفه عامة القراء : مثل : ترك الإدغام في مكانه ، وترقيق المُفَخَّم ، وتفخيم المُرَقَّق ، ومَدُّ المقصور ، وقصر الممدود ... وغير ذلك مما يخالف قواعد التجويد . وهذا اللَّحْنُ مُحَرَّمٌ بالإِجمَاع .
نوعٌ لا يعرفه إلا المَهَرَة من المُقْرِئِين : مثل : تكرير الراءات ، وترعيد الصوت بالمد والغُنَّة ، وزيادة المد في مقداره أو إنقاصه .... وغير ذلك مما يُخِلُّ باللفظ ويَذْهَبُ بِرَوْنَقِهِ .
وهذا اللحن ليس بمُحَرَّم ٍ ؛ حيث إنه يحتاج إلى مهارة فائقة وذوق رفيع لا يتوفر عند الكثيرين ولكن ينبغي المجاهدة والتمرين لإتقانه .
واللحن الخفي قد يكون في الحركات ، أو الحروف :
أ) في الحركات : مثال ذلك :
- نُطْقُ الضمة التي بعدها سكون حركةً بين الضمة والفتحة ، كما في : ( كُنْتُمْ ، آمَنْتُمْ ) .
ولتلافي ذلك لابد من مُرَاعَاة ضم الشفتين عند كل ضمة بعدها سكون .
في الضمة التي بعدها واو ، فرغم أنهما متجانسان ، غير أن الواو أقوى من الضمة ، فتأكلها كلها أو بعضها ، كما في : ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِيْن ) لذلك يلزم تحقيق ضمة الدال من غير إشباع ؛ حتى لا تأكلها أو بعضها " الواو" وحتى لا يتولد بعدها واو مَدِّيَّة .
ب) في الحروف : مثال ذلك:
-أَكْلُ بعض الحروف إذا توالى الحرف ، سواء كان بكلمة واحدة كما في : ( تَتَمَارَى ) أو في كلمتين كما في : ( فَصَلِّ لِرَبِكَ ، كَيْفَ فَعَل ) .
- إشباع الحركات بحيث يتولد حرف مَدٍّ زائد حيث:
تَتَوَلَّدُ بعد الفتحة ألف ، كما في : ( بثّ ) فتصبح : ( بثا ) ، و( تلك ) فتصبح : ( تلكا ) .. وهكذا .
أو تَتَوَلَّدُ بعد الكسرة ياء ، كما في : ( مالكِ ) فتصبح : ( مالكي ) ...... وهكذا .(1/186)
أو تَتَوَلَّدُ بعد الضمة واو ، كما في : ( وينشرُ ) فتصبح : ( وينشرو ) ..... وهكذا
......
إن تجويد القرآن أمر هام جداً لمن يقرأ القرآن ، وليس كل عارف باللغة العربية يستطيع قراءة القرآن قراءة صحيحة.. فقراءة القرآن لها قواعد معينة خاصة جداً ، لا تُطبق إلا مع كتاب الله عز وجل.. والله عز وجل يريد منا أن نقرأ القرآن كما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قرأه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سمعه من جبريل عليه السلام، وقرأه الصحابة كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وما زال هذا العلم العظيم يُتوارث من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا، وسيبقى محفوظاًإن شاء الله إلى يوم القيامة..
وتجويد القرآن يعين على حفظه، فالجرس الخاص جداً للقرآن الكريم يثبته في القلب، وعلى المسلم الراغب في حفظ القرآن أن يتعلم هذه القواعد حتماً وبسرعة، وذلك لأنه من الصعب عليه جداً تغيير ما حفظ من القرآن بعد أن أتم حفظه، فلو حفظ بقواعد تجويد خاطئة لاستمر حفظه على هذه الصورة..
وحفظ القرآن بالتجويد المتقن له أجر عظيم من الله عز وجل، ولابد أن يبذل المتعلم للقرآن الجهد والوقت لتعلم قواعد التجويد..حتى وإن كان هذا الأمر شاقاً عليه جداً.. فكل محاولة للتعلم تزيد في أجر المؤمن.. استمع إلى ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ) ولفظ البخاري: "وهو حافظ له"..
وقال النووي رحمه الله: الماهر بالقرآن أي الحاذق الكامل الحفظ، والسفرة هم الرسل، إما من الملائكة وإما من البشر ، وكلاهما عظيم..(1/187)
ولابد من الإشارة أن تعلم قواعد التجويد لابد أن تكون عن طريق التلقي من حافظ متقن لقواعد التلاوة والتجويد، ومن المستحيل الاكتفاء في تعلمها بالكتب أو أشرطة الكاسيت.. ولكن لابد من السماع من معلم أولاً، ثم بعد ذلك يمكن الاستعانة بأشرطة الكاسيت ، وبأقراص الكمبيوتر المُعلمة ، وبسماع القرآن الكريم ، وبكتب التجويد ، وغيرها من وسائل التعليم..
وهنا يجدر بنا أن نذكر الآباء أن ينفقوا الوقت والمال في إحضار معلمين لأولادهم يحفظونهم القرآن الكريم في طفولتهم، ويستغلون هذه الفترة العظيمة في حياة الأطفال حيث الذاكرة القوية، والذهن المتفتح، كما أنه لا يخفى على الآباء المسلمين الفائدة التربوية العظيمة لتربية الطفل على حفظ كتاب الله عز وجل..
الأدلة على وجوب التجويد :
من الكتاب الكريم:
1- قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) (المزمل :4). وترتيل القرآن لا يكون بغير تعلم التجويد وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه .
2- قوله تعالى: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)(البقرة:121). إذا فهناك من يتلون القرآن حق التلاوة وهناك من يتلوه دون ذلك.
3- قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)(المزمل :20)
4- قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ)(القيامة :17&18)
5- قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(النمل :6)
6- قوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) (فصلت :44)
7- قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9)
8- قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)(الكهف:1)(1/188)
9- قوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)(النساء:46)
10- قوله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(الأنعام :19)
كل هذه الآيات من كتاب الله تدل دلالة واضحة على أن الله عز وجل أنزل القرآن وبيّن أحكام التلاوة، فهي وحي من الله. ولا يزال عمل القراء من لدن نزوله إلى يومنا هذا على مراعاة هذه الأحكام؛ تلقوها من أفواه المشايخ والعلماء جيلا بعد جيل في أكبر تواتر عرفته الدنيا.
الأدلة من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران) (رواه أحمد وأبو داود و صححه الألباني)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر وعمر بشراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) (رواه ابن ماجة وصحّحه الألباني)
وعن علي رضي الله عنه في قوله تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) قال: الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف .
مراتب القراءة الصحيحة:
1- التحقيق: لغة: هو المبالغة في الإتيان بالشيء على حقيقته من غير زيادة فيه ولا نقص عنه، فهو بلوغ حقيقة الشيء والوقوف على كنهه، والوصول إلى نهاية شأنه.
واصطلاحا: إعطاء الحروف حقها من إشباع المد وتحقيق الهمز وإتمام الحركات وتوفية الغنات وتفكيك الحروف وهو بيانها، وإخراج بعضها من بعض بالسكت والتؤدة، والوقف على الوقوف الجائزة والإتيان بالإظهار والإدغام على وجهه.
2- الحدر: لغة: مصدر من حَدَرَ يُحدر إذا أسرع، أو هو من الحدر الذي هو الهبوط، لأن الإسراع من لازمه.
واصطلاحا: إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة أحكام التجويد من إظهار وإدغام وقصر ومد، ومخارج وصفات.
3- التدوير: فهو عبارة عن التوسط بين مرتبتي التحقيق والحدر(1/189)
4- الترتيل: لغة: مصدر من رتل فلان كلامه، إذا أتبع بعضه بعضا على مكث وتفهم من غير عجله.
واصطلاحا: هو قراءة القرآن بتمهل وتؤدة واطمئنان وإعطاء كل حرف حقه من المخارج والصفات والمدود.
صفة تلاوة النبي عليه الصلاة والسلام
إن مما يجدر بكل قارئٍ للقرآن الكريم أن تكون قراءته للقرآن الكريم أشبه ما تكون بقراءة النبي عليه الصلاة والسلام ، فهو قدوتنا في كل العبادات ،وقد تلقَّى النبي عليه الصلاة والسلام جميع كلمات القرآن الكريم وآياته وسوره عن جبريل عليه السلام عن ربِّه عزوجل ، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ*نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمنذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين)(الشعراء: 193-195).
وكان للنبي عليه الصلاة والسلام حزب من القرآن يقرؤه ، وكانت قراءته ترتيلاً ، وكان عليه الصلاة والسلام يعطي الحروف حقَّها على الأصول الصحيحة ، فلم تكن قراءته عجلة ولم تكن أيضاً بطيئة جداً ، بل كانت معتدلة كأفضل ما تكون القراءة.. كانت قراءته عليه الصلاة والسلام مفسرةً حرفاً حرفاً ، وروي ذلك أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها كما كان يُقطِّع القراءة ويقف عند كل آية فيقول مثلاً: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)ويقف ، ثم يقول (الرَّحْمنِ الرَّحِيم) ويقف ، ثم يقول: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ويقف ، ثم يقول:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ويقف ، ثم يقول:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُستَقِيمَ) إلى آخر ما كان يقرأ عليه الصلاة والسلام.. وهكذا.(1/190)
وقد روى الزهري أن قراءة النبي عليه الصلاة والسلام كانت آية آية ، وروى ذلك أيضاً البيهقي في (شعب الإيمان) وروى غيره كثيرون ممن رجحوا الوقف على رؤوس الآيات ما أمكن إلا أن يختل المعنى أو ينقلب فعندها لا يجوز الوقوف ، كما في قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ) لأن الوقوف عند هذه الآية يشوِّه المعنى ويَقْلِبُه بل يجب عليه أن يُكْمِله بالآية التي بعدها وهي: (الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)(الماعون: 4&5) ليتم المعنى.
وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن ، كان يحب أن يسمعه من غيره ، وفي كلٍ من قراءته واستماعه كان أحياناً يذرف الدمع من عينيه إجلالاً لربه واستشعاراً لعظمته ، وإشفاقاً على أمته ، وقد طلب النبي عليه الصلاة والسلام من ابن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه شيئاً من القرآن ، فقال: أأقرأُ عليك وعليك أُنزل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إنِّي أحب أن أسمعه من غيري). فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا بلغ قول الله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً)(النساء:41) بكى النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذرفت عيناه الدموع ، وقال: (حسبك الآن). رواه البخاري.
وكان رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يذكر الله تعالى ويقرأ القرآن في جميع أحيانه وأحواله ، فكان يقرأ القرآن قائماً وقاعداً ومضجعاً ومتوضئاً ومحدثاً ، ولم يكن يمنعه شيء من قراءة القرآن إلا الجنابة ، وسئلت سيدتنا عائشة رضي الله عنهاعن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكان يُسِرُّ أم يَجْهَرُ ؟ فقالت: كان كل ذلك يفعل.
وقد سئل أنس بن مالك رضي الله عنه كيف كانت قراءة النبي عليه الصلاة والسلام ؟
قال: كان يَمُدُّ مدَّاً ، أي: يطيل الحروف الصالحة للإطالة ، ليستعين بها على التدَبُّر والتذكر وتذكير من يَتَذَكَّر. رواه البخاري.(1/191)
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ في العشاء: (والتين والزيتون) ، فما سمع أحداً أحسن صوتاً منه. رواه البخاري.
القواعد الذهبية لحفظ القرآن الكريم
القرآن كتاب الله الخالد المعجز المنزل على عبده ورسوله وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم والذي أذن الله بحفظه من أن يغير أو يبدل، أو يزاد فيه، أو ينقص منه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر : 9) وهو الكتاب الذي بين أيدينا في مشارق الأرض ومغاربها، الكتاب الذي تلقاه الرسول من جبريل، وجبريل من رب العزة تبارك وتعالى، والذي علمه رسوله الله إلى أصحابه الأطهار، وحمله الدين السفرة البررة الكرام، والذي جمعه الصديق بإشارة الفاروق، ودونه ذو النورين عثمان، وأجمعت الأمة المسلمة عليه.
هذا الكتاب هو دستور المسلمين وشريعتهم وصراطهم المستقيم، وحبل الله المتين، وهدايته الدائمة وموعظته إلى عباده، آية صدق رسوله الباقية إلى آخر الدنيا، وهو سبيل عز المسلمين في كل العصور والدهور، ولما كان القرآن كذلك تعبدنا الله بتلاوته، وجعل خيرنا من تعلمه وعلمه .
قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).رواه البخارى
قال صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران). رواه مسلم
وأن قارئ القرآن الحافظ له يقال له يوم القيامة: (اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) (رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع .
فلا يزال يرقى في منازل الجنة حتى ينتهي آخر حفظه، وهذه منزلة عظيمة ليست لأحد إلا لحافظ القرآن.(1/192)
ولما كان هذا فضل حفظ القرآن فإني أحببت أن أضع بين يدي إخواني بعض القواعد العامة التي تساعدهم في حفظ القرآن ولينالوا هذه المنزلة العظيمة أو بعضهاً منها، وما لا يدرك كله فلا يترك كله، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
القاعدة الأولى: الإخلاص:
وجوب إخلاص النية، وإصلاح القصد، وجعل حفظ القرآن والعناية به من أجل الله سبحانه وتعالى والفوز بجنته وحصول مرضاته، ونيل تلك الجوائز العظيمة لمن قرأ القرآن وحفظه، قال تعالى: ( َاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) (الزمر : 2&3). وقال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) (الزمر : 11) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) (رواه مسلم)
فلا أجر ولا ثواب لمن قرأ القرآن وحفظه رياء أو سمعة، ولا شك أن من قرأ القرآن مريداً الدنيا طالباً به الأجر الدنيوي فهو آثم.
القاعدة الثانية: تصحيح النطق والقراءة:
أول خطوة في طريق الحفظ بعد الإخلاص هو وجوب تصحيح النطق بالقرآن، ولا يكون ذلك إلا بالسماع من قارئ مجيد أو حافظ متقن، والقرآن لا يؤخذ إلا بالتلقي، فقد أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب لساناً من جبريل شفاهاً، وكان الرسول نفسه يعرض القرآن على جبريل كل سنة مرة واحدة في رمضان، وعرضه في العام الذي توفي فيه عرضتين. (متفق عليه)
وكذلك علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه شفاهاً وسمعه منهم بعد أخذ القرآن مشافهة من قارئ مجيد، وتصحيح القراءة أولاً بأول، وعدم الاعتماد على النفس في قراءة القرآن حتى لو كان الشخص ملماً بالعربية وعليماً بقواعدها، وذلك إن في القرآن آيات كثيرة قد تأتي على خلاف المشهور من قواعد العربية.
القاعدة الثالثة: تحديد نسبة الحفظ كل يوم:(1/193)
يجب على مريد حفظ القرآن أن يحدد ما يستطيع حفظه في اليوم: عدداً من الآيات مثلاً، أو صفحة أو صفحتين من المصحف أو ثمناً للجزء وهكذا، فيبدأ بعد تحديد مقدار حفظه وتصحيح قراءته بالتكرار والترداد، ويجب أن يكون هذا التكرار مع التغني، وذلك لدفع السآمة أولاً، وليثبت الحفظ ثانياً. وذلك أن التغني بإيقاع محبب إلى السمع يساعد على الحفظ، ويعود اللسان على نغمة معينة فتتعرف بذلك على الخطأ رأساً عندما يختل وزن القراءة والنغمة المعتادة للآية، فيشعر القارئ أن لسانه لا يطاوعه عند الخطأ، وأن النغمة اختلت فيعاود التذكر، هذا إلى جانب أن التغني بالقرآن فرض لا يجوز مخالفته لقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) (رواه البخاري)..
القاعدة الرابعة: لا تجاوز مقررك اليومي حتى تجيد حفظه تماماً:
لا يجوز للحافظ أن يتنقل إلى مقرر جديد في الحفظ إلا إذا أتم تماماً حفظ المقرر القديم وذلك ليثبت ما حفظه تماماً في الذهن، ولا شك إن ما يعين على حفظ المقرر أن يجعله الحافظ شغله طيلة ساعات النهار والليل، وذلك بقراءته في الصلاة السرية، وإن كان إماماً ففي الجهرية، وكذلك في النوافل، وكذلك في أوقات انتظار الصلوات، وفي ختام الصلاة، وبهذه الطريقة يسهل الحفظ جداً ويستطيع كل أحد أن يمارسه ولو كان مشغولاً بأشغال كثيرة لأنه لن يجلس وقتاً مخصوصاً لحفظ الآيات وإنما يكفي فقط تصحيح القراءة على القارئ، ثم مزاولة الحفظ في أوقات الصلوات، وفي القراءة في النوافل والفرائض وبذلك لا يأتي الليل إلا وتكون الآيات المقرر حفظها قد ثبتت تماماً في الذهن، وإن جاء ما يشغل في هذا اليوم فعلى الحافظ ألا يأخذ مقرراً جديداً بل عليه أن يستمر يومه الثاني مع مقرره القديم حتى يتم حفظه تماماً.
القاعدة الخامسة: حافظ على رسم واحد لمصحف حفظك:(1/194)
مما يعين تماماً على الحفظ أن يجعل الحافظ لنفسه مصحفاً خاصاً لا يغيره مطلقاً وذلك أن الإنسان يحفظ بالنظر كما يحفظ بالسمع، وذلك أن صور الآيات ومواضعها في المصحف تنطبع في الذهن مع كثرة القراءة والنظر في المصحف فإذا غير الحافظ مصحفه الذي يحفظ فيه، أو حفظ من مصاحف شتى متغيرة مواضع الآيات فإن حفظه يتشتت، ويصعب عليه الحفظ جداً، ولذلك فالواجب أن يحافظ حافظ القرآن على رسم واحد للآيات لا يغيره.
القاعدة السادسة: الفهم طريق الحفظ:
من أعظم ما يعين على الحفظ فهم الآيات المحفوظة ومعرفة وجه ارتباط بعضها ببعض.
ولذلك يجب على الحافظ أن يقرأ تفسيراً للآيات التي يريد حفظها، وأن يعلم وجه ارتباط بعضها ببعض، وأن يكون حاضر الذهن عند القراءة وذلك لتسهل عليه استذكار الآيات، ومع ذلك فيجب أيضاً عدم الاعتماد في الحفظ على الفهم وحده للآيات بل يجب أن يكون الترديد للآيات هو الأساس، وذلك حتى ينطلق اللسان بالقراءة وإن شت الذهن أحياناً عن المعنى وأما من اعتمد على الفهم وحده فإنه ينسى كثيراً، وينقطع في القراءة بمجرد شتات ذهنه، وهذا يحدث كثيراً وخاصة عند القراءة الطويلة.
القاعدة السابعة: لا تجاوز سورة حتى تربط أولها بآخرها:
بعد تمام سورة ما من سور القرآن لا ينبغي للحافظ أن ينتقل إلى سورة أخرى إلا بعد إتمام حفظها تماماً، وربط أولها بآخرها، وأن يجري لسانه بها بسهولة ويسر، ودون إعناء فكر وكد في تذكر الآيات، ومتابعة القراءة، بل يجب أن يكون الحفظ كالماء، ويقرأ الحافظ السور دون تلكؤ حتى لو شت ذهنه عن متابعة المعاني أحياناً، كما يقرأ القارئ منا فاتحة الكتاب دون عناء أو استحضار، وذلك من كثرة تردادها، وقراءتها، ومع أن الحفظ لكل سور القرآن لن يكون كالفاتحة إلا نادراً، ولكن القصد هو التمثيل، والتذكير بأن السورة ينبغي أن تكتب في الذهن وحدة مترابطة متماسكة، وألا يجاوزها الحافظ إلى غيرها إلا بعد اتقان حفظها.(1/195)
القاعدة الثامنة: التسميع الدائم:
يجب على الحافظ ألا يعتمد على حفظه بمفرده، بل يجب أن يعرض حفظه دائماً على حافظ آخر، أو متابع في المصحف، حبذا لو كان هذا مع حافظ متقن، وذلك حتى ينبه الحافظ بما يمكن أن يدخل في القراءة من خطأ، وما يمكن أن يكون مريد الحفظ قد نسيه من القراءة وردده دون وعي، فكثير ما يحفظ الفرد منا السورة خطأ، ولا ينتبه لذلك حتى مع النظر في المصحف لأن القراءة كثيراً ما تسبق النظر، فينظر مريد الحفظ المصحف ولا يرى بنفسه موضع الخطأ من قراءته، ولذلك فيكون تسميعه القرآن لغيره وسيلة لاستدراك هذه الأخطاء، وتنبيهاً دائماً لذهنه وحفظه.
القاعدة التاسعة: المتابعة الدائمة:
يختلف القرآن في الحفظ عن أي محفوظ آخر من الشعر أو النثر، وذلك أن القرآن سريع الهروب من الذهن، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها) (متفق عليه)
فلا يكاد حافظ القرآن يتركه قليلاً حتى يهرب منه القرآن وينساه سريعاً، ولذلك فلا بد من المتابعة الدائمة والسهر الدائم على المحفوظ من القرآن، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت) (متفق عليه) وقال أيضاً: (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها) (متفق عليه)
وهذا يعني أنه يجب على حافظ القرآن أن يكون له ورد دائم أقله جزء من الثلاثين جزءاً من القرآن كل يوم، وأكثره قراءة عشرة أجزاء لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه القرآن في أقل من ثلاث) (رواه أبو داود بهذا اللفظ، وأصله في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو)
وبهذه المتابعة الدائمة، والرعاية المستمرة يستمر الحفظ ويبقى، ومن غيرها يتفلت القرآن.
القاعدة العاشرة: العناية بالمتشابهات:(1/196)
القرآن متشابه في معانيه وألفاظه وآياته. قال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله).
وإذا كان القرآن فيه نحواً من ستة آلاف آية ونيف فإن هناك نحواً من ألفي آية فيها تشابه بوجه ما قد يصل أحياناً حد التطابق أو الاختلاف في حرف واحد، أو كلمة واحدة أو اثنتين أو أكثر.
لذلك يجب على قارئ القرآن المجيد أن يعتني عناية خاصة بالمتشابهات من الآيات، ونعني بالتشابه هنا التشابه اللفظي، وعلى مدى العناية بهذا المتشابه تكون إجادة الحفظ، ويمكن الاستعانة على ذلك بكثرة الاطلاع في الكتب التي اهتمت بهذا النوع من الآيات المتشابهة
القاعدة الحادية عشر: اغتنم سني الحفظ الذهبية:
الموفق حتماً من اغتنم سنوات الحفظ الذهبية من سن الخامسة إلى الثالثة والعشرين تقريباً فالإنسان في هذه السن تكون حافظته جيدة جداً بل هي سنوات الحفظ الذهبية فدون الخامسة يكون الإنسان دون ذلك وبعد الثالثة والعشرون تقريباً يبدأ الخط البياني للحفظ بالهبوط ويبدأ خط الفهم والاستيعاب في الصعود، وعلى الإنسان أن يستغل سنوات الحفظ الذهبية في حفظ كتاب الله أو ما استطاع من ذلك. والحفظ في هذا السن يكون سريعاً جداً، والنسيان يكون بطيئاً جداً بعكس ما وراء ذلك حيث يحفظ الإنسان ببطء وصعوبة، وينسى بسرعة كبيرة ولذلك صدق من قال: "الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، والحفظ في الكبر كالنقش على الماء"..
فعلينا أن نغتنم سنوات الحفظ الذهبية، إن لم يكن في أنفسنا ففي أبنائنا وبناتنا.
أخي الحبيب:
لي عندك أمنيات ثلاث:
** أن تبدأ في الحفظ من اليوم، وليس من الغد، وإياك من كلمة "سوف".(1/197)
** أن تنشر هذا الذي عرفت ، فكما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ).
** إذا وفقك الله للحفظ فلا تنساني من دعوة بظهر الغيب! وسوف تنال من الله مثل ما تدعو لي به مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم عن عويمر بن مالك رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ ، وَلَكَ بِمِثْلٍ).
ادع الله أن يغفر لي ولك ولعامة المسلمين، وأن يجعل القرآن العظيم حجة لنا لا علينا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، على الوجه الذي يرضيه عنا، وأن يجعل القرآن العظيم شفيعاً لنا يوم القيامة، ودليلاً لنا إلى جنة الرحمن..
بعض الأسباب التى تمنع الحفظ وتعين على النسيان:
** كثرة الذنوب والمعاصى فإنها تنسى العبد القرآن وتنسيه نفسه وتعمى قلبه عن ذكر الله وتلاوة وحفظ القرآن .
قال الإمام الشافعى :
شكوت لوكيع سوء حفظي *** فارشدني إلى ترك المعاصي
واخبرني ان العلم نوراَ *** ونور الله لا يهدى لعاصي
** عدم المتابعة والمراجعة الدائمة والتسميع لما حفظه من قرآن .
** الإهتمام الزائد بأمور الدنيا يجعل القلب معلقا بها وبالتالى يقسو القلب ولايستطيع أن يحفظ بسهولة.
** حفظ آيات كثيرة فى وقت قصير والإنتقال إلى غيرها قبيل إتقانها .
** الحماس الزائد للحفظ فى البداية مما يجعله يحفظ كثيرا دون إتقان ، ثم إذا وجد نفسه غير متقن فتر عن الحفظ وتركه .
وذكر ابن كثير فى تفسيره لقول الله تعالى : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ )(الشورى : 30)(1/198)
عن الضحاك قال : مانعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب وأى مصيبة أكبر من نسيان القرآن ؟؟؟
أنواع النسيان للقرآن :
1- نسيان تفريط : سببه عدم التعاهد للقرآن .
2- نسيان الهرم : سببه كبر السن والشيخوخة .
3- نسيان بسبب المتشابهات : سببه عدم التركيز الجيد فى حفظ المتشابهات .
علاج نسيان القرآن الكريم
1- اللجوء إلى الله سبحانه و تعالى بالدعاء و التضرع إليه أن يلزم قلبك حفظ كتابه و
العمل به على الوجه الذي يرضيه عنك
2- اخلص النية إلى الله تعالى و تعبد ربك بتلاوته
3- اعزم على العمل به بفعل أوامره و أجتناب نواهيه
4- اجعل لك حزباً تقرأه كل يوم بمقدار حفظك , فمثلا إذا كنت حافظ للقرآن كاملا فأقل
ما تقرأه في اليوم جزءاً و حسن صوتك به
5- اعمل بأمر هذه الآية و هئ نفسك للثمرة ..قال تعالى :( َاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(البقرة : 282)
6- احذر من :
أ- العجب و الرياء
ب- أكل الحرام و المتشابه
ج- الإستهزاء بالآخرين ممن لا يحفظ أو لا يعرف يقرأ
د- االمعاصي و الذنوب كبيرها و صغيرها
هـ- ترك المداومة و التعهد بقراءته و لو بأصعب الظروف و لو حصل مثل ذلك فبادر
بالقضاء.
7- الذى يمسك بالمصحف ليحفظ وعقله مشغول هنا وهناك فلا يمكن أن يثبت الحفظ فى ذاكرته ولابد من الحضور الذهنى الدائم أثناء الحفظ .
8- بالصورة المرئية وبالصوت المسموع يتم عملية التخزين فى الذاكرة العميقة أيضا
قال العلماء : أفضل شئ لتثبيت الحفظ المراجعة والتعاهد الدائم للقرآن .
أسأل الله أن يحببك للقرآن و يحبب القرآن إليك و أن يجعله في السويداء من قلبك
حافظاً له عاملاً به مؤنساً.
رمضان والقرآن
تنزل كريم :(1/199)
في ليلة السابع عشر من رمضان و النبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره أذن الله عز وجل للنور أن يتنزل ، فإذا جبريل عليه السلام آخذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له : اقرأ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ ! قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ! فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ! فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ،وهكذا نزلت أول آية من هذا الكتاب العظيم على النبي الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر العظيم.
وهكذا شهدت أيامه المباركة اتصال الأرض بالسماء ، و تنزل الوحي بالنور و الضياء ، فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت ظلمات الجاهلية الجهلاء .
إنها تلك " الليلة الموعودة التي سجلها الوجود كله في فرح و غبطة و ابتهال ، ليلة الاتصال بين الأرض و الملأ الأعلى ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته و في دلالته و في آثاره في حياة البشرية جميعا ، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري ... قال تعالى :(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان:3 ـ5)(1/200)
ومن النصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود ، نور الله المشرق في قرآنه(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، و نور الملائكة و الروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض و الملأ الأعلى (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) و نور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي و نور الملائكة (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)
وأي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن ؟ نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا )(الكهف : 1)
وهكذا إذن ، شهد شهر رمضان هذا النزول الفريد لكتاب الله ، و من يوم ذاك ارتبط القرآن بشهر رمضان
قال تعالى :(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة:185)
ومن يوم ذاك أصبح شهر رمضان هو شهر القرآن .
إكثار و اجتهاد :
عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة (البخاري و مسلم)
قال الإمام ابن رجب : دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك ، و عرض القرآن على من هو أحفظ له و فيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان ، وفي حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة و أنه عارضه في عام وفاته مرتين ( البخاري و مسلم)(1/201)
قال رحمه الله : و في حديث ابن عباس أن المدارسة بينه و بين جبريل كانت ليلا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا فإن الليل تنقطع فيه الشواغل و يجتمع فيه الهم ، و يتواطأ فيه القلب و اللسان على التدبر كما قال تعالى(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (المزمل:6)
وقد كان للسلف رحمهم الله اجتهاد عجيب في قراءة القرآن في رمضان بل لم يكونوا يشتغلون فيه بغيره ، كان الزهري إذا دخل رمضان يقول : إنما هو قراءة القرآن و إطعام الطعام
قال ابن الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم ، قال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن.
وفي رمضان يجتمع الصوم و القرآن ، وهذه صورة أخرى من صور ارتباط رمضان بالقرآن ، فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان ، يشفع له القرآن لقيامه ، و يشفع له الصيام لصيامه ، قال صلى الله عليه وسلم : (الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، و يقول القرآن : رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)(رواه أحمد )
وعند ابن ماجه عن ابن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول : أنا الذي أسهرت ليلك و أظمأت نهارك ) .
واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه جهاد بالنهار على الصيام و جهاد بالليل على القيام فمن جمع بين هذين الجهادين و وفى بحقوقهما و صبر عليهما وفي أجره بغير حساب .
و من صور اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم صلاة التراويح ، فهذه الصلاة أكثر ما فيها قراءة القرآن ، وكأنها شرعت ليسمع الناس كتاب الله مجودا مرتلا ، ولذلك استحب للإمام أن يختم فيها ختمة كاملة .(1/202)
ومن فوائد صلاة التراويح في رمضان سماع القرءان من القراء المتقنين ، ومن أصحاب الأصوات النَّدية ، الذين يقرؤون القرآن ويؤثِّرون بقراءتهم على القلوب ، فتراك تجد بقراءتهم أثرًا في قلبك ، فاحرص على من يتَّصف بهذه الأوصاف ، واعلم أن الناس في قبول الأصوات ذوو أذواق ، فلا تَعِبْ قارئًا لأنه لا يُعجِبك ؛ فإن ذلك من الغيبة بمكان ، لكن احرص على من تنتفع بقراءته ، وهذا مطلب يُحرصُ عليه ، ومقصد يُتوجَّه إليه .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة من رمضان فقام يصلي فلما كبر قال : الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ،ثم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران لا يمر بآية تخويف إلا وقف عندها ، ثم ركع يقول : سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائما ، ثم رفع رأسه فقال : سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد مثل ما كان قائما ، ثم سجد يقول : سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما ، ثم رفع رأسه فقال : رب اغفر لي مثل ما كان قائما ثم سجد يقول : سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما ، ثم رفع رأسه فقام فما صلى إلا ركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة .
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام و ما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر ، و في رواية أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال و بعضهم في كل سبع و بعضهم في كل عشرة ، كل هذا التطويل و القيام من أجل تلاوة القرآن و تعطير ليالي شهر القرآن بآيات القرآن .(1/203)
وإذا كان هذا شأن القرآن في رمضان فما أجدر العبد المؤمن أن يقبل عليه ، و يديم النظر فيه ، و إني أقترح على الأخ المؤمن الصادق أن يجعل له مع القرآن في هذا الشهر ثلاثة مسارات:
المسار الأول:مسار الإكثار من التلاوة و تكرار الختمات ، فيجعل الإنسان لنفسه جدولا ينضبط به ، بحيث يتمكن من ختم القرآن مرات عديدة ينال خيراتها و ينعم ببركاتها .
المسار الثاني : مسار التأمل و التدبر ، فيستفتح الإنسان في هذا الشهر الكريم ختمة طويلة المدى يأخذ منها في اليوم صفحة أو نحوها مع مراجعة تفسيرها وتأمل معانيها ، و التبصر في دلالاتها و استخراج أوامرها و نواهيها ثم العزم على تطبيق ذلك و محاسبة النفس عليه ، و لا مانع أن تطول مدة هذه الختمة إلىسنة أو نحوها شريطة أن ينتظم القارئ فيها و يكثر التأمل و يأخذ نفسه بالعمل ، و لعل في هذا بعض من معنى قول الصحابي الجليل : كنا نتعلم العشر آيات فلا نجاوزهن حتى نعلم ما فيهن من العلم و العمل .
المسار الثالث : مسار الحفظ و المراجعة ، فيجعل لنفسه مقدارا يوميا من الحفظ و مثله من المراجعة ، و إن كان قد حفظ و نسي فهي فرصة عظمى لتثبيت الحفظ و استرجاع ما ذهب ، و لست بحاجة إلى التذكير بجلالة منزلة الحافظ لكتاب الله و رفيع مكانته ، و حسبه أنه قد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى له.
يسأل كثيرون عن كيفية التأثر بالقرآن ، ولماذا لا نخشع في صلواتنا حين سماع كلام ربِّنا ؟ولا شكَّ أن ذلك عائدٌ لأمور من أبرزها أوزارنا وذنوبنا التي نحملها على ظهورنا ، لكن مع ذلك فلا بدَّ من وجود قدرٍ من التأثر بالقرآن ، ولو كان يسيرًا ، فهل من طريق إلى ذلك ؟إنَّ البعد عن المعاصي ، وإصلاح القلب ، وتحليته بالطاعات هو السبيل الجملي للتأثر بهذا القرآن ، وعلى قدر ما يكون من الإصلاح يبرز التأثُّر بالقرآن .(1/204)
والتأثر بالقرآن حال تلاوته يكون لأسباب متعددة ، فقد يكون حال الشخص في ذلك الوقت مهيَّئًا ، وقلبه مستعدًا لتلقي فيوض الربِّ سبحانه وتعالى .فمن بكَّر للصلاة ، وصلى ما شاء الله ، ثمَّ ذكر الله ، وقرأ كتاب ربِّه ، ثمَّ استمع إلى الذكر فإنَّ قلبه يتعلق بكلام الله أكثر من رجلٍ جاء متأخِّرًا مسرعًا خشية أن تفوته الصلاة ، فأنَّى له أن تهدأ نفسه ويسكن قلبه حتى يدرك كلام ربِّه ، ويستشعر معانيه ؟!ومن قرأ تفسير الآيات التي سيتلوها الإمام واستحضر معانيها ، فإنَّ تأثره سيكون أقرب ممن لا يعرف معانيها .
ومن قدَّم جملة من الطاعات بين يدي صلاته ، فإنَّ خشوعه وقرب قلبه من التأثر بكلام ربِّه أولَى ممن لم يفعل ذلك .
أخي الكريم .. هاقد عرفت من فضل القرآن ما قد عرفت ، و علمت من ارتباط هذا الشهر الكريم بالقرآن العظيم ما قد علمت ، فلم يبق إلا أن تشمر عن ساعد الجد ، و تأخذ نفسك بالعزم ، و تدرع الصبر ، و تكون مع القرآن
فهل للنفس إقبال ؟ و هل للقلب اشتياق ؟ و هل نملأ شهر القرآن بتلاوة القرآن ؟
آداب مجالس القرآن
لقد خص الله أهل القرآن بخاصية وميزهم بمزية ليست لغيرهم، فجعلهم أهله وخاصته، وجعل مجالسهم مجالس رحمة وطمأنينة، وسكينة، ففي الحديث: الذي رواه مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)(1/205)
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء قال فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك قال وماذا يسألوني قالوا يسألونك جنتك قال وهل رأوا جنتي قالوا لا أي رب قال فكيف لو رأوا جنتي قالوا ويستجيرونك قال ومم يستجيرونني قالوا من نارك يا رب قال وهل رأوا ناري قالوا لا قال فكيف لو رأوا ناري قالوا ويستغفرونك قال فيقول قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا قال فيقولون رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم قال فيقول وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) (رواه مسلم)
فما الذي ينبغي أن يكون عليه أهل مجالس القرآن حتى يتحقق لهم ما وعدهم الله تعالى به؟ يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف : 204) والاستماع الإنصات كلمتان تفيدان معنى بذل الجهد وحمل النفس على الاستماع، لأن السماع يكون بشكل تلقائي دون بذل جهد من السامع وغالباً لا يكون معه تركيز، أما الاستماع فإنه يعني جمع القلب والفكر لسماع ما يتلى. وأما الإنصات فيعني السكوت وقطع الكلام لأجل الاستماع، فلا بد لحصول الاستماع من الإنصات، فمن استمع وأنصت نال الجائزة المحددة في آخر الآية: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وفي هذه الأسطر أود أن أذكر نفسي وإخواني ببعض الآداب التي ينبغي أن نتحلى بها في مجالس القرآن، والتي تساعد على الإنصات والاستماع لتلاوة كتاب الله، فمن ذلك:(1/206)
**ترك الكلام أثناء تلاوة القرآن والاستماع والتفكرو التدبر في الآيات المتلوة. والتفاعل معها بالدعاء في موضع الدعاء وذكر الجنة والتعوذ بالله عند ذكر النار ونحو ذلك.
**عدم الانشغال بأخطاء من يقرأ في حضرة من يقوم بهذه المهمة كالمعلم أو الشيخ، إذ ينبغي ألا ينازع المعلم في تصحيح تلاوة المخطئ، حتى لا يتشتت تركيز القارئ.
**المعلم أعرف بالوقت الذي يصحح فيه خطأ الطالب إذ قد يمهله ليعطيه فرصة التصحيح بنفسه فلا يستعجل عليه، واستعجال بعض الإخوة بتصحيح الخطأ يفوت على المتعلم فرصة للتعلم من خطئه.
**الانشغال بالداخل إلى المجلس أو الخارج منه أثناء التلاوة، مع وجود شيخ الحلقة، والأصل أن يجلس الداخل حيث ينتهي به المجلس أو حيث يأمره صاحب المنزل، دون صوت أو تشويش على من يقرأ.
**الانشغال بمكالمات الجوال والرد عليها أثناء تلاوة الآخرين مما يفوت فضيلة الإنصات.
**التعليقات التي لا علاقة لها بموضوع التلاوة، والتي يراد بها التفكه في المجلس وإظهار الدعابة لما في ذلك من إذهاب لهيبة مجلس الذكر الذي تغشاه السكينة وتحفه الملائكة.
**عدم الانشغال بشرح بعض الأحكام لمن لا يحسنها أثناء تلاوة القارئ، لأن ذلك مخالف لأدب الإنصات والاستماع للقرآن.
**مجاهدة النفس للتخلق بأخلاق المؤمنين عند سماع القرآن، والتي ذكرها الله تعالى بقوله:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً..) (الأنفال : 2)
وقال تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ..)(الزمر : 23)(1/207)
وقال تعالى : (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة : 83)
ووصف لنا حال قوم وصفهم بالعلم فقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) (الإسراء : 107-109)
وحذرنا الله تعالى أن نكون ممن لا يتأثرون لسماع القرآن بقوله: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الزمر : 22)
قال ابن كثير في تفسيرها: (أي فلا تلين عند ذكره ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم أولئك في ضلال مبين). اللهم اجعلنا من أهل الأدب مع كتابك وتقبل منا يا أرحم الراحمين.
مفاتيح تدبر القرآن
معنى التدبر:
تدبر القرآن : هو التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه ، وإدارك معانيه ، وحكمه ، والمراد منه .
علامات التدبر:
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم علامات وصفات تصف حقيقة تدبر القرآن وتوضحه بجلاء من ذلك :
قوله تعالى : (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (المائدة:83)
وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال:2 )(1/208)
وقوله تعالى : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (التوبة:124)
وقوله تعالى : (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء:107-109) ،
وقوله تعالى : ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم:58)
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان:73)
وقوله تعالى : (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (القصص:53 )
وقوله تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23) .
فتحصل من الآيات السابقة سبع علامات هي:
** اجتماع القلب والفكر حين القراءة ، ودليله التوقف تعجبا وتعظيما.
** البكاء من خشية الله.
** زيادة الخشوع.
** زيادة الإيمان ، ودليله التكرار العفوي للآيات.
** الفرح والاستبشار.
** القشعريرة خوفا من الله تعالى ثم غلبة الرجاء والسكينة .
** السجود تعظيما لله عز وجل .(1/209)
فمن وجد واحدة من هذه الصفات ، أو أكثر فقد وصل إلى حالة التدبر والتفكر ، أما من لم يحصل أياً من هذه العلامات فهو محروم من تدبر القرآن ، ولم يصل بعد إلى شئ من كنوزه وذخائره .
المفتاح الأول: حب القرآن
قال الله تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ) (الكهف:57)
وقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46 )
وقوله تعالى: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) ( الأحزاب:4) .
وليس هذا مقام بسط هذه المسألة وتأصيلها ، وإنما المقصود التذكير بأن القلب آلة الفهم والعقل والإدراك ، ومن ذلك فهم القرآن وتدبره .
وأما الوجه الثاني : القلب بيد الله وحده لا شريك له ، يفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء ، بحكمته وعلمه سبحانه ، قال الله تعالى : (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهَِ) (الأنفال:24) ، وقال تعالى :( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) (الكهف:57)
وقال تعالى :( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) (الأعراف:146 ) ، وقد جعل لذلك أسبابا ووسائل ، من سلكها وفق ، ومن تخلف عنها خذل .
فتذكر وأنت تحاول فهم القرآن أن القلوب بيد الله تعالى ، وأن الله يحول بين المرء وقلبه ، فليست العبرة بالطريقة والكيفية ؛ بل الفتح من الله وحده ، وما يحصل لك من التدبر فهو نعمة عظيمة من الله تعالى تستوجب الشكر لا الفخر ، فمتى أعطاك الله فهم القرآن ، وفتح لك معانيه ، فاحمد الله تعالى واسأله المزيد ، وانسب هذه النعمة إليه وحده ، واعترف بها ظاهرا وباطنا .
علاقة حب القرآن بالتدبر:(1/210)
من المعلوم أن القلب إذا أحب شيئا تعلق به ، واشتاق إليه ، وشغف به ، وانقطع عما سواه ، والقلب إذا أحب القرآن تلذذ بقراءته ، واجتمع على فهمه ووعيه فيحصل بذلك التدبر المكين ، والفهم العميق ، وبالعكس إذا لم يوجد الحب فإن إقبال القلب على القرآن يكون صعبا ، وانقياده إليه يكون شاقا لا يحصل إلا بمجاهدة ومغالبة ، وعليه فتحصيل حب القرآن من أنفع الأسباب لحصول أقوى وأعلى مستويات التدبر .
علامات حب القلب للقرآن:
حب القلب للقرآن له علامات منها :
**الفرح بلقائه .
** الجلوس معه أوقاتا طويلة دون ملل .
** الشوق إليه متى بعد العهد عنه وحال دون ذلك بعض الموانع ، وتمني لقائه والتطلع إليه ومحاولة إزالة العقبات التي تحول دونه.
**كثرة مشاورته والثقة بتوجيهاته والرجوع إليه فيما يشكل من أمور الحياة صغيرها وكبيرها.
**طاعته ، أمرا ونهيا.
هذه أهم علامات حب القرآن وصحبته ، فمتى وُجدت فإن الحب موجود ، ومتى تخلفت فحب القرآن مفقود ، ومتى تخلف شئ منها نقص حب القرآن بقدر ذلك التخلف .
إنه ينبغي لكل مسلم أن يسأل نفسه هذا السؤال: هل أنا أحب القرآن؟
إنه سؤال مهم وخطير ، وإجابته أشد خطرا ،إنها إجابة تحمل معان كثيرة.
وقبل أن تجيب على هذا السؤال ارجع إلى العلامات التي سبق ذكرها لتقيس بها إجابتك وتعرف بها الصواب من الخطأ .
إن بعض المسلمين لو سئل هل تحب القرآن ؟ يجيب : نعم أحب القرآن ، وكيف لا أحبه ؟ لكن هل هو صادق في هذا لجواب ؟
كيف يحب القرآن وهو لا يطيق الجلوس معه دقائق ، بينما تراه يجلس الساعات مع ما تهواه نفسه وتحبه من متع الحياة.
قال أبو عبيد : "لا يسأل عبد عن نفسه إلا بالقرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله"
إننا ينبغي أن نعترف بالتقصير إذا لم توجد فينا العلامات السابقة ، ثم نسعى في التغيير .
وسائل تحقيقه:
الوسيلة الأولى: التوكل على الله تعالى والاستعانة به:(1/211)
الاستعانة بالله تعالى ، وسؤاله سبحانه أن يرزقك حب القرآن ، ومن ذلك الدعاء العظيم عن ابن مسعود قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحا قالوا يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات قال أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)
فيكرره كل يوم ويتحرى مواطن الإجابة ، ويجتهد أن يكون سؤاله بصدق ، وبتضرع ، وإلحاح ، وشفقة ، وحرص شديد أن يجاب وأن يعطى ، إن بعض الناس لا يعرف الإلحاح في المسألة إلا في مطالبه الدنيوية المادية ، أما الأمور الدينية فتجد سؤاله لها باردا باهتا ، هذا إن دعا وسأل
ومن الاستعانة بالله في حصول تدبر القرآن ما شرع لقارئ القرآن من الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم ، ومن البسملة في أوائل السور ففيها طلب العون من الله تعالى على تدبر القرآن عامة والسورة التي يريد قراءتها خاصة .
الوسيلة الثانية: القراءة:
أي القراءة عن عظمة القرآن مما ورد في القرآن والسنة وأقوال السلف في تعظيمهم للقرآن وحبهم له .
أقترح على كل راغب في تحصيل حب القرآن أن يضع له برنامجا يتضمن نصوصا من القرآن والسنة وأقوال السلف ، فيها بيان لعظمة القرآن ومكانته ، ويرتبها على مستويين :متن ، وشرح ، فالمتن يحفظ ويكرر،والشرح يقرأ ويفهم ، ويتم ربط المعاني التي تضمنها الشرح بألفاظ المتن .(1/212)
ويرجى بإذن الله تعالى لمن طبق هذا البرنامج أن يرزقه الله حب القرآن وتعظيمه ، الذي هو المفتاح الرئيس لتدبر القرآن وفهمه ، وكل كلام يقال في هذا الموضوع فهو متوقف عليه ، وهذا السر في أن الكثير منا يقرأ في هذا الموضوع ولا يخرج بأي نتائج إيجابية .
فأكثر من القراءة عن القرآن ، اقرأ باستمرار عن حال السلف مع القرآن وقصصهم في ذلك وأخبارهم .
فإذا فعلنا ذلك فإن هذا الكتاب العظيم سيزيد حبنا وتعظيمنا لله عز وجل ، وبهذا نصل إلى مرتبة ودرجة أولياء الله المتقين ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يخزنون ، الذين لو أقسم الواحد منهم على الله لأبره ، وحقق له أمنيته .
المفتاح الثاني: أهداف قراءة القرآن
إن قراءة القرآن يجتمع فيها خمس مقاصد ونيات كلها عظيمة ، وكل واحدة منها كافية لأن تدفع المسلم ليسارع إلى قراءة القرآن ، ويكثر الاشتغال به وصحبته. وأهداف قراءة القرآن مجموعة في قولك :( ثمَّ شعَّ ) : (الثاء) : ثواب ، (الميم) : مناجاة ، مسألة ، (الشين) : شفاء ، (العين) : علم ، (العين) : عمل .
فمتى قرأ المسلم القرآن مستحضرا المقاصد الخمسة معا كان انتفاعه بالقرآن أعظم ، وأجره أكبر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)
فمن قرأ القرآن يريد العلم رزقه الله العلم ، ومن قرأه يريد الثواب فقط أعطي الثواب .
المفتاح الثالث: القيام بالقرآن
إن هذا المفتاح من أهم مفاتح تدبر القرآن ، وأعظمها شأنا ، وقد ورد عدد من النصوص تؤكد أهميته ، من ذلك:
قول الله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (الإسراء:79)(1/213)
وقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً )( المزمل:1-5)
وقول الله تعالى : (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران:113)
وقول الله تعالى :(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)(الزمر:9)
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار )
فانظر إلى قوله : (ينفقه) مع قوله (يقوم به) فيؤخذ منه أن من آتاه الله القرآن ولم يقم به أي لم يقرأه في صلاة فهو مثل من آتاه الله مالا ولم ينفقه ،
ويؤكد هذا الحديث الآتي : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تعلموا القرآن فاقْرَؤوه وأقْرِؤوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك )
فدل هذا الحديث على أن من آتاه الله القرآن فرقد ولم يقم به فهو مثل من اشترى طيبا وتركه مغلقا ولم يستخدمه .
ويبين الحديث التالي الهدف من القيام بالقرآن ، وسبب هذا الفرق الكبير بين من يقوم به ، ومن لا يقوم به(1/214)
عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإن لم يقم به نسيه) فهذا هو بيت القصيد وهو حجر الزاوية في تدبر القرآن والانتفاع به ؛ إنه تذكر آيات القرآن الكريم ، وكونها حاضرة في القلب في كل آن ، وخاصة في المواقف الصعبة في الحياة ، مواقف الشدة والذهول ، المواقف التي يفتن فيها المرء ويمتحن ويختبر ، فمن كان يقوم به آناء الليل ، وآناء النهار فتجد إجابته حاضرة وسريعة وقوية ، تجده وقافا عند كتاب الله تعالى ، وأما من كان مفرطا في استخدام هذا المفتاح فما أسرع ما يسقط ويهوي ، ويدل لهذا المعنى :
قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153)
فالصبر هو ثمرة العلم ، والعلم وسيلته القراءة بتدبر ، وهو حاصل لمن قرأ القرآن في صلاة ، لذلك قرن الله تعالى بينهما في أكثر من موضع ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، ويطيل فيها قراءة القرآن كما في صلاة الكسوف ، فمن يتربى على هذا المفتاح وخاصة من الصغر يسهل عليه الانتفاع به في الحياة ، أما من لم يترب عليه فإنه تضيق به الحياة في حال الشدة ، وتضيع عليه الحياة حال الرخاء.
المفتاح الرابع: أن تكون القراءة في ليل
إن الليل وخاصة وقت السحرمن أفضل الأوقات للتذكر ، فالذاكرة تكون في أعلى مستوى بسبب الهدوء والصفاء ، وبسبب بركة الوقت حيث النزول الإلهي ، وفتح أبواب السماء .
ومما يدل على كون القراءة في ليل أحد مفاتح التدبر:
قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (الإسراء:79)،
و قال تعالى:( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ) (المزمل:6)(1/215)
وقال تعالى : (لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران:113) ،
وقال تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (الزمر:9)
إن القراءة للقلب مثل السقي للنبات ، فالسقي لا يكون في حر الشمس فإن هذا يضعف أثره خاصة مع قلة الماء فإنه يتبخر ، وكذلك قراءة القرآن إذا كانت قليلة ، وكانت في النهار وقت الضجيج والمشغلات ، فإن ما يرد على القلب من المعاني يتبخر ولا يؤثر فيه ، وهذا يجيب على تساؤل البعض إذ يقول : إني أكثر قراءة القرآن لكن لا أتأثر به ؟ فلما سألته : متى تقرأ القرآن ؟ تبين أن كل قراءته في النهار ، وفي وقت الضجيج ، وبشئ من المكابدة لحصول التركيز فكيف سيتأثر ؟
إن القراءة في الليل يحصل معها الصفاء والهدوء حيث لا أصوات تشغل الأذن ولا صور تشغل العين فيحصل التركيز التام وهو يؤدي إلى قوة التدبر والتفكر وقوة الحفظ والرسوخ لألفاظ القرآن ومعانية .
المفتاح الخامس: التكرار الإسبوعى للقرآن(1/216)
القيام بالقرآن كاملا في كل أسبوع يحتاج الوصول إليه إلى التدرج والتدريب شيئا فشيئا ، فمن الممكن أن تكون البداية بالمفصل يحزبه سبعة أحزاب لكل يوم من أيام الأسبوع حزب ، أو من الممكن أن تكون البداية بجزء (عم) يقسمه سبعة أقسام وكل ليلة يقرأ بقسم ، يكرر هذا كل أسبوع ، ثم ينظر النتيجة كيف تكون ؟ وعندما يرى الأثر والفائدة فإن هذا سيدفعه إلى الزيادة ، ولتكن بالتدريج ، فيزيد المقدار وبنفس الطريقة يتم توزيع المقدار الجديد إلى سبعة أقسام كل قسم منها يقرأ في ليلة ، بحيث يختم المقدار كل أسبوع حتى يرسخ ، حتى تثبت الآيات في القلب بصورة قوية يسهل استدعاؤها في مواقف الحياة اليومية .
المفتاح السادس أن تكون القراءة حفظا
إن الهدف الأول لحفظ القرآن هو : القيام به آناء الليل وآناء النهار ، والهدف من القيام به حفظ ما تضمنه من العلم بالله واليوم الآخر ، ذلكم العلم الذي يحقق السعادة والحياة الطيبة للإنسان ، ويحقق له الثبات في الأزمات ، والقوة للأمة في مواجهة أعدائها ، هذا هو الهدف الأهم لحفظ القرآن والذي ينبغي أن يركز عليه القائمون على التربية .
إن حفظ الألفاظ وسيلة وليس غاية ، وسيلة إلى حفظ المعاني ، والانتفاع بها في الحياة ، أما الاقتصار على حفظ الألفاظ فهو قصور في حق القرآن العظيم ، وهو انحراف عن الصراط المستقيم في رعايته والانتفاع به في الحياة الدنيا والآخرة .
المفتاح السابع: تكرار الآيات
إن الهدف من التكرار هو التوقف لاستحضار المعاني ، وكلما كثر التكرار كلما زادت المعاني التي تفهم من النص ، والتكرار قد يحصل لا إراديا تعظيما أو إعجابا بما قرأ ، وهذا مشاهد في واقع الناس حينما يعجب أحدهم بجملة أو قصة فإنه يكثر من تكرارها على نفسه أو غيره.(1/217)
قال ابن قدامة ’: " وليعلم أن ما يقرأه ليس كلام بشر وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ويتدبر كلامه فإن التدبر هو المقصود من القراءة وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها .
المفتاح الثامن: ربط الألفاظ بالمعاني
هو : حفظ المعاني ، وهو أيضا: ربط الآية بالواقع ؛ أي: تنزيل الآية على المواقف والأحوال اليومية التي تمر بالشخص ، هو التمثل بالقرآن في كل حدث يحصل في اليوم والليلة ، بحيث يبقى القرآن حيَّاً في القلب تؤخذ منه الإجابات والتفسيرات للحياة ، وتؤخذ منه التوجيهات والأنظمة في كل صغيرة وكبيرة ،
المفتاح التاسع: الترتيل
الترتيل يعني الترسل والتمهل ، ومن ذلك مراعاة المقاطع والمبادئ وتمام المعنى ، بحيث يكون القارئ متفكرا فيما يقرأ ، قال الله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:4 ) ، قال ابن كثير : أي اقرأه على تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره ، وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه ، قالت عائشة رضي الله عنها : " كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها وعن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت مدا يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم ، وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان يقطع قراءته آية آية ( بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين ).
عن حذيفة رضي الله عنه قال : " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها ، ثم النساء فقرأها ، ثم آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلا ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ
إن من رتل وتأمل فقد حقق المقاصد كلها وكمل انتفاعه بالقرآن ، واتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين .
المفتاح العاشر: الجهر والتغني بالقراءة(1/218)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به ، وعنه أيضا رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت يجهر بالقرآن "
إن الجهر درجات أدناها أن يسمع المرء نفسه وتحريك أدوات النطق من لسان وشفتين ، وأعلاها أن يسمع من قرب منه ، فما دونه ليس بجهر وما فوقه يعيق التدبر ويرهق القارئ ويؤذي السامع .
ومن فوائد الجهر استماع الملائكة الموكلة بسماع الذكر لقراءة القارئ ، وهرب وفرار الشياطين عن القارئ والمكان الذي يقرأ فيه ، وفي ذلك تطهير للبيت وتعطير له وجعله بيئة صالحة للتربية والتعليم .
إن بيتاً يكثر فيه الجهر بالقرآن هو بيت كما قال أبو هريرة رضي الله عنه كثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين والبيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله وقل خيره وحضرته الشياطين وخرجت منه الملائكة.
الإستشفاء بالقرآن الكريم
قال الله تعالى: (قلْ هُوَ للذيْنَ ءامَنوا هُدَىً وَشِفَاءٌ)(فصِّلت: 44).
وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولا يزيد الظالمين إلا خساراً)(الإسراء : 82 )
إن التداوي بالقرآن أمر ثابت في الشريعة , وله أدلة تُثبته من القرآن الكريم والسنة الشريفة فلا يمكن إنكاره لأنه أصبح معلوماً من الدين بالضرورة , ولا يُشفى به المرض إلا بإذن الله تبارك وتعالى , فمن أنكر ذلك فإنه يكون منكراً لأمر معلوم وثابت في القرآن والسنة الشريفة.
والقرآن هو أقوى وأعظم دواء ، به يُستشفى من كل الأمراض والأوبئة النفسية والجسدية، ولكن ليس لكل أحد ، بل لمن عَرَفَ كيفية الاستفادة منه ، وكان إيمانه راسخاً قوياً.(1/219)
قال الإمام ابن القيم : فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية , وأدواء الدنيا والآخرة , وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به فإذا أحسن العليل التداوي به , ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام , واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبداً. فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحماية منه , وذلك لمن رزقه الله فهماً في كتابه فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله , ومن لم يكفه القرآن فلا كفاه الله.
وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خيْرُ الدَّواء القرآن). (رواه ابن ماجه)
فللقرآن بركة ٌ عظيمة في علاج شتى الأمراض وفق ما جاء في الشريعة الإسلامية لذلك لا يمكن تصنيفه ضمن الطب البديل وإنما يعتبر طِبَّاً مُكمِّلاً لما نعرفه من وسائل العلاج الأخرى وقد اشترط الله سبحانه وتعالى لحصول الشفاء بالتداوي بالقرآن الإيمان ، فالقرآن والدعاء فيهما شفاء من كل سوء بإذن الله ، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
قوله تعالى:( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ )(فصِّلت: 44).
وقوله سبحانه:( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الإسراء:82) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئاً قرأ في كفيه عند النوم سورة:الإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات... ثم يمسح في كل مرة على ما استطاع من جسده فيبدأ برأسه ووجهه وصدره في كل مرة عند النوم ، كما صَحَّ الحديث بذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه ب قل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به قال يونس كنت أرى بن شهاب يصنع ذلك إذا أتى إلي فراشه). (رواه البخاري)(1/220)
وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يعالج المجتمع بالقرآن ويتلوه عليهم ويدعوهم إلى العمل به..
فالقرآن الكريم من الأدوية النفسية النافعة للمؤمنين به وبخاصة إذا انضم إليه الدواء المادي والإنسان المؤمن يشعر بالراحة والاطمئنان عند قراءة القرآن ، فهو يزيد توكله على ربِّه وثقته بنفسه ، ويجعله يشعر بقربه من ربِّه وقرب ربِّه منه، وأنه بمعونة ربِّه ومَعِيَّته يستطيع التغلب على المرض..
ومن الأفضل أن يضم إلى القرآن الأدوية المادية وهذا ما كان يفعله كثير من الصحابة.. فسيدنا علي رضي الله عنه كان يقول: إذا أراد أحدكم الشفاء...فليكتب آية من كتاب الله وهي: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء :82)..ثم ليغسلها بماء السماء ، إشارة إلى قوله تعالى: (ونزَّلنا من السماء ماءً مباركاً) (سورة النساء :4) وليشترِ بدرهم عسلاً، إشارة لقوله تعالى: (يَخرجُ من بُطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانهُ فيه شِفاءٌ للنّاس) (سورة النحل: 69)...ثم ليشرب هذا العسل مع الماء الذي غسل به الآية القرآنية ، فيكون بذلك قد جمع بين المعالجتين النفسية والمادية.
فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ لدغته عقرب في إصبعه ، فلما فرغ من صلاته قال: (لعن الله العقرب ، ما تدع نبياً ولا غيره ، ثم دعا بماء وملح وجعل يضع على موضع اللدغة من الماء والملح ويقرأ :(قل هو الله أحد) والمعوذتين حتى سكنت).(رواه الترمذي).
وهذا الإمام القشيري رحمه الله يقول: لقد مرض ولدي مرضاً شديداً حتى يئست من شفائه ، واشتد عليّ الأمر ، فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام في منامي ، فشكوت له ما بولدي من مرض شديد ،فقال لي: أين أنت من آيات الشفاء ؟؟ ، فانتبهت وقمت من فوري فجمعتها وقرأتها مرات على ولدي بنية الشفاء...فكان أن شفي ولدي بفضل الله تعالى.(1/221)
كيفيات الاستشفاء بالقرآن الكريم
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الدواء القرآن). رواه ابن ماجه.
يلجأ من يستخدم المعالجة بالقرآن الكريم إلى استخدام طرق عِدَّة في العلاج ، منها قراءة سور أو آيات معينة على الماء أو أي سائل طاهر كالزيت أو اللبن ثم شرب هذا السائل ، ومنها أيضاً أن تكتب آيات من القرآن الكريم والأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزعفران أو المِداد المباح - أي: سائل طاهر- في ورقة أو إناء ونحوه ، وبعد ذلك تحل أو تذاب بالماء ويشرب منها المريض ويغتسل منها .. وتستخدم هذه الطرق في علاج الأمراض النفسية والجسمية بأنواعها كالصرع والسحر والعين ومشاكل النزيف والآلام والحمل والإسقاط ، ولكن بعد التأكد من سلامة الناحية الطبية للحالة المرضية ، وخلوها من الأمراض والعوائق الأخرى ، ودعم ذلك بكافة الفحوصات الطبية المؤكدة لذلك ، ولأهمية موضوع التداوي بالقرآن وتعلّقه بقضايا الرقية الشرعية ، كان لا بد من الوقوف على أقوال أهل العلم ، ليتسنى بحث المسألة بحثاًدقيقاً وموضوعياً لأمانة ذلك ومسؤوليته أمام الله تعالى ، ومعرفة موقف الشريعة الإسلامية من استخدام المداد المباح كالزعفران ونحوه على هذا النحو وبهذه الكيفية.
* ونذكر أولا ً أقوال وفتاوى علماء الأمة في هذا الموضوع :-(1/222)
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب : (بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين) (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ) (الأحقاف: 35)، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعات: 46). وقال: يُكتب في إناء نظيف فتُسْقى منه ، قال: وزاد فيه وكيع: فتسقى ويُنضح - أي يُرَش- ما دون سُرَّتها, قال عبدالله: رأيت أبي يكتب للمرأة في جام أو شيء نظيف(.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (ويجوز أن يكتب للمُصَاب وغيره من المرضى شيئاً من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ويُغسل ويُسقى منه المريض ، كما نص على ذلك أحمد وغيره).
وقال رحمه الله: (وإذا كتب شيء من القرآن أو الذكر في إناء أو لوح ومُحِيَ بالماء وغيره وشَرِبَ ذلك فلا بأس به نص عليه أحمد وغيره).
قال ابن القيم رحمه الله: (ورأى جماعة من السلف أن تكتب الآيات من القرآن ، ثم يشربها، وذكر ذلك عن مجاهد وأبي قلابة).
قال أبو داود: (سمعت أحمد يُسْأل عن الرجل يكتب القرآن في شيء ثم يغسله ويشربه ؟ فأجاب : أرجو أن لا يكون به بأس).
قال الذهبي: ( ونصَّ أحمد أن القرآن إذا كتب في شيء وغُسِل وشُرب ذلك الماء فإنه لا بأس به ، وأن الرجل يكتب القرآن في إناء ثم يسقيه المريض ، وكذلك يُقرأ القرآن على شيء ثم يشرب منه كل ذلك لا بأس به).(1/223)
سُئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن حكم الآيات القرآنية التي تكتب ثم توضع في الماء وتشرب ، فأجاب رحمه الله : ( أن كتابة الآيات والأدعية الشرعية بالزعفران في صحن نظيف أو أوراق نظيفة ثم تغسل فيشربه منها المريض لا حرج في ذلك وقد فعله كثير من سلف الأمة كما أوضح ذلك العلامة ابن القيم - رحمه الله – في كتابه زاد المعاد وغيره ، إذا كان القائم بذلك من المعروفين بالخير والاستقامة والله ولي التوفيق).
سُئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان عن الرجل يكتب آيات من القرآن الكريم فيشربه المريض؟
فأجاب : ( لا بأس بكتابة القرآن على شيء طاهر ويُغسل هذا المكتوب ويشربه المريض للاستشفاء بمثل هذا لأنه داخل في الرُّقية، وقد رَخَّص في هذا الإمام أحمد وكثير من الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيميه في الفتاوى وكذلك العلامة ابن القيم في زاد المعاد وغيرهم من أهل العلم فلا بأس في ذلك ،لأنه داخل في عموم الرقية ولكن الأولى أن تكون الرقية بالقراءة على المريض مباشرة بأن يقرأ القرآن وينفث –يُنفخ بلطف- على المريض أو على محل الإصابة هذا هو الأفضل والأكمل ، والله أعلم).
* أما طرق المعالجة أو الاستشفاء بالقرآن الكريم فنذكر منها ما يلي:-
1- قراءة سورة (قل هو الله أحد) والمعوذتين على موضع الألم.
كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا اشتكى ألماً، يقرأ سورة (قل هو الله أحد) والمعوذتين على الموضع الذي يُؤلمه من جسده الشريف ويمسح بيده الشريفة على موضع الألم. فقد روى الإمام مسلم عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات ، فلما مرض مرضه الذي مات فيه ، جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي).(1/224)
أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا اشتكى وجعاً ، جَمَعَ كفَّيه وقرأ(قل هو الله أحد) والمعوذتين (قل أعوذ برب الفلق)،(قل أعوذ برب الناس) ثم نفث-بمعنى نفخ بلطف- في يديه ومسح بهما جسمه وخاصة موضع الوجع، فلما مرض مرض الموت واشتد عليه مرضه ، صارت عائشة رضي الله عنها تقرأ بهما وتنفث بهما في يَديِّ النبي عليه الصلاة والسلام ثم تمسح بهما جسمه الشريف.
2- قراءة آيات من القرآن على الماء ونحوه.
إن قراءة آيات من القرآن خاصة (آيات الشفاء الست) وهي:-
1- قوله تعالى: ( قَاتِلوْهُم يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بأيديْكُم ويُخْزِهِم ويَنْصُرْكُم عليهم ويَشْفِ صُدُورَ قوم ٍ مُؤمنين) (التوبة :14).
2- قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جآءتكم مَوعِظة ٌمِن رَّبِّكم وَشِفاءٌ لما في الصُّدُور وَهُدىً ورَحْمَة ٌ للمُؤمنين) (يونس: 57).
3- قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرَابٌ مُختلفٌ ألوانُهُ فَيهِ شِفاءٌ للنّاس) (النحل: 69).
4- قوله تعالى: ( ونُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفاءٌ ورَحْمَة ٌ للمؤمِنينَ) (الإسراء :82).
5- قوله تعالى: (وَإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِيْن) (الشعراء: 80).
6- قوله تعالى: (قُلْ هُوَ للذين ءامنوا هُدىً وشِفاءٌ) (فصِّلت: 44)
فقراءة هذه الآيات على الماء تنفع بإذن الله تعالى في علاج العديد من الأمراض ، فليس في ذلك محذور من جهة الشرع إذا كانت القراءة سليمة صحيحة وكان الدواء مباحاً ، وبالتالي فإنها مشروعة جائزة وليست من باب البدع بل هي من باب التداوي المشروع ،(1/225)
فيجوز للمسلم أن يأتي بوعاء فيه ماء فيقرأ عليه آيات الشفاء الست ثم ينفخ بلطف على الماء مرة واحدة، ثم يَشرَبه أو يَصُبُّه على موضع الألم طلباً للشفاء من الله تعالى. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (عباد الله تداووا ، ولا تتداووا بحرام).وقد روى أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام: قرأ على ماء في إناء وَصَبَّه على الصحابي ثابت بن قيس بن شمَّاس.وذلك عندما كان مريضاً.
3- كتابة القرآن الكريم للعلاج.
يجوز كتابة آيات من القرآن الكريم وخاصة آيات الشفاء وسورة الإخلاص والمعوذتين على ورقة ثم غسل هذه الورقة بالماء في إناء ، ثم شُرب هذا الماء أو رَشِّه على موضع الألم أو المرض ، وقد فعل ذلك عبدالله بن عباس وعلي رضي الله عنهما، وقد أجاز فعل ذلك جَمْعٌ كبير من العلماء رحمهم الله.
واجبنا نحو القرآن
إن حق القرآن علينا كبير، وواجبنا نحوه عظيم..
فمن حقه علينا..
**الاعتقاد فيه بعقيدة أهل السنة والجماعة:
فهو كلام الله عز وجل، مُنزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، تكلم الله به قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، ولا نقول إنه حكاية الله عز وجل أو عبارة، بل هو عين كلام الله، حروفه ومعانيه، نزل به من عند الله الروح الأمين، على محمد خاتم المرسلين، وكل منهما مبلغ عن رب العالمين.
** إنزاله منزلته، وتعظيم شأنه :
وإحترامه وتبجيله وكمال محبته.. فهو كلام ربنا ومحبته محبة لقائله.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ( من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله.. ).
** تعلم علومه وتعليمه والدعوة إليه..
قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)(رواه البخاري).
فهو أفضل القربات، وأكمل الطاعات.. قال خبّاب رضي الله عنه: ( تقرب الى الله بما استطعت، فإنك لن تتقرب الى الله بشيء أحب إليه من كلامه.. ).(1/226)
فاحرص رعاك الله على تعلم تلاوته وتجويده، وكيفية النطق بكلماته وحروفه.
ومن وسائل تعلّمه وإتقانه : قراءته على أحد المقرئين ، وكثرة الاستماع إليه ، واستشعار أنه كلام الخالق جل وعلا.
قال صلى الله عليه وسلم : (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرم البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)(رواه مسلم).
ثم أليس من الخزي وأي خزي أن يشيب الرجل في الإسلام وهو لا يحسن تلاوة القرآن؟!
واحذروفقك الله من القول فيه بلا علم أو برأيك.. فهذا أبو بكر الصديق لما سُئل عن آية من كتاب الله لا يعلم معناها، قال: ( أي أرض تقلني؟، وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم.. ).
واحرص حرم الله وجهك على النارعلى الإخلاص عند قراءته وتعلمه وتعليمه..
فقد ورد عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم عن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: (ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها. فقال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار.. ) (رواه مسلم).
** المحافظة على تلاوته وترتيله..
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ)(فاطر:29).
نعم.. كيف تبور تجارتهم وربحهم وافر.. قال رسول الله : ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)(رواه الترمذي).(1/227)
قال صلى الله عليه وسلم : ( أقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) (رواه مسلم) وقال أيضاً : (يقال لصاحب القرآن : أقرأ وأرتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ) . (رواه أبوداود والترمذي وقال حسن صحيح).
وينبغي أن يرتل القارئ ويجوده كما أمر الله تعالى بذلك ، فقال : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) . (المزمل : 4)
فاحرص حفظك الله أن يكون لك ورد يومي لا تتخلف عنه أبداً يفضي بك الى ختم كتاب الله تعالى بصورة دورية.
ولتكن قراءتك للقرآن بتدبر وخشوع، تقف حيث يحسن الوقوف، وتصل حيث يحسن الوصل، إن مررت بآية وعد سألت الله من فضله، وإن مررت بآية وعيد تعوذت، وإن مررت بآية تسبيح سبحت، وإن مررت بسجدة سجدت..
واجتهد في تحسين صوتك بالقرآن، والتغني به، لقوله صلى الله عليه وسلم : (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)(متفق عليه)، ومعنى « أذن » : أي استمع ، وليكن لليلك نصيب وافر من قراءتك وقيامك، فهو وقت الأخيار، وغنيمة الأبرار، قال صلى الله عليه وسلم : (لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار..) (متفق عليه).
قال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء:79).
**فهم معانيه وتدبرها، ومعرفة تفسيره والاتعاظ به..
فالقرآن ما نزل إلا للتدبر والتفكر، والفهم والعمل، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(ص:29).
وكيف يطيب لعبد حال، ويهنأ بعيش أو منام، وهو يعلم أنه سيلقى الله تعالى يوماً وكتابه بين يديه، ولم يحسن صحبته، وقد يكون حجة عليه..؟!
** الحرص على حفظه وتعاهده..(1/228)
فهو غنيمة أصحاب الهمم العالية، والعزائم الصادقة.. لهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام بشارة السلامة من النار حيث قال : (لو جُمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار )(رواه البيهقي في الشُعب وحسّنه الألباني).
فإن قصرت همتك عن حفظه كله فاحذررعاك الله أن تكون ممن قال صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ) (رواه الترمذي).
** إقامة حدوده والعمل به، والتخلق بأخلاقه، وتحكيمه..
فالعمل به أساس النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وهجره طريق الذلة والهلاك في الدنيا والآخرة.. فعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم (رأى في منامه رجلاً مضطجعاً على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع الى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه.. فسأله عنه.. فقيل له: إنه رجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به الى يوم القيامة..)(رواه البخاري).
** الإنصات عند سماعه :
قال تعالى : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) . (الأعراف : 204) والآية تدل بعمومها على مشروعية الاستماع للقرآن إذا تلي .
والإنصات هو : السكوت عند الاستماع .
كيف ننقش القرآن على صدور صغارنا؟
لأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فإن أفضل مراحل تعلم القرآن، الطفولة المبكرة من (3 - 6) سنوات؛ حيث يكون عقل الطفل يقظًا، وملكات الحفظ لديه نقية ورغبته في المحاكاة والتقليد قوية، والذي تولوا مسئوليات تحفيظ الصغار في الكتاتيب أو المنازل يلخصون خبراتهم في هذا المجال فيقولون:
إن الطاقة الحركية لدى الطفل كبيرة، وقد لا يستطيع الجلوس صامتًا منتبهًا طوال فترة التحفيظ، ولذلك لا مانع من تركه يتحرك وهو يسمع أو يردد.(1/229)
- المكافأة مدخل طيب لتحبيب الطفل في القرآن، وذلك بإهدائه شيئًا يحبه حتى ولو قطعة حلوى، كلما حفظ قدرًا من الآيات، وعندما يصل الطفل إلى سن التاسعة أو العاشرة يمكن أن تأخذ المكافأة طابعًا معنويًا، مثل كتابة الاسم في لوحة شرف، أو تكليفه بمهمة تحفيظ الأصغر سنًا مما حفظه وهكذا.
- الطفل الخجول يحتاج إلى معاملة خاصة، فهو يشعر بالحرج الشديد من ترديد ما يحفظه أمام زملائه، ولهذا يمكن الاستعاضة عن التسميع الشفوي بالكتابة إن كان يستطيعها، وإذا كان الطفل أصغر من سن الكتابة يجب عدم تعجل اندماجه مع أقرانه، بل تشجيعه على الحوار تدريجيًا حتى يتخلص من خجله.
- شرح معاني الكلمات بأسلوب شيق، وبه دعابات وأساليب تشبيه، ييسر للطفل الحفظ، فالفهم يجعل الحفظ أسهل، وعلى الوالدين والمحفظين ألا يستهينوا بعقل الطفل، فلديه قدرة كبيرة على تخزين المعلومات.
- غرس روح المنافسة بين الأطفال مهم جدًا، فأفضل ما يمكن أن يتنافس عليه الصغار هو حفظ كتاب الله، على أن يكون المحفظ ذكيًا لا يقطع الخيط الرفيع بين التنافس والصراع، ولا يزرع في نفوس الصغار الحقد على زملائهم المتميزين.
- ومن الضروري عدم الإسراف في عقاب الطفل غير المستجيب، فيكفي إظهار الغضب منه، وإذا استطاع المحفظ أن يحبب تلاميذه فيه، فإن مجرد شعور أحدهم بأنه غاضب منه؛ لأنه لم يحفظ سيشجعه على الحفظ حتى لا يغضب.
- على المحفظ محاولة معرفة سبب تعثر بعض الأطفال في الحفظ (هل هو نقص في القدرات العقلية أم وجود عوامل تشتيت في المنزل) وغير ذلك بحيث يحدد طريقة التعامل مع كل متعثر على حدة.
- من أنسب السور للطفل وأيسرها حفظًا قصار السور؛ لأنها تقدم موضوعًا متكاملاً في أسطر قليلة، فيسهل حفظها، ولا تضيق بها نفسه.
- وللقرآن الكريم فوائد نفسية جمة، فهو يُقوِّم سلوكه ولسانه، ويحميه من آفات الفراغ، وقد فقه السلف الصالح ذلك فكانوا يحفظون أطفالهم القرآن من سن الثالثة.(1/230)
أخلاقُ أهل القرآن
قال الله تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) (الإسراء:9)
سئلت أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : (كان خلقه القرآن)
قال بشر بن الحارث : سمعت عيسى بن يونس يقول :
" إذا ختمَ العبدُ قبّل الملَك بين عينيه ، فينبغي له أن يجعلَ القرآن ربيعاً لقلبه ، يَعْمُرُ ماخرِبَ من قلبِهِ ، يتأدبُ بآدابِ القرآن ،ويتخلّقُ بأخلاقٍ شريفةٍ يتميّز بها عن سائرِ النّاس ممن لا يقرأ القرآن " .
فأول ما ينبغي له أن يستعملَ تقوى الله في السّرّ والعلانية :
باستعمال الورع في مطعمه ومشربه ومكسبه ، وأن يكونَ بصيراً بزمانه وفساد أهله ، فهو يحذرهم على دينه ؛ مقبلاً على شأنه ، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره ، حافظاً للسانه ، مميِّزاً لكلامه ؛ إن تكلّم تكلّم بعلم إذا رأى الكلامَ صواباً ، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً ، قليلَ الخوض فيما لا يعنيه ..(1/231)
يخاف من لسانه أشدّ مما يخاف من عدوّه ، يحبس لسانه كحبسه لعدوّه ، ليأمن شرّه وسوءَ عاقبتِه ؛ قليلَ الضّحك فيما يضحك منه النّاس لسوء عاقبة الضّحك ، إن سُرَّ بشيءٍ مما يوافقُ الحقَّ تبسَّم ، يكره المزاح خوفاً من اللعب ، فإن مزح قال حقاً ، باسطَ الوجه ، طيّب الكلام ، لا يمدحُ نفسه بما فيه ، فكيف بما ليس فيه ، يحذر من نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يُسخط مولاه ، ولا يغتابُ أحداً ولا يحقر أحداً ، ولا يشمت بمصيبة ، ولا يبغي على أحد ، ولا يحسده ، ولا يسيءُ الظنّ بأحدٍ إلا بمن يستحق ؛ وأن يكون حافظاً لجميع جوارحه عمّا نُهي عنه ، يجتهد ليسلمَ النّاسُ من لسانه ويده ، لا يظلم وإن ظُلم عفا ، لا يبغي على أحد ، وإن بُغي عليه صبر ، يكظم غيظه ليرضي ربّه ، ويغيظَ عدوّه . وأن يكون متواضعاً في نفسه ، إذا قيل له الحق قَبِله من صغيرٍ أو كبير ، يطلب الرفعة من الله تعالى لا من المخلوقين .
وينبغي أن لا يتأكلَ بالقرآن ولا يحبّ أن تُقضى له به الحوائج ، ولا يسعى به إلى أبناء الملوك ، ولا يجالس الأغنياء ليكرموه ، إن وُسِّع عليه وسَّع ، وإن أمسِك عليه أمسَك .
وأن يُلزم نفسه بِرَّ والديه :
فيخفضُ لهما جناحه ، ويخفصُ لصوتهما صوته ، ويبذل لهما ماله ، ويشكر لهما عند الكبر .
وأن يصلَ الرحم ويكره القطيعة ، مَن قطعه لم يقطعه ، ومن عصى الله فيه أطاع الله فيه ، مَن صحِبه نفعه ، وأن يكون حسن المجالسة لمن جالس ، إن علّم غيره رفق به ، لا يعنّف من أخطأ ولايخجله ، وهو رفيقٌ في أموره ، صبورٌ على تعليم الخير ، يأنس به المتعلم ، ويفرح به المجالس ، مجالسته تفيد خيراً .(1/232)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " كنّا صدرَ هذه الأمّة ، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السّورة من القرآن أو شبه ذلك ؛ وكان القرآن ثقيلاً عليهم ، ورُزقوا العمل به . وإنّ آخر هذه الأمّة يُخفّف عليهم القرآن حتّى يقرأ الصّبيّ والأعجميّ ، فلا يعملون به " .
وعن مجاهد رحمه الله في قوله تعالى (يتلونه حقّ تلاوته) قال : " يعملون به حقَّ عمله " .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناسُ نائمون ، وبنهاره إذا الناسُ مُفطرون ، وبورعه إذا الناس يخلطون ، وبتواضعه إذا الناسُ يختالون ، وبحزنه إذا الناسُ يفرحون ، وببكائه إذا الناسُ يضحكون ، وبصمته إذا الناسُ يخوضون " .
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : " حامل القرآن حامل رايةِ الإسلام .. لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو ، ولا يسهو مع من يسهو ، ولا يلهو مع مَن يلهو " .
جعلنا الله تعالى ممن يتأدب بآداب القرآن ، ويتخلق بأخلاقه.
منهج القرآن في الاستدلال بالآيات الكونية
1- ارتياد الكون عبر آيات القرآن
يأخذنا القرآن في جولات وجولات نرتاد آفاق السماء ، ونجول في جنبات الأرض ، ويقف بنا عند زهرات الحقول ، ويصعد بنا إلى النجوم في مداراتها ، وهو في كلّ ذلك يفتح أبصارنا وبصائرنا ، فيرينا كيف تعمل قدرة الله وتقديره في المخلوقات ، ويكشف لنا أسرار الخلق والتكوين ، ويهدينا إلى الحكمة من الخلق والإيجاد والإنشاء ، ويبين عظيم النعم التي حبانا الله بها في ذوات أنفسنا وفي الكون من حولنا .
إنه حديث طويل في كتاب الله يطالعك في طوال سوره وقصارها ، وهو حديث مشوق تنصت إليه النفس ، ويلذه السمع ، ويستثير المشاعر والأحاسيس .(1/233)
ولقد طالعت الكثير مما توصل إليه العلم والعلماء في شتى جوانب الحياة يبينون أسرار الخلق ، ودلالة الخلق على الخالق ، فما وجدت في شيء من ذلك كلّه ما وجدته في القرآن من جمال وصف ، ووفرة علم ، واستثارة مشاعر ، وحسن توجيه ، ودقة استنتاج ، وكيف لا يكون كذلك وهو تنزيل الحكيم الحميد !!
فعل الله في الكون :
تعال معي لنقوم بجولة مع الآيات القرآنية ؛ نرتاد هذا الكون ليرينا كيف تعمل قدرة الله في مختلف أرجاء الكون :
في الحبّة : تلقى في التربة فتنفلق ، وتضرب بجذورها في التربة ، فيخرج من الحبّة الجامدة حياة تتمثل في سوق ، وأوراق ، وأزهار تفوح بالشذى ، وثمار يتغذى بها الإنسان والحيوان .
وفي الإصباح وهو ينبلج ...
وفي سكون اليل ...
ومسير الشمس والقمر ..
قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ( الأنعام : 95-96) .
وانظر إلى مشهد السحاب كيف يصنعه الله ، والبرد كيف يكوّنه ويصرفه :
قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) ( النور : 43 ) .
ويحدثنا الله عن فعله في الظل ّفيقول : (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً) ( الفرقان : 45-46)(1/234)
وانظر إلى تصريفه شؤون الحياة والأحياء والليل والنهار : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) ( آل عمران : 26-27 ).
لا يكتفي القرآن بأن يرينا قدرة الله وهي تعمل في الكون ، وعلمه يحيط بالمخلوقات ، وتصريفه للشؤون المختلفة ... ولكنّه مع ذلك يعرفنا بالغاية التي خلق الكون من أجلها .
خلق الله هذه الأرض من أجل الإنسان ، فيقول عز من قائل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة : 29) خلقها لنا على نحو يتوافق مع طبيعتنا وتكويننا ويحقق لنا الصلاح ، وهذا ما سماه القرآن بالتسخير .
وهو لا يخبرنا بذلك مجرد إخبار ، وإنّما يوقفنا على هذا التسخير الذي جعله الله في الكون ، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ( لقمان : 20) فالنجوم خلقت لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)( الأنعام : 97 ) .(1/235)
والأرض والسماء ، وإنزال الماء من السماء ، والسفن السابحة في البحر ، والأنهار الجارية في جنبات الأرض ، والشمس والقمر ، وتعاقب الليل والنهار ... كلّ ذلك مخلوق لنا ولخيرنا ولصلاحنا (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) ( إبراهيم : 32-34 ) .
2- نعم الله في الكون
عرّفنا القرآن بأنّ الله خلق هذا الكون وسخّره لنا ، فجعله متوافقاً مع جبلتنا ، وقدّره تقديراً تصلح به حياة الإنسان ، والقرآن يتخذ من هذا الحديث والبيان سبيلاً ليشكر الإنسان ربّه ، إذ الإنسان مفطور على حب من أحسن إليه
قال تعالى : (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) ( الرحمن : 60 ) .
ولذلك فقد أفاض القرآن في ذكر النعم التي حباها الله عباده في ذوات أنفسهم
قال تعالى :(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ) (الملك : 23)
وفي الكون من حولهم فقال جل جلاله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ)( الزخرف : 10-13 ) .(1/236)
وخلق لنا الشمس والقمر على نحو يحقق النفع والصلاح فقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) ( يونس : 5 ) .
والأنعام من الجمال والأبقار والأغنام ، وكذلك الخيل والبغال والحمير خلقها لنا على نحو يفيدنا ويتناسب مع طبائعنا وتكويننا ،فقال وهو أصدق القائلين : (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ( النحل : 5-8 ).
والبحر مخلوق لنا أيضاً ، وفي خلقه على ما هو عليه ما يحقق لنا الشيء الكثير فقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ( النحل : 14) .
والنحل خلقه الله ليقوم بذلك العمل الرائع ، لينتج لنا ذلك الشراب المختلف الألوان ، ليتغذى به البشر ، ويكون لهم شفاء ، وذلك فى قوله تعالى : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : 68-69) .
التعرف على الله من خلال آياته الكونية سبيلٌ حثَّ عليه القرآن :(1/237)
حث القرآن عباد الله على النظر في آيات الله الكونية : الأرض ، والسماء ، وما فيهما وما بينهما ، وجعل النظر والتأمل في ذلك من الذكرى التي تنفع المؤمنين .
وقد أعجبني تسمية بعض المعاصرين لهذا المنهج ( بقانون السير والنظر ) لكثرة حث الآيات القرآنية على ذلك ، وقد يكون السير والنظر حسيّان ، فيسير المرء بقدميه ، وينتقل من بلد لآخر ، كما قد يكون النظر بالبصر ، وقد يكونان بالفكر والعقل .
وقد جاء الأمر في القرآن أمراً عاماً
فقال تعالى : (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)( يونس : 101).
وقد يأتي أمراً خاصاً كما فى قوله تعالى :
(فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) ( عبس : 24 )
وقوله تعالى : (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) ( الطارق : 5)
3- استدلال القرآن بالآيات الكونية على
استحقاق الخالق الربوبية والألوهية وبطلان ما يعبد من دون الله
يتخذ القرآن من الآيات الكونية مادة يناقش بها المشركين ، ويقيم بها الحجة عليهم
قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ* وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ( الأنبياء : 30-32 ) .(1/238)
ويبين لهم فساد معتقداتهم في معبوداتهم ، فهي لا تملك صفات الربوبية والألوهية التي تستحق أن تعبد بها ، وتتخذ آلهة من دون الله فيقول فى محكم آياته : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ* أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ* أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ*أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ( النمل : 59-64 ) .
إنّ الآيات تبين عدم صلاحية الآلهة المدعاة للعبادة ، فالله وحده الخالق للسماء والأرض ، المنزل للماء من السماء ، والمنبت به الحدائق التي تسرّ النفس ، وتبهج النظر ، وهو الذي جعل الأرض قراراً وسيّر خلالها الأنهار ، وثبتها بالجبال ... ، فهو المعبود الحق ، وغيره لم يفعل شيئاً ، فلا يستحق أن يعبد من دون الله .(1/239)
وعلينا أن نستخدم هذا النوع من الاستدلال في مواجهة الكفرة والملحدين ، فقد استخدمه الرسل من قبل ، وأكثروا من الاحتجاج به ، فهذا إبراهيم خليل الرحمن يناقش الملحد ، ويقيم عليه الحجة بهذا النوع من الاستدلال بحيث يخرس لسانه ويدهش فكره
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(البقرة : 258) .
وهذا موسى كليم الله يستخدم الاستدلال نفسه في مواجهة طاغية عصره فرعون ، ولا يزال يأتيه بالدليل في إثر الدليل حتى يعجزه ، فيلجأ إلى التهديد والوعيد : (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ( الشعراء : 23-29 ) .(1/240)
بل إن هذا النوع من الاستدلال طريقة جميع الرسل ، قال تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ )(إبراهيم : 9) واقرأ ما قالته الأقوام المكذبة قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، ثم إجابة الرسل حيث قالوا : (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم) (إبراهيم : 10) .
فاستدلوا على صدق دعوتهم بأن الله سبحانه فاطر السَّماوات والأرض أي موجدهما وخالقهما .
الكفر مُستَنكَر مستعجب مع وضوح الأدلة :
ولذلك يسأل القرآن سؤالاً يشي بالعجب من كفر الكافرين مع وضوح الأدلة والبراهين (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ( البقرة : 28 ) .
ويسأل في آية أخرى (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ)( الانفطار : 6-8 ) .
إن مقتضى نظر الإنسان في نفسه وفي الكون من حوله يوجب عليه التوجه إلى خالقه وتعظيمه ، ولذلك كان غريباً كفر الكافرين وجحد الجاحدين (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً) ( نوح : 13-18 ) .(1/241)
4- الذين ينتفعون بآيات الكون هم أولو الألباب
إن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها الموحية إلا للقلوب الذاكرة العابدة ؛ لأن هذه القلوب انكشفت عنها الحجب وتفتحت واتصلت بالكون العجيب ،
فالقرآن أقام الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل ، وهذه الوصلة هي التي تجعل للنظر في كتاب الكون والتعرف إليه أثراً في هذا القلب البشري ، وقيمة في الحياة البشرية .
هذه هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعلم ويعرف ، ولذلك نصّ القرآن على أن الذي يهتدي بآيات الكون هم صنف معين من الناس (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ( آل عمران : 190-191 ).(1/242)
هؤلاء هم الذين ينتفعون بآيات الكون ، لأنهم لم يقفوا عند حدود المنظر المشهود البادي للعيان ؛ بل نظروا إلى اليد التي تسيره والقدرة التي تصنعه ، إنهم يستخدمون أبصارهم وأسماعهم وعقولهم وأفكارهم على خير وجه في هذا المجال ، مسترشدين بآيات الكتاب التي تعين السمع والبصر والفكر والعقل على التوصل إلى خير ما يمكن للإنسان أن يصل إليه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ( الروم : 21-24 ) .
فالآيات تتكشف للذين يتفكرون ويسمعون ويعقلون ؛ أي على وجه الحقيقة المؤدية إلى المطلوب .
أما الكفار فإنهم يشاهدون الحدث ولا يتجاوزونه بعقولهم وأفكارهم إلى صانعه وخالقه ، ولا يدركون الحكمة من وراء الخلق (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم : 7 ) .
ولذلك لم ينتفعوا بالآيات الكونية ؛ لأنهم لم ينظروا إليها من خلال المنظار القرآني : (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) (يونس : 101 ) .(1/243)
ولذلك فإن القرآن ينكر على الكافرين والجاحدين تركهم النظر والاعتبار (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) ( الأعراف : 185 ) .
5- دلالة الخلق على صفات الخالق:
إذا نظرنا إلى آلة دقيقة الصنع ، بديعة التكوين ، غاية في القوة والمتانة ، تقوم بعملها على خير وجه ، فلا بدّ أن ندرك بلا كثير تفكير أن صانعها يتصف بصفة الحياة والعلم ولديه قدرة وإرادة ... إلى آخر تلك الصفات التي تنبئنا عنها الآلة .
وهذا الكون يشي ويعرّف بكثير من صفات الخالق ، فمن ذلك :
قدرته وعلمه : هذا الكون الهائل الضخم الشاسع الواسع السائر وفق نظام دقيق لا بدّ أن يكون صانعه قديراً عليماً ، والله خلق الخلق بهذا التكوين الهائل وهذا النظام الكامل ليعرفنا بقدرته وعلمه (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق :12) .
ولا بد أن يكون العلم الذي يحكم هذا الكون شاملاً كاملاً (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)( الأنعام : 59) .(1/244)
وهو حكيم : فالنظر في هذا الكون يشي بأنّه محكم متقن قد وضع كلّ شيء منه في موضعه المناسب ، وخُلق بالمقدار المناسب ، في غاية الجودة والإتقان (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) ( النمل : 88 ) ، (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ)( السجدة : 7 ).
ولذلك فإن الناظر المتبصر في خلق الله لا يرى إلا الكمال والإتقان ، ولو بحث عن عيب في الخلق لأعجزه (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) ( الملك : 3-4 ) .
صفات أُخرى : ما ذكرناه من دلالة الخلق على بعض صفات خالقه أردنا به التمثيل ، لا الحصر والاستقصاء ، وهو تمثيل يفتح الباب للاستدلال والبحث ، وإلا ففي الكون الكثير من الآيات الدالة على عظمة الله وعزته ولطفه ، واستمع إلى الصفات الإلهية التي ذكرها الله في ختام كلّ آية من الآيات التالية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)( الحج : 63-65 ).
6- الله وحده المستحق للعبادة(1/245)
الهداية التي يجلبها النظر والتفكر في الآيات الكونية توجه إلى عبادة الله وحده ، فالله وحده هو الخالق المدبر المقيم للسماوات والأرض الرازق المحيي المميت ... ؛ لذلك فهو المستحق للعبادة دون سواه :
قال تعالى :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) ( البقرة : 21-22) .
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ( فاطر: 3 ) .
وبهذا الطريق أثبت القرآن بطلان الآلهة المدعاة وعدم استحقاقها شيئاً من العبادة
قال تعالى : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ( لقمان : 10-11 ) .
ولذلك فإنّه يذكّر خلقه بالآيات الكونية وتصريفه الأمور وتدبيره الشؤون ثم يعقب على ذلك في كثير من آي القرآن بقوله : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ)( الزمر : 6 ) أي ذلكم الإله الذي يستحق العبادة دون سواه ، فلا إله غيره ولامعبود بحق سواه .
مكانة السنة في ضوء القرآن الكريم(1/246)
إن غاية إرسال الرسل: طاعتهم فيما يأمرون وينهون، وليست هذه الطاعة بطلب منهم، بل بأمر الله تعالى، حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ)(النساء: 64) فيها إثبات عصمة الرسل لأن الله تعالى أمر بطاعتهم مطلقا، فمن آمن بالرسول ولم يقتد به، فقد جهل غاية الرسالة.
وإذا كان الأمر كذلك، فنبينا صلى الله عليه وسلم أولى بهذه الطاعة من غيره من الأنبياء لأنه خاتم النبيين ، وكذلك له من التزكية من الله ما ليس لغيره، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3&4)
وقد دل هذا على أن السنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: (َأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...) (النساء : 113)
فما الحكمة بعد الكتاب إلا السنة!
وعلى هذا، لا ينبغي للمسلم أن يدعو إلى الاستغناء بالقرآن الكريم عن السنة، لأن القرآن بنفسه يعطي السنة الشرعية المطلقة، قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر:7).
هذا يدل على أن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به، واتباعه ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه.(1/247)
إن السنة كالقرآن في إثبات الأحكام التي انفردت بها، روى الإمام أبوداود في سننه بإسناد صحيح عن المقداد بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه).
هذا الحديث من أعلام النبوة، بأنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر فيه على وجه الاستنكار عمن يأتي ويقول بالاكتفاء بالقرآن، والحديث أصل في هذا الباب ويستفاد منه ما
يلي:
ـ السنة وحي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن.
ـ إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على الشبعان الذي يقول بالاكتفاء بالقرآن، ويرفض السنة.
ـ ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث أمورا انفردت السنة ببيان أحكامها.
دلائل قرآنية :
وإليكم بعض الآيات من القرآن الكريم، التي تنص على أهمية السنة:
قد نفى الله عز وجل الإيمان مقسما بنفسه الكريمة عمن لا يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في القضايا المختلف فيها، فقال سبحانه: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء:65).
هذا الحكم يشمل أمور الدين والدنيا على السواء، ومن تركه غير ملزم له فهوكافر، ومن تركه مع التزامه، فله حكم أمثاله من العاصين.
قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (الأحزاب: 36)(1/248)
دلت هذه الآية على الأمور التالية:
ـ من شروط الإيمان أن يتخلى الإنسان عن خياره الشخصي إزاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ ولا يليق بمن اتصف بالإيمان إلا الإسراع في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ وإن أصر أحد على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه توعد بالضلال المبين.
قال عز من قائل: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63)
يتلخص مفهوم الآية في النقاط الآتية:
ـ تجب إجابة الرسول وجوبا، ولا يجب على الأمة قبول قول أحد والعمل به إلا الرسول لعصمته، وكوننا مخاطبين باتباعه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)
- ولا يجوز صرف النظر عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأعذار والحيل، فإن ذلك من دأب المنافقين.
- مخالفة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى فتنة في الدنيا، وعذاب أليم في الآخرة.
قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 31-32).
هذه الآية هي الميزان، التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة.(1/249)
- فعلامة محبة الله اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .. فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ماجاء به الرسول من الكتاب والسنة، وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما.
فمن فعل ذلك، غفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه، فكأنه قيل: ومع ذلك:
فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟
فأجاب بقوله: قل أطيعوا الله والرسول بامتثال الأمر واجتناب النهي، وتصديق الخبر ، فإن تولواعن ذلك، فهذا هو الكفر، والله لا يحب الكافرين. (تفسير السعدي).
خلاصة القول:
- إن اتباع السنة سبب بقاء أصالة الإسلام، ولتعكيرها روّج أهل الأهواء من منكري السنة القول بالاكتفاء بالقرآن، ليبعدوا السذج من المسلمين عن الاستفادة المباشرة من أحد المصدرين الأساسيين للإسلام.
- إن القول بالاستغناء بالقرآن عن السنة: يرمي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مثل ساعي البريد، الذي تقتصر وظيفته على إيصال الرسالة إلى صاحبها فقط، وفيه إهانة للنبي صلى الله عليه وسلم أيما إهانة نعوذ بالله منها، وهو خلاف ما أراد الله عز وجل من النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44).
هذا شامل لتبيين ألفاظه، وتبيين معانيه وهو الحديث والسنة.
- إن اتباع السنة ليس على التخيير، بل هو من لوازم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي لا يؤمن بشخصه فحسب، بل يؤمن بما أنزل عليه من كتاب وحكمة.
فحذار حذارأخي المسلم من الاستخفاف بأمر السنة، وتهوين العمل بالحديث؛ فإنه يؤدي إلى الضلال المبين بنص القرآن. قال تعالى: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (الأحزاب: 36)
أنواع بيان السنة للقرآن الكريم(1/250)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بَيّن كل ما يحتاج الناس إلى بيانه من القرآن الكريم في سنته.وبشكل عام فإن السنة النبوية تفسير للقرآن الكريم، وأنواع بيان السنة للقرآن هى:
الأول: بيان القرآن بالقول (بالنص):
وذلك بأن يبيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن بقوله ، وهذا كثير جدًّا ،
فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وفسَّر أشياء كثيرة من القرآن الكريم بقوله ولفظه، ومن أمثلة ذلك:
أ- ما جاء في الصحيحين عن كعب بن عجرة في تفسير قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِن رَأسِهِ فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ)(البقرة:196) ، فقوله: (مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ) يحتاج إلى تفسير، فهو مجمل، ما الصيام؟ ما مقداره؟ ما الصدقة؟ ما النسك؟
قال كعب: "كان بي أذى من رأسي فحُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ فقلت: لا، فنزلت هذه الآية: (فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ)، قال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعامًا لكل مسكين"(أخرجه البخارى ومسلم). فبيَّن عليه الصلاة والسلام تفسير هذه الآية في هذا الحديث.
ب- قوله تعالى: (يَومَ يَأتِي بَعضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا) (الأنعام:158).
بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك حين تطلع الشمس من مغربها، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ (لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا)
(أخرجه البخارى ومسلم)..(1/251)
ج- كذلك ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ)، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)(أخرجه مسلم)..
ففسَّر القوة بالرمي؛ والمراد الرمي بكل شيء سواء كان بالسهام كما في وقتهم، أو بالمدفعية والطائرات والصواريخ في وقتنا هذا.
د - ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك"، فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ.فَسَوفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)(الإنشقاق:7&8)؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب)(أخرجه البخارى ومسلم)..
فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن المقصود بالحساب اليسير، هو أن تعرض على العبد أعماله وذنوبه ولا يناقش فيها، وإلاَّ لو نوقش الحساب عُذِّب.
هـ - وما جاء في الصحيحين من حديث البراء، في تفسير قوله تعالى: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ)( إبراهيم : 27).
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقعد المؤمن في قبره، أُتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ) (أخرجه البخارى)..
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا.
الثاني: ما جاء في السنة النبوية استنباطًا واستقراء من القرآن الكريم:
أحيانًا تكون المعاني الواردة في النصوص النبوية تفصيلاً لمعاني آيات الكتاب العزيز، وهذا الضرب لطيف، فتأتي إلى معنى جاء في السنة فتستخرج من القرآن ما يدل عليه، وهذا أسلوب لطيف عُني به الحافظ ابن كثير في تفسيره.(1/252)
وبعض طلبة العلم في هذا العصر يحاولون أن يجمعوا كتابًا يشمل كل ما ورد في السنة النبوية مما يعتبر مستخرجًا من القرآن الكريم استنباطًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لطيف ذلك:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)(أخرجه مسلم).، ففي القرآن الكريم آية تدل على هذا المعنى، وهي قوله تعالى: (كَلاَّ لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب) (العلق:19).
ب - أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء)(أخرجه مسلم)..
فالآية التي تدل على هذا المعنى هي قوله تعالى: (وَاستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكهُم فِي الأموَالِ وَالأولادِ وَعِدهُم) (الإسراء:64)، فمن مشاركته في الأموال، أن يأكل الشيطان ويشرب وينام معك، إذا لم تذكر الله تعالى.
ج- أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب:( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا) (أخرجه البخارى ومسلم) ، والحديث نفسه جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود ، فكأن الحديث تفسير للصلاة الوسطى الواردة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسطَى) (البقرة:238).
وفي القرآن الكريم آية تدل على هذا وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَستَأذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَت أَيمَانُكُم وَالَّذِينَ لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ مِنكُم ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ) (النور:58).(1/253)
ويمكن أن يستأنس بهذه الآية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من القرآن الكريم، فهذه الآية تدل على أن الأوقات تبتدئ بالفجر وتنتهي بالعشاء… إذًا يكون الوقت الأوسط هو العصر، وقبله الفجر والظهر، وبعده المغرب والعشاء، فقد بدأ الله تعالى بقوله: (قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ)، وانتهى بقوله: (وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ)، فأول الأوقات هو الفجر وآخرها العشاء.
ولذلك كان مسلك بعض الفقهاء وكثير من المحدِّثين في ذكر المواقيت في كتب الفقه، أن يبدأوا بميقات صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء.
د – ومنه أن بني سلمة وهم حي من الأنصارأرادوا أن يتحولوا بمنازلهم قرب مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فلمَّا علم بذلك النبى صلى الله عليه وسلم، قال: "يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم)(أخرجه مسلم).، يعني: الزموا دياركم وابقوا فيها.
وكأنه صلى الله عليه وسلم كره أن يخلوا أنحاء المدينة، وأحب أن يكون أهل الخير منتشرين في البلد، ولا يكونون موجودين فقط حول المسجد، وتخلو بقية الأحياء عنهم.
وقد يكون صلى الله عليه وسلم فهم ذلك واستنبطه من قوله تعالى: (إِنَّا نَحنُ نُحيِي المَوتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم) (يس:12)، فمن الآثار التي تُكتب خطى الإنسان إلى المسجد ذهابًا وإيابًا.
هـ- أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم -:(لا يمس القرآن إلا طاهر)(أخرجه البيهقى)، والحديث حسن بمجموع طرقه وله ما يشهد له، والمقصود بالطاهر على الراجح من أقوال أهل العلم الطاهر من الحدثين الأكبر والأصغر.(1/254)
فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط ذلك من قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ.فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ.لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ.تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ) (الواقعة:77-80)، فقوله: (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ) كل ما بعده وصف له، فهو (فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ)، وهو (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ)، وهو (تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ) ؛ ولذلك استدل أهل العلم على تحريم مس المصحف لغير المتوضئ بهذه الآية.
الثالث: بيان أسباب نزول القرآن الكريم:
ولا شك أن من يعلم سبب نزول القرآن يكون أقدر على فهم الآيات، وربطها بسبب النزول، ومعرفة على أي وجه أُنزلت، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة:
أ- ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الزهري عن عروة بن الزبير أنه قال: "سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ الله فَمَن حَجَّ البَيتَ أَوِ اعتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (البقرة:158)، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطُوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوَّلتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلُّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ الله) الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.(1/255)
ثم أخبرتُ أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعتُه، ولقد سمعتُ رجالاً من أهل العلم يذكرون: أن الناس إلا من ذكرت عائشةُ ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية.
قال أبو بكر: فأسمعُ هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما؛ في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت) (أخرجه البخارى ومسلم)..
إذن الآية نزلت لأمرين: الأول: لتقول للأنصار: طوفوا بين الصفا والمروة خلافًا لما كنتم تفعلونه في الجاهلية يوم أن كنتم تُهلُّون لمناة.
والثاني: لتقول للمهاجرين ولسائر المسلمين: طوفوا بالصفا والمروة وإن كنتم تطوفون بهما في الجاهلية؛ لأن هذا من شعائر الله، وليس من عادات الجاهلية.
فمعرفة سبب النزول هاهنا تبيِّن معنى الآية بيانًا شافيًا.
ب- قوله تعالى: (لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم فَإِذَا أَفَضتُم مِن عَرَفَاتٍ فَاذكُرُوا الله عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ) (البقرة:198)، ما هو المقصود بالفضل؟ يحتمل أن يكون هو الذكر، والدعاء، والأجر... والآية شاملة جامعة لهذا كله، لكن من معاني الفضل التجارة في الحج.(1/256)
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثَّموا أن يتَّجروا في المواسم، فنزلت: (لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم) في مواسم الحج)(أخرجه البخارى).، أي ليس عليهم جناح أن يذهبوا للحج ويتاجروا فيه، فبيَّن سببُ النزول معنى الآية.
ج- قوله تعالى: (لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى مِن أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ) (التوبة:108)، ما المقصود بالتطهر؟
ثبت عند أبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، أن هذه الآية نزلت في أهل قباء، قال: (كانوا يستنجون بالماء)(أخرجه أبوداود والترمذى وابن ماجة)، يعني: يستخدمون الماء في الاستنجاء.
د- قوله تعالى: (يَومَ يُسحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:48، 49).
هذه الآية يستدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات القدر، وأن كل شيء بقدر، أي بقضاء من عند الله تعالى، وقد رأيت بعض من ينكر ذلك، يقول: إن معنى الآية خلقناه بقدر، يعني مقدرًا مفصلاً مناسبًا لأوانه وزمانه، ولا مانع بأن يكون هذا جزءًا من معنى الآية، لكن أيضًا بقدر يعني: مكتوب عند الله تعالى.
والذي يفصل في هذا ويبيِّن المعنى الصحيح للقدر، ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت: (يَومَ يُسحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ).
الرابع: بيان القرآن بالفعل:(1/257)
قال بعض الأئمة المهتدين في هذا العصر -لمَّا سئل عن تفسير القرآن-: أعظم كتاب يُفهم منه تفسير القرآن هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن ترجمة عملية للقرآن الكريم، بأقواله، وأفعاله، وتقريراته عليه الصلاة والسلام.
ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم، قالت: "فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن)(أخرجه البخارى ومسلم). ويقول جابر أيضًا في حديثه الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم-: "ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به)(أخرجه البخارى ومسلم).، يعني في الحج وغير الحج.
ومن أمثلة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي تفسير للقرآن:
أ - صلاته عليه الصلاة والسلام، فقد صلَّى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي)(أخرجه البخارى ومسلم).، فالصلاة كلها داخلة تحت قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (البقرة:43)، وصلاته تفسير لهذه الآية.
ب - حجه عليه الصلاة والسلام، فقد حجَّ وأدى المناسك كلها؛ من الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف، والنحر، وغيرها...، وقال: "خذوا عني مناسككم(أخرجه مسلم والبيهقى).، فكل أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج داخلة في تفسير قوله تعالى: (وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ) (آل عمران:97).
ج - وهكذا بيَّن لنا أحكام الصيام بعمله صلى الله عليه وسلم، فكلها داخلة تحت قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ) (البقرة:183).
د- وبيَّن لنا مقادير الزكاة، فكلها تفسير لقوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة:43).
هـ. ومن الأمثلة التفصيلية لذلك:
يقول الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ وَقُرآنَ الفَجرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كَانَ مَشهُودًا) (الإسراء:78)، هذه الآية تحدد مواقيت الصلوات الخمس.(1/258)
وقد أتاه صلى الله عليه وسلم سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئًا: فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: "قد انتصف النهار" وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق.
ثم أخَّر الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: "قد طلعت الشمس أو كادت"، ثم أخَّر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخَّر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: "قد احمرَّت الشمس"، ثم أخَّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخَّر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل، فقال: "الوقت بين هذين(أخرجه مسلم)..
و- ومثله أيضًا: قول الله عز وجل عن السعي بين الصفا والمروة في الحج: (فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِما) (البقرة:185)، وهذا يدل على أنه لا يحرم السعي بين الصفا والمروة ولا يجب أيضًا، لكن لما فعله صلى الله عليه وسلم عُلِم أنه واجب؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنهاكما سبق: "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته، لم يَطُف بين الصفا والمروة) (أخرجه البخارى ومسلم)..
فكل أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم هي بيان للقرآن الكريم؛ ولذلك قال الشافعي رحمه الله: "كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن".
وبذلك نعلم أن القرآن والسنة متلازمان ، لا يفترقان إلى يوم القيامة، ولا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، وأنه لا يمكن أن نفهم القرآن إلا على ضوء السنة.
أسماء الله في القرآن.. معان وأسرار
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعون اسما مئة إلا واحدا، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر). متفق عليه(1/259)
قد تكرر كثير من أسماء الله الحسنى في القرآن بحسب المناسبات، والحاجة داعية إلى التنبيه إلى معانيها الجامعة فنقول:
تكرر اسم الرب في آيات كثيرة.
الرب :
هو المربي جميع عباده بالتدبير، وأصناف النعم، وأخص من هذا، تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم، وأخلاقهم. ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل، لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة.
الله :
هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال.
الملك، المالك، الذي له الملك:
هو الموصوف، بصفة الملك، وهي صفات العظمة والكبرياء، والقهر، والتدبير، الذي له التصرف المطلق، في الخلق، والأمر، والجزاء، وله جميع العالم، العلوي والسفلي، كلهم عبيد ومماليك، ومضطرون إليه.
الواحد الأحد:
هو الذي توحد بجميع الكمالات، بحيث لا يشاركه فيها مشارك. ويجب على العبيد توحيده، عقداً، وقولاً، وعملاً، بأن يعترفوا بكماله المطلق، وتفرده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة.
الصمد:
هو الذي تقصده الخلائق كلها، في جميع حاجاتها، وأحوالها وضروراتها، لما له من الكمال المطلق، في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله.
العليم الخبير:
هو الذي أحاط علمه بالظاهر والباطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات، والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي، والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.
الحكيم:
هو الذي له الحكمة العليا، في خلقه، وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه
ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون:
فلا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يشرع شيئاً سدى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك: فيحكم بين عباده، في شرعه، وفي قدره، والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها.
الرحمن الرحيم والبر الكريم، الجواد، الرؤوف، الوهاب:(1/260)
هذه الأسماء، تتقارب معانيها، وتدل كلها على اتصاف الرب، بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه، التي عم بها جميع الوجود، بحسب ما تقتضيه حكمته. وخص المؤمنين منها، بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل،
قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (الأعراف :156)
والنعم والإحسان، كله من آثار رحمته، وجوده، وكرمه، وخيرات الدنيا والآخرة، كلها من آثار رحمته.
السميع:
لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات.
البصير:
الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر، فيبصر دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، ويبصر ما تحت الأرضين السبع، كما يبصر ما فوق السموات السبع.
الحميد:
في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله ، فله من الأسماء، أحسنها، ومن الصفات أكملها، ومن الأفعال، أتمها وأحسنها، فإن أفعاله تعالى ، دائرة بين الفضل والعدل. المجيد الكبير العظيم الجليل:
وهو الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى، له التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه. قد ملئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه.
العفو الغفور الغفار:
الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده، موصوفاً. كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة والعفو، لمن أتى بأسبابها، قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)(طه:82)
التواب:
الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين. فكل من تاب إليه توبة نصوحاً، تاب الله عليه. فهو التائب على التائبين: أولاً بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب عليهم بعد توبتهم، قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم. القدوس، السلام:(1/261)
أي: المعظم المنزه عن صفات النقص كلها، وأن يماثله أحد من الخلق، فهو المتنزه عن جميع العيوب، والمتنزه عن أن يقاربه أو يماثله، أحد في شيء من الكمال
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
فالقدوس كالسلام، ينفيان كل نقص من جميع الوجوه، ويتضمنان الكمال المطلق من جميع الوجوه، لأن النقص إذا انتفى، ثبت الكمال كله.
العلي الأعلى:
هوالذي له العلو المطلق من جميع الوجوه. علو الذات، وعلو القدرة والصفات، وعلو القهر. فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى ، وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف وإليه فيها المنتهى.
العزيز:
الذي له العزة كلها: عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة، وخضعت لعظمته.
القوي، المتين:
هو في معنى العزيز.
الجبار:
هو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى"الرؤوف"الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به، ولجأ إليه.
المتكبر:
عن السوء، والنقص، والعيوب، لعظمته وكبريائه.
الخالق ، البارئ ، المصور:
الذي خلق جميع الموجودات، وبرأها، وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل، ولا يزال على هذا الوصف العظيم.
المؤمن:
الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال والجمال. الذي أرسل رسله، وأنزل كتبه بالآيات والبراهين، وصدق رسله بكل آية وبرهان، يدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به.
المهيمن:
المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً.
القدير:(1/262)
كامل القدرة. بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها، وأحكمها، وبقدرته، يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له"كن فيكون". وبقدرته يقلب القلوب، ويصرفها على ما يشاء ويريد.
اللطيف:
الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن، والأمور الدقيقة، اللطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم، بلطفه وإحسانه، من طرق لا يشعرون بها، فهو بمعنى"الخبير"وبمعنى"الرؤوف".
الحسيب:
هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر، بحسب حكمته، وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها.
الرقيب:
المطلع على ما أكنته الصدور، والقائم على كل نفس بما كسبت. الذي حفظ المخلوقات وأجراها، على أحسن نظام وأكمل تدبير.
الحفيظ:
الذي حفظ ماخلقه، وأحاط علمه بما أوجده، وحفظ أولياءه، من وقوعهم في الذنوب والمهلكات. ولطف بهم في الحركات والسكنات، أحصى على العباد أعمالهم، وجزاءها.
المحيط:
بكل شيء علماً، وقدرة، ورحمة وقهراً.
القهار:
لكل شيء، الذي خضعت له المخلوقات، وذلت لعزته وقوته، وكمال اقتداره. المقيت:
الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها وصرفها كيف يشاء، بحكمته وحده.
الوكيل:
المتولي لتدبير خلقه، بعلمه، وكمال قدرته، وشمول حكمته. الذي تولى أولياءه، فيسرهم لليسرى، وجنبهم العسرى، كفاهم الأمور، فمن اتخذه وكيلاً كفاه (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)(البقرة:257)
ذو الجلال والإكرام:
أي: ذو العظمة والكبرياء، وذو الرحمة، والجود، والإحسان العام والخاص. المكرم لأوليائه وأصفيائه، الذين يجلونه، ويعظمونه، ويحبونه.
الودود:(1/263)
الذي يحب أنبيائه ورسله، وأتباعهم، ويحبونه، فهو أحب إليهم، من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه، وإخلاصاً، وإنابة من جميع الوجوه.
الفتاح:
الذي يحكم بين عباده، بأحكامه الشرعية، وأحكامه القدرية،أحكام الجزاء. الذي فتح بلطفه بصائر الصادقين، وفتح قلوبهم لمعرفته، ومحبته، والإنابة إليه، وفتح لعباده، أبواب الرحمة، والأرزاق المتنوعة، وسبب لهم الأسباب، التي ينالون بها خيري الدنيا والآخرة (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(فاطر:2)
الرزاق:
لجميع عباده، فما من دابة في الأرض، إلا على الله رزقها.
ورزقه لعباده نوعان:
رزق عام: شمل البر والفاجر، والأولين، والآخرين، وهو رزق الأبدان.
ورزق خاص : وهورزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان. والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين، على مراتبهم منه، بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته.
الحكم العدل:
الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة، بعدله وقسطه، فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يحمل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه ويؤدي الحقوق إلى أهلها، فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه. وهو العدل في تدبيره وتقديره (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)( هود : 56)
جامع الناس:
ليوم لا ريب فيه، وجامع أعمالهم وأرزاقهم، فلا يترك منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وجامع ما تفرق واستحال من الأموات الأولين والآخرين، بكمال قدرته، وسعة علمه.
الحي القيوم:
كامل الحياة والقائم بنفسه. القيوم لأهل السموات والأرض، القائم بتدبيرهم وأرزاقهم، وجميع أحوالهم فـ"الحي": الجامع لصفات الذات، و"القيوم"الجامع لصفات الأفعال.
النور:(1/264)
نور السموات والأرض. الذي نوَّر قلوب العارفين بمعرفته، والإيمان به، ونور أفئدتهم بهدايته، وهو الذي أنار السموات والأرض، بالأنوار التي وضعها، وحجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
بديع السموات والأرض:
أي: خالقهما ومبدعهما، في غاية ما يكون من الحسن والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم.
القابض، الباسط:
يقبض الأرزاق والأرواح، ويبسط الأرزاق والقلوب، وذلك تبع لحكمته ورحمته. المعطي، المانع:
لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فجميع المصالح والمنافع، منه تطلب، وإليه يرغب فيها. وهو الذي يعطيها لمن يشاء، ويمنعها من يشاء، بحكمته ورحمته.
الشهيد:
أي: المطلع على جميع الأشياء. سمع جميع الأصوات، خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده، وعلى عباده، بما عملوه.
المبدئ المعيد:
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، ابتدأ خلقهم، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ثم يعيدهم، ليجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ويجزي المسيئين بإساءتهم. وكذلك، هو الذي يبدأ إيجاد المخلوقات شيئاً فشيئاً، ثم يعيدها كل وقت.
الفعال لما يريد:
وهذا من كمال قوته، ونفوذ مشيئته وقدرته، أن كل أمر يريده يفعله بلا ممانع، ولا معارض، وليس له ظهير ولا معين، على أي أمر يكون، بل إذا أراد شيئاً قال له"كن فيكون". ومع أنه الفعال لما يريد، فإرادته تابعة لحكمته وحمده، فهو موصوف بكمال القدرة، ونفوذ المشيئة، وموصوف بشمول الحكمة، لكل ما فعله ويفعله.
الغني، المغني:(1/265)
فهو الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه، والاعتبارات لكماله، وكمال صفاته. فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكن إلا غنياً. لأن غناه، من لوازم ذاته. كما لا يكون إلا خالقاً، قادراً، رزاقاً، محسناً، فلا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه. فهو الغني، الذي بيده خزائن السموات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة. المغني جميع خلقه، غنى عاماً، والمغني لخواص خلقه، بما أفاض على قلوبهم، من المعارف الربانية، والحقائق الإيمانية. الحليم:
الذي يدر على خلقه، النعم الظاهرة والباطنة مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم. ويستعتبهم، كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا. الشاكر، الشكور:
الذي يشكر القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل. ويضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب. ويشكر الشاكرين، ويذكر من ذكره. ومن تقرب إليه بشيء من الأعمال الصالحة، تقرب الله منه أكثر.
القريب، المجيب:
فهو تعالى ، القريب من كل أحد. وقربه تعالى نوعان:
قرب عام من كل أحد: بعلمه، وخبرته، ومراقبته، ومشاهدته، وإحاطته.
وقرب خاص: من عابديه، وسائليه، ومحبيه، وهو قرب لا تدرك له حقيقة، وإنما تعلم آثاره، من لطفه بعبده، وعنايته به، وتوفيقه وتسديده، ومن آثاره، الإجابة للداعين، والإنابة للعابدين، فهو المجيب إجابة عامة، للداعين، مهما كانوا، وأين كانوا، وعلى أي حال كانوا كما وعدهم بهذا، الوعد المطلق، وهو المجيب إجابة خاصة، للمستجيبين له، المنقادين لشرعه، وهو المجيب أيضاً، للمضطرين، ومن انقطع رجاؤهم من المخلوقين، وقوي تعلقهم به، طمعاً، ورجاء، وخوفاً.
الكافي:
عباده جميع ما يحتاجون، ويضطرون إليه، الكافي كفاية خاصة، من آمن به، وتوكل عليه، واستمد منه حوائج دينه ودنياه.
الأول والآخر والظاهر والباطن:(1/266)
قد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً جامعاً، واضحاً فقال يخاطب ربه:(أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء).
الواسع:
الصفات، والنعوت، ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. واسع العظمة، والسلطان، والملك، واسع الفضل، والإحسان، عظيم الجود والكرم.
الهادي، الرشيد:
هوالذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع، وإلى دفع المضار، ويعلمهم ما لا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره.
وللرشيد معنى، بمعنى الحكيم، فهو: الرشيد في أقواله وأفعاله، وشرائعه كلها خير، ورشد وحكمة ومخلوقاته مشتملة على الرشد.
الحق:
في ذاته وصفاته. فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده، من لوازم ذاته. ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به. فهو الذي لم يزل، ولا يزال، بالجلال، والجمال، والكمال، موصوفاً. ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً. فقوله، حق، وفعله حق، ولقاؤه، ورسله، حق، وكتبه، حق، ودينه، هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له، هي الحق، وكل شيء ينسب إليه، فهو حق. (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (الحج : 62). (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس : 32) (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً )(الإسراء : 81) والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
صفات عباد الرحمن(1/267)
قال الله تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامً) إلى قوله .. (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامً)(الفرقان:63-76)
في هذه الآيات الكريمات من خواتيم سورة الفرقان، يصف الله عز وجل أحوال عباده الذين شرفهم بنسبهم إليه.
وقبل أن نتابع أحوالهم عبر بيان كلام العلماء في تفسير الآيات نذكر بأهم الصفات التي ذكرها القرآن لأهل التقى والصلاح الذين هم عباد الرحمن المخلصين:
أهم سمات الصالحين في القرآن
1- إيمانهم بالغيب:
لا شك أن هذه الصفة أخص صفاتهم، فإنها التي تدعوهم إلى العبادة والانقياد الكامل لأمر الله عز وجل ونهيه، وهذه الصفة هي أول صفة وصفهم الله عز وجل بها في كتابه.(1/268)
قال الله تعالى-: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) )البقرة:2-4(وقال: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) ( يّس:11) ، وقد كان صلى الله عليه وسلم منذرًا لكل الناس، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره، وهذه الآية نظير آية (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)( فصلت:44)
2- العفو والصفح:
وهو خلق علمه النبي صلى الله عليه وسلم، أن يعفوا عمن ظلمه ويعطي من حرمه، وقد أخبر الله عز وجل أن من اتصف بهذه الصفة فأجره على الله عز وجل(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ))الشورى:40(
كما رغبهم الله عز وجل في مغفرته إذا فعلوا ذلك فقال عز وجل في سورة النور: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:22( وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ) آل عمران:134) كما قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(البقرة: 237)
3- الصدق:
فهم يتحرون الصدق في كل شؤون حياتهم .. قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونََ) )الزمر:33)(1/269)
وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177) صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال، وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدق، فقال: (وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقً)(متفق عليه)
4-تعظيم شعائر الله:
قال تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) )الحج:32(
قال القرطبي رحمه الله: شعائر الإسلام أعلام دينه...وأضاف التقوى إلى القلوب؛ لأن حقيقة التقوى في القلب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: التقوى ههنا وأشار إلى صدره) فالمتقون يعظمون طاعة الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى طاعته، ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن معصيته، وعكس ذلك الاستهانة بالأوامر فلا يؤديها، وبالنواهي فيقع فيها -نسأل الله السلامة-, قال أنس رضي الله عنه-: ( إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) (البخاري) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا )(البخاري)
والسبب فيه أنَّ قلب المؤمن منور فإذا رأى من نفسه ما يخالف ذلك عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل منه النجاة بخلاف الجبل إذا سقط عليه فإنه لا ينجو عادة.
أوصاف عباد الرحمن كما في الآيات:(1/270)
1- أول هذه الأوصاف أنهم يمشون على الأرض هونا :(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًَا) أي: بسكينه ووقار وتواضع وبغير تجبر ولا استكبار، وليس المقصود أنهم يمشون كالمرضى تضعفا ورياء، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى فكأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره السلف المشي بتضعف وتصنع، وقال الحسن البصري رحمه الله: إن المؤمنين قوم ذلت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح، و دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة.
2- وثاني صفاتهم: أنهم (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) أي: إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يردوا عليهم بمثله، بل يصفحون ولا يقولون إلا خيرًا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل إلا حلمًا.
وللنبي صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة في حلمه على الناس وفي دفع السيئة منهم بالحلم منه صلى الله عليه وسلم فيقابل السيئة بالحسنة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعوه فإن لصاحب الحق مقالً).
كذلك في الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء(1/271)
3- وصفتهم الثالثة: أنهم (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامً) فأخبر الله سبحانه وتعالى عن عبادة أن ليلهم خير ليل، فقال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامً) وكما قال تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))الذاريات:17، 18(، وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعً) )السجدة:16(، وأشار سبحانه وتعالى في قوله: (لِرَبِّهِمْ) إلى إخلاصهم فيه ابتغاء وجهه الكريم.
وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام أول الليل، ويقوم آخره فيصلي)) متفق عليه)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قالوا: ما هممت؟ قال هممت أن أجلس وأدعه)(متفق عليه)
وروى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال :صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلى بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، يعني على آل عمران ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترتلا، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه ثم قال سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع ثم سجد، فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه
وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت)(1/272)
4- وصفتهم الرابعة: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) فهم وجلون مشفقون من عذاب الله عز وجل، خائفون من عقابه، (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) أي: ملازما دائما. ولهذا قال الحسن البصري: كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم مادامت الأرض والسماوات.
5- وصفتهم الخامسة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف،
وروى مسلم عن أبي عبد الرحمن ثوبان بن بجدد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل دينار ينفقه الرجل دينا ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله.
6- وصفتهم السادسة: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) (الفرقان:68(روى البخاري في الجامع الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله أندادًا وهو خلقك،قال: ثم أي؟ قال :أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال: ثم أي؟ أن تزاني حليلة جارك،قال عبد الله وأنزل الله تصديق ذلك (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) الآية.
7- وصفتهم السابعة التوبة: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) (الفرقان:70)(1/273)
روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلى ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران:135) (أخرجه أحمد في المسند وصححه أحمد شاكر) . وفي الصحيحين عن عثمان أنه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)
وفي الصحيحين عن أنس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه عليّ قال: ولم يسأله عنه، فحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل، فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم فيَ كتاب الله، قال أليس قد صليت معنا؟ قال نعم قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78) قال: (هو سعة الإسلام وما جعل لأمة محمد من التوبة والكفارة).
8- وصفتهم الثامنة: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) فهم لا يشهدون الزور، وهو: الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل، كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور ألا وقول الزور)فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت،(1/274)
يقول ابن كثيررحمه الله : والأظهر من السياق أنَّ المراد لا يشهدون الزور أي: لا يحضرونه، ولهذا قال تعالى-: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) أي: لا يحضرون الزور وإذا اتفق مرورهم به مروا به ولم يندسوا منه شيء، ولذلك قال: (مَرُّوا كِرَامًا)
9- وصفتهم التاسعة: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) أي: هؤلاء المؤمنون وهم عباد الرحمن حالهم بخلاف من إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله كأن لم يسمعها.
فكم سمعنا عن بكاء الصالحين ودموع العابدين، فهل افتقدنا تلك الدموع؟ أم هل جفت دموعنا لما غابت عن البكاء من خشية الله .
10- وصفتهم العاشرة: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له، قال ابن عباس: أي يخرج من أصلابهم من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة.
سئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال: والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدًا، أو ولد ولد أو أخا أو حميما مطيعا لله عز وجل، وقال ابن عباس أئمة يقتدى بنا في الخير، قال غيره أجعلنا هداة مهتدين دعاة إلى الخير.
وهنا تتراءى أمامناأهمية التربية الإيمانية ووسائلها ومبادئها، فتربية كل راع لرعيته مسؤولية إيمانية، واهتمام الصالحين بأسرهم وأبنائهم صفة خيرية من صفات عباد الرحمن السابقين.
الولاء والبراء فى القرآن
من خصائص المجتمع المسلم أنه مجتمع يقوم على عقيدة الولاء والبراء ، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، والبراء من كل من حادّ الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين .(1/275)
وهاتان الخاصيَّتان للمجتمع المسلم هما من أهم الروابط التي تجعل من ذلك المجتمع مجتمعا مترابطاً متماسكاً ، تسوده روابط المحبة والنصرة ، التي تعمل مجتمعة على تحقيق رسالة الإسلام في الأرض ، تلك الرسالة التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودعوة الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
والمتأمل في القرآن الكريم يقف على آيات كثيرة تؤيد هذا المعنى وتؤكده ، فنحن نقرأ في الولاء ، قوله تعالى : ) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ((التوبة:71 )
ونقرأ أيضاً قوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (المائدة:55)
ونقرأ في البراء قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) (آل عمران:28)(1/276)
ونقرأ كذلك قوله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون )َ (المجادلة:22) .
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين .
ويمكن تلخيص صور ولاء المسلم لأخيه المسلم في صورتين:
الأولى:
ولاء الود والمحبة ، وهذا يعني أن يحمل المسلم لأخيه المسلم كل حب وتقدير، فلا يكيد له ولا يعتدي عليه . بل يمنعه من كل ما يمنع منه نفسه، ويدفع عنه كل سوء يراد له ، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم ،
وتعاطفهم ،مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرالجسد بالسهر والحمى) (رواه مسلم)
الثانية:
ولاء النصرة والتأييد ، وذلك في حال ما إذا وقع على المسلم ظلم أو حيف ، فإن فريضة الولاء تقتضي من المسلم أن يقف إلى جانب أخيه المسلم ، يدفع عنه الظلم ، ويزيل عنه الطغيان، فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما . قالوا يا رسول الله : هذا ننصره مظلوما ، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه ) أي تمنعه من الظلم . (رواه البخاري) ، فبهذا الولاء يورث الله عز وجل المجتمع المسلم حماية ذاتية ، تحول دون نشوب العدوات بين أفراده ، وتدفعهم جميعا للدفاع عن حرماتهم ، وعوراتهم .(1/277)
هذا من جهة علاقة الأمة بعضها ببعض . أما من جهة علاقة الأمة أو المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات الكافرة ، فقد أوجب الله عز وجل على الأمة واجب البراء من الكفر وأهله ، وذلك صيانة لوحدة الأمة الثقافية والسياسية والاجتماعية ، وجعل سبحانه موالاة الكفار خروجا عن الملة وإعراضاً عن سبيل المؤمنين ،
قال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) ( آل عمران:28) فكأنه بموالاته للكافرين يكون قد قطع كل الأواصر والعلائق بينه وبين الله ، فليس من الله في شيء
وتحريم الإسلام لكل أشكال التبعية للكافرين , لا يعني حرمة الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم ، كلا ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها ، ولكن المقصود والمطلوب أن تبقى للمسلم استقلاليته التامة ، فلا يخضع لأحد ، ولا يكون ولاؤه إلا لله ولرسوله وللمؤمنين .
ومن أخطر صور الموالاة التي يحرمها الإسلام ويقضي على صاحبها بالردة والكفر ما يلي:
1- ولاء الود والمحبة للكافرين:(1/278)
فقد نفى الله عز وجل وجود الإيمان عن كل من وادَّ الكافرين على كفرهم قال تعالى: ) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22) ، إلا أن هذه المفاصلة والمفارقة لا تمنع من البر بالكافرين والإحسان إليهم ما لم يكونوا محاربين
قال تعالى: )لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)
2- ولاء النصرة والتأييد للكافرين على المسلمين:
ذلك أن الإسلام لا يقبل أن يقف المسلم في خندق واحد مع الكافر ضد إخوانه المسلمين يقتلهم ، ويشردهم ، إرضاء للكافر وانصياعا لرغباته ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً) (النساء:144) وقال أيضاً : ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (المائدة:81)(1/279)
فهاتان الفريضتان " الولاء والبراء " تجعلان من المجتمع المسلم مجتمعا مترابطا متعاضدا يؤدي رسالة الله ويسعى في تحقيقها ، وهو في الوقت نفسه مجتمع مستقل عن الكفار كاره لهم ، لا يخضع لهم بتبعية ، ولا يدين لهم بسلطان ، من غير أن يمنعه ذلك من الإحسان إليهم والبر بهم ما داموا غير محاربين لنا
فبهاتين الفريضتين تتعاضد الروابط الإيمانية بين المسلمين ، وتتحدد الروابط بين المؤمنين والكافرين ، فما أحوج الأمة اليوم إلى تفعيل هاتين الفريضتين ، والعمل بهما حتى تتحقق لنا سيادتنا واخوتنا ، فلا ندين بالولاء إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولا نعادي إلا من حادَّ الله ورسوله.
فتاوى قرآنية
لفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز ولفضيلة الشيخ: محمد بن صالح بن عثيمين
ولفضيلة الشيخ: محمد بن صالح المنجد ولفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان
ولفضيلة الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
س : ماذا ينبغي أن نفعل قبل قراءة القرآن ؟ وهل يجب على المرأة أن ترتدي الحجاب الكامل وهي تقرأ القرآن ؟
ج : الحمد لله لا يجب على المرأة ارتداءالحجاب لقراءة القرآن ، لعدم وجود دليل يدلُّ على وجوب ذلك . قال الشيخ ابن عثيمين : قراءة القرآن لا يشترط فيها ستر الرأس ...
وقال الشيخ في كلامه على سجود التلاوة : " وسجود التلاوة يكون حال قراءتها للقرآن ، لا بأس بالسجود على أي حال ولو مع كشف الرأس ونحوها لأن هذه السجدة ليس لها حكم الصلاة "
أما قراءة القرآن فلا يجوز للجنب قراءة القرآن لا من المصحف ولا من غيره حتى يغتسل لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة . أما إن كان حدثا أصغر فيجوز قراءة القرآن عن ظهر قلب ، لعموم الأدلة " .(1/280)
والأفضل والمستحب ، الوضوء حتىعند القراءة ، لأن هذا القرآن كلام الله ، فالأفضل الوضوء عند قراءته لشرفه ، أما مسُّ المُصْحَفِ فلا يجوز مَسُّه حتى يتوضأ ، لقول الله تعالى : (لا يمَسُّه إلا المطهرون )(الواقعة: 79) .
س : أقضي بعض الأوقات الساعات الطوال في المطبخ، وذلك لإعداد الطعام لزوجي، وحرصًا مني على الاستفادة من وقتي؛ فإنني أستمع إلى القرآن الكريم، سواء كان من الإذاعة، أو من المسجل؛ فهل عملي هذا صحيح أم أنه لا ينبغي لي فعل ذلك؛ لأن الله تعالى يقول : { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ سورة الأعراف : آية 204 ] ؟
ج : لا بأس باستماع القرآن الكريم من المذياع أو من المسجل والإنسان يشتغل، ولا يتعارض هذا مع قوله : ( فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ)( الأعراف : 204 )؛ لأن الإنصات مطلوب حسب الإمكان، والذي يشتغل ينصت للقرآن حسب استطاعته .
س : ما حكم من يقرأ القرآن وهو يخطئ في التشكيل؟ هل يؤجر على ذلك؟
ج : يشرع للمؤمن أن يجتهد في القراءة ، ويتحرى الصواب ، ويقرأ على من هو أعلم منه حتى يستفيد ويستدرك أخطاءه . وهو مأجور ومثاب وله أجره مرتين إذا اجتهد وتحرى الحق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجره مرتين) متفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها ، وهذا لفظ مسلم .
س : ما حكم قراءة القرآن في منزل فيه كلب؟
ج : لا حرج في ذلك ، والواجب إخراج الكلب وعدم بقائه في المنزل إلا إذا كان لأحد ثلاثة أمور وهي : الصيد ، والحرث ، والماشية . لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان متفق عليه .(1/281)
س : بعض الناس يأخذون المصحف ويطالعون فيه دون تحريك شفتيهم ، هل هذه الحالة ينطبق عليها اسم قراءة القرآن ، أم لا بد من التلفظ بها ؛ والإسماع ؛ لكي يستحقوا بذلك ثواب قراءة القرآن؟ وهل المرء يثاب على النظر في المصحف؟
ج : لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر والتعقل وفهم المعنى ، لكن لا يعتبر قارئا ولا يحصل له فضل القراءة إلا إذا تلفظ بالقرآن ولو لم يسمع من حوله . لقول النبي صلى الله عليه وسلم :( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه )رواه مسلم .
ومراده صلى الله عليه وسلم بأصحابه : الذين يعملون به ، كما في الأحاديث الأخرى ، وقال صلى الله عليه وسلم : (من قرأ حرفا من القرآن فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها )خرجه الترمذي ، والدارمي بإسناد صحيح ، ولا يعتبر قارئا إلا إذا تلفظ بذلك ، كما نص على ذلك أهل العلم .
س : هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالدي ، علما بأنهما أميان لا يقرآن ولا يكتبان ؟ وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة ولكن أريد إهداءه هذه الختمة ؟ وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص ؟
ج : لم يرد في الكتاب العزيز ، ولا في السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن صحابته الكرام رضي الله عنهم ما يدل على شرعية إهداء تلاوة القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما ، وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به ، والاستفادة منه ، وتدبر معانيه والعمل بذلك ، قال تعالى : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) وقال تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وقال سبحانه : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ )(1/282)
وقال نبينا عليه الصلاة والسلام :( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه) ويقول صلى الله عليه وسلم :( إنه يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما)
والمقصود أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته لا لإهدائه للأموات أو غيرهم ، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهما أصلا يعتمد عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك وقالوا : لا مانع من إهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات ، وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء للأموات وغيرهم ، ولكن الصواب هو القول الأول ؛ للحديث المذكور ، وما جاء في معناه ، ولو كان إهداء التلاوة مشروعا لفعله السلف الصالح ، والعبادة لا يجوز فيها القياس ؛ لأنها توقيفية لا تثبت إلا بنص من كلام الله عز وجل ، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم للحديث السابق وما جاء في معناه. أما الصدقة عن الأموات وغيرهم ، والدعاء لهم ، والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه ، وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه ، وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام ، فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان المحجوج عنه والمعتمر عنه ميتا أو عاجزا لهرم أو مرض لا يرجى برؤه .
س : هل تجوز قراءة الفاتحة أو شيء من القرآن الكريم للميت عند زيارة قبره؟ وهل ينفعه ذلك؟(1/283)
ج: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزور القبور ويدعو للأموات بأدعية علمها أصحابه ونقلوها عنه ، من ذلك: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة من القرآن الكريم أوآيات منه للأموات مع كثرة زيارته لقبورهم فلو كان ذلك مشروعا لفعله وبينه لأصحابه رغبة في الثواب ورحمة بالأمة وأداء لواجب البلاغ ، فإنه كما وصفه تعالى بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) فلما لم يفعل ذلك مع وجود أسبابه دل على أنه غير مشروع وقد عرف ذلك أصحابه رضي الله عنهم فاقتفوا أثره واكتفوا بالعبرة والدعاء للأموات عند زيارتهم ولم يثبت عنهم أنهم قرءوا قرآنا للأموات فكانت القراءة لهم بدعة محدثة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد .
س : ما حكم قراءة القرآن في المسجد بصوت مرتفع مما يسبب التشويش على المصلين؟
ج : حكم قراءة الرجل في المسجد في الحال التي يشوش بها على غيره من المصلين، أو الدارسين، أو قارئ القرآن، حكم ذلك حرام؛ لوقوعه فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مالك في الموطأ عن البياضي (هو فروة بن عمرو) أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بض بالقرآن".وروى نحوه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(1/284)
س: ما حكم حمل آيات قرآنية في الجيب كالمصاحف الصغيرة بقصد الحماية من الحسد والعين أو أي شر باعتبار أنها آيات الله الكريمة، على اعتبار أن الاعتقاد في حمايتها للإنسان هو الاعتقاد الصادق بالله، وكذلك وضعها في السيارة أو أي أداة أخرى لنفس الغرض. وكذلك السؤال الثاني الذي هذا نصه: حكم حمل الحجاب المكتوب من آيات الله بقصد الحماية من العين أو الحسد أو لأي سبب آخر من الأسباب كالمساعدة على النجاح أو الشفاء من المرض أو السحر إلى غير ذلك من الأسباب. وكذلك السؤال الرابع الذي هذا نصه: حكم تعليق آيات قرآنية بالرقبة في سلاسل ذهبية أو خلافه للوقاية من السوء؟(1/285)
ج: أنزل الله سبحانه القرآن ليتعبد الناس بتلاوته ويتدبروا معانيه فيعرفوا أحكامه ويأخذوا أنفسهم بالعمل بها وبذلك يكون لهم موعظة وذكرى تلين به قلوبهم وتقشعر منه جلودهم، وشفاء لما في الصدور من الجهل والضلال، وزكاة للنفوس وطهارة لها من أدران الشرك وما ارتكبته من المعاصي والذنوب، وجعله سبحانه هدى ورحمة لمن فتح له قلبه أو ألقى السمع وهو شهيد، قال الله تعالى: ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين وقال تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء وقال تعالى: إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وجعل سبحانه القرآن معجزة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآية باهرة على أنه رسول من عند الله إلى الناس كافة ليبلغ شريعته إليهم، ورحمة بهم، وإقامة للحجة عليهم، قال تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون وقال تعالى: تلك آيات الكتاب المبين وقال: تلك آيات الكتاب الحكيم إلى غير ذلك من الآيات.(1/286)
فالأصل في القرآن أنه كتاب تشريع وبيان للأحكام، وأنه آية بالغة ومعجزة باهرة وحجة دامغة أيد الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه بالقرآن فكان يقرأ على نفسه المعوذات الثلاث، (قل هو الله أحد) و (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس)، وثبت أنه أذن في الرقية بما ليس فيه شرك من القرآن والأدعية المشروعة، وأقر أصحابه على الرقية بالقرآن، وأباح لهم ما أخذوا على ذلك من الأجر، فعن عوف بن مالك أنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا" رواه مسلم في صحيحه وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فى سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟(1/287)
فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكنا والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم، على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين)، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: أقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فقال: "وما يدريك أنها رقية"، ثم قال: "قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهما"، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري ومسلم وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ (قل هو الله أحد) و (المعوذتين) جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده، قالت عائشة: (فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به رواه البخاري وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما رواه البخاري إلى غير ذلك من الأحاديث التي ثبت منها أنه رقى بالقرآن وغيره، وأنه أذن في الرقية وأقرها ما لم تكن شركا.(1/288)
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي نزل عليه القرآن، وهو بأحكامه أعرف وبمنزلته أعلم أنه علق على نفسه أو غيره تميمة من القرآن أو غيره، أو اتخذه أو آيات منه حجابا يقيه الحسد أو غيره من الشر، أو حمله أو شيئا منه في ملابسه أو في متاعه على راحلته لينال العصمة من شر الأعداء أو الفوز والنصر عليهم أو لييسر له الطريق ويذهب عنه وعثاء السفر أو غير ذلك من جلب نفع أو دفع ضر، فلو كان مشروعا لحرص عليه وفعله، وبلغه أمته، وبينه لهم؛ عملا بقوله تعالى: ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولو فعل شيئا من ذلك أو بينه لأصحابه لنقلوه إلينا، ولعملوا به، فإنهم أحرص الأمة على البلاغ والبيان، وأحفظها للشريعة قولا وعملا، وأتبعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يثبت شيء من ذلك عن أحد منهم، فدل ذلك على أن حمل المصحف أو وضعه في السيارة أو متاع البيت أو خزينة المال لمجرد دفع الحسد أو الحفظ أو غيرهما من جلب نفع أو دفع ضر لا يجوز، وكذا اتخاذه حجابا أو كتابته أو آيات منه في سلسلة ذهبية أو فضية مثلا; ليعلق في الرقبة ونحوها لا يجوز؛ لمخالفة ذلك لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضوان الله عليهم، ولدخوله في عموم حديث من تعلق تميمة فلا أتم الله له... وفي رواية من تعلق تميمة فقد أشرك لما رواهما الإمام أحمد، وفي عموم قوله صلى الله عليه وسلم: إن الرقى والتمائم والتولة شرك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى من الرقى ما لم يكن فيه شرك فأباحه، كما تقدم، ولم يستثن شيئا من التمائم، فبقيت كلها على المنع، وبهذا يقول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وجماعة من الصحابة وجماعة من التابعين، منهم أصحاب عبد الله بن مسعود كإبراهيم بن يزيد النخعي.(1/289)
س: ما الحكم في الذين يكتبون آيات الله البينات ويأمرون المريض بتعليقها في رأسه أو في أي جهة من جسده ويقولون له: هذا سبب الشفاء، ويأخذون منه شيئا، ومنهم من لا يأخذ شيئا؟
ج: الصحيح أن كتابة آيات من القرآن أو غيرها من الأدعية المأثورة وتعليقها على المريض رجاء الشفاء ممنوع؛ لثلاثة أمور:
الأولى: عموم أحاديث النهي عن تعليق التمائم ولا مخصص لها.
الثاني: سد الذريعة، فإن تعليق ما يكتب من آيات القرآن يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
الثالث: أن ما علق من ذلك يكون عرضة للامتهان بحمله في محال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك. وإذا كان ذلك ممنوعا فأخذ الأجرة على كتابته ليعلق على المريض لرجاء الشفاء ممنوع أيضا.
س : هل يجوز للمسلم أن يكتب شيئا من آيات القرآن الكريم ويشرب أو يجعلها تحت وسادته أو لدى الباب إلى غير ذلك من المواضع؟
ج: أما قراءة القرآن في الماء للمريض وشربه إياه فلا بأس، وقد ورد في سنن أبي داود، في كتاب الطب عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، وأما تعليق التمائم من القرآن وغيره فلا يجوز ..
س: تقدم إلينا مواطن يزعم أن الحلف بالقرآن جائز وأنه يحلف بالمصحف ولا يبالي وقد نصحناه ولم يقبل، فما رأيكم في ذلك؟
ج: يجوز الحلف بالله وصفاته، والقرآن كلام الله الذي هو صفة من صفاته فيجوز الحلف به، فإذا كان قصد الرجل المذكور الحلف بكلام الله فهذا جائز، وإذا كان بورق المصحف والمداد الذي كتب به فهذا لا يجوز؛ لأن الورق والمداد مخلوقات ولا يجوز الحلف بالمخلوق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت .
س: ما حكم من قال: ببركة النبي، أو ببركة الشيخ، أو ببركة القرآن، هل هو مشرك أم لا؟
ج: أولا: التوسل إلى الله ببركة القرآن مشروعا وليس شركا.(1/290)
ثانيا: التوسل ببركة بعض المخلوقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المنكرة؛ لأن التوسل من العبادات التوقيفية، ولم يثبت في الشرع المطهر ما يدل على جوازه في المخلوقين أو حقهم أو جاههم أو بركتهم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
س : هل قراءة القرآن للميت بأن نضع في منزل الميت أو داره مصاحف ويأتي بعض الجيران والمعارف من المسلمين فيقرأ كل واحد منهم جزء مثلا ثم ينطلق إلى عمله ولا يعطى في ذلك أي أجر من المال . وبعد انتهائه من القراءة يدعو للميت ويهدي له ثواب القرآن . فهل تصل هذه القراءة والدعاء إلى الميت ويثاب عليها أم لا ؟ أرجو الإفادة وشكرا لكم . علما بأني سمعت بعض العلماء يقول بالحرمة مطلقا والبعض بالكراهة والبعض بالجواز .
ج : هذا العمل وأمثاله لا أصل له ، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا يقرءون للموتى ، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) أخرجه مسلم في صحيحه وعلقه البخاري في الصحيح جازما به ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته يوم الجمعة أما بعد فإن خير الحديث كتاب لله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة زاد النسائي بإسناد صحيح :(وكل ضلالة في النار )أما الصدقة للموتى والدعاء لهم فهو ينفعهم ويصل إليهم بإجماع المسلمين .
س : أرجو من سماحة الشيخ أن ينبه المسلمين إلى حكم قراءة القرآن علي الأموات هل هو جائز لم لا ، وما حكم الأحاديث الواردة في ذلك ؟(1/291)
ج : القراءة على الأموات ليس لها أصل يعتمد عليه ولا تشريع ، وإنما المشروع القراءة بين الأحياء ليستفيدوا ويتدبروا كتاب الله ويتعقلوه ، أما القراءة على الميت عند قبره أو بعد وفاته قبل أن يقبر أو القراءة له في أي مكان حتى تهدى له فهذا لا نعلم له أصلا .
وذلك بخلاف الصدقة عنهم والدعاء لهم والحج والعمرة وقضاء الدين ، فإن هذه الأمور تنفعهم ، وقد جاءت بها النصوص وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له وقال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) فقد أثنى الله سبحانه على هؤلاء المتأخرين بدعائهم لمن سبقهم وذلك يدل على شرعية الدعاء للأموات من المسلمين وأنه ينفعهم ، وهكذا الصدقة تنفعهم للحديث المذكور .
وفي الإمكان أن يتصدق بالمال الذي يستأجر به من يقرأ للأموات على الفقراء والمحاويج بنية لهذا الميت ، فينتفع الميت بهذا المال ويسلم من البدعة ، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم " نعم "
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصدقة عن الميت تنفعه ، وهكذا الحج عنه والعمرة ، وقد جاءت الأحاديث بذلك ، وهكذا قضاء الدين ينفعه ، أما كونه يتلو له القرآن ويثوبه له أو يهديه له أو يصلي له أو يصوم له تطوعا فهذا كله لا يصل له ، والصواب أنه غير مشروع
س : ما حكم قراءة الفاتحة للميت وذبح المواشي ودفع الفلوس إلى أهل الميت ؟(1/292)
ج : التقرب إلى الأموات بالذبائح أو بالفلوس أو بالنذور وغير ذلك من العبادات كطلب الشفاء منهم أو الغوث أو المدد شرك أكبر لا يجوز لأحد فعله لأن الشرك أعظم الذنوب وأكبر الجرائم . لقول الله عز وجل : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وقوله سبحانه : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) الآية وقوله تعالى : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، فالواجب إخلاص العبادة لله وحده سواء كانت ذبحا أو نذرا أو دعاء أو صلاة أو صوما أو غير ذلك من العبادات ، ومن ذلك التقرب إلى أصحاب القبور بالنذور أو بالطعام للآيات السابقة ولقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
أما إهداء الفاتحة أو غيرها من القرآن إلى الأموات فليس عليه دليل فالواجب تركه . لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ما يدل على ذلك ، لكن يشرع الدعاء للأموات والصدقة عنهم وذلك بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ، يتقرب العبد بذلك إلى الله سبحانه ويسأله أن يجعل ثواب ذلك لأبيه أو أمه أو غيرهما من الأموات أو الأحياء . لقول النبي عليه الصلاة والسلام : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ولأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له : يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال " نعم " متفق على صحته .(1/293)
وهكذا الحج عن الميت والعمرة عنه وقضاء دينه كل ذلك ينفعه حسب ما ورد في الأدلة الشرعية ، أما إن كان السائل يقصد الإحسان إلى أهل الميت والصدقة بالنقود والذبائح فهذا لا بأس به إذا كانوا فقراء ، والأفضل أن يصنع الجيران والأقارب الطعام في بيوتهم ثم يهدوه إلى أهل الميت . لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة أمر أهله أن يصنعوا لأهل جعفر طعاما وقال : لأنه قد أتاهم ما يشغلهم
وأما كون أهل الميت يصنعون طعاما للناس من أجل الميت فهذا لا يجوز وهو من عمل الجاهلية سواء كان ذلك يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر أو على رأس السنة كل ذلك لا يجوز . لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن من النياحة
أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء فلا بأس أن يصنعوا لهم الطعام من أجل الضيافة ، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاءوا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام .
س : أناس عندنا يقرءون القرآن على الأموات ويأخذون عليه أجرة ، فهل يستفيد منه الأموات شيئا ؟ وإذا مات واحد منهم يقرءون القرآن ثلاثة أيام ويعملون ذبائح وولائم ، فهل هذا من الشرع ؟(1/294)
ج : القراءة على الأموات بدعة وأخذ الأجرة على ذلك لا يجوز لأنه لم يرد في الشرع المطهر ما يدل على ذلك ، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما شرعه الله . لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق على صحته ، وهكذا ذبح الذبائح وإعداد الطعام من أجل الميت كله بدعة منكرة لا يجوز سواء كان ذلك في يوم أو أيام . لأن الشرع المطهر لم يرد بذلك بل هو من عمل الجاهلية . لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة) وقال : (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب )(رواه مسلم).
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة رواة الإمام أحمد بإسناد حسن ، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام : (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن) الحديث المذكور آنفا ، ولم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم أنه إذا مات الميت يقرؤون له القرآن أو يقرؤون عليه القرآن أو يذبحون الذبائح أو يقيمون المآتم والأطعمة والحفلات ، كل هذا بدعة فالواجب الحذر من ذلك وتحذير الناس منه .
وعلى العلماء بوجه أخص أن ينهوا الناس عن ما حرم الله عليهم وأن يأخذوا على أيدي الجهلة والسفهاء حتى يستقيموا على الطريق السوي الذي شرعه الله لعباده ، وبذلك تصلح الأحوال والمجتمعات ويظهر حكم الإسلام وتختفي أمور الجاهلية .
س : ما حكم مس المصحف بدون وضوء أو نقله من مكان لآخر ، وما الحكم في القراءة على الصورة التي ذكرت ؟(1/295)
ج : لا يجوز للمسلم مس المصيف وهو على غير وضوء عند جمهور أهل العلم وهو الذي عليه الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وهو الذي كان يفتي به أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، قد ورد في ذلك حديث صحيح لا بأس به من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن : أن لا يمس القرآن إلا طاهر وهو حديث جيد له طرق يشد بعضها بعضا ، وبذلك يعلم أنه لا يجوز مس المصحف للمسلم إلا على طهارة من الحدثين الأكبر والأصغر ، وهكذا نقله من مكان إلى مكان إذا كان الناقل على غير طهارة لكن إذا كان مسه أو نقله بواسطة كأن يأخذه في لفافة أو في جرابة أو بعلاقته فلا بأس ، أما أن يمسه مباشرة وهو على غير طهارة فلا يجوز على الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم لما تقدم
وأما القراءة فلا بأس أن يقرأ وهو محدث عن ظهر قلب أو يقرأ ويمسك له القرآن من يرد عليه ويفتح عليه فلا بأس بذلك لكن الجنب صاحب الحدث الأكبر لا يقرأ . لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجبه شيء عن القراءة إلا الجنابة ، وروى أحمد بإسناد جيد عن علي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الغائط وقرأ شيئا من القرآن وقال هذا لمن ليس بجنب أما الجنب فلا ولا آية(1/296)
والمقصود أن ذا الجنابة لا يقرأ لا من المصحف ولا عن ظهر قلب حتى يغتسل ، وأما المحدث حدثا أصغر وليس بجنب فله أن يقرأ عن ظهر قلب ولا يمس المصحف ، وهنا مسألة تتعلق بهذا الأمر وهي مسألة الحائض والنفساء هل تقرآن أم لا تقرآن ، في ذلك خلاف بين أهل العلم ، منهم من قال لا تقرآن وألحقهما بالجنب ، والقول الثاني : أنهما تقرآن عن ظهر قلب دون مس المصحف . لأن مدة الحيض والنفاس تطول وليستا كالجنب . لأن الجنب يستطيع أن يغتسل في الحال ويقرأ ، أما الحائض والنفساء فلا تستطيعان ذلك إلا بعد طهرهما ، فلا يصح قياسهما على الجنب لما تقدم فالصواب : أنه لا مانع من قراءتهما عن ظهر قلب ، هذا هو الأرجح . لأنه ليس في الأدلة ما يمنع ذلك بل فيها ما يدل على ذلك ،
فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة لما حاضت في الحج : افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري والحاج يقرأ القرآن ولم يستثنه النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على جواز القراءة لها ، وهكذا قال لأسماء بنت عميس لما ولدت محمد بن أبي بكر في الميقات في حجة الوداع ،
فهذا يدل على أن الحائض والنفساء لهما قراءة القرآن لكن من غير مس المصحف ، وأما حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن فهو حديث ضعيف ، في إسناده إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة ، وأهل العلم بالحديث يضعفون رواية إسماعيل عن الحجازيين ويقولون : إنه جيد في روايته عن أهل الشام أهل بلادة ، لكنه ضعيف في روايته عن أهل الحجاز ، وهذا الحديث من روايته عن أهل الحجاز فهو ضعيف .(1/297)
س : ما حكم من يزور القبور ثم يقرأ الفاتحة وخاصة على قبور الأولياء كما يسموهم في بعض البلاد العربية المجاورة . بالرغم أن بعضهم يقول لا أريد الشرك ولكن إذا لم أقم بزيارة هذا الولي فإنه يأتي إلي في المنام ويقول لي : لماذا لم تزرني؟ فما حكم ذلك جزاكم الله خيرا؟
ج : يسن للرجال من المسلمين زيارة القبور كما شرعه الله سبحانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة )خرجه الإمام مسلم في صحيحه ، وروى مسلم في صحيحه أيضا عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال : كان النبي يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية
وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان إذا زار القبور يقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ولم يكن حال الزيارة عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة الفاتحة ولا غيرها من القرآن ، فقراءتها وقت الزيارة بدعة ، وهكذا قراءة غيرها من القرآن لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )متفق على صحته ، وفي رواية مسلم رحمه الله يقول صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة : (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )وأخرجه النسائي وزاد كل ضلالة في النار فالواجب على المسلمين التقيد بالشرع المطهر والحذر من البدع في زيارة القبور وغيرها .(1/298)
س : إننا طالبات ندرس في مدرسة بنات وفي حصة القرآن الكريم يأمرنا الأستاذ بقراءة القرآن ونكون في حالة العذر ، ونستحي أن نخبر الأستاذ فنقرأ مراعاة لذلك ، فهل يجوز هذا ؟ وإن كان لا يجوز فكيف نعمل أيام الامتحان إذا صادفتنا ونحن في حال الدورة الشهرية ؟
ج : اختلف العلماء رحمة الله عليهم في قراءة الحائض والنفساء للقرآن الكريم : فذهب جماعة من أهل العلم إلى تحريم ذلك وألحقوهما بالجنب ، وقالوا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أن الجنب لا يقرأ القرآن ، لأن الجنابة حدث أكبر ، والحيض مثل ذلك ، والنفاس مثل ذلك فقالوا : لا تقرأ الحائض ولا النفساء حتى تطهرا ، واحتجوا أيضا بحديث رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه يجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب؛ لأن مدتهما تطول أياما كثيرة فلا يصح قياسهما على الجنب؛ لأن مدته قصيرة؛ لأن في إمكانه إذا فرغ من حاجته أن يغتسل ويقرأ ، أما الحائض والنفساء فليس في إمكانها ذلك ، وقالوا في الحديث السابق الذي احتج به المانعون إنه حديث ضعيف ، ضعفه أهل العلم لكونه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين وروايته عنهم ضعيفة ، وهذا القول هو الصواب . فيجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب ، لأن مدتهما تطول فقياسهما على الجنب غير صحيح ، فعلى هذا لا بأس أن تقرأ الطالبة القرآن ، وهكذا المدرسة في الامتحان وغير الامتحان عن ظهر قلب لا من المصحف. أما إن احتاجت إحداهن إلى القراءة من المصحف فلا حرج عليها بشرط أن يكون ذلك من وراء حائل كالقفازين ونحوهما .
س : ماحكم قراءة القرآن فى وقت الفراغ فى العمل ؟(1/299)
ج : إذا لم يكن لديك عمل فلا حرج في قراءة القرآن ، وهكذا التسبيح والتهليل والذكر ، وهو خير من السكوت ، أما إذا كانت القراءة تشغلك عن شيء يتعلق بعملك فلا يجوز لك ذلك ، لأن الوقت مخصص للعمل ، فلا يجوز لك أن تشغله بما يعوقك عن العمل .
س : ما حكم قراءة القرآن على الميت ووضع المصحف على بطنه ، وهل للعزاء أيام محدودة حيث يقال : إنها ثلاثة أيام فقط؟
ج : ليس لقراءة القرآن على الميت أو على القبر أصل صحيح ، بل ذلك غير مشروع ، بل من البدع ، وهكذا وضع المصحف على بطنه ليس له أصل ، وليس بمشروع ، وإنما ذكر بعض أهل العلم وضع حديدة أو شيء ثقيل على بطنه ، بعد الموت حتى لا ينتفخ .
وأما العزاء فليس له أيام محدودة ، بل يشرع من حين خروج الروح قبل الصلاة على الميت وبعدها ، وليس لغايته حد في الشرع المطهر سواء كان ذلك ليلا أو نهارا ، وسواء كان ذلك في البيت أو في الطريق أو في المسجد أو في المقبرة أو في غير ذلك من الأماكن .
س: ما دام القرآن كله شفاء فلماذا تُخصَّص آيات للسحر، والعين؟(1/300)
ج : حيث إن تلك الآيات فيها ذِكر للسحر، وإبطاله ، كانت مناسبة لفكِّ ذلك السحر ، الذي هو من عمل الشيطان ، كقوله تعالى: (أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ )فهي صريحة في أن أمر الله تعالى يُبطل عملهم ، وهكذا قول موسى (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ )أي سيُبطل عملكم أيها السحرة ، فمناسبتها لما فيها من إبطال أعمال أولئك السحرة، وهكذا غيرهم ، وهكذا قوله تعالى: (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى )يدل على أن كيدهم باطل، وأن الله يُبطل عملهم مهما كان ، وهكذا قوله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ )صريحة في أن عملهم بالأبصار هو الإصابة بالعين ، ففيها كفٌّ لشرهم، ودفعٌ لأذى العائن ، ومع ذلك كله، فإن قراءة القرآن مفيدةٌ لكل الأمراض ، ولها أثر بليغ في تخفيفها، وإزالة ضررها ، حيث إن كثيرا من الأمراض لا يُعالجها الأطباء ، الذين تخصَّصوا في الأوجاع الظاهرة ، ولا خبرة لهم بالأمراض النفسية ، كالصرع والجان ، والسحر والعين ، فكان علاجها بهذه الرُّقية التى حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على استعمالها بقوله: (لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركا )وبقوله: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه )وثبت أنه صلى الله عليه وسلم رقى نفسه، ورقى غيره، ورقاه المَلك ، وأقرَّ الرُّقية من ذلك اللَّدِيغ وقال: (لا رُقيةَ إلا من عينٍ أو حُمَّة )أي لا رُقية أنفع وأجدى من الرقية للإصابة بالعين أو الحُمَّة ، أي لَسعة ذوات السموم.
س: متى يبتدئ وقت سُنية قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟(1/301)
ج : الصحيح أنه يقرؤها في أول نهار الجمعة، أي بعد صلاة الفجر، ويجوز تأخيره لقراءتها إلى حضور الصلاة، وأجاز بعضهم قراءتها في آخر النهار. وقد ورد فيها حديث مرفوع، صححه بعض العلماء، وفيه أن من قرأها، أضاء له نور ما بينه وبين السماء إلى آخره. والله أعلم .
س : هل يُجزئ في تشغيل سورة البقرة في المنزل تشغيلها في غرفة واحدة، وتكفي عن البيت بكامله ؟ أم لا بد من تشغيلها في كل غرفة في البيت ؟
ج : لا بأس بقراءتها في غرفة واحدة، أو في رَحَبة الدار، إذا قرأها في أحد المنازل حُفظ بإذن الله ذلك البيت من الشياطين؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يَهرب من المنزل الذي تُقرأ فيه سورة البقرة ).
س : الأوراق التي فيها اسم الله تعالى، أو آية من القرآن الكريم ونحو ذلك عند عدم الحاجة إليها فهل يكفي الطمس على الموضع بالقلم أم تمزق الورقة أم لا بد من حرقها ودفنها في مكان طاهر؟
ج : يلزم احترام أسماء الله تعالى وكلامه، فمن وجد شيئًا من الأوراق فيها اسم الله تعالى فعليه رفعها عن الأرض وعن الامتهان، فإما أن تحفظ في موضع خاص حتى تتلف، وإما أن تدفن في موضع نظيف حتى تأكلها الأرض، وإما أن تحرق حتى يزول أثرها، وإما أن يُطمس ما فيها من أسماء الله تعالى وصفاته، وإما أن تُمزق بواسطة ماكينة الإتلاف حتى لا تتعرض لوطء الأقدام وإهانتها مع الأقذار.
س : كتاب التفسير الذي يكون القرآن مكتوبًا في صفحاته كاملًا كالمصحف تمامًا، والتفسير يكون في الجانب، هل يجوز مَسُّهُ لمن هو على حَدَثٍ أكبر دون حائل أم يعتبر قرآنًا؟ وهل يجوز مس المصحف العادي، والقراءة منه لمن هو على حدثٍ أصغر، أم أن هذا يُبْطِلُ الأجر؟(1/302)
ج : هذا التفسير يعتبر كالمصاحف حيث إن القرآن موجود فيه جميعًا بصفحاته، فلا يجوز للْمُحْدِث أن يَمَسَّهُ بدون حائل؛ لقول الله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )فكل المصاحف التي هي تنزيل من رب العالمين، لا يمسها إلا من هو طاهر من الْحَدَثَيْنِ: الأصغر والأكبر. وقد ورد في الحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر )وعَمِلَ بذلك الصحابة، كما في الموطأ عن سعد بن أبي وقاص وغيره.
ويجوز مس التفاسير التي لا يكون فيها القرآن مكتوبًا بصفحاته والكتب التي فيها آيات من القرآن، ولا يجوز مس المصحف العادي لمن عليه حدث أصغر، أو أكبر، لظاهر هذه الأدلة.
س : هل يجوز إحراق المصاحف إذا كانت قديمة ولا يستفاد منها لأن أوراقها ممزقة؟
ج : إذا بليت أوراق المصاحف وتمزقت ولم يعد ينتفع بها جاز إتلافها إما بأن تدفن في مكان طاهر حتى يأكلها التراب، وإما أن تحرق، ولا يجوز أن تلقى مع القمامات والنفايات، فإن في ذلك امتهان لها. والله أعلم.
س: يعتقد البعض أن النوم على المصحف وجعله تحت فراشه أو قريبًا منه يمنع عنه الحلم المزعج فما حكم ذلك؟
ج : لا يجوز النوم على المُصحف، أي جعله كوسادة أو تحت الوسادة؛ فإن في ذلك إهانة له وامتهان وعدم احترام لهذا القُرآن، فعلى هذا لا حقيقة لمن يدَّعي أن النوم على المُصحف أو جعله تحت الفِراش يمنع من الأحلام المُزعجة.
هل القرآن حجة لك أم عليك؟
أيها المسلم الحبيب:
هل القرآن حجة لك أو عليك؟
فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدوا فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها) (رواه مسلم).
وهذا نداء يوجه إلى قارئ القرآن فنقول:
يا قارئ القرآن:
- أترى أيكون القرآن حجة لك أو عليك ؟
- أترى أيكون القرآن شفيعا لك عند ربك ؟
- أترى أيحاج عنك القرآن في قبرك ؟
فلا تتعجل الإجابة، ولكن نقول:
إذا أوقفك الله تعالى بين يديه، وسألك:(1/303)
يا قارئ القرآن، ألم تقرأ آية كذا؟، أتذكر آية كذا، فهل عملت بها ؟
فلتعلم أيها الحبيب:
أن قدم العبد لن تزول يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، منها: (عن علمه فيما عمل به).
ونحن نستعرض سوياً جانباً من هذه الآيات، ونريد منك أن تجيب هل هي حجة لك أو عليك.
[1] ألم تقرأ قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 208)
- فهل تعمل بالإسلام عقيدة وشريعة؟ وهل تعمل بالإسلام الشامل الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه لأمته على مدى ثلاث وعشرين عاماً ليلاً ونهاراً سراً وجهراً؟
- وهذا يتطلب منا أولا أن نسألك: ماذا تعرف عن الإسلام الذي أنزله الله تعالى على رسوله ، وقام صلى الله عليه وسلم بتبليغه على أتم وأكمل صورة؟
- فهل هذه الآية حجة لك أو عليك ؟
[ 2] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب : 59)
- فما فعلت أيتها المسلة في نفسك؟ هل هذه الآية حجة لك أو عليك؟ وإن كنت ممن يطبق هذه الآية، هل حجابك هو الحجاب الذي أمر الله به، أم أنت تتحجبين بالصورة التي تريدين؟
- وكذلك هذه الآية موجهة إلى أولياء المرأة، هل هذه الآية حجة لك أو عليك؟ هل حملت زوجك وبنتك على إلتزام الزى الذي أمر الله به؟
- فماذا تقولين، وماذا تقول لربك يوم القيامة؟ أتدافع عنا هذه الآية أم تقل ضيعتني أخزاك الله ؟
[3] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ( البقرة: 278).(1/304)
- هل معاملاتك حسب ما حكم وقضى الله ورسوله، أم إنك لم تنظر في معاملاتك، فأنت تجريها على حسب العادات والأعراف السائدة بين الناس؟
- هل مالك تكتسبه من سبل مشروعة ؟ وإذا أنفقته أنفقته في مرضاة ربك؟
- فهذا المال الذي تشتري من خلاله المرأة هذه الملابس الفاضحة.
- وهذا المال الذي يشتري به الرجل الدخان.
- وهذا المال الذي ينفق في المتنزهات والمحرمات.
- فماذا تقول لربك يوم القيامة؟
- أهذه الآية حجة لك أو عليك؟
[4] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بالألقاب بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 11، 12 )
- فهذه الآيات هل وقفت على بنودها، وعلمت جملة هذه المحظورات التي حذر الله منها؟
- فهل أنت ممن يستخف بغيره؟
- وهل أنت ممن ينتقص من شأن الآخرين؟
- وهل أنت ترى أنه لا يساميك أحد فتستطيل على خلق الله؟
- هل أنت تلمز وتغمز على غيرك؟
- هل أنت تظن السوء بإخوانك؟
- هل أنت ممن يتجسس على إخوانه؟
- هل تصدر منك الغيبة والنميمة؟ هل تذكر إخوانك بسوء؟
فنقول لك:
أتظن أن هذه الآية حجة لك أو عليك؟(1/305)
[ 5] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18)
- هل تفكر في الموقف الرهيب الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين؟
- هل أعددت العدة لسفرك لطويل؟
- هل استعددت بإعداد زاد الآخرة الذي يبلغك المنزل أم أنك جئت ببضاعة مزجاة؟.
- هل اقتطعت من وقتك لأمر الآخرة، وإن كنت اقتطعت جانب من وقتك لطلب الآخرة، فهل هذا بالوقت الكافي للوصول إلى المنزل؟
- فهل هذه الآية حجة لك أو عليك؟.
[6] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)( النساء:144)
وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ( المائدة: 51)
وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ( المائدة: 57).
فنقول لك:
- من تصاحب؟ هل تعرف عقيدة الولاء والبراء؟ وهل أنت تحب في الله وتبغض في الله؟ هل من أصحابك من هو من أهل الكتاب؟ هل تكن له مودة؟ هل تكن له في قلبك محبة؟ هل تتشبه بهم؟ فلتحذر.
- فهل هذه الآية حجة لك أو عليك.
[7] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) ( الأنفال: 24)(1/306)
- فهل هذه الآية حجة لك أو عليك؟
إذا قلت: أنا ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
قلنا: هل اطلعت على أوامر ربك ونواهيه؟ هل اطلعت على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ربه؟ هل أنت عالم بالإحكام التي تعبد الله الناس بتنفيذها.
- هل أنت تعرفت على سنة رسولك صلى الله عليه وسلم التي اشتملت على كل أبعاد حياة الإنسان؟
- فهل هذه الآية حجة لك أو عليك؟
[8] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) ( التوبة : 119)
فقد أوجب الله علينا ملازمة الصالحين والصادقين.
- فهل صاحبك القريب منك ماذا تقول عنه في ميزان الله ليس في ميزانك مدى استمساكه بدين الله علماً وعملاً وتطبيقاً وسلوكاً، عقيدة وشريعة؟
- فهل هذه الآية حجة لك أو عليك؟
- [9] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا *وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا *هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ( الأحزاب: 41 – 43 )
فقد أوجب الله على الإنسان ملازمة ذكره لربه تعالى، وأن لا يغفل ولا يفتر عن ذكر ربه، وأن يعترف دوما بفضل الله عليه، إذ نجاه من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد والعبادة.
- فهل أنت دائم الذكر لربك بقلبك ولسانك وجوارحك؟
- فهل هذه الآية حجة لك أو عليك؟
[10] ألم تقرأ من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) ( الصف: 14)(1/307)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)( محمد: 7)
فقد أوجب الله تعالى علينا نصرة دينه وشرعه، وأن تكون جنداً من جنود الله تعالى، فمن يذب ويدافع عن دين الله سبحانه؟
- فهل أنت بهذه الأوصاف والأحوال؟
- فهل هذه الآية حجة لك أو عليك.
- أيها المسلم الحبيب:
- هذا قليل من كثير، وما أردنا إلا التنبيه على ما نحن مقبلين عليه عند الله تعالى، فماذا أعددت لسؤال ربك غداً؟
(قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ( الإنعام: 135 )
وأخيراً..
إننا ما زلنا في زمن الإمكان، والقدرة على التوبة والاستغفار..
فضع يدك في يدي ، وتعال لنعلنها توبةً نصوحاً لله تعالى من تقصيرنا في حق كتابه، وتفريطنا في أداء حقوقه والقيام بواجباته..
ولنجدد مع كتاب الله تعالى العلاقة، قبل أن نبحث عنه فلا نجد له خبراً، ونستعين به فلا نجد له أثراً.. قال صلى الله عليه وسلم : (ولِيسْريَ على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية.. ) (رواه ابن ماجه والحاكم).
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وحجةً لنا لا علينا.. آمين.
(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر : 44)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
* أهم المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- موسوعة الأحاديث النبوية ( البخارى - مسلم – النسائى .....)
- زاد المعاد في هدي خير العباد: الإمام ابن القيم.
- مباحث فى علوم القرآن : مناع خليل القطان
- مباحث فى إعجاز القرآن :د.مصطفى مسلم
- فضائل سور القرآن الكريم :على بن عبد الله الشهرى
- فضائل القرآن : للنسائى ، للرازى ، لابن كثير ، لابن أبى شيبة
- الإتقان فى علوم القرآن : للسيوطى(1/308)
- البرهان فى علوم القرآن : الإمام الزركشى
- اللآلئ الحسان فى علوم القرآن : موسى شاهين لاشين
- إعجاز القرآن : الباقلانى
- التبيان لكل شئ من خلال القرآن : د. عبد الرحمن بن جميل
- مختصر التبيان فى آداب حملة القرآن : الإمام النووى
- مدخل إلى القرآن الكريم : د . محمد عبد الله دراز
- مناهل العرفان في علوم القرآن : محمد عبد العظيم الزرقاني
- جمع القرآن فى مراحله التاريخية : محمد شرعى ابوزيد
- بحوث ومقالات فى الإعجاز العلمى فى القرآن : د.زغلول النجار
- مواقع المشايخ : الشيخ محمد حسان ، الشيخ مصطفى العدوى ،
الشيخ محمد حسين يعقوب ، الشيخ ابن باز ، الشيخ ابن عثيمين
الشيخ ابن جبرين ، الشيخ د.عبد العظيم بدوى ،الشيخ عائض القرنى
- مواقع إسلامية أخرى على الشبكة العنكبوتية .
- الحقائق الطبية في الإسلام: د. عبدالرزاق الكيلاني.
- الاستشفاء بالقرآن والتداوي: محمد عصام طربية.
- روائع الطب الإسلامي: د. محمد نزار الدقر.
- أحكام الرقى والتمائم: د. فهد السحيمي.(1/309)