بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة مع الله هذا عنوان يوحى بادى الرأى أن الكتاب الذى يتناوله القارىء يتضمن معانى كثيرة من ذلك اللون المثير للخشوع ، الباعث على الإنابة ، الصاعد بالناس من دنياهم المعتمة إلى آفاق الملأ الأعلى . لعله صلوات قانتة تغمر المحاريب بالأسى الرقيق . أو دعوات مُحتبسة ترسلها عاطفة مُلتاعة ، وينغمها صوت شجى، يأذن لها رب العالمين، حين يتردد صداها بين الأرجاء، كما أذن لنبيه داود حين أوبت الجبال معه، وحومت الطير حول تسبيحه وتحميده . أو لعل الكتاب مجلى لأثار الإبداع العظيم فى السموات والأرض، يحصى ما وصل إليه العلم الإنسانى من عظمة الخالق فى ملكوت رحب، وعوالم تغزو بالدهش لب المتأمل فى صفحاتها، الغائص وراء أسرارها، المقدس لجلال الله فى علوها وسفلها وعرشها وفرشها . إن الكتاب ليس هذا، ولا ذاك . ! إنه مع الله على نحو آخر، نحو يدرج مع الإنسان فى واقعه المشحون بالحركة، ويلتصق به فى دنياه الطافحة بالنزاع . وهو يحرس الإيمان فى تلك الميادين العملية ، ويتابع خطوة هنا وهناك ليطمئن على سلامة الوجهة واستواء الطريق . أجل ، فكم من لحظات مشرقة يصنعها التفكير العالى ، أو تضيئها السبحات الطهور، فإذا تعرضت لعراك الأحياء، وتيار الحياة فكما تتعرض الشعلة اللطيفة للرياح الهوج، لا تلبث أن تذهب بها.. ثم يعتكر الظلام . أو كما يحتفظ الخطيب الناشىء بالكلمات التى يريد إلقاءها، فإذا وقف بين الناس شدهته روعة الموقف فلا يدرى ما يقول . !
ص _004(1/1)
إن هناك إيمانا أساسه الخيال، أو الشعور الموقوت، أو التأثر العاجل. وإيجاد هذا الإيمان سهل، وسمو المرء به حينا ممكن. ولكن الإسلام يبتغى إيمانا يصحب المرء فى أحيانه كلها، ويصبغ أحواله المتباينة بصبغة ثابتة، ويظل معه فى صحواته وغفواته، فى بيعه وشرائه، فى صداقته وخصومته، فى فرحه وفى ترحه، فى وحدته وعشرته . وهو بهذا الإيمان يكون مع الله ، أو يكون الله معه . لأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . والإسلام حين شرع الصلوات التى تقف الإنسان بين يدى ربه مناجيا ومناديا فرض عليه فيها قراءات تصله بالله عن هذا الطريق العملى . فهو مع فاتحة الكتاب يقرأ آيات ذات موضوعات وثيقة الأواصر بدنيا الناس. فيها الوعظ الزاجر، وفيها التشريع المتعلق تارة بالمواريث، وتارة بالديون، وتارة بالحروب ، وتارة بالآداب العامة . وفيها الكلم الوصاف للكون، الجواب مع الأفلاك، المتحدث عما سكن فى الليل والنهار. وفيها القصص المتتبع للأحداث، الراوى لأفعال الأولين ومصايرهم، كى يعتبر بها أولو الأبصار. هذه الصلوات هى مناجاة لله لا ريب، ولكنها مناجاة لرب يطلب من عباده أن يطلبوا وجهه، وهم فى مشاغل العيش، وقضايا الدنيا الملأى بالعقد. وأن يجعلوا هذه الساعات بين يديه دعائم لإحسان ما يليها من سائر العمر. والمشكلة- فى نظرى- هى كيف نمد ساعات الصفاء الروحى فى حياتنا، فلا تطغى عليها طباع السوء، ولا تجرفها أكدار الدنيا وأهواؤها؟ إن بدايات الخير فى بعض الناس قد تنقطع فلا تتصل أبدا. لماذا؟ لأن المرء إذا استرسل مع داعى الفتنة، واستجاب لإغراء الشيطان، كان كالسابح ضد الشاطىء . مهما ضرب بذراعيه فالغرق لا محالة مدركه . ومهما ارتفعت الأصوات به فأنى يجد صخرة يرسو عليها ؟ ص _005(1/2)
والناس فى الحياة كذلك. إنهم غرقى فى بحرها حتما، ما لم يتوبوا إلى الله بين الحين والحين، معولين عليه وحده. (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين) . * * * وهذا الكتاب الموجه إلى الله يتمشى مع الإسلام الحنيف، ويعتمد أصوله وحدها. ذلك أن الإسلام- كما نعتقد- هو الأديان كلها من بدء الخلق إلى ميراث الله للسموات والأرض. فالقرآن الكريم- فى نظرنا- هو الوثيقة الفذة الجامعة لمعاقد الوحى الآلهى، المفرق على الأعصار الماضية، والمبلغ للأم الأولى. وهو وثيقة ضنت بها السماء على البلى والتشويه، فبقيت وستبقى التعبير الأوحد الأصح عن مراد الله من خلقه قاطبة. ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى فهمنا نحن المسلمين- الإنسان الذى التقت فى شخصه أمجاد النبوات القديمة وجهودها النبيلة لتزكية البشر، وقيادتهم إلى الله، وتبصيرهم بالصراط المستقيم. فنحن إذ نتبعه، فعن حب لله، والتماس لرضاه. ونحن إذ نكرمه فإنما نكرم فى سيرته كل معلم نفث فى روعنا الحق، وأودع فى بصائرنا النور. والإسلام- فى نظرنا- هو الوحدة الدينية التى تؤاخى بين الأنبياء، وتوفر صحائفهم، وتصون تراثهم، وتحقق فى هذا العالم أهدافهم. (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) . ومن ثم فنحن نرى فى هذا الإسلام الجامع، الكفاية المشبعة للأزمات الروحية والفكرية التى يعانيها الناس، ويتطلعون منها إلى مخرج . ص _006(1/3)
ونرى فيه المنهج الذى ينفى متاعب الحيرة والشرود، ويبعد أسباب الغضب والطرد، ويصل الإنسان بالله صلة ناعمة كريمة. * * * هذا الكتاب للدعاة وليس للعامة.. ألفته لهم، ودرست جملة من أبوابه معهم. ذلك أن مشيخة الأزهر رأت- مشكورة- أن أحاضر فى تخصص الدعوة والإرشاد بكلية أصول الدين، وأن ألقى على الطلاب كلمات فى " الدعوة إلى الله " ، وفق منهج مرسوم ، وقد صادف هذا الكتاب هوى فى نفس فنشطت للنهوض به . وإن كنت أعترف بأن حال الطلبة تقبض الصدر، وتملأ النفس كآبة . وهيهات أن يتكون منهم- بهذا الوضع- جهاز للدعاية الإسلامية الناجحة !! ولابد من إعادة النظر فى هذه الكلية شكلا وموضوعا كى تحقق بعض الآمال المعلقة عليها. إن تكوين الدعاة يعنى تكوين الأمة . فالأمم العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال الموهوبين. وأثر الرجل العبقرى فيمن حوله كأثر المطر فى الأرض الموات، وأثر الشعاع فى المكان المتألق. وكم من شعوب رسفت دهرا فى قيود الهوان، حتى قيض الله لها القائد الذى نفخ فيها من روحه ريح الحرية، فتحولت- بعد ركود- إلى إعصار يجتاح الطغاة، ويدك معاقلهم. وأذكر أنى سمعت رجلا من كبار أساتذتى ينوه بهذا المعنى، ويقول: أنا أؤمن بالواحد !! وهى تورية لطيفة . يشير- طيب الله ثراه، وبلل بالرحمة ذكراه- إلى أن الفرد الكبير يخلق العجائب فى النفوس، ويستطيع أن يجمع المتفرق، ويعلم الجهول، ويقرب البعيد، ويلمس بجهده الساحر ما حوله، فإذا هو يسوقه صوب ما يريد. وهو يستشهد لقوله هذا بأن الله بعدما وصف المذلة التى عاناها قديما بنو إسرائيل، وحينما شاء أن يرفع من وضاعتهم، ويمكن لهم بعد زلزال، ذكر جل شأنه نبأ الرجل الذى سوف يجرى على يديه هذا التحول الغريب فقال: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) . ص _007(1/4)
ولا عجب فهل تاريخ العالم إلا صحائف لنفر من الناس لمعت أسماؤهم فى شتى الأفاق، بينما استخفت ألوف مؤلفة من أسماء الدهماء ؟ إن الشيوعية الكذوب، تمارى فى هذه الحقيقة، وتزعم أن الأفراد مهما عظموا لا وزن لهم، وأن الفضل كله للجماهير. وليت شعرى ما يصنع الرعاع وحدهم فى هذه الدنيا؟ إنهم يظلون فى أماكنهم حيارى حتى يجىء السواق الممتاز، فيصرفهم هنا وهنالك. ومن هنا أرى أن سبيل النهضة الناجحة لا يتمهد إلا إذا استطعنا- على عجل- بناء جماعات من الدعاة المدربين البواسل. ينطلقون فى أقطار العالم الإسلامى ليرأبوا صدعه، ويجمعوا شمله، ويمسكوه ويبصروه لغايته، ويتعهدوا مسيره، ويقوموا عوجه، ويذودوا عنه كيد الخصوم، ومكر الأعداء، وعبث الجهال، وسفاه المفتونين. الإسلام أحوج الأديان الآن إلى من يتعلمه على حقيقته النازلة من رب العالمين، ثم يكرس حياته لإنعاش المسلمين به، بعدما سقطوا فى غيبوبة طويلة علتها الأولى والأخيرة الجهل الطامس البليد. الإسلام أحوج الأديان الآن إلى الدعاة الذين يغسلون عنه ما التصق به من خرافات، ويقصون من طريقه الحواجز التى شعبت أهله، وقسمتهم طوائف ، ومذاهب (كل حزب بما لديهم فرحون) . الإسلام فقير إلى رجولات متجردة تهب حياتها لله ، وتجعل مماتها فيه، متأسية بالإمام الأعظم الذى نزل على لسانه: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت …) . * * * سيكون هؤلاء الدعاة طلائع النور فى أمة طال عليها الليل . وبوادر اليقظة فى أمة تأخر بها النوم . ص _008(1/5)
وأمل العالم فى عصر أجدبت فيه الدنيا من رسل الرحمة واليقين، وامتلأت بزبانية الأثرة والإلحاد . وأنا- والحق يقال- لا أرهب من الأخطار المحدقة بالإسلام أن خصومه يملكون كذا وكذا من أسباب الموت ، وكذا وكذا من وسائل الغلب . إننى لا أكترث بتلك القوى المعدة ، ولا ما يكمن فيها من دمار . وإنما أوجل أشد الوجل ، وأفزع أكبر الفزع ، عندما أرى المسلمين يتحللون من عهودهم مع الله ، وينسلخون من لباس التقوى ، وينساقون- بغباوة- مع الاستعمار المهدم لقوانا الروحية ، والمقطع لحبالنا الدينية . إننى أحزن إذ أرى حفلا تسقى فيه الخمر، أو مجمعا تموت فيه الصلاة، أو شارعا يموج بالكاسيات العاريات تتبعها الأبصار النهمة، أو ناديا يمتلىء بالأحاديث اللاغية والأفكار المنحطة، أو قرية تعيش فى أكفان الجاهلية وتقاليدها، أو مدينة تضطرب فى نفايات الحضارة الغربية ومباذلها لا تعرف غيرها . إن هذه جميعا عوارض الفناء ، وجوالب الهزيمة. بل هى الانتحار المؤكد، والضياع لرسالتنا وكياننا، والإياس من تأييد الله لنا وعونه معنا. ولابد للحفاظ على حياتنا، والإبقاء على تراثنا، والنجاة من عدونا. لابد أن نعود سراعا إلى إسلامنا جملة وتفصيلا، لنكون مع الله، ويكون الله معنا. وعبء هذا العمل على الدعاة الأذكياء الأتقياء ، الدعاة الذين ألفت لهم هذا الكتاب. * * * وأخيرا، لقد ساءلت نفسى: هل أنا أهل لهذا العمل ؟ لماذا لم أدعه لمن هو أزكى منى نفسا وأحسن خلقا ؟ ثم قلت: أجعله توبة نصوحا، وعهدا على الخير والصدق، وأستعين الله على الوفاء. وذكرت فى مطالعاتى لكتاب "الأمالى" ما رواه الأصمعى قال: " بلغنى أن بعض الحكماء كان يقول: إنى لأعظكم وأنا كثير الذنوب، مسرف على نفسى، غير حامد لها، ولا حاملها على المكروه فى طاعة الله عز وجل . ص _009(1/6)
قد بلوتها فلم أجد لها شكرا فى الرخاء، ولا صبرا على البلاء. ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه لترك الأمر بالخير والنهى عن المنكر. ولكن محادثة الإخوان حياة للقلوب وجلاء للنفوس وتذكير من النسيان " . ثم قال: " ... واعلموا أن الدنيا سرورها أحزان ، وإقبالها إدبار، وآخر حياتها الموت. فكم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومنتظر غدا لا يبلغه . ولو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.. " . بهذا الفهم كتبنا ، وعلى هذه النية مضينا . وندعو الله مع ألوف المؤمنين أمثالنا : (ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). محمد الغزالى ص _011
الفصل الأول
التعريف بالدعوة
ص _012(1/7)
التعريف بالدعوة ربما تجد فى الشوارع أناسا يسيرون لغير وجهة، تتعلق أبصارهم بالبضائع المعروضة فى المحال المقامة على الجانبين ، أو يشاهدون أشخاص السائرين أمثالهم فى الطريق. وربما تجد آخرين يسعون مسرعين لإدراك ملهى برىء أو خبيث. وقد تجد غيرهم منطلقا إلى مرتزقه الذى يعيش منه، فهو يهرع إليه عارفا ماذا سيصنع، ومتى يؤوب. إن الناس فى الحياة العامة صنوف شتى : بعضهم يعيش لا يدرك إلا أن الحياة قدرت له، فهو يتحرك فوق ظهر الأرض كيفما اتفق. وبعضهم تحبسه هموم الرزق، فهو لا يعرف إلا تحصيل القوت له ولأهله. وآخرون يبحثون عن السرور فى مظانه ليستمتعوا بما أمكن من لذات الدنيا. وأغلب الناس كذلك، يختلف عليه الليل والنهار وهو محاصَر بمآربه القريبة، مصروف بالمادة عما وراءها، محجوب بالمظاهر عن الحقائق الكبيرة، ناسيا أن "الله" خلقه لحكمة، واستعمره فى الأرض لأجَل، وكلفه فى عمره المحدود بأعمال، وضرب له موعدا للقاء رهيب يحاسبه فيه على ما فعل وترك وقدم وأخر. فى غمرة هذه الدنيا الفاتنة يرتفع صوت النبوة، لينبه الناس إلى ما سهوا عنه ، وليحذرهم مما انخدعوا به، وليُذكِّرهم بالزاد الذى يقدمون على ربهم به. فى غمرة هذه الدنيا، وفى انطلاق كل امرىء إلى غرضه الأثير عنه، يرتفع صوت النبوة شارحا للناس الغاية العليا في محياهم، ومنددا بالسبل المنحرفة التى توزعتهم، وحاديا إلى الطريق اللاحبة التى قلوا فيها، واستوحشت منهم، إنه صوت الحق المنزه البرىء، الضامن لسعادة العاجلة والآجلة معا : (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين ، وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ، وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) . ص _013(1/8)
لقد بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، ليعرفوا جماهير البشر بالله ، وبما أمر به ، وبما نهى عنه ، وليقودوهم قيادة حسنة إلى الصراط المستقيم . والصراط المستقيم خط معنوى ترسمه حسب طبيعة كل إنسان إرشادات الوحى الأعلى. فهناك نداءات مستمرة من الله لعباده ، تبين لهم الوجهة التى ينشدونها، والأعمال التى يؤدونها، والأغلاط التى يهجرونها . وهناك بواعث تمضى بالإنسان قدما إلى غايته الصحيحة، وتعينه على مقاومة المثبطات التى تخذل قواه ، والمعضلات التى تعوج به . ولما كان الناس خطائين بطبيعتهم، وكانت أهواؤهم تغلب على أحوالهم، فإن نقلهم إلى الصواب وتثبيتهم عليه يحتاج إلى جهد متصل ودعوة مستمرة، كما يحتاج إلى تلطف وإصرار. ولذلك جاء الأمر بالدعوة فى مواطن كثيرة من القرآن الكريم: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت) . (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة) . (وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) . (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) . (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) . (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . والدعوة إلى الله ليست صيحة مبهمة، أو صرخة غامضة. إنها برنامج كامل يضم فى أطوائه جميع المعارف التى يحتاج إليها الناس ليبصروا الغاية من محياهم، وليستكشفوا معالم الطريق التى تجمعهم راشدين. وقد تتغاير العصور فى أنصبتها من الارتقاء المادى والقوى الذهنية والعاطفية، لكن الإنسان فى أى جيل لا يعدم من هداية الله ما يكفيه ويغنيه. ص _014(1/9)
أعنى أن رسالات الله حيثما ظهرت كانت من الكمال بالقدر الذى يملأ على الإنسان أقطار نفسه وحسه، فلا يتطلب وراءها مزيدا. فى عصر التوراة كانت النصائح التى نزلت على "موسى" بحسب الناص يومئذ: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) . وعندما صعدت الإنسانية فى مدراج النضج الفكرى، واتسعت آفاقها العامة جاء القرآن الكريم فى أسلوب أعمق وأرحب، واتخذ فيه الحديث عن الله وعن الدار الآخرة صورا من البيان العالى والإقناع العلمى تطرد مع ما يبلغه الناس آخر الدهر من ذكاء وإحاطة. وتضمن كذلك من القواعد والأحكام مالا حاجة للناس بعده إلى إضافة أخرى تصلح بها النفوس أو المجتمعات أو الدول: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) وعندما نتأمل فى الآيات التى أمرت بالدعوة إلى الله ، نجدها أبرزت الخصائص التى تقترن بطبيعة الدعوة، وتناولت الأحوال التى تلابسها من قتل خصومها، وواضعى العقبات أمامها. فالدعوة إلى الله حق ، وكل دعوة إلى غيره باطل . ومنهجها مستقيم ، وكل منهج وراءها معوج . وهى تقوم على العقل والهدى، وغيرها يقوم على الحمق والهوى. وفي قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله) . نرى أن الدعوة إلى الله طريق مأنوسة ، لم يفتتحها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إنما مشى فيها على أعقاب من سبقوه من إخوانه المرسلين الذين أوحى لهم الله : (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) . ص _015(1/10)
وأن معالم هذه الدعوة لا ترسمها اجتهادات الأنبياء، ولا تنبع من فلسفات فكرية خاصة، بل هى توقيف من الله وتمش مع أمره، وأن البعد عنها هو ميل مع الشهوات واتباع للضلالات . وفى قوله : (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني …). ترى أن الدعوة ليس فيها ما يخفى، وأنها لا تضم جوانب تحجب عن البعض وتباح للبعض الآخر. إنها واضحة مكشوفة للعامة والخاصة، مستعلنة بكل دقيق وجليل فيها. وأن نداء البشر إليها قوامه البصر والمنطق والصدق، ودعامته الدليل الذى لا يقهر، ولا تنال منه الشبهات . وفى قوله: (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم). ترى الوصاة بالمضى فى الدعوة دون اكتراث بنزاع المخالفين، ولجاجتهم. فإن الذى وفق إلى الهدى المستقيم لا ينبغى أن يهتم لمعارضة الذين حرموا الهداية والاستقامة. وهكذا يتكرر الأمر بالدعوة فى سائر الآيات . فترى أن الإقناع بها يجب أن ينهض على الحصافة وإحسان العظة والاحتجاج. وأن الدعاة هم أصدق الناس قيلا ، وأشرفهم طريقا . وأن عملهم المستمد من وحى الله إنما هو تيسير لأسباب السلامة فى الدنيا والآخرة، وإطفاء للفتن العاجلة والآجلة . وثمرة الجهاد الطويل للدعاة إلى الله هى من حظ الناس وحدهم . فالله غنى عن عباده . والرجال الكرام من أنبيائه لا يرتقبون من الناس شيئا لقاء عملهم . إن هذا النداء المتكرر على ألسنة المرسلين ليس إلا مظهرا من رحمة الله العامة وعطفه على المعلولين والحائرين . إن الأم إذا لم تنتعش برسالات السماء ، فهى جماهير من موتى القلوب ، أو هى ألوف من الرمم الهامدة ، وإن حركتها الغرائز السافلة . ص _016(1/11)
ولذلك يقول الله : (استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم) . والأمم مهما ارتقت من الناحية النظرية أو الصناعية ، فإن بعدها عن الله يزين لها من الجرائم ما تنحط به إلى الدرك الأسفل، وما تتعرض به لأوخم العواقب. ولذلك ورد فى القرآن العزيز: (..أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين) . على أن الناس لا تهتدى إلى الحق بقيام دعاة له يتلون آيات الله . بل لابد أن يقوم المدعوون بجهد آخر يفقهون به الدعوة ، ويلينون مشاعرهم وأعضاءهم للسير معها. لابد من يقظة الضمير الشخصى بعد يقظة العقل لاستيعاب ما ألقى إليه. والدعوة لا تتم إلا بسلامة الذهن الذى يتصورها، والذى تتماسك فيه حقائقها. فمع ضعف العقل وقلة الوعى لا ينتظر قيام دعوة. وتدبر قوله الله سبحانه: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) . وقوله تعالى: (حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) . تجد المستوى الأدبى العالى ضروريا لتحملها . وبعد حسن الفقه يجىء حسن القبول وكمال الإذعان: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) . أما الذين لا يفهمون الدعوة ، أو الذين يفهمونها ولا ينطبعون بها ، فلا تصح بينهم رسالة . ص _017(1/12)
لابد من حركة يتجاوب بها العقل والضمير مع أمر الله ، ويُثبت بها الإنسان استعداده للاستقامة مع هُداه . وفى الصراط المستقيم الذى يدعو إليه رب العالمين ، وفى الطرق المنحرفة التى وقفت بأفواهها الشياطين ، يقول الله جل شأنه: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) . وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ضرب الله مثلا صراطاً مستقيماً ، وعن جنبتى الصراط سوران ، فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعرجوا " . وفوق ذلك داع يدعو ، كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه . ثم فسره ، فأخبر أن الصراط هو الإسلام ، وأن الأبواب المفتحة محارم الله ، وأن الستور المرخاة حدود الله . والداعى على رأس الصراط هو القرآن ، والداعى من فوقه هو واعظ الله فى قلب كل مؤمن " يعنى الضمير العاصم من الإثم ، الواقى من الشرود . فالقرآن يقود المرء على النهج القويم ، واستحضار وحيه يغرى بالثبات فيه وعدم الانحراف يمنة أو يسرة . وهذا الانحراف مظنة الزيغ بعد تخطى الحدود وتمزيق الأستار . * * * ص _018(1/13)
* الحاجة إلى الدعوة الناس لا يستغنون عن رزق الله ولا عن هدايته. هم فقراء إليه فيما يطعم أبدانهم من جوع ، وفيما يزكى أرواحهم من كدر . ومهما أوتى بعضهم من ذكاء أو صفاء ، فإنه لن يستطيع تدبير شأنه وإصلاح أمره بعيدا عن وحى الله وتعليم أنبيائه . إن مواهب الإنسان المادية والأدبية كبيرة ، وربما مرت به أوقات يحس فيها أنه بحسبه ما وصل إليه بتفكيره ، وأسعفته قواه . بيد أن هذا الغرور لن يجر فى عواقبه إلا الشر . وسيكدح الإنسان ويمضى وحده ، محروما من عناية السماء . ثم يلتفت إلى مكاسبه بعدما جرى شوطا طويلا ، فلا يرى شيئا . بل سيرى أن جهوده التى ذهل فيها عن ربه كانت عليه وبالا . إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول يجنى عليه اجتهاده ولعل مصداق ذلك حال العالم من نصف قرن . إنه يتقلب بين فلسفات شتى ، بعضها ينكر الله أصلا ، والبعض الآخر يسىء معرفته ، ويغلب هواه على وحيه . فماذا جنى العالم من جحده للألوهية ، أو جهله بحقيقتها وحقوقها ؟ شقاء يرجم العالم بالدماء فى أيام الحروب ، ويرجمه بالقلق فى أيام السلام. فهو بين الحروب الباردة والساخنة ، محطوم الأعصاب ، فارغ الفؤاد . وقد يكون هناك فريق من البشر ميسر اللذائذ ، مفلت الزمام ، يرخ فى الدنيا مثلما ترتع الأنعام فى الربيع . فأى شىء فى هذا ؟ عجول تسمن للذبح . فإما أعطبتها فتن الحياة التى ارتكست فيها ، وإما أخر لها جزاؤها فى جهنم ، فهى هنالك تدعو ثبورا ، وتصلى سعيرا . إن الحاجة إلى وحى الله ، وقيادة المرسلين لا تنقطع أبدا . ص _019(1/14)
والذين يقولون: إن هناك غنى عن الدين هم فى الواقع أقوام لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون بلقائه بعد الممات ، ولا يتصورون قيامه جل شأنه على نفوسهم وأعمالهم فى هذه الحياة . وقد تمزق على شفاههم كلمات : " الله " ، " الفضيلة " ، " المثل العليا " دون أن يكون لهذه الكلمات مدلول حقيقى فى أنفسهم . إنه نوع من الشقشقة الفارغة ، ليس وراءها جد فى الصلة بالله ، والأخذ عنه وتحكيم شرعه ، والتهيؤ لحسابه فى يوم الدين . وقد مرت بالعالم أعصار طوال ، ليس من بينها عصر خفت فيه حاجته إلى دعوة الله ، وصوت الوحى ، لكن هذا العصر الذى نعيش فيه هو أشد العصور فقرا إلى الاتصال بالسماء ، والانعطاف إلى الدين ، والتوقير لكلمات الله . ذلك أن الرقى العقلى المحض الذى بلغته الإنسانية يجعل مستقبلها على حافة الهاوية ، إن لم يقترن هذا الرقى باكتمال روحى معتمد على الله ورسله . إن الذكاء الحاد فى الرجل الخبيث سلاح شر ، وأداة فتك . وما يعيب أحد الذكاء ، وإنما يعيب النفس الرديئة التى تسخره فى الأثام . ونحن الآن فى فترة من تاريخ الدنيا يظن الإنسان فيها أنه امتلك الفضاء ، وأوتى مفاتحه ، فهل ذلك بشير خير؟ كلا . إن الجفاف الروحى ، والانقطاع الرهيب عن الله رب العالمين ، والصدود الغريب عن تراث النبيين ، وغلبة الأثرة والجشع على الأقوياء ، وسيادة المنطق المادى فى كل شئ ، إن هذا نذير شؤم. وأى تقدم يحرزه العلم فى تلك الميادين لا يبعث على التفاؤل ، ما لم يصحبه عود سريع إلى الله ، وإعزاز لأمره ، وإعلاء لشرعه . * * * إننا ـ مع احترامنا البالغ للعقل الإنسانى ، والضمير الإنسانى ـ لا نرى فيهما غناء عن كلام الله ، وسنن المرسلين . ذلك أن هناك معارف تتصل بذات الله ، وما ينبغى له وما كلف به عباده من فروض ، لا مجال لتلقيها إلا من منبىء عن الله ، موثوق بأخباره . وأعرف أن بعض الناس يزهد فى معانى العقيدة ، وضروب العبادة . ص _020(1/15)
لا لشيء إلا لأنه فى أعماق نفسه مكذب بوجود الله ، مستهزئ بما أوجب من صلاة وصيام مهما أظهر غير ذلك . ثم إن هناك أحكاما شخصية واجتماعية ودولية فصلها الحق تبارك اسمه ، فى وحيه الصادق . والاستمساك بها إنفاذ لأمر الله ، وضمان لمصالح الناس مهما جادل المجادلون . وقد تصل بعض الفلسفات إلى أطراف مهوشة مبهمة من حقائق الإيمان . وقد تصل بعض المذاهب الاجتماعية والاقتصادية إلى أجزاء صغيرة أو كبيرة من رعاية المصالح العامة . بيد أن ذلك لا يغنى عن الحق النازل من عند الله ولا يسد أبدا مسده ، بل إن الافتتان به لا يزيد العالم إلا ضلالا وبلبلة . لقد رأينا أناسا فى ظل العقل الإنسانى والضمير الإنسانى- أجل فى ظلهما وباسمهما- يرون الإلحاد تفكيرا حسنا ، والزنا عملا عاديا ، والربا قاعدة عادلة ، وظلم الأم المختلفة شيئا لا حرج فيه ، واحتقار جنس ما حقا لجنس آخر . والحضارة التى تسود الشرق والغرب جميعا ، إن أغضت عن قيام فكرة الألوهية وسلمت لبعض الأتباع الحانين عليها ، فهى- فى ظل العقل والضمير كما يقال- لا تسمح بامتدادها إلى خلق أو سلوك أو سياسة . كأن الخلق والسلوك والسياسة يجب أن تعزل عن الله ! لم ؟ لأن بينها وبين الله عداوة لا تهدأ . فما قيمة عقل يصد عن الله وضمير يستسيغ ذلك الصدود ؟ وأى خير للناس إذا حرموا السير مع وصايا ربهم وتوجيهاته ؟ إن الوحى الإلهى ، دواء لعلل ، وإسعاد من نصب : (وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين) . فمتى يستغنى العليل عن الشفاء ، والشقى عن الرحمة ؟ * * * ص _021(1/16)
وإذا قلنا: إن الناس بحاجة إلى الدين، وإلى الدعوة الدينية، فإنما نعنى الإسلام الحنيف، لا أى تدين مبهم . فإن هناك أقواما- بإيحاء من عقائد معينة- ينقضون (عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض) . نعم ، إن هناك من أهل الفكر من يحارب المادية الزاحفة بأى طراز من الإيمان . وقد رأينا من يسوى فى القيمة الروحية بين " غاندى " و " عيسى " و "محمد " عليهما الصلاة والسلام . وهذا ضلال بعيد . فإن التدين العليل أقصر الطرق وأسهلها أمام هجوم المادية الواسع . إن هناك أناسا " مؤمنين " يركعون بين يدى صنم فى معبد ، ويستمدون منه العون ، أو يرمقون- بإجلال ومهابة- ألواح الصور التى تضم ملامح القديسين والقديسات كما تخيلها راسموها . وهذا الضرب من الاعتقاد مبنى على تصور ضال لحقيقة الألوهية . وهيهات أن نعترف به أو نعول عليه . وهو- فى بعده عن الحق- يساوى جحود الألوهية ابتداء، وإن كان هذا بعدا من جهة اليسار ، وذاك بعدا من جهة اليمين . إننا نعنى بالدين ، الإسلام وحده . وقد علمت أن الإسلام يبنى ولا يهدم ، ويجمع ولا يفرق ، ويضم من علامات الخير ما يصله بأهل الأرض عن طريق المعايشة السلمية إن لم يكن عن طريق الاقتناع الحر . ومن هنا نؤكد أن حاجة العالم إلى الإسلام هى حاجته إلى كل علم صحيح ، وإلى كل خطة صالحة . والعالم محتاج إلى أن يعرف الله كما عرف نفسه إلى عباده فى القرآن الكريم. فإن صور الوجود الإلهى بلغت فى أسلوب القرآن قمة لم يبلغها كتاب آخر. والنفس الإنسانية لا تدرك أطرافا في الكمال الأعلى يغرس فى أعماقها أروع العقائد ، وأرسخ الإيمان ، إلا إذا اتصلت بهذا القرآن ، واستمعت إليه ، وفتحت أنظارها لهديه : (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) . ص _022(1/17)
والعالم بحاجة إلى أن يعرف " محمدا " ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن يدرس سيرته دراسة بعيدة عن الافتراء والتزايد ، ليأخذ من الإحاطة بهذه السيرة أمجد درس فيما تستطيع المواهب البشرية بلوغه من خير وفضل وجلالة وسناء . وسيعرف كل دارس لحقيقة هذا الإنسان الكبير أن المثل التى ذكرها أصحاب النظريات الخلقية العليا قد تجسدت فى هذا الرجل ، واستحالت سننا وضيئا هاديا يثير الحب والإعزاز والاقتداء . العالم محتاج إلى أن يدرك جملة الحقائق التى جاء بها الإسلام من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات . فإن هذه الحقائق هداية نافعة له ، والعمل بها- مجتمعة- يحصل خيرا جزيلا وينفى شرا كثيرا . وبين أيدى الناس الآن أجزاء من الفطرة التى شرح الإسلام فروعها ، وكل جزء منها بارز فى حياة قطر من الأقطار بروزا جديرا بالاحترام . إننى معجب برحابة الحرية الميسرة للفرد فى العالم الغربى . ومعجب بكفالة الضرورات المطلوبة للناس فى العالم الشرقى . ومعجب بطمأنينة القلب التى يخلقها اليقين فى العالم الإسلامى . غير أن الدين ليس واحدة فقط من هذه الحالات المبعثرة على جنبات العالم العريض . إنه حقيقة سماوية تشع ذلك الخير كله ، وتنفح الناس بجدواه . ولو أن الأقدار يسرت تقريبه وتحقيقه للعالمين لاستفاد منه البشر أجمعون . ولكن كم خسر العالم من انحطاط المسلمين ؟ إن من أشد الرزايا على الناس انقسام حقائق الفطرة بينهم ، وذهاب كل فريق منهم بشطر منقوص ، يكمله بوحى الشيطان ، ثم يعيش به وكأن بين يديه الحق كاملا . فى "أوروبا" و"أمريكا" لا يذكرون الله ، ولا يحسبون له فى أعمالهم حسابا . ويكدحون فى الأرض وفق قوانين المادة التى يعرفونها معرفة جيدة ويطبقون أحكامها بدقة بادية .! وعندنا قلما تسأم شفاهنا من تكرار ألفاظ الذكر ، نقول : ص _023(1/18)
باسم الله ، وعلى بركة الله ، وإن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله ، وإنا لله ، والحمد لله . ولكن أعمالنا التى نعالجها قلما تنضبط مع سنن الله فى خلقه ! قال الأستاذ " محمد زكى عبد القادر "- يصف عودته من أوروبا وأمريكا ، ووصوله إلى الإسكندرية : " ابتسامة رقيقة مع جواز السفر ، وكلمة فيها محبة وإعزاز لم أسمعها منذ أمد طويل . الحمد لله على السلامة . ونزلنا إلى الجمرك فى ضجة ضخمة ، والحقائب تلقى ذات اليمين وذات الشمال . والحمالون من مواطنينا ينقلونها بأجسادهم الفتية وأذرعهم القوية . ويدور هذا الحوار : يا معلم حاسب تنكسر حاجة ، فيجيب الأخر : توكل على الله ، خل قلبك من حديد .! لغة لم أسمعها فى "أوروبا" ولا " أمريكا " .! كنت إذا قلت لأحد- حين يعد بأنه سيفعل كذا-: إن شاء الله ، نظر إلى فى استغراب ، كأنى أكلمه بلغة لا يفهمها ولا يألفها .! وحدث- وأنا فى مقر الأمم المتحدة- أن تلقيت دعوة لزيارة ولاية "فرمونت " فى أقصى الشمال من أمريكا ، وجاءت الآنسة المختصة تقول لى: إن المسافة طويلة تبلغ 900 ميل ، وقد حجزت لك مقعدا بالطائرة المسافرة فى التاسعة من صباح الخميس المقبل . وشكرتها قائلا : إن شاء الله ، وأردفت : لقد اعتدنا فى بلادنا أن نقول هذه الكلمة ، وشرحت لها معناها . وبدا لى أنها تسمع شيئا جديدا- على فكرها وحسها . وجاء صباح الخميس ودق جرس " التليفون " فى الساعة السادسة ، وإذا المتحدث شركة الطيران تعتذر عن تأخير الموعد لرداءة الجو ، ولم أسافر . والتقيت بالآنسة المختصة فقلت لها : إن الله لم يشأ أن أسافر أرأيت لماذا نقدم مشيئة الله عندما نعتزم القيام بعمل ؟ هذا تقليد جميل من تقاليد الشرق . قالت : إن عندكم الكثير من التقاليد الجميلة ، أما نحن فلا نفعل هذا ...). ص _024(1/19)
قال الأستاذ : .. أجل هم لا يفعلون ، ومع ذلك فما أكثر ذهابهم إلى الكنائس ، وما أبرز إيمانهم بالدين ، والتزامهم بطقوسه وتقاليده وتعاليمه . إن الأديان كلها نبعت من الشرق ، فلما انتقلت إلى الغرب فقدت الكثير من روحها ، وأضحت بعض شئون الحياة التى لها وقتها ومكانها- لا تتعداهما- فلم تدخل فى الحياة العلمية ولم تتسرب إلى القلوب على الصورة التى تسربت بها إلى قلوبنا نحن الشرقيين " . ا. هـ * * * وهذا تعليل شعرى لا علمى ، وتصوير الخلاف على أنه تفاوت بين طباع أهل الشرق وأهل الغرب فرار مقصود من الواقع . فالتفاوت هنا بين دين ودين ، بين الإسلام وأثره العميق فى ربط الناس بالله ، والنصرانية وفلسفتها السطحية فى توجيه الخلق والسلوك . إن القارتين الكبيرتين " أوروبا " و " أمريكا " تعيشان فى عزلة عن الله وغربة عن الوحى ، وإن كثرت فى أرجائهما الكنائس . لأن المادية السائدة أقوى وأعتى من أن تصدها عقيدة مزعزعة الأسس العقلية والروحية . إلا أن الأمر كما شرحنا آنفا . فإن تجزئة الحقيقة على هذا النحو إشاعة للباطل فى الشرق والغرب معا . فلابد من استجماع الأسباب المادية إلى جانب ذكر الله . أما أن يعتمد الغربيون على الأسباب بعيدا عن الخالق الأعلى ، أو يعتمد الشرقيون على الله مهملين أسبابه التى مهدها ، فذلك شرود عن الصواب . والإسلام يقوم برعاية الحق من جميع وجوهه ، وتلك هى أوامر الله التى يجب نفاذها . ولا خير فى الناس ، ولا بركة فى الدنيا إلا إذا قويت الصلة بالله ، واحترمت السنن التى وضعها . قال الأستاذ " الصاوى " فى إحدى كلماته " ما قل ودل " : " العلم لا يكفى ، بل لابد من الإيمان . لقد تعلمنا فى صغرنا أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأنها الأساس الطيب لكل ما فى الدنيا من خير ، وما فى الآخرة من رحمة . ولكن ها هو ذا العلم الحديث نفسه يشهد اليوم أن الصلاة كالماء العذب تجعل النبات ينمو ويزدهر إذا ما صلى(1/20)
الزارع له . ص _025
أما إذا تركه وشأنه فإن البذرة فى الأرض قد تتعفن وتفسد ، ولا ترى نور الشمس ، أو تخرج ثم يذوى نبتها ويذبل . هذه هى الحقيقة التى أسفرت عنها التجربة فى بعض المعامل الأمريكية فى " لوس أنجلوس " . ولعلها ترح العلماء الذين يؤمنون بالعلم وحده والذين ينكرون أن للروح تأثيرها الساحر فى الكائنات ، وأن خير الزاد التقوى ، كما قال الله جل شأنه . فمنذ عام 1952 وهم يجرون فى مؤسسة البحث الدينى شتى التجارب للتدليل على قوة الإيمان تدليلا علميا . وإذا كنا نستطيع أن ننقل أفكارنا من رأس بشر إلى رأس أخر ، أفلا يمكن أن نلقى إشعاعات الفكر على شكل صلاة ودعاء ونداء ؟! وهل تؤدى الابتهالات التقية فى عالمنا الذى يجرى وراء المادة الخسيسة ويكاد يكفر بكل ما عداها إلى هذه النتائج العظيمة ؟! لقد وضعوا فى أحواض الزرع حبوبا صلوا لها وباركوها . ثم وضعوا حبوبا فى أحواض أخرى بلا صلاة ولا دعاء . فنبتت الأولى نباتا حسنا ، وظلت الأخرى فى فقر وجدب . سبحانك ربى ، إنك أنت الزارع الأكبر ، وما كنا نحن الزارعين ". أ. هـ " * أقول: وهذا الكلام كذلك يمثل جوانب من الحق ، ونخشى أن يحيف على الجانب المهم ، وأن يتخذ منه الماديون مجالا لسخريتهم . إن الإسلام مادى روحى ، أو هو- كما قررنا- الفطرة كاملة . ولما كان أى عمل يحتاج فى تمامه إلى جملة أسباب بعضها فى أيدينا ، وبعضها موكول إلى الله ، فيجب أن نعلم أن الله لن يقوم عنا بما وكل إلينا فعله . وفى حالة الزرع هذه لابد أن نبذر ونحرث ونسقى ، والله بعد ذلك يمنع الآفات المفاجئة ، ويهيىء الجو بما ييسر الإنضاج ، ويتعهد بلطفه ما صنعنا . وفى الحالات الأخيرة تجدى الصلوات والابتهالات ، وترتقب بعد ذلك البركات . وحاجة العالم إلى معرفة هذا الجانب لابد منها ، وهو ما يجحده الماديون ، ويؤكده المؤمنون . * * * ص _026(1/21)
ولنشرح هنا كلمة من كلمات الإيمان يرددها المسلمون كثيرا ، خصوصا عندما يسمعون المؤذن يستحثهم على الصلاة والفلاح وخير العمل . أعنى كلمة " لا حول ولا قوة إلا بالله " . إن هذه الكلمة لا ريب فى صدقها ، وفى استحباب تكرارها . بيد أن الدنيا مشحونة بكلمات الحق التى يراد بها باطل . ومن المحزن أن يساء إلى الحق نفسه بسوق كلماته حيث لا مساق لها . إننا مرة أخرى نعود إلى قضايا الأسباب والمسببات لنقول : إنها حق ، وإن الله بنى عليها نظام الأرض والسماء وما بينهما . وارتباط الأسباب بالمسببات ملاحظ من قديم الزمان ، ومطرد الثبوت كما نرى . وما دام النظام الكونى قائما فسيبقى هذا الارتباط خالدا . وشرائع الإسلام قامت على اعتماد هذه الحقيقة . فالماء للسقيا وللطهارة سبب لا يتخلف ، والأكل للشبع ، والشمس للنهار ، والنار للإحراق ، والسكين للقطع ، والسلاح للحرب . بل العمل الصالح للثواب ، والعمل الطالح للعقاب . تلك كلها أسباب لابد من استكمالها ، ولا يعفى أحد من تقديمها . ونحن نرى القوانين العلمية تسجل وتدرس على أساس أن الرباط بين الأسباب والمسببات لا فكاك منه . ولم يزعم أحد أن قانون الروافع أو الأجسام الطافية مثلا يصدق فى مكان ، ويكذب فى مكان ، أو يثبت فى سنة ويتغير فى أخرى . ومن ثم فكل محاولة لخداع هذه الأسباب أو تجاوزها فاشلة حتما . والمؤمن والكافر سواء فى ضرورة الخضوع لها والأخذ بها ، وكل من زعم بأن الله أمر بغير هذا ، أو يقبل غير هذا فهو كذب على الدين ، ولا مجال هنا البتة لذكر كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله " على أنها توهين للرباط القائم بين الأسباب والمسببات ، أما إذا ذكرت بمعنى أن هذه العلاقة من قدر الله فى الأشياء ، ومشيئته الحكمة فى خصائصها فلا حرج ، على أن الذى نؤكده ، ولا يستطيع الماديون مخالفتنا فيه ، أن هناك قوانين كونية كثيرة لما نعرفها . وأن هذه القوانين يمكن أن يكون لها مدخل كبير فى شئون(1/22)
عالمنا هذا الذى نحيا فيه . ص _027
وأن هذه القوانين المجهولة تند عن إرادتنا وقدرتنا ، وإن أثرت فى حاضرنا ومستقبلنا . وذلك كله فى عالم المادة الذى أحرزنا فيه سهما من علم . فكيف بعالم الروح الذى لا نعرف من حقائقه شيئا ؟! إن الجنين يتكون فلا يعرف أحد ما الذى يكمن فيه من خصال الأبوين وما الذى يبرز .! وما الذى يتطرق إليه من أحوال الأجداد- للأب والأم معا- وما الذى يخطئه؟. وفى ركام هذا الجهل تتخلق السلالة البشرية بما فيها من صفات هائلة التفاوت ، صفات لها أعمق الآثار فى صنع المستقبل . فقد تجعل الجنين يولد ليأخذ طريقه إلى القمة أو إلى الهاوية . فإذا كانت الأسباب التى تنتج هذا كله ليست بين أيدينا ، فهل يلام مؤمن ، يعلم أنها بين يدى الله فيقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " ؟ ولندع هذا المثال المادى . إن الروح الذى يحركنا قد تنهمر فيه أمواج من الأمل تبعثنا على نشاط غريب نشاط لا يلحقه فتور ، ولا يعوقه تشاؤم ، ولا يهزمه قيد . وقد نحس انقباضا يجعل حركتنا إلى أدنى الأشياء منا ثقيلا رذيلا . فهل يلام المؤمن الذى يعلم أن القلوب بين أصابع الرحمن ، إذا قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله " ؟. لقد ظهر لى أن المحافظة على نجاح العمل ، لا تقل خطرا عن إنشائه ، وأن إنشاء عمل ما قد يكون فى مقدورنا ، لكن استبقاءه محفوفا بالعناية يغلب أن يكون خارجا عن طوقنا . فهل يلام مؤمن يعلم أن انتظام الأسباب المختلفة وتأذيها إلى نتائجها ليس ملكه ، ولكنه ملك الله ، فهو يقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله " ؟. إن ذلك هو مجال تلك الكلمة . وهى ـ بلا ريب ـ من شارات الإيمان . * * * ص _028(1/23)
* أمة و رسالة : جل الأمم الآن- إن لم يكن كلها- يسعى لرفع مستوى معيشته ، وتكثير الضرورات والمرفهات لمختلف الطبقات . وهذا شىء حسن ، فمن ذا الذى يكره العافية والسعة والاسترواح ؟ . إن كدح الناس للحصول على مزيد من خير الله ، والاستمكان فى أرضه عمل مفهوم البواعث . إلا أننا لا نرضى لأبناء آدم ، ولا يرضى عاقل لنفسه أن تكون الغاية القصوى من الحياة هى البطن الملآن ، والبدن المزدان ، فذلك هدف حيوانى لا إنسانى . ووقوف الحكومات والشعوب عنده هبوط بقيمة العالم ورسالته ، ونزول عن المكانة التى أرادها له ، وذهول عن الحق الذى يقول لنا فى استنكار : (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ، فتعالى الله الملك الحق) . إن للإنسانية غاية أرقى من توفير الخبز لآكليه . غاية ترادف النبيون لتوضيحها ، ثم جاء عميدهم الخاتم ، صاحب الرسالة العظمى ، ليصنع أمة تمثلها وتقوم عليها ، وترع علمها فى الآفاق . وظيفة هذه الأمة بين شتى الأجناس والأوطان أن تدعم الخير وأن تعلى صوت المعروف وأن تحمى شارة الإيمان ، وأن تجعل من كيانها موئلا للفضائل ، وأن تكره الآثام وتتنكر لفاعليها ، وتعقب على أخطائهم وخطاياهم بالتفنيد والرد . وظيفة هذه الأمة حراسة وحى السماء وإبقاء مناره عاليا يومض بالإشعاع الهادى كى يهتدى به السارون فى ظلمات البر والبحر . والأمة التى تحمل العبء أو تتولى هذا المنصب أو ترشح لهذا الشرف هى الأمة الإسلامية . ص _029(1/24)
وقد أوضح الله ذلك فى كتابه العزيز حيث قال : (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) . وقال : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) . وبين أن منزلة الناس أجمعين من هذه الأمة كمنزلة هذه الأمة من رسولها. فكما جاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عند الله معلما ومبشرا ونذيرا ، وكما أخرج هذه الأمة بإذن الله من العمى إلى الهدى ، فعلى أتباعه أن يشيعوا الحق الذى شرفوا به ، وأن ينشروا الرسالة التى نزلت بينهم ، وأن يكونوا جسرا تعبر إليه الهداية لتعم أرجاء الأرض. (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) . والسلف الصالح الذى تلقى آيات القرآن وسعد بصحبة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهم وظيفته على هذا النحو . فهم أن أداء الدعوة واجب ، وأن إبلاغ رسالات الله حق ، وأن حبس أنوار الإسلام فى حيز من الأرض جريمة . وعلى ذلك الأساس تكونت الأمة الإسلامية تكونا متميز الطبيعة والحركة ، مستبين المبنى والمعنى ، تزدوج مثلها العليا مع قواها المادية ، كما يزدوج الروح والجسد ، لا يتصور بينهما فكاك . * * * وشعور المسلمين بفرائض الإسلام عليهم جعل نشاطهم الأدبى يتخذ عدة طرائق ، تنتهى كلها بخدمة دينهم فى الداخل والخارج : (1) فتعلم الإسلام وتعليمه أحيا ألوف المدارس لحفظ القرآن وتعهده ، ولفقه السنة وصيانة كل ما ورد عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من توجيهات عامة . (ب) واستدعى ذلك نهضة شاملة لآداب اللغة العربية وقواعدها حتى ساوت علوم اللغة علوم الدين فى درجتها . ص _030(1/25)
ولا عجب فإن الوسائل والمقاصد متلازمة الوجود . والإسلام إذا ضمرت العربية وذبلت فهو مهدد بأفتك الأخطار. وسترى مصداق ذلك فيما نقصه عليك بعد حمن . (ج) استبحرت المعارف التشريعية ، وتكونت مذاهب فى صور العبادات وقوانين المعاملات من أقوى وأزهى ما عرفت الدنيا . ( د ) انتشرت دراسات الخلق والسلوك مع ما يسمى بـ " التصوف " وشاعت بين العامة والخاصة شيوعا واسع النطاق . (هـ) تطوع المسلمون من تلقاء أنفسهم للمحافظة على المجتمع" ضد السيئات والمناكر ، إذ أن طبيعة الإسلام تلزم كل مؤمن بإقرار المعروف ومطاردة المنكر . والقوى الشعبية- لا السلطات الحكومية- هى التى تولت حياطة الأمة من شرور كثيرة ، وإن كانت الحكومات- من الناحية التنفيذية- هى صاحبة الاختصاص. وقيام الجماهير فى الداخل بذلك الواجب أبقى شعائر الإسلام حية فى المجتمع ، وجعل أمام العصاة والمنحلين حواجز مرهبة ، وفسح المجال أمام السطوة الأدبية على الضمائر والعواطف . وكانت السعادة العظمى لأى مسلم أن يشرح صدر أى إنسان للإسلام ، وأن ينقله من كفره القديم إلى رحاب هذا الدين . والمسلم الذى يوفق إلى إدخال شخص ما فى الإسلام تراه مبتهج النفس ، بادى البشر ، متألق الجبين . وتتعاون الجماعة المؤمنة ـ غالبا ـ على كفالة القادم الجديد ، وتوثيق الأواصر العاطفية معه . * * * وقد امتد الإسلام إلى أغلب البقاع المعروفة فى العالم ، وتشبثت جذوره بألوف مؤلفة من المدائن والقرى فى " آسيا " و " إفريقيا " و " أوروبا " . وتراخت العصور عليه وهو ينساح فى أرض الله بقوة رائعة ، ليس لها مدد إلا حماس المؤمنين ، وقدرتهم على الإقناع بالحق والمقاومة للباطل . وقد عرضت للأمة الإسلامية فترات انهزمت فيها أمام أعدائها . أو بتعبير أدق ، انهزمت فيها أمام نداء الواجب الذى يملى عليها ضرورات الوفاء ص _0 ص(1/26)
لرسالتها ، فكان تفريطها فى جنب الدعوة ـ التى زكت بها ـ سببا فى ذهاب ريحها وانهيار مجدها . لقد انحلت الخلافة التركية الأخيرة في نيف وثلاثين دولة مبعثرة فى قارات الأرض ينتسب أغلبها إلى الإسلام انتسابا اسميا ، وتضطرب دعوته فى أنحائها اضطرابا بعيد المدى ، يحتاج شرحه إلى قليل من الإسهاب . يا عجبا ، كيف تبددت هذه القوة العظيمة ، وأقفرت تلك المعالم النضرة ؟ مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحى مقفر العرصات الواقع أن ذلك الانكسار لم يقع بغتة ، ولم تلتق أسبابه فجأة . إن الأمة الإسلامية ـ كما قلنا ـ صاحبة رسالة ، وحاملة دعوة ، ووريثة وحى يجب أن تبلغه ، أن تظهره بالعمل . بيد أنها نسيت ذلك أو تناسته ، وضعف أخذها به ، ووفاؤها له على اختلاف الليل والنهار . واطرد هذا التفريط أولا فى شكل متواليات حسابية ، وأخيرا فى شكل متضاعفات هندسية . وقد تقفة بين الحين والحين نهضات المصلحين ، وصيحات المذكرين . إلا أن الأمر عز على العلاج فى العصور الأخيرة ، فلم تستفق هذه الأمة إلا والأجانب قد أحاطوا بها ، وأنشبوا أظافيرهم فى أعناقها ، وشرعوا فى الإجهاز عليها . ولولا عناية من السماء مسعفة لكانت تحت أطباق التراب . وظهرت بوادر الانفصال بين الأمة ورسالتها فى أكثر من ميدان . ففى حقل التعليم ذبلت الدراسات الإسلامية ، ونبتت خلالها أشواك كثيرة . وفشت الظنون والخرافات والإسرائيليات والنصرانيات والإغريقيات ، حتى لكأن حصاد هذه الدراسات طين لا قمح ، وحسك لا تمر .! والعلم الإسلامى اليوم متوار فى معاهد خاصة ، بعد ما عزل عن الحياة العامة ، وساء تقويمه ، وقل التعويل عليه . وفى حقل التشريع ساد القحط كل ناحية وعجز الفقه سنين عددا أن يحكم المعاملات المتجددة ، وأن يضبطها باسم الله فى مجراها العتيد . ووقف الاجتهاد عند صور انقضى زمانها وأهلوها . ص _032(1/27)
فلما زحفت الحياة الحديثة كان من الشلل بحيث لم تقم له حركة ، أو يحسب له حساب ، وهو الآن محبوس فى بعض قضايا الأسرة ، معزول أتم العزل عما وراءها من نشاط اجتماعى ، محلى أو دولى . وتبع هوان المعرفة الدينية انسحاب يكاد يكون شاملا من آفاق الحياة كلها ، وتضعضعت قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، أمام مدنية وافدة عارمة تحل الحرام وتحرم الحلال . وتوقف ـ بداهة ـ سير الدعوة الإسلامية فى الأرض ، وجهادها القديم لإدخال الناس أفواجا فى دين الله . وكيف لا تتوقف وهى تكافح لتحتفظ بحياتها فحسب أمام سياسات ماكرة وعداوات فاجرة ؟. ويمكننا أن نومىء إلى عدة أمور ، هى ـ فى نظرنا ـ مظهر لتفريط المسلمين التاريخى فى رسالتهم ، وتقصيرهم فى خدمتها : 1- ضعف أجهزة الدعاية الخارجية للإسلام ، أو انعدامها ، وترك تعليم الأجانب لجهود الأفراد ونشاطهم الخاص . ومعروف أن انتشار الإسلام فى أواسط إفريقيا ، وأغلب آسيا يرجع إلى ذلك الجهاد الفردى المسالم الدءوب . وهو جهاد لم ترسمه خطط منظمة ، ولم تستفد من أرباحه عيون يقظة ، بل لم تحرس ثمراته قوى معدة . والسبب فى هذا التقصير المعيب ، أن الدول الإسلامية كثيرا ما شغلتها منافع خاصة أو سياسات قصيرة النظر ، بل كثيرا ما قامت على أنقاض المثل الدينية الرفيعة . وهذا الاعتلال فى أداة الحكم أضر بسير الإسلام فى أرجاء الأرض أبلغ الضرر. والواقع ، أن كثيرا من الحكومات الإسلامية فى التاريخ القديم كانت عقبات فى طريق انطلاق الدعاة لأداء واجبهم على نحو واضح ونهج مرسوم . 2- مع أن أمما كثيرة عربها الإسلام ومحا عنها خصائصها اللغوية والثقافية القديمة ، فإن العربية لم تلق ما ينبغى لها من رعاية وحفاوة ، خصوصا فنون الأدب المختلفة . فقد غلبت العجمة على عصور طويلة ، واصطبغت بها أداة الحكم حينا من الدهر . ص _033(1/28)
وتولى المناصب الكبرى أناس عاطلون من حلية البيان وسلامة المنطق . وأوت الكتابة والبلاغة والشعر إلى طبقات من المحترفين والمرتزقة . ثم انتهى الأمر فى القرون الأخيرة إلى أن علماء الإسلام ـ وفيهم جمهرة من خريجى الأزهر ـ كانوا غرباء عن الأدب ، بل كانت حاستهم البيانية ميتة . وغريب أن تكون معجزة الإسلام الكبرى آية بلاغية ، وأن تكون اللغة العربية أساس هذا الدين وترجمان عباداته ، ومع ذلك تهون إلى هذا الحد . والواجب أن تعود للأدب مكانته ، وأن تتضافر الجهود على تقوية مادته ، وتجلية رونقه ، وإمداده بأسباب النماء والازدهار . 3- هناك خلافات علمية ، ومذهبية ، حفرت فجوات عميقة بين المسلمين ، وقطعتهم فى الأرض أمما متدابرة ، وهم فى واقع أمرهم وطبيعة دينهم أمة واحدة . والدارس لهذه الخلافات يتكشف له على عجل أنها افتعلت افتعالا ، وبولغ فى استبقاء آثارها وتفتيق جراحاتها ، بل فى نقل حزازات شخصية ، أو نزعات قبلية إلى ميدان العقيدة والتشريع ، وذاك ما لا يجوز بقاؤه إن جاز ابتداؤه . وكلما زادت حصيلة العلم الدينى ، وتوفرت مواد الدراسة الصحيحة انكمشت الخلافات ، واتحدت الأمة الإسلامية منهجا وهدفا . ولذلك نحن نرى التقريب بين هذه المذاهب فرضا لابد من أدائه ، وأخذ الأجيال الجديدة به . كما نرى ضرورة إحسان النظر فى دراسة التاريخ الإسلامى ، وتنقيته من الشوائب التى تعكر صفاءه . 4- الأمة صاحبة الرسالة لا تنسى وظيفتها الاجتماعية فى تصرفاتها العالمية والمحلية على سواء . بل هى تستصحب أهدافها الروحية والثقافية فى علاقاتها القريبة والبعيدة ، وتؤكد شخصيتها المعنوية فى كل اتجاه وتسخر أدواتها الخاصة فى بلوغ غاياتها كما يسخر الجسم أجهزته ومشاعره فى تيسير مآربه . ويقتضى ذلك أن تساق وجوه شتى من النشاط العام لخدمة الإسلام ، وجمع القلوب عليه . ص _034(1/29)
وإذا كان الله جل شأنه قد جعل لتأليف القلوب سهما من الزكاة المفروضة ، فما ذلك إلا رمز للتوصل بضروب البر المختلفة كى يقبل الناس على الدين ، وكى تدرك العامة أنه دين يعطي ولا يأخذ ، ويبذل الفضول للمحتاجين ، ولا يرزؤهم شيئا . وبعض الأديان الآن تدرس عقائدها المعلولة وسط مساعدات شخصية كثيرة . وكان حريا بالمسلمين أن يسبقوا إلى نشر الحق وإلى تربيته فى القلوب بألوان العون المادى والأدبى التى كلفوا بها . بيد أنهم ـ للأسف ـ تركوا الحق يخدم نفسه بنفسه ، وينصر قضاياه اعتمادا على ما فيها من صواب . ونسوا أن تلفيق الشبه وتجميع الجيل يمكن أن يصد الجماهير عن الإيمان ويعلق أبصارهم بخدع لا قيمة لها . وقد كان ذلك من أسباب انحسار المد الإسلامى فى بعض الأقطار . إن قصة تفريطنا فى رسالة الإسلام طويلة الفصول ضافية الذيول ، ولسنا بصدد سردها . إنما نشير إلى نقاط محدودة منها ، مهيبين بأولى النهى ألا يجروا أخطاء الماضى وهو يمهدون لمستقبل مرموق . وللإسلام أعداء لا تهدأ لهم نفس ، ولا ينكسر لهم ضغن ، وهم يُنشئون الأذى إنشاء ، فهل نعينهم على أنفسنا باستدامة الأخطاء ؟! إن طماعية خصومنا فى تحطيم ديننا ، وفى صرفنا عنه ، أكدتها ألوف الدلالات والأعمال . وقد استقل الاستعمار ما ظفر به من غلب ، فزادت جهوده لكى ينسى المسلمون أن لهم دعوة واجبة الأداء ، بل لكى ينسى المسلمون أن لهم دينا واجب الاتباع . إنه يريد أن يضربوا صفحا عن القرون التى خلت ، والتاريخ الذى مضى ، والحضارة التى أشرقت لها ظلمات الدنيا دهرا طويلا . ص _035(1/30)
* أضرار تغيير الكتابة العربية : ومن أخبث المؤامرات لصرف المسلمين عن دينهم ، الدعوة إلى تغيير الكتابة العربية . إما إلى الحروف اللاتينية ، كما فعلت تركيا بعد ارتداد حكامها ، وإما إلى حروف أخرى تحل مكان هذه الحروف التى عرفناها وعرفها آباؤنا وخطوا بها ألوف الألوف من المجلدات والرسائل ، ولم ذلك ؟! قال الخبثاء : للتفاوت القائم بين لغة النطق وطريقة الكتابة .! وهذا أقبح تعليل يمكن أن يذكره إنسان دارس للغات البشر . فإن التفاوت القائم بين ما يكتب وما ينطق هو أقل ما يكون فى العربية ، وأسوأ ما يكون فى الإنجليزية والفرنسية . إن صيغ الأفعال الفرنسية ـ وعددها ثمانية عشر فعلا ـ تحمل كل صيغة منها عددا من الحروف الميتة يبلغ الستة أحيانا ، تكتب ولا تنطق ، وتنتشر فى اللغة كلها كما تنتشر العثرات فى طريق ردىء . وإلى جانب هذا فإن الحروف الساكنة تتجمع مثنى وثلاث فى أوائل الكلمات وأواخرها بصورة مزرية لا يمكن تعليلها ، ولا يمكن أن يرتبط بها معنى محترم ، أو غير محترم . وإثقالها للذهن فى علم الإملاء حقيقة لا شك فيها . وبالرد كذلك فى هذه اللغة إغفال النطق بعلامات الجمع فى الأدوات والأسماء كما يطرد النطق بحروف كثيرة على غير ما تكتب به . ومع هذه المقابح فاللغة الفرنسية ـ فى نظر البعض ـ أيسر من اللغة العربية . ويجب ـ فى نظرهم ـ أن نحول لغتنا لتتوافق لغة الكتابة مع ما ينطق ، ولتتساوى اللغة العربية مع اللغات العظمى . ونحن لا ندرى ما يقال لهذا الجور ، ولا ما يوصف به هذا التبجح .!! والغرض من هذا النشاط ظاهر ، وهو فصل مسلمى اليوم عن تاريخهم الروحى والثقافى بعد إلقاء ستار كثيف على ماضيهم العلمى كله . وفى هذا الميدان نفسه يعمل آخرون من ذوى الثقافة الإنجليزية لبلوغ هذا الغرض . ص _036(1/31)
واللغة الإنجليزية ـ من ناحية الكتابة والإملاء ـ أحط من زميلتها الفرنسية ولولا قوة أهلها ما انتشرت . ولكن التبشير الاستعمارى يغطى كل عيوبها ، ويطيل الألسنة فى قدح لغتنا وذم قواعدها وإهانة حروفها . والغرض هو حفر فجوة غائرة بين ماضينا الإسلامى وحاضرنا . أجل بيننا وبين ثقافة القرآن وروحه ، استجابة لهجوم الغرب الأخير المفعم بالمفاتن والخوادع. وهاك ما نشرته إحدى الصحف اليومية فى سلسلة حارة ملحة من الدعاية لتغيير الكتابة العربية : قالت الصحيفة : " إن الدنيا تتطور ، وهى تجرى تحاول أن تلحق بالمستقبل ، والمستقبل عبارة عن سرعة وصواريخ ، سرعة على الأرض ، وصواريخ تند فع إلى الشمس، سرعة حتى فى أسلوب العرض والقراءة والشراء. اختزال لكل التفاصيل . فالصيغة التلغرافية هى المفهومة المقررة الآن . إننا نتسابق مع الزمن نحاول الجرى مع عقرب الثوانى قبل عقرب الدقائق … " أ . هـ. ونسأل أيها القارىء: ماذا بعد هذه الصيحات المفتعلة كلها ؟! فإذا الاقتراح الذى يرحب به الكاتب ويروج له: أن المجمع اللغوى يفكر فى اختصار لغة سيبويه . إن الدنيا تجرى وتلهث من شدة الجرى كما يقول الكاتب ، فيجب أن نغير حروف اللغة العربية وحدها . أما اللغتان الإنجليزية والفرنسية ، وسائر اللغات الأخرى فإن الدنيا بالنسبة لها واقفة . إنها لغات مقدسة القواعد ، أو لعلها لغات سبقت الدنيا الجارية . إنى لأستغرب الصفاقة التى كست هذه الوجوه . وإنه ليسرنا أن ينتصب أديب العربية العظيم الأستاذ " عباس محمود العقاد " ليحارب هذه النزعة الخبيثة ، سواء وهى تهاجم قواعد اللغة ، أم وهى تهاجم قواعد الكتابة . قال- ردا على الدكتور طه حسين وأمثاله ـ تحت عنوان: " الإباحية اللغوية " : " إن مسألة اللغة الفصحى سيطول الخوض فيها مادام أعداؤها يحسبون أنهم يملكون القضاء عليها ، وأننا نطلب منهم الرحمة بها والإبقاء على حياتها . ولكننا نعتقد أن اللغة التى تطلب الرحمة(1/32)
من أعدائها ضائعة قبل أن يضيعها أولئك الأعداء. ص _037
كما نعتقد أن محاربة الفصحى لا تأتى من أناس يخلصون فى البحث عن لغة أيسر منها وأحق بالبقاء .! وإنما يحارب الفصحى من يريدون محو هذه اللغة لمحو جميع المعالم التى ترتبط بها فى العقيدة والأخلاق وتراث الفكر والثقافة . ودون ذلك تتحطم معاول الهدم فى أيدى الجبابرة العتاة . فما بالك بمعاول الهدم فى أيدى العجاف المهازيل ؟! اللغة الفصحى باقية ما بقيت الحاجة إلى لغة عامة مشتركة بين بلاد كثيرة وأزمنة متلاحقة . ولن تستغنى اللغة العامة عن قواعد متفق عليها ، لأن اللغة المرتجلة بلا قاعدة ربما صلحت لوقتها ومكانها ، ولا تصلح لجميع الأوقات وجميع الأمكنة . ماذا حدث فى اللغات الأوروبية الدارجة بعد إهمال اللاتينية ؟. لم تذهب القواعد النحوية والصرفية ، بل قامت فى اللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية الحديثة ، قواعد مطردة أصعب على المتعلم من القواعد اللاتينية . فالذين يريدون محو الفصحى لا يخلصون حين يزعمون أنهم يطلبون الخلاص من القواعد التى يصعب على المتعلمين أن يتقنوها ويلتزموها . فإن القواعد المهروب منها آتية ـ لا محالة ـ بعد استقرار اللهجة الدارجة على حال من الأحوال . وإنما يطلبون محو " اللغة الفصحى " لأنها قوام ثقافة كاملة هى المقصودة بالهدم والإلغاء . أما رسوم الحروف باللغة العربية فالبحث فيها سهل واضح لا يتسع فيه مجال الخلاف ، إلا أن المختلفين ينسون طبيعة اللغة العربية ، ويغيب عنهم أنها لغة اشتقاق وليست لغة " نحت " كاللغة اللاتينية وأخواتها . فلا سبيل إلى كتابة لغات الاشتقاق ولغات النحت بطريقة واحدة فى الرسم على الإطلاق . إن التركى ـ مثلا ـ يقول طاقم وطقم بكسر القاف ، وطقم بسكونها ، ولا يختلف المعنى . ولكن الفرق بين الفعل " عَلِم " والاسم " عالم " فى اللغة العربية إنما هو الفرق فى حركة خفيفة من حركات حرف العين . ص _038(1/33)
فليست الحروف منفصلة بأى وجه من الوجوه عن الأوزان والحركات . ليست الألف فى " رَمَى " حرفا أبجديا فقط ، ولكنها حركة فى وزن تشترك فيه مادة الكلمة بجميع مشتقاتها . فإذا كتبتها " ألفا " كما تنطقها لم تخلص من الياء فى " يَرْمِى " ولا فى " رَمْياً رِمَايَةً " ولا فى " مرميَّات " أو ما وراء ذلك من ضروب المشتقات . وأنت تقول قضى يقضى قضاء ، وتجمع " قضاء "على قضاءات . وتقول سما يسمو سماء ، وتجمع سماء على سماوات ! فالمسألة فى لغات الاشتقاق هى مسألة الوزن فى جميع مشتقات الكلمة ، وليست مسألة حرف فى لفظة واحدة . وهذه هى الحقيقة التى ينساها أو يجهلها من لا يفرقون بين أحوال الكتابة فى العربية وأصولها فى لغات النحت على اختلافها . وهى فى جملتها تتغير معانيها بزيادة المقاطع أو حذفها ولا شأن لها باختلاف الأوزان والحركات . والحكاية هنا أيضا حكاية جهل أو عجلة لا تثبت على الروية والتمحيص ، ولا يصعب التفاهم عليها مع التثبت والأناة " أ. هـ . * * * وهذا دفاع جيد ، ونداء إلى العقل له خطره عند من يفكرون بعقولهم . أما إذا كان الهجوم على اللغة العربية يستهدف مأرب خاصة ، ويخدم أهواء كامنة ، ويراد منه الإتيان على قواعد الإسلام ، فإن الإقناع لا مكان له مع هؤلاء . إن إماتة اللغة العربية تستتبع حتما موت الإسلام . إذ إن القرآن العربى سيتحول إلى أثر يوضع فى المتاحف ، والرسول العربى سيدفن تراثه من سنة وسيرة دفنا لا نشور منه إلا أن يكون هواية لبعض الدارسين . والاستعمار دائب على بلوغ ذلك الهدف . وقد أفلح فى خلق جيل يتقن قواعد اللغات كلها إلا اللغة العربية وحدها ، فهو يجهلها ، ولا يستحى أبدا من إعلان هذا الجهل .! ص _039(1/34)
فإذا ذهبت قواعد البلاغة ، ثم قواعد النحو والصرف ، ثم قواعد الكتابة آخر الأمر ، فإن هذا التدرج منته إلى مستقره ، وهو ذهاب اللغة نفسها ، وذهاب الإسلام معها . إن المسلمين من شتى الأجناس يقدسون اللغة العربية !. الهندى والصينى والتركى يرون بقاء هذه اللغة فريضة دينية ، ويقدمونها على لغاتهم الأولى . لأن هذه اللغة العربية لسان الوحى ورباط الروح ، وآصرة العقيدة المشتركة . وأى تهوين فيها فهو تفريط مخوف العقبى . بل إن الاستعمار يحارب " القومية العربية " مدفوعا بضغينته على الإسلام. فإن هذه القومية سواء كانت تجديدا لنعرة جاهلية ، أم تمشيا من أساليب الحياة المستحدثة فإنها - فى نظر الاستعمار- قد تضمن الخلود للغة التى يحاربها من قرن. وإذا خلدت هذه اللغة ، فإن التراث الأدبى للإسلام سيتاح له حياة جديدة ، وذلك ما يكرهه أشد الكراهية ويريد إسدال آلاف من الحجب عليه ، حتى لا تقع عليه عين ولا يستنير به قلب . وهاك جملة من التعريفات للقومية العربية أو الوحدة العربية تدرك منها قيمة اللغة فى حفظ الأمة ، وصيانة ثروتها وتاريخها . ومنها يستبين لك أن اللغات عموما ليست فقط أداة تعبير أو وسيلة تفاهم بين أصحابها ولكنها أساس تجمع عقلى وعاطفى بعيد الآماد . وأن اللغة العربية خاصة بناء أمة ، وقوام دين ، وضمان حياة ، وأن تقويم الألسنة بها ذريعة إلى حفظ الوحى الأعلى ، وتنقيل عقائده بن شترا الأجياد وعلى كر الدهور. ونحن نستعرض هذه التعريفات ، مرجئين إبداء الرأى فى النزعة الموحية بها إلى موضع آخر من كتابنا . وإنما نثبت هذه التعريفات لإبراز قيمة اللغة فى حياة الأمة ، وبيان ما ينشأ عن اضمحلال اللغة من هبوط الجماعة ، وذهاب ريحها . مقومات القومية العربية : مقومات الوحدة العربية كثيرة ومتشعبة ويختلف الكتاب فى تحديدها . فهى عند " ساطع الحصرى " تنحصر فى : ص _040(1/35)
1- الاشتراك فى اللغة . 2- الاشتراك فى التاريخ . 3- الاعتقاد بوحدة الأصل أو النشأة . 4- التشابه فى العواطف والعوائد ، والتماثل فى ذكريات الماضى ، ونزعات الحال ، وآمال الاستقبال . 5- ويضاف إليها الدين فى بعض الأحيان. وهى عند " بيير كيلر" : الاشتراك فى التقاليد ، والجنس ، والدين ، والثقافة ، واللغة. وهى عند الدكتورة " نجلاء عز الدين " : الوحدة الجغرافية ، واللغة ، والتراث العربى . وهى عند " حازم زكى نسيبه " : اللغة ، والجنس ، والتقاليد ، والتاريخ ، والآمال المشتركة ، والدين . وهى عند الدكتور " أحمد موسى " : اللغة ، والثقافة ، والدين ، والحذر من الاستعمار. وهى عند الأستاذ " جب " : الدين ، والتاريخ ، واللغة ، الثقافة . هذا ويمكن حصر هذه العوامل بصفة عامة فى اللغة والدين ، والتاريخ المشترك ، والجوار الجغرافى المشترك ، ووحدة الأصل (الجنس) والثقافة المشتركة ، والتكامل الاقتصادى ، والخطر المشترك ، ووحدة العادات والتقاليد والنظرة إلى الحياة . ويكاد يجمع الكتاب على أن أول هذه العوامل أو أكثرها أهمية هو اللغة. ولكن ما هى اللغة ؟ اللغة كما يعرفها " أوتو جسبرسن " عبارة عن " وسيلة للتعبير عن أفكار الأفراد ". وهى أيضا " وسيلة للتفاهم وأداة تساعد على الوعى وتسجيل الأفكار " . وليست لغة شعب من الشعوب مجرد وسيلة يتخاطب بها ذلك الشعب ، بل إنها تصبح بعد زمن الوسيلة التى يعبر بها من يتكلمونها عن روحهم . اللغة كعامل للوحدة : اللغة عامل من عوامل ربط الفرد بجماعة (جسبرسن) . واللغة عنصر أساسى من عناصر تكوين المجتمع تمتزج بروحه ـ منذ طفولته ـ وتلازم تطوره العقلى فى كل مظهر من مظاهر هذا التطور . ص _041(1/36)
ومع ذلك فإنه من الصعب ـ كما قال " جسبرسن " ـ تعرف مدى مكانة الدور الذى تلعبه اللغة فى سلوكنا الاجتماعى . وتعتبر اللغة جزءا لا يتجزأ من المجتمع ، وبالتالى عاملا من عوامل وحدته. واللغة جزء كبير من كيان الشعب الروحى ، وهى رمز لوحدته الروحية بل هى ركنها الأعظم . ويشترك " منتشينى" و " أيوانوف " فى اعتبار اللغة عنصرا أساسيا فى تكوين الأمة. وفى هذا يقول العلامة " بلنتشلى " : "متى استبدل المرء لغة جديدة بلغته خسر قوميته " . وفى المنقول عن العلامة " بلنتشلى " : يقول " ساطع الحصرى " : " إن وحدة اللغة هى أهم وأمتن الروابط التى تربط الأفراد بعضهم ببعض ، وهى أفضل العوامل التى تؤثر فى تكوين شخصيات الأمم " . وهناك من يخالف هذا الرأى القائل بأن اللغة من عوامل الوحدة فى الأمة . ومن هؤلاء " أنطون سعادة " مؤسس الحزب القومى السورى . ثم قال الأستاذ " عبد الحى نصار " : (كانت اللغة العربية ولا تزال أعظم العوامل الفعالة فى توحيد العرب " . ويقول المعارضون: إن لغة الشعوب العربية غير واحدة ـ يعنون تباين اللهجات ـ ولكن هناك فرق واضح بين اللغة واللهجة . فاللغة الفصحى واحدة فى الدول العربية كافة . أما اللهجة العربية فتختلف من دولة إلى أخرى كما تختلف داخل الدولة الواحدة. وهذا الاختلاف فى اللهجة موجود فى لغات الأمم جميعا بدرجة لا تزيد عنها الأمة العربية . وفوق ذلك نجد أن اللغة الفصحى هى الرابطة الحية للعرب ـ وهى اللغة المستخدمة فى المدارس والصحافة والإذاعة ودور الحكومة .. إلخ . واللغة العربية هى لسان الإسلام ، وقد ظهرت كاملة فى القرآن الكريم الذى حفظها وأحياها . وهى- كما قال " رينان " فى " تاريخ اللغات السامية " -: لغة على غاية رفيعة من الكمال ، سلسة ، غنية. ص _042(1/37)
ويقال: إن العرب قبل الإسلام كانوا يتكلمون لغة مشتركة فى الجزيرة العربية وفى أرض الهلال الخصيب. بل إن إبراهيم عليه السلام كان يتكلم العربية. وليس معنى هذا أنه كان يتكلم العربية السائدة اليوم ، وإنما اللغة العربية المقصودة هى لغة الأقوام التى كانت تعيش فى شبه الجزيرة العربية وتهاجر منها وإليها فى تلك الحقبة . وقد كانت لغة واحدة من اليمن إلى مشارف العراق والشام وتخوم فلسطين وسيناء " . أ. هـ لقد أفضنا فى الاستشهاد لما نريد ، بغية إفهام القاصرين أن إضعاف العربية تهديد للإسلام ، تهديد باجتثاث أصوله ، ومحاولة متعمدة للخلاص منه . ولأمر ما قام " الجامع الأزهر " ، وقامت جميع المدارس الإسلامية بتدريس اللغة إلى جانب الشريعة ، وإحياء قواعدها إلى جوار قواعده . فلنحذر الخبثاء من أعداء الإسلام ، ولنحذر معهم المغفلين الذين ينجرفون فى تيارهم ، ويخدمون ـ عن غباء ـ أغراضهم . ونعود إلى موضوعنا : إن أمتنا لم تكن ذنبا لإحدى " الإمبراطوريات " التى ظهرت فى التاريخ . ولن تكون ذنبا لإحدى الجبهات القائمة الآن فى العالم . إن أمتنا أمة ذات رسالة لا يجوز أن تتخلى عنها ، ولا أن تجهل قيمتها ، ولا أن تتقهقر عن حملها . وهذه الرسالة تثمر الخير لأصحابها ، وللناس طرا . إنها رسالة الحق والسلم والعدالة . إن الإسلام يؤطد مكان الإنسان فى الأرض ، إذ يحسن صلته بالسماء . وهو إذ يعد بالآجلة ، فلكى يصلح هذه الدار العاجلة ، ويضمن ما بعدها . (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) . وإذا كانت حاجة العالم إلى إرشادات ربه لا تنقضى ، فإن بقاء أمتنا وبقاء رسالتها معها ضرورة إنسانية ملحة . ومن ثم ، وجب أن تدور جميع أجهزتنا العاملة لتحقق هذه الغاية . ولنمض قدما فى تلك السبيل ، سبيل الإسلام الحنيف ، ودعوته الجليلة . * * * ص _043(1/38)
مَن لم تَبْلغهم الدعوة ما حكم أولئك الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام ؟ إنه لخليق بنا قبل التعرض للجواب على هذا السؤال أن نسأل نحن أنفسنا : ما حكم الذين لم يبلِّغوا دعوة الإسلام ؟ إن الدعاء إلى الإسلام ليس نداء إلى حلقة مزاد ، أو حفل ترفيه ، أو مباراة رياضية .! ليس نداء إلى نافلة يأتيها من شاء ويدعها من شاء ، وهو من قبل ومن بعد مطمئن إلى ما عنده ، مستكمل العدة لمواجهة مستقبله ، شاعر بأن شيئا مهما لا ينقصه.! كلا. كلا. إن الدعوة إلى الإسلام إرشاد إلى أنفس حق فى الوجود ، وتوجيه إلى خير الدنيا والآخرة معا ، وإنقاذ من أسباب الهلاك التى يهدد المرء فى عاجلته وترتقبه فى آجلته ، إن الدعوة إلى الإسلام تمكين للأمم من معرفة سبيل تكتنفها الهدايات والرحمات ، وتمتلىء بآثار النبيين السابقين ، ويتحصن الناس فيها من إغواء الشياطين: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). ومن ثم فإن الذين يقدرون على إسداء هذا الصنيع للعالم ثم يضنون به ، والذين يستطيعون رفع هذا المنار ثم يحجبون أشعته عن الحائرين والمستبصرين ، هم عند الله أشد الناس جرما ، وأحقهم بالبوار . (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) . (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) . ص _044(1/39)
والآية الأخيرة شرحت بعض أسباب الكتمان ، وحجب الحق عن الأنظار ، وهو حب الدنيا ، وتشتهى لذاذاتها ، وإيثار الراحة فى ظل الصمت على الجهد فى ظل المصارحة وإظهار حكم الله . والواقع أن كل مسلم مطالب بالإيمان ، وبحراسته ضد العدوان ، وبترغيب الناس فيه بالعمل وباللسان . ومطالب كذلك بكره الباطل وعداوة ما يستوى العامة والخاصة فى إدراك قبحه ، كالزنا والربا والكذب والبذاء . وهذا هو محور الركن الركين فى الإسلام ، ركن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . أما ما دق عن أنظار الجمهور من أمور الخلاف وضروب الجدل فهو متروك لأهل الذكر ، يتناولونه بما لديهم من سعة فى العلم ، وإحاطة بفروعه . غير أن أمر الدعوة هان لدى المسلمين ـ خصوصا فى فترات الانكسار من تاريخهم ـ فاضطرب ميزان الخير والشر ، ثم استفحل الخطر فأمسى الضلال يركض فى كل ناحية لا يجد عائقا ولا ساخطا . وبذلك ركدت ريح الدعوة إلى الله ، وكادت معالمها تضمحل فى سطوة الفساد. الحقيقة المرة أن أمة الدعوة إلى الله فرطت فى جنب الله ، ولم تخلف رسولها العظيم فى طبيعة الإشعاع والإسعاد التى اقترنت ببعثته ، والتى جعلت منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صبحا يجتاح الظلمات بجيش من السنا لا آخر له . ونتساءل بعد ذلك : ما حكم الذين شردوا عن ذلك الصراط المستقيم ، وضلوا عن هذا الدين الكريم ؟ وما حكم أولئك الذين لم تبلغهم دعوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإن بلغتهم فهى مستكرهة لا تغرى بإيمان ، ولا تفسح صدر الإسلام ؟ إن هؤلاء كثير ، ففى العالم اليوم ما يزيد على ألفى مليون إنسان . كم تظن عدد المنتسبين إلى الإسلام بينهم ؟ قرابة خمسمائة مليون .! أما البقية الضخمة ففيها ألف مليون " وثنى " و " شيوعى " لا صلة لهم بالسماء ، ولا يتبعون أحدا من الأنبياء .!! ص _045(1/40)
وهناك نحو خمسمائة مليون " نصرانى" يخلطون فى عقائدهم بين التوحيد والشرك . وتصرفهم فى أنحاء الأرض فلسفات خلقية ومذاهب تشريعية لا يضبطها إيمان سليم ، بل لا يمكن حساب أصحابها بين المتدينين إلا على تجوُّز بالغ . والمسلمون المنضوون تحت علم النبوة الأخيرة ، فيهم جماهير ترث الإسلام إسما فحسب ، وتتبع فى حياتها ما بثه الأوروبيون من أنظمة وقوانين موضوعة ، أغلبها من إملاء الهوى ، واتباع الشيطان . ونحن عندما نبحث أحوال الأمم الكثيفة التى لم تدخل الإسلام ، ونفكر فى مصيرها عند الله ، لابد أن نضع نصب أعيننا الحقائق التالية : ا- إن هناك ألوفا مؤلفة تعتبر فى حكم من لم تبلغه الدعوة أصلا ، وإن مرت على بعثة الرسول صاحب الدعوة أربعة عشر قرنا . فهى إما أن تجهل كل شىء عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقرآنه وسائر تعاليمه . وإما أن تعلم من فلك مفتريات روجها أعداء الإسلام وحشوها بما فى أدمغتهم من أكاذيب . ولعلها معذورة فى صدودها عن ذلك الدين لأنها لم تتلق الحق من أصحابه ، ولم تسمع لهم قيلا . وهؤلاء يشبهون أهل الفترة من العرب الذين سبقوا البعثة ، وقد يقال فيهم: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) . غير أنه يضاف إلى ما سبق شىء آخر ، وهو أن الله زود الإنسان بعقل يحسن به التفكير والحكم والنقد والرد . وجعل فى طاقة هذا العقل أن يتعرف على الخالق ، وأن يطمئن إلى وحدانيته . كما زود الإنسان بقلب يعرف به الخير والشر ، ويرضى به العدل ، ويسخط به الظلم . وبهذه الخصائص الإنسانية يكلف الإنسان ـ ولو لم يأته نبى ـ أن يبتعد عن الإلحاد والشرك ، وأن ينفر من الظلم ، والفساد . وربما لم يطالب بجملة العبادات التى يبينها المرسلون . لكنه مكلف بأركان الحقيقة العظمى فى حياة البشر ، وهى اليقين فى إله واحد ص _046(1/41)
وفعل الخير جهد الاستطاعة . قال تعالى ؟ (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون). وهذا الميثاق لا يعنى إلا الفطرة التى ركزها الله فى الأنفس ، ورد أعذار الغافلين عن ندائها ، المقلدين لآبائهم فى الضلال برغم إقامتها ، وإمكان استجابتها . ولما كان الناس متفاوتين فى يقظتهم النفسية والفكرية ، ومدى استعدادهم الذى جبلوا عليه ، فإن حسابهم على ما قدموا موكول إلى بارئهم وحده . وهو ـ جل شأنه ـ الذى يقدر تفريطهم بحسب ما آتاهم. (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) . وهناك أقوام على مواريث من ديانتى " موسى " و " عيسى " كبعض الموحدين من اليهود والنصارى الذين قام لديهم من الثقة ما جعلهم يعتقدون أنهم محقون ، وأنهم يؤدون ما يرضى رب العالمين .! وقامت كذلك على بصائرهم حُجُب جَهَّلَتْهُمْ بالقرآن ، وحرمتهم من نوره. وحكمهم ، إذا آمنوا بالله على نحو صحيح وعملوا الصالحات ، فى حدود ما يعرفون أنهم لا يعذبون ، ما لم يشب إيمانهم تثليث أو تجسيم ، أو حلول ، أو اتحاد. وذلك كنفر من مفكرى الشرق والغرب ، يؤمنون بإله واحد منزه ، ويتقربون إليه بسلامة الضمير وإحسان العمل . بيد أنهم لا يعرفون " محمدا " ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لأن أحدا لم يعرفهم به ، ولم يشرح لهم أصول دينه ، وهم يرون المرسلين جميعا ـ وبينهم " عيسى بن مريم " ـ رجالا طيبين يستحقون الإجلال والشكر لما قدموا من خير للناس . وما تقول فى فيلسوف أوروبى ، يُشرح له طرف من الإسلام ، فيقول: إذا كان هذا هو الإسلام فنحن جميعا مسلمون . إن الكفر الحقيقى أن يعرض الحق على رجل ، فيستبينه ويتمكن من اعتناقه ومع ذلك يعرض عنه لمأرب أخرى . ص _047(1/42)
ومع تيقننا من أن الإسلام الصحيح ، ليس له باب إلا هذا الرسول الكريم ، محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فنحن ننظر إلى المحرومين من اتباعه فى نطاق الإنصاف ، الذى تعلمناه من رسالته صلى الله عليه وسلم . ومن الخير أن نذكر هنا شرحا وافيا للموضوع كله للإمامين : الشيخ " محمد عبده " والشيخ " محمد رشيد رضا " فى أثناء تفسير الآية " 62 " من سورة البقرة: (.. إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . قال صاحب المنار : أحاط القضاء فى الآية السابقة باليهود ، فلم يدع منهم حاضرا ولا غائبا ، فألزم الذل باطنهم ، وكسا بالمسكنة ظاهرهم وبوأهم منازل غضبه ، وجعل أرواحهم مساقط نقمة . فذلك الله الذى يقول:(وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) . سجلت الآية عليهم هذا العذاب الشديد بما كسبت أيديهم واستشعرت قلوبهم من كفر بآيات الله ، وانصراف عن العبرة ، واستعصاء على الموعظة ، وخروج عن حدود الشريعة ، واعتداء على أحكامها . اقترف ذلك سلفهم ، وتبعهم عليه خلفهم ، فحقت عليهم كلمة ربك . فلو قرَّ الخطاب عندها ، ولم يتلها من رحمته ما بعدها ، لحق على كل يهودى على وجه الأرض أن ييأس ، وأن لا يبقى عنده للأمل فى عفو الله متنفس . بل لكان ذلك القنوط لازما لكل عاص ، قابضا على نفس كل معتد ، لا فرق بين اليهود وغيرهم . فإن سبب ما نزل باليهود إنما هو عصيانهم واعتداؤهم على حدود ما شرع الله لهم. وسنن الله فى خلقه لا تتغير ، وأحكامه العادلة فيهم لا تتبدل . لهذا جاء قوله تعالى: (إن الذين آمنوا) إلخ بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة. ص _048(1/43)
وإنما ورد على هذا الأسلوب البديع متضمنا لجميع من تمسك بهدى نبى سابق وانتسب إلى شريعة سماوية ماضية ، ليدل على أن الجزاء السابق وإن حكى على أنه من خطأ اليهود خاصة ، لم يصبهم إلا لجريمة قد تشمل الشعوب عامة وهى الفسوق عن أوامر الله وانتهاك حرماته . فكل من أجرم كما أجرموا سقط عليه من غضب الله ما سقط عليهم . وعلى أن الله جل شأنه لم يأخذهم بما أخذهم لأمر يختص بهم على أنهم من شعب إسرائيل أو من ملة يهود ، بل : (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) . وأما أنساب الشعوب ، وما تدين به من دين ، وما تتخذه من ملة ، فكل ذلك لا أثر له فى رضاء الله ولا غضبه ، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم . بل عماد الفلاح ووسيلة الفوز بخيرى الدنيا والآخرة إنما هو صدق الإيمان بالله تعالى بأن يكون التصديق به سطوعا على النفس من مشرق البرهان ، أو جيشانا فى القلب من عين الوجدان ، فيكون الاعتقاد بوجوده وصفاته خاليا من شوب التشبيه والتمثيل ، ويكون اليقين فى نسبة الأفعال إليه خالصا من وساوس الوهم والتخييل ، ويكون المؤمن قد ارتقى بإيمانه مرتقى يشعر فيه بالجلال الإلهى . فإذا رفع بصره إلى الجناب الأرفع أغضى هيبة وأطرق إلى أرض العبودية خشوعا . وإذا أطلق نظره فيما بين يديه ، مما سلطه الله عليه ، شعر فى نفسه عزة بالله ، ووجد فيها قوة تصرفه بالحق فيما يقع تحت قواه . لا يعدو حدا ضرب له ، ولا يقف دون غاية قدر له أن يصل إليها . فيكون عبدا لله وحده ، سيدا لكل شيء بعده . كتب ما تقدم الأستاذ الإمام بقلمه إذ اقترحت أن يكتب تفسير الآية كما قرره فى درسه و إننى أتمه على المنهج الذى جريت عليه فأقول : هذا هو الإيمان المرضى عند الله تعالى الذى يكون أصلا لتهذيب أخلاق صاحبه ، ومصدر الأعمال الحسنة فى مسلكه . وللإيمان إطلاق آخر ، وهو التصديق بالدين فى الجملة ( أى الإيمان بالله : وبأن ما جاء به فلان النبى مثلا هو صحيح غير مكذوب على الله تعالى(1/44)
) . ص _049
ويدخل فيه أهل الفرق الضالة من كل دين من الأديان السماوية ، فهو إطلاق صحيح لغة وعرفا كما تقدم فى تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) . أى: إنهم يصدقون بأن للعالم إلها ، وبأن بعد الموت بعثا ، ولكن هذا الإيمان ليس مطابقا فى تفصيله للحق المقبول ، ولا للإذعان الذى له السلطان الأعلى على النفوس فى تزكيتها وتهذيبها وحملها على الأعمال الصالحة . وهذا الإطلاق هو الذى عناه الأستاذ الإمام بقوله: " لا أثر له فى رضا الله ولا غضبه " إلخ . وهو كون الدين جنسية لمن ينتسب إليه . فقوله تعالى: (إن الذين آمنوا) . مراد به المسلمون الذين اتبعوا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذين سيتبعونه إلى يوم القيامة ، وكانوا يسمون المؤمنين والذين آمنوا . وقوله: (والذين هادوا والنصارى والصابئين) . يراد به هذه الفرق من الناس التى عُرفت بهذه الأسماء أو الألقاب من الذين اتبعوا الأنبياء السابقين ، وأطلق على بعضهم لفظ " يهود " ، والذين هادوا ، وعلى بعضهم لفظ النصارى ، وعلى بعضهم لفظ الصابئين . (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَّوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا) . وهذا بدل مما قبله ، أى من آمن منهم بالله إيمانا صحيحا ـ وتقدم شرحه ووصفه آنفا ـ وآمن باليوم الآخر كذلك ، وقد تقدم تفسيرهما فى أوائل السورة . وَعمِلَ عَملاً صَالحاً تصلح به نفسه وشئونه مع من يعيش معه . وما العمل الصالح بمجهول فى عرف هؤلاء الأقوام ، وقد بينته كتبهم أتم بيان . ص _050(1/45)
(فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . أى أن حكم الله العادل فيهم سواء ، وهو يعاملهم بسنة واحدة لا يحابى فيها فريقا ولا يظلم فريقا . وحكم هذه السنة أن لهم أجرهم المعلوم بوعد الله لهم على لسان رسولهم ، ولا خوف عليهم من عذاب الله يوم يخاف الكفار والفجار مما يستقبلهم ، ولا هم يحزنون على شىء فاتهم . وتقدم هذا التعبير فى الآية (38) مع تفسيره . فالآية بيان لسنة الله تعالى فى معاملة الأمم تقدمت أو تأخرت ، فهو على حد قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) . فظهر بذلك أنه لا إشكال فى حمل (من آمن بالله واليوم الآخر) إلخ . على قوله: (إن الذين آمنوا) إلخ . ولا إشكال فى عدم اشتراط الإيمان بالنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لأن الكلام فى معاملة الله تعالى لكل الفرق أو الأم المؤمنة بنبى ووحى بخصوصها ، الظانة أن فوزها فى الآخرة كائن لا محالة لأنها مسلمة أو يهودية أو نصرانية أو صابئة مثلا . فالله يقول: إن الفوز لا يكون بالجنسيات الدينية ، و إنما يكون بإيمان صحيح له سلطان على النفس ، وعمل يصلح به حال الناس . ولذلك نفى كون الأمر عند الله بحسب أمانى المسلمين أو آمانى أهل الكتاب ، وأثبت كونه بالعمل الصالح مع الإيمان الصحيح . أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السُّدّى قال : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً . ص _051(1/46)
وقالت النصارى مثل ذلك . فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ، ونبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد نبيكم ، وديننا بعد دينكم ، وقد أُمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم و إسماعيل وإسحق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا . فأنزل الله تعالى : (ليس بأمانيكم) الآية . وروى نحوه عن مسروق وقتادة . وأخرج البخارى فى التاريخ من حديث أنس مرفوعا : " لَيْسَ الإيمانُ بالتَّمَنِّى ، وَلكنْ مَا وَقَرَ فى الْقَلْب وَصدَّقَهُ الْعَمَلُ . إن قَوْماً أَلْهَتْهُمْ أمَانىُّ المْغْفرَة حَتَّى خَرَجُوا منَ الدُّنْيَا وَلاَ حَسَنَةَ لَهُمْ ، وَقَالُوا : نَحْنُ نُحْسِنُ الظّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَبُوا ، لَوْ أَحْسَنُوا الظَّنَّ لأحْسَنُوا الْعَمَلَ " . والحكمة فى عناية الله تعالى بالنعى على المغترين بالانتساب إلى الدين أيَّا كان ظاهرة. فإن هذا الغرور هو الذى صرفهم عن العمل به اكتفاء بالانتساب إليه وجعله جنسية فقط . وترك العمل لازم أو ملزوم ، لعدم الفقه فى الدين ، أى عدم فهم حكمه وأسراره ، وتبع هذا فى الأمم السابقة ترك النظر فيما جاء به النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . لأن المغرور بما هو فيه لا ينظر فيما سواه نظرا صحيحا لا سيما إذا كان مخالفا له. وذكر الأستاذ الإمام فى تفسير هذه الآية مسألة أهل الفترة . والخلاف المشهور فيها : وهو أن جمهور أهل السنة يقول : إنهم ناجون ، لأنه لا تكليف إلا بشرع ، وهؤلاء لم تبلغهم دعوة . ومَنْ قال: إن بالعقل يدرك الواجب والمحرم والاعتقاد الصحيح والباطل ، عَدَّهم غير ناجين . وهذا رأى المعتزلة وجماعة من الحنفية . وجمهور الأشاعرة على أنه لا يمكن إدراك ذلك إلا بالشرع . ثم إن محل النظر فى أهل الفترة من كان منهم كالعرب الذين ما كانوا يعتقدون نبوة أنبياء ولا يجدون لديهم شيئا من أحكام دينهم خالصا من الشوائب سالما من النزعات الفاسدة . ص _052(1/47)
وأما مثل اليهود فلا يصح أن يُسَمَّوا أهل فترة ، فإنهم على نسيانهم حظا مما ذكروا به وتحريفهم بعض ما حفظوا ، قد بقى جوهر دينهم معروفا لم يُغَش أحكامه ما يمنع الاهتداء بها . والله تعالى يقول: (وعندهم التوراة فيها حكم الله) . وكذلك المسيحيون لا يُسَمَّون أهل فترة ، لأن عندهم فى التوراة ووصايا الأنبياء ما عند اليهود وزيادة مما حفظوا من وصايا المسيح ، وروح الدعوة موجودة عندهم. ولكنهم لا يعملون بهذه الوصايا ، ولا يأخذون بتلك الأحكام ، ولا عذ ر لهم يحول دون العقوبة . وأما الصابئون فإن كانوا فرقة من النصارى كما يظهر من الوفاق بينهما فى كثير من التقاليد كالمعمودية والاعتراف وتعظيم يوم الأحد ، فالأمر ظاهر أن حكمهم كحكمهم وإن كان الخلط عندهم أكثر ، والبعد عن الأصل أشد . حتى إنهم اعتقدوا تأثير الكواكب ، وأحاطت بهم البدع من كل جانب . على أنهم أقرب إلى روح المسيحية من النصارى . فإن عندهم الزهد والتواضع اللذين يفيضان من كل كلمة تؤثر عن المسيح عليه السلام . والنصارى صاروا أشد أمم الأرض عتوا وطمعا وإسرافا فى حظوظ الدنيا . ويقال : إن الصابئة ملة مستقلة يؤمنون بكثير من الأنبياء المعروفين . ولكن قد اختلط عليهم الأمر ، كما اختلط على الحنفاء من العرب ، إلا أن عندهم من التقاليد والأحكام ما لم يكن عند العرب . فإن كانوا أقرب إليهم ، فلهم حكمهم ، و إلا فهم كاليهود والنصارى يسألون عن العمل بدينهم بعد فهمه كما يجب ، حتى يأتيهم هدى آخر ، كأن تبلغهم دعوة الإسلام فإن لم يفعلوا فهم مؤاخذون . ذلك ، وقد علمنا أن أهل الفترة هم الذين لم تبلغهم دعوة صحيحة تحرك إلى النظر ، أو بلغهم أن بعض الأنبياء بعثوا ولكن لم يصل إليهم شيء صحيح من شرائعهم ، فهم يؤمنون بهم إيمانا إجماليا كالحنفاء من العرب الذين كانوا يؤمنون بإبراهيم و إسماعيل ، ولا يعرفون من دينهما شيئا خالصا كما تقدم آنفا . ص _053(1/48)
وحجة الأشاعرة على عدم مؤاخذتهم آيات كقوله تعالى : (و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) . وقوله: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) . وذهب كثير منهم إلى الاكتفاء ببلوغ دعوة أى نبى فى رُكْنَى الدين الركينين ، وهما الإيمان بالله وباليوم الآخر . فمن بلغته وجب عليه الإيمان بهذين الأصلين ، وان لم يكن النبى مرسلا إليهم. وذهب جمهور الحنفية ، وكذلك المعتزلة إلى أن أصول الاعتقاد تدرك بالعقل ، فلا تتوقف المؤاخذة عليها على بلوغ دعوة رسول ، وإنما يجىء الرسل مؤكدين لما يفهم العقل ، موضحين له ومبينين أمورا لا يستقل بإدراكها ، كأحوال الآخرة ، وكيفيات العبادة التى ترضى الله تعالى . وأوَّلوا آية: (و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) . قالوا: إن المراد بالتعذيب هو الاستئصال فى الدنيا بإفناء الأمة واستذلالها، والذهاب باستقلالها ، وينافيه ما يدل عليه استعمال " وما كنا " من إرادة نفى الشأن الدال على عموم السلب ، ولهم فى كتبهم أدلة ومناقشات ليس هذا من مواضعها. وعن الإمام الغزالى: أن الناس فى شأن بعثة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصناف ثلاثة من لم يعلم بها بالمرة ـ أى كأهل أمريكا لذلك العهد ـ وهؤلاء ناجون حتما. (أى إن لم تكن بلغتهم دعوة أخرى صحيحة) . ومن بلغته الدعوة على وجهها ولم ينظر فى أدلتها إهمالا أو عنادا أو استكبارا ، وهؤلاء مؤاخذون حتما . ومن بلغته على غير وجهها أو مع فقد شرطها ، وهو أن تكون على وجه يحرك داعية النظر ؛ وهؤلاء فى معنى الصنف الأول . هذا معنى عبارته المطابقة لأصول الكلام . ص _054(1/49)
(وأقول) عبارته فى كتاب " فيصل التفرقة " فى هذا الصنف هى : وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يبلغهم نعته وصفته ، بل سمعوا منذ الصبا أن كذابا مدلسا اسمه محمد ، ادعى النبوة كما سمع صبياننا أن كذابا يقال له المقفع ( لعنه الله ) تحدى بالنبوة كاذبا . فهؤلاء عندى فى معنى الصنف الأول. فإن أولئك مع أنهم لم يسمعوا اسمه ، لم يسمعوا ضد أوصافه . وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه ، وهذا لا يحرك داعية النظر فى الطلب . وأقول فى حل معنى الآية على هذا : إن أهل الأديان الإلهية ـ وهم الذين بلغتهم دعوة نبى على وجهها وبشرطها ـ إذا آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الذى بَيَّنه نبيهم وعملوا الأعمال الصالحة فهم ناجون مأجورون عند الله تعالى. وإذا آمنوا على غير الوجه الصحيح كالمشبّهة والحلولية والاتحادية وغيرهم فلا ينالهم من هذا الوعد شىء ، بل يتناولهم الوعيد المذكور فى الآيات الأخرى. وكذلك حال الذين يؤمنون بأقوالهم دون أعمالهم . فإن الإيمان الصحيح هو صاحب السلطان الأعلى على القلب والإرادة التى تحرك الأعضاء فى الأعمال . فإن نازعه فى سلطانه طائف من الشهوة فإنه لا يلبث أن يقهره : (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) . ثم أزيد الآن على ما تقدم أن كل هذه الأقوال والتفصيلات إنما هى فى المؤاخذة على اتباع دعوة الرسل وعدمها . ولا يعقل أن يكون من لم تبلغهم الدعوة بشرطها ، أو مطلقا ناجين على سواء ، وأن يكونوا كلهم فى الجنة كأتباع الرسل فى الإيمان الصحيح والعمل الصالح . إذ لو صح هذا لكان بعث الرسل شرا من عدمه ، بالنسبة إلى أكثر الناس . والمعقول الموافق للنصوص أن الله تعالى يحاسب هؤلاء الذين لم تبلغهم دعوة ما بحسب ما عقلوا واعتقدوا من الحق والخير ومقابلهما " أ. هـ . * * * ص _055(1/50)
* ويظهر أن بعض القارئين فهم من كلام الإمامين ، الشيخ " محمد عبده " ، والشيخ " رشيد رضا " أنهما يصححان إيمان أهل الكتاب ويحكمان لهما بالنجاة على الإطلاق . وهذا غلط بعيد ، ما كان ينبغى أن يسبق إلى ذهن رشيد .! فالكلام الذى نقلناه يعطى بعض اعتبار لأناس لم تبلغهم الدعوة على وجه صحيح ، أما الذين وصلتهم رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتمكنوا من إدراكها على نحو مستقيم ثم انصرفوا عنها دون تصديق لها وإذعان ، فهيهات أن يسلكوا فى عداد المهتدين الناجين . ولكى يُحكَمَ على اليهودى أو النصرانى بأنه مؤمن حقا يجب أن ينضم إلى إيمانه بكتابه إيمان بالذى أُنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك كما قال الله : (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) . فإذا اختلفت بين هذه الكتب عقائد ومبادىء ، كان حكم القرآن أرجح ، وهداه أولى بالاتباع . ولا يصح ـ مع تكذيب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إيمان بالله ولا عمل صالح . فإن معرفة الله كما صورها موسى وعيسى عليهما السلام ، وكما يليق بجلال الله ، وكما تتنزه عن الأوهام والأخطاء ، لا طريق لها إلا القرآن الكريم . أى إن التجسيم والشرك والاتحاد وغير ذلك تتنافى مع صحة اليقين ، ولا يصح مع وجودها إيمان . ثم إن المؤمن الخالص ، العارف بربه معرفة صحيحة لا يتصور فيه أن يكفر بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ!!. إذ كيف يكفر به ، وإيمانه مساو لما عند هذا الرسول الكريم ؟ ومصدق لما جاء به ؟! ثم هل يعد تكذيب المصلحين عملا صالحا ؟! إن من المستحيل الحكم بالخير لرجل من أهل الكتاب يكذب محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ما علم أن الرسول حق وجاءته البينات . ص _056(1/51)
وإنما نحن نلتمس العذرـ كما أوضحناـ لمن حُرموا نعمة التبليغ . ذلك.. والقرآن إذ أثنى على أهل الكتاب فهو لا يسوق هذا الثناء عاما، بل يخص منهم أولئك الذين صدقوا رسوله الخاتم ، وقبلوا ما جاء به . واسمع مديحه للنصارى ، وتنويهه بما فى أفئدتهم من رحمة : (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون..) . فمن هؤلاء النصارى ؟ وما موقفهم من الرسول وقرآنه ؟ : (.. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ، وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) . هؤلاء هم الذين يُسلكون فى عداد المؤمنين . أما المكذبون لمحمد ، المناوئون لرسالته ، الخاصمون لأمته ، فهيهات هيهات . والقارىء يستبين مما تمهد أن الناس ثلاثة نفر : مؤمن ، وكافر ، وجاهل . فالمؤمن هو الذى آمن بالله وحده ، وصدق بجميع أنبيائه ، وأسلم وجهه لله وهو محسن ، مستهديا فى طريقه إلى ربه بأنوار الوحى الذى تنزل من عند الله على رسول العالمين ، الجامع لما تفرق من حكمة بين الأنبياء السابقين ، وهو " محمد " بن عبد الله ، ـ صلى الله عليه وسلم ـ !!. ونحن نجزم بأن هذا المؤمن ناج لأن الله أخبرنا بذلك فقال : (إن الله يدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار …) . والكافر هو الذى عرضت عليه هذه الحقيقة عرضا لا يشوبه لبس ، ولا يخالطه تحريف ولا تشويه ، فعقلها كما جاءت من عند الله ، ومع ذلك آثر جحدها ، واختار إنكارها ، ورفض الإذعان لها ، مع استطاعته أن يهدى قلبه ، ويرضى ربه . ص _057(1/52)
فذلك كافر نجزم بأنه هالك بائر . * (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) . * (ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) . * (ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور) . وتاريخ الأمم التى دمر الله عليها ـ كما يحكيه لنا القرآن الكريم ـ هو تاريخ أقوام بلغتهم الدعوة جلية نقية ، فكذبوا المرسلين ، على طول ما وعظتهم وكثرة ما نصحتهم . فلما لم يبق لهم عذر ، ولم تتصل لهم حجة نزل بهم العقاب . * (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب و تولى) . * (تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ، وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) . (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) . (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين) . ص _058(1/53)
أما الجاهل ، فهو رجل لم تبلغ دعوة الحق مسامعه ليستجيب لها أو يرتد عنها ، فهو يعيش حسب ما قيض له من أفكار ، أو ما ارتبط به من وارثات . ونحن إذا تأملنا فى هذا الصنف من الناس نجدهم أقساما شتى ، بين رعاع وخاصة بين أذكياء وهمل ، وبين كتابين ، ووثنيين ،. إلخ. وإصدار حكم جامع ، أو إيضاح مصير مشترك ، يضم أولئك جميعا أمر عسير. ففيهم من يُسِّرت له بقايا وحى صالح ، فهو يعمل بها مخلصا ، ولو عرف غيرها لسارع إليه . وفيهم من نضج فيه كمال الفطرة فهو يحترم العقل ، ويرعى الحقوق ، ويتجنب الدنايا . وفيهم الغفل الذى يعطى قياده من امتلكه ويسير خلف غيره لأنه لا يحسن إلا التقليد .! وفيهم الذى يسخر بجزء من الدين ويستعد للسخرية من سائر أجزائه إذا عُرضت عليه. وفيهم من ينكر عالم الغيب جملة وتفصيلا ، ويقر بعالم الشهادة وحده . وفيهم من يملك قدرة البحث والتنقيب ولكنه يعطلها تكاسلا .. إلخ. ومن ثم قلنا : إن هؤلاء الذين لم توقظهم من غفواتهم النفسية والعقلية دعوة الإسلام لا يعدون كفارا بها . كيف وهم لم يُوَصَّلْ لهم القول ، كى يدخلوا فى نطاق الآية : (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) . وأغلب الظن أن وزر هؤلاء يقع على الأمة الإسلامية ، الأمة التى فرطت فى رسالتها وتنكرت لمواريثها ، وحرمت العالم من النور الذى شرفها الله به . انظر إلى قوله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) . هذه الآية تبين حكم الله فيمن يجهل دينه . ص _059(1/54)
فإنه لما احتدم النزاع بين الإسلام الواضح الوفى المسالم ، وبين ناكثى العهود وبغاة السوء من خصومه المتربصين به ، وشاء الله عز وجل أن ينزل هؤلاء على قواعد الأدب الصارم ، وأن يلغى المعاهدات التى طالما عبثوا بها ، لم يجعل العقاب يتناول الجميع . ففيهم ناس خالو الذهن من العوام ، أو من المخدوعين المغرر بهم ، أو الجهال بحقيقة الدعوة وإن بلغهم شىء عنها . الواحد من هؤلاء يحب أن يسمع كلام الله كما نزل من عنده ، دون تحريف ولا تزيد ولا نقص . فإذا وعاه ، لم نكلفه فورا بالإيمان . بل يجب أن نوصله إلى المكان الذى يملك فيه جأشه ، ويطمئن فيه على نفسه وحرماته ، ويبنى حكمه على ما يعرض عليه وهو فى حرية وعافية . ذلك أن هذا وأمثاله معذورون فى بُعدهم عن الإسلام : " ذلك بأنهم قوم لا يعلمون" . فإن آمن بعد هذه الفرص المتاحة ، فهو منا . وإن كفر ، واعتزل تركناه . وإن كفر واعتدى قاتلناه . إننا لا نشترى خصومة من يجهلنا . ولا نعتبر علينا من ينأى بكفره عنا . * * * وقد يفيد فى بيان ما قلناه عن الذين لم تبلغهم الدعوة أن نثبت هنا كلاما حسنا للدكتور " عبد الحليم محمود " من رسالته " أوروبا والإسلام " قال: ".. ما الذى يمنع الغربيين من الدخول فى الإسلام زُرافات ووحدانا ؟ إن الإسلام واضح جلىّ ، وإن تعاليمه سهلة ميسورة تنسجم مع العقل والمنطق . فما السر فى عدم أخذ الأوروبيين بهذا الدين وعدم اعتناقهم له فى سرعة بالغة وفى كثرة هائلة ؟! الواقع أن العوامل التى تمنع الأوروبيين من اعتناق الإسلام كثيرة قوية. ص _060(1/55)
ومن المؤسف أن بعض هذه العوامل يرجع إلى المسلمين أنفسهم .! لنتحدث أولا عن العوامل الخارجية : 1ـ أول هذه العوامل " الكنيسة " : لقد أتقنت الكنيسة فن التنظيم ، فلا ارتجال فيها لخطة ، ولا اضطراب لسياسة ، كل شىء فيها مُعَدٌّ مرتب مدروس ، بُحِثَ عن رَوِيَّة وأُعِدَّ إعدادا تاما ... وكان مما أعدته مشروعان كبيران : أحدهما : للتبشير بين أتباع الأديان الأخرى . والثانى : لصد الهجوم عن الديانة المسيحية نفسها من مختلف النقاد ، حتى يقنع بها أتباعها . أما فيما يتعلق بالتبشير ، فإن من الضرورات الأولى لديهم أن يعرف المبعوث لغة المرسل إليهم ، وأن يدرس عاداتهم ، وتقاليدهم ، وديانتهم ، ومواطن الضعف فيهم ، والوسائل التى تجذبهم ، وأن يعلم ـ فضلا عن ذلك ـ بعض مبادىء الطب والخدمات العامة ، ويعلم قبل ذلك وبعده طريقة الهجوم على الديانة المتوطنة ، وأسلوب الدعوة للديانة المسيحية . وأما صد الهجوم على المسيحية فيقوم على شىء خطير يعنينا ـ نحن المسلمين ـ أن نعرفه وهو الدراسة المستمرة المتجددة لأحدث الوسائل فى تشويه الديانات الأخرى . وقد برعوا فى نشر الأضاليل عن كل دين حتى تتكون لدى الجمهور المسيحى فكرة أنه لا حقيقة لإيمان ما وراء ما تقدمه الكنيسة لروادها .! وما نشر من أضاليلهم عن الإسلام لا يحصر ولا يعد . إنها أضاليل تنشر متتابعة متكررة ، وتتردد فى صور مختلفة ، وينتهى بها التكرار والترديد إلى ظنها حقيقة لا شك فيها . وتبلغ بهم الصفاقة أن يعكسوا الحقائق عكسا تاما . فالدين الإسلامى مثلا ـ وهو دين التوحيد الخالص ، ودين التنزيه التام ـ يشيعون عنه أنه دين عبادة الأوثان .!! ص _061(1/56)
ويكررون ذلك فى مختلف الأمكنة والأزمنة ، وينتهى المسيحيون أنفسهم إلى الاعتقاد بأن هذا الدين إنما هو : عبادة الأوثان . وهكذا تسير الدعاية تضليلا ، وتشويها ، وعكسا للحقائق . ومن أهم الوسائل أيضا لتحصين المسيحية ما يسمونه نظام الحرمان . وهو : نظام بمقتضاه يسهل على الكنيسة أن تحرم قراءة أى كتاب ترى فيه خطرا على المسيحية . سواء كان هذا الكتاب هجوما عنيفا على المسيحية . أم دعاية بارعة للإسلام ، أم نمطا ممتازا من الإهابة بسعة الأفق وتحرير الفكر . وقد استعملت الكنيسة هذا الحق فى شأن كثير من الكتب الجديدة . واستعملت هذا الحق أيضا ضد كثير من الكاتبين . وكان موقفها من كل كاتب ـ لا يمكنها أن تستولى عليه بوسائل الرغبة والرهبة ـ أن تحرم قراءة كتبه ، وأن تحرمه هو من رحمة السماء . 2ـ أما الأسباب التى ترجع إلى المسلمين فهى لا تقل خطرا عن الأولى: إن أية دعوة مهما بلغت من السمو لا يمكن أن تجتذب إليها الأنظار ما لم يكن لها جهاز دعاية . الأحزاب لا تقوم بغير الدعاية ، بل البضائع لا تروج بغير دعاية . وقد أخذت الدعاية فى العصر الحديث ، مكانا يجعلها فى الدرجة الأولى من الخطر حتى أصبحت علما يُدرس ، وهيئات تدعم . ويعرف ذلك المسلمون جيدا ، يعرفه تجارهم ، ورجال الأحزاب منهم ، ويعرفه كل مثقف . ولكنهم لا يعملون به فيما يتعلق بنشر الإسلام ..! أين دعاتنا فى الشرق أو فى الغرب ؟ أين مبعوثونا ؟ أين المبشرون منا ..؟ لا شىء من ذلك مطلقا . ومن المعروف أن مبعوثى الحكومة ، ومبعوثى " الأزهر " إلى الأقطار الخارجية ، إنما بعثوا لتعليم الحساب والخط والإملاء واللغة العربية فى مدارس إسلامية ابتدائية أو إعدادية ، أو ثانوية .! ص _062(1/57)
ليس لنا فى الخارج قط مبعوثون لتعليم الإسلام .! وإذا كان الدين الإسلامى ينتشر فإنما ينتشر بقوته الذاتية ، رغم الهجوم عليه ، ورغم العقبات التى تعترض طريقه . ولنقارن ذلك كله بالبعثات التبشيرية ، ومن أمامها ومن خلفها المستشفيات، والملاجىء ، والمدارس ، والمعاهد ، والمال يُغدَق ، والوظائف تُهيأ . ولنتصور كفتى ميزان : إحداهما لا شىء فيها ، وتلك هى كفة المسلمين بالنسبة للإسلام . والأخرى فيها كل شىء ، وتلك هى كفة المسيحيين بالنسبة للمسيحية .. وسبب آخر تحدث عنه " جمال الدين الأفغانى " ، وكان يرى أنه أقوى الأسباب ذلك هو حالة المسلمين . وكثيرا ما قال " جمال الدين " إن الغربيين يستمدون فكرتهم عن الإسلام من مجرد رؤيتهم للمسلمين ، فإنهم يرون المسلمين متخاذلين ضعفاء أذلاء مستكينين ، فرقت بينهم الأهواء والشهوات ، وقعدت بهم الصغائر ، وانصرفوا عن عظائم الأمور ، وأصبحوا مستعبدين مستذلين . ولو كان الإسلام دينا قويا لما كان المسلمون هكذا . ينظر الغربيون إلى المسلمين فى العصر الحاضر ، وينسون شيئين : ينسون أن المسلمين فى العصر الحاضر غير مستمسكين بالإسلام ، وتكاد الصلة بينهم وبينه تكون اسمية . وينسون عظمة المسلمين وقوتهم أيام كانوا مستمسكين بالإسلام ، وأيام أن كانت الدنيا لهم .. ولعل المسلمين يعودون إلى دينهم كما نزل صافيا نقيا ، ويستمسكون به فيكونون مرآة حقيقية يتمثل فيها الإسلام الحنيف . وآداب الإسلام كفيلة بأن تجعل من المسلم رجلا قويا مهذبا كريم النفس . ولكن المسلمين ابتعدوا كل البعد عن الإسلام .. فكانوا شر دعاية له " أ. هـ. * * * ص _063
الفصل الثانى
السنن العامة فى
دعوة الرسل إلى الدين
ص _064(1/58)
السنن العامة فى دعوة الرسل إلى الدين الوفاء للحق ، والقيام على أمره ، ومواجهة الناس أجمعين به ، من أولى الخصال التى يحيا بها الدعاة إلى الله ، وتعد صبغة لازمة لسلوكهم ، بل جزءا خطيرا من كيانهم . فهم ـ على بعد الشُّقة بينهم وبين الضائقين بهم وعلى وحشة القطيعة وطول الخلاف ـ يظلون ثابتين على دعواتهم ، يشرحون أصولها بدقة ، ويبينون حدودها بأمانة ، ولا يتلوَّن الحق فى رسالاتهم لرغبة أو رهبة . إنهم أوفر أحلاما ، وأقوى أركانا من أن يستخفهم مستهزىء يحاول النيل منهم. ولقد استمع رسول الله إلى نداء المشركين الساخر حين قالوا : (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ، لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) . فما تظن أثر ذلك النداء فى فجاج الأرض أو أقطار السماء ؟ لقد تاه صداه وانقطع مداه ، وما تحرك له من جانب المرسلين الكبار شعور قلق. واسمع إلى هذا النفر الراسخ فى كفره ، المكين فى باطله وهو يعلق على الرسالة وصاحبها : (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها) . إن هذا الاستفهام المفعم بروح الاستفزاز والتكذيب والتحدى والتحقير ، يخرج من نفوس أصحابه ليسقط تحت مواطىء الأقدام ، فما يستفز من نفوس الدعاة شعورا بهوان أو غربة . إنهم فى إيمانهم أرسخ أقداما وأمكن أحلاما وأنور بصائر من أولئك الضالين المخدوعين . إن الداعية يعيش فى الحق الذى شرفه الله به مثلما يعيش الناس فى أنوار الضحوة الكبرى . ص _065(1/59)
فهو بأشعته وحدها يهتدى ، وعلى ضوئها يسير . ومن ثم فمن المستحيل أن يخشى عرفا سائدا أو تقاليد مقررة ، إذا كان هذا أو ذاك ضد ما يعرف من حق . ومن المستحيل أن يتملق الجماهير أو يطلب رضاها ! كيف وهو يرى العامة مرضى وفى يده هو شفاؤهم ؟ ويراهم قاصرين وعنده وحده العلم الذى يرفع مستواهم ؟! ومن المستحيل أن يتهيب فى ذات الله بطش ذى سلطان ، سواء أكان مخوف الظلم أم محقق العنت . فهو يعامل ربه قبل أن يعامل عباده أيا كانوا . وهو يوقن بأن الحياة والموت ، والرزق والأجل ، والخفض والرفع ، والأمن والقلق ، ترجع حتما إلى مالك الملك جل شأنه . ومن المستحيل أن يغره طمع أو يجره هوى ، أو تغريه رغبة أو تدنيه رهبة . فإن شأن الرسالة التى انتصب لأدائها فوق هذه الوساوس جميعا . والسنة العامة فى أنبياء الله قاطبة أنهم فى نظرتهم إلى جلال الله ، تتضاءل فى أعينهم شخوص المخلوقين ويذوب ما ينسب إليهم من بأس وإرهاب . قال الله جل شأنه: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) . والآية نزلت عندما كلف النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهدم تقليد التبنى الذى كان شائعا فى العرب . وكيف كلف بهدمه ؟ بأن يتزوج امرأة متبناه زيد ، الذى طالما دعاه الناس زيد بن محمد .. وبهذا الزواج المفروض يجتاح الإسلام عمليا كل أثر لتسوية الأدعياء بالأقرباء . ويبدو زيد ـ المدعو بابن محمد ـ على حقيقته فى النسب ، وتحيا امرأته مع رجلها الجديد على صفته الصحيحة ، لا على أنه والد رجلها القديم : ص _066(1/60)
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) . بيد أن هذا التكليف شق على رسول الله أعظم المشقة ، وتأذت نفسه من أن يتحدث الناس أنه أخذ امرأة ابنه ، وكان ينبغى البعد عنها . فرد الله سبحانه هذا التوجس ، وعاتب نبيه فيه ، مظهرا له أن المرسلين لا يتهيبون فى ذات الله ونصرة الحق أحاديث الناس وما يرسلونه من إشاعات أو يقيمونه من اعتراضات .. * * * والأنبياء واضحون فى رسالاتهم ، ليس فى دعواتهم جانب غامض أو غرض مستور. يقول الله فى موسى وهارون: (وآتيناهما الكتاب المستبين ، وهديناهما الصراط المستقيم) . وهم بهذا المنهج المشرق يلقون الناس كلهم ، الصديق والعدو ، لا يحاولون طى شئ من رسالاتهم يتألم منه هذا ، أو المواربة فى وصف حقيقة يكرهها ذاك . وهم بهذا الوضوح فى رسالاتهم يفاصلون الناس على الكفر أو الإيمان : (ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة) . وقد كان من الممكن أن تعرض الدعوات على الكارهين والناقمين بأسلوب ملتو كليل الحد يهادن الشهوات ويسالم الإفك والخرافات إلى حين ، ولكن الله عز وجل رفض هذا الأسلوب. قال: (فلا تطع المكذبين ، ودوا لو تدهن فيدهنون) . وقد تمنى المشركون لو نزل رسول الله عن بعض ما يدعو إليه ، وأبدوا استعدادهم لتصديق ما يلائم أفكارهم وأمزجتهم من رسالته. لكن الحق لا يتجزأ والإيمان به كذلك لا ينقسم. ومن هنا حرض الله نبيه أن يبقى على دعوته الكاملة ، ورسالته الشاملة ، غير مكترث بما يقترحه الكافرون : (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) . ص _067(1/61)
وظل رسول الله بدعوته كلها ، يشرح أصولها ويوضح سبيلها . ولم تفتر عزيمته فى مهاجمة الأصنام ، وتسفيه عابديها، والتنديد بجهالتهم. فلما حدثه عمه أبو طالب أن يدع هذا الدين ، وأن يصون نفسه من خصومة المناوئين قال : " يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " . وتمر السنون بطيئة ثقيلة معنتة موجعة ، والكفاح بين الحق والباطل لا تهدأ حدته وقد نقلته الأيام من ميادين الكلام إلى ميادين القتال . ومع ذلك فبعد بضع عشرة سنة من هذه الكلمة التى قالها الرسول لعمه تسمعه يقول لبديل بن ورقاء الخزاعى فى موقف الحديبية : " إنا لم نجىء لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بينى وبين الناس : فإن أظهر ، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فعلوا ، وإلا فقد جموا. وإن هم أبوا فوالذى نفسى بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى ولينفذن الله أمره". إنه إصرار لم تزده الليالى إلا قوة ، وثبات يربو مع الزمن ولا ينقص . وربما سألت: ما العدة فى هذا النضال؟ وما الوسائل التى اعتمدت عليها الدعوة فى بلوغ أهدافها ؟. والجواب أن الدين لا يتذرع فى الوصول إلى غاياته إلا بطرقها نفسها . وتدرك طبيعة هذه الطرق من قول الله لنبيه : (فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها) . (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) . (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) . (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) . ص _068(1/62)
فالمثابرة على الدعوة ، والاستعانة على وعثاء الطريق بطول الصبر ، وحسن التأسى وصدق الاعتماد على الله ، وتفانى الداعية نفسه فى حقيقة رسالته ، هو طريق النجاح . ومحاولة الإفلات من هذه السنة العامة لا يتاح لأحد . وفى هذا يقول الله لنبيه : (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإى المرسلين) . أجل: إن أنباء المرسلين تتابعت على كر الدهور مؤكدة هذه الحقيقة، ومؤكدة كذلك أن عقبى الصبر الجميل جميلة، وأن نصر الله يجىء فى نهاية المطاف كما يجىء الصباح بعد اعتكار الظلام. وقوانين المجتمع الإنسانى فى ذلك تشبه قوانين الحياة المادية لا تنخرم ولا تتخلف.. واسمع إلى يوسف وهو يقول لإخوته: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) . إن هذه الآية كأى قانون مادى فى علم الطبيعة أو الكيمياء تشير إلى أن الفرد الذى يستجمع هاتين الخلتين من معنى الإحسان لابد أن يدركه التوفيق وتلحظه العناية وينجح فى حياته حيث يخفق الآخرون الذين يقصرون فى هذا المضمار . ولذلك يقول إخوة يوسف له: (تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) . وإيثار الله ليوسف لم يكن عطاء من غير مؤهل، بل أتى بعد مراحل شاسعة من الكفاح والعفاف والمصابرة والتجمل.. وكما تصدق هذه السنة فى حياة الأفراد تصدق فى حياة الجماعات. فإن الأمم لا ترزق التمكين فى الأرض ولا تنال حظا من عناية الله إلا إذا مرت بأدوار من العمل المضنى والجهاد الشاق، وصبرت على تكاليف الرسالات التى تحملها، والتقدم الذى تنشده. ص _069(1/63)
والقرآن الكريم يذكر السر في تسويد الأقدمين من بنى إسرائيل: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) ! فالصبر الطويل، و اليقين الراسخ، هما عدة الإمامة فى الأرض، والصدارة بين الناس. والسنة العامة المطردة من أزل الحياة إلى أبدها فى كل كفاح بين الحق والباطل قد شرحها الله سبحانه وتعالى فى هذه الآية: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال). وينبغى أن نسائل أنفسنا، ما هو الحق الذى ينتصر، وما هو الباطل الذى يندحر؟ فإن فى صفحات الحياة مشاهد قد تجعل الإنسان يرتاب فيما يقال له، وهو يكاد يلمس استقرار الإلحاد والفساد فى مواطن كثيرة.. والجواب أنه ليس كل ما يوصف بأنه حق يحمل هذه التسمية عن جدارة. ولا كل ما يوصف بأنه باطل يوصم بهذا العنوان عن صدق. والحق الذى يكتب له الخلود يجب ليظفر بهذه الثمرة أن تكون إلى جانبه خصائصه كلها. إننا إذا قلنا: الطيارة أسرع من الدابة، فلا نعنى طيارة مكسورة الأجنحة نافذة الوقود، إن طيارة بهذه المثابة يسبقها حمار معطوب الحوافر. إن من خصائص الحق- إلى جانب سلامة جوهره- أنه ضياء للعقل، وصدى للفطرة، ومفتاح للخير، وسياج للمصلحة، وصلة لا يعلى عليها فى ربط الأم بالحياة وبربها تبارك اسمه. ومن خصائص الباطل أنه اتباع للوهم، ومغالطة للفطرة، واستجابة لطبائع السوء، واقتراف للمآثم ، وعبادة للشيطان. وقد تتكاثر هذه الخصائص وتبرز ، وقد تتضاءل وتضمر . وقد يموج بعضها فى بعض ، ويخلط الأتباع بين شىء من هذا وشىء من ذاك. ص _070(1/64)
بيد أنه من الكذب على الله وعلى الواقع أن ننتظر انتصار حق إذا تأملت فيما حوله لم تجد إلا خصائص الباطل كلها من غباء وشهوة وعوج. إن الحق عندما يكون حربا بين الوثنية والتوحيد، فهو حرب بين العقل المتأبى على الخرافة، المتجاوب مع ما فى الكون كله من علم ومعرفة، وبين عقل آخر مستغلق منحط يسجد لحجر أو عجل أو ما شابههما. ومن البديهى أن انتصار الأول هو امتداد للمعرفة، وكرامة للإنسان، ومنفعة للناس ينطبق عليه قول الله: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) . لكن ما الحال إذا عقم الحق فلم يلد ينفع ، واكفهر وجهه فلم يتضمن بشرا، ورمقت أصحابه فوجدتهم ملتفين حول اسم فارغ لا لب له؟! أنى يكتب لهذا الحق المزيف نصر أو يسجل له خلود؟! إن المسلمين- ونقولها آسفين- ظلموا الحق الذى توارثوا آياته فى صحائفهم. لقد التصقوا به وهم يرتكبون خطأين جسيمين: أحدهما فى جانب الحياة نفسها، فلم يفقهوها ولم يوثقوا أواصرهم بها. والآخر فى جانب الله، إذ لم يفقهوا هداه ولم يسيروا على سننه. فكانت النتيجة أن تنكرت لهم الحياة فهانوا فيها، وأن سخط الله عليهم فلم يسعفهم بنصرٍ هُم أحوج الناس إليه .. فإذا انخذل الإسلام- وتلك حالته مطمورة فى أحوال أهله- فإن ذلك ليس قدحا فى سنن الله العامة ، ولا تكذيبا للنتائج المحتومة فى كل صراع يدور بين الكفر والإيمان . إن انتصار الحق أمر لابد منه ، وغلبة أهله على غيرهم فى نهاية المطاف قانون لازم دائم . وقد تسبق ذلك مراحل طويلة، ولكن هذه المراحل ليست تسويفا لنتيجة ينبغى حلول أوانها، بل هى- فى الأغلب- فترة من الزمن يكتمل فيها معنى الحق فى نفوس حملته، ويمتزج بحياتهم الباطنة والظاهرة على سواء. فترة يخلصون فيها من نزعات الهوى الخفى والجلى ، تتم فيهم القدرة على إفراغ الحياة الإنسانية فى القالب الذى يريدون ، وتسييرها نحو الوجهة التى يبتغون.، ص _071(1/65)
فإذا بلغ هذا الاستعداد تمامه ، فما من شك أن الباطل مندحر، وأن رايته منكسة، ،أن اتباعه زائلون. وقد أكد القرآن الكريم فى أكثر من موضع هذه الحقيقة، وذكر- بجلاء- أن النصر حليف هذا الحق الناضج، وأن الباطل زاهق أمامه لا محالة: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ، ملعونين أين ما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) . فهذا تهديد لأعداء الإسلام أن بقاءهم على الخديعة، وإشاعتهم للأكاذيب، واتباعهم للهوى سوف يوردهم- حتما- المصير الذى ورده المكذبون الأوائل. وهو مصير لا ينجو منه ظالم أبدا. وفى سورة أخرى يقول: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) . فالمعارك التى تنشب بين الإيمان والكفر تنتهى بالمعركة الفاصلة آخر الأمر وتطرد بها سنة الله فى المستقدمين والمستأخرين. وكما يندحر الباطل فى ميدان التفكير والنظر تنكسر شوكته فى رحاب الحياة: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) . وفى سورة فاطر يقول: (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ، استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) . فعقبى الإعراض عن الحق والغرور بالضلال ثابتة . وما أصاب الأولين لن يفوت الآخرين . ص _072(1/66)
ولابد أن تدرك الأم الجائرة ما يقمع بطرها ويطمس على بصرها.. وعندما يحيق بالمجرم سوء صنيعه يستيقظ فى نفسه ما أنامه الغرور من قبل، فيصحو بعد فوات الوقت ويعترف بما كان ينكر، بل بما كان يجحد، وكثيرا ما نسمع الكلمات الأخيرة التى يرسلها المحكوم عليهم بالإعدام وهم مقودون إلى حبل المشنقة ، إنها كلمات مليئة بالندم والتوبة ناضحة بالإيمان والاستسلام لله.. بيد أن ذلك الرشاد المفاجىء لا يغنى عن أصحابه، ولا يؤخر عنهم العقوبة. لقد حكم فرعون حقبة من الدهر، كانت حافلة بالجبروت والفساد، مشحونة بالبغى والقتل، فلما أدركه الغرق قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ، آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) !!!. إن هذه اليقظات الغريبة فى ضمائر المجرمين لا تدل على خير. ومن يدرى لعلها حيلة الجبان للفرار من القصاص !!، ومن ثم رأينا الله جل جلاله لا يدع الأمم الضالة بمثل هذا الاحتيال : (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) . ونحن نلحظ أن عذاب الاستئصال الذى اجتاح كثيرا من المكذبين السابقين قد استحال شيئا آخر بالنسبة إلى مشركى مكة. فإن موقفهم قد ألجأ الرسول إلى الهجرة وظهر كأن دولة الوثنية قد سيطرت على الموقف، وأن الهزيمة قد لحقت بالإيمان وصحبه . لكن هذا الظاهر المتبادر إلى الأذهان لا يلبث أن يزول، إذا عرف أن دولة الوثنية لم يمض عليها إلا قليل حتى تلاشت فى موطنها نفسه، وأن سدنتها ذابوا فى حرارة الإيمان المنتصر كما يذوب الجليد على ألسنة اللهب. وصدق الله سبحانه فى قوله: (و إن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها و إذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا و لا تجد لسنتنا تحويلا) . ص _073(1/67)
أجل إنهم ما لبثوا إلا بضع سنين ثم تهدمت الأصنام حول الكعبة، تحت سطوة التوحيد المنتصر. وانطلق صوت الرجال الذين بعثهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أرجاء مكة يقولون فى الموسم الجامع : لا يحج بعد العام مشرك . * * * منذ نشط العمران البشرى على وجه الأرض والناس تستهويهم مأرب شتى، وتتوزعهم طرائق مختلفة. وكثرتهم- وهذا أمر محزن- يغلبها الجهل، وتنحرف عن سواء السبيل. شرف الإنسان عقله، ولكن العقل طالما نحِّىَ عن قيادة الأفراد والجماعات. وجمال الإنسان صفاء فطرته، واستقامة سجيته، ولكن الفطر الصافية والسجايا المستقيمة طالما احتجبت وراء غواش من الأثرة والظلم والهوى. وكما تفتك أسراب الديدان، وأنواع الآفات بأشجار القطن والفاكهة، هجمت علل خطيرة على الجنس الإنسانى فعوجت سيره، وشوهت فكره، ومسخت ما برأه الله عليه من فطرة، وما زانه به من عقل: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) وكان جهد النبيين الأول هو علاج هذا الخلل فى السلوك الإنسانى ومداواة تلك العلل التى تفتك بالكرامة وتنذر فى العاجلة والآجلة بسوء المنقلب .. هذه أمة شاع فيها غمط الحقوق وبخس الكيل والميزان. وهذه أمه شاع فيها الكبر والجبروت واجتياح الضعاف. وهذه أمة أسرفت فى شهواتها وتعدت الإناث إلى الذكران. وهذه، وهذه.. أمم كثيرة تطرق المرض النفسى إلى قلبها ولبها، وذهلت من قبل ومن بعد عن معرفة ربها. فكان كل رسول يبذل قصاراه فى سوق الشفاء لها، ومحاولة النجاة بها من عواقب الكفر والفسوق والعصيان. ص _074(1/68)
وإنك لتسمع القرآن الكريم يجمل تواريخ هذه الأمم وعمل الدعاة الكبار فى إرشادها إلى الحق وقيادتها إلى الله فتراه يلزم هذا النسق وهو يقص مصارع خمس من الأمم: (كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) . إن هذا النسق اطرد فى التأريخ لقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. تشابهت الرسالات، وتشابهت الإجابات، وتشابهت المصاير التى طوت الكل، وذاك ما يدعو إلى الاستغراب والعجب: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ، أتواصوا به بل هم قوم طاغون ، فتول عنهم فما أنت بملوم ، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). هؤلاء الأنبياء المخلصون عمدوا إلى محاربة الخرافة الأولى فى تفكير الإنسان وهى تقديس الأصنام والأبقار وما إليها ، وفتح البصائر المغلقة حتى تعرف ربها الحق وحده. فإذا عرفته حرصت على إرضائه، وبعدت عن مساخطه، واستعدت للقائه. ومن ثم أمكن فطامها عن الرذائل التى هوت فيها وتيسر شفاؤها من العلل الغليظة التى رانت عليها . إن الأمراض الاجتماعية شديدة الفتك بعيدة الأثر. وكما يصنع الزهرى مثلا بالأجنة فى بطون الأمهات، من تلف فى الأجهزة وعطب فى الحواس، تصنع الخرافات والشهوات بالأفئدة والأعمال. وكثيرا ما أنظر إلى الأجيال الناشئة فى قرانا المصرية فأرى البول الدموى نزف قواها وشل نماءها، وكسا الوجوه بصفرة كابية. فإذا قارنت بين أولئك الولدان البائسين، وأترابهم من أبناء البيئات النقية شعرت ببعد البون إذ ترى هؤلاء يشبون فى عافية وتتورد وجوههم من قوة الحياة ووفرة الصحة. إن الفطرة الإنسانية قد تحكمها بيئات ظالمة مظلمة، فإذا هى صريعة جهالة طامسة وأهواء طافحة، وعوج شنيع. ص _075(1/69)
بل إن هذه الفطرة الكريمة يصيبها من الغمار ما يصيب الحقول الغناء إذا هجمت عليها قوافل الجراد. ولم يعرف العالم فى تاريخه الطويل أزكى ولا أرقى من رسل الله فى الذياد عن هذه الفطرة. وقد قرأنا فى كتاب الله كيف برز كل طبيب منهم يشفى النفوس من سقامها ويرجع إليها رشادها العازب، ويهديها إلى سواء الصراط. وفى دعوات الأنبياء الأولين نلحظ بساطة العرض، وسهولة الفكرة، ورقة الإخلاص، وجلاء الغاية، وتدفق الرحمة، وصدق النصيحة، وقوة التوجيه إلى الله والإعداد للقائه. بيد أن كل واحد منهم كان محدود الطاقة فى علاج ما يلقى من أمراض، إذ كان جهده محليا غايته ملافاة ما يقع، واستنقاذ من يستجيبون. أما الرسالة الخاتمة، فلم تكن " مشروعا " صغيرا لإصلاح قرية موبوءة. بل كانت برنامجا واسع الدائرة رحيب الأكناف، يستهدف وضع خطط لوقاية العالم كله، ورسم سياسات كثيرة للإصلاح والاستشفاء، وحشد قوى جبارة لتطهير الأرض من جراثيم الفساد. إن هذه الرسالة تتميز فى دعوتها بأنها جهد إنشائى متكامل لخلق عالم أفضل يتعاون فيه الفرد والمجتمع على نشدان الكمال، وإقرار الفضيلة، على أساس من معرفة الله جل شأنه. ومحور الإصلاح فى الرسالة الآخرة، جعل الإنسان إنسانا.! وهذا شىء يدعو إلى العجب ! هل جعل الإنسان إنسانا غاية تقوم لها رسالة، ويقترن بها خير، وينتج عنها كمال مرموق؟! نقول: نعم ، وذاك محور الإصلاح الإلهى للعالم كله. إن أقوى شىء فى الوجود الآن قد يكون التفجير الذرى، وربما كان فى القرن السابق الطاقة الكهربائية. والوجود مشحون بقوى هائلة عرف منها ما عرف وستر منها ما ستر. ص _076(1/70)
بيد أن أعظم قوة فى هذا العالم وأبرز الكشوف فيه ليست تلك الطاقات المادية، بل إنها.... الطاقة الإنسانية..! هذا الإنسان الذى يسير بقدميه الصغيرتين على الأرض، ويخطر بقامته الضئيلة. هذا الإنسان الذى لو تجمع جنسه كله من شتى القارات فى صعيد واحد ما زحم مساحة يؤبه لها من هذه الأرض التى يدرج فوقها. ولو قيست أرضه تلك بالأعداد الكثيفة من الكواكب التى تسبح فى الفضاء ما ساوت شيئا. هذا الإنسان الغريب هو أخطر شىء فى الكون. لقد خلقت له السموات والأرض وسخر له الشمس والقمر. وصدق الشاعر إذ يقول: وتزعم أنك خلق صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟ لكن هذا الإنسان العظيم بما رُشِّحَ له، وما مُكِّنَ منه، قد تعرض له أوهام تمسخه فإذا هو ساجد لحجر، أو تائه وراء شهوة سافلة! ومن هنا تدافعت وصايا الرسالة الإسلامية لتبصر الإنسان بقدره، وتصونه من الدنايا، وتحفظ عليه خصائصه العليا. إنه كبير بقلبه، فكيف يدع قلبه نهبا للغش والهوى والظلم؟!. إنه كبير بعقله، فكيف يدع عقله فريسة للجهل والخرافة؟. إن الإسلام يعتمد فى حماية الإنسان من علل الكفر والفسوق على إيقاظ لبه وقلبه وتبصيره بمكانته وفضله، واستبقائه إنسانا لا يتدلى- بتعطيل مواهبه- إلى درك الحيوانية السحيق. واسمع إلى الصيحة الأولى فى تنبيه الغافلين: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) . التفكر، هو المطلب الأول، صحوة العقل بعد غفوته ليرى رأيه فيما يعرض عليه، والعقل قد تقيده أغلال التقليد الأعمى فلا يملك الحرية الواجبة. ومن هنا شدد الإسلام النكير على أحلاس التقليد وصرعى كل عرف غبى: ص _077(1/71)
(وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ، فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) . كما قضت الإرادة العليا بأن الذين يستجيبون لدواعى الجحود، ولا يسيرون وفق معالم الرشاد، لابد من تضليل مسعاهم، وتركهم يخبطون فى مواطن الغفلة التى رموا بأنفسهم فيها: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) . * * * شرع القرآن الكريم يلفت الإنسان إلى ما بين يديه وما خلفه من السماء والأرض، ويوثق أواصره بمظاهر الكون الذى يعيش فى رحابه . ويجعل من هذا وذاك المادة التى تكون إيمانه بربه ، وتعرفه بما ينبغى له من تسبيح وتحميد ، وما يجب عليه نحوه من إنابة وعبادة. والنهج الفذ لذلك هو بصر العقل بآيات الله وملكوته. وانظر إلى هذا الضرب من الاستدلال والهداية، لتعرف أن المراد منه هو إيقاظ الإنسان، وإحياء خواصه الذهنية والنفسية ليعرف ربه معرفة اليقين: (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون) ص _078(1/72)
* (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) . التفكر، والتذكر، والتعقل، ثم الشكر. هذه هى أسباب اليقين وطرائقه الصحيحة، ومدارها- على ما ترى- الحركة الذاتية فى الإنسان نفسه. هذه هى الحركة التى تصور وظيفته فى الحياة ومنزلته فى الكون وتؤكد أولاً وأخراً قيمته الخاصة ومكانته الجليلة. ومعنى هذا أن الإنسان مكلف باستخدام حواسه على نطاق واسع، فالسماع الغافل أو النظر الأبله، أو النطق الغبى، هبوط لا يليق بامرىء يحترم نفسه ويدرك كيف كرمه خالقه وفضله تفضيلا . الإنسان الحق: عميق النظر، فقيه السمع، راشد القول. ولما كان الإسلام- كما بينا- يستهدف جعل الإنسان إنسانا فهو يجعل الكفر نتيجة طبيعية لانطماس المشاعر وبلادة الحواس: (و عرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ، الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري و كانوا لا يستطيعون سمعا) . (.. يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) . وعدم استطاعتهم السماع أو استبانتهم الرؤية لا ترجع- بداهة- إلى رمد أو صمم ، إنما يرجع إلى أن القوم عطلوا مواهبهم، وذهلوا عن قيمتها العليا، أو سمحوا للدنايا أن تصرفها فى الأباطيل. وقد يستغرق الغافل فى ذهوله فإذا ناديته لم يصل إليه الصوت إلا خافت النبرة ضائع المعنى، فكأنه- وهو قريب منك- على مسافة ميل!. (.. والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد). بل قد يصل الموت الأدبى بهؤلاء الجاحدين المذهولين أن تصل صدى الدعوات إلى آذانهم، فلا يفقهون منها- على شدة وضوحها- إلا ما تفقهه القطعان عندما يصفر لها الراعى لتشرب أو لتسير. ص _079(1/73)
(ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) . إن الإسلام جاء ليرد للإنسان اعتباره المفقود، وليحفظ عليه قدره المهدد أى ليجعله إنسانا حقا، إنسانا مستقيم الفطرة كما خلقه الله، ذكى العقل، حديد النظر، واعى السمع، صائب القول، سديد الحكم. وهذه الخصال هى مقومات الإنسان، وهى بعينها مقومات الإيمان، فإذا تطرق الانحراف إلى شىء منها فانتظار الإيمان الحق جهد ضائع. ومن ثم يقول الله لنبيه: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) . إن الإسلام عالج الإنسانية بأصح دواء يمكن أن يقدم لها، وذلك بالتعويل على المقاومة الذاتية للإنسان، أو المناعة الخاصة الكامنة فيه، وحشدها فى صعيد واحد لتصد أى هجوم يغرى بالكفر والفسوق والعصيان. وذلك سر الحديث الطويل فى كتاب الله، والمناشدة المستمرة للإنسان، ألا يسف وألا يخون فكره ، وألا يجحد سمعه وبصره ، وألا يتدلى إلى درك لا يليق به . ذاك سر التساؤل المترادف : " أفلا تذكرون " ، " أفلا تعقلون " ، " أفلا تتفكرون " . (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور) . والواقع أن كل ضعف يتطرق إلى القوى العقلية، أو إلى مقدرة الحواس فى الملاحظة والوعى، فهو هدم لجزء مساو من حقائق الإيمان وعاطفة التدين. إن الإسلام حاسم فى أنه يريد إنسانا مفتوح البصر والبصيرة ، لأنه يريد إيمانا عميق الجذور ، وثيق الضمانات . أما حيث يغلب الجهل ويزين الهوى وتستحكم الغفلة ، فإنا نكون بإزاء حيوان لا إنسان . ص _080(1/74)
(أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) . هل يوجد أسلوب آخر لتكميل الإنسان وتبصيره الحق وتعريفه الخير؟ هل يوجد شىء آخر ، بعد أن يتقدم الوحى الأعلى فيحرك الواقف ويصلح المختل من هذا الجهاز الإنسانى العجيب ، ثم يدفعه باسم الله فى طريق عتيدة واضحة الأهداف موائمة لطبيعته الزاكية كما تتواءم المسافة بين شريطى السكة الحديد وبين عجلات القطار المنسابة فوقهما ؟. لا يوجد شىء آخر إلا ذلك الإسلام، وذلك أساس خلوده. ولقد قال أحد العلماء: إذا ثبت أن الإسلام هو الصراط المستقيم فلن يكون بعد محمد نبى ، ولا بعد دينه دين . ذلك أن الخط المستقيم هو أقصر صلة بين نقطتين ، ومن ثم فلا يمكن أن يتعدد. ولقد رأيت مبلغ الاستقامة فى تعاليم هذا الدين ، وكيف أنه رسم سياسة للإصلاح العام لا عوج فيها ولا تعقيب عليها . ومن المستحيل تصور قادم آخر في السماء يزيد حرفا أو يغير وضعا من جملة الشرائع التى جاء بها محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والحقيقة أن كل ألم ، أو اضطراب ، أو فوضى ، تهز كيان العالم بين الحين والحين إنما مردها إلى عدم أخذه بهذا الدين وشروده عن صراطه المستقيم . إن الإسلام هو كلمة الحق الخاتمة ، الجامعة المانعة ، التى لا يتصور جديد بعدها ، إلا أن يكون هذا الجديد لغوا لا معنى له ، أو عبثا لا خير فيه . ويسير علينا بعد هذا الوصف المجمل للإسلام أن نرى فروقا بين دعوته ، والدعوات التى سبقته . إن الرسالات السابقة كانت محلية ، موقوتة ، محدودة الزمان والمكان . جهد أصحابها- دون غمط أو انتقاض- إنقاذ قبيلة من الناس من جهالات أو ضلالات فشت فيهم وكادت تودى بهم . فهم- صلوات الله عليهم- أطباء حاولوا أن يشفوا أقوامهم من علل غلاظ، وأقلهم استجيب له ، وكثرتهم جحد حقها ونكر فضلها . وهلكت أممهم صريعة بأدواء الكفر والعناد . ص _081(1/75)
كذلك كان شأن " هود" فى عاد ، و " صالح " فى ثمود ، و " شعيب " فى مدين ، و" لوط " فى قرى المؤتفكة . أما الرسالتان الكبيرتان اللتان نهض بهما "موسى" و " عيسى" فسرعان ما تسرب التحريف إليهما ، وغلب الدخن الكثير على أصولهما وفروعهما . هذا هو حصاد الماضى كله عندما نتأمل فى مصاير النبوات الأولى ، والدعوات السابقة . أما الرسالة العظمى التى اضطلع بها خاتم الدعاة وسيد الهداة ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن القدر الأعلى زودها بما حفظ عليها صلاحيتها المطلقة ، وأبقاها إلى يوم الناس هذا ، وإلى أن ينفخ فى الصور ، جماع الأشفية التى يتخلص بها العالم من سقامه ، وينبوع الرحمة التى يستريح بها من آلامه ، وإن جحد الجاحدون : (و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا) . إن المقارنة العابرة بين الرسالات الأولى والرسالة الخاتمة يظهر فيها الإسلام ، وقد تفرد ، فى طوله ، وعرضه وعمقه فطوله يستغرق الأزمنة فى الأزمنة ويساير الخلود ويتجدد على الأعصار فليس بعده وحى ولا حاجة إلى شراء من ذلك . وعرضه يستوعب الأجناس كلها ، فى القارات الخمس فهو يضمهم فى رحابه ويسعهم فى جنابه ، لا يختلف أسود عن أبيض أو أحمر . وعمقه يشمل الحقائق التى يفتقر إليها العالم فى شئونه جميعا ، ما فرط فى شىء منها ، ولا قصَّر فى فتوى أو قصَّر فى جواب . لقد تضمن الإسلام من العقائد ما لا يرقى إليه شك، ومن العبادات ما يحفظ على القلب سناءه ، ومن المعاملات ما يشبع نهمة العالم مع كل تطور، ومن الأخلاق ما يدعم الفضيلة ويمحق الشرور. وحَمَلته- فى انتصارهم أو انكسارهم- يخضعون للسنن العامة التى شرحنا جملتها آنفا. وما بد من رعاية هذه السن فى كل عراك بين الإيمان والكفر، وفى كل سباق إلى امتلاك زمام الحياة . * * * ص _082(1/76)
كيف انتشر الإسلام من بضعة قرون وجذوة النشاط العقلى فى بلاد الإسلام تبرد رويدا رويدا، والستور الحاجبة تسدل على الفتوح الأدبية العالية التى اقترنت بظهور الإسلام وانتشاره فى أرجاء العالمين . وإنه لمحزن أن يفقد المسلمون أولى الخصائص الروحية والفكرية لدينهم العظيم وأن يرتدوا قليلا قليلا إلى الجاهلية التى تخلص منها أسلافهم الكبار ، بل التى خلصوا منها سائر الأجناس . وأدعى إلى المزيد من الحزن أن يجىء هذا الارتكاس فى فترة النهوض المادى الخطير الذى شمل أوروبا ، والذى اهتبل فرصته أعداء الإسلام فسخروه تسخيرا تاما ضد هذا الدين وضد الأمم الداخلة فيه.. فى دور التخلف العلمى الذى شاننا وأوهن قوانا ، وبعثر تراثنا الثقافى فى حواضر الغرب ، أو طواه تحت طبقات من الإهمال ، فى هذا الدور ظهر "الاستشراق " ليكون رائدا ذكيا أمام حركة المد التى أقبلت من أوروبا ، واستكشافا يدل الغزاة على العورات المتوارية والثغور المهملة . والمستشرقون نفر من الناس جَنَّدهم الاستعمار فى ميدان العلم أداة لطعن الإسلام وتشويه حقائقه واصطناع الفتوق فيه . وأسلوبهم الأثير أن يلبسوا الحق بالباطل ، وأن يمزجوا- بشتى الحيل- بين بعض المعارف الصحيحة والأكاذيب المفتراه ، فى سياق يبدو لقليل الدراية أنه بحث محايد لا ريب فيه . وجمهرة المستشرقين يرون أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ دَعِىٌّ لا يحمل رسالة من السماء ، وأن قرآنه تلفيق من عند نفسه ، وأنه استطاع- فى ظروف مواتية- أن ينتضى السيف ويجهز على أعدائه . وعلى العكس من ذلك كله يرون أن النصرانية حق ، وأن كتبها وحى مقدس ، وأن استدامة وجودها ضرورة ، وأن تحطيم الإسلام أمامها فريضة حتم . ويختلف المستشرقون فى الطرق التى توصلهم إلى هذه الغاية . ص _083(1/77)
فمنهم من يغلبه حقده فينثر من كنانته وابلا من الشتائم المقذعة ضد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته وشريعته . ومنهم من يطوى ضغنه ويتحين الفرص المناسبة لإبداء مطاعنه . ومنهم من هو أكثر حصافة وأوفر كياسة فتراه يستعرض الإسلام بأدب ، ويروى تاريخه أو يسرد معالمه بدقة . بيد أن ما وقر فى نفسه من تكذيب للنبوة ، وما يتبعها يجعله- فى استنتاجه من الوقائع الثابتة ـ ميالا للتحريف والتظنن . ومنهم من تروعه سطوة الحق فى هذا الدين ، فيؤمن بعقله و إن بقى كافرا بقلبه . ولعله يزعم أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان صادقا لدى نفسه ، أى إنه ـ وإن لم يرسله الله ـ كان مقتنعا فعلا بأنه رسول . ومنهم من يستحيى ـ أمام فيضان الحقائق الذى يلقاه وهو يدرس الإسلام ويتدبر تاريخه ـ أن يحترم الخرافة الزاعمة بأن الإسلام انتشر بالسيف ، وهو إنما يحترم عقله إذ يصدر هذا الحكم ، ومع ذلك تبدو منه هنات فى تناول الرسالة الإسلامية نفسها . علتها ما ذكرناه آنفا من أن المستشرقين عموما يشتغلون لحساب الاستعمار ، وأنهم جزء من جيش يهد فى بناء الإسلام وينفض ما ظل سامقا دهرا طويلا من أمجاد أمته . قال الدكتور "حسن إبراهيم " : " إن بعض المستشرقين يريد أن يقلل من قيمة الرسالة ، وأن يحكم على صاحبها حكما جائرا . ودوافعهم فى ذلك ، التعصب لدينهم ، والبغض للإسلام ، والمقت لنبيه . وهم يطبقون على الإسلام أنماطا من النقد المتطرف والتفكير المتعسف . خذ مثلا الأب " لامانس " اليسوعى وهو ـ فى نظرنا ـ مَثَلٌ لجمهرة المستشرقين الكاثوليك . إن هذا الباحث ـ برغم أنه من أوسع الأخصائيين اطلاعا ـ فهو من أشدهم تعصبا وأبينهم تحزبا . تراه حين يعرض للمسائل الإسلامية يحيد عن الطريق المستقيم . وقد وقف على مدى هذا التحيز الذى جعله دائم التحامل على الإسلام وأهله ص _084(1/78)
مسيو " أميل درمنجم " . ففند فى كتابه " حياة محمد " ما يقوله " لامانس " هذا عن الدعوة الإسلامية . وهاك نموذجا لما كتبه : " إن الأب " لامانس " يرى مثلا أنه حين يوافق حديث من أحاديث الرسول بعض آى القرآن يحكم بأن الحديث موضوع ، وأنه دس على النبى ! لماذا ؟ اعتمادا على ورود معناه فى القرآن وعلى تأييد الكتاب له ! ومن ثم لا يعتبره " لامانس " صحيح الرواية ولا يثق به . فحدثنى بربك كيف يمكن تدوين التاريخ إذن ؟! إذا كان كلما اتفقت شهادتان واجتمعت دلالتان ، فبدلا من أن تقوى إحداهما الأخرى وتزكيها فإنها تكذبها وتجرحها . ثم تساءل " درمنجم " لماذا لا يكون مثل هذا الحديث شارحا للقرآن ؟! وهب الحديث جاء بمزيد من المعانى ، فلماذا نهمل الأسانيد التى وردت به ، وكيف يطلب من الناقد تجاوزها ؟ " أ. هـ . * ومثل آخر ، يدلك على ما يبلغه البحث من إسفاف فى تناول الحقائق وتفسيرها ، وذلك بدافع من سوء الظن ، والانقياد إلى الغفلة ... فى القرآن الكريم حروف مفردة تبتدىء بها أحيانا بعض السور . وقد تكلم العلماء فى هذه الحروف واختلفت آراؤهم فى تأويلها . بيد أن مجال الاختلاف ـ على سعته ـ لم يتجاوز حدود الفكر العادى ، حتى جاء أخيرا نفر من المستشرقين برأى يحار المرء كيف دار بخواطرهم . لقد جعلوا هذه الحروف أوائل أسماء لرجال من الصحابة قاموا بجمع القرآن إنه تفكير يشبه تفكير الحشرات فى طبيعة الملأ الأعلى، ولا يستحق بداهة إلا أن نلقاه بالهزء . قال الدكتور " صبحى الصالح " - مفندا هذه الأقوال-: " .. ولكن أغرب ما فى الباب ، وأبعده عن الحق والصواب ، ما ذهب إليه المستشرق الألمانى نولدكه (Noldeke) فى رأيه الأول ، الذى عدل عنه فيما بعد ، من الحكم بأن أوائل السور دخيلة على نص القرآن : ففى الطبعة الأولى لكتابه عن تاريخ القرآن بالاشتراك مع شفالى (Schwally) تظهر ـ لأول مرة فى تاريخ ص _085(1/79)
الدراسات القرآنية ـ نظرية لا ترى فى أوائل السور إلا حروفا أولى أو أخيرة مأخوذة من أسماء بعض الصحابة الذين كانت عندهم نسخ من سور قرآنية معينة.!! فالسين من "سعد بن أبى وقاص " ، والميم من " المغيرة " ، والنون من "عثمان بن عفان " ، والهاء من " أبى هريرة " وهكذا . ومع أن " نولدكه " شعر بخطأ نظريته فرجع عنها ، ومع أن ، شفالى " أهملها" وأغفل ذكرها فيما بعد فى الطبعة الثانية ، فإن المستشرقين " بهل " (Bwhl) و "هرشفيلد " (Hirschfeld) قد تحمسا لها من جديد وتبنياها ، غافلين عن مدى بعدها عن المنطق السليم !! وحسبنا أن المستشرق " بلاشير " يظهر تهافت هذه النظرية بما لا يدع مجالا لتقبلها أو احترامها . فهو يستبعد مع لوت (Loth) ومع (Baner ) من بعده أن يدخل المؤمنون الذين ذكرت أسماؤهم آنفا ـ وهم من هم ورعا وتقى ـ عناصر غير قرآنية فى الكتاب المنزل الذى لا يزيد عليه ما ليس منه إلا ضعيف الإيمان ، قليل اليقين . ويرى " بلاشير" فوق ذلك :" … أنه ليس من المعقول بحال من الأحوال أن يحتفظ أصحاب المصاحف المختلفة فى نسخهم ذاتها بالحروف الأولى من أسماء معاصريهم ، إن علموا أنه لا يقصد بها إلا ذلك .. " . ويضاف إلى هذه الملاحظة القيمة أننا لا نكاد نجد مبررا لحرص " أبى هريرة " أو "على" أو " ابن مسعود " على أن يحتفظوا فى مصاحفهم بالحروف الأولى من أسماء أشخاص كانوا ينافسونهم فى استنساخ القرآن وجمعه . وينتهى الأستاذ " بلاشير" إلى ضرورة الرجوع إلى النظرية الإسلامية نفسها ، باستخراج مختلف الآراء وتمحيصها ومقابلة بعضها ببعض " أ. هـ . ونحن نقول: إن البحث العلمى فى الإسلام ، إن كان به عيب فهو فرط الحرية التى استمتع بها ، والرحابة التى جعلته يقبل كثيرا من النظريات والفروض الضعيفة ، ويضفى عليها حياة ليست جديرة بها . ولسنا نأسى على تلك الحال ، وإن شغلتنا بما لا طائل تحته . وأيا ما كان الأمر فإن علينا أن نتوقع من أعداء(1/80)
الإسلام طائفة أخرى من المزاعم والترهات لا آخر لها.. وستخرج الحقيقة فى نهاية المطاف ألاقة باهرة . * * * ص _086
وللمستشرقين تراث ضخم فى نقد الإسلام ، ومدحه وقدحه ، وهو تراث قائم رائج ، وله آثار بعيدة المدى بين الأجيال الجديدة . ونحن على أية حال نتلقى بحوث المستشرقين بما تستحقه من تأمل وحذر. ولئن كنا لا نستطيع تجاهل ما فيها أحيانا من دس وجور وجهالة. فإننا لا ننتقص ما قد يرد فيها من صواب وذكاء ، وحسن إدراك وأصالة حكم . وبين يدى كتاب كبير عن الدعوة إلى الإسلام ألفه بالإنجليزية سير " توماس أرنولد " وهو بحث واسع فى تاريخ نشر العقيدة ، توفر على وضعه هذا المستشرق المجتهد الدءوب . وفى الكتاب وثائق قيمة تكشف عن طبيعة انتشار الإسلام فى أغلب أقطار العالم أو فيها كلها . وقد بذل الرجل جهدا واضحا ليكون منصفا فى أسلوبه واستدلاله . وأحسب أن التوفيق لا يخطئنا إذا قلنا : إن هذا المستشرق من أعدل إخوانه رأيا، وأنفذهم بصرا ، وأميلهم إلى أدب اللفظ وإثبات الحق . ومع ذلك فإن سيره مع عقيدته القديمة ، وإخلاصه لوظيفته العتيدة ، وخضوعه لكثير من المؤثرات التاريخية والسياسية جعله يميل عن الصواب قليلا وهو يرسل بعض الأحكام عن الشريعة الإسلامية وعن وسائل امتداد الإسلام فى الأرض . ونحن ـ بداهة ـ لا نطلب من الرجل أن يؤمن برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ هو ـ كغيره من المستشرقين يجحدها ـ ولكننا نرى أن الحياد العلمى الدقيق يقتضى التسوية بين رسالتى "عيسى" و "محمد" جميعا ، فلا يؤمن بأحدهما ويكفر بالأخر . كما أننا لا نكلفه الاقتناع بأن تعاليم الإسلام وحى ، وأن إقبال الناس عليها يرجع قبل كل شىء إلى صدقها وخلوص أصحابها . فذلك شىء قد يكذبه ، ولا حرج عليه منا . ولكننا نستغرب منه أن يقول: " ينبغى أن يعلم القارىء ـ منذ البداية ـ أننا لم نضع هذا الكتاب لدراسة تاريخ الاضطهادات الإسلامية ! وإنما وضعناه لدراسة الدعوة(1/81)
الإسلامية فى أنحاء العالم. ص _087
وليس الغرض أن نؤرخ هنا للحالات التى استعملت فيها القوة لإدخال الناس فى الدين الإسلامى مما نجده مفرقا فى صفحات التاريخ الإسلامى . فقد عنى الكتاب الأوروبيون ببيان هذه الحالات حتى لم يعد ثمة خوف من إغفالها .. ". اضطهادات إسلامية ! ما هذه الخرافة ؟ أين هى ؟ ومتى وقعت ؟ وعلى من ؟!! إن السير " توماس أرنولد" نفسه أول شاهد على تكذيب هذه الفرية . لقد استعرض فى كتابه كيف انتشر الإسلام ، من الصين وأندونيسيا شرقا ، إلى الأندلس والمغرب و "غينا" و "غانا" غربا . وتتبع دخول الناس فى هذا الدين فى أنحاء القارات الثلاث ، فلم يجد أثرا لاضطهاد دينى يمكن أن يكتب عنه أو يشير إليه . ومع ذلك فهو يقول. " … إنه لا يحصى حالات الاضطهاد اكتفاء بما صنع كتاب أوروبا الذين لم تفتهم تسجيلها " . !! عجبا. لماذا لم يقل الرجل: إنه لم يعثر ـ فى بحثه الطويل ـ على أى اضطهاد خلافا لما زعم كتاب أوروبا ؟! ولكن غلبة الكره التقليدى للإسلام على ذهن الرجل جعلته يلقى الكلام على هذا النحو . فلما أعوزه دليل ما على ما ذكره ، نقل عن " سويرس " أن " مروان " آخر ملوك بنى أمية قال لأقباط مصر : " وكل من لا يدخل فى دينى ويصلى صلاتى ويتبع رأيى من أهل مصر قتلته وصلبته " . وهذه ـ لا ريب ـ كلمة مكذوبة !! وما يعرف لها فى التاريخ المصرى أثر ولا مكان . وما حكى مؤرخ قط أن أحدا من حكام مصر قتل قبطيا وصلبه لأنه آثر البقاء على نصرانيته ! كذلك كما أشار إليه المؤلف من أن " الحاكم بأمر الله " اضطهد غير المسلمين ، فـ " الحاكم " رجل مجنون أصاب حمقه المسلمين قبل غيرهم ، وقتل آخر الأمر لسفهه . ص _088(1/82)
فكيف يقال : إنه صاحب سياسة اضطهاد لأهل الكتاب ؟! إن القول بوقوع اضطهاد دينى لقسر الأمم على قبول الإسلام حيف شنيع على التاريخ ، وإلصاق تهم لا أصل لها بدين هو أبعد ما يكون عن هذا النعت . على أن المستشرق الباحث يعتذر عن هذا الاضطهاد المتخيل ويقول: " إن الإسلام فى هذا كالنصرانية ، وإن التأريخ للدعوات يجب أن ينظر فيه إلى مسلك أصحابها الفاقهين لروحها ، لا إلى نزق بعض الحكام . وهاك عبارته كاملة: " فى بعض تواريخ البعثات المسيحية يؤثر المرء بطبيعة الحال الإصغاء إلى ما فعله القديس ليودجر (Liudger) والقديس ويليهاد (Wilehad) بين السكسونيين الوثنيين ، أكثر مما يصغى إلى أخبار التعميدات المسيحية ، التى كان "شارلمان " يفرضها عليهم بحد السيف . وكذلك المبشرون فى بلاد الدانمرك وهم القديس انسجار (Ansgar) وحلفاؤه ، إنهم أحق بصفة التبشير من الملك كنوت (Cnut) ، الذى استأصل الوثنية من ممتلكاته بالقوة والإرهاب . وعلى الرغم مما صادفه القسيس جوتفريد (Gottfried) والأسقف "كريستان" (Ghristian) من نجاح ضئيل فى تنصير البروسيين والوثنيين ، إذ كان نجاحهما أقل مما صادفه من سبقهما ، فإنهم كانوا بحق أكثر تمثيلا لنشر الدعوة من جماعة إخوان السيف (Bertheren of The Sword). وغيرهم من الصليبيين ، الذين أدوا رسالتهم بالسيف والنار ولقد فرض فرسان (Militiaechrist ordofratram) المسيحية على شعب لينونيا فرضا. ولكن الرسل الحقيقيين للعقيدة المسيحية فى هذه البلاد ، هم رهبان "ماينهارد" و" تيودوريك " (Meinhard and theodoric) . وهم فى ذلك أشد أثرا وأعظم شأنا من أولئك الفرسان المجاهدين الذين قامت دعوتهم على القوة العسكرية . وإن الوسائل العنيفة التى كان يلجأ إليها أحيانا الرسل اليسوعيون لا يمكن أن تنقص الشرف الذى يتصف به أمثال القديس فرانسيس كسافير (Francis Xavir) وسائر المبشرين من هذه الطائفة . كذلك لم يكن فالنتين (Valentyn)(1/83)
بأقل من رسل أمبونيا (Amboyna) فى هذه السبيل . ص _089
فقد وجه فى سنة 1699 إلى راجوات (Rajwat) هذه الجزيرة مرسوما يأمرهم فيه بإعداد طائفة معينة من الوثنيين لتعميدهم إذا ما طاف بهم راعى الكنيسة". ثم قال السير " توماس أرنولد " : وإذا تتبعنا تاريخ الكنيسة المسيحية ، فإننا نجد نشاط الدعوة فى اطراد مستمر . وقد يلى عصر الحماسة التى أظهرها " الرسل " فى نشر الدين فترة جمود وعدم اكتراث . وربما حل الاضطهاد والتنصير الإجبارى محل الدعوة الهادئة إلى " كلمة الله " . كذلك كانت الدعاية الإسلامية فى شتى عهود التاريخ الإسلامى بين مد وجزر. ولكن لما كانت الغيرة التى غرت بها هؤلاء العاملون على نشر الدين ظاهرة جلية فى بث كل من الديانتين ، رأينا من المناسب أن نفرد لتاريخ الدعوة دراسة خاصة ، بحيث لاينأى بنا ذلك الاتجاه ، عن ذكر غيره من المعلومات التى تتعلق بالحياة الدينية . على أن نحصر عنايتنا فى دراسة مظهر من مظاهره ، يكون له مميزاته الخاصة . وعلى ذلك ففى مقدورنا أن ندرس الأخبار التاريخية المتعلقة بهذه الدعوة ، منفصلة عن أخبار الاضطهاد فى تاريخ الكنيسة المسيحية أو فى تاريخ العقيدة الإسلامية . ولو أنه قد يكون هناك ما يسوغ الخلط بين هاتين الديانتين أحيانا . فكما أن الدين المسيحى لم يكن انتشاره على الدوام بمثل الوسائل التى اتخذها فى فيكن (Viken) ـ القسم الجنوبى من النرويج ـ الملك " أولاف ترايجفيسون " (Olaf Trygvesson) الذى كان يقوم بذبح هؤلاء الذين أبوا الدخول فى المسيحية ، أو بتقطيع أيديهم وأرجلهم ، أو بنفيهم وتشريدهم ، وبهذه الوسائل انتشر الدين المسيحى فى" فيكن " بأسرها . وكما أن وصية القديس " لويس " لم تتخذ أصلا لمهمة التبشير المسيحى ، تلك الوصية التى تقول : "عندما يسمع الرجل العامى أن الشريعة المسيحية قد أسىء إلى سمعتها ، فإنه ينبغى ألا يذود عن تلك الشريعة إلا بسيفه الذى يجب أن يطعن به الكافر(1/84)
فى أحشائه طعنة نجلاء " . فكذلك ظهر دعاة مسلمون ، لم يكن شعارهم فى وسائل دعايتهم تلك العبارة القاسية التى فاه بها " مروان " آخر خلفاء بنى أمية " . أ. هـ هكذا يقول: "السير توماس " فى مقارنته التى تبدو منصفة !! ص _090
ونحن نرفض رفضا باتا أى تسوية بين تاريخ النصرانية وتاريخ الإسلام فى هذا المجال . فـ " مروان " ـ الملقب بالحمار ـ لم يزعم أحد أنه من رجال الفقه أو أئمة التشريع . ذلك ، لو افترضنا ـ جدلا ـ صحة الكلمة التى تلصق به . فكيف . . ، أما أن الكلام المنسوب إليه مكذوب ؟ أما القديس " لويس " صاحب الوصية المذكورة بطعن الكفار فى أحشائهم فهو علم مطاع الأمر ، نافذ الوصية ! وقد سار التاريخ المسيحى فى المجرى الذى حفرته هذه الكلمة وأمثالها . والحكم الإسلامى ـ فى أسوأ عهوده ـ لم يمتشق الحسام أبدا لإرغام أحد على اعتناق الدين . والدليل على ذلك من السياحة الرحبة التى طوفت بالمستشرق الكبير فى فجاج الأرض الإسلامية كلها ، والاستيعاب الشامل الذى قدمه لنا وهو يشرح دخول الإسلام أغلب هذه الأقطار . إنه لم ير فيها ظلا لاضطهاد ، بل رأى فيها السماحة بعينها ، فكيف يقع فى هذا الخطأ ؟ إنه الكره التقليدى للإسلام ! ومع ذلك فلنتجاوز هذا الموضع . لقد قلنا : إن جمهرة المستشرقين لا يرون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولا كلفه الله بدين وأيده فى بيانه ونصرته بالوحى . إنه ـ على أحسن الفروض ـ رجل عبقرى أريب ، ذكى الدراسة والسياسة ، واتته الفرص وأسعفته الحظوظ ، فبلغ بنفسه ودعوته ما بلغ . والسير " توماس أرنولد" يعتنق هذه الفكرة ، ويفسر على ضوئها طائفة من تصرفات النبى التى عرضت له وهو ماض فى بحثه الذى تناولناه . والرجل فى ميدان العلم أشرف من نفر آخرين ـ مستشرقين ومبشرين ـ يندفعون بغباوة إلى مهاجمة الإسلام ونبيه بكليمات هى إلى أسلوب الرعاع أقرب . ونحن لا نؤاخذ أحدا من باحثى الغرب إذا أنكر نبوة محمد ـ صلى الله(1/85)
عليه وسلم ـ . فالمكذبون لصاحب الرسالة العظمى كثيرون ، حفل بهم العهد الأول ، ولم ينقرضوا على مر العصور ، وما أظن الأرض ستخلو منهم يوما . ص _091
ونحن لا ندرى سر هذا التكذيب . أهو طعن فى تعاليم هذه الرسالة ؟ و إنكار لصلاحيتها ، و إفادة الناس منها؟ أم هو استكثار على رجل من الناس أن يصطفيه الله لعمل ما ؟!! من قديم تنزل القرآن الكريم يستغرب هذا الموقف : (الر .. تلك آيات الكتاب الحكيم ، أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) . والمستشرقون الذين ينسبون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الإدعاء ، كالوثنيين الذين ينسبونه إلى السحر ، مخطئون ـ فى نظرنا ـ أشد الخطأ . فمن من النبيين جميعا أجدر بالنبوة من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ إنه فى سيرته ، ودعوته ، وتراثه الفكرى والروحى ، وأثره فى العالمين ، أحق بالرسالة من أى امرىء آخر . إن أحدا من المرسلين الكبار لم يغرس فى النفوس حب الله وإجلاله، وإفراده بالعظمة والمجد، والتوسل إليه بالرغبة والرهبة، مثلما فعل محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . إن القرآن الكريم أول كتاب فى الحياة ، وآخر كتاب فى الحياة، يشحن الأفئدة باليقين النقى ، ويوثق رباطها بالله ، على نحو لا يستطيع كتاب آخر أن يقترب من أفقه . وليس فى هذا الكتاب شىء شخصى لـ " محمد " ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرتفع به عن مستوى العباد ، أو يخفف عنه شيئا من أعباء التكاليف ، بل فيه هذا التجرد المحض . (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). إن النبوة إذا ثبتت لرجل ما عن طريق التأمل فى سريرته وسلوكه وقدرته على سوق الناس إلى الله بالحب الخالص ، فأولى الناس بها هو محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وإذا كانت النبوة حقا لأوسع الناس ثروة فى الأفكار(1/86)
والمشاعر التى ارتفع بها العالم وزكا ، والتوجيهات التى دفعته دفعا إلى سواء السبيل ، فمن كـ " محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا المضمار ؟ ص _092
قال الشيخ محمد المدنى : " لقد استطاع " محمد " ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يقضى بدين التوحيد على الوثنية فى جميع صورها قضاء تاما . فحطم الأصنام ، وأهدر السلطة الروحية للبشر ، ووجه العقل الإنسانى توجيها قويا عمليا إلى أن التحريم والتحليل إنما هما لله وحده ، وأنه لا واسطة بينه وبين عباده فى رضوانه أو فى حرمانه . واستطاع أن يقر فى الناس ـ على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ـ مبدأ المساواة لأنهم جميعا من أصل واحد " كلكم لآدم ، وآدم من تراب " . لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى أو عمل صالح . ولم تكن الإنسانية قد أذعنت لهذا المبدأ بل كانت الشعوب تصلى نيران التفرقة وتعيش فى جحيم الطبقات . وهكذا تآخى بنو آدم ، وأحيوا فيما بينهم وشيجة الرحم الأولى ، ووجهوا تنافسهم وتسابقهم إلى العمل الصالح الذى يرفع بعضهم فوق بعض . واستطاع أن يغرس فى الناس مبدأ التكافل . فالمجتمع وحدة متضامنة ، يعين قويه ضعيفة ، ويؤخذ من غنيه ليرد على فقيره . لا فرق فى ذلك بين مجتمع الأسرة ، ومجتمع القرية ، ومجتمع الأمة ، ومجتمع العالم . الإسلام هو الذى قرر هذا المبدأ ، يوم كانت القاعدة فى العالم هى استئثار الأقوياء بكل شىء من دون الضعفاء . واستطاع أن يركز فى الناس قانونا رحيما عادلا شاملا يكفل لهم السعادة والصلاح ، ويدرأ عنهم الشقاوة والفساد . ذلك القانون الذى يجمع بين إصلاح المرء فيما بينه وبين نفسه ، وإصلاحه فيما بينه وبين الناس . والذى يقيم من المرء على نفسه حارسا ووازعا ، ويجعله ينظر إلى قواعد السلوك والمعاملة فى المجتمع نظرته إلى ما هو مطالب به من العبادة ، فيلتمس الثواب بما يفعل ويخشى العقاب فيما يترك . والذى يبنى كل معاملة على أسس من المحبة والرحمة والعدل ، وينظر إليها(1/87)
من ناحية الفضيلة وما ينبغى أن يكون بين الناس من تكرم وإحسان . ص _093
واستطاع ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن ينظر إلى العدل نظرة رحبة فلا يفرق بين متبعيه ومخالفيه . وقد كانت هذه التفرقة ـ وما زالت ـ سرا من أسرار الويل والشقاء فى العالم ". أ. هـ ذلكم هو"محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ. والحق أن المستشرقين تنكبوا طرق العلم والعدل والحياد والإنصاف حين تلقفوا نبوة غيره بالإقرار ، واستقبلوا هذه النبوة بالفتور والصد . ثم راحوا يفسرون سيرة الرسول تفسيرهم لسلوك رجل مبتوت العلاقة بالسماء . كل ما عنده ، موفور من الذكاء والدهاء . وصاحب كتاب " الدعوة إلى الإسلام " لم يشذ عن خطة رفاقه ، وهو يتابع أعمال الرسول ، ويصف جهاده . ولذلك تراه يتناول سيرة النبى مع اليهود ، ومحاسنته لهم ـ وهى محاسنة تنبع من أصالة الدعوة فى السماحة ـ فإذا هو يصف احتيال زعيم سياسى يكسب هؤلاء لغرض ، ويدع هؤلاء لغرض .! وتراه مرة أخرى يتحدث عن تحويل القبلة ـ وذاك عمل لا يتم إلا بوحى أعلى ـ فإذا هو ينظر إلى الأمر كله على أنه حركة قومية تستهدف أن يستقل العرب بوجهتهم الأثيرة إلى بيتهم القديم .! وبذلك يظهر الإسلام وكأنه نهضة قومية خاصة . ويبدو رسوله وكأنه زعيم يشبه أولئك الذين ينادون بالحرية والاستقلال فى بعض البلدان المختلفة . وهاك ما كتبه تحت عنوان: (الهجرة إلى المدينة: بداية الحياة القومية للإسلام). قال: " كان أول ما عُنى به "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن دخل (المدينة) ـ كما سميت منذ ذلك الوقت ـ أن يبنى مسجدا ليكون مقاما للصلاة ومجمعا عاما لأصحابه الذين كانوا ـ حتى ذلك الحين ـ يجتمعون لهذا الغرض فى بيت واحد منهم . وكان المصلون قد تعودوا فى العهد الأول أن يولوا وجوههم شطر بيت المقدس . وربما كان المقصود من ذلك استمالة اليهود الذين حاول "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ استرضائهم بوسائل أخرى كثيرة . ص _094(1/88)
لقد دأب على الاستشهاد بكتبهم المقدسة ، ومنحهم الحرية التامة فى إقامة شعائرهم الدينية ، وساوى بينهم وبين المسلمين فى الحقوق السياسية ، ولكنهم قابلوا صنيعه باستهزاء وسخرية . فلما أخفقت آماله فى استمالتهم إليه ، وأصبح من الواضح أن اليهود لا يقبلون " محمدا " نبيا لهم أمر صحابته بأن يولوا وجوههم شطر الكعبة بمكة (سورة 2: آية 144) ! وكان لتحويل القبلة مغزى أبعد مما قد يبدو لأول وهلة . إذ كان ذلك فى الواقع بداية للحياة القومية فى الإسلام . فقد جعل من الكعبة فى مكة مركزا دينيا للمسلمين كافة ، كما كانت فى الأزمان الغابرة مقصدا لحج القبائل العربية جميعا . ونظير ذلك فى المكانة ما كان من جعله الحج إلى مكة ـ تلك العادة العربية القديمة ـ فريضة من فرائض الإسلام ، فأصبح هذا العمل شعيرة مقدسة يؤديها كل مسلم مرة على الأقل فى حياته ". أ. هـ . * * * وهذا الكلام من أوله إلى آخره تخليط وشرود . فإن الإسلام لم يختص اليهود بتلطفه وإحسانه ، حتى يكون مهتما فى أدبه مع هؤلاء القوم . إن الإسلام سبق بالمياسرة والتجمل فى علاقاته مع عبدة الأوثان وأهل الكتاب جميعا . ولم يجنح إلى القتال إلا بعدما أخرجه العدوان وتهدد حياته . أما القبلة الأولى فقد اتجه المسلمون إليها فى مكة ، قبل أن يعاشروا يهود ، أو يكونوا معهم صلة ما . وذلك طبيعى فى دين يعترف بالنبوات القديمة ويصدق أصولها ويخالف الوثنية الضاربة فى أرجاء الجزيرة ويخاصم شركها . فلما حقت كلمة الله على أهل الكتاب ، وبدا من مسلكهم إزاء الرسالة الجديدة أنهم مصرون على حربها ، وأنهم بهذه الحرب ينسلخون عن قواعد الدين كما جاء بها شيخ الأنبياء " إبراهيم " ، صرف الله المسلمين عن القبلة التى تجمعهم مع اليهود والنصارى إلى القبلة التى بنى إبراهيم نفسه أركانها وأقام معالمها . ص _095(1/89)
وقبائل العرب كانت تنطلق صوب الكعبة لعبادة الأصنام المنصوبة حولها ، لا لتوحيد الله بالصلاة إليها . فلا شبه بين فعل الرسول وبين صنيع أهل الجاهلية . والبيت العتيق ليس بناء عربيا يحج إليه جنس معين شاده لنفسه حتى يكون شارة عنصرية . بل هو أثر الرجل الذى ينتمى إليه اليهود والعرب جميعا ، وتنتسب الديانات الكتابية كلها إليه ، أثر إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه . ولكن المستشرقين يصبغون الحقائق بلون ينضح بتكذيبهم للإسلام وتخيلهم العليل لحقيقة الرسالة الخاتمة . ومضيا مع فكرة أن الإسلام دين قومى للعرب وحدهم ترى السير " وليم موير " يسطر هذا اللغو المضحك ، فيزعم أن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما بعد ، وأن هذه الفكرة ـ على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التى تؤيدها ـ لم تخطر ببال "محمد" نفسه ! ثم يقول: ".. وعلى فرض أنه فكر فيها ، فقد كانت فكرته غامضة ! إذ إن عالمه الذى يفكر فيه إنما هو بلاد العرب ، كما أن هذا الدين الجديد لم يهيأ إلا لها " . ويزعم الرجل أن " محمدا " لم يوجه دعوته ـ منذ بعث إلى أن مات ـ إلا للعرب دون غيرهم .! ثم يقول هذا القسيس " موير " ـ بعد لغط حول عموم الدعوة -: ".. وهكذا قد نرى أن عالمية الإسلام غُرست بين تعاليم الإسلام . ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك ، فإنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج " !. نقول : وهذا كله كلام فارغ . ويؤسفنا أن يذكر فى مجال بحث علمى محترم . وقد طواه السير " توماس أرنولد" فلم يأبه له ، وذكر ـ فى بساطة ـ الحقيقة العلمية فى الموضوع تحت عنوان " الإسلام دين عالمى" قائلا : لا لم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب ، بل إن للعالم أجمع نصيبا فيها . ص _096(1/90)
ولما لم يكن هناك غير إله واحد ، كذلك لا يكون هناك غير دين واحد يدعى إليه الناس كافة . ولكى تكون هذه الدعوة عامة ، ولكى تحدث أثرها المنشود فى جميع الناس وفى جميع الشعوب ، نراها تتخذ صورة عملية فى الكتب التى يروى أن "محمدا" بعث بها فى السنة السادسة من الهجرة (688 م) إلى ملوك ذلك العصر. فى هذه السنة أرسل الرسول كتبا إلى " هرقل " قيصر الروم ، وإلى "كسرى" فارس ، وإلى حاكم " اليمن " وإلى حاكم " مصر" وإلى النجاشى فى بلاد الحبشة . وقد قيل : إن الكتاب الذى أرسل إلى هرقل كان كما يلى : " بسم الله الرحمن الرحيم ، من "محمد" عبد الله ورسوله إلى هرقل قيصر الروم ، السلام على من اتبع الهدى . أما بعد أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن تتولى فإن إثم الإكارين عليك . (.. يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) . على أنه ، إن كانت هذه الكتب قد بدت فى نظر من أرسلت إليهم ضربا من الخرق فقد برهنت الأيام على أنها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء . وتدل هذه الكتب فى دلالة أكثر وضوحا وأشد صراحة على ما تردد ذكره فى القرآن من مطالبة الناس جميعا بقبول الإسلام ، فقد قال الله تعالى : (إن هو إلا ذكر للعالمين ، ولتعلمن نبأه بعد حين) . (.. إن هو إلا ذكر وقرآن مبين * لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) . (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) . (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) . (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . ص _097(1/91)
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) . وفى ساعة من ساعات اليأس العميق عندما كان أهل مكة يُمعنون فى النفور من كلام النبى (سورة 16: آية 43 ، 114 إلخ) وعندما عذبوا الرجال المستضعفين الذين هداهم النبى إلى الإسلام حتى اضطروهم أن يكفروا من بعد إيمان (سورة 16: آية 108) ، وعندما لجأ آخرون إلى المهاجرة فى الله من بعد ما ظلمهم مضطهدوهم (سورة 16: آية 42، 111). عند ذلك تلقى النبى هذا الوعد المستغرب:(ويوم نبعث في كل أمة شهيدا) . وإن ما يعبر به النبى فى تلك الآيات من مطالبة البشرية كلها بارتضاء الإسلام دينا ليزداد وضوحا فى قول " محمد " متنبئا بانتشار دعوته : إن " بلالا " أول ثمار الحبشة وإن " صهيبا " أول ثمار الروم . أما سلمان ، وهو أول من أسلم من الفرس ، فقد كان عبدا نصرانيا بالمدينة : اعتنق الإسلام فى السنة الأولى من الهجرة . وهكذا يصرح الرسول بكل وضوح وجلاء أن الإسلام ليس مقصورا على الجنس العربى ، وذلك قبل أن يدور بخلد العرب أى شىء يتعلق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل . وإن القصة التالية الخاصة بإرسال البعوث إلى كل الشعوب للدعوة إلى الإسلام لتشير إلى دعوى عموم الرسالة وهى أن رسول الله قال لأصحابه : وافونى بأجمعكم الغداة ، وكان إذا صلى الفجر احتبس فى مصلاه قليلا ، يسبح ويدعو ، ثم التفت إليهم فبعث عدة رجال إلى عدة قبائل ، وقال لهم : انصحوا الله فى عباده . فإنه من استرعى شيئا من أمور الناس ثم لم ينصح لهم حرم الله عليه الجنة ، انطلقوا ولا تصنعوا كما صنعت رسل "عيسى ابن مريم " ، فإنهم أتوا القريب وتركوا البعيد... " . ثم قال سير " توماس أرنولد " : "... ويؤيد دعوى عموم الرسالة ، والحق في المطالبة بأن يستجيب لها جميع الناس أن الإسلام كان الدين السماوى الذى اختاره الله من قديم للجنس البشرى كافة ص _098(1/92)
ثم أوحى به إليهم من جديد على لسان محمد خاتم النبيين (سورة 33: آية 40) ، كما أوحى به من قبل على لسان غيره من الرسل . (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) . (قل ما كنت بدعا من الرسل) . (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) . (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) . ( قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) . (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) . (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) . (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) . (هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين) " أ. هـ . * * * ص _099(1/93)
والسير " توماس أرنولد " بهذه الشواهد التى ساقها ، وبذلك الحكم الذى أصدره كان رجلا عالما عادلا ، لم يسمح للتعصب أن ينسج على عينيه غشاوة تعمى عليه الحق ، ولا أن ينسج على ضميره حجابا يجور به فى الحكم ... ومن ثم قلنا : إن هذا المستشرق أدنى رفاقه جميعا إلى النصفة وأقصاهم عن متابعة الهوى . ولعل من صدعه بالحق أن يقرر ـ فى هدوء ـ كون الدولة جزءا من الإسلام . فإن بعض المفتونين ـ تأثرا بالغزو الثقافى الصليبى ـ كان يمارى فى شمول الإسلام للعقيدة والشريعة ، والأدب النفسى ونظام المجتمع ، ولشعائر العبادة ، ومراسيم الحكم ... مع أن نصوص القرآن وسيرة الرسول قاطعتان فى أن الإسلام دين روحى ومدنى معا ، وأنه للفرد والجماعة والدولة دون تفريق . وفى ذلك يقول صاحب " الدعوة إلى الإسلام " تحت عنوان " محمد مؤسس هيئة سياسية منظمة " : " … ولنعد الآن إلى تتبع حياة "محمد" فى المدينة . ولكى نقدر موقفه بعد الهجرة تقديرا حقيقيا ، ينبغى أن نذكر ما اتصف به المجتمع العربى فى ذلك الحين من طابع خاص ، فيما يتعلق بهذا الجزء على الأقل من شعب الجزيرة . لم يكن يوجد إطلاقا أى منهج منظم للإدارة أو القضاء كالذى نعرفه عن فكرة الحكومة فى العصر الحديث . كانت كل قبيلة أو عشيرة تؤلف جماعة منفصلة ومستقلة تمام الاستقلال ، بل قد ينسحب هذا الاستقلال أيضا على أفراد القبيلة أنفسهم . فكل فرد منهم لا يعتبر زعامة شيخ القبيلة أو سلطته إلا رمزا لفكرة عامة ، شاءت الظروف أن يأخذ هو منها بنصيب . بل لقد كان له مطلق الحرية فى أن يرفض ما اجتمع عليه رأى الكثرة من أبناء قبيلته. وأبعد من هذا ، أنه لم يكن هناك نظام لتنقل سلطة الرئيس عند انتهاء أمده . إذ كان يختار لها غالبا أكبر أفراد القبيلة سنا ، وأكثرهم مالا ، وأعظمهم نفوذا ، وأجدرهم بكسب الاحترام الشخصى . ص _100(1/94)
وإذا ما تضخمت قبيلة ما وتشعبت فروعا كثيرة تمتع كل فرع منها بحياة منفصلة ووجود مستقل . ولا تتحد إلا فى ظروف غير عادية اشتراكا فى الدفاع عن الجماعة ، أو قياما بغارات بالغة الخطورة . ومن ثم نستطيع أن ندرك كيف تمكن "محمد" من أن يجعل نفسه فى المدينة ، على رأس جماعة من أتباعه ، كبيرة العدد ، آخذة فى النمو ، يتطلعون إليه زعيما وقائدا ولا يعترفون بسلطان غير سلطانه ، دون إثارة أى شعور من القلق أو خوف من التعدى على السلطة المعترف بها ، كما كان ينتظر أن يحدث فى مدينة إغريقية قديمة ، أو فى أى مجتمع منظم يماثلها . وهكذا باشر " محمد" سلطة زمنية كالتى كان يمكن أن يباشرها أى زعيم آخر مستقل مع فارق واحد ، هو أن الرباط الدينى بين المسلمين كان يقوم مقام رابطة الأسرة والدم . وعلي هذه الصورة أصبح الإسلام ـ ولو من الوجهة النظرية على الأقل ـ نظاما سياسيا بقدر ما هو نظام دينى " . واستطرد " سير توماس " يقول : " … كانت رغبة "محمد " ترمى إلى تأسيس دين جديد ، وقد نجح فى هذه السبيل . ولكنه ـ فى الوقت نفسه ـ أقام نظاما سياسيا له صفة جديدة متميزة تميزا تاما . وكانت رغبته ـ بادىء الأمر ـ مقصورة على توجيه بنى وطنه إلى الاعتقاد بوحدانية الله . إلا أنه ـ بجانب ذلك ـ عمل على هدم نظام الحكومة القديم فى "مكة" مسقط رأسه وإقامة حكومة دينية مطلقة ، وقام هو على رأسها خليفة لله فى الأرض بدلا من حكومة الارستقراطية القبلية ، التى كانت الأسر الحاكمة تتوزع سياسة الشئون العامة تحت لوائها " أ. هـ. * * * ولنا هنا تعليقات ينبغى إثباتها : صحيح أن قيام الدولة فى الإسلام شىء لم يكن منه بد ، بل هو فى الكيان الإسلامى نمو طبيعى يشبه تدرج الكائن الحى فى مراتب القوة والاكتمال وبلوغه مكانه يستطيع فيها إصلاح شئونه وتقرير حقوقه . ص _101(1/95)
وأغرب المطالب أن يتوجه بعض الناس إلى الإسلام بالاعتراض والتساؤل: لماذا لم تبق أيها الدين رسالة عائمة مطاردة تعرض على الناس ـ إن سُمح لها ـ وكأنها خيال حالم ، أو تفكير فيلسوف صغير ؟! لماذا تحولت أيها الدين إلى فكرة تمد جذورها فى أعماق المجتمع وتنشر أغصانها فى أرجائه ، وتصنع الأجيال الجديدة وفق ما تريد ، وتدفع عن ثمارها المغيرين والخطافين ؟. ومن الذين يتوجهون بهذا التساؤل ؟ الذين يتوجهون إلى الإسلام بهذا التساؤل ، هم الذين أقاموا دولة للوثنية تضيق الخناق على التوحيد ، ودولة للصليبية تطارد المخالفين لرأيها فى كل مكان ، وتسد أمامهم منافذ الفضاء . دولة ظلت ، ولا تزال ، طوال عشرين قرنا وهى عدو لدود لمن لا يقتنع بثالوثها وقرابينها وتفكيرها المعقد العجيب . هؤلاء وأولئك هم الذين أنكروا أن تقوم للإسلام دولة . وهم الذين صاحوا ـ بعد أن تكسرت أنيابهم وهى تحاول عض الإيمان المدرع ـ قائلين : إن هذه القوة لا معنى لها ويجب أن تبيد ! وردنا على هؤلاء وأولئك ، أن الدولة فى الإسلام ركن هائل لدعم ما احتواه من إيمان وإحسان . والقوة ليست عيبا . إنما العيب استغلالها السىء ، وتسخيرها لفرض الهوى وإقرار الجور. والجمال ليس عيبا . إنما العيب التوسل به لإشاعة الخنا ، ونشر المنكر . والسلطة ليست عيبا إذا باشر المرء بها أموره الخاصة ولم يحتج بها إلى تسول عون أو الاستصراخ بمنقذ . وتولي الحكم ، وإدارة دفته ليسا منقصة إذا كانا إنفاذا لأوامر الله وإقامة لحدوده فى الأرض . إن الدولة فى الإسلام تنظيم وحراسة ، وصون لتراث السماء وأمان لجماهير الناس ، وسياج حول الدماء والأموال والأعراض . ولم تكن الدولة ولن تكون فى هذا الدين ذريعة فتك واغتصاب ، ولا وسيلة فتنة واضطراب ، ولا أداة لتحويل الناس قسرا عن عقائدهم ، وما ارتضوه من ألوان الإيمان . والإسلام لم يجعل من الحكم قنطرة لإدخال الناس فيه كرها . ص _102(1/96)
بل إن الإيمان الناشىء عن إكراه لا قيمة له عنده ، وليس له عند الله مثوبة. وكما أن كلمة الكفر التى ينطق بها المؤمن كرها لا تخلعه من الإيمان ، فكذلك كلمة الإسلام التى يتلفظ بها تحت الضغط لا تخرجه عن الكفر ! والإسلام دين يرد الأعمال إلى النيات ، ولا يهمل أبدا شأن القلوب . والزعم بأن الإسلام استغل الحكم يوما لمطاردة الكافرين وإرغامهم على اعتناقه زعم مكذوب من أوله لآخره ، وخلة فى الآخرين يرمون بها الأبرياء شأن كل مُريب صفيق . * * * إن الشىء الذى يغيظ أعداء الحقيقة ، هو أن الإسلام زودته العناية الإلهية بتعاليم تجعله صلب المكسر ، لا يستطيع الباطل أن يجتاحه بسهولة ، ولا أن ينال منه بيسر . بل نقدر أن نقول : لقد كان هذا الباطل يزأر فى عرصات الدنيا دون تهيب ، ويزعج الآمنين فى كل قطر دون وجل . فلما ظهر الإسلام ، واشتبك الباطل معه ـ على عادته ـ عاد من هجومه مقصوم الظهر ، مخضوب الكف . فراح يجأر بالشكوى أن الإسلام دين سيف ، وأن الحكم فى رحابه جعله صلب العود . نعم هو كذلك ، وما عيب السيف إذا رد المعتدين ؟! وما عيب الصلابة فى الحق إذا استعصت على الفتانين ؟ إن السؤال الذى يجب أن تتحدد الإجابة عليه هو : هل كان الحكم فى الإسلام أساسا لفتنة غير المسلمين عن دينهم ؟ هل كانت الدولة فى خدمة الدعوة من حيث استغلال أجهزتها للفتنة والإعنات؟ والجواب نأخذه من كلام سير " توماس أرنولد " نفسه . لقد ذكر الرجل فى الباب الثالث عشر كيف أن الإسلام لا توجد فيه هيئه منظمة للدعاة ، وأن انتشاره خضع ـ أولا وأخرا ـ لحماسة الأفراد وقوة إيمانهم بصدق رسالتهم ، وعظمة دعوتهم .. والإسلام ـ فى هذا ـ يخالف النصرانية التى قامت فيها أجهزة منظمة للتبشير والدعاية على أوسع نطاق . بل التى قامت لها دول تستأصل المخالفين ، وتضن عليهم بحق الحياة . ص _103(1/97)
قال السير " توماس أرنولد " : " … ومهما تكن المساوىء التى نجمت عن حاجة المسلمين إلى طبقة كهنوتية تختص بنشر العقيدة ، فقد وجدوا ما يعوضهم عنها فى ذلك الشعور الناشىء عن المسئولية التى ألقيت على كواهل المؤمنين من الأفراد . ولما لم تكن هنالك واسطة بين المسلم وربه ، فإن مسئولية خلاص الشخص ملقاة على كاهله وحده . وكان من أثر ذلك أن أصبح المسلم ـ كما جرت العادة ـ أكثر تشددا واهتماما فى أداء واجباته الدينية ، وأشد تحملا للمتاعب فى سبيل تعليم مبادىء دينه وإقامة شعائره . وبذلك يؤثر لنفسه ـ وقد رسخت فى ذهنه أهمية هذه المبادىء وتلك الشعائر ـ أن يصبح رمزا لخلق الداعى إلى دينه بين يدى الكافر . ومهما تكن المبالغة عظيمة فى القول ، ومهما ردد الباحثون القول بأن كل مسلم داعية إلى دينه يبقى هذا القول حقيقيا . ونجد فى ثبت يتضمن أسماء دعاة من الهنود المسلمين ، نشر فى صحيفة إحدى جمعيات " لاهور" الدينية الخيرية ، أسماء معلمى مدارس ، وكتاب للحكومة فى مصلحتى القناة والأفيون ، وتجار (بينهم أحد العمال فى عربات النقل بالجمال)، ومحرر بإحدى الصحف ، ومجلد كتب ، وعامل فى مطبعة . ماذا صنع هؤلاء ؟! خصص كل واحد من هؤلاء الناس ساعات فراغهم ـ بعد إنجاز عملهم اليومى ـ للدعوة إلى دينهم فى الطرقات وأسواق المدن الهندية ، متلمسين مسلمين جدد من بين المسيحيين والهندوكيين جميعا ، فكانوا يجادلونهم ويحملونهم على عقائدهم . " . * ثم قال : ".. ومما يثير اهتمامنا ما نلاحظه من أن نشر الإسلام لم يكن من عمل الرجال وحدهم ، بل لقد قامت نساء مسلمات أيضا بنصيبهن فى هذه المهمة الدينية ، فيرجع الفضل فى إسلام كثير من أمراء المغول إلى تأثير زوجة مسلمة. ولا يبعد أن يكون مثل هذا التأثير سببا فى إسلام كثير من الأتراك الوثنيين عندما أغاروا على الأقطار الإسلامية . وقد أنشأ دعاة السنوسية الذين قدموا لنشر دعوتهم شمال بحيرة " تشاد" ص _104(1/98)
مدارس للبنات ، واستغلوا ما تحدثه النساء بعلاقات المصاهرة من نفوذ قوى بين القبائل (كما كان لهن مثل هذا النفوذ بين جيرانهن من البربر) فبذلوا جهودهم لتكوين داعيات يجتذبن الآخرين إلى صفوف الإسلام . وفى أفريقيا الشرقية الألمانية (تنجانيقا قبل الحرب العالمية الأولى) دخل فى الإسلام هؤلاء الأهالى الوثنيون الذين كانوا يتركون أوطانهم ستة أشهر أو أكثر للعمل فى السكك الحديدية أو الأراضى الزراعية ، دخلوا فيه على أيدى نساء مسلمات تعاقدوا معهن على زواج مؤقت . فإن أولاء النساء كن يرفضن أن يتعاملن فى شىء مع كافر لم يختتن بعد . فكان بعولتهن يتجنبون ذلك العار الذى يلحق من يحمل مثل هذا اللقب بأن يختتنوا وبذلك يقبلون الدخول فى الجماعة الإسلامية . وقد قيل : إن تقدم الإسلام ببلاد الحبشة فى خلال النصف الأول من القرن الماضى إنما يرجع إلى حد كبير إلى ما بذله النساء المسلمات من الجهود... ". ثم قال السير " توماس أرنولد " : (حتى المسلم الأسير... كان يغتنم الفرص فى المناسبات لدعوة آسريه أو إخوانه فى الأسر إلى دينه !. وقد تسرب الإسلام إلى أوروبا الشرقية أول الأمر بفضل ما قام به فقيه مسلم سيق أسيرا فى إحدى الحروب التى نشبت بين الدولة البيزنطية وجيرانها المسلمين وجىء به إلى بلاد Pechenegs فى مستهل القرن الحادى عشر . وقد بسط هذا الفقيه بين يدى كثير منهم تعاليم الإسلام فاعتقدوه فى إخلاص ، حتى إنه أخذ فى الانتشار بين الشعب ، وأقبلت عليه طوائف شتى أما سائر الـ Pechenegs الذين لم يكونوا قد قبلوا دين الإسلام فقد ارتابوا فى تصرف مواطنيهم ، وكرهوا منهم هذا التحول ، ثم انتهى الأمر إلى نشوب القتال بينهم . وقاوم المسلمون ـ وكان عددهم يبلغ نحوا من اثنى عشر ألفا ـ هجمات الكفار فى نجاح . ومع أن هؤلاء كانوا أكثر منهم عددا بما يزيد على الضعفين ، فقد فشلوا أمامهم فشلا ذرياعا . ثم دخلت فلول المهزومين فى دين المؤمنين(1/99)
القلائل المنتصرين . ص _105
ولم تأت نهاية القرن الحادى عشر حتى كان الشعب بأسره قد اعتنق الإسلام ، وكان من بينهم مسلمون نابهون تعلموا الفقه والتوحيد . وفى عهد الأمبراطور جهم جير (1605- 1628) كان هنالك عالم سنى من علماء التوحيد يدعى الشيخ " أحمد مجدد " تميز بقدرته على مجادلة الشيعة فى عقائدهم بنوع خاص . ولما كان هؤلاء مقربين إلى البلاط فى ذلك الحين فقد نجحوا فى إيداعه السجن بتهمة تافهة . وفى خلال السنتين اللتين قضاهما فى الحبس أدخل فى الإسلام عدة مئات من عبدة الأوثان الذين كانوا يرافقونه فى هذا السجن " ! أ. هـ . * * * إن القرآن الكريم عبأ قلوب المسلمين بإيمان من طراز عال خاص ، إيمان جعل صلتهم بربهم لا تسبقها صلة ، وحبهم له لا يعدله حب . وصحيح أن الإسلام لم تتهيأ له أجهزة دعاية منظمة ترسم خطط انتشاره ، وتتعرف الميادين التى يسير فيها ، والعقبات التى قد يلقاها ، والخصوم الذين يحملون عليه عن جهالة أو عناد . ومع ذلك فإن اليقين الفردى ، وحماس المسلم لله ورسوله ، سد مسد هذا النقص إلى حد بعيد . إن المسلم كما يتحلى بفضائل الصدق والحياء ، ويعد ذلك ضرورة فى خلائقه كإنسان له ضميره اليقظ وكماله الواجب ، يتحلى أيضا بتعليم الجاهلين و إرشاد الحائرين، ويعد إضاءة نفوس الآخرين بأنوار الحق الذى شرفه الله به عبادة يتم بها إيمانه وتصلح عليها نفسه ويمهد بها لمستقبله عند ربه وهو ـ بداهة ـ لا يرجو من هذه الهداية ، إلا أن يقوم بحق الله . وإذا كان هنالك من كسب عاجل يرجوه فى الدنيا فهو إخاء مؤمن جديد يضفه إلى حظيرة المؤمنين القدامى . والدعوة إلى الله محكومة دائما بأن العمل لله ، والهجرة لله ، والجهاد لله . مفهومة دائما فى نطاق إخلاص النية ، وتجريد القصد . وقد كان الفساد فى " شكل الدولة " أو " نظام الحكم " أسرع أنواع الخلل التى أصابت بلاد الإسلام . ص _106(1/100)
إلا أن هذا الفساد لم يظهر فى صورة إرغام لغير المسلمين على الدخول فى الإسلام . بل على العكس ، ظهر طورا فى استبقاء الجزية على من أسلم مع وجوب سقوطها عنه ! وظهر كذلك فى زهد الدولة أن تقوم برسالة الدعوة على النحو المطلوب ، واكتفاء الحكام بتولى السلطة ، أو بالنزاع عليها فى الداخل دون اكتراث بإرسال البعوث إلى الأقطار المحرومة من الدين كى تشرح حقيقته وتبرز ما فيه من خير للناس ورحمة للعالمين . وقد رأيت أن الأفراد ـ من تلقاء أنفسهم ـ قاموا بهذا العبء ، ونقلوا الإسلام إلى عشرات الأقطار ، وأدخلوا فيه ـ بحسن التلطف ـ ألوفا مؤلفة . * * * وقد قاتل المسلمون فعلا .. وسوف يقاتلون ما بقيت المثيرات الداعية إلى امتشاق الحسام . نعم قاتلوا . وقبل أن نضرب الأمثلة للظروف التى حملوا السلاح فيها نحب أن نبرز الصفة التى لا تنفك عن هذا القتال . وهى أنه فى سبيل الله ، لا فى سبيل النفس والهوى ، وطلبا للآخرة لا اغتصابا للدنيا ، وسرقة للأرض ، واستبعادا للناس . (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) . وانظر كيف قدم القرآن أمام المجاهد فى هذه الآية أن يموت ، لا أن يبقى ، وأن يقتل لا أن ينتصر . وذلك كيما يجعل نظرته إلى الآخرة لا إلى الدنيا . وهنا يجىء السؤال المتوقع : لم كان ذلكم القتال ؟ وهاك الإجابة مفصلة . لا جدال أولا فى أن القتال كان دفاعا عن النفس ، وردا للعدوان ، واحتفاظا بما ارتضاه الإنسان لنفسه من إيمان مشروع ، بل مطلوب . وأن وزر أى حرب من هذا القبيل يقع على رؤوس الذين أشعلوها . ولذلك لا نطيل الكلام فى هذا النوع من القتال الذى خاضه المسلمون . وإنما نتحدث فى الحروب التى يُظن بادى الرأى أنها أعلنت مقترنة بنشر الدين ص _107(1/101)
وغادر المسلمون فيها مواطنهم إلى بلاد أخرى ، هى التى دارت فيها المعارك ، وأصابها من ذلك ضر شديد . ونحب أن نسأل نحن ابتداء : ما الذى ينتظر أن تكون عليه العلاقة بين دولة مسلمة ، ودولة أخرى تدين بغير الإسلام وتحرم على رعاياها تحريما حاسما أن يستمعوا إلى القرآن ، وأن يتدبروا آياته ؟؟ بل ما الذى ينتظر إذا بطشت السلطة القائمة فى بلد ما بمن شرح الله صدره للإسلام ، فوثبت عليه وعلى أهله توقع بهم ألوان النكال ؟ لقد حدث فى "مكة" قديما أن تغيظت الحكومة الوثنية من الذين نبذوا عبادة الأصنام وآثروا عبادة الله وحده . فأعلنت عليهم حربا شعواء لتفتنهم عن عقيدتهم فكانوا يجأرون بالدعاء . (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا). ماذا يرتقب من الدولة الإسلامية وهى ترمق من بعيد هذا المنظر المحزن؟ أتكون صديقة مخلصة الود لهذا الحكم الجائر ؟! كلا . ماذا ننتظر منها ، عدالة ؟! ألا تنصح بحسن المعاملة لمن يدخلون فى الإسلام؟! فإذا كان هذا النصح مرفوضا لأن السلطة المستبدة فى الجانب الآخر تعد العدة لا لاستئصال الإسلام داخل نطاقها فحسب ، بل لاجتياحه فى الدولة التى تمثله ، فماذا يكون الموقف ؟! هل إذا قامت الحرب لكسر هذه السلطة الغاشمة ، وترك الناس أحرارا ، يسلم منهم من يسلم ، ويكفر من يكفر . هل تكون هذه الحرب هجوما إسلاميا لنشر الدعوة ؟! خذ مثلا الحالة فى "روسيا" أيام القياصرة الأولين . إن الإمبراطور " فلاديميير" اعتنق النصرانية وترك الوثنية . حسنا ، فماذا صنع ؟ * يجيب السير " توماس أرنولد " قائلا : ".. فى سنة جهر بالمسيحية ، وفى اليوم التالى لتعميده نبذ الأوثان التى عبدها أجداده . ص _108(1/102)
ثم ماذا ؟… أصدر مرسوما بأن يذعن الروس كافة ، سادة وعبيدا أغنياء وفقراء للتعميد وفق طقوس الديانة المسيحية . وهكذا أصبحت المسيحية ديانة الروس ـ الرسمية .." أ. هـ . لكن هناك فريقا كبيرا من الشعب الروسى يعتنق الإسلام . فماذا يكون موقفه ؟ الموقف فى نظر القياصرة الحاكمين أن تتخذ الإجراءات لتنصير المسلمين الموجودين ومنع أى امتداد فى المستقبل لهذا الدين ، وتسمية أصحابه كفارا ، والراغبين فيه ـ من النصارى ـ مرتدين ! * قال السير " توماس أرنولد " : ".. وفى القرن الثامن عشر بذلت الحكومة الروسية جهودا جدية لتنصير القبائل الوثنية ، والتتار الذين ارتدوا عن دينهم وتركوا المسيحية إلى الإسلام . وبذلت الحكومة كثيرا من ضروب الإقناع والإغراء لتعميدهم من جديد . ففى سنة 1778 أمرت الإمبراطورة " كاترين " الثانية بأن يوقع كل من هؤلاء الحديثى العهد بالمسيحية على إقرار كتابى يتعهدون فيه بترك خطاياهم الوثنية ، وتجنب كل اتصال بالكفار ـ تعنى المسلمين ـ والتمسك بالدين المسيحى وعقائده والثبات عليهما . وعلى الرغم من هذا كله ، لم يكن هؤلاء الذين أطلق عليهم " التتار" والذين تم تعميدهم إلا مسيحيين اسما . أما حنينهم إلى الإسلام فلم يفارقهم . وسرعان ما أخذوا يحاولون التخلص مما بذلته الكنيسة من الجهود التبشيرية ، فتركوا المسيحية ، واعتنقوا الإسلام … " . يقول المؤلف ".... والحق أنه لا يبعد أن تكون أسماؤهم قد دونت خطأ فى السجلات الرسمية باعتبارهم مسيحيين . ولكنهم على كل حال وقفوا فى ثبات وقوة ضد أية محاولة بذلت لتنصيرهم.. ". فهل تركتهم الدولة ودينهم الذى ارتضوه ؟ كلا ! * يقول المؤلف : " ويظهر أن هؤلاء التتار ـ لكونهم قد ظلوا دائما مسلمين بقلوبهم ـ قاوموا التدابير الفعالة التى اتخذت لتجعل اعتناقهم الاسمى للمسيحية حقيقة واقعة . ص _109(1/103)
ففى النصف الأخير من القرن التاسع عشر ، بذلت جهود أخرى لتنصير هذه القبائل الإسلامية عن طريق إنشاء مدارس بينهم .." . * ثم قال : ".. وكانوا ـ يعنى الروس الحاكمين ـ يؤملون من وراء ذلك أن يجذبوا إليهم شبيبة ذلك الجيل . إذ ظهر لهم أنهم إذا لم يفعلوا ذلك ، كان من المحال أن يفوزوا بإدخال المسيحية بين جماهير التتار . فإن استمالة مواطنى " قازان " الراشدين ـ كما يقول أستاذ روسى ـ أمر صعب المنال ، ولكننا نستجلب نفرا قليلا من سكان القرى الواقعة فى السهل ، ونروضهم على كنيسة الله ، فإذا ما أصبحوا معنا فإنهم لن يعرضوا عنا أبدا . لماذا ؟ أهى بشاشة الإيمان خالطت قلوبهم ؟ كلا . ذلك أن القانون الجنائى الروسى كان يتضمن دائما عقوبات صارمة لهؤلاء الذين حادوا عن الكنيسة الأرثوذكسية مهما كانت الطريقة التى أدخلوا بها ويعاقب كل شخص تثبت عليه تهمة تحويل مسيحى إلى الإسلام ، بتجريده من كافة الحقوق المدنية ، وبحبسه مع الأشغال الشاقة مدة تتراوح بين ثمانى سنين وعشر . وبرغم أوامر الحكومة هذه نجحت الدعاية الإسلامية فى جذب قرى بأسرها إلى عقيدة الإسلام ، ولا سيما القبائل الروسية التى تقيم فى الشمال الشرقى . وحدث فى سنة 1883 أن سيق فلاحو التتار بقرية أبوزوف (Apozof) إلى محكمة " قازان" لأنهم تركوا المذهب الأرثوذكسى . وقد صرح المتهمون بأنهم كانوا يدينون بالإسلام على الدوام ـ أى أن أسماءهم كتبت مسيحية ظلما ـ ، ومع ذلك حكم على سبعة منهم بالأشغال الشاقة لاتهامهم بالكفر ، ونفى كثير من الذين ارتدوا عن دينهم إلى سيبيريا " . أ. هـ . * * * ماذا يصنع الإسلام بإزاء حكومات من هذا القبيل؟ حكومات تشرع القوانين لاضطهاده ، وترسم السياسات القريبة والبعيدة لتقييد نشاطه وشل حراكه ، وتعذيب معتنقيه ، وترويعهم فى آلهم ومالهم ؟ ماذا يصنع الإسلام للرومان وللفرس ولأمثالهم ، إذا كانت حكوماتهم من هذا الطراز المستبد المجنون الذى لا يسمح(1/104)
أبدا بحرية العقل والضمير ؟ ص _110
إننى أعرف أن هناك باحثين أعمى الهوى فكرهم يتجاهلون كل هاتيك الآثام ثم يقولون ـ بعد أن يسوغوا الوضع فى " روسيا " وفى غيرها ـ : لماذا قاتل الإسلام ؟! إن الشىء الوحيد الذى يريح بالهم هو أن يستسلم الإسلام للذبح وأن يتقبل حز السكين على عنقه دون احتجاج أو نكير .! إن المسلمين الآن يلقون أقبح العذاب فى " فلسطين " وفى " الحبشة " وفى "الجزائر" وفى بقاع أخرى كثيرة . فهل إذا نجدتهم قوة عادلة منصفة قال بعض الناس : هذا من الإسلام تعسف فى نشر الدعوة ، وتعصب ضد الآخرين ؟! إن الإسلام قاتل الرومان والفرس لا ليدخل الناس فى الإسلام ، بل ليثبت حرية التدين ويزيح العوائق أمام الضمير الإنسانى والفكر الإنسانى . أيجرؤ أحد على القول بأن هذه الإمبراطوريات كان فيها ظل لتسامح فى الدين ، أو لتقارب بين مذهب ومذهب ؟؟ وما لنا نذهب إلى الإمبراطوريات القديمة نستقى منها الشواهد ؟ هذه إنجلترا البروتستنتية ما موقفها من حرية التدين ؟ إن الحروب الدينية بين المذاهب المسيحية المختلفة ظلت ـ خلال العصور الوسطى ـ أمدا طويلا ، وهى تنشر الفزع والهول فى أوروبا . كل مذهب يرى فى أتباع المذهب الآخر كفارا يجب استئصالهم . وبعد دهر طويل من المذابح المتبادلة ، تراضى القوم على نوع من المعايشة السلمية يحقن الدماء ، ويعطى كل فريق حرية التدين على النحو الذى يشاء . والحق أن هذه الهدنة لا تنبثق من احترام معنى الحرية . ولكن تداخل الطوائف المختلفة ، وتشابك المصالح العمرانية والسياسية أكره الجميع على قبول الوضع القائم مع إكنان البغضاء له . وهاك مثلين يدلان على طبيعة الأحوال فى ظل الحكم البروتستنتى الإنجليزى: 1ـ ذكرت جريدة " المقطم " بقلم رئيس تحريرها "خليل بك ثابت " ـ قبل خمسة عشر عاما ـ الواقعة الآتية فى معرض تسامح المسلمين مع أهل الأديان الأخرى ، قالت: ".. من طقوس " الكاثوليك " التى يمارسونها فى كل(1/105)
البلاد ، إقامة حفل سنوى يوم الأحد من عيد الفصح كل عام يدعى " زفة الجسد " . ص _111
فى هذا الحفل يحمل رجال الدين الكاثوليكى الصليب الكبير ، ويطوفون فى احتشاد ضخم ببعض أحياء المدن ، ثم يعودون آخر الأمر إلى الكنيسة . وهذا الاحتفال يقام سنويا فى جميع البلاد الإسلامية التى تعيش فيها أية أقلية كاثوليكية ، دون أى اعتراض من جانب السلطات الإسلامية . أما فى إنجلترا ـ حيث يقيم عدد كبير من الكاثوليك الإنجليز ـ فإن الحكومة الإنجليزية تمنعهم من إقامة هذا الاحتفال ! وقد أراد الرئيس الدينى الأكبر للكاثوليك فى " لندن " أن يمارس هذه الطقوس ، فكتب إلى وزير الداخلية البريطانية كتابا خلاصته : بما أن الدستور البريطانى يضمن لجميع المواطنين حريتهم الدينية ، فإنى أحيطكم علما بأننا سنحتفل بذكرى " زفة الجسد " . وسنقتصر على الطواف حول كنيستنا الكاثوليكية فقط . فأجابه " وزير الداخلية " وكان حينئذ المستر " اسكويت " بكتاب جاء فيه : بما أن الدين الرسمى لهذه البلاد البريطانية هو " البروتستانتية " فإن الحكومة لا تسمح أبدا بإظهار طقوس أخرى غير الطقوس " البروتستانتية " . ولذلك فإن الأوامر أصدرت إلى الشرطة بمنع إقامة مثل هذه الحفلة خارج الكنيسة منعا باتا . " أ. هـ . 2- منذ نحو خمسين عاما ، وحينما كانت بريطانيا تحكم مئات الملايين من المسلمين ، حاولت الطائفة الإسلامية فى " لندن " مع بعض زعماء المسلمين الشرقيين إنشاء مسجد فى " لندن " . فتبرع " نظام حيدر أباد الدكن " بمبلغ كبير ، وكذلك نواب " بهوبال " وأمثالهم من أمراء المسلمين فى الهند ، كما تبرعت الحكومة المصرية وغيرها من الحكومات الإسلامية ببعض المبالغ لهذا المشروع . ولم تُظهر الحكومة البريطانية معارضة لهذه الرغبة . وكل ما صنعت أن وعدت بأن محافظة " لندن " ستختار أرضا مناسبة لإنشاء المسجد . وتجددت المساعى مرارا من قبل الجالية الإسلامية ، وتألفت لجان عديدة من(1/106)
السفراء المسلمين فى لندن لتحقيق المشروع ، خلال هذه الفترة الطويلة . ص _112
ولكن التعصب الدينى المستحوذ على الإنجليز لم يسمح حتى اليوم بإنشاء هذا المسجد ! وبعد أكثر من خمسين سنة ، لا يزال جواب الحكومة الإنجليزية كما هو : إن محافظة " لندن " تبحث عن الأرض المناسبة . ولم يتم إنشاء هذا المسجد.... ولن يتم . ذلك... رغم أننا سمحنا بإقامة مئات من الكنائس البروتستانتية الإنجليزية فى البلاد الإسلامية ، فى الماضى القريب والبعيد . ولا تزال الكنائس والمعاهد الدينية البروتستانتية إلى يوم الناس هذا يسمح بها فى كل قطر من أقطار المسلمين . وقد يتوهم بعض الناس أن فى إنجلترا مسجدا يدعى مسجد "ووكنغ " فى بلدة "ووكنغ " الواقعة على بعد خمسين ميلا من لندن . والحقيقة أن هذا البناء هو عبارة عن غرفة صغيرة لا تزيد عن بضعة أمتار، وقد أنشأها القاديانيون المعروفة صلتهم الوثيقة بالإنجليز . أما الإنجليز أنفسهم فبرغم ما لهم من علاقات كثيرة مع الشعوب الإسلامية فإنهم لم يقبلوا إنشاء مسجد واحد فى لندن ، مسجد واحد فسحب ! وذلك على رغم الجهود العظيمة التى بذلت فى هذه السبيل . * * * وإذا كان الإسلام يشتبك فى قتال طويل مع السلطات الغاشمة كيما يكسر القيود التى وضعتها على حريات الضمائر والعقول وكيما تتجه الجماهير فى إيمانها الوجهة التى تؤثرها دون حرج أو تهيب ، فهو كذلك يقاتل من أجل غاية أخرى ، من أجل إقرار العدالة بين الناس ومنع الفساد فى الأرض . هب أمة ما ، لم تتعرض للمسلمين من قريب أو من بعيد . ولكن وقعت فيها فتن عمياء جعلت اختلاف المذاهب أو اختلاف الألوان يؤثر تأثيرا سيئا على بعض الطوائف ويجعلها ضحية معرضة للعسف والإرهاق . هل نقف محايدين بإزاء المآثم التى ترتكب ، والضيم الذى يتعرض له نفر من الناس ؟؟ كلا . إن إنعاش المضطهدين ، لوجه الله !! وإنقاذهم من الهوان النازل بهم ، هدف من أهداف الإسلام الذى يريد أن يسوق(1/107)
الرحمة إلى العالمين .!! ص _113
فى " الهند " مثلا كان يقع تفاوت مثير عرفه الناس أجمعون . كان المتدينون ـ استجابة لعقائدهم ـ يقدسون قطعان البقر ، ويحملون روثها على الأعناق . فى حين تقع جماهير المنبوذين تحت طائلة هوان دائم ، وتحقير مرير ... أرأيت هذه النقائض المستغربة ؟! إنسان تهدر كرامته ، وحيوان تقبل قرونه وحوافره !! فإذا اتسعت الدائرة التى تضم أولئك المنبوذين التعساء وبلغوا الألوف المؤلفة فهل يلام الإسلام إذا ساق جيوشه لتصحيح هذه الأوضاع المقلوبة ؟! وهل يعتبر الفاتحون للهند مهاجمين لأنهم تدخلوا ـ باسم الله ـ كى يحموا كرامة الإنسان ؟! وما لنا نضرب المثل من أقطار وثنية ؟ فلنلق نظرة على أوطان المسيحية نفسها بعدما ضريت فيها الفرقة المذهبية ، واستمكن القوى فيها من التهام الضعيف . ترى هل رق لقلته أو لضعفه ؟ إننا نضرب المثل بصراخ زعيم مسيحى يجأر من أفعال الكاثوليك معه.! ومتى ؟ بعد ظهور الإسلام بعدة قرون ! كأن البغضاء المذهبية لم تنقص ذرة بعد تغير الأوضاع وانتشار الإسلام ، وتوقع شىء من التقرب بين أتباع الكنائس المختلفة . إنها، لم تنقص ، ولن تنقص . * قال السير " توماس أرنولد " : ".. وربما كان يحق لـ "مقاريوس " بطريق " إنطاكية " فى القرن السابع عشر أن يهنىء نفسه ، حين رأى أعمال القسوة الفظيعة التى أوقعها البولنديون الكاثوليك على روسيى الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية . قال " مقاريوس " : إننا جميعا قد ذرفنا دمعا غزيرا على آلاف الشهداء الذين قتلوا فى هذه الأعوام الأربعين أو الخمسين على يد أولئك الأشقياء الزنادقة أعداء الدين وربما كان عدد القتلى قد زاد على سبعين ألفا أو ثمانين ألفا . فيها أيها الخونة ، يا مردة الرجس ! يا أيتها القلوب المتحجرة ! ماذا صنع ص _114(1/108)
الراهبات والنساء ؟ وما ذنب هؤلاء الفتيات والصبية والأطفال الصغار حتى تقتلوهم؟.. ولم أسمهم البولنديين الملعونين؟ لأنهم أشد انحطاطا وأكثر شراسة من عباد الأصنام المفسدين وذلك بما أظهروه من قسوة فى معاملة المسيحيين ، وهم يظنون بذلك أنهم يمحون اسم الأرثوذكس !. أدام الله بقاء دولة الترك خالدة إلى الأبد . فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان ، سواء أكان رعاياهم مسيحيين أم ناصريين ، يهودا أم سامرة. أما هؤلاء البولنديون الملعونون فلم يقنعوا بأخذ الضرائب ، والعشور من إخوان المسيح بالرغم من أنهم يقومون بخدمتهم عن طيب خاطر . بل وضعوهم تحت سلطة اليهود الظالمين أعداء المسيح الذين لم يسمحوا لهم حتى بأن يبنوا الكنائس ولا بأن يتركوا لهم قسسا يعرفونهم أسرار دينهم . حتى إيطاليا كان فيها قوم يتطلعون بشوق عظيم إلى الترك لعلهم يحظون كما حظى. رعاياهم من قبل بالحرية والتسامح اللذين يئسوا من التمتع بهما فى ظل أية حكومة مسيحية.. " . * ثم قال السير " توماس أرنولد " : ".. وكثيرا ما قدم الكتاب المسيحيون الذين لا يكنون للعثمانيين محبة ولا ودا ، تقدمة المدح والثناء على فضائل المسلمين الأتراك . فمن أولئك كاتب كان له رأى سىء فى عقيدتهم يتحدث عنهم بقوله : "حتى بين توافه القرآن نجد بعض جواهر من الفضائل المسيحية ـ هكذا يقول ـ . وفى الحق لو قرأ المسيحيون باهتمام شريعة المسلمين وتاريخهم وتدبروهما لاستولى عليهم الحياء حين يشاهدون ـ إلى أى حد ـ هؤلاء المسلمون ذوو غيرة على عبادتهم وتقواهم وتصدقهم . وإلى أى حد هم متفانون فى إخلاصهم ، قانتون فى مساجدهم . وإلى أى حد هم مطيعون لرئيسهم الروحى !! حتى إن الحاكم التركى العظيم نفسه لا يحاول أمرا بعد مشورة المفتى . وإلى أى حد هم مهتمون بمراعاة أوقات الصلوات الخمس فى كل يوم حيث وجدوا وأيا كانت مشاغلهم ؟ ما أشد مراعاتهم دائما لصومهم من الصباح حتى المساء طول أيام(1/109)
الشهر بلا انقطاع . وما أكثر تواد المسلمين وتراحمهم ، وما أعظم ما يرى من عنايتهم بالغرباء فى نزلهم ، سواء بالفقير أم بالنازح المسافر . ص _115
لو تأملنا عدالتهم ، ونزاهتهم ، وسائر فضائلهم الخلقية ، لخجلنا من جمودنا ، سواء فى عبادتنا أم فى تراحمنا ، ولخجلنا من جورنا ، وإفراطنا ، وتعسفنا . فلا ريب أن هؤلاء الناس سيقيمون الحجة علينا . ولا شك أن عبادتهم وتقواهم ، وأعمال الرحمة فيهم هى الأسباب الرئيسية لنمو الدعوة المحمدية " . ونحن ندون صيحة هذا المؤرخ المسيحى من غير تعقيب ثم ندع سير " توماس أرنولد " يتابع كلامه ، واستنتاجه ليقول : * " وقد وصل مؤرخ حديث إلى مثل هذه النتيجة حين قال : نجد كثيرين من الإغريق ، من ذوى المواهب العالية والميزات الخلقية ، قد بلغ من تأثرهم بتفوق المسلمين ، أنهم ـ حتى عندما كانوا يتجنبون الاندماج فى خدمة السلطان بأداء ضريبة الأبناء ـ كانوا يدخلون فى دين " محمد " بمحض إرادتهم . ولابد أنه كان لتفوق المجتمع التركى من الناحية الخلقية شأن كبير فى هذا التحول إلى الإسلام الذى كان كثير الوقوع فى القرن الخامس عشر ، بقدر ما كان للطموح الشخصى من أثر فى هذه السبيل … " أ. هـ . إن فضائل المسلمين الشخصية وتسامحهم الرائع فى معاملة الآخرين واستهدافهم العدالة والرحمة مع الأجانب ـ وإن اختلف الدين ـ ، كل ذلك جعل عدوهم يشهد لهم بالخير ، ويعترف ـ طائعا أو كارها ـ بأن الإسلام قدم لسائر الأم ضروبا من الإحسان والإنصاف لا نظير لها ، وأنه خطا بالعالم خطوات فساحا فى ميدان التسامح والرحمة ، وأنه فعل ما فعل وزمام القوة بيده ، والقدرة على سحق الخصوم لا تنقصه . ولقد تعمدنا أن نفصل بعض التفصيل فى هذا المعنى ، لأن السير " توماس أرنولد" ذكر كلاما بين يدى الفتوح الإسلامية لا ندرى كيف أقره ، أو كيف سمح لنفسه بتسطيره .؟! كلاما لا ندرى أننقم منه ؟ أم نضحك عليه ؟ أم نضرب صفحا عنه باعتباره لغوا(1/110)
لا يمت إلى التاريخ العلمى بسبب ؟؟ هذا الكلام يدور حول تعليل الفتوح الإسلامية بدوافع اقتصادية . أى إن العرب كانوا جياعا فى جزيرتهم ، ثم خرجوا بقيادة " محمد " وخلفائه بحثا عن القوت ! ص _116
والغريب أن لفيفا من المستشرقين يكرر هذا القول ! ولا نقف طويلا لنعلق على هذا السخف. ولكننا ـ قبل أن نذكره ـ يجب أن نتأمل هذا التضارب الغريب فى ذهن رجل فاقه كالسير " توماس أرنولد " . إن تفكير هذا الرجل يغفو حينا ويصحو أحيانا كثيرة . وهو ـ إذ يغفو ـ إنما يكون واقعا تحت تأثير الرواسب الموروثة بين المسيحيين الذين يكرهون " محمدا " ويمقتون رسالته . وفى خلال هذه الغفوة الفكرية يصدر ذلك القدح النابى فى رسالة الإسلام وذلك الحكم الجائر على تاريخه . أجل فى خلال هذه الغفوة تمر قضايا لم يمحصها منطق ولم يضبطها عقل . ثم يعاود الرجل صحوه وتعود إلى ذهنه ومضاته الذكية الناقدة المكتشفة فيلزم الحياد ويذكر الواقع ، ويسجل لهذا الدين محامده ، ويسجل لتاريخه ما يستحقه من تقدير. وربما كان القول بأن المسلمين الفاتحين خرجوا من جزيرتهم طلبا للقوت قياسيا لماضى المسلمين الأولين على حاضر المستعمرين الإنجليز والفرنسيين وأضرابهم . فإن الاستعمار الغربى الحالى لا يحدوه مثل أعلى . ولا يدرى من ضربه فى أقطار الأرض إلا أن ينتهب ويختلس . والمعروف أن موارد إنجلترا الداخلية لا تكفى الأهلين أكثر من ستة أسابيع ، وأن عليهم ـ ليطعموا أن ينطلقوا فى آفاق العالمين ينشدون الرزق . بيد أن من الشناعات العلمية التسوية بين ربانيين تركوا ديارهم فى سبيل الله ، وخرجوا من بيوتهم والآخرة أحب لديهم من الدنيا ، وبين خطافين تركوا قارتهم للإغارة على الناس ، ونشدان الأقوات أو اللذائذ . إن للفتح الإسلامى شأنا آخر غير ما يخبط فيه صغار النفوس . ونحن نذكر ما يقوله هذا النفر من المتكلمين ، وليفضح الكلام أصحابه ، وليُعرف مبلغهم من العلم . * قال السير " توماس(1/111)
أرنولد " تحت عنوان " فتوح العرب وتوسع الجنس العربى بعد وفاة محمد ": ص _117
".. بعد وفاة " محمد " أرسل أبو بكر الجيش الذى كان النبى قد عزم على إرساله إلى مشارف الشام ، على الرغم من معارضة بعض المسلمين ، الذين وجلوا من الحالة المضطربة فى بلاد العرب إذ ذاك ، فأسكت احتجاجاتهم بقوله : " لا أرد قضاء قضى به رسول الله ، ولو ظننت أن السباع تختطفنى لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبى ... " . وكانت هذه هى أولى تلك السلسلة الرائعة من الحملات التى اجتاح العرب فيها "سورية " و " فارس " و" إفريقية الشمالية " . فقوضوا دولة فارس القديمة وجردوا الإمبراطورية الرومانية من أجمل ولاياتها. ولا يدخل فى نطاق هذا الكتاب أن نتتبع الفتوحات العربية ، ولا أن نكشف عن هذه الظروف التى جعلت مثل هذا التوسع أمرا ممكنا . وقد أجاد مؤرخ كبير ، عرض المشكلة التى تواجهنا هنا فى الكلمات الآتية : قال : هل كانت الحماسة الدينية الخالصة سر تلك الفتوح الضخمة ؟ هل كانت تلك القوة الجديدة لعقيدة كانت إذ ذاك ولأول مرة آخذة فى الازدهار صافية تمام الصفاء ، هى التى أقذت جيوش العرب بالنصر فى كل موقعة من المواقع ، وأقامت ـ فى مثل هذا الزمن القصيرـ أعظم إمبراطورية شهدها العالم ؟ إن الدليل يعوزنا لنثبت أن الحالة كانت كذلك ( ! ) . إذ كان عدد هؤلاء الذين بايعوا النبى ، وقبلوا تعاليمه عن حرية ، واقتناع صادق ، ضئيلا جدا ( ! ) . على حين ـ نجد من ناحية أخرى أن الكثرة إنما كانت تتألف من هؤلاء الذين لم ينضووا تحت لواء المسلمين إلا عن طريق الضغط عليهم ، أو طمعا فى نفع دنيوى". ياللكذب !! ثم ماذا أيها المؤرخ الكبير ؟ قال : * " وقد عبر " خالد " ، وهو سيف من سيوف الله ، فى أسلوب جد مؤثر عن هذا المزيج من القوة والإقناع ، الذى أسلم عن طريقه هو وكثير من رجال قريش حين قال : إن الله أخذ بهم من قلوبهم ونواصيهم ، وأرادهم على أن يتبعوا النبى . قال : وكذلك(1/112)
كان لشعورهم بالاعتزاز بقومية مشتركة أثر كبير فيما أحرزوا من انتصارات . ص _118
قال المؤرخ الكبير : وكان ذلك الشعور أشد حيوية بين العرب فى ذلك الوقت منه بين أى شعب آخر . وقد حمل هذا الشعور وحده الألوف المؤلفة ، على أن يؤثروا مواطنهم العربى ودينه على غيره من الغرباء الداعين إلى أديان أخرى . وكان أقوى من ذلك جذبا لهم إلى الإسلام ، أملهم الوطيد فى الحصول على غنائم كثيرة إذ يجاهدون فى سبيل الدين الجديد ثم أملهم فى أن يستبدلوا بصحاريهم الصخرية الجرداء التى لم تتح لهم إلا حياة تقوم على البؤس ، تلك الأقطار ذات الترف والنعيم وهى فارس والشام ومصر . ومن المؤكد أن هذه الفتوح الهائلة التى وضعت أساس الإمبراطورية العربية لم تكن ثمرة حرب دينية قامت فى سبيل نشر الإسلام ( ! ) . وإنما الذى حدث أنه تلتها حركة ارتداد واسعة عن الديانة المسيحية ، حتى لقد ظن كثيرون أن ذلك الارتداد كان الغرض الذى يهدف إليه العرب . ومن هنا أخذ المؤرخون المسيحيون ينظرون إلى السيف على أنه أداة للدعوة الإسلامية ، أو سبب القضاء على الدولة الرومانية . وفى ضياء النصر الذى عُزى إليه ، حجبت مظاهر النشاط الحقيقى للدعوة الإسلامية . ولكن الروح التى دفعت جحافل العرب الغازية ، تلك التى تدفقت على حدود دولتى الروم والفرس ، لم تكن روح تحمس وغيرة ترمى إلى تلقين الدعوة الجديدة ابتغاء تحويل الناس إلى الإسلام . بل كان الأمر على العكس من ذلك ـ هكذا يقول المؤرخ الكبير ـ فإن البواعث الدينية ـ كما يظهر ـ لم تكن قد تسربت إلا قليلا فى نفوس أبطال الجيوش العربية . إذن ، فما سر هذه الانطلاقة الفريدة؟ يقول: ويعتبر توسع الجنس العربى ـ على أصح تقدير ـ هجرة جماعة ناشطة ، قوية البأس دفعها الجوع والحرمان، إلى أن تهجبر صحاديها المجدبة، وتجتاح بلادا أكثر خصبا ، كانت ملكا لجيران أسعد منهم حظا " أ. هـ . * * * ص _119(1/113)
جوع وحرمان وتطلع إلى ما فى أيدى الجيرة الغنية المستضعفة !! هذه هى بواعث الفتح الإسلامى !!! كما نقلها السير " توماس أرنولد " ... إن العرب الذين غبرت عليهم القرون وهم أقل الناس حظا من القوى المادية والأدبية وسط دول ضاربة العروق فى الحضارة والبأس ، قد تصورهم ذلك الذهن الأخرق وكأنهم " إنجلترا " تحارب أهل " كينيا " . ولما كان هذا الكلام لا يرتفع إلى درجة العلم الذى يناقش فنحن نهمله . ولكن من الإنصاف لتاريخ الإنسانية وكبحا لجماح المفترين أن نختم بحثنا بهذه الخلاصة عن مسلك الاستعمار الصليبى فى البلاد التى نزل بها . وهى خلاصة موجزة من كتاب "الصحو الأفريقى" تأليف" بازل دافيدسون ". لقد توجه المؤلف بهذه الصيحة فى مقدمته ، قال : " إلى هؤلاء الذين لا تخزهم ضمائرهم لما تعانيه شعوب " أفريقيا" من ذل وهوان منذ نكبها الاستعمار الدولى ... إلى هؤلاء جميعا أقول : تريثوا وسائلوا أنفسكم : هل فى مقدور شعب منحط أن يتحمل ما تحمله شعب أفريقية ؟ ليس العجب فى أفريقية أن تكون شعوبها متأخرة . ولكن العجب العجاب أن تبقى كل هذه الشعوب حية برغم المهازل والمآسى التى نزلت بها " أ. هـ . * * * وفى أثناء الكتابة عن حال السكان البؤساء فى وصاية الجنس الأبيض "الراقى" يتساءل المؤلف : ما الذى يراه المسافر إلى أفريقية ؟ إنه يحسب ـ لأول وهلة ـ أن ليس لهذا الشعب ماض ولا مستقبل . الكآبة تخيم عليه وسط جو تسوده الحرارة ، وأرض تمتد فوقها الغابات . لكن المتأمل الباحث سرعان ما تصدمه الحقيقة . إن ثروة " أفريقيا " ينقلها المستعمرون إلى " أوروبا " ، تاركين أصحاب البلاد الأصلاء فى فقر مدقع . ص _120(1/114)
والناس هناك يحسون هذه المرارة ، ويستعيدون ـ فى سبيل استرداد حقوقهم ـ قصص الكفاح الذى بدأه أجدادهم من سنين طوال . بدأ استعمار " أفريقية " فى أوائل القرن الخامس عشر عندما بدأت حركات الاستكشاف الكبرى . وفى سنة 1444م شرع البرتغاليون يستوردون العبيد من ساحل الذهب "غانة" . وما كاد القرن السادس عشر يحل حتى كان عدد العبيد فى بعض مناطق البرتغال أكثر من عدد البرتغاليين أنفسهم . وبهذا صار الكشف الجغرافى سرقة ، ثم تحولت السرقة إلى استبعاد عام . * قال: "... إن أوروبا لا تنظر إلى " أفريقية " إلا فى ضوء منافعها الخاصة وما تمليه مصالحها فحسب ، لذلك استعبدت الأفريقيين واستغلتهم أسوأ استغلال. إن " ناسو سبينور" وصف شركة أفريقية التى تأسست سنة 1567م بأنها وجدت لكى تختطف أو تشترى أهالى " أفريقية " ثم تسخرهم فى العمل حتى الموت . والإنجليز والهولنديون سواء فى هذا الأمر ، فهم يسخرون الأفريقيين تسخيرهم للخيل وهم ـ مع ذلك ـ أكثر أمم أوروبا تدينا ، وأعمقهم إيمانا " .! ثم قال تحت عنوان "خلف المسيحية " : * " ومع الاستعمار جاءت أفواج المبشرين تدعو للنصرانية التى دخل فيها كثير من أبناء القارة " المظلمة " . ألا ما أكثر الأطماع التى صحبت هؤلاء المبشرين! وراء مثالية المسيح قدم اللصوص ، كما يقول المونسيور " كوخيير" . ولقد أبحر اللصوص من بلادهم تحت علم المثالية أيضا وجلبت رحلاتهم إلى الشرق ثروات ضخمة من الحرير والتوابل . ويكفى أن نعرف أن سفينة " الجلدن هند " عندما عادت سنة 1580م إلى لندن ربح فيها أصحابها 1.600.000 جنيه إنجليزى ، مع أن رأس المال كان 5000 جنيه . وكان الأوروبيون يسعون ـ أولى الأمر ـ خلف العبيد يختطفونهم لمآربهم ـ ثم خلف العاج والفضة والنحاس بعد ذلك . كان المستعمرون فى القارة الأمريكية بحاجة ماسة إلى العبيد . وكانت أوروبا أيضا فقيرة إليهم بعد تطورها السريع نحو الصناعة وهجرة الفلاحين إلى المدن(1/115)
الكبرى تاركين الأرض تتطلب العاملين فيها . ص _121
من هنا استورد الأوروبيون الملايين من أهل أفريقيا . وليس يعلم أحد العدد الحقيقى للعبيد الذين تم جلبهم . ولقد قدر أحد المؤرخين البرتغاليين ـ استنادا إلى الوثائق المحفوظة بخزائن الحكومة البرتغالية ـ عدد الأفريقيين المختطفين من " أنجولا " وحدها بـ1.389.000 بين سنتى 1486 ، 1641 . وزادت تجارة الرقيق فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، ويقدرها الأب " جادين " بمعدل سنوى قدره 25000عبد ، خلال سنى القرن الثامن عشر ، و 30000عبد خلال سنى القرن التاسع عشر . أسهمت هذه الجموع الغفيرة ـ بكدها وجدها ـ فى بناء الحضارة الأوروبية وفى نقلها إلى ربوع الأمريكتين . ويقول المؤرخ الكبير " جلبرتو فريار" : إن الدور الذى قام به العبد الأفريقى فى البرازيل لهو أخطر من الدور الذى قام به الأوروبى المستعمر صاحب المزاعم الطولى فى بناء الحضارة !! فكيف كوفىء على هذا الجهد ؟ وماذا صنعوا له ..؟ ملأوا البلاد خمرا وبغاء ! إن قلب المدينة الأفريقية النابض هو الحان ، وهو مجمع السكارى وثمرة التفكير الشيطانى للرأسمالية النهمة إلى المال الحرام . وقد قدر عدد الحانات فى مدينة " ليوبلدفيل " سنة 1953 والتى تحمل تراخيص رسمية من الحكومة بنحو 300 حانة فى الحى الأوروبى ، عدا 400 حانة فى الأحياء الأفريقية . وتقدر الحانات فى كل أنحاء المستعمرات الأفريقية بحان واحد لكل 500 من السكان . علما بأن هذا العدد لا يشمل النوادى غير المرخصة . أما عدد المومسات فى ظل الحضارة الغربية فقد زاد زيادة كبيرة . وفى كل مدينة لهن رابطة يشرف عليها تاجر أقمشة أوروبى يستخدمهن كعارضات أزياء ، ويربح من وراء ذلك تلالا من المال . وهذا الانحلال غير طبيعى فى أفريقيا فما سببه ؟ ولم كان ؟ ذلك لأنهن ـ كما شاءت أوروبا لهن ـ نسوة " أحرار" فما معنى تلك اللفظة ؟ ص _122(1/116)
المرأة " الحرة " هى ظاهرة جديدة فى المجتمع الأفريقى . فقد كانت المرأة الأفريقية ـ قبل الثورة الصناعية وقبل إنشاء المدن ـ تعيش فى القرية ، ولها مركزها الاجتماعى ، وكانت تعمل وتكسب . وكان لها حق التملك ، وأهلية البيع والشراء ، ولم تكن هناك عانسات فى هذه الأيام البعيدة . إذ إن البنت ـ عند بلوغها سن الزواج ـ تتزوج بسرعة . أما بعد إقامة المصانع وإنشاء المدن وهجرة الشباب إليها فإن المرأة لم تجد زوجا لها فى القرية وهاجرت مثله إلى المدينة ، وفيها لم تجد عملا ، فأصبحت عضوا عديم القيمة تماما . ومن هنا انتشرت الدعارة ، ووجدت المرأة من أرباحها الكثيرة عذرا لها . حتى إنها احتقرت الزواج ، واندفع الآباء ـ لفقرهم ـ يهبون بناتهم لهذه المهنة الخسيسة ، فارتفعت أسعار الزوجات ، وصارت مشكلة اجتماعية خطيرة " أ. هـ. * * * هذه هى الأحوال المادية والروحية فى ظلال الصليبية المنتصرة . أتجد شبها بينها وبين أحوال البلاد التى دخلها المسلمون فعاشوا مع أصحابها إخوة ، واختلط بعضهم بالبعض الأخر ، لا يدرى سيد من مسود ولا تابع من متبوع...؟ إننا نتلقى اتهامات المستشرقين لأسلافنا الصالحين ، ثم نذكر أن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " . على أن القارىء المعتدل بعدما ينتهى من قراءة كتاب السير " توماس أرنولد " يشعر بأن الهنات التى وقعت به لا تنقص قدره ولا تبخس حقه . فهو جهد علمى نفيس ، وجملة من الوثائق التاريخية المحترمة . وهو ملىء بما يرد أحاديث الإفك التى وجهت إلى المسلمين دون وعى . ويعتبر ـ فى نظرنا ـ من أفضل الكتب التى أرخت لسير الدعوة الإسلامية فى العصور الأولى . * * * وقد ترددت مطاعن المستشرقين هذه ، مقترنة ببعض الشبهات فى كتاب آخر ، هو " تاريخ العرب " لـ " فيليب حِتى " . ص _123(1/117)
والأستاذ " فيليب خورى حتى " يشبه سير " توماس أرنولد " فى سعة اطلاعه ، وطول باعه ، وإحاطته الظاهرة بتاريخ العرب والمسلمين . ولكنه يختلف عنه فى أمور ذات بال . فهو أقل إنصافا ، وأسوأ ظنا ، وأسرع إلى قذف التهم دون سبب ، بل مع وجود أسباب التبرئة .. وسوقه للأحداث ينم عن أنه مصر على خدمة غرض معين. وإصراره على هذه الخدمة يخرج به ـ طوعا أو كرها ـ عن مقتضيات السرد العلمى الدقيق ، ذلك السرد الذى يحب أن يبدو فيه أو يحب أن يوصف به ، والذى يجعل للكتابة حظا من القيمة . وقد قلنا ، ونؤكد القول : إننا لا نرتقب من المستشرقين ـ كى نرضى عن بحوثهم ـ أن يؤمنوا برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. بيد أننا نرتقب منهم أن ينحوا عن أنفسهم مواريث الضغينة وهم يقلبون أعماله وآثاره وألا ينفسوا عن تحاملهم وهم يقضون ـ باسم العلم أنباءه وأنباء الأمة التى صنعها . لقد أحصيت أكثر من سبعين موضعا فى كتاب تاريخ العرب لـ" فيليب حِتى" لا تتفق مع طبيعة البحث النزيه . ولا يمكن أن تقبل من رجل يصطنع الحياد فى أسلوبه ويظهر متجردا لخدمة العلم . وبعضها يبلغ حدا مزريا من التفاهة ، وذلك عدا ما تجاوز عنه الأستاذ "محمد مبروك نافع " أو تعمد ـ كما ذكر فى ترجمته ـ تهذيب عبارته ، حتى لا يكون نبؤها صارفا للقارىء عن المضى فى الكتاب . ومع ذلك فالكتاب ملىء بالشبة التى بثت بمهارة هنا وهناك ، وربما اكتشفها الراسخون فى العلم من القراء النقدة ، أما غيرهم فإنه يقع فريسة لها .. ونحن سنتجاوز الأخطاء المسفة إلى الأخطاء التى تستحق التفنيد . نعم سنترك مثلا قوله : " بمجىء الإسلام زاد عدد الجن إذ هبطت مكانة الآلهة الوثنية إلى أمثال تلك المخلوقات " !! ص 118 . وقوله: " وفى فترة من فترات الضعف أغرى محمد الموحد فاعترف بقوة هذه الإلهات من آلهة مكة والمدينة ، ووافق على فضلها ولكنه فيما بعد رجع عن ذلك " !! ص 119. وقوله: " وتجد فى القرآن الشبه الوحيد(1/118)
الواضح لبعض محتويات الكتب المقدسة ص _124
الفارسية فى تصوير الجنة والجحيم ، وقد رسمت بريشة غمست فى ألوان مادية (سورة 56: 8- 56). وهذه لها نظيرها فى كتابات المجوس المتأخرة " !!! ص154. وقوله:- راويا عن رفعت-: " إن البدوى فى أيامنا هذه عندما يطوف حول الكعبة يردد باللغة العامية هذه الكلمات:- يا رب البيت. اشهد أنى جيت . لا تقول ما جيت . اغفر لى ولوالدى . وإلا تغفر لى غصبا تغفر لى ترانى حجيت " ص 156. وقوله: ولما أحس عبد الملك بحاجته إلى مركز للعبادة تعلو مكانته على كنيسة القبر المقدس ، وينافس مسجد مكة الذى كان إذ ذاك فى يدى منافسه على الخلافة " عبد الله ابن الزبير " ويصرف إليه جماهير الحجاج ، فإنه أسس فى نفس الموقع ببيت المقدس قبة الصخرة ص 328. وقوله: إن الجهاد فى السنوات الحديثة يظفر باهتمام أقل فى العالم الإسلامى ويرجع السبب فى ذلك إلى ترامى أطراف البلاد الإسلامية وازدهارها تحت حكومات أجنبية ص 168. هذه الكلمات الفارغة وأشباهها كثيرة فى أسلوب الكاتب ، وهى كاشفة عن طريقته فى فهم الإسلام ، ونظنها من الخطأ بمكان يغنى عن البيان . وفى صفحة رقم 302 يقول: ".. لقد كان للقانون الرومانى دون شك أثر فى التشريع الأموى سواء أكان ذلك الأثر مباشرا أم عن طريق التلمود وغيره من الوسائل. ولكن مدى ذلك الأثر غير معروف تماما " . وغريب أن يبنى الرجل هذا الحكم الخطير على أثر مجهول المدى ، ولكنها شهوة اتهام الإسلام ، وانتقاص فضله ، ورد تراثه العقلى إلى غيره . وقد لاحظنا فى عشرات المواضع أن المؤلف شديد الحرص على اتهام الإسلام بأمرين خطيرين : أولهما : أن الجهاد سبيل للنهب والسلب ، واستنزاف الأمم المغلوبة ، والتسلط عليها بالقهر ، وتقسيمها طبقات يستذل بعضها ـ كالمسلمين من غير العرب مثلا ـ ، ويسترق الأخر لخدمة الفاتحين وملذاتهم . والثانى: أن الإسلام لم يؤسس حضارة ما ، وأن العقل الإسلامى ليس إلا صدى لأفكار(1/119)
الأجيال الأولى ، وأن المسلمين ليسوا أكثر من نقله لتراث غيرهم . وربما زادوا فيه شيئا ، ولكنهم لم يبتكروا شيئا البته ...!! ص _125
وكتاب " تاريخ العرب " تتكرر فيه هذه المثالب ، بطريقة رتيبة ، وسياسة مرسومة بحيث يخرج القارىء من أغلب الفصول وهو يشعر ، بأن محمدا رجل نقل رسالته عن الأولين ، فليس نبيا يوحى إليه ، وأن أمته جماعة من البشر استغلت ظروف القوة التى واتتها حينا من الدهر فزحفت على الأمم المجاورة لتأكل خيرها ، وتنهب أرضها ، وتنتحل فلسفتها وتشريعها . وأنه إذا كانت هناك مدنية تؤثر عنها فهى مدنية الشعوب المغلوبة على أمرها اغتصبها العرب لأنفسهم ، وذهبوا بفخرها زورا وبهتانا . أما الإسلام فلم يكن ، ولن يكون مصدر خير ، لا لأهله ، ولا للعالم ! ونرى لزاما علينا أن نفيض القول فى هذين الأمرين متعرضين لما ذكر الأستاذ " فيليب حتى " من اتهامات ، ترجع فى جملتها إلى التعصب الكامن لا إلى البحث الرصين . * * * لقد دأب الأستاذ " فيليب حتى " على تنقص الجهاد الإسلامى ، ورمى بواعثه بالسوء. وتعمد فى غير موضع أن يصم الفاتحين بأنهم كانوا يطيرون إلى المغانم .. وأنهم ـ بعدما استقر الأمر لهم ـ أثقلوا الشعوب المهزومة بأنواع المغارم ، وألوان التحقير . ومن ثم فإن اعتناق الإسلام يرجع ـ فى نظره ـ إلى الفرار من الهوان المادى والأدبى . نقول : وهذا الكلام ، إفك كله . فإن للإسلام فى طريقه إلى القلوب صحائف بيضاء . ما أُثر عنه أنه اعتمد على غير الإقناع والتلطف ، ولا قامت فى دولته ـ على طول ص _126(1/120)
تاريخها ـ نظم سياسية أو اجتماعية تساند العقيدة بالبطش والجبروت ، وتدفع إلى الدخول فيها بالإرهاب والإكراه . ولسنا نعرف فى تاريخ المذاهب والديانات ملة يترقرق السماح فى روحها ، والأدب فى عرضها ، والعدل فى معاملة خصومها ، كما نعرف ذلك فى الإسلام . لكن بعض المستشرقين ، أو كثرتهم ، عندما تواجه هذه الحقيقة ، تحاول أن تتجاوزها دون تنويه بها ، أو تحاول ذكر أسباب مختلقة لها . وقد يجد بعضهم الجراءة من نفسه على المماراة فيها ، وتلمس شبه شتى لتعكير صفوها . ولما كانوا يدخلون مضمار البحث العلمى وفى صدورهم علل دفينة ، ولهم مأرب أخرى فلا عجب إذا اضطربت أحكامهم أشد الاضطراب ، خصوصا فيما يتصل بالرسالة وصاحبها . وماذا تنتظر من رجل يتناول الإسلام ابتداء وهو مقتنع بأن صاحبه دعى ؟ فإذا شدهته السيرة بأحداثها النقية شرع يدور حول نفسه باحثا عن مخرج يرضى به تكذيبه السابق ، لا عن مخرج ينسجم به مع منطق الأحداث . وماذا تنتظر من رجل لا يفهم إلا أن الفتح الإسلامى غارة لطلب المغانم ، وانتهاب الدنيا ، فإذا صدمه ما اتسم به الفتح من ترفع ورحمة نكس على رأسه ليصطاد إشاعة يجسمها ، أو خطأ يدندن حوله . ولا أدرى من ألوم وأنا أخط هذه السطور ؟! مؤرخينا الذين أولعوا بسرد الصغائر ، وتدوين كل تافهة وآبدة ؟ أم المستشرقين الذين ينقبون عن شىء ما ليرووا به حقدهم المرير على هذا الدين؟ خذ مثلا ، جنديا من الظرفاء فى جبهة فارس ، يظفر فى أعقاب المعركة بأقراص من الخبز الرقيق ، فيقول متفكها : لو لم نقاتلهم على هذا الدين لقاتلناهم على هذه الرقاق . هذه الفكاهة التى رأى مؤرخونا أن يثبتوها ، لأنهم مغرمون بتسطير الأخبار مهما تفهت ، يجىء مستشرق ما فيقول : ألم أحدثكم بأن أسباب الفتح اقتصادية ؟ ولو ظفر ثوار الجزائر بكعكة فرنسية لتحولت الحرب الاستعمارية حسب هذا المنطق إلى عدوان جزائرى ! ص _127(1/121)
وهاك قصة أخرى يرويها المؤرخون، ولا بأس أن يقف لديها المستشرقون. جندى عربى يترك أسيرة فارسية من الأميرات نظير ألف درهم !! فيقال له : كنت تستطيع أن تفتديها بأكثر من ذلك ؟ فيقول الأعرابى: ما كنت أحسب هناك عددا آخر يزيد على الألف..! إن هذه القصة التى ينقلها ـ عنا طبعا ـ الأستاذ " فيليب خورى حتى " لها دلالتها الناطقة بجهل الفاتحين ، وانحطاط مستواهم . كما يدل نبأ الفلاح الأمريكى الذى اشترى شلالات " نياجرا " على غباوة الأمريكان عموما ...! ونحن لا نردد هذه التوافه إلا لغرض أهم نحب توضيحه .. هو أن الروايات الفردية المجردة المبتورة عن ملابساتها ، لا يجوز أن يفهم منها تاريخ ولا أن ينتزع منها قضايا وأحكام .. فلنترك حكايات الأعراب السذج إلى حكاية يرويها المؤرخون عن زعيم عربى كبير هو " عمر بن العاص " . هذا الرجل هو فاتح مصر ، وقدرته العسكرية الإدارية ليست موضع جدال. وقد ولاه عمر بن الخطاب حكم البلد الذى افتتحه فسار فيه سيرة محت من أذهان المصريين الذكريات السود عن حكم الرومان الأقدمين . و "عمرو" رجل يرى فى نفسه الجدارة لولاية مصر . ويرى تنحيته عنها هضما لكفايته أولا وجحدا لصنيعه ثانيا . فكيف إذا عزل عن مصر ليجىء بدلا عنه رجل أهون شأنا ، وأضأل قدرا ، كعبد الله بن أبى السرح ؟ إن ذلك تصرف يحفظ عمرا ، ويطلق لسانه بالسخط . و "عمرو" ليس ممن يتنازلون عن حق لهم ، وليس ممن يقبلون ـ لله ـ أن يعتزلوا الفتن وينشدوا أجر الجندى المجهول على ما قدموا . وربما كانت له وجهة نظر فى هذا المسلك الذى استولى عليه وهو يندد بسياسة عثمان . وعثمان ـ غفر الله له ـ كان مخطئا فى توليه عبد الله بن أبى السرح إمارة مصر والغريب أنه لما بدا عجزه طلب من " عمرو" أن يعاونه ! ص _128(1/122)
ونتساءل : أكان على "عمرو" أن يعاونه بكفايته ـ احتسابا ـ ولو لم يكن الرجل للولاية أهلا ؟ إن ذلك مثل أعلى ، بلا شك، وهو ما طلبه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسلمين حين تضطرب سياسة الحكم . ففى الحديث " ستكون بعدى أثرة وأمور تنكرونها !! قالوا: فما تأمرنا ؟ قال أدوا الذى عليكم وسلوا الله الذى لكم …" وفى رواية " اصبروا حتى تلقونى على الحوض " . وأداء الواجب ، والصبر على الحرمان ، هما الضمان الأوثق لمصلحة الأمة وهو النصح الذى لا ينتظر غيره من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . بيد أن " عمرا " غاظه أن يُعزل عن ولاية هو لها كفء ، وأن يكلف بمساعدة وال يراد نفعه بأجر المنصب الكبير فقال: " إنى أكون كماسك قرنى البقرة وغيرى يحلبها ". وهى كلمة ساخرة ، لا تعدو أبدا أن تكون إزراء على الوالى الجديد ، ولا يفهم منها أبدا أن العرب الفاتحين جاءوا لنهب مصر ، وسرقة خيرها ـ كما يفهم المستشرقون ـ . و " عمرو " ، وغير " عمرو " ، أفراد قلائل فى جمهرة المؤمنين الخلص الذي جاءوا مصر ، وليس فى مشاعرهم وأفكارهم إلا أنهم جند الله ، وفداء للإسلام ، وطلاب للآخرة ، وصفهم رسل " المقوقس " بهذه الكلمات : " رأينا قوما الموت إلى أحدهم أحب من الحياة ، والتواضع أحب إليهم من الرفعة . ليس لأحدهم فى الدنيا ركبة ، وإنما جلوسهم على التراب ، وأكلهم على ركبهم . وأميرهم كواحد منهم ، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد من العبد . وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنهم أحد ، يغسلون أطرافهم بالماء ، ويخشعون فى صلاتهم " أ. هـ . هذه السمات الناضحة بالنبل ، والمصورة لخلال الفاتحين وغاياتهم ، لا يجوز أن يعكر نقاءها قول أرسله أحد الناس فى ساعة غضب ، كاشفا به عن وجهة نظره فى موقف من المواقف الشخصية . ومرة أخرى لا ندرى من نلوم ؟ مدوني الآثار دون شرح ووعى ؟! أم من يتلقفها من أعداء الإسلام ليُحَمِّلها ما لا تطيق وما لا يدور ببال ..؟ ص _129(1/123)
واتهام الفاتحين بالظلم والنهب مقصود به إظهار الشعوب التى اتصلوا بها وكأنها دخلت الإسلام فرارا من الضغط الاقتصادى . وتدليلا على هذا يذكر الأستاذ " فيليب حتى" عن مصر " أن دخلها هبط من 14 مليون دينار على عهد عمر بن الخطاب إلى 5 ملايين فى عهد معاوية ، كما هبط الدخل فى العراق من مائة مليون فى عهد عمر إلى 40 مليونا أيام عبد الملك". ثم يقول : " .. لاشك أن أحد الأسباب التى أدت إلى هبوط دخل الدولة ، كان اعتناق الإسلام " . ويعلق الأستاذ " فيليب حتى" على تكليف غير المسلمين بدفع الجزية فيقول : " إن الاعتراف بهذه الديانات وحسن معاملة أهلها ـ برغم تجريدهم من السلاح ، وحملهم على دفع الجزية مقابل الحماية الإسلامية الممنوحة لهم ـ يعتبر أكبر ابتداع سياسى أحدثه محمد " . وهذا التعليق اللين الملمس ، يعتبر ـ فى نظرنا ـ تفسيرا رديئا ومشوها لدخول المصريين وغيرهم فى الإسلام .. بل هو إخفاء متعمد للأسباب الصحيحة التى جعلت شعوب الأرض تؤثر الإيمان بالدين الجديد وتتخلى من تلقاء نفسها عن معتقداتها الأولى .. كيف يتهم المصريون مثلا بأنهم تركوا ديانتهم القديمة حتى يستريحوا من الضرائب التى فرضت عليهم ؟! إن المصريين ـ برغم انهزامهم العسكرى أمام الرومان ، وسقوط واديهم الخصب فى يد الدولة الجشعة ، وبقائهم ستة قرون فى قبضة حكامهم الغرباء ـ أبوا ـ برغم هذا كله ـ أن ينهزموا روحيا أمام قوى الفاتحين ، وبقوا على دين غير دين الرومان ، ثم على مذهب غير مذهبهم . وتحملوا فى ذلك طوفانا من الدم جعلوه بداية لتاريخهم ، ثم سلسلة من التضحيات العقيمة لم يُجْدِ شىء منها فى ثَنْىِ عزائمهم عن العقائد التى ارتضوها . فهل يصح فى الأذهان أن قوما يظلون القرون على هذه الصلابة ثم بغتة يبيعون دينهم لأنهم يرفضون البقاء عليه نظير ثمن بخس دراهم معدودة ؟!! الواقع أن تصوير الدخول فى الإسلام بأنه للفرار من الخراج أو الجزية تصوير سمج . وأن أكاذيب(1/124)
المستشرقين تطل من ورائه نابية الملامح ... ص _130
إن تحول نصف المصريين إلى الإسلام فى مدى عشرين سنة ، لم يكن نتيجة إرهاب أو إعنات فإن هذه الوسائل أفلست فى تغيير عقائد المصريين مئات السنين . لقد كان هذا التحول نتيجة وعى كامل ، ورضا سمح ، ورغبة بينة . والحق يقال ، إن المؤرخ الإنجليزى "ويلز" كان أدنى إلى الإنصاف والصدق عندما بين فى كتابه "معالم تاريخ الإنسانية" أن انتشار الإسلام كان يشبه ثورات شعبية على التقاليد السالفة ، وانفجارا فى الوعى الإنسانى تطلعا إلى نور جديد . ثم إن فرض الضرائب على الأرض الزراعية شىء لا مكان لاستغرابه أو استنكاره . إن هذه الضرائب مفروضة الآن فى كل مكان ، وتجبيها الحكومات دون حرج . وهل الخراج إلا الضريبة ، بالتسمية الحديثة ؟ فما معنى إبراز ذلك على أنه بدعة عربية ؟ أو سنة إسلامية ؟ إن جمع الضرائب شأن مدنى تباشره كل حكومة ، والذى يطلب فى هذه الأحوال أن تكون الضريبة عادلة ، وأن تكون مصارفها سليمة . ونحب أن نسأل كل مؤرخ أكان العرب أعدل أم الرومان؟ أكان الحكم الإسلامى أرحم أم الحكم القيصرى ، والكسروى؟ وندع الجواب للمؤرخين غير المسلمين ، ونرتضى ما نقله الأستاذ " فيليب حتى" نفسه من فرح الشعوب بعدالة المسلمين ورحمتهم ، وتعاونها المطلق مع النظام الوافد والدين الجديد . وقد تحدث الأستاذ " فيليب " عن الجزية ووصفها بما يدل على دهشته ، أو إعجابه ، أو استغرابه . ونريد ـ لنلقى ضوءا على هذا الموضوع ـ أن نقول : * إن أهل الذمة يُعتبرون فى الكيان الإسلامى مواطنين " مسلمى الجنسية " إن لم يكونوا مسلمى العقيدة ، أى إن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم . ومقتضى هذا الوضع أن يتساووا مع المسلمين فى الأعباء المالية ، أو يقتربوا منهم على القليل . فإذا كان المسلمون مكلفين بفروض مالية دينية كالزكاة ، ومغارم الجهاد ، على حين لا تؤخذ من غيرهم زكاة ، ولا يطالبون بجهاد ، وتجب على(1/125)
المسلمين حمايتهم ، فهل العوض المالى الواجب حينئذ يسمى ظلما ؟! ص _1 ص
هل العدل أن يكلف المسلمون ببذل المال والدم ، ويُعفى الآخرون من كل شىء ؟ ويتركوا وافرين ناعمين ؟ ونسأل الأستاذ " فيليب " كما سألنا غيره من قبل : هل الجزية التى ابتدعها محمد ـ على حد تعبيره ـ أشرف أم المذابح الدينية التى نشأت عن اختلاف الرأى والتى ظلت أوروبا ملوثة بها إلى مطالع العصر الحديث ؟ إن الشح بحق الحياة على المخالفين فى العقيدة ، أو المتحررين فى الرأى كان دينا وتشريعا لدى الأوروبيين القدماء . والتقرب إلى الله باختطاف أرواحهم ، واستلاب أموالهم هو القانون الذى طبق فى الأرض ، استرضاء لإله السماء . واسمع إلى ما يقوله العالم الجزويتى البرتغالى " فرانسوا ده ماسيدو" فى تقديس محاكم التفتيش ، وتسويغ أحكام القتل والنهب التى ظلت ثلاثة قرون تصدر ضد أحرار الفكر ، والمخالفين فى الدين ، يقول هذا الرجل العجيب : " إن محاكم التفتيش قد نشأت فى السماء قبل أن توجد على الأرض ! والله سبحانه وتعالى هو الذى قام بوظائف أول محكمة للتفتيش !! فهو أول مفتش مارس سلطاتها ، حينما أهلك الملائكة المتمردين الخارجين على طاعته . ثم مارسها عندما عاقب آدم وقابيل ـ الذى قتل أخاه ـ . وحينما أهلك بنى أدم بالطوفان . ثم أمر موسى أن يقوم بها نيابة عنه وذلك حين أمره بعقاب العبرانيين فى الصحراء بالموت الأليم ، ونار السماء تأخذهم ، والأرض تبلعهم فى قرارها السحيق. ثم نقل الله رسالة القيام بهذه الوظائف إلى القديس " بطرس" الذى قضى بالموت على المرتدين (أنيانيا وسفيرا) . ثم جاء بعد ذلك آباء الكنيسة الكاثوليكية وهم خلفاء القديس (بطرس ، وورثته وفوضوا أمر القيام بهذه الوظائف إلى القديس " منيك وأتباعه " أ. هـ . أرأيت هذا التعليل البارع…؟ إن الذين فعلوا هذه المناكر ضد خصومهم هم الذين يتهمون المسلمين بأنهم حملوا المصحف فى يد والسيف فى أخرى . فإذا بهرهم(1/126)
دخول الأمم أفواجا فى دين الله دون شائبة قسر ، قالوا: فروا من دفع الجزية .!! ص _132
إنهم يتوهمون القشة فى وجوه الآخرين وينسون الخشبة فى أعينهم . إن الإسلام كان ولا يزال نعمة الله على الناس قاطبة ، والوسيلة الفذة لإيضاح الحقيقة وصيانة الحقوق ، وكبح الباطل ، وصد الجبروت .. ولعل من الأساطير المفسرة لامتداده الأول ، أو الأساليب المعبرة عن أهدافه الخالدة ، ما يتناقله الرواة عن معركة "بلاط الشهداء" التى جرت على حدود فرنسا . لقد زعموا ، أن ألفاظ الأذان تسمع فى سكون الليل خلال المقابر التى تضم رفات المجاهدين . أجل ، لقد مات أولئك الشهداء فى سبيل هذه الكلمات العظيمة " الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله... " هذا ما سمعه الأحياء ، أو تخيلوا سماعه ، من نداء موتانا . أولئك آبائى فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع فماذا يتخيل الناس سماعه من قتلى المستعمرين ، ومن خلال أجداثهم المبعثرة فى إفريقية وآسيا ؟ ماذا يسمعون من هتافهم ؟ ذهب ذهب !! بترول بترول !! نهب نهب ...!! هل يسمعون إلا هذا ؟ (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ، جهنم يصلونها وبئس القرار) . ولنختم بحثنا الطويل بهذه الكلمات القامعة لغرور المستشرقين ، وتقليد المفتونين. قال الأستاذ الزيات : " لم تكن الفتوح الإسلامية إذن فتوح استعمار وجباية ، وإنما كانت فتوح تحرير وهداية . كانت فتوحا للحرية والعمران ، وفتوحا فى العقيدة للتوحيد والأيمان ، وفتوحا فى الشريعة للحق والعمل ، وفتوحا فى السياسة للإحسان والعدل ، وفتوحا فى اللغة للأدب والبلاغة ، وفتوحا فى العلم للإحياء والتجديد ، وفتوحا فى الفن للابتكار والطرافة .. " أ . هـ . ص _133(1/127)
ومن رسالة كتبها الأستاذ " عبد الوهاب عزام " رحمه الله يوم كان سفيرا لمصر فى باكستان نقتطف تلك الجمل الرائعة : "... ومن أطراف الجزيرة العربية إلى خليج القسطنطينية شطر الشمال وإلى حدود الصين وما وراء نهر السند شطر الشرق ، وإلى بحر الظلمات حيث دفع "عقبة" فرسه فى البحر صائحا : " لو علمت وراءك أرضا لسرت غازيا فى سبيل الله . ثم إلى نهر اللوار فى فرنسا وإلى أرجاء أخرى ، سار المسلمون مقاتلين ومصالحين ، يفرقون الجيوش المجتمعة بالقهر على الباطل ، ليجمعوها بالعدل على الحق ، ويلقون الأقوام والألوان ، فى أخوة الإسلام . كانت موقعة بلاط الشهداء سنة أربع عشرة ومائة موقعة امتحن فيها المسلمون وقتل كثير منهم وانتصر ، شارل مرتل " على " عبد الرحمن الغافقى " . وروى الراوون أن الناس لبثوا حقبة يسمعون الآذان ، أذان الشهداء فى بلاط الشهداء . لم يسمعوا فى الآفاق أو فى أنفسهم طبل الحرب ولا صلصلة السيوف ، ولا صياح المحاربين ، ولكنهم سمعوا الآذان شعار التوحيد والإيمان والصلاة والفلاح . ذلكم كان مقصد هذه الوقائع وشعارها وسرها وعلانيتها . أكتب هذه الكلمة فى " كراجى" من أرض السند ، لست بعيدا من أطلال مدينة (الديبل) مدينة الصنم الكبير الذى حطمه المسلمون فى السند ، كما حطموا "هبل" فى مكة وحطموا كل صنم من الحجر أو البشر بين مكة والديبل وفى أرجاء من الأرض كثيرة . يقول المسلمون هنا كلما رأوا نخلا ـ والنخل كثير فى أمكنة شتى من هذه البلاد ـ: هذه آثار العرب ، كانوا حيثما ساروا أو خيموا ينبت النخل . قلت: وينبت الإيمان والحق والخير ومعان أخرى كثيرة ... انظروا إلى العرب المسلمين يسيرون من بلادهم فى البر والبحر إلى المشارق والمغارب ، على بعد الشقة ، وضآلة العدد ، وعظم المطلب ، يسيرون إلى المشارق والمغارب دعاة توحيد وأخوة ، ورسل شريعة عادلة وخلق كريم ، الله ربهم ، والناس إخوانهم ، والأرض كلها ديارهم ، غلبوا ولم يذلوا(1/128)
وفتحوا ولم يُخربوا ، ص _134
وتسلطوا فساسوا بالعدل ، وواسوا بالحق ، وخلطوا الأمم بعضها ببعض فى أخوة الإسلام التى لا تميز بين الأقوام والألوان والأوطان ، وذاع فى الأرض عد لهم ، وشاعت بين الناس سيرتهم ، فسالم من سالم ، وحارب من حارب ، قوما أصحاب شريعة من العدل والرحمة ، دعوتهم الأخوة وسيرتهم مكارم الأخلاق . قوما بيوتهم مساجد ورحالهم معابد يحاربون على شريعة ويسالمون على شريعة . ما الذى يسر للمسلمين الفتح ، ونشر سلطانهم فى المشرق والمغرب فى سنين قليلة ؟ الإيمان الذى ملأ قلوبهم فى مبدأ سيرهم ونهايته وصحبهم من " بدر" إلى" بلاط الشهداء" وحالفهم مشرقين ومغربين وهازمين ومهزومين ، والثقة بوعد الله فى فتح الأرض ، والسيطرة عليها بالحق والعدل . يسر لهم الإيمان واليقين كل عسير ، وذلل لهم كل صعب ، وأصغر لهم كل كبير ، وجمع كلمتهم وقلوبهم على الجهاد فى سبيل الله والصبر على ما يلقون ، بل حبب إليهم لقاء الموت راضين مستبشرين . وكذلك يسر لهم الفتح أنهم ساروا إلى الأمم على شريعة جامعة وقانون محكم ، لا يعتدون ، ولا يبغون ، ولا ينقضون العهد ، ولا يخفرون الذمة، "تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم " . وأنهم جماعة نظام ، وجند طاعة فى السراء والضراء ، والشدة والرخاء ، والحرب والسلم . وأنهم لم يسيروا فى الأرض ابتغاء المال والملك والسلطان والجبروت ، ولكن دعاة دين عظيم ، وشرع قويم ، وخلق كريم ، ورسل عدل ورحمة ، وأخوة ومواساة شعارهم تلك الآية : (إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون) . عباد زهاد ، شعارهم الآذان ، وحداؤهم القرآن ، وما رأى الناس جيوشا من العباد قبلهم سارت للدعوة إلى الحق ، وتمكين عدل الله فى الأرض . بهذا طار ذكرهم ، وانتشر صيتهم ، لقد أخرجوا عبادة الله من الصوامع المنعزلة إلى أرض الله الواسعة . وأنهم سيطروا فأزالوا سلطان الجبارين عن الضعفاء والمساكين ، وأفنوا الناس على ما تعمله أيديهم(1/129)
، وما يناله جدهم وسعيهم ، فاستبشر الزارع والصانع والتاجر ، وشمل الناس الأمن مقيمين وظاعنين ، وبادين وحاضرين ، وعم الرخاء واستبحر العمران . ص _135
وكثير من الأمم انتظروا العرب ليفتحوا بلادهم ، وينقذوهم من الجبارين المسلطين عليهم ويشملوهم بما شاع عنهم من العدل والرحمة والأخوة والمساواة . لقد ساروا على الأرض قوانين من قوانين الله ، وسننا من سنته التى لا تعطل ولا يصدها عن غايتها شىء . * * * وقال قائلون فضلوا وأضلوا ـ وكم منيت هذه الأمة بالمفترين ، يغضون من أقدارها ويهونون من مآثرها ـ قالوا: طلب القوت والطمع فى الغنائم هو الذى نشر هؤلاء العرب فى أرجاء الأرض . قاس هؤلاء الدعوة الإسلامية على الاستغلال الذى يسمى الاستعمار فى حضارة هذا العصر وعلى المستعمرين الذين كل شىء عندهم قهر وتسلط ، واستغلال ونهب ، وشره وحرص ، وتفريق بين الناس وعبادة للمال من دون الله . فقل لهؤلاء : إن الإنسان ربما يحارب على الخبز ولكنه لا يطلب الشهادة فى سبيله ، إن الإنسان يريد أن يظفر بالطعام ليعيش به ، لا أن يموت فى طلبه ، فما بال هؤلاء العرب المسلمين طلبوا الموت حيثما ذهبوا ، وحقروا العيش أينما توجهوا. ما بالهم وقد فتحت لهم مصر ورأوا الخصب فى أرضها ، وركد العيش على ضفاف نيلها ، جاوزوها إلى صحارى النوبة وسهول إفريقية ؟ ما بالهم وقد فتحت لهم الأندلس ورأوا النعيم المقيم ، جاوزوا جبال البرانس ليستشهدوا فى بلاط الشهداء ؟ ما بالهم وقد دانت لهم فارس ، جابوا صحارى مكران إلى السند ، وعبروا نهر جيحون إلى ما وراء النهر ؟ وما بالهم يتركون النعيم والخير العميم ، والعز المقيم فى الأرض التى سيطروا عليها ليجوزوا فيافى قاحلة ، ويحاربوا أقواما غلاظا شدادا ، فى بلاد تنتظرهم فيها قبورهم ؟ إن الأمر لأعظم مما توهموا ، وأسقى مما قالوا . * * * وبعد : فالحرب هى الحرب فى كل أرض وكل عصر ، فيها قتل وفيها أسر وفيها غلب وسلب . وليس(1/130)
عجبا أن يفرح المجاهد الذى شرى نفسه فى سبيل الله بغنيمة ص _136
ينالها وليس بعيدا أن يكون فى سواد الجند من تكون الغنيمة همه ، ولكن جيوش المسلمين سارت داعية إلى الإسلام مجاهدة فى الله ترجو الشهادة قبل الغنيمة وتتهيأ للموت قبل الطعام . إن النهر العظيم الذى ينحدر من منبعه إلى منتهاه يسير بالحياة والخصب قد يجرف أرضا ويحمل غثاء ويغرق ناسا ، ولكن الله أجراه للحياة والخصب لا ليسير بالكدر والغثاء ، ويهلك الأحياء . فأعيدوا النظر أيها الضالون ، وأنعموا الفكر لعلكم تهتدون . هذا سطر من كتاب ، وموجة من عباب ، والكتاب هو تاريخ الفتح الإسلامى على سعته ، والعباب هو مجد العرب المسلمين ، لا يزال يعى الزمان صداه ، ويحلم التاريخ بذكراه . فمن عبقرى عادل يفقه التاريخ ويكتب الكتاب ويصور فى السطور أمواج هذا العباب ؟ " أ. هـ . * * * ذلك ... ويجد القارىء بقية نقاشنا للأستاذ " فيليب خورى" ، والرد على شبهاته عند الكلام عن محاولات الهدم التاريخى ، وواجب الدعاة بإزائها . * * * ص _137
الفصل الثالث الدعوة وحملتها ص _138(1/131)
الدعوة وحملتها سألنى صديق : أليس لرجال الدعوة فى الإسلام تاريخ موجز أو مفصل يسرد أعمالهم ويقص جهادهم ، ويكشف عن أطراف الميدان الرحب الذى انساحوا فيه ، وبثوا تعاليم الإسلام فى أرجائه ؟ تدبرت هذا السؤال مليا ، وأعيانى الجواب السريع الشافى . فقلت : إن المقام يقتضى شيئا من الأناة فى الرد .. ذلك أن هناك من يرى الدعوة فى الإسلام فريضة شائعة وواجبا عاما كسائر الفرائض والواجبات التى نيطت بعنق الفرد . وأنها لا ترتبط بجهاز معين يختص بها ويسأل عنها ويكفى غيره مئونة الاهتمام وتقديم الحساب . أى إنه كما كلف المسلم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وكما كلف بالصدق والعفة ، كلف بنقل الإيمان إلى الأفئدة الفارغة وإرشاد الحيارى والتائهين إلى صراط الله المستقيم . فالدعوة إلى الله تشبه جملة الفضائل النفسية والتكاليف الشرعية التى لا ينفرد بها مسلم دون مسلم . ويظهر أن انعدام طبقة " الكهان والقساوسة " من المجتمع الإسلامى ، و إحساس كل تابع لهذا الدين بأنه رجل له ، محاسب أمام الله وحده عنه ، جعل انطلاق الإسلام فى المشارق والمغارب أثرا لهذا الشعور القوى . ومن ثم فليس هناك تاريخ خاص بالدعاة ، كما أنه ليس هناك تاريخ خاص للأمناء والأوفياء ، والمقيمين الصلاة والمؤتين الزكاة . نعم ، إن لبعض الناس فضل عناية بتوصيل القول ، ونشر العلم ، ورد الشبه . بيد أن التفوق العلمى عند نفر من المؤمنين لا يمس هذا العموم فى واجب البلاغ . ولا يزال انتشار الإسلام فى أعماق أفريقيا وآسيا راجعا إلى الجنود المجهولين من جماهير المسلمين الذين يعملون فى شتى الحرف ، والذين لم تشغلهم ضروب التكسب فى الدنيا عن رعاية أخرتهم فنشروا الإسلام بالإقناع والقدوة الطيبة . * * * ص _139(1/132)
والواقع أن هذا الكلام الذى يأخذ به سير" توماس أرنولد" على جانب كبير من الصدق . ولكنه ـ فى نظرنا ـ يمثل جانبا من الحقيقة ، ولابد من إلقاء ضوء على الجوانب الأخرى . لقد قامت حكومات إسلامية شتى فى القارات الثلاث القديمة . وكان يجب عليها أن تصدع بأمر الله ، وتؤلف الوفود من العلماء لغزو ثقافى واسع النطاق يُقرب حقائق الإسلام من الشعوب المحرومة ويكذب عشرات الشبه التى روجها المفترون ضده . غير أن هذه الفريضة الاجتماعية الجليلة لم تلق العناية المطلوبة ، ولم يتوجه لها الحكام المالكون للسلطة . ولعلهم رأوا ترك هذا العبء للأفراد يعالجونه كيف شاءوا . وقد سمعت زميلا يأسى لسياسة حكام الأندلس ، ويستغرب إهمالهم البعوث لغرب أوروبا طوال ثمانية قرون . مع أن الحاجة كانت ماسة لاختيار علماء مزودين بوسائل النجاح يجوسون خلال هذه الديار ، ويقفون أهليها على حقيقة الدين الذى يعادون . " . إن عقبى تقصيرهم كانت ـ ونقولها محزونين ـ اجتياح دولتهم واستئصال شأفتهم . ومع أنى استبعد انفتاح أبواب غرب أوروبا عصر ذاك لدعاة مسلمين ، وأكاد أجزم بأن التعصب الشديد سيحصد أولئك الدعاة إن ذهبوا .. إلا أننى أرى أن المحاولة واجبة ، وأن التوقف عن نشر الدعوة لا يجوز بناؤه على وهم أو وجل : وماذا لو كلف حكام الأندلس بعض العلماء المخلصين بالسفر إلى هذه البقاع؟ فإن نجحوا فيها ونعمت .. وإلا نالوا الشهادة فى سبيل الله ، وأعذروا إلى ربهم فى التبصرة والهداية ؟؟ ولنفرض أن التعصب المسيحى الداكن كان سيمنع الدعاة من إبلاغ رسالات الله . ص _140(1/133)
فماذا نقول فى الحكم الإسلامى بالهند ، وقد ظل ثمانية قرون فى هذه المناطق الفيح الحاشدة بالخلائق ؟ إن انتشار الإسلام هنالك يعود إلى بسالة الأفراد فى التبشير والإنذار ، وإخلاصهم العميق فى خدمة الحق وإسعاد الناس طرا به . ولا شك أننا دفعنا أفدح الأثمان ، لتلك الأخطاء التى اقترفها قديما الساسة المسلمون ، والحكام القاصرون . وأجدنى هنا مسوقا لتصحيح غلط شائع فى فهم الدعوة ورجالها . إننا نضفى هذا الوصف على لفيف من الوعاظ والأئمة والمذكرين ، الذين يحسنون النصح ، ويحترفون الكتابة أو الخطابة ، ويحصرون نشاطهم الذهنى والعاطفى فى الوعد والوعيد ، وفى التحدث عن الدار الآخرة لنشل الغارقين فى لجج الدنيا . وهذا التحديد لا أصل له ، وهو تغليب لجزء من الرسالة على بقيتها . والحق أن الدعوة إلى الإسلام إنما تأخذ مفهوما من طبيعة الرسالة الإسلامية نفسها . وهذه الرسالة يتجاور فيها الإيمان بالغيب مع فن التشريع للمجتمع ، والإصلاح للحكم . وتقترن فيها العقائد ، بالعبادات ، بسياسة المال والدولة . ويشتبك فيها الكلام عن حقوق الله ، بالإرشاد إلى حقوق عباده جميعا ، والكلام عن الدار الآخرة بالكلام عن الدنيا وكيف نجتاز فترتها ، ونخلف وراءنا من قواعد الحق ما يضمن سيرها على سواء الصراط . ولا يمكن شطر هذا الدين ، ولا تجزئة النسبة إليه ولا العمل ببعض تعاليمه واطراح البعض الآخر . إن الإنسان الحى يتكون من لحم وعظم وعروق ودماء تمتد فى البدن متداخلة مختلطة ، لا تتصور حياة فى ميزان كل منها على حدة . كذلك الإسلام عقيدة وقانون ، وخلق واقتصاد ، ونصح ومعاملة . والأمة المسلمة توزع نشاطها العام على المطالب الكاملة لهذه الرسالة ، كما توزع مملكة النحل أفرادها على وظائفهم العتيدة ، فى تعاون واتساق . وعندما نفهم الدعوة بهذا الشمول يمكننا أن نذكر رجالها فى شتى الميادين . ص _141(1/134)
فالحاكم العادل ، والمشرع الضليع ، والأديب الموجه ، والمجاهد المخلص ، والواعظ النصوح ، بل الثائر على المظالم ، والمتمرد على الطغيان . كل أولئك من رجالات الدعوة الإسلامية ويمكن التأريخ لهم على هذا الضوء المبين ونستطيع أن نذكر لهم نماذج كثيرة على مر العصور . وربما كان الوصف الذى عرف به هؤلاء الدعاة واهى الصلة بالوعظ والإرشاد . فـ "جمال الدين الأفغانى" كان مشغولا بالإصلاح السياسى ، ونفخ روح الحياة فى أمة خمدت أنفاسها تحت أقدام الطغاة . و " محمد عبده " وصاحبه " رشيد رضا " كانا معنيين بالإصلاح العلمى ، ومحو الخرافات التى شلت التفكير الإسلامى دهرا طويلا . و " محمد بن عبد الوهاب " ركز اهتمامه فى تطهير الإيمان من أدران الشرك والعودة بالأمة إلى اليقين المصفى الذى ورثته عن رسولها العظيم . وهؤلاء الرجال وأمثالهم قدموا للدعوة من الخير ما قدمه مثلا " أبو حنيفة " و " مالك " وسائر الأئمة الفقهاء فى ميدان الفتوى والتشريع ، وما قدمه من قبل الخلفاء العدول والفاتحون العسكريون.. فى ميدان السياسة الداخلية والخارجية . والمثل الأعلى لذلك هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى انبثقت أشعة الدعوة من سيرته فى جميع المجالات . " فهو عابد تتورم أقدامه من السهر بين يدى الله . وهو قائد يومض بالنور فى كل أفق ، فيتعلم منه الساسة والقضاة والفرسان والوعاظ والخواص والعوام على السواء . نسكه وتعبده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، صفة بارزة فى طبعه الكريم . فقد كان يجد فى العبادة قرة عينه وطمأنينة نفسه . ولو أنه كان من النساك الذين انقطعوا للرهبانية ، أو المتصوفة الذين انصرفوا عن الدنيا ، لما كان فى نسكه وتعبده بدعا . ص _142(1/135)
وإنما الذى يلفت نظر الباحث فى حياة بطل الأبطال ، هو ذلك الجمع الغريب بين النسك الذى يبلغ أرقى مراتب التعبد ، وبين القيام على أمور الدنيا التى كان يعيش فيها بكده ، ويَعُول كثيرا من الأهل والفقراء ، ويناضل أمما بأكملها ، ويسوس دولة فتية فى وجه العالم . يوفد إلى الملوك ويدعوهم ، ويستقبل الوفود ويكرمهم ، ويبعث السرايا ويقودها ، ويجادل من حوله من أهل الأديان وأهل السلطان ، ويهىء للنصر ، ويحتاط للهزيمة ، ويبعث العمال ، ويجبى الأموال ويقسمها بنفسه ، ويقول : إن لم أعدل فمن يعدل ؟ ويشرع للناس دين الله فيفصل المجمل من الوحى ، ويوضح الغامض ، ويرسُم السنن ، فيخرج من الأصل فروعه ، ويرد ما لم يطلعه الله عليه إلى ما أطلعه الله عليه . وهو ـ فى كل ذلك ـ يؤدى العمل اليومى الذى ينوء به أبطال هذه الدنيا . وبين هذه الهموم والمشاغل يتجلى "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناسك العابد بالليل والنهار أعظم انقطاعا إلى الله ممن انقطعوا إليه فى رءوس الجبال . ذلك الجمع بين الدين والدنيا يجعل من بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم ، مثلا قائما بنفسه فى تاريخ البشرية ، مثلا منقطع النظير . كان يقسم يومه ، جزءا للعبادة ، وجزءا للناس ، وجزءا لأهله . فإذا طغى ما للناس انتقص من الوقت الذى هو لأهله ، واحتفظ بما هو لله . وقد واظب على ذلك مواظبة لا نظير لها تستحق مزيد الإعجاب من أنصاره وخصومه على السواء . فقد كان مثلا من أمثلة الجد الكامل ، والتوجه الخالص . إذا انصرف للعبادة انصرف بجملته ، وإذا قام بعمل آخر لم يفتر عنه حتى يتمه . وقد أجمع مؤرخوه من أهل الملل المختلفة على أنه كان يعطى العمل الذى يشغله كل حسه وكل قلبه . وكان ذلك يتجلى فى علاقته بالناس . فما حدثه أحد إلا التفت إليه بوجهه وجسمه ، وأصغى إليه تمام الإصغاء ، ولا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذى يقطعه . ص _143(1/136)
ذلك الجد الذى يلازم النفوس المؤمنة ، هو سر النجاح فى كل الأعمال ، سواء أكانت للدين أم للدنيا ، وفيه كان بطل الأبطال صورة صادقة منيرة لأصحابه وتلاميذه . بل ذلك المثل من الجد فى كل شىء ، هو الذى أنجب ـ ممن صحبه ـ أكبر رجال الدولة ، وسواس الأمم . فجعل من رعاة الإبل والغنم ومن صغار الزراع والتجار خلفاء كسرى و "قيصر" يعلمونهما ما فاتهما من العدل والإحسان " أ. هـ . * * * على أننا فى عصر يمتاز بالتخصص العلمى . وتكثر فيه ألوان الثقافة كثرة يصعب استيعابها على ذهن واحد مهما بلغ من المضاء والإلتماع . حتى إن الطبيب يتوفر على دراسة عضو واحد من أعضاء البدن ، لأن الإحاطة بعلوم الجسم كله أضحت مستحيلة . فإذا استبحرت المعارف على هذا الاتساع البعيد جاز أن يختص فريق من العلماء بدراسة الدعوة إلى الإسلام فحسب . وأن يستكمل ـ لهذا الاتجاه وحده ـ ما يتطلبه من ثقافة معينة ومن دربة خاصة. وجاز لنا أن نسمى أولئك الذين كرسوا حياتهم لهذا الغرض" دعاة إلى الله". وربما توزع الأصحاب والتابعون على وظائف الرسالة بما يشبه هذا الاختصاص . فمنهم من عنى بسياسة الحكم ، ومنهم من عنى بالقضاء ، ومنهم من عنى بالجيش ومنهم من اشتغل بالتعليم والتربية . وإن كانوا ـ رضوان الله عليهم جميعا ـ لم يقصروا قيد أنملة ، وإن تنوعت مناصبهم العملية ، فى حراسة الحقيقة الدينية العامة ، وأداء واجب الدعوة والأمر والنهى . فلنقبل إذن الواقع الذى تحسنه ظروف كثيرة ، ولنسم أولئك المتخصصين من قدامى ومحدثين " دعاة إلى الله " . وكل ما نشترطه فى المنتصبين لحمل هذه الأمانة أمران : أولهما : جودة المعرفة بأصول الإسلام وفروعه ، حتى إذا درسوه للناس نقلوا إليهم حقائق الرسالة كاملة ، فعلم الناس منهم أن الإسلام ليس صلة تربط الناس بربهم فى ساحة المسجد فقط حتى إذا خرجوا منه وهت وتلاشت ، كلا .. إنه صلة قائمة توجه المؤمن فى شئون حياته كلها ، وتقيم المجتمع(1/137)
والدولة على أنحاء مرسومة لا يمكن الإفلات منها .. ص _144
والأمر الآخر : أن الداعية روح مفعم بالحق والنشاط والأمل واليقظة . فمهمته العظمى أن يرمق الحياة بعين ناقدة وبصر حديد . حتى إذا رأى فتورا نفخ فيه من روحه ليقوى ، وإذا رأى انحرافا صاح به ليستقيم . إنه فى المجتمع جرس الخطر يدق من تلقاء نفسه كلما عرض لتعاليم الإسلام ما يعكر صفوها ويعوق انطلاقها ... والأمة الإسلامية فقيرة جدا إلى ذلكم النوع من الدعاة الأيقاظ الذين يحيون لتبليغ الرسالة نظريا ، ومراقبة تنفيذها عمليا . نعم إن أيديهم قد تكون عاطلة من أسباب التغيير لأى منكر ينجم . ولكن ألسنتهم فى حلوقهم سوف تكون صوت عذاب إن لم تكن صوت إنذار لأولئك الذين يجورون على حدود الله . وصلة الدعاة بالحاكمين تتطلب زيادة من إيضاح . إن الداعية ديدبان غيور على الدين وإن افترقت عنه سياسة الحاكمين . ومن ثم فإن أى رباط يصله بالجائرين لن يكون إلا خيانة لقضايا الإيمان . وللحسن البصرى موقف ينبغى أن نلقى عليه قليلا من الضوء لخطورة دلالته . فقد قال الشيخ "على محفوظ " : لولا لسان " الحسن " وسيف " الحجاج " لوئدت الدولة المروانية فى مهدها . ألم تر إلى " الحسن " وقد جلست بين يديه صفوف من الناس يصغون إليه وهو يخرج بهم فى أساليب الكلام من باب إلى باب ثم يقول لهم فيما يحدثهم به : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا الولاة فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليكم الشكر ، وان أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر ، وإنما هم نقمة ينتقم الله بهم ممن يشاء فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب ، واستقبلوها بالاستكانة والتضرع " . وفى أزمة مالية اشتد كرب الناس لها وذهبوا يستفتونه فى حلها ، فقال لهم : غلا السعر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال الناس: يا رسول الله ألا تسعر لنا ؟ فقال : " إن الله هو المسعر ، إن الله هو القابض ، إن الله هو الباسط وإنى(1/138)
والله ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه " . ص _145
بهذا وأمثاله كان يزرع هيبة الملوك والولاة فى صدور الناس ، وبهذا وأمثاله كان يبعث الرضا فى أفئدتهم عن الحكم القائم . أقول : وهذا الكلام يؤخذ به الحسن ولا يؤخذ عنه ، وهو لأول وهلة يشينه ولا يزينه ، فإن الأزمات الاقتصادية إذا أخذت بخناق الجماهير وتطلعت إلى حل يفك حلقاتها وكان فى التسعير ما يحد جشع التجار ، وينقذ جمهرة الناس ، لم يَسُغْ أن يقال لهم : حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم التسعير . إن التسعير إجراء لا تطيقه الحياة المعتادة . ولكنه ـ فى إبان الحروب والنوازل ـ ضرورة يطالب بها الحاكم ولا يعذر فيها. ذلك ... وسياسة معاملة الولاة ـ كما يحكيها الحسن ـ لا تصور الحقيقة الدينية. بل هى ـ فى ظاهرها القريب ـ تنافى الإسلام ، وتهدم قواعد الحرية والعدالة التى شرعها وأخضع لها أعناق الحاكمين . وأين هذا الكلام الذى يقوله " الحسن" فى ترضية الناس بولاية " بنى مروان" من قول " عمر بن الخطاب " فى خطبته بالجابية : " أيها الناس : اقرءوا القرآن تعرفوا به ، واعملوا به تكونوا من أهله . إنه لن يبلغ ذو حق فى حقه أن يطاع فى معصية الله . ألا إنه لن يُبَعِّد من رزق الله ولن يقرب من أجل الله أن يقول المرء حقا ، وأن يُذكر بعظيم . ألا وإنى ما وجدت صلاح ما ولانى الله إلا بثلاث : أداء الأمانة ، والأخذ بالقوة ، والحكم بما أنزل الله . ألا وإنى ما وجدت صلاة هذا الحال إلا بثلاث : أن يُؤخذ من حق ، ويُعطى فى حق ، ويُمنع من باطل . ص _146(1/139)
ألا وإنما أنا فى مالكم هذا كولىِّ اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ... " . ذلك وكتب إلى أبى موسى الأشعرى : " أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركنى وإياك عمياء مجهولة وضغائن محموله . أقم الحدود ولو ساعة من نهار . وإذا عرض لك أمران : أحدهما لله والآخرة للدنيا ، فآثر نصيبك من الله . فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى . وأخيفوا الفساق واجعلوهم يدا يدا ، ورجلا رجلا . وعُدّ مرضى المسلمين ، واشهد جنائزهم ، وافتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك ، فإنما أنت رجل منهم ، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا . وقد بلغنى أنه قد فشا لك ولأهل بيتك هيئة فى لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها . فإياك يا " عبد الله " أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصيب فلم يكن لها هم إلا السمن وإنما حتفها فى السمن . واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته ، وأشقى الناس من شقى الناس به والسلام " . وقال العتبى : بُعث إلى "عمر" بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوب ، فصعد المنبر وعليه حلة مضاعفة " ثوبان " فقال : أيها الناس ، ألا تسمعون ...؟ فقال " سلمان " : لا نسمع ، قال : ولم يا أبا عبد الله ؟ قال : لأنك قسمت علينا ثوبا ثوبا وعليك حلة ، قال : لا تعجل يا أبا عبد الله . ثم نادى يا عبد الله ... فلم يجبه أحد ... فقال : يا عبد الله بن عمر .. قال : لبيك يا أمير المؤمنين. ص _147(1/140)
قال : نشدتك بالله... الثوب الذى اتزرتُ به هو ثوبك ؟ قال : اللهم نعم . فقال سلمان رضى الله عنه : أما الآن … فقل نسمع . * * * وقد عجبنا من هذا الكلام المنسوب للحسن البصرى ، وتدبرنا طويلا لنعرف بواعثه ، فرأينا أن " الحسن " جاء فى أعقاب فتن مُدلهمة قسمت المسلمين طوائف يضرب بعضها عنق بعض ، وأن هذه الفتوق فى كيان الدولة الإسلامية يخشى ـ لو بقيت ـ أن تطيح بالإسلام حكومة وشعبا ، وأن انصراف الناس إلى حديثها ومرائها كاد ينسيهم روح الإيمان ، وشعائر التقوى . لذلك اتجه الرجل إلى جمع العامة على صلاح القلوب ورقابة الآخرة ، مؤثرا أن يطمئن الحاكم من ناحيته بترك الكلام فى سيرته وترك التعرض لسياسته ، راجيا بذلك أن يدعه الحاكم يعلم الناس الدين ويبصرهم بشرائعه وأحكامه . ونحن ـ من التجارب التى أفدناها ـ نعرف موقف " الحسن البصرى" على حقيقته ، ونحب أن ننصف الرجل . فقد جاء فى أعقاب الفتنة الكبرى ، وبدأ نشاطه الدينى فى ظروف صعبة . جاء بعد هزيمة " على بن أبى طالب " المؤيد من جمهرة الأمة ، وحامل لواء الحق فى ذلكم الصراع الأسيف . ولم تكن هزيمة أمير المؤمنين محدودة النتائج ، إذ آل بعده الأمر إلى قلة ليست له بأهل ، كما أصيبت القيم الدينية نفسها إصابة جسيمة ، وبدا للناس أن المثل العليا لا مكان لها فى ميادين الحياة ، وأن الالتحاق بالركب السائر لن يستطيعه إلا من يفر من مقتضيات الإيمان والخلق . وعلاج هذه الحال المنكرة وقع عبؤه على أمثال الحسن البصرى من العلماء الذين حرصوا على صبغ المجتمع العام بالتعاليم الإسلامية ، وتمسيك الأمة بمُثلها كلها ، وغرس الوفاء للحق فى حاضرها ومستقبلها ... على أن يتحروا نهجا من التربية ص _148(1/141)
المحايدة الدقيقة لا يعرضهم لصدام من الحكام المتغلبين على الأمر ، ولا يدفع هؤلاء المتسلطين على الأمة إلى فض تلك المجامع وتعطيل هذه الدروس .. وهنا يبدو ما كان يعانيه " الحسن " وأمثاله من حرج وما يعرو كلامهم حينا من اضطراب فرغبتهم فى خدمة الإسلام وصيانة تراثه توجب عليهم الكلام الكثير . ومحاولتهم طمأنة ذوى السلطة ـ ليتركوهم وما فرغوا أنفسهم له ـ توجب عليهم الإغضاء ، أو التجاوز ، أو الاحتيال ، لا حرصا على حياتهم الخاصة بل حرصا على منار الإسلام الذى رفعوه . فمن يدرى ربما يعم الظلام لو ذهبوا وذهب معهم ..؟ ذاك ما يمكن الاعتذار به عن كلمة " الحسن " . فإن تاريخ الرجل فى ميدان الوعظ والإرشاد والنصح العام حافل بالخير ملئ بالصالحات . * * * ونسأل أخيرا : هل هناك تاريخ للدعاة الذين ذكرنا طريقتهم ، وأوضحنا واجبهم وشرحنا فائدتهم للإسلام وأهله ؟ إنهم كثير فى ماضينا وحاضرنا ، بيد أنهم لا ينظمهم سجل ، ولا يضبط مآثرهم كتاب . . وما أحرانا وأجدرهم باستدراك هذا النقص . * * * ص _149(1/142)
من صفات الداعية للدعاة إلى الله أوصاف وآداب يمتازون بها عن سواد الناس . فهم نماذج جيدة لكل ما حوى الإسلام من تعاليم ، واستن من مكارم . والشمائل التى نحصيها الآن من أحوالهم وأفعالهم قد تبدو ـ لأول وهلة ـ نعوتا عامة تطرد فى جماهير المسلمين ولا يختص بها نفر من الناس . بيد أن هذه النعوت ـ وإن شاع جنسها أو ثبت أصلها لعامة المؤمنين ـ فإن أنصبة الدعاة من معناها يجب أن يكون أربى وأزكى . إن حقائق الدرس بعد أن يشرحها الأستاذ فى الصف قد تظهر متساوية لدى الجميع . وقد يظن أن التلامذة ومعلمهم أصبحوا سواء فى وعيها . وهذا بعيد ، فإن الأستاذ لديه من رسوخ المعلومات ووضوحها ، ومن القدرة على تقليبها وعرضها ما يعز على غيره . والناس قد يوجد فيهم فريق كبير ممتلئ القلب بالإيمان . بيد أن هذا الامتلاء ربما لا يعدو أصحابه . والإناء ـ لكى يرشح على ما حوله ـ يجب أن يفيض ، وأن ينزل فيه ما يزيد على سعته وما ينسكب من جوانبه . ونفوس " الدعاة " كذلك لابد أن يكون لديها مقادير من اليقين ، والحماس ، والفضل ، يتجاوزها إلى ما عداها ويجعل الاستفادة منها ميسرة للآخرين .. فإذا قلنا : على الداعية أن يعرف ربه ، فلسنا نعنى المعرفة العامة التى مكلف إياها كل مؤمن . بل نعنى مزيدا من المعرفة ، يجعل صاحبه أنور قلبا ، وأرحب فقها ، وأدوم استحضارا ، وأنضر استذكارا . وعلى هذا الأساس نحصى ما يجب أن يتخلق به الدعاة من أوصاف وآداب: 1ـ الصلة بالله ، وتلك هى الدعامة الأولى فى أخلاق " الدعاة " . إذ كيف تدعو الناس إلى أحد ، صِلاتُكَ به واهية ، ومعرفتك له قليلة ؟ ص _150(1/143)
إن الذين يدعون إلى مرشح من المرشحين أو إلى مبدأ من المبادىء لابد أن تكون أواصرهم بهذا الشخص أو بذلك المبدأ قائمة . ومن ثم لا يفهم بتة أن يتصدى أحد للدعوة إلى الله والأخذ بصراطه ، وهو لا يعرف الله ولا يدرى صراطه ..!! ولذلك يقول الله جل شأنه : (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا). وقد عَرَّف الله نفسه إلى خلقه فى آيات بينات استفاض بها الكتاب العزيز ، وفى كلمات نفيسة زخر بها تراث النبوة . والناس يتفاوتون فى مدى استيعابهم وفقههم لهذه المأثورات المشرقة بنور الله .. والدعاة ـ بداهة ـ أجل المؤمنين نصيبا من هذا النور .. والمهم أن ندرك طبيعة هذه الصلة الإلهية ، إنها روح ينفث الحياة ، وينبض بالحركة والقوة ، ويشيع الضوء والدفء . (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). وهذه الصلة تشمل فى موكبها أرقى ما فى الحياة ، وأكفل أسباب النجاة ، ولذلك يرفض الإسلام أى مقارنة تسويها بغيرها . (وما يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، وما يستوي الأحياء ولا الأموات). وحق على الدعاة ـ وذلك مكانهم العتيد ـ ألا يهنوا فى الحياة وألا يهونوا. وألا يعدلوا بنسبتهم إلى الله شيئا . وأن ينظروا إلى الحياة على أنهم أكبر منها . ص _151(1/144)
وأن تغلب رؤيتهم لله كل ما يملأ العين فى زحام الأحياء وتكاثرهم . * * * إن وعى الناس للحقائق المبعثرة حولهم يختلف اختلافا كبيرا . وقد قال علماء النفس : إن المرء ربما استغرقته حالات انتباه موقوت . وربما مرت الأشياء فى ذهنه ببؤرة الشعور ، وقد يضعف الإحساس بها قليلا حين تنزل إلى حاشية الشعور . وفى حالات التعود يعالج الإنسان أمورا كثيرة ، ويتم أفعالا شتى ، وهو ذاهل عنها . ويكاد لا يدرى كيف قطع أشواطها ، وذاك ما يسمونه " شبه الشعور" . لكن ما الذى يشعر به هذا أو ذاك ؟ إن وظائف البشر فى الحياة هى التى تحدد نوع هذا الشعور ودرجته . ولما كان العباد قاطبة مكلفين أن يعرفوا ربهم . وأن يؤدوا له حقوقا معينة ، فإن شعورهم به وبحقه ، يخالط أعمالهم وأحوالهم ، وينزل من نفوسهم منازل بعيدة التفاوت . . وأغلب العامة يقيمون الصلاة مثلا ، والمسيطر على أنفسهم هو ما يقارن كل عادة مأنوسة وكل طريقة مدروسة .. أى شبه الشعور !! لا الوعى الكامل ، ولا القريب من الكمال . وقد تتألق فى حيوات الناس لحظات ذكر يقظ ، وإنابة مخلصة ، ثم يستأنفون مسيرهم فى دنياهم ، وتعفر جبينهم متاعبها ومآربها . . فهل صلة الدعاة بربهم من هذا القبيل ؟ لا . . لا . . إن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله ، ولدفع الناس إلى سبيله ، لابد أن يكون شعورهم بالله أعمق ، وارتباطهم به أوثق ، وشغلهم به أدوم ورقابتهم له أوضح . أى إنهم إن هبطوا من مجال الضوء المشرق . . فإلى قريب منه . . إلى منطقة شبه الظل كما يقال . أما إذا سقطوا فى عتمة ، فإن ذلك أمر لا تتحمله وظيفتهم . ص _152(1/145)
ومن ثم فهيهات أن يعرضوا له ، أو أن يرضوا به إذا زلوا فيه . . وعرفانهم بالله يلزمهم شاطئ الأمان إذا كان كثير من الناس يغرق فى لجج هذه الدنيا أو تطويه فى سبحها الشاق عواطف الرغبة والرهبة . . وهنا يجب أن أؤكد حقيقة هى ألزم ما تكون للدعاة . فإن قوانين اللذة والألم تسرى على الناس قاطبة ، وتجعلهم يرغبون ويرهبون ببواعث لا حصر لها . وأولى ثمرات الإيمان تهذيب هذه الطبيعة وكبح جماحها . والمفروض أن الداعية العارف بالله قد بلغ من منازل الإيمان منزلة تجعل رجاءه فى الله وحده يسبق كل رغبة إلى مخلوق ، كما تجعل خشيته لله أسرع إلى فؤاده من أى رهبة تخامر نفسه أمام ذى سلطان . إن ابن الرومى ـ شأن كثير من الشعراء فى الزمان الماضى ، وكثير من الصحافيين فى زماننا هذا ـ تعرض بمدح ذوى الجاه لاكتساب جوائزهم . فاسمع إليه وهو يقص هذه التجربة مع أحدهم : ظُلمت حاجتى فلاذت بحقويك فأسلمتها لكف القضاء وقضاء الإله أحوط للناس من الأمهات والآباء غير أن اليقين أمسى مريضا مرضا باطنا شديد الخفاء لو يصح اليقين ما رغب الراغب إلا إلى مليك السماء وعسير بلوغ هاتيك جداً تلك عليا منازل الأنبياء وأخطأ ذلك الشاعر حين وصف توحيد الله فى الرغبة والرهبة بأنه عسير . إن ذلك سهل على كل من نور الله قلبه ، وسدد فى الحياة خطوه . وهو خلق لا يجوز أن ينفك عنه داعية إلى الله . ومن الصلة بالله إعزاز كتابه ، وإدمان تلاوته ، وتدبر معانيه ، وعقد مقارنة مستمرة بين المثل التى يحدو العالم إليها ، والواقع الذى ثوى الناس فيه ، لتكون هذه المقارنة حافزا على تذكير الناس بالحق ، وقيادتهم إلى الله ، وتأهيلهم لرضوانه . وقرب الداعية من كتاب الله يجب أن يكون متعة لروحه ، وسكنا لفؤاده ، وشعاعا لعقله ، ووقودا لحركته ، ومرقاة لدرجته . ص _153(1/146)
وانظر إلى هذا الدعاء يتزلف به النبى صلى الله عليه وسلم إلى ربه ، ويطلب إليه أن يوثق أواصره بكتابه : " اللهم أنا عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك ، وفى قبضتك ، ناصيتى بيدك ، ماض فى حكمك ، عدل فى قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته فى كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به فى مكنون الغيب عندك ، أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبى ، وضياء بصرى ، وذهاب حزنى ، وجلاء همى وغمى " . * * * 2ـ إصلاح النفس .. وهذا جهد لا ينفك عنه مسلم ، وهو بالدعاة ألصق . ولعل أولى هدايا الصلة الحسنة بالله أن يعرف المرء نفسه ، وأن تنكشف له نواحيها جميعا فلا يؤتى من ناحية يجهلها . أما الذين نسوا ربهم فهم فى عماء من أمر أنفسهم ، يخبطون فى الحياة خبط عشواء وينساقون على غير هدى . (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) . والداعية المشتغل بهداية الناس إنما يفعل ذلك على ضوء من إصلاحه لنفسه هو. فإذا أراد فطام العامة عن رذيلة البخل مثلا ، عالج أولا شح نفسه ، وتعرف إلى المراتب التى تدرج فيها والوسائل التى اصطحبها ـ وهو يستأصل من نفسه هذه الطبيعة ـ أو بتعبير أدق : وهو يكفكف شرها ويتوقى ضيقها . حتى إذا عرف ـ عن خبرة خاصة ـ ما الذى صنع بنفسه ؟ فإنه سوف يعرف ـ بصدق وقوة ـ ما يقول للناس ، وسوف يصل بكلماته ـ والحالة هذه ـ إلى صميم نفوسهم . إن نفس الداعية ، ينبغى أن تكون حقل تجارب . ومن النتائج المستفادة يعرف أفضل البذور ، وأنسب الأوقات ، وأجدى الأساليب. ومن صدق الداعية مع ربه ـ فى أخذ نفسه ابتداء بكل إصلاح ـ يكون مدى ما يصيب من توفيق فى عمله مع الناس . ومن أعجب النقائض فى دين الله ودنيا الناس : أن هناك نفرا ممن يتسمون ص _154(1/147)
بالدعاة يحسبون أن ما يقولون لغيرهم من علم إنما هو أمر يخص الخاطبين فحسب وقد يعنى الناس أجمعين إلا إياهم . إنهم نقلة فحسب ، إنهم " أشرطة مسجلة " أو " أسطوانات معبأة " تدور بعض الوقت ليستمع الناس إليها وهى تهرف بما لا تعرف ، ثم تودع أماكنها لتدار مرة أخرى إذا احتيج إليها . إن هذا الجماد الذى أنطقه الذكاء الإنسانى هو صورة للجماد الذى أنطقه الاحتراف ، أو للإنسان الكذوب الذى ينصح الجمهور بأمور هو أبعد ما يكون عنها ، وينفرهم من أشياء هو أقرب ما يكون للوقوع فيها . والدعاة الذين يَحْيَوْن على ذلك النحو المتناقض هم آفة الإيمان ، وسقام الحياة . وهم الثقل الذى يهوى بالمثل العليا ويمرغها فى الأوحال . والغضب الإلهى لا ينصب بعنف وقساوة على مرتكبى الخطايا بجهالة . إنه ينصب على أولئك الذين يقترفون الدنايا وهم يعلمون ، أو الذين يقترفونها وهم ينفِّرُون منها الآخرين . وذاك سر تشبيههم تارة بأنهم حمير ، وطورا بأنهم كلاب . ولم يوصمون بهذه الألقاب الشائنة ؟ ذلك أنهم تكذيب عملى للكلام الذى يلقون ، والمبدأ الذى إليه ينتمون . إنهم بمسلكهم دليل على أن الشهوة تغلب العقل ، والهوى يهزم الرشد . أى إنهم عذر قائم بين يدى كل مقصر ، وإياس من الصلاح الحق أمام بغاته من السامعين والمطلعين. وكثير من هؤلاء المنتسبين إلى الدين بألسنتهم ، الخارجين عليه بأعمالهم ، من يلون الدين برغبته ويمزج تعاليمه بشهوته . فهو ـ أولا ـ يتعرف ما يشتهى ، فإذا حدده ألبسه ثوب الدين ، وربما أقنع نفسه بأن شهوته هذه حق محض ، ثم سعى إلى بلوغها ، وكأنما هو يؤدى عبادة ولا يشبع نهمه ! وقد يقاتل دونها وهو يزعم أنما يقاتل عن دين . إن هذا الفساد المعقد عند نفر من الدعاة لعنة ماحقة ، وذاك سر تناولهم بأقسى عبارة : ص _155(1/148)
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ، ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) . إن الرجل القذر البدن لا يغنى عنه أن يحمل بين يديه قطع الصابون . والكريه الرائحة لا يجديه أن يرى ومعه زجاجات من العطور . ودعاة الدين الذين تهب من سيرتهم سموم حارقة ، إنما هم عار على الدين وصد عن سبيله . وقد عاب الله على أحبار اليهود أنهم كانوا دواب ناقلة لكتب العلم لا بشرا كراما يحسنون الإفادة مما معهم : (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) . والمراد من الدعاة المسلمين أن يتحسسوا أنفسهم ، وأن يداووا ما قد يكون بها من علل ، تلك العلل التى تشيع بين من لم يرزقوا العصمة ، والتى يستحيل أن نخلو منها يوما . فإن المرء يولد وفيه الطباع ما يستدعى دوام اليقظة وطول المعالجة . ثم تعرض له فى حياته عادات شتى ، الرديء فيها أكثر من الطيب . ثم أن له من رعيته الخاصة من يسأل أمام الله عنهم ، ومن يتأسى الناس بسيرته فيهم . فكيف يغفل عن واجباته فى هذه الأنحاء كلها ؟ إن سهره لى خاصة نفسه وأهله أمر لا محيص عنه كى تثمر دعوته وتحمد طريقته. 3ـ دقة الفهم للدين والدنيا . والداعية الحصيف رجل يُشخص العلة التى أمامه ويهىء لها الشفاء المناسب من كلام الله ورسوله . ص _156(1/149)
وبذلك يجىء نصحه طبا للمريض ، ورحمة تذهب عناءه ، ونورا يهديه السبيل . والقدرة على هذا الأسلوب لا يلقاها إلا من استجمع : 1ـ ثروة طائلة من نصوص الكتاب والسنة تكون رصيدا عنده لأى داء وافد أو مرض عارض . 2ـ إحاطة تامة بطبيعة البيئة ، وأحوالها الجلية والخفية ، وظروفها القريبة والبعيدة. فإن الداعية الحكيم هو الذى يبلغ رسالته بتلك الطريقة . فيسوق من الوحى الإلهى ما يقوم العوج الإنسانى بلباقة وفقه . ويرسل من العظات ما يكون دواء حاسما لما يحسه الناس فى أنفسهم من حيرة واضطراب . وذلك هو نهج القرآن فى بناء الأمم وإقامة النهضات . لقد نزل منجما حسب الحوادث ، لم ينزل جملة واحدة . بل وافقت كل طائفة من الآيات حالة تتطلبها كما يتطلب الظمأ الرى . وعلى الداعية أن يدرس جيدا تواريخ النزول وأسبابه ، والملابسات التى قيلت فيها ألوف الأحاديث . وأن يحسن ترتيب هذه الهدايات السماوية الجليلة بحيث توافق الأوضاع التى تصلح لها أتم الموافقة . وهذه هي سياسة الدعوة ، أو هذه الحكمة فى علاج الأمور باسم الله ، وقليل من الدعاة من يُلهَمُها . (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب) . من أئمة المساجد من يحفظ بعض الخطب ثم يلقيها على مستمعيه دون اكتراث بشئونهم . ومن الوعاظ من يحشد أطايب الكلام وجواهر الألفاظ ، ثم يبعثرها على الجمهور فى درس أو محاضرة . ص _157(1/150)
ومنهم من يخلط بين عدة موضوعات ، ويتصيد من هنا ومن هناك كلاما كثيرا لا رباط بين أجزائه إلا أنه كلام فى الدين يعرض على الناس هذا العرض المهوش. والعلة أن فى ذهن الرجل معلومات قليلة أو كثيرة يمتلىء بها حينا ثم يفرغها .. وحسب . وليس هذا دعاء إلى الله ، إنما هو بين أصحابه ـ سباق فى إلقاء المحفوظات..! وهناك قوم آخرون على النقيض ممن ذكرنا . تمر بهم الأحداث الخطيرة وتواجههم المناسبات الهامة ، فيلقونها بكلام غث ، ومشاعر باردة . ذلك أنهم فقراء أشد الفقر فى معرفة الكتاب والسنة وسير السلف الصالحين . إنهم لا يدرون ما يقال ، لأنه ليس لديهم ما يقولونه . ولست أدرى كيف يتعرض لإمامة الناس ووعظهم رجل قصير الباع فى الدراسات الإسلامية ؟ كل ما يستظهره من كتاب الله بضع آيات وسور . وكل ما يعيه من سنة الرسول جملة من الأحاديث لا تسد جوع المجتمع إلى فنون التوجيه وألوان النصح .. وكثير من المشتغلين بالدعوة الإسلامية مصابون بهذا العوز الفظيع . ظاهرهم أنهم يحملون الإسلام فى حناياهم . والواقع أن الإسلام هو الذى يحمل عبئهم ، ويتحامل على نفسه وهو يسير بهم فى متاهات الحياة ودروبها . * * * وقد نشأت من قصر النظر إلى علل المجتمع ، وقلة الزاد من هدايات السماء ، مفارقات تستدعى العجب . فهذا واعظ يدخل إحدى القرى البائسة ليحدث أهلها المستوحشين عن آفات الرياء ! وهذا آخر يخطب فى المدن عن جرائم القتل والأخذ بالثأر .. وفى الذهن الفقير تتمدد المعلومات القليلة وتصبح كل شىء . * سمعت رجلا يُجرى على لسانه هذه الكلمات لابن عطاء الله السكندرى : ص _158(1/151)
" سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار" ، " ادفن نفسك فى أرض الخمول ".. إلخ فكرهت هذا الكلام ، وأنكرت سياقه . إن الجملة الأولى تقال لفرد من الناس ملكه جنون القوة ، واستحوذ عليه الاعتداد بنفسه ، فبنى خطته على أنه إذا أراد فعل ، وإذا عزم فعلى المردة والأملاك جميعا أن يذعنوا له . ومن ثم فهو لا يتصور أن يردع همه أو يغلبه أحد فى الأرض والسماء على أمره. هذه الكلمة حق داخل هذا النطاق وحده . وهى ـ خارج هذا النطاق ـ لا عمل لها ولا مكان . ولذلك أنكرت أن تجرى على لسان خطيب فى مجتمعنا الذى تجتاحه أزمات متعاقبة من ضعف الهمم وخور العزيمة .. وكذلك كلمة (ادفن نفسك) إنها لمغرور يريد أن ينضج قبل أوانه ، ولمفتون بحب الظهور ، ينخدع بالقشر عن اللب . وليس لها مكان فى أمة ألح عليها العجز ، فهى ما تنهض حتى تتعثر . وسوء الاستشهاد كما يقع فى هذه الحكم المجلوبة كرها ، يقع فى كتاب الله وأحاديث الرسول . فترى بليد الفهم من هؤلاء يجىء بالأثر ، هو فى نفسه حق ، ولكنه فيما ضُرب له وقُص من أجله بعيد بعيد . وعندى أن هذا ضرب من تحريف الكلم عن مواضعه . أرأيت إذا انطلق رجل طيب أمين ، إلى قوم أغرار يحرص على وعظهم ، ويتعشق هدايتهم ، أفيليق أن تثنيه عن مراده بقول الله : (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ..)؟ إن سوق الآية هنا خطأ ، فمجال الآية الوحيد ، هو المجال الفذ الذى نزلت فيه ، أعنى تسلية الداعى الذى تعب ونصب وهو يحاول إرشاد شخص عنيد دون جدوى. ص _159(1/152)
أرأيت هذه الألوف المؤلفة من العوام المتواكلين ، الذين يجرون أقدامهم على الأرض فى كسل واسترخاء ، وينظرون إلى السماء فى بلاهة وغباء ؟ هل أولئك الموتى هم الذين يقال لهم : (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) ؟ إن سوق الآية هنا خطأ . ومجالها الوحيد الذى تعمل فيه، هو بين قوم انتشوا من الحياة الدنيا حتى سكروا. قوم أبطرهم الغنى ، وأغواهم التشبع ، وحجب أبصارهم عن الحقائق العليا ، فهم مشغولون بحاضرهم عن أخرتهم ، مذهولون بأنفسهم عن ربهم . إن الآية إنقاذ لقوم يكادون يغرقون فى النعيم . فكيف توجه لأقوام يكادون يهلكون عطشا إلى ضرورات الحياة الدنيا ؟!! * * * ومُصاب الإسلام فى أعصار كثيرة ، وفى هذا العصر خاصة ، يجىء من الدعاة الذين يعجزون عن الموازنة بين شتى تعاليمه . إما لشلل فى مداركهم يمنعهم من الاتزان و إحسان الفهم والاقتباس والتوجيه ، أو لنقص فى ثروتهم العلمية ، فهم يحفظون شيئا وتغيب عنهم أشياء . ومنذ بضع مئات من السنين سقط المجتمع الإسلامى كله فريسة لعصابات من المتصوفة ، هونت لديه العمل للدنيا باسم الإقبال على الآخرة . فكانت عُقبى هذا التوجيه الضال دمارا أصاب المسلمين فى كيانهم العلمى والعسكرى والسياسى . إن الإقبال على الآخرة حق . ومن ذا الذى يجرؤ على تهوين الآخرة أو يغض من الاستعداد لها ؟؟ غير أن الطريق إلى ذلك ليس بالانصراف عن الدنيا ـ كما يفهم الكسالى وأهل البلادة ـ بل بامتلاك الدنيا وتسخيرها لله . إن أى تاجر مسلم على عهد رسول الله كان كأى تاجر وثنى أو نصرانى أو يهودى نشاطا وذكاء وضربا فى الأرض وبصرا بالسوق وطلبا للربح . ص _160(1/153)
كل ما هنالك من فرق أن غير المسلم قد يكرس مكاسبه لنفسه وعاجلته ، أما المسلم فهو يدخر لآخرته ـ قليلا أو كثيرا ـ من سعيه . ولم يفهم فقيه فى المستقدمين والمستأخرين أن التدين يكسر نية التكسب أو يضعف الخطو فى ميدان الكدح والارتزاق .. حتى ظهر أولئك الدعاة السفهاء ، فأخزوا الإسلام ، وأذلوا بنيه فى كل ميدان . إن الدعوة إلى الله تتطلب من المنتصب لها اطلاعا غزيرا على القرآن الكريم ، وعلى سيرة الرسول ، بوصفها التطبيق العملى الرشيد لروح القرآن ، ثم سير الخلفاء والأصحاب فى جهادهم المادى والأدبى لإرساء دعائم الإسلام وإبلاغ رسالات الله .. ولعل هذا القدر من دراسة العصر الأول يعطى صورة دقيقة عن تعاليم الإسلام فى ؟ كل شأن . فإذا استكمل الداعية هذا النصيب الواجب بقى عليه أن يدرس عالمه الذى يعيش فيه دراسة فحص واستقصاء ... أجل بقى عليه أن يكون ذا خبرة واعية بالميدان الذى سيعمل فيه ، حتى يدرك كيف يُصلح دنيا الناس بدين الله .. * * * ص _161(1/154)
الإخلاص الإخلاص روح الدين ولباب العبادة وأساس أى داع إلى الله . فإذا غاض هذا المعنى أو تضاءل لم يبق هنالك ما يستحق الاحترام لا فى الدنيا ولا فى الآخرة . فى أعمال الحياة المعتادة قد يكون الإخلاص شرطا لإتقانها وتجويدها وضمان ثمراتها . وهو إخلاص يعنى اطراح بعض المأرب الصغيرة واستهداف بعض المثل العالية . وقد ينفك هذا الشرط ويتعامل الناس بالمظاهر ويتجاوزون عما وراءها . ولكن فى ميدان الدين لا يرتفع عمل أبدا ما لم تصحبه نية صالحة ، وما لم يقترن بإرادة وجه الله وحده . بل إن التدين الذى تكتنفه الأهواء ضرب من العوج النفسى والالتواء الخلقى يثير التقزز ويستدعى الاشمئزاز . والإخلاص فريضة على كل عابد ، وهو فى محرابه الخاص ، يتعامل مع ربه فحسب . فإذا اتصل الأمر بالدعاة فهو فريضة أكد ، وعقدة أوثق . واتساع نطاق العمل ، واشتباكه مع أحوال الناس ، ورضاهم وسخطهم وقوتهم وضعفهم يجعل الداعية أحرص على استدامة ذكر الله ومطالعة وجهه حتى لا يضل الغاية ولا يحيد عن النهج فى زحمة هذه الحياة . بيد أننا نلحظ ـ آسفين ـ أن ميدان الدعوة إلى الله غص بأقوام يجعلون وجه ربهم آخر ما يُرعى ويُرغب .! كأن الأمر لا يعدو أن يكون حرفة تدِرُّ ربحا قليلا أو كثيرا . وكأن الحرص لا يهيج إلا استدامة هذا الربح أو استزادته باسترضاء الرؤساء الذين يُجرونه ويملكون فى نظرهم ـ بسطه وقبضه . وقد رأينا الدعاة المحترفين ، يقومون بواجباتهم وليس يسيطر عليهم إلا تهيب مخالفة الرئيس أو تملق عواطفه . ومما يدعو للضحك أن أديبا كبيرا من مؤلفى الروايات الغربية ، أجرى على لسان ص _162(1/155)
البطل فى إحدى القصص ـ وكان يحتضر ، وأمامه القس يباشر مراسمه الدينية ـ أجرى على لسانه هذه الكلمات : أيها القس المحترم ، سأحدث رؤساءك بأنك أديت عملك بإتقان ، وأنك تستحق الترقية ! * وفى إحدى قرى الريف لوحظ أن إمام المسجد كان يصلى المغرب بآيتين من أواخر السور ، فإذا حضر العمدة الصلاة كان هذا الإمام يتحرى أن يصلى المغرب بسورتين كاملتين يجود قراءتهما فى الركعتين الجهريتين ، ولاشك أن هذا هو الرياء المحبط للأعمال . ودلالته الصارخة أن الرجل يصطنع من أجل الناس صلاة أطول وأجود . وأن الأمر لو وكل إلى صلته الخاصة بالله ، لكانت الصلاة أقل وزنا !! ومن يدرى لعله ـ لولا ضرورات العيش ـ ما صلى قط .! وفراغ الأفئدة من قصد الله ، وانتباهها إلى صلات الناس دليل على أن الإيمان دعوى مكذوبة . فكيف يُتصور من هؤلاء أن يُعَلِّموا الناس الإيمان ، وأن يدعوهم إلى الله ..؟؟ إن الداعية المرائى يقترف جريمة مزدوجة . إنه فى جبين الدين سبة متنقلة وآفة جائحة . وتقهقر الأديان فى حلبة الحياة يرجع إلى مسالك هؤلاء الأدعياء . وقد رويت آثار كثيرة تفضح سيرتهم وتكشف عقباهم . والذى يحصى ما أصاب قضايا الإيمان من انتكاسات على أيدى أدعياء التدين لا يستكثر ما أُعد لهم فى الآخرة من ويل . روى عن عدى بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " يؤمر يوم القيامة بناس من النار إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وما أعد الله لأهلها فيها نودوا أن اصرفوهم عنها فلا نصيب لهم فيها ، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها فيقولون : ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا الجنة " . وفى رواية : " قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك ، وما أعددت فيها لأوليائك لكان أهون علينا . قال: ذاك أردتُ بكم ، كنتم إذا خلوتم بارزتمونى ص _163(1/156)
بالعظائم و إذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ، تراؤون الناس بخلاف ما تعطونى من قلوبكم ، هبتم الناس ولم تهابونى . وأجللتم الناس ولم تجلونى ، وتركتم للناس ولم تتركوا لى ، اليوم أذيقكم أليم العذاب مع ما حرمتم من الثواب ". رواه الطبرانى فى الكبير و البيهقى . * * * إن اصطياد الدنيا بالدين مأساة عزت على الأساة وليس لها إلا الله . وقد نبه القرآن الكريم إلى أن نفرا من الذين يلبسون شارات الإيمان ، يصدون الناس عن الإيمان . وممن يتكلمون عن الله يأكلون باسمه أموال الناس سحتا . قال جل شأنه : (إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل و يصدون عن سبيل الله) . وهذا هو الذى جعل الشاعر " أحمد الزين " يرفع عقيرته بهذه الأبيات : ودعى فى الدين والدين يشكو فعلات كالكفر منه لعينه نال ما يشتهى من الجاه باسم الدين زورا فى الأمة المسكينة هو فيهم كالذئب بين دجاج أو شياه يختار منها السمينة فقد الدين واليقين وصار المال والجاه دينه ويقينه اتخذ الإفك والتملق دينا فجميع الأديان تلعن دينه * * * وضعف الإخلاص يعود إلى قلة المعرفة بالله ، أو إلى سوء الظن به . وإن كان ضعفاء الإخلاص لا يعترفون بشىء من هذا . ولعلهم يزعمون لأنفسهم معرفة لا تسبق ، وظنا لا يفضل . أترى إلى هذا الأعرابى الجلف الذى شاء أن يعلم رسول الله التقوى والعدالة ؟ والذى علق على قسمته للغنائم بقوله ؟ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله..! ! ؟ إنه شخص تذرع بما زعم من إيمان لينفس عن طبيعة مملوءة بالسفاهة والتطاول والحقد . ص _164(1/157)
فهو يصب جاهليته فى قالب من المحافظة على المثل العليا ، ليبدو أمام الناس كبيرا وهو فى حقيقته صغير . ثم هو قد تكلف الإيمان رداء يوارى سوءته لأن الإيمان هو " النقد " الرائج فى هذه الجماعة الناهضة . ولو أن هناك عوضا آخر مكانه من أى مبدأ ، أو أى منهج لما تردد فى اعتناق هذا العوض والأخذ به . فالأمر عنده ليس دينا يُتبع ، وتستضيء به النفس ، وتنزل على أحكامه . وإنما الهم الأول والآخر هو انطلاق هذه النفس لإشباع دنياها ومآربها فى ظل الدين إن وجد ، وفى ظل غيره إن عرض ..!! والأدعياء فى ميدان الدين مصيبة جسيمة ، تنكب بها تعاليم الدين ، وتضطرب حالته ، وتنكس رايته . عن علىّ رضى الله عنه أنه ذكر فتنا تكون فى آخر الزمان ، فقال له عمر : متى ذلك يا علىّ ؟ قال : إذا تُفقه لغير الدين ، وتُعلم العلم لغير العمل ، والتمست الدنيا بعمل الآخرة . رواه عبد الرازق أيضا فى كتابه موقوفا . وهناك حديث ابن عباس المرفوع وفيه : " ورجل آتاه الله علما فبخل به عن عباد الله ، وأخذ عليه طمعا ، وشرى به ثمنا ، فذلك يلجم يوم القيامة بلجام من نار ، وينادى مناد : هذا الذى أتاه الله علما فبخل به عن عباد الله وأخذ عليه طمعا واشترى به ثمنا ويظل كذلك حتى يفرغ الحساب " . ولا نحب أن نشتط مع الخيال حين نبحث فى بواعث العمل وننشد خلوصه لله وحده . فإن التعامل مع البشر يقتضى الاعتراف بمطلبهم ، ورغائبهم ، وميز ما يحمد منها وما يعاب . الناس ـ وبينهم الدعاة ـ يشتهون الدنيا ، ويستهويهم متاع الحياة . فإن الله غرس ذلك فى طبائعنا ، وقال ـ واصفا ذلك فى كتابه -: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ..). ص _165(1/158)
والناس ـ وبينهم الدعاة يحيون فى جماعات تستشرف للتقدم والمكاثرة وتغريها أسباب المنافسة والانتصار ، وتتبعها حشود من الأهل والولد والأتباع . ولهذه الحالات آثار عميقة فى توجيه السلوك الإنسانى يمنة ويسرة . فذاك مصاب بجنون العظمة . وذاك بعُقدة الضعة . وذاك بكنز المال . وذاك بكره الآخرين . وذاك بعبادة الذات . وذاك لا يستطيع أن يحيا إلا ذنبا . وذاك لا يستطيع أن يكون إلا رأسا ... إلخ . وهذه العلل الكامنة عوامل فعالة فى انحراف النشاط الفردى والجماعى ، وقد تكون السبب الأوحد فى انهيار أمم وفناء حضارات ، بله القضاء على شخص أو الجور على نفر من الناس ..!! والدعاة إلى الله يجب ـ وسط هذه العواصف النفسية والتيارات القلبية ـ أن يأخذوا طريقهم إلى الله نقيا نظيفا . فليأخذوا نصيبهم من الدنيا دون تزيد ولا جشع ولا استشراف . فإذا كان ذلك على حساب ذرة من رسالتهم ، فليجعلوه دبر آذانهم ومواطىء أقدامهم . وليجعلوا علائقهم بالناس على قاعدة الحب فى الله والبغض فى الله .. فلا يؤثروا شاردا لقربه ، ولا يقصوا صالحا لوحشة منه وضيق به . وعلى الدعاة أن ينقبوا فى خبايا أنفسهم ، فلا يجعلوا للهوى سبيلا عليهم . هناك من ينقد الآخرين للتشفى ، وهناك من يحمدهم للصداقة . وهناك من يجسم الصغائر لفلان ويقف خطيبا ضده ، ومن يُغضى عن العظائم لفلان ويغلق فمه عنه .. وتلك جميعا أحوال يشينها الخبث ويشدها سوء القصد ، ولا شىء فيها لله جل شأنه . إن العمل الخالص الطيب ـ ولا يقبل الله إلا طيبا ـ هو الذى يقوم به صاحبه بدوافع اليقين المحض وابتغاء وجه الله ، دون اكتراث برضا أو سخط ، ودون تحر لإجابة رغبة أو كبح رغبة . ص _166(1/159)
وفى أصحاب هذا الإخلاص ، والمستمسكين بحبله يساق ذلكم الحديث الرقيق: عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضى الله عنه خرج إلى المسجد فوجد معاذا عند قبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبكى ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة. إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل مظلمة. ذلك ، والمرء قد تغلبه نفسه ، وتدس عليه أغراضا لا تليق به . وربما انساق ـ عن غير وعى - لمواطن تضطرب فيها النية ، ويختلط فيها التجرد بالأثرة . ولكى يعتصم الداعية من هذه اللوثات ، ويبرأ إلى الله من عقباها أرشده النبى صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إلى الله بهذا الدعاء : " اللهم إنى أعوذ بك من أن أشرك بك شيئا وأنا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه " . واقرأ هذه القصة . . حاصر " مسلمة " حصنا فندب الناس إلى نقب منه ، فما دخله أحد . فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم فنادى "مسلمة " أين صاحب النقب ؟ فما جاء أحد . فنادى : إنى قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتى ، فعزمت عليه إلا جاء . فجاء رجل فقال : استأذن لى على الأمير فقال له : أنت صاحب النقب ؟ قال : أنا أخبركم عنه ، فأتى " مسلمة " فأخبره عنه ، فأذن له فقال : إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثا : ألا تسودوا اسمه فى صحيفة إلى الخليفة . ولا تأمروا له بشىء . ولا تسألوه ممن هو . قال : فذاك له . قال : أنا هو . فكان "مسلمة" لا يصلى بعدها صلاة إلا قال : اللهم اجعلنى مع صاحب النقب ... * * * ص _167(1/160)
الشجاعة لعل أعتى الأعمال ، واملأها بالقدرة ، وأجرفها للعوائق ، ما استند إلى طباع الإنسان المادية ، أو رغائبه النفسية . إنه إذا هاجت فى دمه " غريزة الجنس " انطلق إلى إجابتها وهو مسحور بوحيها ، مدفوع بأزها لا يكاد يقفه شىء !! وإذا تاحت له فرص الحصول على أمنية حارة نشط من عقال ، وملكته قوة على النضال ، ومضى قدما فى طريقه يتوسل بالعنف ، أو بالحيلة ليبلغ غايته . إن الناس ينبعثون عن دوافعهم الخاصة ، كما تنبعث القذائف من مكامنها . ومن ثم تجد أغلب الوقود الذى تتحرك به الحياة منبجسا من أعماق الآثرة ، ومستمدا عرامه من تشبث البشر بأنفسهم وضرورات حياتهم وفهمهم الفردى لما يريدون ... وتقرير هذه الحقيقة لابد منه فى أى حديث يدور حول غرس الإيمان فى أرجاء العالم ، وتنزيل الناس على أحكامه ، وتعليقهم بقيمه ومثله . فإن البواعث الضعيفة لليقين لا تجدى شيئا أمام عصف النزوات المجتاحة. وإذا لم يفلح الإيمان فى تكوين أسس للخير ، قوية التيار ، غلابة النفوذ ، شديدة النفاذ ، فهو لن يكسب فى ميدان الحياة معركة . وإذا لم يكن الصالحون من وضوح النية وروعة السلوك وتألق السيرة ، على النحو المعجب البارز ، فهيهات أن يفوز بهم مبدأ ، أو تنجح بهم فضيلة أو تخذل أمامهم رذيلة . يجب ـ لكى ينتصر الطهر فى هذه الحياة ـ أن يكون فى نفوس أصحابه أبرز من العهر فى سيرة العاهرين . ولكى تسود العدالة فى الأرض يجب أن يتعلق بها سدنتها تعلقا أشد من اشتهاء الظلمة لظلمهم . وإذا كانت هناك نفوس ضربت على العسف ، وتوحشت به فى أعمالها حتى لكأنها سباع مفترسة فما يغنى فى صدها أن تلقاها فى زحام الحياة مقاومة مستأنسة ، أو براثن من حرير ..!! ص _168(1/161)
إن طبيعة الشر عنف المصدر ، وحدة المسير . ومقتضى ذلك أن يكون الإيمان قادرا على الظهور ، قادرا على الحركة ، قادرا على المقاومة ، شجاعا فى تصرفاته جميعا . ومن أجل ذلك كانت الشجاعة خلقا أصيلا فى الداعية إلى الله ، وشيمة لا تنفك عنه وهو يتقلب بين الناس ... مدد هذه الشجاعة الواجبة ، ونبعها الدافق ، أن حق الله لابد أن يسود ، وأن هداه لابد أن يعلو ، وأن منهجه لابد أن تتضح معالمه وترسو دعائمه ، وأن المنتسبين إليه ما ينبغى أن تخفت أصواتهم ، ولا أن يغلبوا على تعاليمهم ، وأن خصومهم فى هذه الأرض لا حظ لهم من مهابة ، ومهما عرض لهم من قوة فإنهم (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم). وقد ذكرنا آنفا أن جمهور الأمة الإسلامية مكلف أن يأمر بالمعروف وأن يحققه. مكلف أن ينهى عن المنكر وأن يغيره . مكلف أن يخاصم الآثام وأن يضيق بفعلتها . إن الأمة جمعاء مكلفة أن تكون شجاعة فى حماية الدين ، ورد العادين على حدوده من المجان والفجار . فإذا خذلتها قواها دون القيام بهذا العبء ، فقد تخفت أمام الله عن رسالتها ، وسقطت من عينه ، وحرمت من رعايته . " إذا رأيتم أمتى تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها " . ذاك حق الإسلام على أمته عامة . فأما حقه على الدعاة المنتصبين لحمايته المضطلعين برسالته فهو أثقل وأجل . على أولئك الدعاة أن يضاعفوا يقظاتهم وتضحياتهم ، وأن يكرسوا أوقاتهم وأفكارهم لتعرف حاجات الحق وإجابتها ، وتفقد مواطن الضعف فى أسواره وحمايتها ، وتحسس مظان الهجوم عليه لإحباط كل كيد ، وإرهاب كل خصم. الدعاة الموظفون لحراسة الإسلام هم جيش للدفاع عن الإيمان ، يشبه الجيش الموكل بحراسة الأمن . ص _169(1/162)
والعجب العاجب أن الجند المكلفين بحراسة الآمن قد يفقد بعضهم روحه وهو يطارد لصا ، أو يصاب بعاهة مؤلمة وهو يؤدي واجبه . ذاك فضلا عن السهر المستديم والجهد الموصول . أما جند الدعاة من أئمة ووعاظ ومرشدين فكأنما أخذوا عهدا على الدهر ألا يمسهم سوء . فهم يسمنون والدين ينحف ، ويراحون والدين مكدود ، ويعيشون متخاذلين على حين يتساند جيش الشيطان لبلوغ هدفه وإدراك أمله ... إذا لم يكن الداعية المسلم شجاعا ، مطيقا لأعباء رسالته ، سريعا إلى تلبية ندائها ، جريئا على المبطلين ، مغوارا فى ساحاتهم ، فخير له أن ينسحب من هذا المجال وألا يفضح الإسلام بتكلف مالا يحسن من شئونه . وهاك صورا للثبات على الحق والمجاهرة به و إبراز شاراته فى المجتمع دون تهيب أو وجل . بعض الصور للثبات على الحق والمجاهرة به : قام أعرابى بين يدى " سليمان بن عبد الملك " فقال : إنى مكلمك ـ يا أمير المؤمنين ـ بكلام فيه بعض الغلظة فاحتمله ـ إن كرهته ـ فإن وراءه ما تحبه إن قبلته . قال : هات يا أعرابى . قال : فإنى سأطلق لسانى بما خرست عنه الألسن من عظتك ، تأديه لحق الله وحق إمامتك . إنه قد اكتنفك رجال أساءوا لأنفسهم فابتاعوا دنياك بدينهم ، ورضاك بسخط ربهم .!! خافوك فى الله ولم يخافوا الله فيك ، فهم حرب للآخرة ، سلم للدنيا !!. فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه ... فإنهم لن يألوا الأمانة تضييعا ، والأمة عسفا وخسفا . وأنت مسئول عما اجترحوا ، وليسوا مسئولين عما اجترحت ، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك . فأعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره . قال سليمان : أما أنت يا أعرابى ، فقد سللت لسانك ، وهو أقطع سيفيك . فقال: أجل لك ـ يا أمير المؤمنين ـ لا عليك . * * * ص _170(1/163)
وقام أعرابى بين يدى "هشام بن عبد الملك" فقال : أنت على الناس سنون . أما الأولى فلحت ـ أزالت ـ اللحم . وأما الثانية فأكلت الشحم . وأما الثالثة فهاضت العظم ، وعندكم فضول أموال ، فإن كانت لله فقسموها بين عباده . وإن كانت لهم ففيما تحظر عنهم ؟ وإن كانت لكم فتصدقوا عليهم بها ، فإن الله يجزى المتصدقين . فأمر " هشام " بمال فقسم بين الناس ، وأمر للأعرابى بمال فقال : أكل المسلمين له مثل هذا ؟ قالوا : لا ، ولا يقوم بذلك بيت مال المسلمين . قال : فلا حاجة لى فى ما يبعث لائمة الناس على أمير المؤمنين . * * * * وقال أبو الدرداء : أضحكنى ثلاثة ، وأبكانى ثلاثة : أضحكنى مؤمل الدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه ، وضاحك ملء فيه ولا يدرى ، أراض الله عنه أم ساخط عليه ؟ وأبكانى فراق الأحبة : محمد وحزبه ، وهول المطلع ، والوقوف بين يدى الله يوم تبدو السرائر ، ثم لا أدرى أأصير إلى الجنة أو إلى النار ؟ * * * * وقال " سليمان بن عبد الملك " لأبى حازم : ما بالنا نكره الموت ؟ قال : لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة ، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب . * * * * وحُكى عن " العز بن عبد السلام " أنه أفتى مرة بشئ ثم ظهر له أنه أخطأ . فنادى فى مصر على نفسه : من أفتى له " ابن عبد السلام " بكذا فلا يعمل به فإنه أخطأ فيه . و إرسال المفتى المنادين يشهرون بفتواه على هذا النحو خلق عجيب ، ودلالة على أمانة فى العلم لا نظير لها . ولعلها استجابة لكلمة "عمر بن الخطاب " إلى " أبى موسى الأشعرى" حيث أرسل له كتابا يقول فيه : ص _171(1/164)
" ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهُديت لرشدك أن ترجع إلى الحق . فإن الحق لا يبطله شئ ، واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل " . * * * * وعدّد " معاوية " على الأحنف ذنوبا ، فقال الأحنف : يا أمير المؤمنين لم ترد الأمور على أعقابها ؟ أما والله ، إن القلوب التى أبغضناك بها لبين جوانحنا ، وإن السيوف التى قاتلناك بها لعلى عواتقنا . ولئن مددت لنا بشبر من غدر لنمدن إليك باعا من ختر . ولئن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك ... قال "معاوية " : فإنى فاعل . * * * * وحجب رجل عن باب السلطان فكتب إليه : نحن نعوذ بالله من المطامع الدنية ، والهمم القصيرة ، وابتذال الحرية ، فإن نفسى ـ والحمد لله أبية ـ ما سقطت وراء همة ، ولا خذلها صبر عند نازلة ، ولا استرقها طمع ولا طبعت على طبع . وقد رأيتك وليت عرضك من لا يصونه ووصلت ببابك من يشينه ، وجعلت ترجمان عقلك من يُكثر من أعدائك ويُنقص من أوليائك ، ويسئ العبارة عنك ، ويوجه وفد الذم إليك ، ويضغن قلوب إخوانك عليك ، إذ كان لا يعرف لشريف قدرا ولا لصديق منزلة . * * * * وما أجمل هذه الأبيات التى تصور لنا مواقف كريمة للبطولات المعجبة . قالت الخنساء : نُهينُ النفوسَ وَهَونُ النفوس يوم الكريهة أوقى لها وقال يزيد بن المهلب : تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسى حياة مثل أن أتقدما وقالت امرأة من بنى كندة : أبوا أن يفروا والقنا فى نحورهم ولم يرتقوا من خشية الموت سلما ولو أنهم فروا لكانوا أعزة ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما ص _172(1/165)
العلم والعلماء : قال ابن عباس : ذللت طالبا فعززت مطلوبا . وكان يقال : أول العلم الصمت ، والثانى الاستماع ، والثالث الحفظ ، والرابع العقل ، والخامس نشره . ويقال: إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. وقال " علىٌّ " كرم الله وجهه : لا يرجون عبد إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه ، ولا يستحى من لا يعلم أن يتعلم ، ولا تستحى إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : الله أعلم . واعلموا أن منزلة الصبر في الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان . * * * والشجاعة فى الجهر بالحق تنبعث من اجتماع خلقين عظيمين : أولهما : امتلاك الإنسان نفسه ، وانطلاقه من قيود الرغبة والرهبة ، وارتضاؤه لونا من الحياة بعيدا عن ذل الطمع ، وشهوة التنعم . فكم من داع يبصر الحق ويقدر على التذكير به ، ولكنه يحتبس فى حلقه فلا يسمع به أحد !! لماذا ؟ لأنه لو نطق لحرم من هذا النفع ، أو لغضب عليه هذا الرئيس ، أو لفاته هذا الحظ . فهو ـ إيثارا لمتاع الدنيا ـ يلزم الصمت ، ويظلم اليقين . ولو كان عفيف النفس ، راضيا بما تيسر من عيش ، مكتفيا بالقليل مع أداء الواجب عن الكثير مع تضييعه ، لكان له موقف آخر . وما أحس قول القائل : أمت مطامعى فأرحت نفسى فإن النفسى ـ ما طمعت ـ تهون وقوله : ملكت نفسى مذ هجرت طبعى اليأس حر والرجاء عبد !! ص _173(1/166)
وعن "سعد بن أبى وقاص" رضى الله عنه أن رجلا قال : يا رسول الله أوصنى وأوجز فقال : "عليك باليأس مما فى أيدى الناس فإنه الغنى ، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر ، وصل صلاتك وأنت مودع ، وأياك وما يعتذر منه". * * * وقال أبو سعيد (الحسن البصرى) رحمه الله : " لا يزال الرجل كريما على الناس حتى يطمع فى دينارهم فإذا فعل ذلك استخفوا به ، وكرهوا حديثه ، وأبغضوه ". وروى أن أعرابيا سأل أهل البصرة : من سيدكم ؟ قالوا : الحسن . قال : بم سادكم ؟ قالوا احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دينارهم . فقال : ما أحسن هذا . * * * وقال "على بن عبد العزيز" القاضى رحمه الله تعالى : يقولون لى : فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أُكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لى سلما وما كل برق لاح لى يستفزنى ولا كل من لاقيت أرضاه منعما إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما أنهنهها عن بعض مالا يشينها مخافة أقوال العدا فيم أو لما ولم أبتذل فى خدمة العلم مهجتى لأخدم من لاقيت لكن لأخدما أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة ؟ إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه فى النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما ص _174(1/167)
وثانيهما : أما الخلق الأخر الذى تعتمد الشجاعة عليه فهو إيثار ما عند الله ، والاعتزاز بالعمل له ، وترجيح جنابه على جبروت الجبارين ، وعلى أعطيه المغدقين ، والركون إلى القدر بإزاء أى وعد أو وعيد ، على أساس أن الرزق والأجل إلى الله وحده . (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير). ولليقين فى هذه الميادين منطق ينفى الجبن ويورث الجراءة . ذلك أن الداعى إلى الله ـ إذا صدقت به صلته ـ لم يبال أن يفتدى الحق بعمره مفضلا أن يقتل شهيدا على أن يدفن الحق ، ولا يجد من ينصفه ، ويشرفه ويعلى رايته . ! ولذلك قال رسول الله : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " . وقال : " سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر ، فأمره ونهاه فقتله " . حكى أن " عبد الملك بن مروان " أتوه برجل من الخوارج فأراد قتله ، فأدخل "على عبد الملك ابن صغير " يبكى ، فقال الخارجى : دعه يا عبد الملك ، فإن ذلك أرحب لشدقه وأصح لدماغه ، وأذهب لصوته ، وأحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حفزته طاعة الله فاستدعى عبرتها . فأعجب "عبد الملك " بقوله وقال له متعجبا : أما يشغلك ما أنت فيه عن هذا ؟ فقال ما ينبغى أن يشغل المؤمن عن قول الحق شىء . فأمر عبد الملك بحبسه وصفح عن قتله .!! * * * وكان " خالد بن الوليد " يسير فى الصفوف يذمر الناس ويقول : يا أهل الإسلام ، إن الصبر عز ، والفشل عجز ، وإن النصر مع الصبر . وقال أعرابى : الله يخلف ما أتلف الناس ، والدهر يتلف ما جمعوا . وكم من ميتة علتها طلب الحياة ، وحياة سببها التعرض للموت . * * * ص _175(1/168)
خلال جامعة ذكرنا أطرافا من الصفات التى يجب أن يستكملها الداعية . وأطلنا الشرح حيث أحسسنا أن خلقا ما ينقص المتعرضين للدعوة فى هذه الأيام . ولو ذهبنا نستقصى الخلال التى تلزم من يتعرضون لهذا المنصب لطال حبل الحديث فلنكتف بذكر هذه الحقيقة . إن الداعية يؤدى وظيفة سبقه النبيون إليها ، وإنه أحق الناس باقتباس شمائلهم ، والاقتداء بهداهم ، وأخذ الأسوة من محياهم ومماتهم ..!! وأنجح الناس فى أداء هذه الرسالة من ترى وراثات النبوة فى خلقه وسلوكه ، وعبادته وجهاده وتضحياته ، وكبريائه على الدنيا ، ومقاومته لفتنتها ، ومعاملته لذوى السلطان غير راغب ولا راهب . ولنعلم أن الخطبة البليغة المعجبة ، والكتاب المبين الذكى ، والجماهير العاشقة المتعصبة لا تساوى كلها قشرة نواة ، إذا كانت علاقة المرء بربه واهية . فلنترك الكلام فى صفات الداعية من الناحية النفسية لنشير إلى خلال تلزمه من الناحية العقلية والعلمية . ولسنا فيما نذكره مقيدين بترتيب ما ، بل نثبت ما عن لنا كيفما اتفق . الداعية مدمن قراءة ، وصديق للكتاب ، يأنس إليه ويرقب كل جديد فيه . على أن القراءة المهوشة عبء على الذهن ، وكثرتها تصبح عديمة الفائدة ، ما لم تدر القراءة حول محور معين يرتب معارفها ، وينسق أفكارها . ويدع فى المستودع ما يحتاج إليه فى الغد ، ويقدم للاستهلاك ما يتطلبه اليوم. وصاحب الرسالة له حاسة خاصة تلتقط ـ على عجل ـ ما يعنيه . وسرعان ما يديره فى رأسه ويربطه بفكرته ، ويقرن به من المعانى ما يناسبه . وصاحب الرسالة ـ مهما سمت درجته ـ تلميذ يطلب العلم من المهد إلى اللحد . ويستفيد ممن دونه كما يستفيد ممن فوقه . ولن يصل أحد فى الدنيا إلى درجة التشبع التام من المعرفة . (وفوق كل ذي علم عليم). ص _176(1/169)
وأغلبنا يجود عقله فى ناحية ، ويربو إنتاجه . وهو فى ناحية ، أخرى ، إما إنسان عادى ، وإما طفل ساذج . والداعية المسلم يجب عليه ـ بعد الاستبحار فى الكتاب والسنة ـ أن يدرس التاريخ الإسلامى والتاريخ الإنسانى معا . لا ليكون سجل ولادات ووفيات ، سواء للأشخاص أم للدول ... بل ليعرف الطبيعة البشرية على الواقع ، وليعرف سنن الله فى خلقه .. وتاريخنا الإسلامى مشوب بخلط كثير للأسف . وصحيح أن المنتصرين يزورون التاريخ لحسابهم فى أنحاء العالم كله . لكن الحقيقة قلما تتوارى ـ برمتها ـ فى أثناء هذا الافتعال . فما أكثر وجهات النظر التى تدون ! وما أكثر الذين يمحون ما يثبت غيرهم ! والباحث الذكى يستطيع أن يجمع معالم الحق ـ قدر الاستطاعة ـ من بين الأقوال المتناثرة والآراء المتنافرة . وأول ما نلفت النظر إليه فى تاريخنا ، أنه غير موجه لحساب الدعوة الإسلامية . ولا نبغى البتة بهذه الملاحظة التزيد على الأحداث أو بتر جزء منها لحساب فكرة معينة ، معاذ الله . بل نبغى إسقاط القشور والتوافه والأكاذيب ، وإنصاف الحقيقة فحسب . إن الأولاد فى مدارسنا يتعلمون السيرة ، على أن الغرض من بعثة الرسول هو هدم الأصنام ونشر التوحيد . ثم ماذا بعد ذلك ؟ لا شيء !! أما المبادىء التى اشترعها الإسلام للمجتمع والدولة ، وصاغ فى نطاقها الأمة العربية الأولى ثم الأمة الإسلامية فقلما تذكر ! لماذا ؟ وتدرس دولة الخلافة ، فتذكر الفتوح الأولى وكأنها هجمات أمة فتية على دول شاخت فانهزمت ، وهذا باطل . فإن العرب ـ من غير الإسلام ـ ما كانوا أكفاء ليقفوا فى حرب ما أمام "الفرس" أو " الروم" فضلا عن مقاتلة الدولتين معا فى جبهات متصلة ، فى وقت واحد . وهكذا تمضى دراسة التاريخ ـ تاريخ أمتنا ـ وكأنما كتبه خصومها ! إن الداعية المسلم أنفذ بصرا إلى الوقائع ، وأدرى بأسلوب سوقها من غيره. ص _177(1/170)
ثم نحن فى تاريخنا فسحنا صدورنا للإشاعات على حساب الحقيقة نفسها . وانظر مثلا إلى " السيوطى" وهو يتكلم عن القرآن فى كتابه " الإتقان .. " ، إن صفحات كثيرة من كتابه ليست إلا سوادا فى بياض ، حشاها ـ عفا الله عنه ـ بأقوال ساقطة ، ولو تركها مكانها لماتت من تلقاء نفسها ، وإحياؤها ضرب من العبث العلمى ، ما كانت له ضرورة ولا ثمرة . كذلك تاريخنا السياسى محشو بأمور من هذا النوع ، حبذا لو تجرد عنها . وعلى الداعية المسلم أن يأخذ منه الحق المجدى ، وأن يتجاوز ما عداه . * * * ودراسة علم النفس ـ بفروعه الكثيرة ـ مفيد جدا . إن هذا العلم نما وتشعب فى الدراسات الغربية الوافدة . وإن كانت أصوله مبعثرة فى مواريثنا الثقافية لا تخطىء رؤيتها العينُ البصيرة ، وهى تقرأ فى كتب الأدب والتصوف . على أن أى قارىء لـ " علم النفس " يجب أن يحذر المجازفات التى تكثر فى مباحثه . فإن هناك أمورا تساق وهى تحمل طابع اليقين ، على حين أنها لا تعدو الظن العلمى فحسب ، وقد تكون نتيجة خبرة خاصة لصاحبها . والحقائق العامة لا تولد بهذه الطريقة ، ولا تسلم لمن يزعمها بهذه السرعة . وإنما نوصى الدعاة بدراسة هذا العلم ، لأنه أهدى من الفلسفات القديمة فى وصف الإنسان وغرائزه ، وميوله ، وتحليل عواطفه واتجاهاته ، وإحصاء نشاطه العقلى ، وتتبع مظاهره من انتباه إلى ذاكرة ، إلى خيال .. إلخ . كما أن الفرع الاجتماعى منه يصف ـ بعمق ـ صلة المرء بغيره ، وما يسيطر على الجماعات من أفكار ورغبات وما يُلين قيادها أو يعسره . وقد امتدت بحوث "علم النفس" إلى طوائف العمال ، والأطفال ، والمنظمات الإنسانية المختلفة . ومن الضرورى للداعية أن يتعرف على خصائصها ، وأن يجمع ألوانا من الخبرات المحترمة فى شئونها ، ألوانا تعينه على إصابة الحق وهو يحدث الناس . * * * ص _178(1/171)
وعلى الداعية أن يكون مُلما بقسط محترم من جميع علوم الكون والحياة كـ" الطبيعة " و " الكيمياء" و " النبات " و " الحيوان " و " الفلك " و " تقويم البلدان" وغيرها . إن هذه المعارف ليست نافلة فى حياته ، ولا فى توجيهاته . بل هى زاد لابد منه لتصحيح فكره ، وضبط صلته بالعالم ، وإرسال النصائح محفوفة بوعى دقيق ، وحس بالغ ، وإدراك للهدف الذى تنطلق إليه . بل إن التغذية علم يفتقر الواعظ إلى الإحاطة بجمل كثيرة منه . وهو لن يحسن الكلام فى الزهد ، والصوم ، والسلم والحرب ، إلا إذا عرف ما تقوم به الأبدان وأجرى على ضوئه ما ورد من آثار .. ثم نحن نريد الاستيثاق من أن العقل الذى تصدر عنه الحقائق الدينية صائب النظرة ، سديد الخطوة ، منطقى المقدمات والنتائج . ومن ثم فنحن نوصى بتدريبه على التفكير الرياضى ، وهو التفكير الذى نرجو أن تتكون ملكته من دراسة " الحساب " و " الهندسة " و " الجبر" . إن العقل الخرافى لا يؤتمن على الهزيل من مصالح الناس ، فكيف يؤتمن على الجليل من دين الله ..؟؟ وربما تصفو الحياة للمغفلين الذين عناهم المتنبى فى بيتيه : تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى منها وما يتوقع ولمن يغالط فى الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع لكن هؤلاء المغفلين لا يسند إليهم عمل ، ولا يوثق بهم فى مهمة ، ولا يعرف لهم فى المجتمع مكان ، فهل ينفون من دنيا الناس ليتصدروا فى دين الله ؟ يجب أن نؤكد لأنفسنا وللناس أن دين الله أشرف من أن يؤخذ عن أفواه الحمقى . * * * وعلى الداعية أن يكون طويل الباع فى ضروب الفلسفة ، الخلقى منها والاجتماعى والسياسى ، وأن يكون عميق الفهم للمذاهب المحدثة . فإن " أبا حامد الغزالى" من سعة فهمة لآراء الفلاسفة الأقدمين ، كان يضيف إليها أدلة لم تخطر ببالهم ثم يكر عليها جميعا بالنقض .. ونحن نرى لدراسة الفلسفة ثمرات تعود على الدين بشتى الفوائد ، فإن الفلسفة موضوعها : الإنسان والمجتمع وما وراء(1/172)
المادة. ص _179
أى إنها تعمل فى الميدان نفسه الذى يعمل فيه الدين . وأفكار رجالها لا تخرج عن أن تكون موافقة للدين ، أو مضادة ، أو محايدة .. ودراسة الأفكار المتجهمة للإيمان والشاردة عن صراطه المستقيم لابد منها لدحض الشبه ورد المفتريات وتفنيد الأخطاء . . إن الله طلب من المشركين أن يذكروا أدلتهم على ضلالهم : (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). فإذا كان للبعض برهان مزعوم أو سلطان موهوم ، فعلى رجال الحق أن يزيفوا برهانه ، ويدمغوا سلطانه . أما الأفكار الفلسفية الأخرى ، فأرى ضرورة دراستها ، لأنها تعين على تجلية الحق الذى أنزله الله ، وتبين مدى ما فيه من رشد . وشىء آخر مهم ، هو أن الدين منكوب من قديم بلصوق خرافات به . وأهله منكوبون من قديم بشيوع البغى بينهم . وهذا وذاك قد يجوران على الفطرة التى ارتضاها الله دينا لعباده . وقد يصل الفيلسوف البعيد إلى جزء خطير من هذه الفطرة بسلامة صدره وسداد فكره . على حين يعجز العبدة الجهلة أو أهل الكتاب ـ الذين أعماهم الغرض وأضلهم البغى ـ عن إدراك هذا الجزء من الفطرة الدينية ، أو إحسان تصويره كما أنزله الله .. ويؤسفنى أن أصرح بأن بعض محترفى التدين أبعد عن الدين من بعض الفلاسفة الذين رزقوا سناء القلب واللب . ولذلك يجب أن ندرس الفلسفات المختلفة ، من المقاييس الخلقية ، إلى الخطط الاقتصادية والسياسية التى بلغها القوم باجتهادهم فى غيبة الوحى الصحيح عنهم .. ولننتفع بهذه الدراسات فى تصوير الحق والدفاع عنه وإحسان عرضه . وعلى الداعية أن يفهم طبيعة الزمان الذى يحيا فيه ، ويعاشر أهله . وأن يدرك الاتجاهات السائدة فى العالم بالنسبة إلى المادة والروح والشورى والفردية والغيب والشهادة . وأن يتعرف على طبائع الأجناس البشرية ، والدول القائمة ، وأن يلم بنزر يسير من حياة قادتها وميولهم وأهدافهم ، وعقائدهم ومذاهبهم . فإن هذه الخبرة تدعم منطقة ، وتصوب حكمه . ص _180(1/173)
وليعلم الداعية أن أسوأ شىء يواجهه فى ميدان العمل أن يتحدث إلى قوم حديثا ينبىء عن قصور فكره أو عدم فهمه . إن كل ما يبنيه سينهار فوق رأسه ، وسيجد مستمعوه أنهم أعرف منه بالحياة . وأنهم ـ بالتالى ـ أبصر بما يصنعون للسير فى دروبها ، بعيدا عن توجيهات هذا الواعظ المسكين الذى لا يدرى شيئا عن طبيعتها . وقديما يقول المتعلم لشتى الفنون : عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس تقع فيه ونحن نقول : يجب على الداعية أن يتعلم الخير والشر جميعا ، لا ليقى نفسه فحسب من الشرور ، بل ليقى غيره من الناس كذلك . إن غزارة الثقافة وسعة الأفق وروعة الحصيلة العلمية خلال لابد منها لأى داعية موفق .. والداعية الذى يشعر بغربة فى ميدان الأدب يجب أن يترك ميدان الدعوة لفوره. فإن الذى يحاول خدمة الرسالة الإسلامية دون أن يكون محيطا بأدب العربية فى شتى أعصارها إنما يحاول عبثا . وأنى لرجل محروم من حاسة البلاغة أن يخدم دينا كتابه معجزة بيانية ، ورسوله إمام للحكمة وفصل الخطاب ؟؟ الداعية لابد أن يدرس آداب العربية ، القديمة والحديثة ، وأن يدرب نفسه على الأداء العالى ، والعبارة الرائقة . وليس القصد أن يكون كلامه إنشاء منمقا ، كلا ، فهذا مزلقة له ولرسالته . وإنما القصد أن يحسن صوغ العلم النافع ، والحقائق الركينة فى أسلوب يبرز ما فيها من نفع وقوة . وقد قالوا : الخط الحسن يزيد الحق وضوحا . وكذلك القول الحسن ، والخطاب الجميل . * * * ص _181(1/174)
الدين والعلم يظن نفر من الناس فى هذا العصر أن الدين أمسى من المخلفات البالية ، وأن الأجيال الصاعدة يجب أن تكسر قيوده ، وتعدو حدوده ، وتسير وحدها دون رعاية لرب خالق ، أو تهيب لجزاء منتظر . ويتعلق أولئك الواهمون بأن العلم فض مغاليق الكون واكتشف أسراره ، وأرصد لكل مشكلة علاجا من عنده لم تبق للدين موضعا ، ولا لقضاياه مكانا . وهذا الكلام إفك كله . ومهما نقبت فيه فلن تجد إلا ظلمات الإدعاء والغرور ، ونضج الجهالة والشرود. واتباع هذا اللغو مفتاح لأبواب من الفوضى والخيبة تلحق العالم آخر الدهر . بل إن العالم يتعثر الآن فى بوادرها ، ويوشك أن يسقط فى براثنها ، ما لم يتب إلى الله ، ويقلع عن هذا الغى . إن الدين ـ كان ، ولم يزل ، وسيظل ـ ملتقى العقول السليمة والفطر القويمة . ما أخطأ منهجه فكر ثاقب ، ولا ضل صراطه طبع نظيف . وإن العلم مهما اتسعت آماده ، وامتدت أبعاده ، وترادفت كشوفه ، فلن يجىء إلا بما يصدق الوحى ، ويدعم الإيمان ، ويمكن لهداية الرحمن ، وإلا بما يزيد الأتقياء بصرا بجلال الله ، وقياما بحقه ، وثقة بلقائه الموعود . ثم إن التهمة التى توجه إلى الدين الآن ليست جديدة . والقول بأن الإيمان لون من خرافات الأقدمين سبق أن قاله المشركون من عبدة الأصنام . قال تعالى : (و ما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ، كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). وقال: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين). ص _182(1/175)
(وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا). والزعم بأن الدين شيء من خرافات الأولين ضرب من الجرأة التى يتسم بها سفهاء كل عصر ويرمون بها المرسلين . كأن الإلحاد فى آيات الله ذكاء وتقدم ، والاستجابة لهديه جمود وتأخر !. وذلك هو الضلال المبين . فإن اتباع الدين والانقياد لتعاليمه يقتضى تفتحا ذهنيا يتجاوب مع آيات الله فى كونه ، كما يقتضى عزيمة قوية لفطام النفس عن المظالم والآثام . وهذا الجهاد يجعل كفة المؤمنين ـ فى آية موازنة ـ أرجح ، ويجعلهم أحق بالاحترام فى الدنيا والآخرة . وإذا كان اتهام الدين بأنه فكرة متأخرة ، ليس إلا سفاهة قديمة . فكذلك ما ينضم إلى هذا الاتهام من تبجح أهل الزيغ وتطاولهم . كأنهم ورثوا ذلك الكبر بالإلحاد عن فسقة الجاهلية الأولى الذين كانوا يلقون رسول الله فيسخرون منه ويستعجلون العقاب المعد للجاحدين . (و إذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم و هم بذكر الرحمن هم كافرون ، خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون) . إن القوم هم القوم ، حذو النعل بالنعل . وإن المرء ليتفرس فى وجوه عشاق الإلحاد فى هذا الزمان ، فلا يرى فى ملامحهم البدنية والنفسية إلا ملامح المفتونين الصغار الذى تلونا عليك نبأهم من أعداء النبيين المكرمين .. الدعوى هى الدعوى ، والسيرة هى السيرة . أما الثرثرة باسم العلم وتقدمه فهى شكل ليس له موضوع . فإن العلم دليل على الله وقائد إليه . وهيهات هيهات أن يفد العلم بقضية تنقض الاعتقاد فى وحدانية الله ووجوب طاعته وضرورة الإعداد للقائه . ص _183(1/176)
(يوم يقوم الروح و الملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا ، ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) . إن الإسلام دين يبنى كيانه المادى والأدبى على التعمق فى العلم ، والتزيد من الثقافة ، وعلى دوام الصلة بعمل القدرة العليا فى مجال العالم الرحب . وأولو العلم فى هذا المضمار قرناء لملائكة الله فى التصديق بعظمته والشهادة بعدالته . (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط) . والمتأمل فى القرآن الكريم يوقن بأن الكون مدرسة الإيمان الحق ، وأن العلم مدده الموار ونبعه الفوار ، وأن كل خطوة إلى الأمام فى دراساته إنما هى زيادة جديدة فى دلائل التصديق ، وأسباب اليقين . إن الإسلام يربو على العلم كما يربو الجسم على الغذاء الجيد . وينمو باستبحار المعرفة كما يغلظ النبات على الشعاع والماء . فيا عجبا كيف يزعم زاعم بأن الإسلام ضد العلم ، أو أن الإسلام ذهب أوانه لأن العلم قد توطدت أركانه ؟؟ إن هذا ارتكاس فى الفهم وانطماس فى البصائر : (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) . ثم لننظر أى كمال تبلغه الإنسانية بعيدا عن منطق الإيمان وإيحاء الدين ؟ إن دسائس النفس لبلوغ مآربها لا حصر لها . وما لم يحكمها ضمير موصول بالله فإنه يستحيل أن تخلص للخير أو أن تتجرد من الشر . وقد حصل المستعمرون فى هذا العصر على أنصبة ضخمة من العلم النظرى ، والتفوق المادى . فماذا صنعوا به ، وماذا أفادت الدنيا منه ؟ ملكوا القوة فكانت فى يد الفاتح الغالب سلاحا للنهب والغصب ، وأداة للجبروت والكبرياء ، ووسيلة لقهر الأمم ، وتكبيل عقولها وضمائرها بالأغلال . ص _184(1/177)
إن الحياة التى يستهدفها الإلحاد لسكان هذا الكوكب المرهق ، حياة لا صواب فيها ولا رحمة . حياة يصرخ فيها المدل بتفوقه صرخة الزعيم الصهيونى القديم " قارون" عندما قيل له: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (قال إنما أوتيته على علم عندي) حياة يقول فيها سُراق الحقوق وموقعو البخس بالناس إذا قيل لهم : (.. ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) ، (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز). إن الإلحاد ليس خرابا قلبيا فقط ، وليس ظلاما فكريا فقط . بل هو ـ إلى جانب ذلك وهذا ـ دمار اجتماعى يقوض أسس الشرف ويردم منابع العفاف ، ويطلق ألسنة العاهرين بمطاردة أهل الطهر وأولى النهى قائلين : (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون). إن الحياة ـ بعيدا عن فضائل الدين وشعائره ـ انطلاق حيوانى محض . ولا يجوز أن ينخدع العقلاء بمظاهر الارتقاء التى تلوح أحيانا بين أقوام متحللين من شعب الإيمان وتعاليم الدين . فإن أزمات العالم التى تتهدده بالويل والعذاب الأليم إنما تنشأ من غرائز السوء التى نمت فى ظلال الإلحاد ، وانطلقت من عقالها انطلاق السباع من غابها . وما ترجع البركة إلى الأرض إلا إذا عاد الناس إلى ربهم منيبين راشدين . روى مسلم فى صحيحه : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ـ فيما يرويه عن ربه -: "إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم . وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا . وإن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل ص _185(1/178)
الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان . وإن الله تعالى أمرنى أن أقاتل قريشا ، فقلت : رب إذا يثلغوا رأسى فيدعوه خبزة . فقال : استخرجهم كما أخرجوك ، واغزهم نغزك ، وأنفق فسننفق عليك ، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك . قال : وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق . ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى ومسلم . وعفيف متعفف ذو عيال " . ومما يساوى جحود الدين وإنكار أصله جملة ، الزعم بأنه يصلح للعوام وحدهم ، وأن أمره ونهيه ووعده ووعيده عناصر تستخدم فى ترويض الجماهير وإلزامها الجادة . أما الخاصة من أولى الرأى وذوى الثقافة ، فربما كان فى ارتفاع مستواهم وزكاة ضمائرهم ما يغنى عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والتبشير بالجنة والإنذار بالنار !!. وهذا كلام من أبطل الباطل وأكذب الكذب . بل هو أوغل فى الضلال مما يبدو لأول وهلة . فإن رذائل الصغار صغيرة مثلهم ، وجرائم العامة محدودة الشر ، محصورة الخطر مستدركة النتائج . والواقع أن أحوج الناس إلى الدين وأوامره ونواهيه هم أولئك الخواص من كبراء وعلماء . فإن منزلتهم فى المجتمع ، ومكانهم من تصريف شئونه يجعلان الرقابة على ضمائرهم ألزم ، وإشرابهم مخافة الله أشد . إن الضمير الفردى والعالمى ، لما ابتعدا عن الدين ، ارتكبا من الجرائم ما تقشعر له الجلود . ولن يعود للعالم حظ معقول من السلام والاستقرار إلا إذا رجعت إليه عاطفة التدين . ص _186(1/179)
ثم إنه إذا كان الله حقا ، وذاك ما لا ريب فيه ، فما معنى أن يتقيه قوم دون قوم ، وأن يهتم بوحيه بعض الناس ، ويستغنى عنه بعض آخر ؟! ألا فلنعد إلى إقامة التربية العامة على دعائم الدين ، وتكوين القلب النقى والنفس اللوامة ، وإشعار الكل أن الحساب الحق يوم الدين : (يوم يقوم الناس لرب العالمين). * * * لقد عاشرت أقواما يبنون حياتهم على فلسفة الضمير المجرد ـ كما يزعمون ـ ويتحللون من فروض العبادات ومراسم الدين . ويوهمون مخالطيهم أنهم بلغوا من الكمال شأوا كالذى يبلغه النساك أو أسمى! وأعترف أننى لم أستبن شرهم للأيام الأولى من التعرف عليهم . أو بتعبير أصرح : خدعت بتلك الدعوى ، وظننتهم على نصيب من الخير لا بأس به ، وإن تك فاتتهم أنصبة أعظم وأكرم . ثم شاءت الأقدار أن تكشف خبيئتهم ، وأن تمزق الأقنعة التى أحكموا نسجها على طبائعهم ، فبدوا لى كما هم ، يختلون الدنيا باصطناع المثل العليا !! ويتحرون الدقة فى أنوع من السلوك لا تعويل عليها . ثم يخنسون لانتهاب ما خص حمله وغلا ثمنه من متاع الحياة !.. فقلت : كل امرئ صائر يوماً لخُلَّته وإن تخلَّق أخلاقاً إلى حين أحدهم ألف فى الضمير كتابا جريئا ، حط فيه من قدر العبادة والعباد . ثم سمح له " ضميره " أن يخدع أحد المسئولين الكبار أغراه بشراء الكتاب على أنه خدمة لله ورسوله ، الله الذى كذب قوله ، والرسول الذى خرج على سنته !.. إن ضميره استباح عقد الصفقة على هذا النحو المؤذى الخاتل !.. لأن أصحاب الكلام عن قيمة الضمير فى تسيير الناس لا حرج عليهم أن يجعلوه مستترا وجوبا كبعض الضمائر فى علم النحو !!.. أما الرجل الأخر فكان كثير التباكى على مستوى خطباء المساجد ، مما جعله يترك ص _187(1/180)
الجمعة والجماعات ، ويعلن أن ترك الصلاة لا يخدش كرامة ولا ينزل بقدر ! وأن الخلق المجرد أولى بالتقديم وأجدر بالدعاية والرعاية . . ومرت الأيام على صاحب التنويه بالخلق المجرد ، والكمال المطلق ، فإذا هو ذئب متربص بأعراض الفقيرات المستحقات للعون ، يستغل حاجتهن لإشباع نهمته! .. عليه لعنة الله . إن الدين وحده هو العاصم من تلك الأوساخ . وإن الطعن فى الدين شنشنة عصابة كفور يجب على الإنسانية أن تحذرها وأن تسد فاها فلا تنطق بهجر ، ولا تصد عن سبيل الله .. ما أزكى المجتمعات الموصولة بالسماء ، المستكينة إلى الله ، النازلة على أمره ، المتحرية رضاه ..! وما أروع المجتمعات التى يسودها إجلال للفضائل ، وإعزاز للمكارم ، وتواص بالرحمة والبر .. تأمل فى الصورة التى ترتسم أمام عينيك من خلال القصة التالية ، ثم قارن بين ما توحى به من فضل ، وما توحى به قصص الإلحاد من نكر : ذكر " أبو نعيم " فى كتاب " معرفة الصحابة " ، والحافظ " أبو موسى المدينى" من حديث أحمد بن أبى الحوارى قال : سمعت " أبا سليمان الدارانى " قال: حدثنى علقمة بن يزيد بن سويد الأزدى قال: حدثنى أبى عن جدى سويد بن الحارث قال : وفدت سابع سبعة من قومى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا ، فقال : ما أنتم ؟ قلنا : مؤمنون .. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن لكل قول حقيقة ، فما حقيقة قولكم وإيمانكم ..؟ قلنا : خمس عشرة خصلة ، خمس أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها ، وخمس أمرتنا أن نعمل بها ، وخمس تخلقنا بها فى الجاهلية ، فنحن عليها الآن ، إلا أن تكره منها شيئا .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الخمس التى أمرتكم بها رسلى أن تؤمنوا بها ؟. قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت . ص _188(1/181)
قال : وما الخمس التى أمرتكم أن تعملوا بها ؟ قلنا : أمرتنا أن نقول : لا إله إلا الله ، ونقيم الصلاة ، ونؤتى الزكاة ، ونصوم رمضان ، ونحج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلا . فقال : وما الخمس التى تخلقتم بها فى الجاهلية ؟ قلنا : الشكر عند الرخاء ، والصبر عند البلاء ، والرضا بمر القضاء ، والصدق فى مواطن اللقاء وترك الشماتة بالأعداء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حكماء علماء ، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء " . ثم قال : وأنا أزيدكم خمسا فتتم لكم عشرون خصلة : إن كنتم كما تقولون ، فلا تجمعوا مالا تأكلون ، ولا تبنوا مالا تسكنون ، ولا تنافسوا فى شىء أنتم عنه غدا تزولون ، واتقوا الله الذى إليه ترجعون وعليه تعرضون ، وارغبوا فيما عليه تقدمون ، وفيه تخلدون . فانصرف القوم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحفظوا وصيته وعملوا بها " * * * لقد رأيتُ مجتمعات الإلحاد ، وما تغتر به من معرفة سطحية ، وما تفيض من مآثم خلقية . وأستطيع الجزم بأن هؤلاء المحرومين من نعمة الدين ـ فرادى وجماعات ـ ليسوا أهلا لأية ثقة . نعم ، إن هؤلاء الناس قد تضبطهم أوضاع مقررة ، وحدود ملزمة ، ولكن أى أوضاع وأى حدود ؟؟ إنها ـ جمعيا ـ محدودة من الجهات الأربع بالمصالح والمأرب كى لا تطغى شهوة على شهوة ، ولا تصطدم منفعة بمنفعة !. أى إن الأمر لا يعدو تنظيم الأهواء المادية والنفسية تنظيما يتيح لكل فرد أخذ نصيبه منها ، دون بخس ولا شطط ما أمكن ، فهل تلك رسالة الخليقة ..؟ ما أحوج العالم إلى نور الإيمان ، يتحسس به طريقة دون عثار ولا شرود . إن هؤلاء البله ـ الذين يظنون الدين وهما ـ لا يحسبون أى حساب للفرض الآخر ، ولا لما يترتب عليه من أمور هائلة : ص _189(1/182)
(قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد) ؟. إنهم يبنون حياتهم على أنه لا إله ، بالتالى لا حقوق البتة لإله موهوم . وبالطيع لا بعث ولا جزاء ، ولا اكتراث بشىء من هذا كله . فإذا كان التفكير الذى يسير هؤلاء باطلا من ألفه إلى يائه ، موغلا فى الافتراء من ابتدائه إلى انتهائه ، فأى خراب نفسى واجتماعى تخلفه هذه الفلسفات السقيمة ، وأى جحود خسيس تشيعه فى الحياة هذه الطبائع اللئيمة ؟ . إن العالم ـ فى غيوم هذا الكفر الأسود ـ قد حرم البركة فى شئونه كلها . والبركة كلمة لا تعنى الجزاف ، أو الفوضى ، أو سوء التقدير وغفلة التدبير . كلا ، كلا ، فتلك معان ولدتها أذهان مريضة !.. إن البركة هى رعاية السماء لعملك المتقن ، فلا يخطىء هدفه ولا يفقد ثمرته . هى التوفيق لاستغلال الشىء على أحسن وجوهه ، ووضع الأمور فى مواضعها دون عناء أو عوج . هى الإفادة الكاملة من الوقت والمال ، فلا يضيع هذا فى لغو ولا يضيع ذاك فى باطل . البركة هى هداية الله للجهد الإنسانى ، فلا يذهب فريسة خطأ ، ولا يفشل نتيجة غضب . والمرء الكافر محروم من هذه العناية العليا . والمجتمع الكافر يدور حول نفسه فى حركة مجنونة ، عالية الجعجعة ، رديئة النتاج !!!.. قال تعالى: (.. ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد) . وقال: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) . نعم ـ والله ـ أضل أعمالهم . لقد رأيت المحرومين من الإيمان والإخلاص يعملون الكثير ، ومع ذلك كأنما أعمالهم ص _190(1/183)
بذر وضع فى تربة رديئة ، فهى لا بروز لها ولا ازدهار ، ولا ظل لها ولا أثمار.. قال الدكتور " محمد البهى " : ".. وإذا كاد يختفى من حياة الإنسان المعاصر إله السماء ، خفت فيها نور الخير ، واضمحل الباعث عليه فى نفس هذا الإنسان ، وقويت بواعث الأثرة . وبالتالى قويت دوافع الانتقام والسيطرة عنده ، بدلا من أن تقوى دوافع الانسجام بينه وبين غيره . فلم يقف استخدامه هذه المعرفة الطبيعية والرياضية التي هدى إليها عند حد النافع منها لخير البشرية ورفع مستوى الأفراد صحيا ، وعقليا ، وخلقيا . بل تعدى ذلك إلى اختراع المبيدات : 1- فلم يقف بصنع السيارة عند حد المركبة العادية ، بل صنع الدبابة وقاذفة اللهب. ب- ولم يقف بصنع الطيارة عند النوع الذى يساعد على تقريب المسافات البعيدة وتعزيز التفاهم العالمى عن طريق المبادلات التجارية وتبادل الآراء بين الشعوب ، بل صنع قاذفات القنابل ، والطائرات المقاتلة ، والصواريخ الموجهة . جـ- ولم يقف بصنع السفينة عند الأنواع التى تستعمل لنقل المدنيين ، أو حمل البضائع التى تستهلك فى الحياة العامة ، بل صنع البارجة ، والمدمرة ، والغواصة . د- ولم يقف فى تطبيق تلك المعرفة الرياضية والطبيعية عند حد توفير الغذاء ، واللباس ، والدواء ، بل اخترع الغازات السامة ، وجراثيم الموت والألغام البحرية والبرية . هـ- ولم يقف فى صنع الآلات الميكانيكية التى تستخدم فى الزراعة والحياة المدنية عند الحد الذى يساعد على توفير المحاصيل وضمان الراحة له ؛ بل صنع ما يهدد حياة البشرية جملة ، وهى القنابل الذرية والهيدروجينية . وكلما نجح " العلم الحديث " فى اختراع آلة للإهلاك والإفناء اجتهد فى اختراع ما بقى منها أو يقلل من أخطارها ، عن طريق استحداث آلات أخرى . وهكذا ... تراه يسترسل فى اختراع المهلك والمبيد ، ثم فى اختراع ما يقلل من آثار الإهلاك والإفناء . ص _191(1/184)
وبذلك أصبح مجال " العلم الحديث " هو التنافس على تكثير مصادر الشر حتى إذا أفزعته سعى للنجاة منها !!... وزاد الإنسان ـ عن طريق هذه المعرفة الشريرة ـ فى اختراع وسائل الهدم والإبادة أكثر من اختراعه وسائل الراحة والصيانة للجنس البشرى . وليس ما اخترعه من وسائل الهدم والتدمير أكثر فقط من وسائل البناء ، والراحة ، والصيانة . بل إن ما أنفقه على تلك المخترعات الهدامة يزيد أضعافا مضاعفة على ما ينفقه فى الحياة المدنية ورخائها المنشود للأفراد والمجتمعات . ولهذه النفقات المضاعفة على وسائل الهدم ، القليلة فى ميدان البناء انخفض مستوى المعيشة . وظهر عندئذ العامل الاقتصادى فى الحياة المدنية الحديثة ذا أثر قوى فى توجيه سياسة الشعوب ، وذا سلطان واسع على اتجاه الأفراد ، وعلى التحكم فى ميولهم وحرياتهم . ومن ثم أصبح سعى الإنسان المعاصر يكاد يكون مركزا فى توفير لقمة العيش ، له ولأسرته . ومن هنا أيضا خفت القيم المثالية والخلقية فى نفسه ، لأنه أصبح يتخذ من لقمة العيش ميزانا تقديريا . للسلوك العملى فى الحياة " . ثم قال : ".. تلك نتيجة " العلم الحديث " يدمر ولا يبنى ، ويجيع ولا يشبع ، ويسترق ولا يعتق . وكما خلق الإنسان المعاصر الآلة الصماء ، أخرس فى دنياه الإنسان المتكلم !! وكما حرك الآلة فى غير وعى ، أصاب الإنسان الكامن فيه بفقدان الوعى . فذبلت مواهبه بل ذابت خصائصه . ولم يصب العلم الحديث الإنسان بسلب خصيصته العظمى ، إلا لأن هذا العلم اتجه إلى خلق وسائل الشر أكثر من اتجاهه إلى إيجاد وسائل الخير . ولم يكن ذاك ، إلا لأن الإنسان المعاصر عبده من دون الله ، ووضعه فى الأرض مكان إله السماء ، واستغنى بمخترعاته عن الاستعانة بالله ، وخدع نفسه بأنه أصبح رب هذه الأرض ، لأنه يملك علم ما فى الأرض ، وكذا علم ما فى السماء ... " أ. هـ . والويل للعالم أجمع من عقبى هذا الغرور . * * * ص _192(1/185)
أزمة التدين كان المرتقب ـ وتلك مكانة الدين وحاجة الناس إليه ـ أن تفيض الأمم إلى ساحته ، وأن تهرع إلى مثابته ، وأن يستريح العامة والخاصة إلى كنفه . غير أننا نلحظ ـ آسفين ـ أن بنيان الإيمان هزته زلازل عنيفة . وأن العصور الأخيرة أقبلت ، وشعوب غفيرة خواء الأفئدة منه ضعيفة الانقياد إليه . ولهذه الحال علل نجملها فيما يأتى : 1- رواج العملة الزائفة فى بيئات التدين ، واستطاعة كثير من الماكرين أن يستخفى وراء مراسم الدين وهو فارغ الباطن من حقيقته . ولقد كنت أحس أحيانا أن كلمة " الله " فى هذه البيئات ـ هى آخر كلمة تذكر ويقصد بها مدلولها ، وأن أغلب المنتمين إلى الدين يدارون عاهات نفسية وعقلية ، أو يعوضون نقصا ماديا أو أدبيا . أما الدخول فى الدين على أنه التزام إنسان سوي بفرائض جليلة ، وأعمال عظيمة فذاك ما لا يحسنون ، بل مالا يطيقون . الصبى يتظاهر بصمت الوقار ، فهل صمته دين ؟. والمحروم يتظاهر بالزهد ، فهل زهده عفة ؟.. والهياب توجل من المجتمعات فهل انسحابه عزلة ؟ الواقع أن كثيرا من أدعياء التدين يغطون مسالكهم الناقصة بعناوين دينية ، ويسلكون ميادين العبادة والتقوى وهم أبعد خلق الله عن تلك المعانى الطاهرة . وقد لاحظ الأذكياء من قديم الزمان ذلك التناقض المثير ، ونددوا به ، وحملوا أقسى الحملات على أصحابه ... إلا أن الحملة على التدين المصطنع شىء آخر غير الحملة على الدين الحق . قال أبو العلاء ـ يصف مقترفى الرذائل الذين يدعون الناس إلى الله -: دعوا وما فيهمو زاك ولا أحد يخشى الإله ، فكانوا أكلبا نبحا وليس عندهمو دين ولا نسك فلا تغرك أيد تحمل السبحا وكم شيوخ غدوا بيضا مفارقهم يسبحون وباتوا فى الخنا سبحا لو تعقل الأرض ودت أنها صفرت منهم فلم ير فيها ناظر شبحا ص _193(1/186)
وقال فى الواعظ الذى يطلب الدنيا وينفر الناس منها : بخيفة الله تعبدتنا وأنت عين الظالم اللاهى تأمرنا بالزهد فى هذه الدنيا وما همك إلا هى وقال فى تدين البله من العامة وأشباههم : وقد فتشت عن أصحاب دين لهم نسك وليس لهم رياء فألفيت البهائم لا عقول تقيم لها الدليل ولا ضياء وإخوان الفطانة فى اختيال كأنهمو لقوم أنبياء فأما هؤلاء فأهل مكر وأما الأولون فأغبياء فإن كان التقى بلها وعيا فأعيار المذلة أتقياء ونحن نقر هذ الآلام التى اعتلجت فى نفس " المعرى" ودفعته إلى إرسال هذه النفثات الحارة اللاذعة . وصيحات الإنكار على تجار الدين والمنافقين به ليست وليدة الخلق الناقد لدى بعض الناس . فقد أحصينا من كتاب الله وسنة رسوله جملا أملأ بالحق ، وأروع مما ينظم الشعراء . كما أثبت العلماء الراسخون فى أسفارهم فصولا حافلة بالآثار التى تنعى على المرائين ، والمتأكلين ، وذوى النيات المغشوشة . بل إن صاحب الرسالة العظمى صلوات الله وسلامه عليه يُعتبر الثائر الأول على فنون الاحتراف والدجل باسم الدين . وهو يبنى الإيمان على نقاء الفطرة وسلامة القلب ، وهجر التكلف والمراءاة .. إلا أننا نأسف ، لأن أمتنا تطرقت إليها علل الأمم البائدة ، وفشت بينها سيئات أهل الكتاب . والتدين الفاسد سبب خطير لصرف الكثيرين عن الدين الحق . إن الأخلاق الرديئة والسير المنحطة إذا غلبت على تصرف المنتمين إلى الدين أصابت الدين فى الصميم . ومن أقسى الضربات التى أصابت الدين وعوقت مسيره ، خضوع طوائف منه لسيطرة المستبدين ، بل مسارعة هذه الطوائف لإجابة أهوائهم ، وإطاعة نزواتهم ، والميل بتعاليم الدين نفسها وفق ما يطلبه أولئك المستبدون .. ص _194(1/187)
إن الأمم ـ من أعصار خلت ـ تعطشت إلى الحرية وإلى العدالة ، وودت لو حيت كريمة الجانب مرعية الحق كما يرضى الله لها . وكان الواجب أن يكون رجال الدين ، عند حدود مبادئهم الواضحة وفى صفوف الجماهير اللاغبة الكادحة . غير أن الذى حدث ـ للأسف الشديد ـ كان العكس فى أغلب الأحيان ، فلم ينضم رجال الدين إلى أصحاب الحقوق المستباحة ، ولم ينسحبوا بعيدا عن المعركة يرقبون النتائج ، بل انضموا إلى الحكومات الجائرة ، وظاهروها على بغيها . فلما سقطت هذه الحكومات سقط الدين معها بداهة ، وذلك سر الأزمة الطاحنة التى تعرض لها الدين فى الغرب ، والتى شاء نفر من الجهال أن ينقلها إلى الشرق الإسلامى مع بعد الشقة ، وتفاوت الملابسات . لقد كان الإلحاد طابع الحكم والعلم فى أوروبا خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد. ولم تزل سطوة الإلحاد عاتية فى نواح عدة للنشاط الإنسانى. ولم تعد للدين بعض المكانة إلا فى الأيام الأخيرة ، وهى مكانة اسمية حينا ، أو مكانة احتفظ بها لغرض خسيس يعرفه المستعمرون حينا آخر . ومعنى هذا أن الدين سوف ينتهى مرة أخرى إلى المصير الذى وقع فيه أولا . ذاك كله فى أوروبا حيث تسود النصرانية ... أما فى أقطار الإسلام ، فقد وقعت هنات متقطعة من أشخاص انتسبوا إلى الدين وخدموا الحاكمين الغاشمين .. بيد أن جمهرة القراء والوعاظ والقضاة والفقهاء لزموا المعارضة أو البعد ، ومن ثم لم يحمل الإسلام أوزار مظاهرة للاستبداد ، ولم يعد يوما ما مسئولا عن ظلم اجتماعى أو فساد حكومى . ذلك مما يهرف به بعض المتخرجين فى المدارس الاستعمارية . أولئك الذين لقنهم الغزو الثقافى طائفة من الأباطيل كى يحاول بها النيل من الإسلام وتاريخه ، ونسبة مثالب الآخرين إليه . وشتان بين دين ودين وتاريخ وتاريخ . يُروى أن أحد العلماء رأى الشرطة يسوقون لصا إلى الحاكم ، فسأل : ما هذا .؟ قالوا : سارق ، يجب قطع يده ..!! فقال : سبحان الله ، سارق(1/188)
السر يسعى به إلى سارق العلانية ! ص _195
إن التعليق المرير على تصرفات السلطات الباغية كان طبيعة الجماهير الإسلامية من عامة وخاصة ... ولسنا ننكر أن هناك متأكلين بالدين ساروا فى حواشى الحاكمين ، وزينوا لهم ما يصنعون . وظلموا بذلك الدين ، والأمة ، وخانوا الأمانة التى حملوها . إلا أن سيرة أولئك لم تخص على ألوف العلماء فحقروها ، وعلى الألوف المؤلفة من العوام فأنكروها . فإن تعاليم الإسلام ـ كما سبق البيان ـ ليست حكرا على طائفة تعلمها تدفع عنها ، بل أمرها شائع بين السواد الأعظم من المسلمين . لكن الذى نحذره وقد فشا الجهل بالدين أن تكون مسالك ذوى الملق والزلفى للحاكمين سببا فى سوء الظن بالدين نفسه . فإنه ـ مع انتشار الجهالة ـ سيظن أن الإسلام هو ما يقوله أو يفعله أولئك الكذبة الفجرة .. وسيقال : ذلكم موقف الدين ـ لا موقف أدعيائه ـ من الفوضى والعدوان . وهذا يعنى أن الدين سيذهب ضحية اتهام خاطئ ، وأوهام ليس لها سناد . وإذا استطاع الطغاة أن يسيروا بالدين فى ركابهم ، وأن يسخروا رجاله فى مآربهم . فقد آذنت شمسه بمغيب ، وارتفعت الثقة به ، والتمس الناس الشبع لفراغهم الروحى فى فلسفات شتى ، والتمسوا الحلول لمشكلاتهم فى أنظمة أرضية أخرى . * * * ولما كان الحكم مقرونا بسلطات مغرية ومحفوفا بمنافع جمة ، فإن الذين يتحلب ريقهم للذات العاجلة سراع الخطا إلى أصحابه ، مدمنو الوقوف على أبوابه . وفى البيئة المحلية قد يفقد الناس ثقتهم فى الدين ، إذا رأوا نفرا من المتحدثين باسمه يسترضون الحكام ، ويسكتون على ما يعجزهم تسويغه من آثام ، ويهيئون " الفتوى" لما يمكن اصطياد علة له من أحكام الشرع . وتلك لا شك مصيبة جسيمة ، ولكن أجسم منها وأدهى ، ما يصيب الدين فى الميدان العالمى الواسع عندما يتخلى أصحابه عن كل قيمة رفيعة ومثل فاضل . وعندما يجعلون من الدين تكأة للغصب الحرام ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ص _196(1/189)
فكم يحتقر الناس الضمير الدينى ، عندما يرون اليهود فى فلسطين أداة قذرة فى يد الاستعمار يجتاح بها كيان شعب مستضعف ، ويحرمه من كل كرامة مادية وأدبية مفروض أن تتوفر للإنسان ؟…. وكم يحتقر الناس الضمير الدينى إذا رأوه وراء هذا الاستعمار نفسه يتحرك فى رحاب الحياة ، ووقوده الذى يدفعه هو هذا الحقد وذاك الطمع ؟ الحقد على الإسلام ، والطمع فى استلاب أهله وابتزاز أمته . فى " أوروبا " الآن دولة شيوعية ضخمة ، تكفر بالله واليوم الآخر .، ولسنا بصدد إحصاء الأسباب التى أنشأت هذا الكنود ، وإنما بصدد الكلام عن سر بقائه إلى الآن . إن " روسيا " ـ فى الميدان الدولى ـ تظاهر استقلال العرب ، وتحارب الاستعمار ، أو ذاك ـ فى رأينا ـ ما واتتها الفرص لتتظاهر به . فاسمع ما يقوله "خروشوف " عن الدين وهو يتحدث عن أمريكا والدول الضالة معها : " إنهم لا يرون أنفسهم على حقيقتهم ، ومن عجب أنهم لا يزالون يتعلقون بعبارات الديمقراطية ويتمسحون بأذيال الأديان " . وضحك "خرشوف " ثم استطرد : " ومع ذلك فلو أن الله الذى تدعى " دالاس" أنه يؤمن به كان موجودا حقا فإننى واثق أننى أقرب إليه من " دالاس" الذى يدعى أنه قسيس " أ. هـ . إننا ننعم النظر فى هذا الكلام ونعجب ، لماذا يكون رجل ملحد أقرب إلى الله من رجل مؤمن ؟ إن هذا القول المرسل بهذه الجراءة سببه أن " الروس" واثقون من أن ساسة أمريكا والغرب عموما سماسرة أديان لفكرة تستهدف استذلال أغلب النوع الإنسانى . وفى طليعة الذين ينبغى استذلالهم أو استئصالهم ، المسلمون المسالمون.!! فإذا كانت تلك أغراض الاستعمار الصليبى ، فهل تراه يشرف الدين بمسلكه ، ويجعل الشيوعيين مثلا يحسنون الظن به أو يفكرون فى العودة إليه ؟ كلا . وما يقال ، فى مسلك اليهود والنصارى ، يقال أيضا للمسلمين أنفسهم . ص _197(1/190)
فإن الإسلام جدير بأن ينهزم فى البيئات المحلية ، والمجالات العالمية جميعا إذا كان أتباعه اللاصقون به ، أناسا تنحط بهم مبادىء الإيمان ، وتؤخذ من أفعالهم أقبح أسوة . إن الدين يجب أن يتجرد لله ، وأن يتجرد حملته من كل هوى يدينهم إلى حاكم ، ومن كل خور يهزمهم أمام شهواته . وعندما تشرق تعاليم الدين خلال السير الرائعة لأقوام طيبين ، فإن حفاوة الجماهير به وإعزاز الخاصة له لا ينقطعان . * * * ومما صرف الناس عن الدين فى هذا العصر ، التخلف العقلى الملحوظ عند بعض رجال الدين ، وندرة ثروتهم من الثقافات العامة ، وضآلة أنصبتهم من فقه الحياة والأحياء . ومن السخف انتظار نهضة للدين على أيدى رجال يحبون حبوا فى أوائل طريق المعرفة . بينما سبق خصومهم سبقا بعيدا فى دراسات الكون والحضارة ، والتاريخ حتى لكأنهم أحاطوا بكل شىء خبرا . وانفصال العلم المادى عن الإيمان نكبة هائلة للدين . وربما كان المسلمون براء من مبادىء هذا الانفصال فى القرون التى خلت ، لكنهم مؤاخذون اليوم بقصر باعهم فى العلوم المادية . وهم مفرطون فى جنب الله وجنب أنفسهم ما بقوا فى هذا القصور . والغريب أن الاستعمار تمكن من فصل التعليم المدنى عن التعليم الدينى فى بلاد الإسلام كلها . وهو شئ لم يعرف فى تاريخ الإسلام طوال العصور الماضية . بل إنه قسم التعليم الدينى نفسه أقساما شتى . ونتج عن ذلك أن تخرج أئمة ووعاظ ودعاة للإسلام لا يعرفون إلا 1% مما يجب أن يعرف ! وتكليف علماء الإسلام بتبليغ رسالته ـ وتلك حالهم ـ كتكليف جيش ما بكسب معركة فى ميدان لا يعرف طبيعته ، ولا يدرك بدايته ولا نهايته . فهو لا يدرى كيف يسير ، ولا من أين يؤتى ...؟ ص _198(1/191)
ذلك ، وإنى لأعجب أشد العجب من إيمان لم يقم على التأمل فى الكون ولم ينم على دراسة الأحياء . إن أمداد اليقين التى ذكرها القرآن الكريم ليست شيئا آخر غير النظر الدارس والخبرة الذكية . هذه هى غذاء اليقين ونماؤه . وأى إيمان يقوم بعيدا عن تلك الأسس فهو قشر ليس له لب . وأى إيمان تضعف أمداده من النظر والخبرة فهو كالجسد الفقير إلى أسباب التغذية والتهوية ، يعجز عن أى جهد ويجثو أمام كل داء . إن الإسلام نقل التسبيح والتحميد من كلمات حالمة تقال فى صومعة قصية ، إلى كلمات مدوية ترسل فى أثناء التعليق على الأحداث الجارية ، وعلى شئون الحياة الصاخبة ، سواء فى ميادين الحروب أم فى ميادين السلام .. تدبر كيف افتتحت سورة " الحشر" بقول الله تعالى : (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) . وكيف تلا ذلك مباشرة قوله : (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله …). إن تنزيه الحق جل شأنه معنى أثبت فى الآية الأولى منتزعا من طبيعة الوقائع فى الآية الثانية وما تلاها . فإن الذين يظنون بالله ظن السوء حسبوا أن جحود اليهود ، وغدرهم بالعهود وإفسادهم فى الأرض واغترارهم بالمال والقوة أمر لن ينحسم ، وأنهم متروكون حتى ييأس أولو الألباب من عودة العدل والرشد إلى الأرض . فجاء صدر السورة مبينا أن الإمهال لا يعنى الإهمال ، وأن إرخاء الحبل للمجرمين لا يعنى إفلاتهم من العقوبة ، تنزه الله عن ذلك . وكما وجب تسبيح الله بعد التدبر فى أحوال الناس على ما رأيت ، وجب تسبيحه بعد التدبر فى نظام الكون نفسه . ص _199(1/192)
واقرأ سورة الأعلى لتشهد صدق ذلك . (سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاء أحوى). والحمد فى هذه المواطن كالتسبيح ، نعم ، قد تشكر الله على طعام يغذوك من جوع (كلوا من رزق ربكم واشكروا له …). فلتشكره كذلك على وحى يهديك من ضلالة ، وعلى قرآن يخرجك من ظلام . (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا). بل إنه أهل الحمد على إبداعه لهذا العالم الساحر ، وجعله الليل والنهار خلفة للكفاح والهدوء : (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور…) إن اليقين ليس كائنا حبيسا فى حجرة معتمة . إنه كائن حى ، منطلق، جواب آفاق ، سيار فى فجاج البر والبحر . ولذلك فإنى أعجب مرة أخرى لإيمان معزول عن علوم الكون ومعارف الدنيا . وأستغرب علام يعتمد ؟ وبم يحيا ؟ إن الأوهام والخرافات والأفكار الرجراجة لا تجد مقرا تأوى إليه أفضل من الأذهان المقطوعة عن العلم ، المحجوبة عن حقائقه .. وهذه الأذهان آفة الإيمان . فإن الدين كما يتحول فى القلوب المغشوشة إلى رياء ودجل ، يتحول ـ فى العقول الناقصة ـ إلى خبط وشعوذة …!!! وقد عنى رجالات الإسلام بمستقبل الدين ، وبحثوا صلاته بالعلم ، وفتشوا عن العقبات التى تمنع امتداده وتصد عن سبيله ، سواء منها ما أتى من قبل خصومه أم ما نشأ عن غفلة أهله وسوء تدبيرهم .. ص _200(1/193)
ونرى ـ لزاما علينا ـ إثبات مقال جيد لسماحة السيد الأستاذ " محمد تقى القمى" فى هذا الموضوع نشر تحت عنوان " الدين فى معترك السياسة العالمية " قال : " الدين قوة منذ وجد ، ومثل تلك القوة كمثل أية قوة تظهر فى الأرض . ينبرى لها المعارضون والخصوم بغية القضاء عليها ، ويتجه إليها الطامعون والمستغلون رغبة فى استغلالها لمصالحهم . وفى هذا الاستغلال الذى يبتلى به الدين قضاء على مثله العليا وعلى جوهر رسالته السامية . والمتتبع لتاريخ الأديان يلاحظ أن أخطر خصوم الدين فى كل عصر ، جاحد ينكره ، أو مستغل يريد أن يسخره ، وأمامنا على ذلك أمثلة شتى من التاريخ . فقد طالما رأينا الدين فى حرب مع منكريه ، ورأيناه فى خصام مع مستغليه . ورأينا الحكام والسياسات تلتمس فيه سندا وعونا ، ورأينا رجاله فى خدمة حاكم أو سياسة . والويل للدين إن استغل فى خدمة أشخاص أو سياسات . والتاريخ يحدثنا عن الحروب الدامية بين الدين ومنكريه ، كما يحدثنا عن ملوك حكموا باسمه ، لا اعتناقا لمبادئه بل استغلالا لقوته الهائلة كى يظهروا على عدوهم ، أو يطمئنوا على مجدهم ونفوذهم ، ويعيشوا بعونه فى راحة وهناءة . وكان الحكام يخالطون الكهنة ، أو يندمجون فيهم ، لا لشىء ، إلا رغبة فى السيطرة على النفوس باسم الدين ، وحتى يجذبوهم إلى خدمتهم فى شتى الميادين . وكان الملوك يهدفون إلى تسخير الدين حين كانوا يتشحون بأثواب القداسة ويرأسون الديانات . وقد أسرف بعضهم فى ذلك ، وحاول أن يفيد من ديانتين متباينتين فى وقت واحد . كما فعل " قسطنطين" الذى لم يكتف بأن يكون الكاهن الأعظم فى الديانة الوثنية السائدة ، بل كان فى الوقت نفسه حامى المسيحية وناشر فكرتها ، ومؤسس القسطنطينية مركز الكنيسة الرومانية الشرقية . على أن الدين ـ رغم ما واجه من عنت خصومه ومستغليه فى كل عصر ـ ظل قوى النفوذ ، واسع السلطان ، مسيطرا على القلوب . ص _201(1/194)
وذلك لأسباب أهمها أن العلم كان بيده ، بل كاد يكون احتكارا لرجاله على مدى العصور . ولا نريد أن نوغل فى القديم أكثر من هذا . فلنذكر القارىء بآثار كهنة سومر ـ أقدم الديانات ـ أو كهنة بابل ، أو غرائب علوم كهنة مصر ، أو أسرار مؤبذان فارس ، أو ما إلى ذلك . بل حسبنا أن نذكره بأن العلم كان بيد الكنيسة المسيحية . وأن الإسلام جعل للعلم قداسة كالدين ، فكان كل درس يبدأ باسم الله والتعوذ من الشيطان الرجيم . وكان طلاب التفقه فى الدين يدرسون " الفلسفة " و " الرياضة " و " الفلك " و " الطب " و "الكيمياء" ، كما كانت المعاهد الدينية هى نفسها مدارس علوم الحياة . وكان علماء الدين هم أساتذة تلك العلوم . لكن معاهدنا الدينية الإسلامية هجرت هجرا كليا علوم الحياة ، كما أن الغرب المسيحى انحرف عنها إلى حد كبير ، وإن ظلت المدارس الدينية فى بعض بلادهم تساهم مساهمة كبيرة فى تثقيف الشباب ، مع صبغهم بروح الدين . والدليل على ذلك ما قرأناه فى الصحف بالأمس القريب عما وقع فى "بلجيكا" وهو البلد الأوروبى المتحضر تحت عناوين بارزة ، مثل "بلجيكا على أبواب حرب أهلية " . ومجمل الخبر أن الحكومة البلجيكية خفضت المعونة التى تقدمها إلى المدارس الكاثوليكية ، وأن هذا أثار كثرة الشعب ـ ومنهم تلاميذ تلك المدارس طبعا ـ فاحتشدت مظاهرة فى الشوارع من مائة ألف كاثوليكى ، فيهم رئيس وزارة سابق وأعلنت احتجاجها على هذا التصرف . ولقد وقفت أمام هذه الأنباء التى شغلت الرأى العالمى أياما وقفة طويلة . وقرأت فيما بين السطور قوة الدين ومركز رجال الدين كأساتذة للجيل المعاصر هناك . وقارنت بين ربطهم العلم الدينى بالحياة ، وبين ما نحن عليه الآن . وإنه منذ زهد رجال الدين عندنا فى علوم الحياة ، بدأ العلم يشق طريقه غير آبة بالدين ولا حافل به . وبدأ الشبان يفهمون أن العلم شئ والدين شئ . وانصرفوا ـ بكل عقولهم ـ إلى العلم ، وانصرفوا بكل قلوبهم عن(1/195)
الدين ، حتى أصبحنا الآن أمام علماء يسخرون كل ما فى الطبيعة لإثارة الشهوات ، و إشاعة جو من الرذيلة فى أرجاء الأرض . ص _202
وها هم أولاء ، يشتغلون ليلا ونهارا ، خفية وجهرا ، ليطلقوا الذرة ، وليس يهمهم أن يدمر إطلاقها ذلك قارات بأكملها . ثم هم يتسابقون فى صنع صواريخ تطلق فى الجو فتهلك الملايين بأشعتها دون أن تهوى إلى الأرض . ولا يأبهون أن ينزل العذاب والشقاء بالبشر أجمعين . والعلم سلاح قوى خطر ، إن وقع فى يد الفضلاء نفعوا به الناس ، والتمسوا به الخير ، وأناروا به البصائر ، وهدوا به إلى عظمة الخالق . وإن وقع فى يد السفهاء آذوا به كثيرا ، وأضروا به كثيرا وجروا به على البشرية أفظع الشرور . وقديما فطن العلماء إلى هذه الحقيقة ، فالتزموا قواعد لم يحيدوا عنها طوال العصور ، ضمنوا بها بقاء العلوم فى يد الأخيار من أهل الفضيلة ، وبذلك حفظوا البشرية من الشرور . فكهنة " بابل " و " مؤبذ " و " فارس" كانوا لا يبوحون بأسرار علومهم لمن ليس أهلا لها ، ومن لا يُطمأن إليه ، خيفة أن يوذى به أحدا من الناس . وكهنة "مصر" كانوا يقولون : إن سر الموت والحياة هو سر الأسرار ، ولابد أن يبقى خافيا عن العامة وإلا خربت الأرض ومن عليها . وهكذا فقد العلم فى عصرنا صمام الأمان وهو الدين . ثم انتقل سلاح العلم من أيدينا إلى أيدى غيرنا ، وتحول هذا السلاح النورانى من خدمة الخير المطلق ليسخر فى خدمة الشر المدمر . فماذا فعلنا نحن رجال الدين ؟! إن الشقة بيننا وبين علوم الحياة ظلت تتسع حتى وصل الأمر إلى أنه لو عرض على طالب جامعى أن يدرس فى معاهد الدين لبهت وأخذ ، كأنما أنذر بالموت . هذا بعد أن كانت المعاهد الدينية إلى زمن غير بعيد تلحق بالمساجد . إن الدين ـ كقوة ـ فقد كثيرا من جنوده بتسريح الشباب من ميدانه ، وباعتزال رجاله معترك الحياة بعد أن كانوا يعيشون فى صميمها ويأخذون بيدهم زمام التعليم وهو ضرورة للإنسان كالماء(1/196)
والهواء . بينما خصوم الدين ومستغلوه الذين كانوا فى الماضى أفرادا أو جماعات متفرقة أو حكومات محلية محدودة القوى ، تحولوا إلى كتلتين عالميتين . ص _203
إحداهما تحاربه حربا عنيفة قاسية ، والأخرى تحاول أن تستغله استغلالا كاملا . وكلتاهما تؤذى الدين الحق ، وتقوض دعائمه ، وتعصف بكل مقوماته عصفا . نعم لقد أصبح الدين فى العصر الحديث ـ بعدما ارتبطت أجزاء العالم المتباعدة ـ يواجه كتلتين قويتين تشملان رقعة العالم تقريبا . كتلة تنكره وتبنى سياستها على محوه ، وتحاربه بشتى الوسائل وتصفه بأنه مخدر أو " أفيون" للشعوب ، وتسف فى التعريض به ، وتعزو إليه كل جدب يصيب النفوس ، وكل نقص يصيب الزروع . وكتلة أخرى تظهر بمظهر المؤيد للدين ، رغبة منها فى استغلاله ضد غريمتها . فهى تعمر المعابد ، وتشجع على بناء الكنائس ، وتسرف أحيانا فى هذا إسرافا كثيرا . وهذه الكتلة التى تتظاهر بتأييد الدين ، هى نفسها تتحفنا بأفكار وتقاليد وتصرفات ، أقل ما يقال فيها : إنها تبث روح الاستخفاف بالدين ، وتغرى الناس بالخروج على تقاليده وتعاليمه . أليس فى تصرفاتها بفلسطين ، والجزائر ، وغيرهما دليل على الاستخفاف بالمسيحية والإسلام ؟ أليست هذه الكتلة هى التى تفسد الشباب وتصرف الناس عن الدين بما تنشره من أفلام داعرة وأفكار انحلالية ؟ ثم إننا ـ كرجال للتقريب نرى أيادى تلك الكتلة ـ مع الأسف ـ وراء النشرات المفرقة ، والمحاولات البارعة لإيجاد الخلاف فى صفوف المسلمين أو توسيع شقته بين أبناء الدين الواحد ، وفى مقاومة أية فكرة تستهدف جمع الكلمة . وأخيرا نرى هذه الكتلة لا تروج بيننا غير الخرافات . وهى ـ وحدها ـ كفيلة بالقضاء على الدين . * * * هذا هو وضع الدين فى العالم ومركزه فى معترك السياسة العالمية ونصيبه من بطش الكتلتين العالميتين اللتين تهدد كل منهما الأخرى وتبغى إفناءها ، واللتين تجران على العالم كله القلق الشامل ، والاضطراب(1/197)
الزائد ، والخوف المزعج ، وعدم الثقة . والدين وحده هو الذى يستطيع أن يتحكم فى هذا الموقف ويتغلب على الأهواء البشرية " وهستريا " الحرب ، والذى يستطيع أن يرد الطمأنينة إلى النفوس . ولكن ص _204
كيف يُمَكَّن من أداء رسالته كقوة معنوية يحسب حسابها ، وترجع بالبشرية إلى صوابها ؟ سؤال ليس من السهل الإجابة عنه فى بقية مقال ، إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نشير إليه فى عرض سريع . التعليم كان سلاحا بيد رجال الدين وحدهم . والعلم والدين لم يفترقا إلا فى أوقات لا تكاد تذكر . والتثقف والتدين كانا دائما متلازمين . ولم يكن الدين يعرف بدعة القديم والحديث ، ولا كان العلم ينتزع الشباب من أحضان الدين ، فماذا عرانا حتى ضاعت من بين أيدينا هذه الوحدة المتماسكة ؟ اعتزلنا وأوجدنا قديما وجديدا ، ثم قدمنا سلاح التعليم لأنصار الجديد واكتفينا بأن نحافظ على القديم . وبذلك سرحنا جنودنا من الشباب ، وتركناهم مطية لغيرنا ، وعرضة ليكونوا حربا علينا . نحن أمام جيل جديد ، فماذا أعددنا لهم اليوم لنضمن صلتهم بالدين غدا ؟. إن المعاهد انفصلت عن المعابد ، والمساجد ابتعدت عن المعاهد ، وبذلك انحرف العلم عن قدسيته ، والدين عن رسالته . ولا خلاص إلا أن نهتم بالمعاهد اهتمامنا بالمساجد ، بل لا نبنى مسجدا إلا بنينا بجانبه معهدا ، ولا معهدا إلا بنينا بجانبه معبدا . فلنعد طلبة الدين أنفسهم ليكونوا رجال التعليم . وبذلك يفتحون آفاقا جديدة ، ويخدمون العلم كما يخدمون الفضيلة ، ويكتسحون المكاتب والمدارس والجامعات ، فيحلون محل الملحدين والمارقين . ومما لا شك فيه أنهم بعملهم هذا يضمنون للدين قوة وبقاء ، وللبشرية سلامة وأمانا ، ولأنفسهم مكانة تليق بهم فى حاضرهم ومستقبلهم والله يوفق العاملين" أ.هـ . * * * إن علماء المادة الذين يكفرون بعد بحث واستدلال ، يمكن أن يثوبوا إلى رشدهم ، فيؤمنوا بعد بحث واستدلال .... ذلك أن كفرهم الأول أتى من قلة(1/198)
فى الحقائق التى تجمعت بين أيديهم ، أو خطأ العلم نفسه فى ترتيب المقدمات واستخراج النتائج ، أو جاء من مبالغة فى التعويل على معلومات قليلة ، أو لعله شرود عن منهج فى الوصول إلى اليقين . ص _205
ونحن لا نيأس من عودة هؤلاء إلى الدين ماداموا مخلصين فى البحث ، جادين فى تحرى الحق ... أما الذين نيأس منهم ، ونضيق أشد الضيق بهم فهم المقلدون فى الكفر ، الذين يلحدون فى "مصر" على صيت تقدم العلم فى " أمريكا " . هذا الذباب الكفور يظن أن من الانحشار فى زمرة العلماء متابعة ما يتطاير من كلمات باطلة تنسب إلى هذا العالم أو ذاك ، وتلقى الشكوك حول قيمة الدين ، ومباحثه ومناهجه ... ونحن ننبه إلى تفاهة أولئك المقلدين الصغار ليحذر الجيل الجديد شباكهم وينأى بقلبه وفكره عن إلحادهم . ثم نحن نلفت النظر إلى أن كفر العلماء الماديين بالأديان كما صورت لهم ، أو كما ألفوها فى بيئتهم ليس كفرا بالله ، و طعنا فى ضرورة الإيمان وحقيقته . إن الأديان علق بها من الخرافات شئ كثير . بعضه اقترن بجوهرها ، واستحال فصله عنها . وبعضه اختلقته الدعايات الكذوب ، فما يعرف الوحى الإلهى معها على نقائه بل يستخفى وراء أغشية منفرة . وكفر العلماء الأذكياء ، بالخرافة المضافة أو المزعومة ، أمر لا يلامون عليه ، بل هو المرتقب منهم ومن غيرهم . وهذا الكفر لا يطعن فى صدق الإيمان بالله الواحد ، بديع السموات والأرض ، خالق كل شئ بقدر ، وهاديه إلى نظامه بحكمة . وجمهرة العلماء من هذا القبيل . إن التجاوب بين البصر، والشعاع والمرئيات ، كالتجاوب بين الفطرة السليمة ، وطبيعة الحياة ، ومصدر هذه الطبيعة . ومن ثم فنحن لن نفتأ نكرر ، أن الإيمان الحق ، والعلم الحق ، صنوان . وأن أحدهما لن يصطدم بالآخر ، أو يقف فى طريقه . ذلك.. ومما يحسن لفت الأنظار إليه أيضا ، أن الذباب الكافر فى بلادنا متخلف كثيرا عن ملاحقة الركب العلمى الحديث . ص _206(1/199)
فهو اليوم يحيا على فتات من بحوث علماء القرن التاسع عشر . ويكرر مقررات طرأ عليها تغيير كبير فى هذا العصر . وربما رأيت أحدهم يذكر النظرية العلمية ـ التى لا تزال فى مجال الظن ـ على أنها حقيقة مؤكدة دون وعى إلى أن هناك نظريات أخرى جدت وانتقل بها الفكر العلمى من حدس إلى حدس . ولم يزعم العلماء ـ الذين يحترمون أنفسهم ـ أنهم بلغوا بها منزلة الجزم ... وندع الكلام فى هذا المجال للأستاذ " محمد فريد وجدى" قال : " اتفق أهل العلم فى القرون الأخيرة ـ بعد كفاح أسلافهم لرجال الدين زهاء عشرة قرون متوالية فى سبيل حرية النظر على إطلاق كلمة " العلم" على المحصول العقلى والعملى لجميع مجالات البحث ، من أول ما اشتغل به الفلاسفة الأولون ، وجميع من جاء بعدهم من أهل التفكير الحر . والعلماء فى أوروبا جنحوا إلى هذا الشمول بعد جهاد شاق وضغط شديد . وقد صبروا على ما عُوملوا به من العسف ، وما سيموا به من الاضطهاد . حتى استشهد منهم فى القيام بحقه أكثر من ثلاثمائة ألف فى ثلاثة قرون متوالية ، إحراقا بالنار ، وإغراقا فى اليم ، وذبحا بالمدى ، وما لا يمر بخيال أحد من صنوف التعذيب التى تقشعر منها الأبدان . وكان الذين يتولون هذه الحركة العدائية للعلم هم رجال الدين ـ المسيحى ـ . فلما نشأت البروتستانتية فى النصف الأول من القرن السادس عشر ، واشتغل رجال الدين بالخلافات المذهبية وأظهر قادة هذا المذهب الأخير تسامحا مشكورا حيال العلم والمشتغلين به ، تحرر العلم من رقابة خصومه . فنهض رجاله ، وقد امتلأوا حقدا على الدين وأهله ، يشهرون بهم وبالعقائد السماوية معهم ويبالغون فى نقدهم ، ونقد مذاهبهم . وكلما أمعن هؤلاء فى تناحرهم ، وأغرقوا فى جهودهم ضد أنفسهم ، عمل أهل العلم على جمع صفوفهم وتقوية جهات ضعفهم وشغل العالم بنتاج أفكارهم . وعلى قدر ما كان يثمره العلم من الاكتشافات ومن اختراع الآلات وتدارك الحاجات ، كان يزداد تأثير(1/200)
فلسفته فى العقول ، ويتضاعف الشعور باحترامه فى ص _207
النفوس ، حتى عند من ليس له أدنى نصيب منه من العامة وأشباههم . فأصبح للعلم بعد هذا التطور العظيم منزلة فى القلوب تفوق منزلته فى العهود الماضية . ولما توالت مكتشفاته البخارية ، والكهربائية ، والمغناطيسية فى القرن الماضى وما سبقه ، اكتسب سلطانا على النفوس لم يكن فى العصور الأولى لغير الدين ، وتناسى الناس العقائد بل أغفل ذكرها أكثرهم . كان شعور أهل العلم فى هذا الدور ـ وقد استغرق نحوا من قرنين ـ شعور من أسقطوا الدين ، وقضوا على دولته أبد الأبد ! وقد صرحوا بذلك فى أغلب مؤلفاتهم . ثم اكتسب " العلم " ـ بالإجماع الذى انعقد حوله ـ مكانا ممتازا . فلو كان هذا الإجماع على العلم المطلق البالغ أقصى مداه بحيث يستحيل نقص أى حرف منه ، لكان تقديسه من أوجب الواجبات على كل عاقل . ولكن العلم الإنسانى إلى هذه الفترة ، كان لا يزال بحاجة إلى التمحيص . وكان كثير مما يعتبرونه بداهات علمية لا يزال يُعوزه التحقيق . وكانت المذاهب التى عللوا بها قيام الوجود بنفسه لا تزال ظنية . وكان كثير منهم يعرف هذا ولا يجاهر به حتى لا يحط من مكانة العلم الذى أصبحت له ـ بفضل هذا التقديس المحيط به ـ شخصية أدبية تَخِرُّ العقول أمامها ساجدة . وقد بالغ بعضهم فى هذا الغُلُوّ حتى وصفوه بالعصمة المطلقة ، واعتبروا أنفسهم أهله الأقربين الذين من حقهم أن يحتكروا شرف التكلم باسمه . فقرروا أن كل قول ينافي أصلا من أصوله المقررة ، أو اكتشافا سبق له أن حكم باستحالته ، أو رأيا جديدا يوهن بعض ما أيده ، لا يجوز أن يلتفت إليه ، فضلا عن دراسته والعناية به ، مهما كانت الغاية التى يرمى إليها . أما محاولة إثبات العقائد الدينية ، أو لفت النظر إلى ما يؤيدها من حوادث ، أو الأخذ فى تمحيص ظواهر جديدة تَمُتُّ إلى عالم الروح بسبب ؟ فقد كان هذا فى رأى الكهنوت العلمى الجديد من الإسفاف الذى يجب أن(1/201)
يترفع عنه المنتسبون إلى العلم بعد أن بلغ الغاية القصوى من حصر العوامل الوجودية والعلل الأولية . فى هذا الدور ـ وقد بلغ أوجه فى القرن التاسع عشر ـ انتشر الإلحاد بين العلماء ، وذاع بين الطلاب والمتصلين بهم ذيوعا ينذر بانتهاء عصر الدين ، كما كان يذيعه مروجو هذا العهد فى كتبهم ومجلاتهم . ص _208
وشعر رجال الأديان بالخطر فقبعوا فى معابدهم يقرءون الطعن فيهم والتشهير بهم ، ولا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم . هذا هو الذى عنيته عندما حذرت من: "خطر العلم على العقول الشرقية " وعندما ناشدت أن تتألب لدفع هذا الخطر جميع العقول البشرية . ومرادى بهذه العقول هنا : التى أفاقت من غشية هذا الخطر ، لا العقول التى لا تزال غارقة فى حمأته ، أو خابطة فى دجنته . وسيتبين القارىء مما يلى استقامة معنى هذا التعبير . لم يكد يهل القرن العشرون ، ويهتدى بعض العلماء إلى تفتيت الذرة فى سنة 1957 ويثبت أنها قوة وكهرباء ـ وكان قد سبق ذلك اكتشافات أخرى فى المادة ونواميسها ـ حتى هب رجال العلم من سُباتهم وأعادوا النظر فيما لديهم من صروح النظريات القديمة . وإليك ما قاله العلامة "جوستاف لوبون" فى كتابه " تحول المادة " : كان العالم يختال بالعلم الذى هو ثمرة جهود بذلت فى عدة قرون . وكانت الوحدة والبساطة سائدتين بفضله فى كل مجال من مجالاته . وظلت هذه العقيدة فى المقررات الكبرى للعلم العصرى حافظة لقوتها إلى أن حدثت فى الأيام الأخيرة مكتشفات غير منتظرة قضت على الفكر العلمى أن يكابد من الشكوك ما كان يعتقد أنه قد تخلص منه أبد الدهر . فإن الصرح العلمى الذى كان لا يلمح صدوعه إلا عدد قليل من ذوى العقول العالية ، تزعزع فجأة بشدة عظيمة وصارت التناقضات والمُحالات التى فيه ظاهرة للعيان بعد أن كانت من الخفاء بحيث لا تكاد تبلغها الظنون . تلك المكتشفات ـ التى نوهت بها ـ آنفا قد كشفت اللثام عن الظنيات التى بدأت تفضحها الكتب الحديثة .(1/202)
وبذلك دخل العلم نفسه فى دور من الفوضى كان العلماء يظنون أنه سلم منها وقد كتب المسيو "لوسيان بوانكاريه" العلامة الرياضى الكبير يقول : ص _209
إنه لا توجد لدينا نظريات كبرى الآن يمكن قبولها قبولا تاما ، ويجمع عليها المجربون إجماعا عاما . بل يسود اليوم فى ميدان العلوم الطبيعية نوع من الفوضى . واتسع المجال للاجتراءات الممكنة ولم يظهر أن ناموسا من النواميس ضرورى ضرورة مطلقة . فنحن نشهد فى هذه الآونة أعمالا هى أشبه بالهدم منها بإقامة بناء نهائى . فالآراء التى كانت تظهر لمن سبقنا كأنها تأسست تأسسا ثابتا ، صارت اليوم لدينا موضوعا للمناقشة . . ثم ختم العلامة "جوستاف لوبون " هذا الفصل بقوله : من حسن الحظ أنه لا شىء أحسن ملاءمة للترقى العلمى من هذه الفوضى . فالوجود مفعم بمجهولات لا نراها . والحجاب الذى يغطيها منسوج ـ غالبا ـ من الآراء الضالة أو الناقصة التى توجبها علينا تقاليد العلم الرسمى . فلا يمكن عمل خطوة للأمام إلا بعد تفكك عُرى الآراء السابقة . والأشد خطرا على تقدم العقل الإنسانى هو تقديم الظنيات للقراء ، لابسة حُلل الحقائق المقررة على نحو ما تفعله كتب التعليم . والتطاول لوضع تخوم للعلم ، ورسم حدود لها يمكن معرفته كما كان يود ذلك "جوست كونت " . * * * وقال العلامة الرياضى الكبير "هنرى بوانكاريه" العضو بالمجمع العلمى الفرنسى فى مقدمة كتابه "العلم والافتراض" بعدما وصف استسلام العلماء لكل ما أطلقوا عليه اسم العلم : لمّا تَرَوَّى العلماء قليلا لاحظوا مكان الفروض من هذه العلوم . ص _210(1/203)
ورأوا أن الرياضى نفسه لا يستطيع الاستغناء عنها ، وأن صاحب التجربة لا يستغنى عنها كذلك . حين ذاك سأل بعضهم بعضا هل كانت هذه المبانى العلمية على شئ من المتانة؟ ثم تحققوا أن نفخة تكفى لجعل عاليها سافلها . هذا وإنى أستطيع أن أسرد هنا عددا كبيرا من هذه الاعترافات ، وكلها تدل على إفاقة العقلية العلمية من غشيتها ، وعلى أنها استردت اتزانها . ولست فى حاجة لأن أقول بعد هذا : إنه بزوال هذا السد الفولاذى الذى كان قائما أمام العقول انفتح أمامها مجال النظر الصحيح والاستدلال القويم وخلصت من كابوس الانخداع الذى رزحت تحت تأثيره عشرات السنين . ولكن هل بلغ هذا التطور العظيم أنصاف العلماء ومريديهم من كل قبيل فى مشارق الأرض ومغاربها ؟ كلا . فلا يزال السواد الأعظم فى غفلة من هذا ، ولا يزالون ينشرون الإلحاد حيث يوجدون . ولم يفت هذا الأمر أئمة العلم الأعلين . قال العلامة "جوستاف لوبون" فى كتابه المتقدم ذكره : " لا مشاحة فى أن الأصول التى كان العلم يختال بها اختيالا ، لم تزل من الأذهان كل الزوال وستبقى أمدا طويلا ـ فى نظر الدهماء ـ حقائق مقررة . وستستمر الكتب الابتدائية على نشرها ، ولكنها قد فقدت كل ما كان لها من القيمة فى نظر العلماء الحقيقيين . " وبعد فهذا هو خطر العلم الذى أشرت إليه فى مقالى ، وبينت ضراوته على كثير من العقول . وليس بخاف اليوم على أحد ، ما تتشبث به هذه العقول من الإصرار على مجافاة الدين والحكم عليه بالزوال ، تمسكا منهم بالنظريات العلمية القديمة التى سقطت وأثبتنا لك رأى العلماء فى سقوطها وسقوط منزلتها . لذلك أهبنا بالعقول الذكية التى استنارت بالعلم الحق أن تتألب على دفع هذا الخطر عن الدين . ص _211(1/204)
فإنه رأس المقومات الأدبية للنوع الإنسانى ، تلك المقومات التى إن سقطت سقط معها صرح الاجتماع كله ولا يغنى عنها العلم المادى ، كما لم يُغن عن الأمم البائدة . وها هى ذى الأمم التى أفلتت من شكيمة الدين تتفانى بوسائلها العلمية ولا يُغنى عنها علمها الزاخر شيئا . ثم قال ؟ ".. الدين والعلم ـ فى نظر الماديين العصريين ـ نقيضان لا يجتمعان ، وضدان لا يتفقان . ذلك بأنهم قصروا الكون على المحسوسات وأنكروا ما وراءها جملة وتفصيلا . فلا رُوح ، ولا خلود ، ولا ملائكة ، ولا غير هذا من العوالم الغيبية . ثم هم تصوروا الدين على الشكل الذى يرون عليه المتدينين . ولكنهم لو أنصفوا كما أنصف فى هذا العصر أكابرهم ، ووقفوا على ما فتح الله به على العالم العصرى من الحجج العيانية فى إثبات عالم ما وراء المادة ، ثم نظروا للدين فى أصله ، وينبوعه ، وعلاقته بالروح الإنسانية نظر الحكيم المتبصر ، لعلموا أنهم كانوا فى أحكامهم الأولى غلاة مفرطين ولأصبحوا من أعز أبناء الدين ، كما أصبح اليوم كذلك أكبر العلماء الماديين . ولسنا نيأس من رجوعهم فقد رجع من هو أشد منهم بطشا . (ومضى مثل الأولين) ! " أ. هـ . * * * ص _212(1/205)
لا مكان للإلحاد بيننا ما هؤلاء الناس ؟ إنهم ليسوا " عربا " ولا " عجما " ولا " روس " ولا " أمريكان " ! ! إنهم مسخ غريب الأطوار ، صفيق الصياح ، بليت به هذه البلاد إثر ما صنعه الاستعمار بها ، وترك بذره فى مشاعرها وأفكارها . فهم ـ كما جاء فى الحديث ـ من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا . بيد أنهم عدو لتاريخنا وحضارتنا ، وعبء على كفاحنا ونهضتنا ، وعون للحاقدين على ديننا ، والضانين بحق الحياة له ولمن اعتنقه . إن هؤلاء الناس الذين برزوا فجأة ، وملأت ضجتهم الأودية كما تملأ الضفادع بنقيقها أكناف الليل ، يجب أن يُمزق النقاب عن سريرتهم ، وأن تعرفهم هذه الأمة على حقيقتهم حتى لا يروج لهم خداع ولا ينطلى لهم زور . إن هؤلاء الذين يلبسون مسوح العروبة ، ويندسون خلال صفوف المجاهدين ويزعمون أنهم مبشرون بالقومية العربية ورافعون لألويتها ، وفى الوقت نفسه ينسحبون من تقاليد العروبة ، ويهاجمون أجَلَّ ما عرفت به ، ويبعثرون العوائق فى طريق الإيمان ورسالته . إن هؤلاء الناس ينبغى أن يُماط اللثام عن وجوههم الكالحة ، وأن تلقى الأضواء على وظيفتهم التى يسرها الاستعمار لهم ، ووقف بعيدا يرقب نتائجها المرة . وما نتائجها إلا الدمار المنشود لرسالة القرآن وصاحبها العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ... لقد قرأنا ما يكتبون ، وسمعنا ما يقولون ، ولم يعوزنا الذكاء لأستبانة غايتهم . فهم ملحدون مجاهرون بالكفر . يقولون فى صراحة : أن الإسلام ليس إلا نهضة عربية فار بها هذا الجنس العظيم فى القرون الوسطى . واستطاع فى فورته العارمة أن يجتاح العالم بقيادة رجل عبقرى هو الزعيم الكبير محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . . ! ! ص _213(1/206)
أى أن هذا الدين الجليل نبت من الأرض ولم ينزل من السماء ! ! وأنه انطلاقة شعب طامح فاتح ، وليس هداية مثالية فدائية جاءت من عند الله ، لتنقذ العرب من جاهلية طامسة كانوا بها فى مؤخرة البشر ، إلى حنيفية سمحة رفعت خسيستهم ، ثم انتشر شعاعها بعد فى أنحاء الأرض ، كما تنتشر الأضواء فى عرض الأفق لدى الشروق . والفضل فى ذلك كله لله وحده ، الذى اصطفى محمدا وامتن عليه بالهدى والحق ، بعد أن قال له ـ (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) وقال : (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم) كما يقول فى العرب الذين أرسل فيهم : (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) فأى زحف عربى هنالك ؟؟ وأية عبقرية أنشأت من عندها هذا الغيث الممرع لأهل الأرض ؟… إن الزعم بأن الإسلام " فورة عربية " أكذوبة كبرى وأضلولة شائنة . وأن هذا القول ، ليس تكذيبا للإسلام فقط ، بل دعوة خطيرة إلى تكذيب الديانات كلها وإلى إشاعة الكفر والفسوق والعصيان فى أنحاء الأرض . والغريب أن هؤلاء الناس يخاصمون الإسلام بعنف ، ويحاربون أمته بجبروت ويهادنون الأديان الأخرى من سماوية وأرضية ..!! كأن الإسلام هو العدو الذى كلفوا باستئصاله وحده . لا . بل هو العقبة الفذة التى وضعت المعاول فى أيديهم لإهالتها ترابا . . أجل ، وهل للاستعمار عدو فى هذه البلاد إلا الإسلام ؟ أنه مصدر المقاومة العنيدة ، وروح الكفاح الباسل الذى أعيا المهاجمين ، وأحبط مؤامراتهم .. ص _214(1/207)
ومن ثم فعلى الاستعمار أن ينسج خيوطه حوله ليقتله ، ويحول بينه وبين الحياة الكريمة ... ولقد ابتدع القوميات الضيقة ، وإستجباها بشتى الأساليب لينال من كيان هذا الدين. فلما سقطت أمام الإسلام فى المعركة ، دس أتباعه تحت لواء "القومية العربية" وزودهم بضروب من الأدعاء ليزحموا العرب المخلصين فى هذا الميدان ولينالوا من الإسلام بطريقة أخرى ... وتفسير " القومية العربية " هذا التفسير الكفور الكنود ، هو حرب أخرى ضد الإسلام . وإنه لجدير أن يتسمى هؤلاء بأتباع "القومية العبرية" لا العربية .. أليسوا يعملون لمصلحة الاستعمار وإسرائيل ؟ ولقد مرت أربعة عشر قرنا على اشتباك العروبة بالإسلام أو بتعبيرنا ـ نحن أهل الإيمان ـ على تشريف الله للعرب بحمل هذه الأمانة ، و إبلاغها للناس . ونظرة إلى الماضى البعيد تعرفنا ـ بسهولة ـ أن العرب مرت عليهم أدهار قبل الإسلام لم يكونوا فيها شيئا مذكورا . ثم جاء هذا الدين فدخلوا التاريخ به ، وطار صيتهم تحت رايته . وصدق الله إذ يقول : (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون). ثم أخطأ العرب فظنوا هذا الدين العالمى الذى نزلت فيهم آياته يمنحهم امتيازا خاصا ، ويجعلهم عنصرا أرقى من سائر الأجناس . ونشأ عن هذا الخطأ رد الفعل الذى لابد منه . فقامت الشعوب الأخرى تدافع عن قيمة دمها ، وكرامة عنصرها . وهذه الأغلاط المتبادلة علتها حنين البشر إلى الجاهلية واستثقالهم مؤنة السعى لتحصيل الكمال الإنسانى . فإذا عز على شخص تافه أن يكون تقيا ، وأن ينسبه عمله إلى المجد والعُلا ، ذهب ينتحل نسبا آخر إلى أسرة أو وطن أو جنس ليرتفع به دون جهد . ص _215(1/208)
وتلك كلها عصبيات باطلة ، ونزعات نازلة ، ولا محل لها فى دين ، ولا وزن لها ، عند رب العالمين . ولكن المهم أن العرب الأولين لما أرادوا المفاخرة والتميز كان الإسلام متكأهم ومعقد فخارهم . فبأى شئ يملأون أفواههم إذا لم يذكروا الإسلام ؟ إن وطابهم خال ، وتاريخهم صفر . حتى جاء الأفاكون فى هذا الزمان بالبدعة التى لم يسمع بها إنسان . فإذا العروبة ـ فى نظرهم ـ يجب أن تتجرد من الإيمان ، وزعموا ـ قبحهم الله ـ أنها بالانسلاخ عن الدين تسمو وتسير . بل إن أحد الكتاب من هذه العصابة ، وجد الوجه الذى يطالع به الناس ليقول : إن الإسلام جنى على العروبة ! ! وإن اللغة العربية انتشرت أبعد مما انتشر الإسلام ! وإن الإسلام ـ لأنه عالمى ـ ضار بالقومية العربية . وظاهر أن هذا الكلام ـ بقطع النظر عن بطلانه ـ إنما يروج لحساب الاستعمار الغربى منه والشرقى على سواء . وأن قائله يخدم أهداف الغزاة الذين عسكرت جيوشهم فى بعض أقطار العروبة ، وأنزلت بها الهون ، ووقفت على حدود البعض الآخر تتربص به الدوائر . وكاتب آخر من العصابة يطلب منا ـ بإلحاح ـ أن ننسى التاريخ ، لأنه لا يضم إلا رفات الموتى ، وأن نتطلع للمستقبل فحسب . ونسى هذا الغِرُّ أن اليهود فى كبد الشرق الأوسط ، أقاموا دولتهم بأمداد من التاريخ الموحى ، وأنهم جعلوا اسم " إسرائيل" علما عليها . إنه حلال للناس جميعا أن يستصحبوا تاريخهم فى كفاحهم . أما نحن ـ المسلمين ـ فحرام علينا أن نذكر فصلا من هذا التاريخ ، وأن نستوحى منه عونا فى جهاد ، وأملا فى امتداد . إنها قومية عبرية لا عربية ، تلك التى يبشر بها الملحدون ، وكارهو الإسلام . ولقد عرف الأولون والآخرون أننا ـ نحن المسلمين ـ أحنى الناس على العروبة ، وأوصلهم لمجدها ، وأخلصهم لقضاياها ، وأن هؤلاء القوميين لا خير فيهم . بل إنهم مصدر شر طويل ، وأذى ثقيل . ص _216(1/209)
إن حضارة العروبة وخصائصها الروحية والاجتماعية وتراثها الماضى وأمانيها المستقبلة لا يمكن ـ البتة ـ سلخها عن الإسلام . وليس معنى هذا أن الأديان الأخرى مهدرة القيمة ، منكورة الحق ، كلا . فإن العرب ـ فى ظل الإسلام ـ عاشوا مع العرب النصارى ، جيرانا طيبين ، بل إخوانا متحابين ! . إن الشر الذى نريد إيصاد الأبواب دونه ، هذه القومية الكافرة الذليلة الكنود التى تخاصم الإسلام جهرة وتحاول عبثا حطم أمته وتبديد شريعته .. ونحن لها بالمرصاد ! ! . ونحب أن نسأل أولئك الذين يملأون بالتفاخر الكذوب أفواههم ، ويريدون أن يخيلوا لأولى الأفهام القاصرة أن العرب يمكنهم الاستغناء عن الأمة الإسلامية ، كما أن العروبة يمكنها الاستغناء عن الإسلام ...!!! نحب أن نسأل هؤلاء : هل قرأوا التاريخ ؟ وهل وعوا دروسه ؟. وهل فى وجوههم بقية حياء تجعلهم ينزلون على حكمه ؟. إن العروبة فى أشد أزماتها لم تجد منقذا إلا لدى المسلمين المخلصين من أجناس الأرض الأخرى . بل إن العرب لما تكسرت صفوفهم تحت سنابك التتار الزاحفين من الشرق ، وانهارت سدودهم " أمام الصليبيين المنحدرين من الغرب ، وكادت تذوب هذه الأمة فى دوامة العواصف المطبقة ذوبان الملح فى الماء ... فى هذه اللحظات العصيبة تقدم المسلمون من الأجناس الأخرى يصدون العدوان ، ويدفعون عن ديار العروبة ويبسطون حمايتهم المشكورة . قال الأستاذ "عبد الحميد العبادى" : " إجتاح التتر أقاليم الدولة العباسية الشرقية ودمروها تدميراً . ثم دخل زعيمهم "هولاكو" بغداد فى سنة 656 هـ وقضى على الخلافة العباسية. ثم اكتسحت جيوشه الشام وأصبحت على أبواب مصر . ولقد أرسل "هولاكو" إلى سلطان مصر إذ ذاك وهو الملك المظفر " قطز" كتابا ملأه تهديدا ووعيدا وطلب إليه فيه المبادرة إلى الخضوع له والاستسلام إليه . ص _217(1/210)
فثارت حمية السلطان واستنفر الناس لجهاد التتار فتثاقلوا لما ثبت فى الأذهان إذ ذاك أن التتر لا يُغلبون ...!!. ولكن السلطان أعلن أنه سائر بنفسه للجهاد على أى حال ، وليصحبه من يشاء ، عند ذلك نفر معه الأمراء بأجنادهم . فسار بالجيش إلى فلسطين مقدما أمامه الأمير " بيبرس" . وجرت بينه وبين التتار وقعة عظيمة عند " عين جالوت " وذلك فى رمضان سنة 658 هـ . يقول "المقويزى" فى وصف بلاء " قطز" و " بيبرس" والجيش المصرى فى ذلك اليوم العصيب : " فلما كان يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان التقى الجمعان ، وفى قلوب المصريين وهم عظيم من التتر ، وذلك بعد طلوع الشمس ، وقد امتلأ الوادى ، وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين ، وتتابع ضرب كوسات السلطان والأمراء ، فتحيز التتر إلى الجبل . وعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح السلطان وانتقض طرت منه . فألقى الملك " المظفر" عند ذلك خوزته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته : " وا إسلاماه ! " وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة ، فأيده الله بنصره . وقتل " كتبغا " مقدم التتر ، وانهزم باقيهم ... وأبلى الأمير " بيبرس" أيضا بلاء حسنا بين يدى " السلطان" . ومر العسكر فى أثر التتر إلى قرب " بيسان " ، فرجع التتر وصافوا مصافا ثانيا أعظم من الأول . فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم ، وكان قد زلزل المسلمون زلزالا شديدا ، فصرخ السلطان صرخة عظيمة ، سمعه معظم العسكر وهو يقول : "وا إسلاماه" ثلاث مرات ، يا الله ! انصر عبدك ، قطز "على التتار" . فلما انكسر التتار الكسرة الثانية ، نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها ، وصلى ركعتين شكرا لله تعالى ، ثم ركب ، فأقبل العسكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم . هذه وقعة "عين جالوت " التى صد فيها الجيش المصرى سيل الغزو التترى الجارف. ص _218(1/211)
واستنقذ بها الشام من أيدى التتار ، ورد عن " مصر" والمغرب الإسلامى كيدهم وجبروتهم . وفوق ذلك فإنه وقى فى ذلك اليوم ـ على غير علم منه ـ " أوروبا " وحضارتها الناشئة دمارا محققا وذلك باعتراف مؤرخى أوروبا أنفسهم " أ. هـ. * * * تلك هى صورة الكفاح الذى اشتعلت نيرانه فى الشرق ، والذى كاد يأتى على الأخضر واليابس ، ويدع العروبة والإسلام حطاما . إن أحدا لم يقد حركة الكفاح الناجح بإيمان وعزم إلا " قطز" و " بيبرس" وغيرهم من الأعاجم ... فإذا طويت هذه الصفحة طالعتك صفحة أخرى أملأ بالوقائع الرهيبة . فقد تتابع هجوم " أوروبا" على هذه المنطقة التى تسمى الآن "الشرق الأوسط ". واستطاعوا ـ بعد مذابح عصيبة ـ أن يؤسسوا إمارات لاتينية فى عدة نقط خطيرة . والهجوم الصليبى الذى دوخ العرب والمسلمين فى هذه الفترة لم يكن حركة محدودة الغاية ، بل كان حركة استئصال شامل للإسلام وأمته . استعدت لها دول أوروبا كلها بالمال والرجال وأرصدت لها من القوى المادية والعاطفية ما يحقق ذلك الغرض . قال الدكتور "عبد اللطيف حمزة " : " فبم أجاب المسلمون عن هذه الحركة ؟ . نشأت المقاومة الحربية التى أجاب بها المسلمون عن هذه الحركة . أولا بـ " الموصل " ، وثانيا بـ " حلب " و " دمشق " . ، وثالثا بـ " مصر " . ومعنى ذلك أن الأتراك السلجوقيين هم أصحاب الفضل الأول فى مهاجمة الصليبيين . وبعبارة أخرى : إذا كان على الإسلام والمسلمين أن يشكروا الدولة التى جاهدت فى سبيلهم ضد الصليبيين فإنهم يشكرون الدول التركية وحدها ، قبل أن يشكروا الخلافة العباسية نفسها ، أو الخلافة الفاطمية التى كانت وقت قيام الحرب الصليبية فى غاية العظمة والقوة . ص _219(1/212)
وكم يتعجب الباحث حقا من إهمال الخلافة الفاطمية يومئذ مع قوتها وعظم هيبتها ، حتى لكأن الدولة الفاطمية فى "مصر" نظرت إلى انتصار الصليبيين فى الشرق على أنه مانع قوى للترك من محاولة غزو "مصر" . أجل . لقد أهملت الخلافة الفاطمية الدفاع الحقيقى عن الإسلام ، وهاك البرهان : أشرنا أولا إلى أن الفرنج نجحوا فى أخذ " الرها " و " أنطاكية " . فلما وقع ذلك اجتمع من ملوك الإسلام صاحب الموصل ، وصاحب ماردين ، وصاحب سنجار ، وهم جميعا من ملوك السلاجقة . أما مصر ـ وكان أمرها يومئذ إلى الوزراء دون الخلفاء ـ فإن وزيرها (الأفضل بن بدر الجمالى) لم ينهض بإخراج العساكر المصرية . قال التاريخ : وما أدرى ما كان السبب فى عدم إخراجه مع قدرته على المال والرجال ؟ ثم قال التاريخ : والعجب أن الفرنج لما خرجوا إلى المسلمين كانوا فى غاية الضعف من الجوع وعدم القوت ، حتى أنهم أكلوا الميتة . وكانت عساكر الإسلام فى غاية القوة والكثرة ، ومع ذلك فإن الصليبيين هجموا على المسلمين وكسروهم وفرقوا جموعهم ، وانكسر أصحاب الجرد السوابق ، ووقع السيف فى المجاهدين والمتطوعين فكتب أمراء السلاجقة إلى الخليفة المستظهر العباسى يستنصرونه . فأمر الخليفة من ذهب من قبله إلى (بركيا روق) بن السلطان ملك شاه السلجوقى يستنجده ، كل ذلك وعساكر "مصر" لم تهيأ للخروج. وحينما كان الفرنج يحاصرون بيت المقدس كان به " افتخار الدولة " من قبل المستعلى بالله خليفة مصر . فبقى الفرنج فى حصاره أربعين يوما .. وبلغ ذلك " الأفضل بن بدر الجمالى" ، فأبطأ فى الخروج . ثم خرج بعشرين ألفا في عساكره ، ووصل القدس بعد أن نجح الفرنج فى دخوله والاستيلاء عليه فعلا . ص _220(1/213)
فعاد " الأفضل " إلى مصر بعد أمور وقعت له مع الفرنج الذين بقى القدس فى أيديهم " ولا حول ولا قوة إلا بالله " . ولما تم للفرنج أخذ بيت المقدس وضعوا السيف فى أهله ، ووصلوا بخيولهم إلى معبد " سليمان " وجمعوا اليهود فى الكنيسة وأحرقوها عليهم ، وأقاموا تلك المذبحة الشنيعة التى وصفها "جود فرى" فى خطاب له بعث به إلى البابا قائلا : إن خيولنا كانت تخوض إلى ركبتها فى بحر من دماء الشرقيين فى إيوان "سليمان" ومعبده . فعل الصليبيون المسيحيون بالقدس ذلك كله . فلما وصلت هذه الأخبار السيئة إلى " دمشق" ، هاج الناس فيها وماجوا ، وخرج المستنفرون منها ، ومعهم قاضى المدينة ووصلوا إلى بغداد ، وحضروا فى الديوان ، وقطعوا شعورهم ، واستغاثوا ، وبكوا . وقام القاضى فى الديوان ، وأورد كلاما أبكى الحاضرين ، وندب من الديوان من يمضى إلى العسكر السلطانى ، ويعرفهم بهذه المصيبة " . فماذا حدث ؟ لا شىء . يقول التاريخ : ق وقع التقاعد لأمر يريده الله تعالى" أ.هـ . تخاذل وانقسام وتفريط ... وخيانات فاشية لأمانات الله ورسوله ... وذهول معيب عن حماية الدين والشرف والأهل والولد ... وفوضى ضربت فى كل ناحية وجعلت الدفاع المقدس الواجب بعيد الوقوع أو قليل الجدوى . أين العرب يوم إذ ...؟ وماذا فعلوا …؟ فى وسط هذه الغيوم الكثيفة انشقت الغيوب عن رجل جمع الشتات ، ونفخ روح القوة فى الكيان المتداعى . ولم فلول المسلمين المبعثرة هنا وهنالك تحت راية الإسلام البعيد عن نعرات الأرض وعصبيات الناس ... ذلك هو البطل العظيم " صلاح الدين الأيوبى " . . ص _221(1/214)
ولا برأس أن نذكر هنا طرفا من عمل هذا الرجل كتبه المرحوم الأستاذ "عبد الحميد العبادى" تحت عنوان " العفو عند المقدرة " يعنى عفو الإسلام عن عداته بعد ما استمكن منهم ـ قال : ".. من أفظع حوادث الحروب وأشنعها ما وقع من الصليبيين فى البيت المقدس غداة استيلائهم عليه فى سنة 492 هـ . أجمعت على ذلك جميع المصادر الإسلامية والصليبية على السواء . فلنورد للقارىء مجملا لما حدث عندما فتح "صلاح الدين الأيوبى" تلك المدينة فى سنة 583 هـ . فبعد أن دحر " صلاح الدين" جيش الصليبيين فى وقعة " حطين " ، سار إلى "عسقلان" فافتتحها . وأخذ يتأهب للزحف منها إلى بيت المقدس . وكان حريصا على أن يجنب تلك المدينة ويلات الحرب والحصار . فاستدعى وفدا من الصليبيين الذين كانوا بها وطلب إليهم تسليم تلك المدينة التى يقدسها المسلمون كما يقدسها الصليبيون . ولكنهم صرحوا له بأنهم لن يسلموها طوعا أبدا ، عند ذلك أقسم لهم أنه لن يفتحها إلا بالسيف . وتقدم " صلاح الدين " إلى بيت المقدس وأخذ فى مهاجمتها ، ونقب أسوارها ، وأوشكت جنوده أن تقتحمها . فلما رأى الصليبيون ذلك أنفذوا الأمير " بليان " لمفاوضة " صلاح الدين " . فطلب هذا الأمير أن يمنح السلطان بيت المقدس عفوه الذى منحه مدنا صليبية أخرى ، فلم يجبه السلطان إلى ما طلب مستمسكا بيمينه التى أقسمها . عند ذلك قال له: " بليان" إن فى المدينة ستين ألف مقاتل سيخرجون إليه بعد أن يقتلوا نساءهم وأطفالهم ويدمروا كل ما يسعهم تدميره ، ثم يقاتلونه حتى يقتلوا عن آخرهم . ولقد راع هذا التهديد "صلاح الدين" فاستشار من معه من الفقهاء فأفتوه بأن ص _222(1/215)
ما حدث من قتال حول المدينة كاف فى إبرار قسمه ، وأن فى وسعه أن يعتبر كل من فى المدينة من الصليبيين أسرى حرب ، وله أن يضرب عليهم الفداء . وقد أخذ "صلاح الدين" بهذا الرأى ، وتم الاتفاق على أن يكون الفداء على كل رجل عشرة دنانير وعن المرأة خمسة دنانير ، وعن كل طفل دينارا واحدا . وأن تكون المدة التى يؤدى فيها الفداء ويتم الجلاء أربعين يوما . فمن وجد فى المدينة بعدها كان ملكا مسترقا للسلطان . وفتحت المدينة أبوابها للسلطان وجيشه ، وذلك فى السابع والعشرين من رجب سنة 583 هـ . وكانت الليلة ليلة المعراج الشهيرة ، وهى مصادفة عجيبة . وأقام صلاح الدين على الأبواب أمناء يتقاضون مال الفداء . فخرج الأمير " بليان" ومعه سبعة آلاف فقير بعد أن أدّى عنهم ثلاثين ألف دينار . ثم تتابع خروج الصليبيين على الرسم المقرر . ثم يأتى البطرك الكبير يجرُّ من أموال الكنائس وتحفها وجواهرها ما لا يقدر بمال ، فلم يعرض "صلاح الدين" لشىء مما معه على الرغم من اعتراض أصحابه. وأبى أن ينقض عهده ولم يأخذ منه غير الدنانير العشرة المقررة . وانقضت الأربعون يوما ولا يزال فى المدينة آلاف كثيرة من فقراء الصليبيين لا يملكون فداء . يقول المؤرخ الصليبى " أرنول " ـ ولعله كان حاضرا ذلك اليوم المشهور-: فتقدم " العادل" إلى أخيه السلطان " صلاح الدين" وقال : " سيدى ! لقد أعنتك بحمد الله على فتح هذه البلاد وهذه المدينة ، وإنى أستوهبك ألفا من أولئك الأرقاء ، فأجابه السلطان إلى طلبه وعند ذلك أعتقهم العادل من فوره . " ثم جاء " بليان" والبطرك وطلبا مثل الذى طلب العادل فوهبهم "صلاح الدين" ألف رقيق أطلقوا فى الحال . وأخيرا يلتفت "صلاح الدين" إلى أصحابه ويقول : ص _223(1/216)
" لقد أدى أخى صدقته ، وكذلك صنع " بليان" و" البطرك " وقد بقى أن أودى أنا صدقتى " !!! ثم أمر رجالا من حرسه أن ينطلقوا فينادوا فى جميع شوارع المدينة أن كل عاجز عن دفع الفداء له أن يخرج وأنه حر لوجه الله تعالى . يقول " ارنول" : " وقد استغرق خروج هؤلاء نهارا كاملا من لدن شروق الشمس إلى أن خيم الظلام " . ثم يمضى المؤرخ المسيحى المذكور فيقول ـ متحدثا عن أدب صلاح الدين ونبله ورقة قلبه -: " إن نساء من نساء فرسان الصليبيين كن قد لجأن إلى بيت المقدس بعد أن فتل أو أسير أزواجهن وعائلوهن فى الحرب . فاجمتعن بعد أن أدين الفداء وحضرن عند "صلاح الدين" باكيات معولات يشكون إليه سوء حالهن . فما كان منه إلا أن أطلق لكل من لها زوج فى حبسه زوجها ، وأمر بمال من ماله الخاص لكل من لا عائل لها مما ألهج ألسنتهن بالشكر له والثناء عليه " . ويقول المؤرخ الإنجليزى " لين بول" : " لو لم يكن لصلاح الدين من الأعمال الثابتة إلا أخذه بيت المقدس ، لكان ذلك كافيا فى عده أعظم الفاتحين فى عصره فروسية وأكبرهم قلبا ، بل لعله كذلك فى أى عصر من العصور" . و "صلاح الدين " ـ كما نعلم ويعلم الناس ـ كردى مسلم لا ينسب إلى عدنان ولا إلى قحطان . وهو الذى لم يحرر فلسطين العربية وحدها ، بل حرر ديار العروبة كلها شرقها وغر بها .. " أ. هـ . بأى واعز ؟ ولأى دافع ؟ واعز الإيمان ، ودافع الإسلام . * * * ص _224(1/217)
أساس الوحدة العظمى هل غبرت على ذلك العهد قرون طوال ؟ عهد اجتماع كلمتنا والتئام شملنا فى المشارق والمغارب . كلا ! إن الأمد غير بعيد ، إنها فترة قصيرة فى عمر الأمم ، وفترة أقصر فى امتداد الزمن وإن بدت لنا ـ نحن أبناء الجيل الحاضر ـ وكأنها الواقع المألوف من أيام طوال . الحقيقة أن المسافر من "داكار" على شاطئ "المحيط الأطلسى" كان يتجه شرقا إلى مكة وإلى ما وراءها حتى أعماق "الهند" و "الصين" فما يجد شرطيا يعترض طريقه ليسأله أين جواز السفر ؟ وأين تأشيرة الدخول والخروج ؟!. لقد كانت هذه البقاع المترامية تعمرها أمة واحدة ، وتحكمها دولة واحدة ، وتخفق فى أجوائها راية واحدة ، وتسرى فى أوصالها عاطفة مشتركة . فكأن المرء ـ حيثما طرحته النوى ـ يمشى بين ذوى رحمه ، وينتقل بين أقرانه وأحبابه .. وكما يسافر " المصرى" من " القاهرة " إلى " الإسكندرية" أو "أسيوط" دون حرج ، يسافر المسلم أو المسيحى بين قارات ثلاث فلا تتعقد له نقلة ، ولا يتعسر له أمر ولا يستوحش هنا أو هناك ... إن الوحدة الروحية والسياسية التى ربطت بين أسلافنا إلى سنوات معدودة حقيقة لاشك فيها ... حتى جاء هذا الاستعمار الملعون فمزقها شر ممزق . وأهال عليها أكواما من التراب ليخفى معالمها ، ويمحو صلاتها بالأذهان والأفئدة ، ويخلق شعوبا متناكرة متدابرة لا يحفظ أحدها للآخر نسبا ، ولا يرعى له ودا . وكم تحسب الأمم التى تخلفت عن هذا التقطيع المنكر ؟ إنها بضع وثلاثون دولة ، أو إقليما ، أو شعبا يكافح لنيل حريته . ففى إفريقية "مراكش" ، و " تونس" ، و" الجزائر" ، و" تشاد" ، و "غانا" ، و"غينيا" ، و " نيجيريا " ، و " أوغندا " ، و "صوماليا " ، و "ايرتريا " ، و "الحبشة المسلمة " و " السودان " ، و "مصر" ، و " ليبيا " بأقاليمها الثلاثة . ص _225(1/218)
وفى آسيا: " اليمن" ، و " السعودية " ، و " الكويت " ، و "العراق" ، و " لبنان" ، و" سوريا " ، و " الأردن" ، و " فلسطين" ، و " إيران" ، و " أفغانستان" ، و "باكستان" ، و"الهند المسلمة" ، و "أندونيسيا" ، و"المحميات العشر" ، و " أوزبكستان" ، و" تركستان" ، ومسملى " القوقاز" ، وسائر "روسيا" ، ومسلمى "الصين" ، و "تركيا ". وفى أوروبا: "ألبانيا" ، و مسلمو "يوغوسلافيا " ، و " قبرص" ، وسائر البلقان . أى إن أكثر من ثلث المؤسسة المعروفة الآن بمؤسسة الأمم المتحدة يتكون من أجزاء الأمة الإسلامية التى قطع الاستعمار أوصالها ، وبعثرها على هذا النحو المؤسف وحظر عليها أن تتواصى بدين أو تتعارف على إيمان ... هل هذا عصر الأمم الصغيرة ؟ كلا إنه عصر التكتلات الضخمة ! ففى "روسيا" مائتا مليون إنسان ، وفى " الصين" ستمائة مليون . وهما دولتان اثنتان تدور فى فلكهما عدة دويلات شيوعية ، لا تنفك عنهما . أما نحن فإن الاستعمار يجىء إلى قطعة من الصحراء ، ويرسم حولها حدودا موهومة لمنطقه لا يسكنها إلا مليون من الناس ثم يصنع فيها دولة لها ملك ووزراء وسفراء! ولما كانت هذه القطعة من الأرض ليست لها إمكانيات دولة فهو يستبقى هذا الشذوذ بإعانة يقدمها من جيبه الخاص . إى والله . هذا المال المقدم لاستبقاء الفرقة يحسب على أصحابه صدقة . إن هذه الدول من ناحية تعداد السكان ، ومن الناحية الاقتصادية لا يخدم قيامها المفرق أحدا غير المستعمرين . ذلك أن الأمة الإسلامية المترامية الأطراف يكمل بعضها بعضا فى كل ميدان ، ويشد أعصابها المعنوية والعسكرية قلب واحد ، وأمل واحد . ذكر الدكتور " محمد البهى" : " أن الرحالة الألمانى " بول أشميد" فى كتابه " الإسلام قوة الغد" الذى ظهر قبل الحرب العالمية الثانية فى سنة 1936 ، حذر الغرب المسيحى من استمرار التوتر فى السياسة بين حكوماته وشعوبه . وأنذر هذه الحكومات والشعوب بأن الشرق الإسلامى يتحفز(1/219)
للسيطرة بعد التخلص من السيادة الأوروبية لأنه يملك فعلا مقومات القوة فى الغد . قال : وإذا ما قوى الشرق الإسلامى ، ضعف الغرب ، وكان لا محالة من أفول نجمه . ص _226
ثم أشار إلى مقومات هذه القوة فى الشرق الإسلامى وحصرها فى ثلاثة عوامل: 1ـ فى قوة الإسلام كدين ، وروعة الاعتقاد به والاستمساك بمثله ، وفى مؤاخاته بين أتباعه على اختلاف الجنس واللون والثقافة . 2ـ وفرة مصادر الثروة الطبيعية في رقعة الشرق الإسلامى الذى يمتد من المحيط الأطلسى على حدود "مراكش" غربا إلى "المحيط الهادى" على حدود "أندونيسيا" شرقا . وتمثيل هذه المصادر العديدة لوحدة اقتصادية سليمة قوية ، بل لاكتفاء ذاتى لا يدع المسلمين فى حاجة ما إلى "أوروبا" أو إلى غيرها إذا ما تقاربوا وتعاونوا . 3ـ وأخيرا أشار إلى عاهل مهم هو خصوبة النسل البشرى لدى المسلمين ، مما يجعل قواتهم العديدة متزايدة نامية . فإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث فتآخى المسلمون على وحدة العقيدة ووحدة الله ، وغطت ثروتهم الطبيعية حاجة عددهم المتزايد ، كان الخطر الإسلامى خطرا منذرا بفناء أوروبا وبسيادة دعوة عالمية فى منطقة هى مركز العالم كله . ويقترح " بول أشميد" ـ بعد أن فصل هذه العوامل الثلاثة عن طريق الإحصاءات الرسمية ، وعما يعرفه عن جوهر العقيدة الإسلامية كما تبلورت فى تاريخ المسلمين وتاريخ ترابطهم وزحفهم لرد الاعتداء عليهم ـ يقترح أن يتضامن الغرب المسيحى شعوبا وحكومات ويعيدوا الحرب الصليبية فى صورة أخرى ملائمة للعصر الحديث وفى أسلوب نافذ حاسم " أ. هـ . ونحن نتساءل : أكان الاستعمار ساكنا فى انتظار توصيات ذلكم الرحالة الألمانى الكنود ؟ لا . لا . إنه منذ قرن يحل "المسألة الشرقية" ، أو "تركة الرجل المريض" لمصلحته الخاصة . لقد تواثبت دول أوروبا كلها على دولة الخلافة تواثب الذئاب على جريح مشبع اللحم والشحم . كل يبغى اختطاف شلو منه ، وتمزيع بضعة تملأ ماضغيه .(1/220)
واستطاعت هذه الدول الماكرة أن تصنع فتوقا مروعة بين الدولة المترنحة وشعوبها الكثيرة . فضربت الترك بالعرب ، والعرب بالترك ، وخلصت من مؤامراتها المحكمة إلى النتيجة التى تنشدها . إذا انتثر عقد الأمة الواحدة ، وتطايرت حباته إلى كل ناحية . ص _227
وطلع فجر القرن الأخير أشأم أغبر . طلع على أمة مستباحة ، ودين نُسجت الأكفان لدفنه تحت أطباق التراب . ونحن لا نبكى ولا نستبكى كى تعود دولة الخلافة . كما أننا نرسل هذا الكلام وليس فى أذهاننا صورة متميزة لنظام يجمع شمل المسلمين عسكريا وسياسيا . وإنما الذى يعنينا أولا وآخرا أن يبقى " الإسلام" حيا ، فى هذا العالم يؤدى رسالته ويبلغ دعوته . وأن يكون معتنقوه "على اختلاف أوطانهم ـ متمكنين من إقامة شعائره ، وإنفاذ حدوده ، والعيش وفق تعاليمه وغاياته . لقد أعجبنى من رئيس الحكومة أن يقول : إننا أصحاب فلسفة اجتماعية خاصة لا تنبع من الشرق ولا من الغرب . وهذا صحيح . فإن المتسول البائس هو الذى يمد يده لهذا أو لذاك . يلتمس الغنى الفكرى أو العاطفى أو المادى . ونحن ما كنا ولن نكون متسولين .. إننا صدَّرنا الفلسفات النقية فى الخُلق والحكم والمعاملة دهرا طويلا إلى أهل الأرض طرا .. ولن تزال أسباب الغنى فى تربتنا هذه ، وبين أيدينا نحن . فكيف نستجدى فلسفة اجتماعية من شرق أو غرب ؟ إن كل ما نصبو إليه ، وما نناشد الغرب والشرق فعله ، أن يدعونا وشأننا ، وأن يكفكفوا نوازع الجشع والحقد التى تعكر صفونا ، وتستفزنا لقتالها ونحن كارهون .. الإسلام الذى تطمره الآن عواصف متتابعة الهبوب ، وأمته التى انفرد الخصوم بكل جزء منها ، كما ينفرد قطاع الطريق برجل ملئ فى مكان موحش . هذا الإسلام من حقه أن يحيا ، وهذه الأمة من حقها أن تأمن . لماذا تتألب الدنايا والرزايا عليه وعليها ؟ قال الأستاذ "محب الدين الخطيب " تحت عنوان " الأمة اليتيمة ، هل آن لها أن تعلن رشدها ؟ " : المسلمون ـ اليوم(1/221)
ـ فى " آسيا " وجزائرها ، فما وراء السد الحديدى منها حتى "سيبيريا" شمالا ، وشبه جزيرة القريم غربا ، وفى أوروبا من "المج" و "يوغوسلافيا" و " ألبانيا" إلى "سلانيك" وسائر "خاليكدكيا" حتى "كوملجنة" و "تراقيا" وما ارتفع ص _228
عنها من سيف البحر الأسود ، وفى إفريقية من معالمها إلى مجاهلها ، وما بين ذلك أو وراءه من سواحل ، ومكامن ، وأدغال ، وأودية ، وآفاق . هذه الأمم والشعوب الإسلامية ـ فى "آسيا" و "أوروبا" و "إفريقية" ـ التى يزيد تعدادها الآن على خمسمائة مليون نسمة ، قد تتفاوت كثيرا فى مستواها الاجتماعى ، وفى مبلغها من الانطلاق أو التقيد ، وفى وسائلها من الثروة والمعرفة والتقدم الصناعى والاقتصادى ، وفى ثقتها باستعدادها للحيوية والنهوض ، ومعرفتها بالطريق المؤدى إلى ذلك . إنها قد تتفاوت فى كل ما ذكرنا . غير أنها تشترك جميعا فى كثير من السجايا والمبادئ والروابط . وفى طليعتها الإيمان بالدستور الإسلامى الخالد . (إنما المؤمنون إخوة) وبالأمر الإلهى الصريح الذى لا هوادة فيه (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا). ومهما نسى المسلمون من أخلاق دينهم ، أو تهاونوا بشئ من مبادئ تشريعهم ، ومهما تخلفوا عن مزايا ملتهم ، فإنهم لن ينسوا أن المؤمنين إخوة ، ولن يشكوا فى أن الاعتصام بحبل الله هو آلة النجاة ، يوم تتهيأ لهم القيادة الحكيمة الحازمة التى تمضى بهم فى طريق النجاة . إن لهذه الأخوة الإسلامية المشتركة فيما بين المسلمين حقوقا متشبعة النواحى ، وواجبات متعددة المظاهر والمقاصد . ولو أن هذه الحقوق والواجبات أُحصيت ودُرست ، ونُظمت ، واتخذ العقلاء الرحماء من قادة المسلمين وسائل لبعث الحيوية فيها وفى أهلها ، إلى أن يتم توجيههم فى طريق العمل الإنسانى ، والبعث الإسلامى ولو بالتدريج ، لكان من ذلك العمل الكبير أعظم حادث فى تاريخ الإنسانية بعد حادث القيام الأول للإسلام. أنا أعتقد من عشرات السنين أن(1/222)
الإنسانية فى حاجة إلى البعث الإسلامى ، وأنها تتخبط فى أنظمتها الحاضرة ، ولا تجد لها مخرجا من هذا التخبط إلا بأنظمة الفطرة القائمة على أسس الأخلاق . وأنظمة الفطرة القائمة على أسس الأخلاق لا تحتاج إلى من يخترعها من جديد ، ذلك أنها موجودة بالفعل فى نظام الإسلام الذى أهمله المسلمون فصاروا حجابا بين الإنسانية وبين معرفة هذا النظام . ص _229
فاضطر الغرب إلى أن ينزلق فى أنظمة أملى عليه اليهودُ بعضها ، وأغروه ببعضها أو جعلوه منها أمام أمر واقع ، أو كانت لهم يد فى تعديل البعض الآخر ، أو توصل غير اليهود إلى بعض المبادىء ، فوجدها اليهود داخلة فى برنامجهم فأيدوها ، وروجوها ، وفسروها ، ونشروها حتى صارت من صلب ذلك النظام المعمول به فى الغرب ، والذى أخذنا نقتبس عنه تقاليد حياتنا منذ نحو مائة سنة . فغشى دواوين حكمنا ، وأسواق تجارتنا ، وساد فى مجامعنا ، وسابق نساؤنا رجالنا إليه فى الأزياء والآداب والمعاشرة ، حتى آمنا به وكفرنا بما سواه . وأصبح الرجل المستقيم منا هو الذى يمدحه الناس بأنه ملتزم لذلك النظام الأجنبى ، وغير مخل بشىء من أصوله أو فروعه أو آدابه . ولو أن المسلمين انتفضوا انتفاضة حكيمة يرجعون بها إلى أنفسهم ، ويعيدون تنظيم مواريثهم ويتعاونون على إقامة نظامهم الفطرى الذى يتعاملون فيه بمقاييس الإيثار لا بمقاييس الأثرة ، فإنهم لا يلبثون أن يوجد فيهم من أبنائهم جيل ترى فيه الإنسانية جمال الإسلام ، ويتبين لها أنه هو ضالة الإنسانية التى كانت تنشدها ، فيتجدد بذلك تاريخ الإنسانية جميعا . ترى متى يكون ذلك ، ومن الذى بدأ به ؟ لما اجتمعنا قبل عشرة أيام بمقر "المؤتمر الإسلامى" كان مما قلته لإخوانى ممثلى أكثر شعوب الإسلام المجتمعين فى تلك الجلسة ـ وفيهم رجال من "الصين" و "الملايو" و " التركستان " فى شرق "آسيا" ، ورجال من "تونس" و "الجزا ئ" و"مراكش" فى الغرب من شمال إفريقية وآخرون من أوطان(1/223)
إسلامية متعددة : " إن الطوائف المواطنة لنا فى بلادنا ، والملل الكثيرة المعاصرة لنا ، تنعم كلها بمؤسسات طائفية وملية تسهر على مصالحها من حيث هى طوائف وملل ، وترعاها فى شئونها الملية والتشريعية والاجتماعية والثقافية ، إلا المسلمين فإنهم وحدهم أبناء الملة (اليتيمة) فى هذا المجتمع البشرى منذ نحو ألف سنة ، أو على تعبير الشيخ "محمد عبده " : منذ استعجم الإسلام بمن اصطنعهم بعض الخلفاء العباسيين من المماليك . ص _230(1/224)
فما لبث المماليك أن صاروا ملوكا سارت الأمة الإسلامية تحت ألويتهم فى طريق الضعف والانحلال ، إلى أن قامت النهضة فى أوروبا قبل ثلاثمائة عام . فكان موقف ولاة أمور المسلمين منها موقف المتفرج . فالغرب يسير قدما نحو القوة وعلومها وأسبابها . والشرق الإسلامى يرجع القهقرى بأخلاقه وعلومه وأنظمته . حتى كانت النتيجة الطبيعية وقوع أكثر المسلمين فى قبضة الاستعمار ، وهم كالأيتام الذين ليس لهم من يرعاهم . بينما الطوائف المجاورة لهم يقوم على شؤونها الملية والطائفية والثقافية والتشريعية والاجتماعية منظمات تسهر عليهم ليل نهار . فتنظم مصادر قوتهم ، وتتعاون معهم على التقدم بهم فى مضمار الحياة . وتعد للمستقبل الأجيال الصالحة من أبنائهم ، ليكون كل جيل أقوى من الذى قبله . والآن وقد بدأنا نستيقظ من نوم طال علينا ليلة ، فلو أن هذا "المؤتمر الإسلامى" كون نفسه واتخذ أهبته لتكون منه المنظمة الإسلامية التى تدرس شؤون المسلمين ومواريثهم الطيبة ، ومواطن ضعفهم وأسباب علاجها ، وتحاول أن تكون لها بهم الصلة الأدبية الحكيمة التى تدعو إليها أخوة الإسلام ، فإن هذا المؤتمر سيملأ حينئذ (الفراغ) الذى يشعر به المسلمون منذ ألف سنة فيزول به يُتمُهُم . بل سوف يرون أنهم بلغوا به سن الرشد ، وأنه قد آن لهم أن تصدر عنهم ـ فى حلبة التسابق بين الأمم ـ الأعمال التى يبرهنون بها على أنهم فى طليعة الأمم الرشيدة . لما كان يقال فيما مضى : " المسلمون إلى خير ، ولكن الضعف فى القيادة " ، كان يراد من هذه الكلمة أن للمسلمين من موارث الحق والخير ما يكفل لهم استئناف البعث والنهوض والتقدم . غير أنهم لم يكونوا يجدون من قادتهم الرجال الذين يأخذون بأيديهم إلى ميادين العمل التى ينتفعون فيها بتلك المواريث . فهل يأخذ " المؤتمر الإسلامى" الآن على عاتقه أن يملأ هذا الفراغ ، وأن يتولى هذه القيادة لأهل الملة الإسلامية فى "مصر" والعالم الإسلامى ؟ قد(1/225)
يخطر على البال من مدلول كلمة " المؤتمر" أنه خاص بمهمة ثم ينتهى بانتهائها وهذا خطأ . ص _2 ص
وقد يتبدد هذا الخاطر بإعلان أن " المؤتمر الإسلامى" دائم ، وسيكون هو نفسه من مواريثنا للأجيال الآتية ، وأنه عامٌّ يهتم بكل ما يهم المسلمين فى تربيتهم الخلقية ، وتكوينهم الاجتماعى وتثقيفهم القومى والملِّى والعالمى ، وسيعمل لبعث تشريعهم الذى كان لهم مدة ثلاثة عشر قرنا إلى أن قضى عليه فى أيام الخديو إسماعيل . وأحب أن أقرر الحقيقة الآتية شرحا لصلة العروبة بالإسلام : كما أن محبة ابن "طنطا" أو ابن " أسيوط " لطنطا أو أسيوط لا تنافى محبته لمصريته لأنها جزء منها وحلقة فى داخلها كالحلقات التى تنعقد فى بحيرة الماء حول الحصاة عند إلقائها فى البحيرة . كذلك الوطنية المصرية أو العراقية لا تنافى العروبة لأنها جزء منها وحلقة فى داخلها كحلقات الماء حول تلك الحصاة . والعروبة والقومية الإندونيسية وأمثالهما ، لا تنافى أخوة الإسلام وجامعته الشاملة ، لأن جامعة الإسلام هى الحلقة التى تلى حلقة الإنسانية وتجميع بين بنى الإنسان. فالجامعة الإسلامية جزء منها تجمع الأمم الإسلامية وأوطانها . والوطنية المصرية جزء من العروبة تجمع أبناء النيل . وابن "طنطا" أو ابن "أسيوط" يستطيع أن يجمع بين محبته لبلدته ثم وطنه ثم عروبته ثم جامعته الإسلامية ، كما يجتمع مع سائر البشر كل من يرعى قواعد الإنسانية من أبنائها . وإذا كان من الخير أن يكون المؤتمر دائما ، وسيكون من مواريثنا لأبنائنا الذين يخلفوننا عليه وعلى سائر مواريث الحق والخير المنتقلة إليهم عن الماضى ، فإن فى طليعة واجباتنا نحوهم أن نُعدَّ لهم المدارس الصالحة ليتربوا فيها التربية الإسلامية ، وليتثقفوا فيها الثقافة الإسلامية ، وأن ننظف لهم كتب التاريخ الإسلامى من الأكاذيب التى أقحمها عليها المغرضون وشوَّهوا بها سيرة المثالين من شموس صدر الإسلام ، الذين أشرقت بهم الدنيا(1/226)
وسعدت . وإن مصر التى صارت إسلامية بعد أن لم تكن إسلامية والتى تتولى اليوم دفة سفينة العروبة بعد أن لم تكن عربية ، إنما صارت إسلامية وعربية لأن الذين عرفت بهم الإسلام والعروبة قبل ثلاثة عشر قرنا كانوا مثلا أعلى للعدل الإسلامى المثالي ، وكانوا مثلا أعلى للأخلاق العربية النبيلة . ص _232
فاستقبل المصريون هذا الدين الإسلامى بالبشر والمحبة والرضا . وتنازلت مصر عن لغتها لتجمل منطقها بمنطق العروبة الذى أحبت أهله ، واقتدت بهم وصارت فى طريقهم . ومن الخير أن يكون من أساس الثقافة الجديدة لأطفال المسلمين تعريفهم بالمسلمين الأولين ، الذى عرفت الشعوب هذه الهداية الإسلامية من سيرتهم ، ومن عدالتهم ، وشهامتهم ، ونبيل أخلاقهم . فكانوا المؤسسين الأولين لمجتمعنا الحاضر ، وروّاد الدعوة إلى أخوة الإسلام ورابطة العروبة . إن المهمة التى سيأخذها "المؤتمر الإسلامى" على عاتقه ـ إذا سار فى هذا الطريق إلى الجنة ـ أعظم مهمة اضطلع بها مصلحو الأمم فى أممهم . وهى تضارع عمل الصدر الأول للإسلام عندما قاموا بتعريف الإسلام للأمم . غير أن مهمتنا نحن هى تعريف الإسلام لأهله حتى يعودوا مسلمين . ومن شأن جمال الإسلام إذا تحلّى به أهله حقا أن يكون عملهم به ، وسيرتهم القائمة على أخلاقه وسيلة لمعرفة الآخرين به . ومن عرف شيئا صار صديقا له ، ومن جهل شيئا عاداه . وإن تسعة أعشار عداوة غير المسلمين للإسلام ناشئة فى هذه العصور عن فقدان القدوة ، وعن تقصير المسلمين فى أن تكون معاملاتهم ، وأخلاقهم ، وتصرفاتهم ممثلة لإسلامهم . فخيل إلى غير المسلمين أن معاملاتنا وأخلاقنا وتصرفاتنا المخالفة للإسلام هى من الإسلام فكرهوه لذلك " أ. هـ . * * * آثرنا أن نثبت هذا الأمل لأنه صورة لما يجيش فى نفوس كثيرة ، تتأذى من حاضر المسلمين ، وترغب لهم فى مستقبل أفضل . والمؤتمر الذى نيطت به هذه الأمانى لم ينهض ـ للأسف ـ بها ، ولا بقليل منها . ولعل(1/227)
الله يهيئ للمسلمين قوما أمثل . * * * ص _233
الفصل الرابع
وسائل الدعوة
ص _234
القدوة الحسنة إن صلاح المؤمن هو أبلغ خطبة تدعو الناس إلى الإيمان . وخُلقه الفاضل هو السحر الذى يجذب إليه الأفئدة ويجمع عليه القلوب . أتظن جمال الباطن أضعف أثرا من وسامة الملامح ؟ كلا ، إن طبيعة البشر محبة الحسن والالتفات إليه . وأصحاب القلوب الكبيرة لهم من شرف السيرة ، وجلال الشمائل ما يبعث على الإعجاب بهم ، والركون إليهم . ومن ثم فإن الداعية الموفق الناجح هو الذى يهدى إلى الحق بعمله ، وإن لم ينطق بكلمة ، لأنه مثل حى متحرك للمبادىء التى يعتنقها . وقد شكا الناس فى القديم والحديث من دُعاة يحسنون القول ويسيئون الفعل ! والواقع أن شكوى الناس من هؤلاء يجب أن تسبقها شكوى الأديان والمذاهب منهم ، لأن تناقض فعلهم وقولهم أخطر شغب يمس قضايا الإيمان ، ويصيبها فى الصميم . ولا يكفى ـ لكى يكون المرء قدوة ـ أن يتظاهر بالصالحات أو يتجمل للأعين الباحثة ، فإن التزوير لا يصلح فى ذلك الميدان . ولابد أن ينكشف المخبؤ على طول المعاملة ، وامتداد الزمن ، وتمحيص الأحداث وسرعان ما يبدو معدن النفس على الحقيقة العارية . ذلك أن النفس المتحركة من هذا الروح "روح الإيمان" ، كالآلة الدائرة بما يعمر خزانها من وقود . أما النفس المحرومة من هذا الروح فهى كالآلة التى تدفع باليد حينا ثم لا يلبث أن يغلبها العطل والعطب فتتوقف وتسكن . والمصيبة الطامة أن بعض المنافقين يحسبون أن تمثيل دور الإيمان لا يحتاج إلا إلى شئ من التكلف والمصانعة ، كما أن بعض المتهاونين يحسبون أن لباس التقوى يمكن نسجه بشئ من إدمان الرسوم واتقان الهمهمة . وهذا ضلال بعيد ، فالأمر أخطر مما يظنون . إن التدين الحقيقى صورة لجوهر النفس بعدما استكانت لله ونزلت على أمره واصطبغت بالفضائل التى شرعها ، وترفعت عن الرذائل التى حرمها ، واستقامت على ذلك استقامة تامة . ص _235(1/228)
هذا التدين وحده هو الذى تُلمَس منه الأسوة ويقتبس منه الهدى . ويؤسفنى أن أقول : إن هذا الضرب من التدين العالى نادر الآن ، وإن أشعة الكمال المنبعثة من وهجة لا تكاد يرى . بل إن نفرا من الناس الذين لا دين لهم أقرب إلى المسلك الصحيح وأجدر بالقوامة على شتى الوظائف من الذين انتسبوا إلى الدين ، وحملوا عنوانه دون اصطباغ به وتشرب لروحه . وعندما يُنكب الدين بأقوام كثيرين على هذا الغرار فالمجال واسع لشيوع الإلحاد ، وانتشار المعصية والعدوان . . قال لى صديق : إن فلانا "الأوروبى" إذا وكلت إليه مهمة خرجت من بين يديه متقنة الأداء ، ظاهرة الجودة ، أما فلان الذى يكثر الصلاة فقلما يريحنى فى إحسان واجب . لقد جزعت لهذه المقابلة بين الشخصين ، ولم يسؤنى منها أنها باطل ـ إذ هى حق ـ ، وإنما ساءنى منها أن ذلك "المتدين الكسول" دعاية شنيعة ضد الصلاة . إنها القدوة الرديئة تعمل عملها ضد المثل الرفيعة والمبادىء الفاضلة . وقد لاحظت أن الأجنبى ـ فى أغلب الأحيان ـ يرى خدشا لكرامته ، وطعنا فى كيانه أن يصدر العمل عنه ناقصا ، فهو يجوده احتراما لنفسه ، وصيانة لشخصه . على حين تجد مواطنا ينتمى إلى الدين ـ كما يزعم ـ ثم هو يقوم بالعمل على أسوأ الوجوه ويبسط لسانه بالجدل الطويل فى تسويغه وإقناع الآخرين بقبوله ! ولعلنا لم ننسى قصة المهندس الذى أشرف على بناء جسر السلطان أبى العلاء ـ وكان أجنبيا ـ فإنه لما رأى عمله لم يصل إلى درجة الكمال التى ينشدها رمى بنفسه من فوق الجسر العالى فهوى بين أمواج النيل ، وكاد اليم يبتلعه لولا إسعاف المنقذين . لقد أحس غضاضة من أن يعيش بعدما فشل فى إحسان العمل الذى كلف به . وإنما أثبت هذه القصة لأنى أعرف أناسا مثله ، وقعوا فى شر من تفريطه ، وخرج العمل من بين أيديهم مبتورا مشوها ، فلما عُوتبوا شرع كل منهم يتنصل ويعتذر أو يهز كتفيه ملقيا التبعة على غيره . ص _236(1/229)
ولعله بعد ذلك جلس إلى مكتبه يجرع القهوة فى كبرياء !! أيصلح هؤلاء أمثلة للإسلام ؟ قل لى بالله : كيف يَهوِى سلوك الفرد منا إلى هذا الحد ثم ينتظر أن يحترم الناس الإسلامَ ويقبلوا عليه ؟! إن الدعوة إلى الإسلام تكون أولا بعرض ثماره فى الأخلاق والأحوال أعنى ثماره فى أتباعه المؤمنين به ، ويومئذ ترجى الإجابة ويرتقب الاهتداء . ولنعد إلى أسباب انتشار الإسلام أيام السلف الصالحين . . إن خفق الدولة ، وصلاح أنظمتها ، وكفالتها أكبر حظ من العدالة والسعادة للأفراد كان الباعث الأعظم على دخول الناس فى دين الله أفواجا ، وقبولهم عن طيب خاطر الانضواء تحت راية الإسلام ، بل غبطتهم لأن دائرة هذا الدين بلغت فى الرحابة جدا جعلتهم يأوون إليها وهم وافرون أعزاء . . حتى أيام اضطراب أجهزة الحكم فى الدولة الإسلامية ، وقصورها عن التحليق مع المثل الرفيعة التى نشدها الإسلام فى اختيار الحكام . إن هذا القصور لم يقدح فى مدى الخير الذى يحرزه الناس ـ على اختلاف اللون والمذهب ـ تحت علم الدولة الجديد ! ذلك أنه أعلى درجة ألف مرة من الخير الذى رأوه فى ظل أكاسرة فارس ، وقياصرة الروم . وحين نتابع أوصاف المسلمين الفاتحين ـ كما شرحها بعض المنصفين من المستشرقين ـ نجد أن الجماهير رمقت حملة العقيدة الظافرة بشئ من الدهشة ، ورأت فيهم نماذج خلابة للفضل والعدل ، فلم يمكثوا غير قليل حتى زاحموهم عليها ! أجل ، زاحموهم عليها ، ونافسوهم فيها ، واعتنقوها ليعملوا بها مثل أو أجل من أصحابها الذين نقلوها ، مصداق قول الرسول الكريم " فَرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع ، ورُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه " . * * * ص _237(1/230)
الإعجاب بالإسلام فى أحوال الفرد ، والإعجاب بالإسلام فى أحوال الدولة ، هو وحده السبب الفعال فى تزاحم الخاصة والعامة على هذا الإسلام وارتضائهم له . والإعجاب لا ينبت فى النفس خبط عشواء . أتظن العقول النضرة تعجب بالعقول الحرقة ؟ أتظن الأخلاق الرضية تعجب بالأخلاق الرديئة ؟ أتظن المتقدم فى أفكاره ومشاعره يعجب بالمتخلف فى هذه وتلك ؟! كلا . . كلا . . إن المسلمين استحقوا أن يتأسى الناس بهم ، وأن ينسجوا على منوالهم ، وأن يقلدوهم فى أقوالهم وأعمالهم ، وأن يهجروا لغاتهم الأصلية إلى اللغة العربية الوافدة ، لأن المسلمين كانوا يمثلون فى العالم نهضة مجددة راشدة مسعدة . والمعجب بك قد يذوب فيك ، وذلكم هو ما حدث فى "المستعمرات" التابعة من قرون للشرق والغرب ، أعنى لـ " فارس" و " الروم" يوم زحفت عليها جيوش الإسلام ، وأنساب فى جنباتها . إن من الغباء البالغ أن تنتظر أحدا يؤمن بك عقب انتصار فى معركة جدل ، أو انتصار فى ميدان حرب . إن المقهور فى أحد الميدانين قد يستسلم راضيا أو ساخطا . بيد أنه لن يتبعك عن إخلاص ، ولن يشاركك الشعور والفكر أبدا . ومن ثم نرى لزاما علينا التوكيد بأن القدوة وحدها وما يبعث على الاقتداء من إعزاز وإعجاب هما السبيل الممهدة لنشر الدعوة فى أوسع نطاق . * * * ص _238(1/231)
التعليم والتذكير الاهتداء إلى الحق نعمة جزيلة وانشراح الصدر به خير غزير . وأول ما يجب على أصحاب الحق ـ وقد عرفوه ـ أن يفتحوا عيون الآخرين على ضوئه ، وأن يعرفوا الجاهلين به ، وأن يجعلوه فى الحياة واضحا كشعاع الشمس ، شائعا كأمواج الهواء . ذاك ما يفرضه الحق على أصحابه . ألا يجعلوه عليهم حكرا ، وألا يحرموا من نفعه أحدا ، وألا يدعوا نفسا تعيش بعيدة عن هداه . وليس ذلك ـ بداهة ـ عن طريق القسر ، بل عن طريق لفت الأنظار وإيضاح الخفى وشرح المبهم . فإن فتك الجهل بالناس ذريع ، وغلبة الأوهام على أفكارهم تذهب بهم بددا فى كل فج ، وتخيل إليهم أنهم على صواب ، والواقع أنهم مُوغلون فى الضلال ... والسر هو الجهل ، الجهل بأقسامه كلها ، من بسيط ، إلى مركب ، إلى جهالة الطيش والهوى . والعالم بحاجة ملحة إلى أن ينشط أهل الإيمان الصحيح لشرح أصوله ، و إبداء صفحته ، ودحض الشبه المثارة حوله ، واستخراج الجهال من الكهوف المطروحين بها لتمتلىء صدورهم بأنفاس الحقيقة الرحبة . لقد تدبرت أفكارا وسيرا شتى لجمهور من العصاة والأراذل . فوجدت أن الجهل الفاضح ينسج حولهم غلالة قاتمة ، ويذرهم أشبه بقطعان الدواب فى قصور الإدراك ، وعوج العمل ، وشدة الغفلة . وانظر ما يقول الله لنبيه إذ بعثه فى العرب الأولين : (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ، لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ، وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون). ص _239(1/232)
هذه صورة مجتمع محبوس وراء جدران معتمة لا يتسرب منها بصيص نور ، ومن ثم نرى أصحابه صرعى الذهول والجمود . وعلاجهم ـ ولو ينقطع العذر ـ أن تزاح تلك السدود ، وتذوب هاتيك القيود ، ويسلط على عقول هؤلاء وقلوبهم فيض من الوحى ينقلهم من حال إلى حال . . إن حاجة البشر إلى العلم الكثير كحاجة الأرض المجدبة إلى الغيث الهاطل . ولابد أن يسخر الدعاة جميع وسائل التعليم والإيقاظ ، كى ينصفوا الحق ، ويوصلوه إلى الخلق . . وأمر آخر : أن العالم نفسه قد ينسى ، وتشغله فتن العيش وصوارف اللغو عن القيام بما ينبغى منه ، وهنا يجىء دور التذكير فى إبعاد سنة الغفلة عنه . وكم من مبتعد عن الجادة تكفيه فى العودة إليها همسة ناصح أو صيحة زاجر . فإذا هو راجع إلى رشاده مستقيم على الصراط . . (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) . وعمل الواعظين ـ فى أغلب الأحيان ـ هو ذلك التذكير النافع . وهو تذكير لا يستغنى عنه الناس يوما . إذ طالما يعصف النسيان بأفكارهم ، ويبعثهم على السير فى الحياة دون وعى أو هدف . أليست تلك طبيعة البشر ؟! (اقترب للناس حسابهم و هم في غفلة معرضون ، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه و هم يلعبون ، لاهية قلوبهم) . وإسناد اللهو إلى القلوب يومىء إلى تغلغل الصوارف عن الجد ، واستحواذها على صميم الإنسان . . والنسيان بهذه الصفة مساو للجهل ، فإن نتائج " فقدان الذاكرة " هى ـ نفسها ـ نتائج عدم العلم . ولذلك يقول الله جل شأنه : (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون). ص _240(1/233)
وقد تتساءل : كيف ينسى المرء نفسه لأنه نسى ربه ؟ أو تقول : إنما نسى ربه لأنه ذكر نفسه !!. والجواب أن المنافقين المندفعين وراء شهواتهم ، المستغرقين فى إشباع مطامعهم ورغائبهم لا يذكرون شيئا من مصالحهم الحقيقية ، ولا يستفتحون طريقا يصون لهم معاشا أو معادا . إنهم يرتعون فى الدنايا رتع الدواب فى الربيع حتى تهلك بشما واعتلالا . والشخص الذى تصرعه أهواؤه لا يدرى شيئا عن حاضره ولا مستقبله ، ولذلك يعتبر ناسيا نفسه . وإنما جاء نسيانه لنفسه من نسيانه لربه . ولو ذكر حقوق الله وانتصب لأدائها لآتاه الله رشده ، وبصره بها ينفعه ويرفعه ، ومسكه بما يضمن العافية له فى دينه ودنياه . التذكير المستمر ضرورة إذن للناس جميعا ، ما بقوا بشرا مطبوعين على النسيان ، وما اختلف عليهم الليل والنهار ، ذلك أن اختلاف النهار والليل يُنسى كما قال الشاعر . . وتزداد الحاجة إلى التذكير فى بيئة عن بيئة . فالبيئة الساذجة الخشنة ليست خطرا على العفة كالبيئة المشحونة بالمغريات المستثيرة للكوامن . ومن ثم فنحن نرى العصر الحاضر يوجب على حملة الإيمان وحراسه أضعافا مضاعفة من اليقظة والحماسة لحماية الدين وأخذ الناس به ، وردهم إليه ، كلما طاش لب أو أفلت قياد . الدعوة إلى الحق واجبة فى كل حين وهى فى هذه الأيام أوجب . والدفاع عن الحياة مطلوب ، وهو عند تحرش الذئاب ، وإحاطة الأخطار أحفز للحس وأدعى للاستعداد والانقضاض . . والسبيل إلى الله مهددة الآن بجحافل من الملحدين والفساق تجر العامة جرا إلى الجريمة وتصرفهم صرفا عن العبادة ، وتزين لهم بألف وسيلة ، أن يهجروا الإيمان والعمل الصالح . وتلك حال تنفى النوم ، وتقض المضجع . . وهى حال تذكرنا بالخصائص الأصيلة فى هذا الدين العظيم ، دين الإسلام . إنه دين حريص على تجلية الحق ومقاومة الباطل . . ص _241(1/234)
يجأر بالدعوة ويصرخ بتوحيد الله ، ويهيب بالناس أن يقبلوا على الصلاة والفلاح بكرة وأصيلا . دين ، ما ان يرى المنكر حتى يشتبك معه ، وينفر منه ، ويطوى الأفئدة على كرهه ، إنه دين لا يهادن الضلال لحظة . إن استطاع تغييره فعل ، وإلا ترك فى القلوب نية تغييره عندما تسنح فرصة ! لقد زوّد الله هذا الدين بأسباب البقاء التى أعوزت ديانات سابقة . فتلاشت تحت ضغط الوثنيات الجاهلة حينا ، أو تحت ضغط الجبروت الحاكم حينا آخر . . مصارع الديانات السماوية القديمة ـ لا مصارع بعض النبيين ـ هى التى جعلت العناية العليا تزوده بكتاب " لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان" بعد أن بادت كتب وطمس التحريف والإفك معالمها ، وبعد أن لانت أحكامها وتعاليمها للوضاعين وعُبَّاد الهوى . وهذه التجارب القديمة نفسها هى التى جعلت الإسلام يغالى بقاعدة الأمر والنهى. فليس الصلاح أن تعبد الله وتحيا مسالما لمجتمع عاهر . هذه عبادة مزيفة ، لا تنسب صاحبها إلى تقوى . العبادة الصحيحة ، هى التى تدفع صاحبها إلى إنكار المنكر على درجة ما ، جهد الطاقة . والإسلام دين يتحرك بالحق ، ولا يسكن به ، إن الحركة سر الحياة ، والركود طريق الموت . ومن هنا وصفت أمة الإسلام بالخاصة الأولى فى دينها ، وهى الغيرة على الحق ، وطبع الحياة الخاصة والعامة به . (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). ومهما ساء الأمر ، وأظلمت الدنيا لا . . فلا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله ". * * * ص _242(1/235)
الخطابة ودعما للحق فى أنحاء الجماعة جعل الله الخطابة من شعائر الإسلام . 1ـ ففى كل أسبوع يحتشد المسلمون فى المسجد الجامع ليسمعوا داعية إلى الله يذكر به ويعلم دينه . 2ـ وفى كل عيد يجتمع الرجال والنساء فى الميادين الرحبة أو فى المصليات المحيطة بالقرية ليسمعوا التوجيه المناسب بعد صلاة العيد . 3ـ وفى كل موسم جامع للحجيج تلتقى وفود الأمة الإسلامية المترامية الأطراف حول "عرفة" لتستمع إلى خطاب خطير يتناول شئونها ويشرح قضاياها ومبادئها . وبديهى أن الخطابة فى الإسلام ، غير الخطابة التى يُرى شبحها الآن حائلا مائلا . إن الصلة بين خُطب اليوم وحقيقة الدين كالصلة بين "سيف المنبر" وأسلحة القتال فى البر والبحر والجو .!! الخطابة فى الإسلام مظهر الحياة المتحركة فيه ، الحياة التى تجعل هذا الدين يزحف من قلب إلى قلب ، ويثب من فكر إلى فكر . ويتنقل مع الزمان من جيل إلى جيل ، ومع المكان من قطر إلى قطر . . وذاك هو السر فى أن نبى الإسلام كان يخطب كل أسبوع وكل عيد ، ويخطب أو ينيب عنه أميرا يخطب فى وفود الحجيج عند جبل الرحمة . وتنفجر ينابيع الخطابة الصحيحة من معانى القرآن وأغراضه . فإن القرآن هو الكتاب الهادى للأحياء ، ذو القدرة الفذة على استثارة أفكارهم واستجاشة مشاعرهم ، والسمو بهم إلى ما يشاء . فلا جرم كانت الخطابة المستمدة منه وقود نهضة ، وضياء أمة . فى كل بضعة أيام يقف رجل واع حصيف ليعرض قبسا من آياته ، أو يسير فى هدى هذه الآيات إلى إحدى الغايات التى جلاها القرآن الكريم . إن الإسلام دين حى . ص _243(1/236)
ومن دلائل حياته وامتداده ، أن رسوله وخلفاء رسوله كانوا ـ باستمرار ـ يصلون أمداد الوحى بين الناس ، فما يضعف صوت السماء ، وما ينقطع ، مع هدير الخطيب الذى يتحدث باسم الله ، بين عباد الله . وصوت السماء هنا ليس نداء إلى عزلة ، أو أمرا بانسحاب ، كلا كلا . إنه صوغ الحياة نفسها وفق إرادة الله ، وقيادة الأحياء إلى الحق الذى تحاول الشياطين اختطافهم دونه . ولذلك لا تسمى خطابة إسلامية هذه الكلمات الميتة التى يسمعها الناس فى بعض المساجد ثم يخرجون ، وهم لا يدرون ماذا قال خطيبهم . لأنه لم يصل أحدا منهم بروح القرآن ، ولا أنعش قلبا بمعانيه ، ولا علق بصرا بأغراضه . القرآن كتاب طواف فى الكون ، وصاف لآفاقه ، متغلغل فى شئون الحياة يتناولها بالسرد والحكم . ويشرح وصاياه للفرد والمجتمع والدولة فى شمول وهيمنة ، ويستشف خبايا الأنفس والعقول ، فلا تدع ريبة ولا شبهة إلا أزاحها . يستحيل أن يفرط فى قضية تعنى الناس من معاشهم أو معادهم . إن لم يتناول الجزيئات كلها بالفتوى الحاسمة فإن أسلوبه فى خلق الضمير الزاكى والفكر الراقى يغنى ويكفى ويهدى للتى هى أقوم . والخطابة الإسلامية حقا ، هى التى تأخذ من القرآن وتسير معه . كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحيانا يخطب بسورة "ق والقرآن المجيد" ، وكان " عمر" أحيانا يخطب بسورة النحل : (أتى أمر الله فلا تستعجلوه…) . وإذا كانت لغة التخاطب قديما قلما تتفاوت مع لغة الأداء فإن فهم العامة للقرآن لا يبعد ولا يخفى . أما الآن فربما لا نخطب بالقرآن نفسه . ص _244(1/237)
بيد أن المعانى الواسعة المحيطة المتحدثة عن السلم والحرب ، والغنى والفقر ، والإنسان والجماعة ، والدنيا والآخرة ، والجسم والروح ، المعانى المتحدثة إلى الإنسان وحده ، أو فى عمله ، أو مع أهله ، المفصلة لضروب الأحكام فى شتى الشئون . . هذه المعانى هى الينبوع الذى تستمد منه الخطابة الإسلامية . والمعنى الرائع لا يكفى ، فلا بد من كساء حسن له . والقرآن معجزة أدبية أخرست المتحدين على كر العصور . فكيف ـ بالله ـ يتعرض لخطابة الناس باسم الإسلام رجل ، ضعيف البصر بمعانى الكتاب الكريم ، أو بصير ببعضها ولكنه محروم من نعمة الأدب وحلاوة الأداء ؟! الخطيب الذى يصلح للتحدث عن الإسلام ، رجل خبير بالحياة وعللها ، مكين فى الوحى الأعلى . يأخذ منه ـ بلباقة ـ ما يشفى علل الناس ويصلح بالهم . ما يتألف به نافرهم ويسكن ثائرهم . ما يدحض به نزعات الإلحاد ويحبط كيد الشيطان . ما ترق به القلوب القاسية وتنفرج به الأسارير المنقبضة . ما يُشعر الناس بعد الانصراف عنه أنهم فقراء إلى الله ، محتاجون إلى هداياته ، لا بصيرة لهم إلا منه ، ولا ملجأ إلا إليه . وموضوع الخطبة الإسلامية ، هو الحياة الأولى والآخرة جميعا . لأن ذلك هو المجال الذى يعمل فيه الإسلام ، وتتطرق إليه الآيات . وأذكر أنى ألفت كتابى "خُلق المسلم" و "عقيدة المسلم" من الخطب التى ألقيتها على المصلين أيام الجمع . بل إن موضوعات كثيرة من كتابى "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" و "الإسلام والاستبداد السياسى" كانت ضمن حديثى للمصلين فى أثناء إلقاء هذه الخطب الجامعة . ص _245(1/238)
ولم لا ؟ إن نبى الإسلام جعل حقوق الإنسان موضوع خطبته فى حجة الوداع ، وجعل إنهاء المعاهدات التى عبث بها المشركون كلمة الإسلام فى الموسم الذى سبقها . وبعث عليا يتلو على الناس سورة "براءة " التى تحمل فى طياتها تلك النذر ، المهم ـ مهما اتسع الموضوع ـ أن تكون كلمة الله فيه ، وأن يكون اليقين المحض باعثة ، ووجه الله الكريم غايته والسير فى موكب الإسلام سمته وقوته . وقد تتسع الدروس والمحاضرات لما تضيق عنه الخطب المنوطة بأسبابها والمربوطة بأوقاتها . فإن الخطبة تقتضى عرضا سريعا محدودا لحقائق مفروض أن تكون فوق الجدل ، أما فى أثناء الدروس والمحاضرات ، فإنه قد يقبل الاسترسال والاستطراد ، والأخذ والرد . وقد تحتاج الموضوعات المطروقة لضروب شتى من الشرح والتمثيل . ولمجالس العلم مكانة كبيرة فى الإسلام ، إذ هى المجال الطبيعى للتفهم والتفهيم ، ولتلقى الحقائق فى أناة وبحث . ويمكن تنظيم تلك المجالس وفق حاجات الجماعة ، وتبعا لما تتناوله من أنواع العلوم وفنون المعرفة . ولم تكن لدروس الوعظ مواعيد مرسومة على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. بل كان هديه تخول الناس بالموعظة ، مخافة أن يسأموا ، فهو يرمق أحوالهم ثم يرسل الحكمة حيث يتطلبها الوقت . ولعل ذلك كان اكتفاء بالخطب المقررة فى أيام الجمع وغيرها . وسنتكلم عن هذا اللون من الثقافة ـ أعنى الدروس الرتيبة ـ عند الحديث عن القصاص . على أنه يهمنا هنا الإفاضة فى أن الحديث الدينى كثيرا ما يتسم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد . ولما كان الأمر موضع خفاء عند المشتغلين بالتربية الحديثة رأينا أن نلقى ضوءا على هذه السمة البادية لتعرف على حقيقتها . * * * ص _246(1/239)
الترغيب الحث على فعل الخير ، وأداء الطاعات ، والاستقامة على أمر الله ، جاء فى الكتاب والسنة مقرونا ببشريات كثيرة ، وحكم مذكورة . والدعاة عندما يغرون العامة والخاصة باتباع الدين لا يسأمون من تكرار هذه الجوائز المضروبة والعلل الباعثة . ونستطيع أن نذكر أمثلة لهذا الأسلوب من النصح الشائع فى الإسلام . 1ـ قد تطلب الطاعة من الإنسان ، لأن أمر الله يجب أن يلبى . فالله ولى الأمر ، وولى النعمة ، الخالق من عدم ، المطعم من جوع ، الكاسى من عرى ، الساتر من فضح . فحقه إذا أمر ، أن نسارع إلى إجابته ، وأن يرانا عند إرادته . مَن يُطاع إذا جُحِدَ أمُرهُ ، وأُهمِلَ شرعُه ؟. كيف نخلع طاعته من أعناقنا وهو أولى من يهرع إلى ساحته ومن يقال له : سمعنا وأطعنا ؟ (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمونَ ، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ، الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين). وتعليل الطاعات المطلوبة بهذه العلة يحتوى على قدر من الحق لا شك فيه . 2ـ وقد نطلب من الناس التحلى بمكارم الأخلاق ، والتزام العدالة فى الأحكام والارتقاء بالسلوك العام إلى مستوى يليق بأمجاد الإنسان ، خليفة الله فى أرضه ، ونغريهم على ذلك ، بأن هذه أشياء حسنة أمرنا الله بها وهو لا يأمر إلا بالحسن . (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به). أجل نعم ما يعظنا الله به . ص _247(1/240)
وفى بيان أسرار ذلك الحسن الممدوح المنوه به يمكن أن نوضح طرفا من معنى الخير فى الصدق والعفة ، أو فى الصلاة والصوم ، كاشفين حقيقة الوصايا الإلهية ، وأنها لا يمكن أن تنطوى أبدا على شر مرذول . (إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ، قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين). والترغيب فى الخير بهذه العلة يحتوى على قدر من الحق لا ريب فيه . 3ـ وقد نحض الناس على تقوى الله والمبادرة إلى إقامة حقوقه ورعاية حدوده ، وتحرى مرضاته فى كل ما طلب . لماذا ؟ لأن الضمير البشرى الزكى لا يمكن أن يتألق بين حنايا الإنسان ويختص به بين متاهات الحياة ، ودسائس الأهواء ، وفتن الشياطين ، إلا إذا كان موصولا بالله يستلهمه الرشد ، ويستمد منه العون ، ويستدره التوفيق . (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به). (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا و يكفر عنكم سيئاتكم). والفرقان المجعول ، هو البصيرة التى يستهدى بها المؤمن ، فلا يخلط بين حق وباطل . وهى النور الذى يمشى به فلا يزل ولا يحار . وكل إنسان فى الدنيا بحاجة إلى هذه البصيرة الهادية لتنقذه من المشكلات وتنجو به فى الملمات . والترغيب فى تقوى الله ـ لهذه العلة ـ يتضمن جزءا من الحق لاشك فيه . 4ـ وقد نرغب فى الإيمان والعمل الصالح ، لأنهما سبيل العيش الرغد وضمان الحياة السعيدة . والمرء بطبيعته يحب النفع العاجل ، ويؤثر أن يجنى ثمار استقامته وفرة وأمنا وسترا . ونحن نرى الإطماع بسعة العيش ويسر الرزق يتنقل فى شتى الرسالات . ص _248(1/241)
ألا ترى نوحا يقول لقومه : (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا). ثم يجىء على لسان رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله). ثم هو يجد الجماعة المؤمنة بالنصر والتمكين ، وانقضاء أيام الفزع والرهبة ، وطلوع فجر السيادة فى الأرض ، والطمأنينة عليها . (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا). وهذه العدة الجميلة من أسباب البقاء على الإيمان وتحمل مشاق الرسالة . والترغيب فى الخير بهذا الأسلوب يتضمن قدرا من الحق كذلك لا مرية فيه . 5ـ وقد ندفع الناس إلى الرضا بمكاره الحق ، واحتمال تكاليف الإيمان بما قد ينتظرهم هناك . . فى الدار الآخرة من نعيم مقيم ومنزل كريم . ألا ترى الفارس المسلم "جعفر الطيار" يخوض غمرات الموت ويواجه حر الكفاح ولفحه المظمىء وهو يرتجز : يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردا شرابها ..!! إن الدنيا منقضية لا محالة ، إذ من الذى خلد فيها قبلنا ؟ فكيف يمهد الإنسان لنفسه حياة بعدها ؟! إن الألوان الزاهية التى اصطبغت بها أوصاف الجنة تغرى بالزاد المقرب إليها ، وتجعل العاقل يستكثر منه ويدخر . ص _249
(وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ، عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا). وقد اطرد فى القرآن والسنة نعت الجنة بما يجعلها أمنية المتقين ، ومستقر الركب المرتحل بعد سفر طويل . والترغيب فى الصالحات بهذا الأسلوب مستقيم مع الحق ولا شئ فيه . . * * * ص _250(1/242)
الترهيب وكما تُقاد النفس عن طريق الرغبة تقاد عن طريق الرهبة . فتكف عن الرذيلة وجلا مما يعقبها من منغصات ، أو تندفع إلى الفضيلة خوفا من مغبة التراخى والتفريط . 1ـ فالذى يشتهى لذة محرمة قد نقمع سورتها فى نفسه بذكر الله ذى الجلال ، والذى يستهين بالحقوق ويغتر فيجتاحها دون مبالاة ، قد نخوفه بذى الجبروت الذى إذا سخط عليه خسف به . والله سبحانه وتعالى قوى متين ، وعزيز ذو انتقام ، وديان لا يموت . . والتخويف به حق وأثر الخوف بعيد المدى ، إنه فى الدنيا يصنع الكثير . فالطالب الذى يخشى السقوط يحصل علومه . والتاجر الذى يخاف الإفلاس يضاعف نشاطه . والموظف الذى يكره التخلف يثابر فى عمله . ولذلك قال يحيى بن معاذ : مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر لدخل الجنة . وترك المعاصى تهيبا لله واتقاء سخطه دين ! ومن حق الله أن يُهاب ويُخشى ، وفى حكم الصالحين : " لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى من عصيت " . وقال على كرم الله وجهه : " إذا استعظمت الذنب فقد عظمت حق الله ، وإذا استصغرته فقد صغرت حق الله . وما من ذنب استعظمته إلا صغر عند الله ، وما من ذنب استصغرته إلا عظم عند الله .. " . والخوف الذى يتحدث الشارع عنه ليس شعور قلق تهتز به النفس ويذهب فيه اتزانها ، ويكوّن ما يسمى الآن عقدة .. كلا ، إنه إحساس فطرى يؤدى نتائجها فى سهولة . فالنظيف ـ مثلا ـ يتقى الأقذار ويخاف دنسها ويحتاط أن يعلق ببدنه أو ثوبه ص _251(1/243)
شئ منها . وهذا الخوف كمال نفسى ، وليس مرضا ولا شبه مرض . . 2ـ والترهيب من الآثام قد يعمد إلى إبراز ما فيها من قذارة لا تليق بالإنسان العالى الشأن . فالإسلام يسمى المعاصى قاذورات ، وينأى بالفطرة السليمة أن تتدلى إليها ، فضلا عن تألف مواطنها . . والحقيقة أن المتأمل فى أحوال المجرمين يرى مسخا غريبا فى أنفسهم ، حتى لكأنهم يتحولون إلى أنواع من السباع والدواب ، وإن ظلوا فى إهاب البشر . ولا عجب ، فالمرء الذى يمرن على الرذيلة ويستمرئها يصل إلى درك من السوء لا أمل بعده فى سلامة . وهذا معنى قول الحسن : " إن بين العبد وبين الله حدا من المعاصى معلوما ، إذا بلغه العبد طبع الله على قلبه فلم يوفق بعدها إلى خير " . وهذا هو المسخ الذى وقع مثله لبنى إسرائيل لما عتوا عن أمر الله . روى ابن جرير وابن أبى حاتم عن مجاهد أنه قال : ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار . . والمغالاة بكرامة الإنسان ، و إفهامه أن المعاصى لا تليق بمنزلته هى التى أوحت إلى " ابن القيم " أن يقول : فحى على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم إن سوط الإرهاب تحول هنا إلى صوت عذب وحداء رقيق والمعنى واحد . ولعل من ذلك قول "عمر" : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ..!! والكشف عما فى الرذيلة من قبح ، شائع فى الكتاب والسنة . انظر كيف نصح الله أولياء اليتامى : (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا). وانظر إلى نصح رسول الله للرجل الذى يحب الزنا كيف قال له : أتحب أن يكون لكذا وكذا ؟ من محارمه . ص _252(1/244)
إن هذا النصح يبين خاصة من خواص البشر ، تحدث عنها علماء الأخلاق ، وهى أن الشذوذ لا يمكن أن يتحول بين الناس قانونا عاما . 3ـ وقد نخوف من الذنوب ومواقعتها ، ببيان خطرها على الإيمان نفسه . فالمعاصى بريد الكفر ، واقترافها ـ دون حذر ـ فجور يدل على موت القلب . وفى الحديث : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه فى أصل جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا . . فطار" . ذلك أن الإيمان هو الصانع الأوحد للضمير الذى يوثق به . فإن مراقبة الله جل شأنه أساس مكين فى توقى الشرور والتحرز من الدنايا . ولأمر ما أقسم الله بالنفس اللوامة . والنفس اللوامة هى التى تترفع عن الإثم ، وتنفر من مقارفته ومن مؤالفته ، وتدفع صاحبها أبدا إلى حال أزكى ودرجة أرقى . كأنها لا ترضى بما هى فيه حتى تنتقل إلى مرحلة أطيب . فإذا بلغتها تكشف لها ما هو أعلى فتنشده ، وهكذا دواليك حتى تلقى الله ... ولأمر ما طلبت منا التوبة النصوح . والتوبة النصوح هى التى يتولد منها إحساس يقظ ، كأنه ديدبان حارس ، كلما دلف الشيطان ليزل الإنسان إلى معصية ، نبه إلى الخطر ، وحمى من السوء . والنفس اللوامة والتوبة النصوح : تسميتان تشيران إلى ذلكم الضمير الدينى الوازع عن الشرور ، الباعث على الطاعات . 4ـ وقد يكون الإرهاب عن المعصية ببيان شؤمها فى العاجلة وضررها الذريع فى جسم الإنسان وأهله وولده ومكانته . وبذلك ينزجر الإنسان عن مواقعتها خشية ما يصيبه من بلائها ، كأنه طائر أبصر الحب فى الفخ فعلم أن حتفه فيه لو وقع عليه ، فهو يتركه نجاة بنفسه ، وطلبا للسلامة . والواقع أن المعاصى مفتاح لمصائب فادحة وكرب جسام . . والرتع فيها يجر الويلات على الأفراد والجماعات . (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) . ص _253(1/245)
ولولا أن الله يهب الخلائق فسحة ليستفيقوا ويقلعوا لكان الحق هو الجزاء السريع لمخازيهم . وتلك رحمة من الله ، فهل يستغلها العصاة ؟ (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) وهذا التأخير لا يعنى إرجاء العذاب إلى يوم القيامة . فإن لكل سيرة رديئة أجلا موقوتا تستحق عنده العقوبة . ثم تنزل بالفرد أو الجماعة ، فى هذه الدنيا ، قبل الآخرة . (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون). وقد انتشرت فى الكتاب والسنة النذر بتلك العقوبات العاجلة . روى البيهقى عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " يا معشر المهاجرين ، خصال خمس ، إن ابتليتم بهن ونزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهن : 1ـ لم تظهر الفاحشة فى قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التى لم تكن فى أسلافهم . 2ـ ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان . 3ـ ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا فيغوا القطر من السماء ولولا البهائم لم ئمطروا. 4ـ ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سُلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما فى أيديهم . 5ـ وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم ... " . وفى الحديث "خمس تعجل عقوبتهن ، البغى ، والغدر ، وقطيعة الرحم ، وعقوق الوالدين ، ومعروف لا يشكر " . وفى القرآن الكريم بيان لعقوبات نزلت بأمم تمردت على الله وجارت عن الطريق ، فسلبت النعمة التى طالما مرحت فيها ، وحل بها ما لم تكن تتوقع : ص _254(1/246)
(لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور). (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). على أن عقوبات الآحاد والأمم تخضع لسنن عليا ، وتضبطها آماد ليس إلا الله يعلم موعدها . وقد كان الأنبياء من " نوح" إلى "محمد" يوجلون من تحديد هذا الموعد . ويجيبون المستهزئين والمتعجلين بأن ذلك ليس إليهم . (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ، قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين). ويُجرى الله على لسان نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا القول : (ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين). وقد نرى أفرادا وأمما تُستدرج إلى مصيرها الفاجع بكثرة النعم ـ على ما فيهم من معاص ـ وفى هذا يقول الله عز وجل : (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا). ويقول : (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ، متاع قليل …). وقد نرى آحادا من الناس يرتكبون الذنب أيسر مما يصنع أولئك الفجرة ، فيعاقبهم الله بشئ من الحرمان كما جاء فى الحديث : " إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه " . ص _255(1/247)
وذلك منه سبحانه تأديب لمن يريد تقويمهم فى الدنيا ليلقوه فى الآخرة مطهرين. 5ـ وقد نحض الناس على أنواع الخير ، ونحجزهم عن ضروب الشر ، بذكر الآخرة وما فى جهنم من عذاب شديد ، ومهانة بالغة . قال الله تعالى : (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ، السماء منفطر به كان وعده مفعولا). فخوف من الكفر بعذاب يوم القيامة . (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا) . وفى الحديث : " اتقوا النار ولو بشق تمرة " . وفى الحديث أيضا : " دخلت امرأة النار فى هرة حبستها ، فلا هى أطعمتها ، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض " . والتخويف بالنار ، ووصف صنوف العذاب المعدة فيها يستغرق جزءا كبيرا من الكتاب والسنة . وما دامت النار حقا ، وما دامت معدة للسفلة يقينا ، فلم يكون التخويف بها عيبا؟! * * * ص _256(1/248)
رأى التربية المدنية للتربية الحديثة رأى سئ فى الترغيب والترهيب . ومذهبها فى توجيه الصغار والكبار يقوم على شرح الفضائل والرذائل وما فيهما من خير مجرد وشر مجرد . وقلما تلوح بأجزية على الأعمال ، إلا أن تكون أجزية معنوية ، أو مادية معجلة فى هذه الحياة . ونحن نستعرض البواعث على هذا المنحى ، لنُقر منها ما هو حق ، وننسخ منها ما هو باطل . فإذا كان المراد إفهام الناس طباخ الحسن والقبح فى الأعمال حتى يكون الإقبال عليها أو النفور منها صادرا عن وعى دقيق ، فذاك شئ لا بأس منه . وهو ـ كما رأيت ـ بعض دوافع الترغيب والترهيب عندنا . ويسرنا أن يزداد الطلاب والمتعلمون فقها فيما يقترن بالعبادات والأخلاق والمعاملات من خير ونفع ، وما تنطوى عليه من حق وعدل . على أن هذا لا يقلل من جدارة الحقائق الأخرى بالعرض والتبيان ، وقد شرحناها بإيجاز وصدق . وعلى المربين سوقها جميعا إذا ارتأوا ، أو تخيروا المناسب منها للحال التى يعالجون ، فإن الكلمة الرقيقة قد تجدى مع قوم ولا تجدى غيرها معهم . على حين لا تصلح إلا العصا لآخرين ؟ وهذه الوسيلة لا تغض من تلك . بيد أننا نحارب أشد المحاربة ، كل لون من ألوان التربية يقوم على التهوين من الألوهية ، وعلى قطع صلة العمل الإنسانى بها . كما نحارب هذا الإهمال المتعمد السمج لحساب الآخرة وثوابها وعقابها . إن بعض الناس يكاد يجعل ارتباط الصالحات بالجنة عملا شائنا ، وارتباط السيئات بالنار منزلة منحطة . وربما يحكون ذلك بعض أشعار للصوفية من رجال ونساء ...!!! ص _257(1/249)
وهذا جحود للدين حينا ، وتخليط فى أحكامه حينا آخر . لماذا يكون فعل الخير طلبا للجنة ـ مثلا ـ درجة صغيرة ؟ أو ترك الشر ـ مثلا ـ خوفا من النار مكانة تافهة ؟ إن الذى يتجاوز العاجلة ناشدا ما عند الله ، ومدخرا لغده خيرا يفعله ، أو حرمانا يصيبه ، ليس رجلا مغموصا ، فمن يكون الرجال الكبار إذن ؟ قد تقول : الذى يفعل الخير للخير ، ويترك الشر للشر . والجواب : هل هناك إنسانية تتخطى قوانين اللذة والألم ؟ أعنى هل هناك جسد يخرس منطق البطن والفرج ، فلا يحس جوعا ولا اشتهاء ، ولا يميز بين خشن ولين ، ووسيم ودميم ؟ وإذا وجدت هذه الإنسانية فى الوهم ، فهل هى معترفة بالله ومحتاجة إليه ، أم لا؟ إن المؤمن يؤدى العمل لله وحده ، ثم يرتقب مع مرضاته جل شأنه أن يلقى لديه الرضا والنعمة ، وأن يصان من العنت والأذى . وهذا الطمع فى فضل الله لا ينقص قدره ، وهذا الوجل من عقابه لا ينزل به . كيف ؟ والقرآن الكريم يقول لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) . المشكلة فى التربية الحديثة ، ليست الطريقة التى تتبعها فى تكوين النشء . إنما المشكلة أنها نبتت فى بيئات تحقر الدين ، وتنكر البعث ، وذلك سر تجهمها لأسباب الرغبة والرهبة على جدواها فى إشاعة الفضائل ، و إضاعة الرذائل .. وليس الإسلام بدعا فى ذلك المنهج . فإن الديانات كلها قامت على معرفة الله ، وضرورة طاعته ، وعلى الاستعداد لليوم الآخر ، وضرورة التحرز من عذابه وإحراز خيره وثوابه . وهاهو ذا الحديث الجامع عن قدم الترغيب والترهيب فى دنيا الناس : عن الحارث الأشعرى رضى الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله تبارك وتعالى أمر ص _258(1/250)
يحيى بن زكريا عليهما السلام بخمس كلمات ، أن يعمل بها وأن يأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بها ، وإنه كأنه كاد أن يبطئ بها ، فقال له عيسى عليه السلام : إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بها وتأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بها ، فإما أن تأمرهم بها ، وإما أن آمرهم أنا بها . فقال يحيى عليه السلام : أخشى إن سبقتنى بها أن يخسف بى أو أُعَذب . فجمع الناس فى بيت المقدس فامتلأ المسجد بهم وقعدوا على الشرف ، فقال : إن الله أمرنى بخمس كلمات أن أعمل بهن وأن آمركم أن تعملوا بهن : 1ـ أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . فإن مثل من أشرك بالله ، كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق وقال : هذه دارى ، وهذا عملى ، فاعمل وأد إلى ، فكان يعمل ويؤدى إلى غير سيده ، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك ؟ 2ـ وإن الله تعالى أمركم بالصلاة ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا ، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده فى صلاته ما لم يلتفت . 3ـ وأمركم بالصيام : فإن مثل ذلك كمثل رجل فى عصابة معه صرة فيها مسك ، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . 4ـ وأمركم بالصدقة : فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال : أنا أفدى نفسى منكم بالقليل والكثير ، ففدى نفسه منهم . 5ـ وأمركم أن تذكروا الله : فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو فى أثره سراعا حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم ، وكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى . وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" وأنا آمركم بخمس ، الله تعالى أمرنى بهن : السمع ، والطاعة ، والجهاد ، والهجرة ، والجماعة فإن من فارق الجماعة قيد شبر ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو فى جهنم" ص _259(1/251)
فقال رجل : وإن صام وصلى يا رسول الله ؟ قال : وإن صام وصلى فادعوا بدعوى الله الذى سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله تعالى . * * * إن التخويف بالعقوبات البدنية ، والتلويح بالمكافآت المادية : أمران لا بأس بهما فى مجال التربية ، بل إن انتظار الثمرات المرضية من ورائهما تفكير رشيد ، ونهج سديد . صحيح أن التعويل على الأجزية المادية وحدها هبوط بقيمة الإنسان ، وتحقير لعقله وقلبه ، بيد أن الدين لم يفعل ذلك ولا جنح إليه . إن الإسلام أيقظ العقل الغافى أولا ، وتوجه إليه بالخطاب المبين ، وحرك القلب الإنسانى ، وعقله بالسماء ، ولفته إلى ما يجمل به من شكر لله ، وقيام بحقه . والزعم بأن المرء يترك وشأنه إذا لم يستجب لحادى العقل والضمير زعم باطل ، فمن لم يزجره عن إيذائك الكلم الطيب ، لا حرج عليك إذا قابلته بالعصا . وكما قيل : من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت فى الحلم طرق المظالم ومن أصم أذنيه لصوت العفاف ، وقرر أن يسترسل مع نزعات العهر ، لم يبق بد من ترويض الحيوان النابح فى دمه بالجلد ، وذلك ما فعله الإسلام بالزناة الذين كشفوا للمجتمع عوراتهم . ونحن لا نعرف عهدا استغنت فيه الإنسانية عن إنذار المجرمين بالنكال ، و إعداد السجون لهم ، وعن استرضاء الأخيار بالجوائز المغرية ، وتوفير أسباب السعادة لهم ، ولأهليهم . * * * قال الأستاذ عادل عبد الله : " إن مبادئ التربية الحديثة ترى ألا يضرب الأطفال عقابا لهم على ذنوب ارتكبوها ، أو ردعا لهم عن إتيان مثلها مستقبلا ، لأن ذلك يولد لديهم عقدا نفسية ضارة . لكن الإسلام يأمر بضرب الأطفال لحثهم على إقامة الصلاة إن هم تكاسلوا عنها بعد سن العاشرة . ص _260(1/252)
وغنى عن البيان أن الضرب الذى يأمر الدين به ، يجب ألا يكون مبرحا ، ولا مؤذيا ، وألا يلجأ المربى إليه إلا بعد استنفاد شتى وسائل النصح والترغيب . وقد أثبتت التجارب والنتائج أن موقف الإسلام أرشد وأصدق . ويسرنا أن يعلن الدكتور " بنجامين سبوك " ـ وهو طبيب وعالم نفسانى ـ أمام الجمعية الطبية الأمريكية أن ضرب الأطفال أمر ضرورى فى تربيتهم . ولننقل هنا ما جاء بمجلة المعلم العربى ( أبريل سنة 1952 ) . قالت : " ومع أن رجال التربية وعلماء النفس مجمعون على أن ضرب الطفل يولد عنده عقدة نفسية تجعله فيما بعد يكره الناس ، أو يخافهم ، أو يبتعد عنهم ؟ إلا أن الدكتور سبوك يقول : إن هذا خطأ ولغو ، وإن الذى يفسد الطفل هو أن يخطئ ، ومع ذلك لا تضربه ، بل تكتفى بكلمة خشنة ، أو نظرة قاسية . ويقرر أنه بحث حالة كثير من الشبان والرجال ، فوجد أن أقومهم أخلاقا هو الذى كان أبوه لا يتوانى عن ضربه فى طفولته حين يخطئ ، وأن أفسدهم خلقا وأضعفهم شخصية هو الذى ( سَلِمَ ) من ضرب أبويه فى سنيه الأولى " . وفى عدد ديسمبر سنة 1958 من مجلة المختار قصة بعنوان : (والآن أصبحنا ستة) جاء فيها : أن زوجين لا يرزقان الأطفال تبنيا طفلا وطفلة من أحد ملاجئ الأيتام . وفى القصة تفصيل لحالة الطفلين النفسية وللمشاكل التربوية التى لاقاها الزوجان فى أثناء تربيتهما للطفلين . فقد مكثا مدة يستعملان الرفق واللين فى تأديبهما ، ويغدقان عليهما ما شاءا من المطاعم والمشارب والتحف ـ وكان المربيان على جانب كبير من الثراء ـ فلم يستجب الطفلان لكل ذلك . ثم لجأت المرأة إلى الشدة لأن البنت كانت تعلق دائما على أقوال مربيتها بقولها : " إننى لا أصدق ذلك" قالت السيدة صاحبة القصة : " ولكننى فى هذه المرة ضربت الأرض بقدمى وقلت : " روث " ـ وهو اسم البنت ـ لقد سئمتُ سماعك تقولين لى هذا الرد ، فإذا فعلت ذلك مرة أخرى فسوف أضربك " . فنظرت إلى نظرات سوداء . . وقالت(1/253)
: أوه . . إننى لا أصدق ذلك ! . ص _261
وسرعان ما قلبتها على وجهها ، وأخذت أضربها على ردفها . . ولم تبك ولكنى علمت أن الضرب آلمها وسألتها : هل تصدقين الآن ؟ قالت : أجل . وكانت نظرتها إلىّ ليست كلها كراهية . . بل فيها مزيج من الاحترام ! . وازدادت العلاقات بينى وبين "روث" توثقا يوما بعد يوم " . هذا ما كان من البنت . أما ما كان من الصبى "جو" فإنه كان أيضا شرسا وقحا فى سلوكه مع متبنيه (بيل) : تقول المرأة صاحبة القصة : وذات يوم ، كان الطفلان مع بيل ـ وهو الزوج ـ فوق المحراث ، فطلب "بيل" من الصبى "جو" أن يترجل ويفتح بوابة مغلقة ، فنزل الصبى "جو" وفتح البوابة إلى حد يكفى لمروره وحده منها ...!! وما كاد يجتاز البوابة ، حتى أخرج من جيبه كرة للجولف ، وألقاها على "بيل" ، فأصابته فى ساقه .. وراح يقول : "بيل" افتح بوابتك بنفسك ! . ثم انطلق فى طريقه إلى المنزل . وقفز "بيل" من المحراث وضرب "جو" على أردافه ضربا موجا ثم أمره أن يفتح البوابة ، ففعل ، ومر المحراث من البوابة ، فأغلقها الصبى "جو" ، ثم أمره "بيل" أن يعود لركوب المحراث . . واستمر يقومان بعملهما فى المزرعة . وفى ذلك المساء اقترب "جو" من "بيل" ، وجلس على ركبتيه وأخذ يتطلع إليه بعينين يفيض منهما الحب ! " أ. هـ . * * * ص _262(1/254)
القصص الدينى شاركت فى بعض الأحفال العامة التى تقام فى مناسبات إسلامية ، ونظرت إلى الجمهور الحاضر ، وهو جالس بضع ساعات يستمع إلى كلمات الخطباء المتعاقبة. وكنت أسائل نفسى : ترى ماذا سيصنع بهذا العلم كله ؟ إنه سينصرف وما علق بذهنه إلا القليل ، وما حرك من مشاعره ، أو غير من حياته إلا الأقل . واشتغلت عدة سنين بالوعظ فى المدن والقرى . وكنت أرى حشودا من الناس تجلس حول منصة الدرس ، تستمع بشغف إلى ما يقال . وبعضهم كان دؤوبا على تلقى شتى الدروس من الوعاظ والأئمة ، ثم هو يستأنف حياته القديمة بعد انتهاء الدرس . نعم ، يعود سيرته الأول ، كأن جديدا لم يعترض حياته . ولست أدرى إذا كان هذا النوع من الكلام والسماع باقيا ، أم جرفه السيل المدمر المقبل من الغرب ، فانقطع الكلام والسماع معا ..؟ وإنما الذى أدريه : أن بناء الحياة الدينية لا يقوم على مثل ذلك العبث . وأستطيع الجزم بأن السلف الصالح لم يدرس لهم العلم بهذه الطريقة ، ولم يدربوا على سماعه وتضييعه بذلك الأسلوب .. قد يبذل العلم لطالبه ، كما يبذل الماء للعطشان الذى يحتاج إليه . أما أن يسكب على التراب بهذا السفه ، فذاك شئ مُحزن . وما يقال فى تلك الأحوال ليس علما ، إنما هو تسل بالعلم ، وتضييع للفراغ به.. ولن تكون النتيجة ضياع الفراغ ، بل ضياع الحقيقة وسقوط قيمتها . . والأمة التى تقوم على الإسلام ـ حكومة ومجتمعا ـ تتعاون على تحويل العلم إلى عمل مثمر ، وجهاد نافع ، وأداء منظم لشتى الحقوق ، وتحقيق بارز لأهداف الرسالة . وذاك ما كان مألوفا إبان دولة الخلافة . فقد شغلت الجماهير بالكدح فى الداخل ، والجهاد فى الخارج ، فانسد الطريق من تلقاء نفسه على حلقات التسلى بالعلم . ص _263(1/255)
ولم يسأل الناس إلا عما يعنيهم ولم يجابوا إلا بما يفيدهم . . فلما أصيبت الأمة بالعطل ، ولحقتها آفات الفراغ ، عادت على دينها تشتغل بالكلام فيه ، واستغلت رحابة الآفاق العلمية فى طبيعة الإسلام ، فأخذت تجرى شوطا هنا ، وشوطا هناك دون غاية سديدة . ولكن ماذا تصنع لتملأ الوقت الواسع ؟ إن الساعة الواحدة يتلى فيها من القرآن الكريم ما تنزل الوحى به فى بضع سنين. ويقرأ فيها من حديث رسول الله ما تردد على الآذان فى مثل هذا الأمد الطويل . ثم إن أسلوب البحث والنقد لا تتسع له مدارك العوام . إذن هناك القصص ، وحكاية الأخبار والروايات الماضية . فإذا نفدت من التاريخ الإنسانى ، فعلى الخيال أن يخترع من الحوادث والمواقف ما يشبع نهمة المستمعين ، ويثير إعجابهم ويريح فضولهم . وعوام المسلمين ليسوا بدعا من عوام الأمم الأخرى فى تلك الناحية . ولو نظرت الآن إلى الروايات الاجتماعية ، والغرامية ، والتاريخية التى اختلق الأدباء حوادثها من الوهم ، وسودوا بها ألوفا مؤلفة من الصحائف لأعجزك الإحصاء . والغرض ؟ تسلية العامة فى الحقيقة ، أو خدمة بعض الأفكار والمبادىء كما يقولون . وما أقل الروايات ذات الهدف فى عالم التأليف . إن القصاصين فى تاريخنا أراحوا العوام ، وأرضوا رغائبهم ، ولكن على حساب الدين للأسف . ثم جاء نفر من الوعاظ والأئمة ، فأحيوا هذا اللون البالى من القصص القديم ، القصص الدينى المسلى ، وملأوا به الدروس والمحاضرات . ثم انتقل الأمر إلى طور آخر ، فقد ألفت روايات إسلامية تتضمن بعض الوقائع التاريخية مع مزيج من الأحداث المتخيلة ورئى أن تمثل على المسارح خدمة للإسلام . وأنا رجل لا أومن لا بالمسرح الإسلامى ولا بالمسرح الآخر . إننى أضيق بهما جميعا . ولست أفرض طبيعتى تلك على غيرى ، ولكنى أقرر ـ بوضوح ـ أننى شديد النفور من بدعة التمثيل التى غزت حياتنا الأدبية والاجتماعية . ص _264(1/256)
وإننى أشعر باستغراب وحياء ، عندما أسمع أو أشهد المواقف المتكلفة ، والأصوات المفتعلة ، التى يظهر بها أولئك الممثلون والممثلات ، وأشك كل الشك فى أن التمثيل يحقق غاية إنسانية عالية . بل إن أدب القصة ـ الذى خلا منه الأدب العربى دهرا طويلا ـ ليس بالشيء الذى يستحق كل هذا التنويه والإشادة . ولندع الاستطراد فى هذا الكلام ، فليس ثم مجاله . ولنعد إلى القصص الدينى ، نتعرف تاريخ ظهوره وطريق سيره . . يكن الناصحون والوعاظ يذهبون ـ أيام الخلافة الراشدة ـ إلى أبعد من الكتاب والسنة ، ولم تكن فترات التوجيه الدينى تتطلب أكثر من ذلك . فعماد العظة : إما القرآن ، وإما الحديث ، وإما كلام يدور فى فلكهما ، ولا يعدو حدودهما ، ولا ينضح بغير الروح المستمدة منهما . وخمس دقائق من الكلام الجيد فى خطابة أو درس ، تملأ صحيفتين كبيرتين . وعندما نتدبر الخطب المروية عن الخلفاء نراها محكومة بهذا الإطار المعنوى والزمنى . بيد أن المشتغلين بالدعوة والإرشاد ، أخذوا يتزيدون ، ويتوسعون . فماذا يصلح مددا لهذه الزيادة ؟ إطالة السرد ، وتكثير الشواهد ؟ ما تكفى ! إن الينبوع الدافق هو الحكايات والأقاصيص !! وربما تسأل : من أين تاح للمتحدثين الإسلاميين هذا المورد ؟ والجواب مسلمة أهل الكتاب ! فإن بعض من آمن من اليهود والنصارى وجد أمامه مجالا لنفث خرافاته القديمة ، ورواية ما ألف سماعه عن بدء الخلق ، وعن النبوات الأولى ، وعن أحوال الأبرار والفجار ، بل عن نبوءات المستقبل !! ص _265(1/257)
فقد زعم " كعب الأحبار" أنه يجد مقتل "عمر" فى التوراة ! ووقع الأغرار من المسلمين فى هذه الحبائل ، فأخذوا ينقلونها ويسمونها العلم الأول ، يعنون علم ما قبل الإسلام ..!! ولو سموه الجهل الأول لأنصفوا الحق ..!! على أن الخلافة الراشدة كانت يقظة لهذا الدس على العلم الإسلامى ، فأخذت تصادر بوادره . أخرج بن أبى شيبة والمروزى عن ابن سيرين قال : بلغ عمر أن قاصا يقص بالبصرة فكتب إليه . . (الر.. تلك آيات الكتاب المبين ، إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، نحن نقص عليك أحسن القصص .. ..). فعرف الرجل مراد "عمر" فترك القص ، انقطع عما كان فيه . قال الأستاذ "على محفوظ" : ولما دخل "على" على البصرة جعل يخرج القصاص من المسجد ويقول "لا يقص فى مسجدنا" . حتى إذا انتهى إلى "الحسن البصرى" وهو يعظ الناس انصرف عنه ولم يخرجه . ذلك أن الحسن كان فقيها عالما ثبتا وليس من القصاص . قال السيوطى : أخرج الزبير بن بكار فى أخبار المدينة عن نافع وغيره من أهل العلم قالوا : لم يقص فى زمان النبى ، ولا زمان أبى بكر ، ولا زمان عمر . وإنما القصص محدث ، أحدثه معاوية . ذلك أن معاوية اتخذ قاصا يجلس إليه إذا فرغ من صلاة الفجر ، ولعل ذلك من دهائه فى السياسة . أقول : بل ذلك من ابتداعه فى العلم كابتداعه فى الحكم . . وأيا ما كان الأمر فليس كل قصص منكرا يحارب . فإن هناك نفرا من المربين يحسنون عرض الحق فى ثوب روائى مستحب، ويجتذبون الجماهير بحسن تلطفهم ، وسهولة أسلوبهم . ص _266(1/258)
وفى القرآن ـ كما نعلم ـ أحسن القصص . والمتحدثون للعامة من هذا القبيل لا يشغب عليهم ، ولا يمنعون من إرشادهم . وأول من قص من التابعين بمكة "عبيد بن عمير الليثى" . وقد حضر مجلسه "عبد الله بن عمر" ، فكان ذلك داعيا إلى إقبال الناس عليه . وقال عطاء : دخلت أنا وعبيد على أم المؤمنين عائشة ، فقالت : من هذا ؟ قال : أنا عبيد بن عمير ، فقالت : قاص أهل مكة ؟ قال : نعم . قالت : خفف فإن الذكر ثقيل ! ونصيحة عائشة تشير إلى أن الرجل لم يكن من الأخباريين أصحاب الحكايات الملفقة ، بل كان مذكرا بالله جل شأنه فى فقه وجد . وأول من لزم القص فى مسجد المدينة ، مسلم بن جندب الهذلى ، وهو إمام المدينة وقارئها . وفيه يقول عمر بن عبد العزيز : من سره أن يسمع القرآن غضا فليسمع قراءة مسلم بن جندب . قال الأستاذ على محفوظ : "… ولم يكن القص فى القرن الأول مرذولا لأن فنونه إنما كانت ترجع إلى القرآن والحديث . ولم يكن يشوبه شئ إلا ما كانوا يسمونه بالعلم الأول ، وهو ما يتعلق بأخبار الأمم الماضية . وأكثره يأخذونه عمن أسلم من أهل الكتاب . وبعض هؤلاء كان غزير العلم واسع الحيلة فى قصص الأولين كـ "عبد الله بن سلام " الذى أسلم عند هجرة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة ، و "كعب الأحبار" الذى أسلم فى خلافة "عمر" ، وتوفى سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة . وعن هذين الرجلين ، و"وهب بن منبه" المتوفى سنة أربع عشرة ومائة ، أخذوا سواد قصصهم مما يتعلق بالأمم ، وأحوال الأنبياء ، والنذر الأولى . ولما كان القرن الثانى وانتهى عصر كبار الوعاظ والقصاص من التابعين ـ ومنهم "الحسن البصرى" رضى الله عنه ـ نشأت بعده الطبقة التى أخذت عنها العامة . وقد اضطربت الفتن ، وكثر الكلام ، وفشت الأكاذيب فى الحديث ، وأخبار العرب والشعر ، فصار هم القاص أن يجىء بالغرائب ، ويكثر من الرقائق ، لأن أهل العلم انصرفوا إلى حلقات الرواية ، ولم يبق فى حلقات(1/259)
القصاص إلا العامة. ص _267
فمن ثم ساءت المقالة فيهم كما سبق ، وصار القاص عند أولى العلم أحمق مخرفا ، إلا قليلا ممن استوعبوا وتبينوا وساروا فى مذهب الرواة . وما مذهب الرواة ؟ إنه للأسف نقل الأكاذيب التى لا بأس بها ، مسندة إلى أصحابها . . ! وهذه الأكاذيب هى الحكايات المؤلفة لترغيب فى طاعة ، وتحذير من معصية ، أو الداعية إلى التحلى بالفضائل والتخلى عن الرذائل . " أ. هـ . * * * ويوجد فى مصر الآن ألفان أو يزيد من أئمة المساجد وخطبائها ومن الوعاظ المشتغلين بالدعوة والإرشاد . والشكوى عامة من أن أكثرهم قليل البضاعة من الحق ، كثير البضاعة من اللغو ، وأنه يشبه القصاص القدامى فى ترويج الأساطير ، وتخدير العامة ، وتشويه معالم الإسلام . . وهذه الشكاة لها وجاهتها فهى تعتمد على واقع مؤسف . . ومن الخير ـ لحسمها ـ أن نحدد مناهج واضحة من التفاسير والسنن ، والسير ، والتواريخ ، والآداب ، التى لا مراء فى تصويرها الصحيح للإسلام ، ثم يلزم الموجهون بالصدور عنها وحدها . ذلك . . ولا معنى لتملق العامة ، واسترضائهم على حساب الدين . إن العامة يكرهون البحث العلمى ، والدقة الفقهية ، وتعجبهم الأقاصيص الضافية الذيول . ولكننا نريد رفع مستوى العامة ، لا السقوط معهم . ثم إنه لا معنى للأحفال التى تعج بالخطباء ، ويتبارى فيها فرسان الكلام ، فإن ذلك بلاء يصيب الدين ، ويمحق الإخلاص ، ويرخص النصح ، وتبتذل فيه نفائس الآثار . إن عظة تستغرق دقائق معدودة فى مجتمع وزع وقته بين العمل ، والإنتاج ، والجهاد ، أفضل ألف مرة من برنامج للمحاضرات الطوال ، فى أمة تجيد الاستماع وحده ، ويحسن أبناؤها الموازنة ـ فحسب ـ بين أقدار المتكلمين ، وأنصبتهم من البلاغة ، وسحر البيان ! ص _268(1/260)
الكتابة قلنا : إن الخطابة من شعائر الإسلام ، ودلائل امتلائه بالحياة وسعيه إلى الامتداد ، وربما كان تأثيرها الروحى نفاذا أخاذا . خصوصا إذا كان الخطيب صاحب عقيدة تزحم أقطار نفسه ، وتضطرم بها مشاعره . إنه حينئذ يشعل الجماهير حوله كما تشعل النار الهشيم . وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلا أعلى فى صدق اللهجة ، وعمق التأثير . وكان إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، كأنه منذر جيش يقول : صبحكم ومساكم !! ويقول:" بُعثت أنا والساعة كهاتين ـ ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ." . ويقول : " أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .. " . ولما كانت نفس الخطيب المؤمن تشبه مولدا للكهرباء ، فإن الإيمان المنسكب من نفسه مع ألفاظه يشق طريقه إلى القلوب شقا . ومن ثم كان الجيل الذى صحب رسول الله خير الأجيال ، لعظم ما أفاد منه وانتفع به ، وأفاد الدنيا ونفع . . ومع هذه المنزلة للخطابة فإن لها قسيما لا يقل عنها جدوى ، ولا تستغنى الدعوة عنه أبدا ، وهو الكتابة . بل إن ما ارتبط بالخطابة من أجواء عاطفية يجعل مجالها متجها إلى المشاعر قبل كل شئ ـ وإن اعتمدت على سلامة المنطق بداهة - . لكن الكتابة على العكس ، تتجه إلى العقل وتقوم على الاستعراض المنظم المتأنى للأدلة المؤيدة والمفندة . ولا بأس أن ينضم إلى ذلك أسلوب جيد ، وسياق جذاب . . ثم إن الخطابة موقوتة الفرص ، منتهية بانتهاء مجالسها وانفضاض مجامعها . أما الكتابة فهى أخلد على الزمن وأعصى على الفناء . والواقع أن الخطب النفيسة ، تتحول إلى أدب مكتوب . ص _269(1/261)
فإن كانت حافلة بعلم نافع أو وعظ بليغ ، كان بقاؤها فى الصحائف امتدادا فى إمكان النفع بها ، وإن كان صاحبها قد مات ، وضاع الأثر المقترن بسماعها منه وهى تنبض بالحياة من فمه ، وتخرج مفعمة بخصائص نفسه . . ؟ والكتب المؤلفة فى خدمة الرسالات المختلفة كثيرة ، ومداها فى نشر الدعوات بعيد . وحسبنا أن الإسلام يعتمد فى خلوده ، ونضارة رسالته ، وتجدد دعوته على كتاب فذ هو معجزة الدهر ، وصوت السماء الصدوق المبين . (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد). ومنذ بدأ الإسلام ، والمؤلفون دائبون على مد رواقه بالقلم . حتى لقد روى فى الأثر ـ تمجيدا لهذا الجهد ـ " يوزن مداد العلماء بدم الشهداء يوم القيامة " . والكتابة العلمية تزحم تراثنا الثقافى ، وتدفع به إلى الطليعة فى المواريث الأدبية لأهل الأرض . بل نستطيع الجزم بأن دينا من الأديان ، أو مبدأ من المبادىء لم يصنع الحركة العقلية الجبارة التى صنعها الإسلام فى العالم . والتى أنشأ بها حضارة ما زالت غنية كل الغنى بأسباب القوة والازدهار . والمنقبون الآن فى مخلفات الفكر الإسلامى ، كأنما ينقبون فى أرض مليئة بآبار البترول أو مناجم الذهب والحديد . كلما بحثوا عثروا على كنوز مدفونة ، وخير خبىء ، وعظمة غطاها التراب ! ولا عجب ، فإن الفجر الذى طلع به القرآن على الوجود ، أنعش العقل الإنسانى إنعاشا لا نظير له ، وأطلقه ينشط ويجوب ويكدح . وإذا كان هنالك مأخذ على هذا النشاط ، فهو أنه بلغ أحيانا حد الإسراف الذى يجهد ، ولا يغنى . . وطبيعى أننا فى تلك الأوراق المحدودة ، لا نؤرخ ، ولا نتابع الكتابة العلمية لنشر الدعوة الإسلامية و إيضاح أصولها وفروعها . فذاك مبحث تفرد له مجلدات . ص _270(1/262)
وإنما نريد هنا إثبات ملاحظتين صغيرتين تتعلقان بموضوع كتابنا . أولاهما أن الكتابة الأدبية فى خدمة الإسلام ليس لها اتساع الكتابة الفنية وانتظامها . وأعنى بالكتابة الأدبية ما يذكى العاطفة الإنسانية بعد ربطها بالإسلام ، وأخذها بتعاليمه وعباداته . وقد تكون للصوفية كتابات مشحونة بما يزكى المشاعر ، ويرقق الأفئدة ، ويحول تكاليف الإيمان إلى أعمال مستحبة . لكن شطحات الصوفية وأخطاءهم الكثيرة ، تشوب هذا اللون من الأدب ، وتجعل الاستفادة منه عسرة أو خطرة . وفى عصرنا هذا ارتقت الكتابة الأدبية التى أنوه بها فى آثار رجلين جليلين هما الشاعر الهندى "محمد إقبال" والأديب العربى "مصطفى صادق الرافعى" فى كتابه "وحى القلم " . والذى أريده ، لون من الأدب الدينى يرسم معالم الإسلام كما يرسم الشاعر ـ المفتون بالطبيعة ـ الحدائق الناضرة ، والسماء الضاحية ، والنجوم الزهر ، والليل الساجى . . نحن فقراء فى هذا الضرب من الكتابة الراقية ، مع شدة الحاجة إليها فى تربية العواطف وصقلها باسم الله . . والملاحظة الأخرى أن الكتابة العلمية ـ التى استبحرت قديما ، ثم جمدت أيام الانحلال والتخلف وهجوم الاستعمار ـ لا تزال دون تقدم الوعى الإنسانى فى هذا العصر ، ودون اتساع دائرة التعلم والتعليم ، وانكماش الأمية الفكرية فى كل قطر. إن المحدثين ما زالوا عالة على القدامى . ولولا صلاحية القرآن لشتى الأعصار لكان تخلف المسلمين العلمى سببا فى زوالهم . والمطلوب أن ينتفض الجيل المعاصر انتفاضة الحياة ، ويشرع فى خدمة الإسلام الخدمة العلمية المناسبة لهذا العصر . و إنى لأذكر ـ محزونا مكروبا ـ أن العلماء المجددين لأمر الإسلام يكافحون فى وجه عنت هائل ، ويبذلون جهود الجبابرة ثم يطويهم الجهل والغمط والنكران ، فما يكاد ينتفع بآثارهم إلا الأقل الأقل. ص _271(1/263)
لقد مات "محمد فريد وجدى" بعد حياة مليئة بالمجد العلمى وهاهو ذا قد مرت بضع سنين على موته ، فما ذكره أحد بكلمة رثاء ، ولا طبع له كتاب نقد . ويوشك أن يطويه ومؤلفاته النسيان ، فما هذا ؟ والحال كذلك بالنسبة إلى الشيخ "محمد رشيد رضا" العالم الأديب الجليل الشأن . وأعرف غيرهم من أصحاب الأسماء التى لم تحظ بالشهرة ، و إن أسدت للإسلام أعظم المنافع . فالشيخ "أحمد عبد الرحمن البنا" رتب مسند "ابن حنبل" وفق الأحكام الفقهية فى خمسة وعشرين مجلدا ، ومع ذلك فقد ترك الدنيا وكأنه رجل أمى لم يخط حرفا ، فضلا عن أن ينشئ هذا العمل الضخم . إن قليلا جدا هم الذين أحسوا فقده . ولسنا نأسى على الموتى ، فقد أفضوا إلى الله الذى يضاعف الحسنات ، وإنما نأسى على الأحياء ، الذين لا يحسنون الانتفاع بثمرات المجددين الذين عاشوا مع الزمن يدفعون عن الإسلام ، ويحرسون أركانه ، ويجلون بريقه . إن الكتابة العلمية الواجبة فى هذا العصر يجب أن تتسع وتطرد . وهناك أمور ذات بال نحب أن نلفت النظر إليها حتى يؤدى القلم حق الإسلام عليه فى ذكاء وحصافة ومقدرة ، وفق مقتضيات الأزمان . ولنتناول بعض العناوين والشروح لهذه البحوث المطلوبة مضافا إليها ما نراه . * * * ص _273
الفصل الخامس موضوعات الكتابة المعاصرة ص _274(1/264)
موضوعات الكتابة المعاصرة 1ـ الدين ضرورة اجتماعية : " يذهب بعض المثقفين الذين لم يتعمقوا فى دراسة الأديان ، ولم يتشربوا تعاليمها السامية ، إلى أن الأديان لا تنهض إلا بين الشعوب البدائية ، وأن المدنيات الحديثة ـ بما تحمله من قوانين تشريعية ، ومبادىء أخلاقية ، ومذاهب فلسفية ، واتجاهات علمية ـ تغنى عن اعتناق الأديان . وهو خطأ شنيع ، لأن الدين فطرة أصلية فى النفوس البشرية ، لا يغنى عنها قانون ، ولا فلسفة ولا تثقيف . ومن الخير تأليف كتاب يعالج هذا الموضوع ، على أن يستمد نماذجه من واقع حياة الأمم والشعوب " . أ. هـ . أقول : ونحن ـ فى هذا الكتاب ـ قد دعمنا هذه الحقيقة بما لدينا من أدلة ، ولكننا يجب أن نوضح : ما هو الدين الذى يوصف بأنه ضرورة اجتماعية ؟ إن الدين الصحيح وحى نازل من السماء ، وليس إفكا نابتا من الأرض . ومن النقائض المدهشة أن تسمى "البوذية" و "الكونفوشيوسية" و "الزرادشتية" أديانا ، وأن يوصف الرجال الذين اختلقوها بأنهم أنبياء ، مع أنهم لا يعرفون الله الواحد ولا يدعون إليه ، بل ينكرونه ويجحدون رسالاته . فكيف توضع هذه الأفكار الأرضية فى مصاف الشرائع السماوية ؟! إنه ليس هناك وصف مشترك بين هذه وتلك ، ولذلك يجب اطراحها ابتداء من هذا المجال . ثم إن الاعتقاد المنتسب إلى السماء يجب ـ ليستبقى حرمته ـ أن يحترم نسبته وأن يصون سيرته ، وأن يقيم هيمنته فى الداخل ، وعلاقته فى الخارج على دعائم من تقوى الله ، ومحاولة إرضائه بالأسلوب الذى يعرفه ويؤثره لأتباعه . ومن ثم ، فالتدين المنحرف ، القائم على استئصال الشعوب ، واجتياح حقوقها آفة اجتماعية ، لا ضرورة اجتماعية . بل إنه ـ على الأصح ـ مشكلة عالمية ينشد لها العلاج وتلتمس الحلول . ص _275(1/265)
إن الدين حقا ضرورة اجتماعية . وتغيير الواقع الإنسانى بجمع الناس على دين واحد مستحيل . . فليبق إذن حق الحياة محفوظا لضروب الإيمان المنتمية إلى السماء . ولتعط جميعا ضمان الدعوة إلى الله دون حرج أو ضغط ، ودون ختل أو مكر . والإسلام يرحب بهذه الخطة . ومن حقه ـ وقد أقر بالحياة لغيره ـ أن يظفر بإقرار الحياة له ولأمته . 2ـ الإسلام والديانات السابقة : " ينبغى إعداد هذا الكتاب لإثبات أن الإسلام لا يعادى الديانات السماوية السابقة ولا يخالفها . ولكنه يتمم ما يحتاج إلى التفصيل ، ويصحح ما وقع فيها من تحريف . ويجب إثبات أن الإسلام لم يتعرض قط لتصحيف ولا لتحريف فلا يزال كتاب الله محفوظا مصونا من الملفقين والمبتدعين . (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) . أما السنة الشريفة فقد درسها أعلام رجال الحديث منذ أقدم العصور ، ووضعوا لها الضوابط والقواعد والموازين التى تميز الأصيل عن الدخيل " أ. هـ . أقول : يحسب كثير من الناس أنه كما تنقسم الكلمة مثلا إلى اسم وفعل وحرف تنقسم الأديان إلى يهودية ونصرانية وإسلام ، وهذا خطأ فالدين عند الله واحد . والأنبياء أجمعون ـ وبينهم "موسى" و "عيسى" و "محمد" عليهم الصلاة والسلام ـ مبلغون عن الله أصول هذا الدين الواحد لا تفاوت هنالك ولا اختصام . وإذا كان هناك فرق يذكر فهو أن الثوب قد يطول أو يقصر حسب نمو الجسم ، وأن "موسى" كسا العالم بلباس التقوى حينا . . فلما جاء "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجد الثوب قد تغير أو تمزق أو انكمش فرده كما كان وضيئا ، وزاد فيه ما استدعاه نمو الإنسانية من وفرة واتساق . إن البدلة التى تصلح للغلام لا تصلح للرجل المكتمل القوام . ص _276(1/266)
فكيف الحال إذا كان النسيج القديم قد أمسى كطيلسان ابن حرب ؟ طال ترداده إلى الرفو حتى بقى الرفو وانقضى الطيلسان !! إن "محمدا" ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء مجددا لما سبق من وحى ، ومؤكدا لما نزل قبل من تعاليم . وذاك شأن النبيين القدامى يصدقون من قبلهم ويمهدون لمن بعدهم ، حتى ختمت الرسالات كلها بالإسلام . فكان هذا الإسلام جماعا لما تورع فيها من حق وعدل ، وفضل ونبل . وشاءت عناية السماء أن تقيض لهذا الدين حفظة ينتصبون دون تراثه قرنا بعد قرن ، فنجا من الغوائل التى محت غيره ، ووصل إلينا مصونا كما عهد به إلى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولذلك يمكننا أن نصفه بأنه المصدر الموثق لرسالة "موسى" و "عيسى" عليهما الصلاة والسلام . وأنه كلمة الله التى لا يرقى إليها ريب ، ولا تلتبس بها أظنة . ومع ما طرأ على الديانات الأولى من تغيير ، فإن لأتباعها ذماما لا تهدر ، وعهودا لا يخاس بها . 3ـ مصادر التشريع الإسلامى : لم تكن أصول التشريع الإسلامى فى عصر ما خاضعة لشهوة حاكم أو نزوة قائد، و منبثقة من تقلبات الظروف والأحوال . وإنما هى تستند إلى أصول ثابتة : من الكتاب والسنة . ومن الخير لعامة المسلمين أن يعرفوا شيئا عن هذه الأصول التى عالجها أئمة المذاهب الإسلامية ، واستنبطوا منها مقومات التشريع الإسلامى . ذلك . . ومع أن "الإجماع" من مصادر التشريع عندنا ، فإن إجماع الناس لا يؤبه له إلا إذا كان له إسناد من نص وارد . إن المشرع هو الله وحده . وليس لبشر أن يتعبد الناس بشرع من عنده . ولا لمجمع من المجامع حق إنشاء عقيدة ، أو إحداث عبادة . . . أما المصالح العامة فإن كفالتها ترجع إلى السياسة الشرعية ، واجتهاد أولى الأمر . والتقنين فى هذا المجال قد يختلف باختلاف البيئات ، واختلاف الأفهام . والإسلام يتسع لشتى وجهات النظر ، ولا تعتبر وجهة منها دينا ، إذ الدين أعم منها ومن سواها . ص _277(1/267)
4ـ المذاهب الفقهية الإسلامية : " ترجع طوائف عديدة من المسلمين فى مباشرة العبادات ومزاولة المعاملات إلى المذاهب الأربعة : مذهب "أبى حنيفة" و "مالك" و"الشافعى" و "ابن حنبل" كما ترجع طوائف أخرى إلى المذهب "الزيدى" أو مذهب "الاثنى عشرية" ، وهناك مذاهب فقهية إسلامية حوت من الآراء التشريعية الخالدة العميقة ما يعد مفخرة من مفاخر الإسلام ، مثل المذهب "الظاهرى" المنسوب إلى "داود الظاهرى" ثم إلى "ابن حزم" ، ومثل مذهب "الأوزاعى" و "الليث ابن سعد" ومثل المذهب "الأباضى" الذى لا يزال منتشرا فى عمان . ومن الخير أن يعرف المسلمون نبذة عن هذه المذاهب الإسلامية العظيمة ، التى تمثل إنتاج العبقريات الإسلامية فى ميدان التقنين والتشريع والاجتهاد . " أ. هـ . ونحن نوصى بدراسة هذه المذاهب ورجالها دراسة علمية مجردة . ونستنكر الحملة التى يشنها المستمسكون بفقه السنة على تلك المذاهب وأئمتها . . ومع أنى أوثر تلقى الأحكام من مصادر الشريعة الأولى ، وأحب الاتصال المباشر بالنصوص ، وأكره مطالعة المتون التى ألفها فى العصور المتأخرة الفقهاء المذهبيون . إلا أن ذلك لا يغمط الأئمة السابقين قدرهم ولا جهدهم . ولا يبيح لنا اعتبار فقههم مقابلا لفقه السنة ، كأن للرسول مذهبا ، ولهؤلاء الرجال منزع يبتعد عنه . إن هؤلاء الأئمة أقاموا علمهم ـ أولا وآخرا ـ على دعائم من السنن والنصوص ، بيد أنهم أعطوا أنفسهم حق الترجيح والموازنة ، ورد ما لا يتفق مع القواعد العلمية التى اطمأنوا إليها فى الفهم والقبول . ومن حق أى باحث أن يستريح إلى اجتهاد ما ، مادام هذا الاجتهاد مضبوطا بقيود محكمة ، من أصالة النظر ورحابة الإدراك . والمرء منا عندما يخوض وحده محيط الآثار الواسع ، يجد نفسه مضطرا إلى اعتماد نص ، وتأويل آخر ، أو توهين سنده ، على حين يلجأ غيره إلى عكس مسلكه! وعندى أنه من الخير أولا دراسة النصوص كلها . ثم دراسة جميع الأقوال الفقهية(1/268)
التى أثرت عن الأربعة المشهورين وعن غيرهم من فقهاء الأمصار وعن "الخوارج" و"الزيدية" و"الإمامية" و"الظاهرية" .. إلخ ، وعلى ص _278
أن تكون هذه الدراسة المقارنة حرة مطلقة ، وعلى أن يباح ـ بعد ـ لأى مسلم أن يتخير منها ما يحب ، أو أن يلتزم تقليد مجتهد بعينه . إن الاجتهاد الإسلامى لملاحقة الأحداث ومتابعة الزمن السائر ، أصابه ضر شديد عندما احتبس داخل السجن المذهبى الضيق ، وعندما أزرى به التعصب لآراء مجتهد واحد . ونريد الآن أن ننتفع بأمجادنا العلمية كلها ، وأن يعتبر المسلم العادى أئمته المقتدى بهم فى الفقه هم سلفه الصالح جميعا ، فلا ينتمى لواحد، ويتجاهل الآخرين . 5ـ المجتهدون فى الشريعة الإسلامية : " يزعم بعض المقلدين أن باب الاجتهاد أصبح مغلقا الآن . ولكن تطور الحياة ، وتجدد الأحداث ، واختلاف الأحوال يطالعنا بقضايا حديثة ، وأوضاع اجتماعية لم يعرفها القدماء من المشرعين الإسلاميين . وما دامت مصادر التشريع الإسلامى باقية ، فلكل عالم متمكن من الدين ، متعمق فى الدراسات العربية والإسلامية أن يقترح ما يناسب العصر من آراء دينية ، على أن تكون مستمدة من المصادر الإسلامية الكبرى ، معززة بالبرهان والدليل. وقد ظهرت فى الإسلام عقليات جبارة قدمت إلى التشريع الإسلامى أجل الخدمات . فمن الخير أن نجلو حياة هؤلاء العباقرة وآثارهم فى كتاب موجز يظهر المسلمين على ألوان البطولة الفكرية عند علماء " التشريع الإسلامى . " أ. هـ . إن العلماء الآن ربما لا يحتاجون إلى اجتهاد فى ميدان العبادات وأحكامها . ذلك أن السلف لم يدعوا مجالا لأحد فى هذا المضمار . والثروة التى تركوها تعجز العادين . وقد نملك ترجيح رأى على رأى ، وتغليب حكم على حكم فحسب ، أما التجديد ، فلا . ولو كان له مكانا فأنا أرى إغلاق الباب دونه . إذ لا داعى له . وهذا على العكس مما نوصى به فى ميدان المعاملات فإن ركب الحياة يزحف إلى الأمام أبدا . وفى(1/269)
أثناء مسيره تجد شئون لابد من بيان حكم الله فيها وفق ما ترك لنا رسوله من نصوص وقواعد . وقد ظهرت الآن فى عالم السياسة الدولية والمحلية ، وفى عالم الاقتصاد التجارى ص _279
والصناعى والزراعى ، وفى عالم التنظيم الإدارى ، وفى أنحاء أخرى كثيرة ، ظهرت أمور لابد أن يقول الإسلام فيها كلمته وهو أقدر دين على النطق بهذه الكلمة. والذى نرجوه من الأمة أولا : ألا تضيق بوضع ينتهى إليه العلماء وهو مخالف لما ألفت . . فإن الإسلام . أولا حركة للتحرر العقلى من الوراثات السيئة . . ثم من المجتهدين . ثانيا : ألا يغتروا بما تقره الحضارة الحديثة والنظم المختلفة من مبادىء ومناهج ، وألا يكون هدفهم تقريب الإسلام من هذه المحدثات ، فإن الإسلام دين له منابعه وله غاياته . وعمل المجتهدين هو رد الأمور الناشئة إليه وحده ، لا جره إلى الفلسفات الإنسانية المختلفة . . ونحن قد نشرنا كتابات فى بعض القضايا الخاصة بالمال والحكم ، حاولنا فيها تقديم إصلاحات إسلامية كثيرة على ما لاحظناه من عوج فى أحوال أمتنا . لكن الأمر أعظم من أن يكون جهد فرد يخطىء ويصيب . ولابد من تضافر جهود العلماء لمواجهة المشكلات المعاصرة بأحكام دقيقة . 6ـ الإسلام والمدنية الحديثة : " وذهب بعض خصوم الإسلام إلى أن الإسلام هو سبب تأخر المسلمين فى العصر الحديث ، لأنه غير صالح للتجاوب مع المدنية والعمران . وهو زعم خاطىء ، لأن الإسلام يمجد العقل ، ويكبر العلماء ، ويدعو إلى التأمل فى ملكوت السموات والأرض . ثم هو صاحب اليد الطولى على الإنسانية جمعاء ، وحامل لواء المدنية الحديثة . وهو ـ بمرونته وسعته وسماحته ـ صالح لكل زمان ومكان . فمن الخير تأليف كتاب موجز لإثبات هذه الحقائق الخالدة . " أ، هـ . أقول : إنه لمما يثير الضحك أن يتهم الإسلام بخصومة للمدنية ، أو تعويق للحضارة . لقد قطع الشرق الإسلامى من القرون أربعة عشر قرنا وقطع الغرب المسيحى من الزمن عشرين(1/270)
قرنا . ولو أن التأخر كان حليف الشرق طوال هذه القرون والتقدم حليف الغرب لقلنا ـ على عجل ـ : إن الإسلام مبعث هذا التخلف الشائن . ص _280
فلنستنبىء التاريخ عن الواقع ليقول كلمته . لقد ظل الشرق الإسلامى أحد عشر قرنا وهو فى طليعة العالم ، إن لم تكن أممه أرقى أمم الأرض طرا . وهذه القرون الأحد عشر هى التى كان فيها قريبا من دينه ، مرتبطا بتعاليمه ، فلما انفك عنها هوى . أما الغرب فقد ظل سبعة عشر قرنا ، وهو يخبط فى عمياء طامسة ، لا يلوح فيها بصيص نور . فلما أراد أن ينهض دارت فى رحاه معارك طاحنة بين العلم والدين ، انتهت بانحسار الكنائس ورجالها عن الحياة العلمية والعملية . ومن ثم شرعت "أوروبا" تتحرك ، وتنتعش وتقتحم الآفاق التى كانت محرمة عليها من قبل باسم الله !! والتاريخ النزيه يذكر أن الدعائم التى قامت عليها نهضة الغرب الحديث هى تراثنا العقلى والأدبى . هى كل ما خلف آباؤنا من ثمرات طيبة فى حقول البحث والنظر . وما يغض من هذه الحقيقة ، ويخفيها تحت ركام من الجحود ، إلا أحوالنا العصيبة أمام انحطاطنا ، وتعصب الغرب علينا ، وجنوحه إلى الأثرة والكذب . 7ـ أسباب انتكاس المسلمين ووسائل نهوضهم : " ساد المسلمون العالم فترة من الزمان ، ونشروا فيه أنوار المدنية والعمران ، ثم جدت عوامل داخلية ، وخارجية دفعتهم من القمة إلى الحضيض . ولكنهم تنبهوا ـ أخيرا ـ إلى حالتهم . وبدأت يقظة جديدة ، وانتفاضة قوية حديثة ، نرجو أن تعود بهم إلى السمو والارتقاء. ومما يعينهم على هذا إصدار بحث موجز يتناول أسباب التدهور ووسائل النهوض" أ. هـ . أقول : إن الانهيار الشنيع الذى أصاب الأمة الإسلامية من بضعة قرون ، يعود إلى التفاوت الواسع بين واقع الحياة فيها ، وبين القيم والنظم التى أتى بها دينها . . وقد بدأ هذا التفاوت أول الأمر يسيرا كما ينفرج ضلعا الزاوية عند رأسها . فإن المسافة بين ما يجب وبين ما وقع كانت ضئيلة . ص _281(1/271)
على أنه مع بقاء شقة الخلافة ، وامتداد الزمن تتسع المسافة ويطول البعد . . وتكاد تنقطع بين ما يمليه الدين من واجب ، وما يخطه من مناهج ، وبين ما تكون عليه من تفريط ، واضطراب ، وشرود . وقد ألمعنا فى بعض كتبنا إلى مظاهر متفرقة لهذا الاختلاف الغريب . ولكن الإنصاف للإسلام يقتضى إفراد هذا الموضوع ببحوث متصلة ، يدرس فيها التاريخ الإسلامى من دولة الخلافة إلى عصرنا هذا ، وتحاكم أحداث هذا التاريخ محاكمة دقيقة إلى القواعد الإسلامية والمثل العليا لهذا الدين كما تقررت فى كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... وسنجد عند المقارنة أن سياسة المال والحكم اهتزت اهتزازا عنيفا جدا ، ولم تنضبط وفق أحكام الشريعة الغراء . كما سنجد أن العلم الإسلامى نفسه بدأ بعد فترة من هذا الاضطراب يتأثر هو الآخر. ولولا ما تأذن الله به من حفظ القرآن الكريم ، وحماية السنة المطهرة ، لاندكت معالم الإسلام وسط الزلازل التى هاجت فى كيانه من الداخل والخارج . على أنه من صنع الله أيضا أن الأمة تتجدد ، وتنتفض ، وأنها استعصت على أسباب الزوال . وهى الآن على أعتاب نهضة ترد إليها شبابها إن شاء الله . 8ـ الإسلام بين المادية والروحية : " تجنح بعض المذاهب والأديان إلى المادية الواقعية ، كما يجنح بعضها الآخر إلى الروحانية المثالية . ولكن الإسلام يجمع بين الأجسام والأرواح ، والدنيا والآخرة ، والماديات والمعنويات ، والعقيدة والدولة . فهو بهذا أكمل دين يصلح للإنسانية جمعاء ، ويوائم بين جميع الظروف والبيئات المختلفة . وينبغى أن يعرف المسلمون هذا ليتخذوا من دينهم وسائل للرقى ، والمدنية ، والعمران . ومن الخير أن يؤلف لهم كتاب فى هذا الموضوع " . أ. هـ. ص _282(1/272)
9ـ المسلمون بين التيارات السياسية الحديثة : " تتنازع العالم الآن قوتان رهيبتان ، وتحاول كل منهما أن تجذب بقية الدول إلى صفها ، أو تضمها إلى فلكها . فإذا قامت الحرب أصبحت هذه الدول أولى فرائسها . فمن الخير للمسلمين جميعا أن يبقوا أمة واحدة معتصمة بحبل الله المتين . وينبغى للدول الإسلامية أن تعرف أسرار السياسة الدولية ، لتتجنب الوقوع بين شقى الرحى. وتأليف كتاب فى هذا الموضوع ، يلقى أضواء على الصراع الدولى الجبار ، وعلى الموقف الذى ينبغى أن تقفه الدول الإسلامية من هذا الصراع ." أ. هـ . 10ـ الإسلام مصدر الحريات : " بعض النظم السياسية تعطى الفرد من الحريات ما يطغى به على مصلحة المجموع ؛ وبعضها يعطى المجموع ما يطغى به على النشاط الفردى . ولكن الإسلام يعطى للفرد حقه ، والجماعة حقوقها ، وينسق بينهما خير تنسيق وهو ـ بهذا ـ يكفل جميع أنواع الحريات ، فى تنظيم دقيق ، يشمل حرية الملك ، و العقيدة ، والمسكن ، والتعبير . وتأليف كتاب فى هذا الموضوع يسد فراغا كبيرا فى المكتبة الإسلامية" أ.هـ. 11ـ أساليب الاستعمار : " الإسلام دين الحرية والعزة ، والكرامة ، وهو أقوى حافز لإعزاز معتنقيه ، ودفعهم إلى القيادة والتوجيه . وقد عرف الاستعمار قوة الإسلام ، فلجأ إلى وسائل عديدة مادية ومعنوية ، وعسكرية وعلمية لإضعاف العقيدة الدينية فى نفوس المسلمين . فيجب أن يعرف المسلمون أساليب الاستعمار ووسائله ، ليتجنبوا الوقوع بين مخالبه. وتأليف كتاب فى هذا الموضوع يسد هذا الفراغ الكبير" . ص _283(1/273)
12ـ براءة الإسلام من البدع والخرافات : " الإسلام دين الحقائق الخالدة المتفقة مع أحدث نظريات العلوم . ولكن كثيرين من خصومه دسوا فيه كثيرا من الأقاويل ، وابتدعوا فيه كثيرا من البدع ، التى تشوه تعاليمه ، وتطمس أضواءه . وأعانهم فى هذا بعض المنحرفين أو المضللين ، فروجوا لهذه البدع . والخرافات ، وأضافوا إليها كثيرا من الزيادات . فينبغى وضع كتاب لإظهار هذا البدع التى تضلل الناشئين ، وتعطى خصوم الإسلام حجة للطعن والتشهير" . 13ـ التيارات الدخيلة فى الإسلام : " بسط الإسلام نفوذه الروحى على معظم أجزاء العالم المعروف فى القرون الوسطى . وورث أبناءه حضارات المصريين ، والإغريق ، والرومان ، والفرس ، والهند . فتسللت بعض المذاهب الفلسفية إلى التعاليم الإسلامية ، وبخاصة الأفلاطونية الحديثة . كما وضعت طائفة من خبثاء اليهود كثيرا من الإسرائيليات ، وألصقتها بالإسلام ، وانخدع بها بعض المسلمين ، وبخاصة قلة من المفسرين . وقد تجرد جماعة من المنافقين لدس الأحاديث الموضوعه على سنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه . فينبغى وضع كتاب ينقى الإسلام من هذه التيارات الفكرية الدخيلة عليه" . 14ـ مشكلات إسلامية معاصرة : عرف المسلمون من أساليب المدنية الحديثة ، وأوضاعها ما لم يعرفه آباؤهم السابقون . وقد حدثت مشكلات عصرية حملتها إلينا هذه المدنية . ص _284(1/274)
فينبغى علاجها فى ضوء الإسلام ، بقياس الحديث منها على القديم مثل مشكلات : المصارف المالية ، الأسواق المالية "البورصة" ، التأمين ، الادخار ، "الكونتراتو" . إلخ . ومن الخير أن ينبرى جماعة من العلماء لدراسة هذه الموضوعات وإبراز حكم الإسلام فيها . 15ـ مجاراة العربية لعوامل التطور : يتهم بعض الحاقدين اللغة العربية بأنها لغة جامدة ، لا تجارى تطور المدنيات الحديثة ، ولا تسايرها ، وهى عاجزة عن استيعاب العلوم الحديثة ، وما أبرزته من كشوف جبارة عديدة ، وهو زعم خاطىء ! ، لأن اللغة العربية عاشت زهاء خمسة عشر قرنا ، استوعبت فيها مدنيات مختلفة ، وورثت حضارات متعددة مثل حضارة المصريين ، والإغريق ، والرومان ، والفرس والهند ، وهضمتها جميعا . وأضافت إليها حضارة خالدة ، لا تزال آثارها ماثلة للعيان ، ثم هى قد استوعبت معارف هذه الحضارة الحديثة ، واتسعت لما وفدت به علينا من مصطلحات . وها هى ذى علوم الطب ، والطبيعة ، والكيمياء تدرس فى جامعة دمشق بالعربية الفصحى . واللغة العربية ـ بما فيها من وسائل الاشتقاق ، والتعريب ، والمرونة ـ كفيلة بأن تجارى اللغات الحديثة فى التطور ، والارتقاء . وينبغى وضع كتاب يجلو هذه الحقائق الخالدة ، ويعرف المسلمين أن الحملة على العربية هى فى حقيقتها حملة على الإسلام ، وذريعة للقضاء عليه . 16ـ حكمة التشريع الإسلامى : " ينبغى إبراز أهم القيم الإسلامية التى تسمو بالفرد ، كما تسمو بالجماعة ، كما تسمو بالإنسانية جمعاء . ومن الخير تأليف كتاب يظهر الحكمة فى التشريعات الإسلامية ، للإفراد والجماعات ، من عبادات ، ومعاملات ، مع إظهار ما فى الإسلام من يسر وسماحة ، واستجابة لتطور المدنيات والعمران ." . ص _285(1/275)
17ـ بطولات إسلامية : نهض بالإسلام عند ظهوره رجالات من العباقرة الموهوبين الذين ضربوا أحسن الأمثال ، فى التضحيات الجسيمة ، و إنكار ذواتهم فى سبيل مبادئهم . وإبراز هذه البطولات كفيل بإثارة العزمات الخامدة ، وإيقاظ الهمم الغافية ، لحفزها إلى استئناف النهضة الإسلامية ، كى تتبوأ مكانها الجدير بها فى الحياة . ومثل هذا الكتاب يؤدى للمسلمين أجل الخدمات وبخاصة للجيل الجديد . 18ـ الأسرة الإسلامية : وضع الإسلام للأسرة نظاما دقيقا محكما ، وأقام العلاقات فيها على أساس متين. وقد حاول بعض الملحدين أن يشوه محاسنه ، ويطمس معالمه . ثم ظهرت الحقائق العلمية ، والدراسات الاجتماعية ، مؤيدة ما ذهب إليه الإسلام. وما أشد حاجة المكتبة العربية إلى كتاب يشرح هذا النظام ، ويبرز ما فيه من حكمة عالية وأهداف سامية . 19ـ الإسلام دين السلام : ذهب بعض المبشرين إلى أن الإسلام قام على العنف ، وانتشر بالسيف ، واعتمد على الإكراه ، وهو زعم خاطىء كل الخطأ . فقد قام الإسلام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ونادى بالسلام ، واشتق اسمه من السلام ، وجعل تحية أهله السلام . وطالما نهى عن البغى والعدوان ، وتوعد مرتكبهما بأشد أنواع العقاب . بل إنه وضع نظاما محكما للسلام بين الدول المختلفة ، لا يزال العقل البشرى يحلم بالوصول إليه حتى الآن . ص _286(1/276)
ومن الخير تأليف كتاب يبرز هذه القيم المثالية ، ويجلوها على العالمين . 20ـ البلاد الإسلامية : تكاد كثير من الدول والأمم الإسلامية تكون مجهولة لبعض المسلمين ، أو فى حكم المجهولة . مع أن الدين الإسلامى ينص على جعل المسلمين إخوة متحدين ، متعاونين فى الماديات والروحانيات . وهذا يوجب على كل مسلم أن يعرف نبذة عن كل دولة ، أو طائفة إسلامية ، تتناول موقعها الجغرافى ، وأحوالها الاقتصادية ، ونظمها السياسية ، وموقفها بين التيارات العالمية . على أن يشفع هذا كله بخرائط ورسوم موضحة ، ويتبع بجداول إحصائية : لعدد السكان ، والمساحة ، والنهضة التعليمية ، والنظم المالية ... إلخ . وبهذا يسهل جمع المسلمين وتعاونهم فى شتى الأقطار والأمصار . * * * ص _287
الفصل السادس مقاومة الهدامين ص _288(1/277)
مقاومة الهدامين على الداعية المسلم أن يتذوق الحقيقة المريرة التى يلقاها دينه ، وتلقاها أمته منذ ابتدأ عهد التفكك والانحلال ، إلى أن تحركنا ببطء نحاول استنقاذ حياتنا وتراثنا ، والنجاء بإيماننا وأخلاقنا . أجل ، عليه أن يواجه الغارة الشعواء التى شنها خصوم الإسلام عليه ، وأن يستبين الأغراض الهائلة الكامنة فى لفح هذه الغارة وإلحاحها واتساع هجماتها . فإذا استيقن أنها تنشد استئصال أمته ، واجتثاث عقيدتها وشريعتها ، وتحويلها إلى قصة تروى ، وخبر كان ، هاجت فى دمه غرائز الحياة ، وأهاجها فى نفوس الهاجعين ، والغافلين فهبوا مستقتلين عن كيانهم . فإما ظفروا بالعيش الكريم لأنفسهم وإسلامهم ، وإلا ... فلأن يُقتلوا مكافحين أشرف من أن يلقوا حتفهم ، وتطوى رايتهم ، وهم مولون مخذولون . هناك ثلاثة أنواع من الهدم تعمل جنبا إلى جنب منذ وطئت أقدام المستعمرين بلادنا المترامية الأطراف . الهدم الروحى ، والهدم التاريخى ، والهدم العسكرى . وغايتها أن تتلاقى على أنقاضنا . وسنشرح ـ بإيجاز ـ بعض مظاهر هذا الهدم ليكون الداعية خبيرا بمقاومته ، موفقا فى لفت الأنظار إلى جراثيمه . فإن إيقاظ المشاعر له أول الأسباب للانتصار عليه . * * * ص _289(1/278)
الهدم الروحى يجتهد الاستعمار فى صرف المسلمين عن دينهم بكل ما يتاح له من وسائل ، وفى جعل حركات التحرر الناشطة فى بلادهم مبتوتة العلاقة بالدين ، حتى تولد ميتة أو تحيا عقيمة لا ثمر لها ولا زهر . وما من نهضة فى الأولين والآخرين ، إلا ولها دعامة معنوية تقوم عليها وسناد روحى تتحرك به . ولما كان عمل الدين فى هذه الحالة ملء القلوب بالضمائر الحية ، وبناء الأخلاق على الفضيلة ، وصبغ الحياة بتقاليد جامعة ، ومعالم واضحة ، ورص الصفوف على إحساس مشترك ودفعها إلى مصير واحد ، فإن الاستعمار استهدف إقصاء الدين عن آفاق البلاد كلها ، وتكوين أجيال غريبة عنه ، إن لم تكن كارهة له. بل إن ذكر الإسلام أصبح محظورا فى المناسبات الجادة والشئون الهامة . وقد يحوم البعض حوله ، ولكنه يوجل من التصريح به . كأن الإسلام مجرم ارتكب ذنبا ، ثم فرَّ من القضاء الذى حكم بعقوبته ، فهو لا يستطيع الظهور فى المجتمعات .! وربما تلوح له فرصة الظهور متنكرا تحت اسم مستعار ، فيتحرك قليلا هنا وهناك ، حتى إذا أحس انكشاف أمره استخفى من الأنظار !! يا عجبا ، لماذا يلقى الإسلام هذا الهوان كله ؟!.. والجواب عند الاستعمار الذى يجرّ خلفه ضغائن القرون الأولى ، ويضع نصب عينه ألا تقوم للإسلام قائمة فى بلاده ، فهو حريص على خنقه فى ميدان التربية ، والمعاملات ، والتشريع ، وسائر ألوان الحياة . . إنه يطمئن إلى مجتمع واحد ، المجتمع الذى مات ضميره ، والذى تفسخت أخلاقه . ص _290(1/279)
فى هذا المجتمع الذى غاضت منه معانى الفضل ، واستغلظت فيه غرائز الشره ، وزحفت فيه ثعابين الأثرة ، يستطيع الاستعمار أن يطمئن إلى يومه وغده.. فإذا جاء الإسلام ليمسح هذه الأقذار طلب منه ـ على عجل ـ أن يعود إلى وكره ليخفى عن الأعين . إنه اسم لا ينبغى أن يذكر ، وحقيقة لا يجوز أن تعيش . . هكذا حكم الاستعمار . حتى قيض الله فكرة "العروبة" عنوانا نستطيع تحته أن ندفع غوائل الموت . وقد هششنا للفكرة ورجونا من ورائها الخير . وللعروبة المجردة مُثل تعكر على الاستعمار مآربه . إن التعليم فى ظل الاحتلال الأجنبى ، خلق أناسا تحركهم الشهوات وحدها ، أناسا فرغت عواطف اليقين من أفئدتهم فهى هواء . فإذا جاءت إليهم العروبة ، فهل يعرفون أن العفة من خلائقها ؟ وأن تقديس العرض من شمائلها ، وأن المحافظة على الحريم من صفاتها الباطنة والظاهرة . إن أمثال العرب فى الجاهلية تشهد بما كان لهم من غيرة على نسائهم . فالمثل القائل : "كل ذات صدار خالة" يعنى أن العرب يجعلون فى حكم الخالة كل من تلبس ثياب المرأة ، فما ينظرون إليها إلا نظرة الاحترام والعفة . . ذلك أن الخالة بمنزلة الأم ، ويقول الشاعر : وأغض طرفى إن بدت لى جارتى حتى يوارى جارتى مثواها ويقول الآخر : ولا ألقى لذى الودعات سوطى أداعبه ، وريبته أريد ..!! يعنى أنه لا يلاعب طفلا مع أمه ، ابتغاء إثم بالأم نفسها . فهل هذه الشوارع الغاصة بمتتبعى العورات ، وبُغاة الدنية شوارع عربية ؟! وهل عربٌ أولئك الذين ترى الواحد منهم يتأبط ذراع فتاة متبرجة لعوب ، تسير فى وضع يقول لكل ناظر : هيت لك ؟؟ والعرب الأقدمون كانوا أصحاب كرم غريب ، وإيثار رائع ، ونهوض بالحق على عض الزمن وشدة الحاجة . ص _291(1/280)
وأسمع قول عروة بن الورد : وإنى امرؤ عافى إنائى شركة وأنت امرؤ عافى إنائك واحد أتهزأ منى أن سمنت وأن ترى بوجهى شحوب الحق والحق جاهد أفرق جسمى فى جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد أرأيت صورة الإنسان النبيل يؤثر غيره بالطعام ، ويستعيض برشحات من الماء البارد يصفر بها وجهه ، وهو يأبى تضييع من نزلوا به ، وحسبه أن فرق جسمه فى جسوم كثيرة . . أحتفظ بهذه الصورة ثم سل نفسك : أمدن عربية هذه التى تراها مزدحمة بأصحاب الفضول من المال النامى ، ومع ذلك فقلما تؤوى يتيما ، أو تغدو محروما؟؟ وما لنا نبحث عن الشمائل العربية المفقودة فى بيئات مسخها الاستعمار وترك عليها طابع الحيوانية والتقطع ؟ إنك ترى الواحد من أولئك يقول : إنه عربى ، ولغة العرب لا تستقيم على فمه!! ومن تعاجيب الليالى أن أسمع المذيع مثلا يقول : يا أخى المواطن " إحنا بنعمل إيه فى هذه الأيام " . وكان يستطيع أن يقول : ماذا نعمل فى هذه الأيام ..؟ ولكنه حريص على تخليد لغة الرعاع ، والتنكر للغة الفصحى . وهى اللغة التى ترسل بها الإذاعات من جميع محطات العالم لمستمعيها على اختلاف ألسنتهم ، إذ يستحيل أن يخاطب المذيع قومه ـ فى أية عاصمة ـ بلغة غير الفصحى . فهل من مظاهر الوفاء لعروبتنا أن نذيع نحن بلغة الرعاع ؟ الواقع أن الإسلام وحده هو الذى يخلد العروبة ، لغة وأدبا وخلقا ، وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقى على العروبة فى لغتها وأدبها وخُلقها . ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا فى إبراز هذا الاسم ، بقدر ما يستميت الاستعمار فى إخفائه ، وأن يذهبوا عنه الوحشة التى صنعها أعداؤه حوله ، حتى يصبح مألوفا فى الآذان محببا إلى القلوب . وإظهار هذا الاسم لا يكفى ، فما قيمة شكل لا جوهر له ؟! يجب على الدعاة أن يجمعوا الجماهير على تعاليمه ، وأن ينعشوا أنفسهم بروحه. ص _292(1/281)
الضمير الدينى الخاشى لله ، الرحيم بخلقه ، المحتفى بالواجبات ، النفور من الرذائل ، الشجاع فى نصرة الحق ، المستعد للقاء الله ، المتأسى بصاحب الرسالة ، هذا الضمير يجب أن ندعمه ، بل أن نوجده فى كل طائفة ، وأن نربط به إنجاز كل عمل ، ونجاح كل مشروع ، ومنع كل تفريط ، وصيانة كل حق . فالإسلام قبل كل شئ قلب كبير ، قلب موصول بالله يبادر لمرضاته ، ويتقيه حيث كان . وهذا القلب لا يتكون من تلقاء نفسه ، ويستحيل أن يتكون بداهة وسط تيارات الشكوك والتجهيل التى تسلط عليه عمدا ليضطرب ويزيغ . إنه يتكون بأغذية روحية منظمة تقدم له فى برامج التعليم ، وفى عظات المساجد وفى صبغ البيئة بمعان معينة تساعد على احترام الفضيلة وإشاعتها ، ونحن أحوج ما نكون لإنشاء هذه الضمائر فى الذرارى المحدثة التى عريت عنها ، والطبقات الكثيفة التى مردت على العبث والاستخفاف بجميع القيم . إننى أستغرب كيف نشترى آلة ما بأغلى الأسعار ، ثم نقف أمامها عاملا لا يتقى الله فهى تخرب بين يديه على عجل . أو يقل إنتاجها لو قدر لها البقاء سليمة ..! إننا لو بذلنا شيئا زهيدا لغرس التدين الحق فى قلب هذا العامل لربحنا الكثير . أفلا يبذل المسئولون هذا الشيء الزهيد ولو على اعتباره نفقات صيانة للآلة التى اشتريت ؟؟ إن من حق الله علينا ، ومن حق بلادنا علينا ، أن نربى الصغار والكبار على رعاية هذا الجانب الروحى الجليل . ويوم يتنادون باسم الإيمان لابتداء عمل ما ، فسوف يتم على خير الوجوه . إن الضمير الدينى علاقة راشدة بالسماء ونواة مباركة فى الأرض . وما أصدق قول الأستاذ "أحمد الزين" فى وصفه : هو صوت السماء فى عالم الأرض وروح من اللطيف الخبير وشعاع تذوب تحت سناه خدع العيش من رياء وزور هو سر يحار فى كنهه اللهب وتعيا به قوى التفكير مبلغ العلم أنه روح خير باطن الشخص ظاهر التأثير ص _293(1/282)
كل حى عليه منه رقيب حل من قلبه مكان الشعور حل حيث الأهواء تنزو إلى الإثم وتهفو إلى مهاوى الشرور جامحات أعيت على الناس كبحا رغم إنذارها بسوء المصير ثم صاح الضمير فيها نذيرا فأصاخت إلى صياح النذير هو روح من الملائك يسمو بسليل الثرى لعالم نور قد تولت بالأنبياء عصور وهو باق على توالى العصور حافظا فى الزمان ما خلفوه قائما فى الصدور بالتذكير حاملا من شرائع الخير كتبا قُدست من صحائف وسطور ليس يعفو عن الهنات وإن هانت مُلحٌّ فى اللوم والتعزير ونحن نُنشد هذا الشعر هنا تكريما للأدب العالى ، وإلا فلا مجال لقول بعد أن نتدبر قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ".. ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب " . والاستعمار يدرك أتم الإدراك ، أين يقع زمام الإنسان ؟ ومن يوليه وجهته ؟ ولذلك ركز هدمه الروحى على القلب المؤمن ، العارف بربه ، الراكن إلى غيبه ، كيما يوجد قوما إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، و إذا بلوتهم فى عهد أو أمانة أو عمل ، أدركت أنك تتعامل مع قطيع دواب ، لا مع نفر من الناس . والحياة الروحية الصالحة لا مدد لها فى أمتنا إلا من الإسلام ، دين الكثرة التى تذاد عنه بالختل ، والمكر ، والتى تحرم العيش فى ظلاله خشية انفجار غضب الاستعمار ، وإتيانه على الأخضر واليابس . ولك أن تتساءل "أكذلك الحال فى أوروبا وأمريكا ؟ يقصى الدين جانبا ويسمح للحياة البعيدة عنه أن تمتد وتسود ؟ وهاك الجواب كما كتبه الأستاذ "محمد زكى عبد القادر" بعد أن عاد من رحلة إلى أمريكا تحت عنوان "سلطة الكنيسة فى أمريكا" قال فيه : " قد يظن الكثيرون أن أمريكا تحررت من سلطات الكنيسة . ولكن هذا الظن ليس صحيحا ، فإن المنظمات الدينية والكنيسة متعددة فى مختلف الولايات . ص _294(1/283)
ومن التقاليد التى جرى العرف على الأخذ بها ألا يتولى منصب رئيس الولايات المتحدة أحد إلا من الكاثوليك .! وليس فى الدستور والقوانين ما يحرم ذلك ، فإنها لا تفرق بين أحد وأحد فيما يتعلق بجنسه أو دينه ، ولكن التقليد بلغ من القوة حدا جعله أشبه ما يكون بنص الدستور . والمنظمات الكاثوليكية أقوى نفوذا من المنظمات البروتستانتية ، وإن كان أتباع الكنيسة البروتستانتية أوفر عددا ، وذلك لأن الكاثوليكية أشد عناية بالمظاهر والرسميات ، وأكثر التصاقا بأتباعها وتأثيرا فى حياتهم من الكنيسة البروتستانتية. ويصعب على أى فرد فى الولايات المتحدة أن ينتقد الكنيسة الكاثوليكية ، فهى تنتحل لنفسها ما يشبه الحصانة . وهى تتدخل ـ وكذلك تفعل الكنيسة البروتستانتية ـ فى شئون التشريع والتنظيم فى كثير من الأحيان . وقد تدعى لإبداء رأيها ـ بصفة رسمية ـ فى بعض التشريعات والقوانين سواء فى الولاية أو فى الحكومة الاتحادية . وبين المرشحين الظاهرين لمنصب رياسة الجمهورية السناتور "كيندى" . ويعترف الأمريكيون بقدرته وكفايته ، ويرى الكثيرون منهم أنه خير من يلى هذا المنصب ، ولكنهم يرتابون فى إمكانه ترشيح نفسه ، ويرتابون كثيرا فى نجاحه لو أنه رشح نفسه ... وذلك لأنه كاثوليكى . وربما كانت وجهة النظر الأمريكية فى هذا بعيدة عن الصلة بالدين ، والمذهب فى ذاته . فهم يقولون : إن نجاحه ـ كرئيس لجمهورية الولايات المتحدة ـ يعنى أنه سيكون تحت سلطان البابا الكاثوليكى فى روما . وهم ينفرون من هذا السلطان على أية صورة من الصور . ويقولون إن نفوذ البابا على إيطاليا و إسبانيا خاصة واسع إلى حد كبير ، وهو موجود أيضا فى فرنسا ، وإن كان بصورة أقل وضوحا . والكنائس فى الولايات المتحدة ليست منظمات دينية فقط ، ولكنها تعنى أيضا بالشئون التعليمية والاجتماعية ، وتتدخل أحيانا فى الشئون السياسية . ص _295(1/284)
ويتولالها أشخاص ذوو كفاية وثقافة ، يعرفون أين يقفون وكيف يؤثرون عن طريق الدين فى الكثير من أساليب الحياة . ثم إنهم يديرون المدارس والمؤسسات التعليمية ، وينفذون إلى حياة العائلات . وربما كان مما أتاح لهم هذا النفوذ أن فريقا كبيرا من المهاجرين الأوائل تركوا بلادهم تحت ضغط الاضطهاد الدينى . ومن ثم بدأوا حياتهم . . ثم استمروا فيها ، وهم أشد ما يكونون التصاقا بالدين" أ.هـ . أقول : ويبدو أن ما يباح للأديان كلها يحظر على الإسلام وحده ، فلا يجوز أن يرتفع له عَلَمٌ ، ولا أن يكون لأهله نفوذ ، ولا لشرائعه هيمنة !!. * * * وخطط الاستعمار فى الكيد للإسلام ، وصرف الناس عنه ، وقطع الأواصر بين ضمائرهم وبواعثه ، وبين أعمالهم واسمه ، كثيرة محكمة . لقد استعان ـ بعد ما أخفى دولته الكبيرة ـ بالوطنيات الضيقة كى يكون الارتباط بها أساس الأعمال الخاصة والعامة . والارتباط بهذه الوطنيات ، مهما سما وقوى ، لا يصد نزعة شيوعية ولا فلسفة وجودية ولا تفكيرا ماديا ، ولا مذهبا منحرفا . فإن هذه الوطنيات ـ بمدلولها الوثنى المستجلب من الخارج ـ لا تعنى إلا تقديس قطعة من الأرض والمغالاة بأهلها . ومن الممكن توفير هذا المدلول مع البعد عن الله ، والذهول عن شرائعه !. قد تقول : فهناك مواريث التاريخ واللغة ، وسائر التقاليد المبثوثة فى حياة الأفراد والأسر ، وهذه لها أثرها العميق فى استبقاء الناحية المعنوية وضيئة . والجواب : أن الاستعمار احتاط للأمر حتى تندثر هذه النواحى كلها ، فلا يبقى هناك ما يوجه للإسلام أو يعلق القلوب به . . إنه هجم على اللغة العربية بلغاته التى يتكلم بها ويعتز ، فجعل اللغة الدخيلة أعلى منزلة من الأصيلة ، وجعل اجتياز الامتحانات بالتفوق فيها ضرورة ، وجعل الجودة فيها معيارا للترجيح المادى والأدبى فى كل مجال . ص _296(1/285)
وبذلك تعرضت العربية للاضمحلال والهوان ، وسقط بذلك جزء من الكيان الروحى للأمة . ثم جاء إلى التاريخ ، فأهال التراب على الحياة الإسلامية الماضية ، وشرع يشحن أذهان التلامذة بأحداث التاريخ الأوروبى ، والتاريخ المحلى للقطر الذى انفصل عن شجرة العروبة والإسلام . واكتفى بسرد نبذ طفيفة عن التاريخ الإسلامى الرحب ، بعدما صيغت فى أسلوب يجعل تدريسها متاحا لأى معلم ، ولو كان من اليهود ، لأنها ميتة لا روح فيها ، مشوهة لا تخدم فكرة ، ولا تثير خيرا . ثم تتبع ما قد يوحى بالإسلام ، وقص أجنحته ، وفض مجامعه ، لكنه يخشى أن يقع شئ ما يذكر الغافلين ، ويحيى الهامدين ، خصوصا بعد عودة اليقظة إلى العروبة الغافية . فماذا يصنع ؟ رأى أن يكاثر العرب فى بلادهم بفئات أخرى من أهل الأرض ، إن لم يكف بنو جنسه لهذه المكاثرة . . جاء مثلا إلى "عدن" وفيها من سكانها الأصلاء نحو سبعين ألف عربى ، فاستقدم من "الهندوك" نحو ستين ألفا إلى الآن . وهو ماض فى سياسته الصامته ليصحو أبناء البلد فيروا أنفسهم قلة فيه . وبذلك ينخفض ميزانهم إلى الأبد . وهذه السياسة تجرب الآن فى "البحرين" وفى "الكويت" . وقد جربت بنجاح فى "سنغافورة" التى كانت كثرتها من المسلمين ، فأصبحت الآن من الصينيين والهنود وغيرهم . والغريب أن المسلمين فى "الملايو" كانوا لا ينقصون عن 95% فأمسوا ـ فى ظل الاحتلال الإنجليزى ـ لا يزيدون الآن عن 60% . ونحن نعلم أن "فرنسا" وطنت أكثر من مليون فرنسى ويهودى فى الجزائر ، كذلك تصنع أغلب الدول الاستعمارية فى الأقطار التى نكبت بها . والغرض أن تتحول البقاع الحساسة فى البلاد الإسلامية ـ بعد هذه الهجرات ـ إلى إسرائيل أخرى ... ينحسم منها عرق الإسلام انحساما لا يؤذن بعودة . ص _297(1/286)
وقبل ذلك . إحداث بلبلة فكرية وروحية شاملة ، بحيث تحتبس أصوات المسلمين فى حلوقهم ، فلا يجرؤ أحد على النداء بوحدة عاطفية ، ولا خلقية . وقد حاول الإنجليز إنجاح هذه التجربة فى العراق من أربعين سنة . فاستقدموا جيشا من الموظفين الهنود ، وهيئوا مستعمرات لإقامة الألوف من الأسر الهندوسية . وضنوا بأرض العراق على أهله ، وأخذت مشروعاتهم تظهر على شواطئ دجلة والفرات . ولولا أن الشعب العراقى انتفض فى ثورة جامحة قضت على المشروع وواضعيه ، لكان الآن العراقيون قلة أو مساوين فى العدد للمهاجرين الذين نقلتهم سلطات الاحتلال !. وفى التنديد بهذه المحاولة الآثمة يقول "الرصافى" من قصيدة له : لنا ملك وليس له رعايا ومملكة وليس لها جنود ! ……………………… ………………………… أتغدو الهند خيرا من بلادى وخيرا من بنى قومى الهنود ؟ أما والله لو كنا قرودا لما رضيت بعيشتنا القرود ؟ والمحور الذى تدور عليه سياسة الاستعمار فصل الأمة عن قواها الروحية ، و إبعادها عن منابع الإيمان وتوجيهات اليقين ، والاجتهاد فى خلق ناس قلوبهم هواء ، وأفئدتهم خلاء لا يجمعهم رباط ، ولا توحدهم غاية . وأدنى الوسائل إلى ذلك تفتيت الأمة ، وتكثير أهوائها . فإن لم توجد فيها قلة يمكن أن تعتبر "كمسمار جحا" وتعجز رب الدار عن حرية التصرف فيها ، وحب استجلاب الغرباء من كل ناحية ، ليطالبوا بعقيدة غير العقيدة ، ومجتمع غير المجتمع ، وتاريخ غير التاريخ ، ومصلحة غير المصلحة . وهكذا يكره المسلمون على ترك دينهم ، ويضطرون إلى صرف الفكرة عنه ، إذا نادوا باستقلال !! والاستعمار هو الكاسب على أية حال . من المستحيل أن ينهض المسلمون ، بعيدا عن قواعد دينهم ، أو أن ينهض بناؤهم ص _298(1/287)
الخلقى والثقافى والاجتماعى مع التجهم لكتاب الله وسنة رسوله . . إن الاستعمار أفهم بعض المغفلين ، أن من المستطاع فصل الدين عن كل شراء فى الحياة العامة والخاصة . لينطلق كل شئ متحررِّا من الدين ، أى من الإسلام وحده . وليبقى الدين ـ بعد أن انفصل عن كل شئ ـ خبرا " كان" وذكريات مضت ، وخرافات انقضت ...!!! ونحن نرى ضرورة "رد الاعتبار" إلى هذا الدين الذى أهانه الغزاة وجردوه من كل فضل ، ونسبوا إليه كل عيب ، وأطلقوا المسعورين ينبحون قوافله كلما بدأت لها حركة . . لماذا يطلب منا ـ نحن المسلمين ـ أن تحيا أرواحنا بعيدا عن دفء الإيمان الذى انتهينا إليه ؟ إن الذين يطفئون شموعنا سيبقون معنا فى ظلام لأنه ليس لديهم نور. أما الزعم بأن الإسلام لا يصلح للعصر ، فهو زعم سخيف منتن . صحيح أنه لا يصلح للحياة مع الاستعمار ، ولا يقبل ألبتة أن يجاوره فى دار ، أما صلاحيته للحياة المطلقة المشرقة فهو ينبوع صفوها ونورها . ولا بأس أن ننقل هنا كلمات حسنة للأستاذ "محيى الدين نصار" من مجلة "العلوم السياسية" لها بموضوعنا كبير اتصال : * * * * الدين : اتفق علماء المقابلة بين الأديان على تأصل العقيدة الدينية فى طبائع الإنسان من أقدم أزمنة التاريخ . وترجع أهمية الدين ـ من حيث هو للوحدة ـ إلى تأثيره فى تكوين الأمم وتمييزه بعضها عن بعض ، فهو يولد نوعا من الوحدة فى شعور الأفراد الذين ينتمون إليه ، ويثير فى نفوسهم بعض العواطف والنزعات الخاصة التى تؤثر فى أعمالهم تأثيرا شديدا . فالدين من هذه الوجهة أهم الروابط الاجتماعية التى تربط الأفراد بعضهم ببعض ، وتؤثر بذلك فى سير السياسة والتاريخ . ويكفى للدلالة على أن مكانة الدين مازالت قائمة فى القرن العشرين ، نشأة دولتى "إسرائيل " و"باكستان" . ص _299(1/288)
الأولى على أساس اشتراك اليهود فى الديانة اليهودية واللغة العبرية والآمال المشتركة ... إلخ . والثانية على أساس الإسلام والحضارة الإسلامية ... إلخ . والإسلام هو الدين الذى يوحد العرب ويجمع شملهم ، لأنه دين الكثرة منهم . والإسلام دين عقلى . . وهو قانون للفرد والمجتمع والعلاقات المحلية والدولية على السواء . وهو دين ديمقراطى ، دين المساواة الكاملة بين البشر باعتبارهم من خلق الله ، والإسلام عبارة عن جملة من المعتقدات التى تدور حول مبدأ التوحيد . وهو دين مرن ، ومتطور ، ولا يتعارض مع المدنية والحضارة ، بل إنه نفسه خلق للعرب مدنية وحضارة ، وهو كما قالت نجلاء عز الدين : " ليس قوة تعمل على الوحدة باعتباره دينا فحسب ، بل باعتباره منهجا مفصلا للحياة الكاملة أيضا " . ولقد عقد البحَّاثة الأمريكى "هوكنج" أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد ، فصلا مستفيضا عن (مصير الثقافة الإسلامية) فى كتابه "روح السياسة العالمية" قال فيه : " إن سبيل تقدم الدول الإسلامية ليس فى اتخاذ الأساليب المفترضة التى تدعى أن الدين ليس له أن يقول شيئا عن حياة الفرد اليومية أو يتحدث عن القانون والنظم السياسية ، وإنما يجب أن يجد المرء فى الدين مصدرا للنمو والتقدم " . قال : ".. وأحيانا يتساءل البعض عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أفكار جديدة ، وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية ؟؟... والجواب على هذه المسألة هو أن فى نظام الإسلام كل استعداد داخلى للنمو ، وأما من حيث قابليته للتطور ، فهو يفضل كثيرا من النظم والشراع المماثلة . والصعوبة لا تنشأ من انعدام وسائل النمو والنهضة فى الشرع الإسلامى ، وإنما فى انعدام الميل إلى استخدامه ... " . هكذا قال البحاثة الحصيف !! ولست أريد أن أقف لتعليل هذا العزوف ، وحسبى أن أذكر قوله : ".. وإنى أشعر أننى على حق حين أقرر أن الشريعة الإسلامية تحتوى بوفرة على جميع المبادىء(1/289)
اللازمة للنهوض ... " . ذلك ، وفى الإسلام قال برناردشو : "لا يمضى مائة عام حتى تكون أوروبا ـ ولا سيما إنجلترا ـ قد أيقنت بملاءمة الإسلام للحضارة الصحيحة ". ص _300
والإسلام ـ كما قال " فاليو دوردسن" ـ: "دين إنسانى طبيعى اقتصادى أدبى ، ولا أكاد أذكر شيئا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشروعا فيه " . والإسلام ـ كما يقول الأستاذ "العقاد" ـ يمكن تلخيصه فى كلمة واحدة هى "الحق" وهو بذلك يكون الدين الحق . إنه دين شامل ، وشموله هذا هو الذى حقق له ما لم يتحقق لعقيدة من تحويل الأمم العريقة إلى الإيمان به عن طواعيه واختيار . وبالنسبة للحريات : نجد أن ثورات العالم المدنية والدينية لم تعلن حقوقا عامة للإنسان قبل ثورة الإسلام فى القرن السادس للميلاد . وعند الأستاذ "جب" أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات . إنه أعظم من ذلك كثيرا إنه مدنيَّة كاملة . ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا : العالم المسيحى ولم نقل المسيحية . وعناصر الإسلام الثلاثة التى لا انفصال لها فى سياسته وجماعته هى : المساواة ، والمسئولية الفردية ، وقيام الحكم على الشورى وعلى دستور معلوم من الحدود والتبعات . ولا مصدر للسلطة العامة فى الإسلام غير الأمة . ولا مرجع للمسئولية العامة غير الأمة ، فهى التى تدين حكامها وتبت فى مصايرهم . والإسلام كما قال الدكتور "جوستاف لوبون " ـ محذرا من تخرصات المفرقين- : " إنه لم يوفق كثير من عظماء المؤلفين المشهورين عندنا إلى فهمه . ولذلك يجب علينا أن نتروى قبل أن نجارى أولئك الذين لم يقدروا الإسلام حق قدره ، وأن نحاول أن نتبين أهميته بالنسبة للوحدة العربية " . لقد اشترك الإسلام ـ بل انفرد ـ كقوة خالقة فى تكوين الأمة العربية ، وكانت أول مساهمة له فى تأميم الحياة العربية فى إطار من الإخاء داخل المجتمع الإسلامى . وترجع حركة التعريب الواسعة بين شتى الشعوب إلى انتشار الإسلام . وعند "محمد(1/290)
إقبال" أن الإسلام بالنسبة للظروف التى ظهر فيها ، كانت هبته العظيمة للعرب تتمثل فى خلق مجتمع وإنشاء دولة . ص _301
والعلاقة بين العرب والإسلام علاقة فريدة ... فالإسلام دين عربى .. إذ نزل القرآن الكريم بالعربية .. وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلا عربيا من قريش . وتنظر القومية العربية إلى الإسلام كإرث قومى مشترك على الأقل بين كل أبنائها . قال : ولا يوجد تعارض البتة بين القومية العربية والإسلام ، فالإسلام دين العرب وأساس وحدتهم ، بل إنه ـ باسمه ـ فتحت البلاد الأخرى وانتشرت اللغة العربية . والقومية العربية فى حاجة إلى دين الإسلام لكى تكشف عن أصلها ، ومصادر قوتها . والخلاصة أنه لابد أن يرجع إلى الإسلام والقرآن فى خلق الأمة العربية والدول العربية ، وقد حمل الإسلام العرب شوطا بعيدا تجاه التقدم نحو وعى عربى . وفى هذا يقول الدكتور "أديب منصور" : "بالإسلام تكونت ذات عربية معروفة فى التاريخ ، هذه الذات الفذة التى كونها الإسلام فتحت الفتوح ومصرت الأمصار وحكمت الأمم بضعة قرون " . وفى هذا تقول الدكتورة "نجلاء عز الدين" : " والإسلام يوحد العرب عاطفيا ويربطهم بوحدة المُثل العليا ، وقد كان الإسلام وما زال فى قلوب الكثيرين من العرب إلى اليوم يقوم مقام القومية " . ويعترض البعض على اعتبار الإسلام من عوامل الوحدة بين العرب نظرا لوجود أقليات غير إسلامية ساهمت بنصيب كبير فى إحياء القومية العربية وبعثها ، وفى نشر حضارة العرب فى أوروبا . ويهمنا من هذه الأقليات العربية المسيحيون ، وهؤلاء يقف منهم الإسلام موقفه من الذميين عموما يرعاهم ولا يفرق بينهم وبين المسلمين فى الحقوق أو الواجبات ، بل إن المسيحيين الشرقيين نالوا من الحرية والعدالة فى ظل الإسلام أكثر مما نالوا فى ظل المسيحية الغربية . أما ما حدث بين المسلمين والمسيحيين من حروب صليبية فإن ذلك لم يكن على أساس دينى خالص ، بل اكتنفته مطامع(1/291)
أوربية سيئة . وإنما حدث الغزو الصليبى بدافع الاستعمار ، ولم يكن ذلك دفاعا عن الأرض المقدسة فى "فلسطين" كما يقولون ، بل كان دفاعا عن المصالح الاستعمارية للغزاة الفاتحين . " أ. هـ . * * * ص _302
الهدم التاريخى وعلى الداعية المسلم : أن يعرف عظمة النعمة التى أفاءها الإسلام على العالم أجمع ، عندما أشرق نوره واكتمل ظهوره . إن الأغلال التى فكها عن العقول ، والآصار التى وضعها عن الكواهل ، والآفاق التى افتتحها لنشدان الكمال ، والقوى التى حركها لإحياء الحضارات ، إن هذه كلها بعض آثار الإسلام فى الأرض . ولولا أن هذا الدين نجح فى تبليغ رسالته ، لعادت الإنسانية إلى الوراء متقهقرة ما تقف حتى تبلغ العصر الحجرى . ذلك أن الفساد كان قد عم البر والبحر . فالليل المضروب على العبيد فى الشرق والغرب لا يؤذن بفجر . والجبابرة الذين سخروا الدين لمآربهم لا يجرؤ على اعتراضهم أحد . والمصايد المطبقة على الأفكار والأرواح لا يخرج من سجنها بائس . ولولا هذا الإسلام لظلت أوروبا على نتنها المادى والأدبى ، تتعبد بالنجاسة ، وتتقرب إلى الله باحتقار العقل وذبح المفكرين . ولقد ظل الأوروبيون يمقتون الإسلام أقبح المقت ، ويؤذون الله ورسوله بأشد الكلم ، وظل الإسلام يقاوم تعصبهم على مر القرون ، حتى أفلح آخر الأمر فأنفذ أشعته إلى العيون الكارهة لها . وبدأ عصر النهضة فى أوروبا ، نعم بدأ عصر النهضة ، وتحركت الأحجار بعد بضعة عشر قرنا من مواتها فى شمال أوروبا وجنوبها وشرقها وغربها . وكان الفضل لنا نحن ، لآبائنا الكبار ، لأساتذة الدنيا فى أعصار لم تعرف الدنيا غيرهم ، يومض بشعاع ، ويتألق بنور ... وكان ينبغى أن يعرف الأوروبيون لنا هذه المنة ، وينسبوها للعرب وللمسلمين أصحابها الأصلاء ، ولكن الجحود غلبهم ، والتعصب استبد بهم ، فإذا النهضة التى ص _303(1/292)
اشتعلت فى غرب أوروبا وسميت بعصر الإحياء ، تنسب إلى جهود علماء القسطنطينية ، وهجرتهم أمام الفتح التركى . وهكذا نال علماء القسطنطينية وما حولها فخزا لم يحلموا به ، ولم يفكروا فيه يوما ..!! واستمرت سياسة الجحود والكذب فى مجراها المرسوم ، فإذا هى لا تجحد الفضل فحسب ، بل ترمى العقل الإسلامى بكل نقيصة وتتهمه بكل وصمة ، وتلح فى وصف العرب والمسلمين بأنهم ما كانوا يوما ما حملة علم ، ولا خدمة فكر !!. ويمضى التعصب الخسيس فى طريقه ، ليحيك مؤامرة بين المبشرين والمستشرقين ، تستهدف خلق جيل من المسلمين المهزومين يفهم أن آباءه لم يحسنوا لحظة ، لا إلى أنفسهم ولا إلى الناس . وأن الإسلام كان دينا همه التدمير لا البناء ، والجمود لا التجديد . وأنه إذا كان هنالك فى تراثه ما يشير إلى ألمعية وروعة فهو مسروق أو منقول عن الإغريق وغيرهم . ولولا نفر من المنصفين استحيى من فعال قومه لطمست الحقيقة ، وذهب فضلنا مع الريح . ولكن ما يصنع هذا النفر مع الكثره التى تريد إقناع نفسها وإقناعنا معها بأننا لم نكن يوما ما شيئا مذكورا ، ولن نكون ـ وكذلك يأملون ـ ؟ والدكتور "فيليب خورى حتى" يروى فى كتابه "تاريخ العرب" هذه النغمة التى يتواصى المستشرقون بإذاعتها وإشاعتها . فهو يؤكد فى أكثر من موضع أن المسلمين لم تكن لهم حضارة خاصة ، ولا ينبغى أن يذكروا بتراث من نسج أفكارهم وعمل مواهبهم . إنهم عالة على الأمم التى غلبوها ، وجسر مؤقت عبرت عليه مدنيات الأقدمين . واسمع إليه يقول عن مظاهر الحياة العقلية في عهد الأمويين : " لم يحمل الغزاة من الصحراء معهم إلى البلاد المفتوحة تراثا ثقافيا ولا تقاليد علمية ، ولقد جلسوا فى كل من الشام ومصر والعراق وفارس مجلس التلاميذ عند أقدام الشعوب التى أخضعوها ، ولله ما كان أنهمهم من تلاميذ فى طلب العلم .. ". أ. هـ . ص _304(1/293)
وهو قبل ذلك يتحدث عما يسمى بـ "الحضارة العربية" !! فيزعم أن العرب لم يستولوا فقط على مساحات شاسعة من الأرض حين أتموا فتح مصر وفارس وغيرهما ، بل أصبحت فى حوزتهم أقدم مراكز الحضارة فى العالم كله ، ووضعوا أيديهم على ما احتوته هذه الحضارات من تقاليد عريقة ترجع إلى اليونان والرومان والفراعنة وبابل وآشور . . إلخ . ثم يقول : " لم يكن لدى العرب الأصليين أى شئ يعلمونه للآخرين ، وكان أمامهم كل شئ ليتعلموه ، ولله ما كان أشدهم فهما ! إن أولئك العرب المسلمين بما فطروا جمليه من رغبة شديدة فى العلم وبما انطوت عليه جوانحهم من قوى كامنة لم تثر بتاتا من قبل ، قد بدأوا الآن بفضل تعاونهم مع رعاياهم ، وبفضل مساعدة أولئك لهم يهضمون ويكيفون وينبشون تراثهم العقلى والفنى . " . ثم يقول : " وعلى ذلك فما نسميه بـ "الحضارة العربية" لم تكن عربية لا من حيث أصلها ومقوماتها الأساسية ولا من حيث مظاهرها الجنسية الهامة ، وإن الإضافة العربية الخالصة فيها ربما كانت فى الميادين اللغوية ، وإلى حد ما فى الميادين الدينية ، وطوال عصور الخلافة كان أهل الشام وفارس ومصر وغيرها ، مسلمين كانوا أم مسيحيين أم يهودا ، هم حملة شعلة الثقافة والعلم ، كما كان شأن اليونان المنهزمين فى علاقاتهم مع الرومان المنتصرين تماما " . ويمضى هذا المستشرق فى شططه الغريب ، وكأنما هو يؤدى وظيفة مرسومة لا بحثا علميا ، فيتحدث عن أيام العباسين قائلا : " إن الذى جعلها زاهية فى تاريخ العالم أجمع هو تلك اليقظة الفكرية الهائلة التى شاهدها تاريخ الإسلام ، والتى تعتبر أهم فترات تاريخ الفكر والثقافة فى العالم .. " . قال : ".. ويرجع السبب فى هذه اليقظة ـ إلى حد كبير ـ إلى التأثير الأجنبى ، ذلك التأثير الذى يقوم فى بعض أجزائه على عناصر هندية وفارسية وسورية ، ولكنه فى جملته يعتمد على الإغريق ، وكانت الترجمة محور هذا النشاط . قال : ".. وإن المسلم العربى(1/294)
بما حمل معه من الصحراء من إحساس حاد ، وشغف عقلى ، ونهم للعلم ، وقوى كامنة ـ كما درسنا سابقا ـ سرعان ما أصبح الوارث المنتفع من هذه الشعوب . وهى شعوب أكثر وأقدم ثقافة من الذين غزوها ، وإن كان هؤلاء الغزاة قد بدأوا من عندهم بجزء قليل من العلم والفلسفة ، والأدب .. " . جزء قليل !! إن هذا اعتراف ، ما كان له من داع !! وليست فيه دلالة على إنصاف . ص _305
ومع ذلك فلنقبله من الدكتور "فيليب حتى" ثم لنسمع إلى ما أردفه به من عبارات. قال : " لم تمض عشرات من السنين حتى اهتضم علماء العرب ما أنفق اليونان قرونا فى توضيحه . على أننا يجب أن نذكر أن الإسلام فى أخذه بمظاهر الثقافتين اليونانية والفارسية ، فَقَدَ طابعه الأصلى الذى كان يشف عن روح الصحراء ، ويحمل طابع القومية العربية " . ومن السهل أن نوجز مآرب الكاتب فى هذه الخلاصات : 1ـ لم يحمل العرب معهم حضارة يعلمونها للناس عندما خرجوا من جزيرتهم ينشرون الإسلام . 2ـ إذا كانت هناك نهضة اقترنت بانتشار الإسلام فهى وليدة الازدواج الذى تم بين خصائص الجنس العربى ، ومواريث الأمم المغلوبة على أمرها . 3ـ إن الشعوب المتخلفة عن الانهيار الحربى للرومان والفرس ، كانت أرقى من العرب الفاتحين ، وأرفع مستوى من المسلمين المنتصرين . ولذلك فقد قامت بوظيفة الأستاذ لمن قهرها ، وقام العرب بدور التلميذ . ويؤسفنا أن نذكر نحن بإيجاز ، أن هذه النتائج المستخلصة من كتابات ذلك المستشرق وكتابات أمثاله الحاقدين على الإسلام ، لا أساس لها من الصحة ، ولا سناد لها من العلم ولا أثارة فيها لوفاء . بل إنها لون من الهدم المتعمد لتاريخ أمة أسدت إلى العالم أعظم الفضل ، وطوقت عنقه بصنيع يجب أن يُحمد لا أن يُغمط . 1ـ فأما أن العرب لم يحملوا معهم حضارة تُعلم للناس ، فهذا من أبين الغلط ، فإن القرآن الذى صنع العرب صناعة جديدة ، وكون منهم خير أمة أخرجت للناس ، تضمن من بواعث الازدهار الفكرى(1/295)
والنفسى ، وأصول الحقوق الخاصة والعامة ، ما جعل العالم ينتقل به من طور إلى طور . إن هذا القرآن ليس كتابا من تلك الكتب التى تحمل نعت القداسة ، فإذا أجلت النظر فى صحائفها طويتها على عجل احتراما لعقلك وخلقك ، كلا ، إنه كتاب يستثير أقصى ما فى العقل الإنسانى من طاقة ، ويهز آخر ما فى الضمير الإنسانى من شعور . وهو يخلق جو البحث والتفكير خلقا ، ويدفع بقوة إلى النظر والتدبر . . ص _306
ثم إنه تضمن من الشرائع الاجتماعية ، والتوجيهات الإنسانية ، ما لم يكن للدنيا عهد به ، والرسول العربى الخاتم لجميع الأنبياء كان بالنسبة إلى العرب كالغيث الهاطل على أرض موات لم تلبث به إلا قليلا حتى تحولت إلى واد ممرع ، حافل بصنوف الثمر . وعندما فصل العرب عن حدودهم ، وساحوا فى أرض الله يُبلغون رسالته ، كانوا يحملون مبادىء أرقى ألف مرة من المبادىء التى حملتها ثورات العالم الحديث . . فالزعم بأنهم لم يحملوا للعالم حضارة ، ولا تقاليد علمية ، ولا توجيها ثقافيا إنما هو زعم فارغ . ربما صح أنهم لم يحملوا للعالم طرازا جديدا فى فن البناء ، أو الغناء ، أو فن البحث الملتوى عن حقيقة ما سبق أن قال الإسلام فيها كلمته الحاسمة . فهل هذا يعيب الإسلام ، ويصم أمته بأنها لم تحمل للناس حضارة ..؟؟ هل شُعل الحق والعدل والبر التى نقلها العرب للعالمين لا تسمى حضارة ، ولا تستحق أن تذكر بأنها شئ قدمه المسلمون للناس ؟. 2ـ يزعم الأستاذ "فيليب حتى" أن خصائص العرب ـ لا مبادىء الإسلام ـ هى التى كونت ما يسمى نهضة إسلامية . وتقدمة لهذا الزعم ، وحتى يروج له بين الأغرار ، استعرض تاريخ العرب فى الجاهلية ثم اكتشف فى استعراضه أن هذه الجزيرة كانت مشحونة بالرجال ، وأنها طالما ضاقت بأهلها ، واضطرتهم إلى الهجرة منها ، وأن انطلاقة الإسلام العظيمة ، ليست إلا تكرارا لهجرات سبقت ، نزح فيها العرب ـ لظروف اقتصادية ـ إلى الأقطار المجاورة ..!!! ومعنى هذا(1/296)
أن الفتح الإسلامى ، هو هجرة عربية بحتة ، تحركت فيها مواهب جنس ، وخصائص أمة ، بقيادة زعيم قومى هو "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفاء ناشطون ، هم حكام الإسلام . هذا الكلام من أسخف ما قرأت فى حياتى ، ومن أتفه ما يذكر فى ميادين البحث العلمى . تصور رجلا يقول لك : أتحسب أن النهار بدأ صباح اليوم ؟ لقد طلع نهار آخر فى منتصف ليل أمس ، وإن كان الناس لا يشعرون !!! الامتداد الإسلامى الطويل العريض ، الذى غمر الكون بنهار من المعرفة الساطعة ، لم تعرف الحياة فى غابرها وحاضرها شروقا مثله . ص _307(1/297)
هذا الامتداد ، نوع من الهجرة العربية ، سبق لهذا الجنس أن قام بمثيل لها ، وإن كان الناس لا يشعرون ...!!! أما القرآن وهدير آياته الذى حطم الخرافات . أما الرسول العملاق الذى أحيا بالوحى أمة من العدم ، وشق بها ما اكتنف الأجيال من ظلم ، فهذا أو ذاك شئ لا ينبغى أن يذكر . إن العرب قبل الإسلام ما كانوا شيئا . ومن غير الإسلام لن يكونوا شيئا . ولو حدث أنهم انطلقوا إلى الناس مجردين من هذا الدين ، ما كان للقائهم بشعوب الأرض أدنى أثر . فإن اجتماع الأصفار لا يُكون عددا صحيحا ولا مكسورا ... والواقع ـ كما قلنا ـ أن الإسلام وحده ، هو الذى علم العرب من جهل ، ونقلهم من الظلام إلى النور ، وزودهم بقدرة روحية وفكرية ، جعلت انقضاضهم على الأقطار الهامدة كانقضاض الشهب على الهشيم اليابس . والواقع ـ كما قلنا ـ أن الإسلام ـ بأصوله السماوية الراشدة ـ هو الذى قام بأوسع نقلة فى مدارج الرقى البشرى عندما حول العرب الأميين إلى رجال فكر ، وأئمة هدى . وعندما جعلهم يتصلون بالعالم اتصال المعلم الواعى بالتلامذة الهمل ، وعندما فتق أذهانهم ، وأمكنهم من تناول التراث الفكرى للعالم تناول الناقد البصير يمحو منه ويثبت ، ويصوب منه ويخطىء . أجل . . لقد نظر العرب فى كتب الأقدمين نظرة الأستاذ إلى كراسات الطلاب التى تتضمن من الحقائق ما يقره ، ومن الجهالات ما ينكره . وكانت هذه المكانة العقلية قد أضحت لهم بفضل الإسلام وحده ، لا بفضل شئ آخر مدعى أو موهوم . وإذا كانت هناك آثار للحضارات القديمة ، أو لأفكار الإغريق ، والفرس فى التراث الإسلامى ، فهى آثار تشين معالم الوحى ، ويجب أن تماز لتنحى لا ليفخر بها . 3ـ ونجئ إلى ثالثة الأثافى فى مزاعم الأستاذ "فيليب حتى" وهو أن الشعوب الشرقية والغربية حول المسلمين كانت أرفع منهم قدرا ، وأرسخ قدما ، وأعلى مستوى !!! وأنها ـ بمواريثها القديمة ـ أرجح كفة من العرب الفاتحين . ص _308(1/298)
والحقيقة أن الشعوب الأوروبية ، والإفريقية ، والأسيوية ، كانت إلى ثلاثة قرون تقريبا أنزل رتبة من الأمة الإسلامية فى كل شأن مادى وأدبى . وأنها كانت فريسة لجملة من جراثيم الجهل والتعصب والجمود ، تزرى بقدرها أشد الزراية . ولا ندرى كيف أن المسلمين الفاتحين تتلمذوا على شعوب جاءوا إليها ليفكوا عنها أغلال التقليد ، وغشاوات العمى ؟ لقد كانت روما ، وبيزنطة ، والقاهرة ، ودمشق ، والمدائن ، وسائر العواصم . . التى طرق الإسلام أبوابها ، تعيش فى سجن من الآراء الدينية الضيقة ، بعضها وثنى ، والأخر قريب منه ، فكيف يُظن أن أهلها كانوا أفضل من المسلمين يومئذ ؟ نعم إن العرب ترجموا كتب الأولين من يونان ، وفرس ، لا ننكر ذلك ، وطلبوها من مظانها البعيدة . . بيد أن من الإنصاف أن نتساءل : ماذا كانت أحوال البلاد التى استقدمت منها هذه الكتب ؟ لقد عبرت دهرا ، وهى لا تعى منها شيثا . ومضت بعد ذلك أعصار عليها وهى لا تعلم عنها شيئا . لقد كانت فى نوم عميق . فهل النهم العلمى الذى خلقه الإسلام فى نفوس العرب ، وأغراهم بالاطلاع على كل شئ سواء احتاجوا إليه أم استغنوا عنه ، هل هذا النهم البال ، وتلك الحرية الغربية ، يبعثان المفكر النزيه على اتهام العرب بأنهم تسولوا العلم من أمم كانت أذكى منهم وأقدر ...؟! فأين كان ذكاؤها من قبل ومن بعد ، وهى لم تذق طعم المعرفة إلا بعد ما تتلمذت علينا ؟ إن الأحقاد مهما كلحت لا تستطيع تغطية الحقائق الكبيرة . والحضارة التى تبعت انتشار الإسلام فى الأرض ، كانت من السناء والازدهار بحيث تعجز المكابرين وتكرههم على الإقرار بفضلها . ذلك إلى أن تأخر البلاد التى لم تعتنق الإسلام ، وتخلفها البعيد فى شتى الميادين ، يجعل مدنية الإسلام أكثر بروزا وأشد تألقا !! ص _309(1/299)
ولو أننا رجعنا إلى الوراء قرونا لا تتجاوز أصابع اليد ، لرأينا من معالم الحضارة الإسلامية ومظاهر التأخر الغربى ما يدعو إلى العجب . كان المسلمون أنظف أبدانا ، وأنضر أفكارا ، وأرق قلوبا ، وأرقى آدابا ، وأوسع عمرانا ، وأضخم غنى ، وأشد قوة من أقطار الغرب كلها . . وكانت عواصم الإسلام ملأى بالحمامات والمستشفيات والمدارس والجامعات والمصانع والمتاجر ، على حين أن عواصم الغرب كانت محرومة من أغلب هذه المؤسسات . وكان المسلمون آية ناطقة بالتسامح الدينى والمرونة العقلية ، على حين أن أقطار الغرب كانت مبللة الثرى أبدا بضحايا القتال الدينى ، والحرية العقلية . ويظهر أن عددا من رجالات الغرب رأى أن جحد ما للإسلام من أياد على العالم شئ غير مستطاع ، أو عمل غير صالح ، فسلك طريقا أخرى هى أن يعترف للمسلمين بفضل جزئى محدود ، ويواجه ما قدموه للعالم من مدنية وارتقاء ، ثم ينسب جرثومته إلى اليونان الأقدمين . . ومعنى هذا أن العرب نقلوا تراث الفلسفات الإغريقية الأولى ، وأنهم أضافوا إليها من عندهم أشياء ذات بال ، وأنهم بذلك يستحقون الحمد على ما نقلوه ، وما أضافوه. إذ لولا تلك الجهود ما بدأ عصر النهضة ، ولا أبصر العالم الحديث بكنوز الإغريق الأولين ، ولا قامت هذه المدنية العظيمة التى يعيش الناس الآن فى ظلها . * * * وهذا الكلام ـ فى رأينا ـ لا يجدى فتيلا ، ولا يرضينا كثيرا ولا قليلا . والحق عندنا أن النهضة العقلية التى صنعها الإسلام مستقلة المنبع والوجهة ، وأن التفكير الإسلامى المُستقى من إيحاءات القرآن والسنة ، بعيد كل البعد عن منازع الفلسفات الإغريقية على اختلافها ، وأنه إذا كان لأفكار اليونان من أثر فى ثقافتنا نحن ، فذلك الأثر هو أنها اعوجت بالعقل الإسلامى وضللت سعيه . ونزيد على ذلك أن الحضارة الحديثة ، وكشوفها المادية ، وأساليبها العلمية لم تتقدم خطوة إلى الأمام إلا بعد أن نبذت فلسفة الإغريق ، ومنطق أرسطو(1/300)
، واعتمدت على الملاحظة والتجربة والاستقراء . وهى أصول فى التفكير الإنسانى لا يعوزك أن تلمحها فى القرآن الكريم ، وهو الكتاب الأول والأخير الذى أهاب بالإنسان أن ينظر فى الكون ، وأن يبنى معارفه على الحقائق لا على الظنون . ص _ ص 0
والإيحاءات الإسلامية الخالصة هى التى بنت حضارتنا . وهى التى كذلك أسدت للغربيين أقباسا من العلم نهضوا به وتحسسوا مستقبلهم عليه . والإعزاز العجيب للعقل الإنسانى وحرية الفكر ، هو الذى أغرى أسلافنا الأوائل بغربلة التراث الإنسانى كله ، دون شعور بحرج دينى ، أو قيد روحى . وهو الذى دفعهم إلى الإغراق فى هذه المذاهب والبحوث ، وسول لبعضهم أن يعتنق هذا الرأى أو ذاك من آراء الأقدمين ، ويفسر على ضوئه بعض أحكام الدين. وقد كان المسلمون يصنعون ذلك بينما كانت نوافذ الفكر الإنسانى مغلقه بألف مزلاج فى أوروبا ، فلو حاول رجل حر التطلع من خلال القضبان إلى آفاق الفكر الرحب فان جزاءه ضرب العنق ، باسم الكهنوت الحاكم بأمره يوم ذاك . فلما انتشرت الحضارة الإسلامية ، وتسربت مع الزمن إلى أقطار الغرب ، ولما بدأ عصر الإحياء من آثار إحيائنا نحن للعقل والفكر فى القرون الوسطى ، جاء من يقول : إن العرب لا فضل لهم أبدا فى شئ ...، ثم خفف بعضهم من غلوائه فقال : بل لهم فضل النقل والتجديد ، نقلوا تراث اليونان وشرحوه !! كأن أوروبا وأمريكا نهضتا اليوم بفلسفة اليونان من ثلاثين قرنا . لله ما أسوأ الكذب . . وما أخس الجحود !! إن المحققين المنصفين من مفكرى الغرب يصرحون بأن هجرة البيزنطيين من شرق أوروبا لم تخلق عصر الإحياء ، وأن عصر الإحياء جاء من العرب وحدهم ، وتضج عن حضارتهم المتفوقة ، وأن علماء بيزنطة لم يكن لديهم يوم هاجروا إلى الغرب شئ ينفعون به أنفسهم فضلا عن أن يرفعوا به غيرهم !!! ومع اعتقادنا بصدق هذا الرأى فنحن لا نرى مانعا من إثبات طائفة من الاعترافات المحدودة ، بفضل العرب "الجزئى" على(1/301)
العالم ، مبتدئين بكلام للدكتور "فيليب حتى" الذى سبق أن صرح بأن العرب لم يكن لديهم شئ قط يقدمونه للناس . قال : "إن فترة الترجمة (750- 785) التى ناقشناها فى فصل سابق قد أعقبتها فترة ص _ ص 1
نشاط وابتكار ، لأن العرب لم يقتصروا فقط على هضم علم فارس القديم وما خلفه اليونان ، ولكنهم كيفوا كلا منهما حسب حاجاتهم الخاصة ، وطرائق تفكيرهم ، ففى الطب والفلسفة كانت أعمالهم المستقلة أقل وضوحا منهم فى الكيمياء ، والفلك ، والرياضيات ، والجُغرافيا . أما فى القانون وأصول الدين والاشتقاق وعلوم اللغة ، فإنهم ـ كعرب ومسلمين ـ قاموا بتفكير وبحوث أصيلة مبتكرة ، وكانت ترجماتهم ـ وقد أُضفى عليها قدر غير يسير من العقل العربى فى أثناء انتقالها بين القرون العديدة ـ قد نُقلت ـ مع ما أضافوا من مسائل جديدة ـ إلى أوروبا عن طريق "سوريا" و "أسبانيا" و "صقلية" وكانت أساسا فى قانون المعرفة الذى تغلب على الفكر الأوروبى فى العصور الوسطى . والنقل من وجهة نظر تاريخ الثقافة ، لا يقل مكانة عن الابتكار . إذ لو أن بحوث "أرسطو" و"جالينوس" و"بطليموس" فقدت ولم تصل إلى الخلف لأصبح العالم فقيرا فى العلم ولغدت البحوث وكأنها لم توجد بتاتا ". أ هـ . * * * ويعود "فيليب حتى" إلى طرق الموضوع بأسلوب أقرب إلى الاعتدال فيقول : فى هذا العصر أخذت العاصمة الأموية "قرطبة" مكانها كأعظم مركز للثقافة فى أوروبا . وكانت هى وكل من القسطنطينية و"بغداد" مراكز الثقافة الثلاثة فى العالم أجمع . فكان فيها مائة وثلاثة عشر ألف مسكن وإحدى وعشرون ضاحية وسبعون دارا للكتب ، وعدد عديد من حوانيت الكتب والمساجد والقصور . وكانت لها بذلك شهرة دولية تبعث الرهبة والإعجاب فى قلوب السياح ، وكان فيها أميال من الطرق المرصوفة التى تضاء من بيوت تقوم على حدود الشوارع . وذلك ما لم تكن تتمتع بمثله "لندن" و "باريس" حتى بعد سبعة قرون من ذلك التاريخ . فى تلك القرون(1/302)
كان الذى يجرؤ على الخروج من عتبة بيته فى باريس فى يوم مطير ، يغوص فى الوحل إلى عقبيه . وفى الوقت الذى كانت فيه جامعة أكسفورد ترى أن الاستحمام عادة وثنية ، كانت الأجيال من علماء قرطبة تتمتع بالاستحمام فى مؤسسات فاخرة . ص _ ص 2
ويدلنا على موقف العرب حيال برابرة الشمال وفكرتهم عنهم ما ورد فى كلام العالم الطليطلى صاعد القاضى "المتوفى سنة 1070 " الذى قال عنهم : " إن إفراط بُعد الشمس عن مسامته رؤوسهم برد هواءهم ، وكشف وجوههم فصارت لذلك أمزجتهم باردة وأخلاطهم فجة فعظمت أبدانهم وابيضت ألوانهم وانسدلت شعورهم فعدمت بهذه دقة الأفهام وثقوب الخواطر وغلب عليهم الجهل والبلادة وفشا فيهم العمى والغباوة " !!! وحينما كان الحكام فى "ليون" و"نبرة" أو"برشلونة" يحتاجون إلى جرَّاح أو مهندس أو أستاذ فى الموسيقى أو صانع للملابس ، كانوا يبحثون عنه فى قرطبة ويجدون طلبتهم فيها . ولقد وصلت شهرة العاصمة الإسلامية حتى اخترقت ألمانيا البعيدة ، ووصفتها إحدى الراهبات السكسونيات بأنها "جوهرة العالم" . كذلك كانت المدينة التى كان يقيم فيها الحاكم الأموى ورجال حكومته . ويسرنى أن أثبت هنا مقتطفات للأستاذ"عبد الله نعمة" من كتابه "هشام بن الحكم" يتضمن معلومات نافعة فى الموضوع الذى خضناه ، ويتناول بالعرض والنقد طائفة أخرى من آراء المستشرقين ، الصادق منهم والكذوب . قال ـ يروى هذه الفرية عن رينان ثم يرد عليها ـ: " لا ينبغى أن نلتمس عند الجنس السامى دروسا فلسفية ، فإن الفلسفة لم تكن قط عند الساميين إلا عارية ، أخذوها عن غيرهم ، ولم تتعد ظاهر حياتهم ، ولم تكن عظيمة الثمر ، وإنما كانت تقليدا للفلسفة اليونانية . . ولم يفعل العرب أكثر من أنهم تناولوا مجموع المعارف اليونانية ، كما كان العالم كله يقبلها فى القرن السابع والثامن . . وينبغى أن لا نخدع أنفسنا فيمن كانوا يسمون بين العرب فلاسفة ، فلم تكن الفلسفة إلا أمرا عارضا(1/303)
فى تاريخ العقل العربى " . ويستدرك "رينان" بعد هذا الهراء السخيف فيقول : " أما الحركة الفلسفية الحقيقية فى الإسلام ، فينبغى أن تلتمس عند فرق المتكلمين وفى علم الكلام بنوع خاص ". ص _ ص 3
ولكن "البارون كرادى فو" يثبت وجود حركة فلسفية عند المسلمين قبل تعرُّفهم على الفلسفة اليونانية فيقول : " قبل دخول الكتب الفلسفية اليونانية إلى المسلمين ، كان هؤلاء من تلقاء أنفسهم قد أنشأوا حركة فلسفية ، ثم اتسع تفكيرهم وازداد بسبب ازدياد الأثر اليونانى " . فهو يميل إلى وجود الحركة الفلسفية بين المسلمين ابتداء ، لكن نموها ودقتها كانا بسبب دخول العلم اليونانى . ثم قال : "ويرى الدكتور "سارطون" أن بعض المؤرخين يحاولون أن يستخفوا بما قدمه الشرق للعمران ، ويصرحوا بأن العرب والمسلمين نقلوا فقط العلوم القديمة ، ولم يضيفوا إليها شيئا ما ، إن هذا الرأى خطأ ، وإنه لعمل عظيم جدا أن ينقل إلينا العرب كنوز الحكمة اليونانية ، ويحافظوا عليها ، ولولا ذلك لتأخر سير المدنية بضعة قرون" . ولكن ، هل صحيح أن العرب لم يجددوا شيئا بعد اليونان ؟ يقول "نيكلسون" : "وما كانت المكتشفات اليوم لتحسب شيئا مذكورا بإزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلا وضاء فى القرون الوسطى المظلمة ولا سيما فى أوروبا.. " . ويقول "دى فو" : " إن الميراث الذى تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به ، أما العرب فقد أتقنوه وعملوا على تحسينه وإنمائه ، حتى سلموه إلى العصور الحديثة " . فالفكر العربى الإسلامى لم يكن عند هؤلاء راكدا أو ناقلا ، بل كانت فيه الروح والحياة ولم يكن ميكانيكيا ، بل كان مبتدعا . ويؤكد "البنديت نهرو" أن العرب كانوا يحملون روحا استطلاعيا يحاكم ويفكر قال : "... وإن العرب امتازوا بهذه الروح الاستطلاعية مما يجعلهم يُدعَون ـ بجدارة ـ آباء العلم الحديث . لقد صنعوا أول مكبر ، وصنعوا أول بوصلة ، وكان أطباؤهم وجراحوهم ذوى(1/304)
شهرة عالمية طبقت آفاق أوروبا " . ص _ ص 4
ثم قال المؤلف : وإننا لو رجعنا إلى الوثائق والمستندات التاريخية ، والآثار التى تركها لنا العرب ، لوجدنا أرقاما كافية للتدليل على أنهم لم يكونوا ناقلين فحسب ، بل إنهم أضافوا إلى التراث اليونانى ابتكارات وأفكارا جديدة لم يعهدها من قبلهم . إن أكثر ما نشاهده من هذه الخوارق اليوم أو نستخدمه أو نسمع به ، إنما جاء نتيجة تجارب وجهود كثيرة فى قرون متطاولة ، كان العرب يقومون من ورائها ويشاركون ـ بتفوقهم العقلى ـ فى وضعها . وقد يكون هذا القول مفاجأة تثير التساؤل لأول وهلة ، ذلك أن تراث العرب مجهول لنا ولكن الحقيقة ينبغى أن تبرز ، ورجوعنا إلى الوثائق الثابتة يؤكد أن للعرب القدم الراسخة فى أغلب العلوم المعروفة اليوم ، وفى الكشوف الحديثة ، وسنثبت ذلك فيما يلى : 1ـ دوران الأرض حول الشمس : إن الفكرة الشائعة هو أن أول من تكلم عن دوران الأرض حول الشمس هم "جاليليو" و "برونو" و"كوبرنيكوس" لكن الواقع أن السابق لهم جميعا فى الكلام حول دوران الأرض هو "عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد" الذى عاش قبل هؤلاء بمائتى سنة على الأقل . 2ـ الجاذبية : والمعروف أن أول من تكلم على الجاذبية واكتشفها هو "إسحاق نيوتن" حين علل سقوط التفاحة من الشجرة بجاذبية الأرض لها . ولكن سبقه إلى ذلك "الرازى" بمئات السنين ، فقد عاش فى القرن السادس الهجرى وعلل "المدرة" التى رماها وسقطت بعد ارتفاعها ، وانتهى تفكيره إلى القول بأن فى الأرض قوة قاهرة تحكم على الأشياء بالانجذاب إليها . 3ـ البصريات : والحسن بن الهيثم هو أول من وضع علم البصريات منذ حوالى ألف سنة ، الذى له الأثر العظيم فى الحياة المعاصرة ، ذلك العلم الذى يبحث فى سقوط الأشعة والضوء على الأجسام الثقيلة . وبهذا العلم اتصلت نظريات الضوء وانفتح الباب أمام مخترعات كثيرة ، واستحق ابن الهيثم به أعظم التقدير من علماء أوروبا فقد قال عنه "(1/305)
فياردو" : ص _ ص 5
"إن ابن الهيثم هو العربى الذى تعلم منه رجالنا الكبار من أمثال العلامة "لبكر..." . 4ـ الرياضيات : ومن الثابت أن "محمد بن موسى بن شاكر" هو واضع علم الجبر بأمر المأمون العباسى فى القرن التاسع الميلادى ، وعنه أخذته أوروبا ، ولا زالت تسميه باسمه العربى "الجبر" . وأولاد موسى وهو "محمد" و "أحمد" و "الحسن" هم الذين وضعوا المعادلات الرياضية . وعلى هدى تلك البداية العربية للرياضيات ، كانت تلك المخترعات الهائلة كالصواريخ والأقمار الاصطناعية والراديو وسواها . 5ـ الكيمياء : وينبغى أن لا ننسى فى هذا المضمار إمام الكيمياء "جابر بن حيان" واتكاء أوروبا بعد نهضتها على كشوفه ، واحتياجها إلى ترجمة كتابه "الاستتمام" الذى نقلته إلى اللغة اللاتينية عام 1682 ميلادية لتتعلم منه ما لم تكن تعلم . وقال "برتيلو" عن جابر بن حيان : "إن له فى الكيمياء ما لأرسطو فى المنطق" . ويتبين بذلك أنه ابتكر الكيمياء ، كما ابتكر "أرسطو" المنطق . والثابت أن علماء العرب أحدثوا ثورة علمية عظمى ، واكتشفوا "الكحول" ، و "حامض الكبريتيك" ، و "حامض النيتريك" ، و "البوتاس" ، و"ملح النشادر" ، و "الراسب الأحمر" . وهم من أول من استخدموا الطرق الجديدة فى عمليات الكيمياء : كالتقطير ، والترسيب ، والتصعيد ، والتذويب ، والبلورة ، والتحويل . وهم أول من اخترع الساعة الدقاقة والساعة المائية ، وقد أهدى "الرشيد" ساعة دقاقة إلى الإمبراطور "شرلمان" فكانت أعجوبة أوروبا فى ذلك الوقت ، وقد شاهد السائح بنيامين منذ 700 سنة فى الجامع الأموى فى دمشق ساعة ذات أثقال أخذ منه الذهول لمرآها كل مأخذ . وكانت الساعة تحتوى على فتحات بعدد ساعات الليل والنهار ، فإذا انقضت ساعة وقع من فم طائر مصنوع من نحاس كرة فى حجم البندقة ، فيحدث رنين واضح ، ويمد الطائر عنقه ، ثم يغلق الباب على فتحة من الفتحات فيعرف الناظر إليها كم مضى من الليل والنهار(1/306)
. ص _ ص 6
وأسطورة "رينان" فى العقل العربى السامى ، التى خدعت أناسا كثيرين هى من الأساطير التى يشيدها الوهم والخيال ، ولا تعتمد على أساس صحيح ، إنه يحتكر التأمل الفلسفى ودقة التفكير على العقل الآرى ، وأما العقل السامى فهو سطحى راكد لا حياة فيه ولا يتعدى الظواهر !!! وما أقرب أن تكون هذه الفكرة استعمارية ، يذيعها المستشرقون باسم العلم والفلسفة والتاريخ ، أجل هم يشيعون هذا ليخلقوا عقدة نفسية عند العرب ، وليزعزعوا إيمانهم بتفكيرهم ، ولينتزعوا ثقتهم بأنفسهم ، وليبعدوهم عن الانتفاع بآثار الفكر العربى والاستفادة من تراثهم القديم . إنها فكرة مصدرها الاستعمار الذى لم يكتف بانتزاع أوطاننا وثرواتنا ، ثم أخلاقنا وديننا ، لم يكفه كل ذلك حتى أخذ يعمل على انتزاع أثمن ما يملكه إنسان وهو ثقتنا بتفكيرنا وأنفسنا ، إنه يعمل على ذلك ، ليضع الخط الدفاعى عن استعماره ، وليخلق فينا عقدة النقص ، وليشعرنا بقصورنا عن حل مشاكلنا ، ولنقف فى جهودنا وتفكيرنا ، ولنعتمد على المستعمرين فى أخذ كل فكرة ترد عنهم أخذ المسلمات دون تأمل ولا مناقشة ولا محاكمة ، لأننا لا نملك القدرة على التأمل والمناقشة والمحاكمة ، ولننظر إليهم على أنهم الآريُّون أصحاب الفكر الدقيق والنظر العميق نظرة التقديس والإكبار ، أو نظرة العبد إلى سيده . إن وراءها ـ بدون شك ـ غاية استعمارية واضحة ، والجدير بالذكر أنهم أرادوا أن يسلبونا الثقة حتى بسعة الخيال ، فقد قال بعض المستشرقين : " إن العرب ضيقو الخيال ، وإن سعة الخيال وعمق الفكر وقف على الآريين ، وإذا عرض عليهم ابن الرومى الشاعر آمنوا بخياله وعمق تفكيره ، ولكن قالوا : إن جده رومى من عنصر آرى ، وإذا عرض عليهم "المعرى" قالوا : إنه لا خيال له لأنه عربى صميم " . وإخال أنه لا حجة لديهم فى إنكار عمق تفكيره وسعة خياله اللذين يبدوان فى كتابيه "اللزوميات" ، و"رسالة الغفران" إلا لأنه عربى صميم "(1/307)
. * * * الهدم التاريخي الذى يحمل رايته المبشرون وأغلب المستشرقين ، غايته كما نرى إفقادنا الثقة بأنفسنا ، واليأس من حاضرنا لأنه لا ماضى لنا ، ولا عراقة...!!! وهيهات وهيهات ، فيكفى من آثارنا الغائرة فى التاريخ ، الخالدة على الزمن ، أننا نحمل رسالة الحق ، ونتلو آياته ، وأن أمجادنا القديمة إذا غطاها نكران الجميل حينا ، فلابد أن تعرف على وجهها الصحيح ، طوعا أو كرها ، وحبل الباطل قصير . * * * ص _ ص 7(1/308)
الهدم العسكرى كلا الهدمين : الروحى والتاريخى ، يستقى عرامته خباثته من التفوُّق السياسى والحربى الذى ظفر به خصوم الإسلام فى القرنين الأخيرين . وهو تفوق يرجع إلى ازدهار العلم المادى والنشاط العمرانى فى العالم غير الإسلامى . على حين هبطت القيم الأدبية والمادية فى بلادنا هبوطا شنيعا ، وفتكت بأمتنا علل نفسية وجماعية لا حصر لها . علل نبتت فى ربوعها مُذ خف تمسكها بالإسلام وعلمها به وعملها له . ولا عجب فالحقل الذى لا يزرعه صاحبه وينصرف عنه ، يزرعه الشيطان بالشوك والحسك ، أو يبقى جدبا لا ترى فيه إلا الطين ... ومُذ أهمل المسلمون رسالتهم ، وتخففوا من أعباء الجهاد لها ، والسير فى سناها. أخذت سفينتهم تترنح ، وتكاثرت فى جوانبها ثقوب الحمقى ، فما هى إلا مرحلة أو مرحلتان حتى ترسب إلى القاع !!. وكان المستعمرون من اليهود والنصارى يرقبون النتائج المحتومة فلم يضيعوها. وكيف يضيعونها وهم لم يفتروا عن مناوشة هذه الأمة فى عنفوانها ؟ أفيتركونها وقد أثخنتها الجراح ، وبدا للأعين أن شمسها غابت أو آذنت بمغيب؟ لقد وثب الاستعمار شرقيه وغربيه على الأمة المهيضة ، واستبقت الذئاب المتربصة نحو الغنيمة الباردة ، فعادت كل دولة من دول أوروبا بقطعة من أرض الإسلام ، ثم أعلنت فى أرجاء الدنيا أن هذه القطعة أمست لها .!! وصحا المسلمون من غيبوبتهم ، كما يصحو النيام فى دار امتد الحريق إلى جميع غرفاتها ، فهم فى فزعتهم ، مقسمو الجهود بين استنقاذ للمال والولد ، وحصار للنار الممتدة فى كل ناحية ، ومحاولات للإطفاء أو للنجاة ، وهول لا يُعرف مداه ولا تُدرى عقباه . وظهر جليا أن أعداء الإسلام قد صمموا على أمر واحد ، يسرعون إلى إنفاذه إن أمكنتهم اليدان ، أو يرجئون تحقيقه ساعة بعد أخرى إن اعترضتهم عوائق غير منظورة . ص _ ص 8(1/309)
هذا الأمر الواحد ، هو الإجهاز على الإسلام وأمته ، ودفن رفاتهما تحت جنادل قائمة لا ينبعثان منها أبد الدهر . والموقف الآن بعد صراع قرنين ، بين المغيرين المزوَّدين بكل سلاح ، والمدافعين الذين يقاومون بما تيسر (!) يتلخص فى أن الاستعمار تمكن من إقامة "إسرائيل" فى أرض فلسطين تمهيدا لشطر الكيان الإسلامى كله ، فى هذا الجزء الحساس منه . كما تمكن من الاحتفاظ بالجزائر فى حوزته ـ برغم كفاح أهلها الباسل الرائع الكريم . وهو يستهدف من إقامة ـ إسرائيل ـ توسيع النطاق الذى تخيله بعد محو العروبة والإسلام من الأقطار المجاورة . كما يقصد من الاحتفاظ بالجزائر إمكان الوثوب على الشمال الإفريقى كله حين تسنح الفرصة . وإلى جانب هذا وذاك فقد أنشأ الاستعمار له قواعد مكينة فى وسط إفريقية . وفى شرقها وسع رقعة الحبشة على حساب الشعوب الإسلامية ، وفى غرب إفريقية تراه يصنع دويلات نصرانية الحكم فى أمم إسلامية !!. أما فى آسيا فقد أطلق القاديانية فى "باكستان" فجعلها تولد ميتة ، وشجع الخيانات فى كل ناحية ، ومهد للإلحاد والفساد ، فإذا الشيوعية تبتلع عشرات الملايين من المسلمين فى روسيا . والذى لم تأكله الشيوعية يحيا مزعزع الإيمان سقيم الوجدان . . والخطة الاستعمارية ماضية فى طريقها ، وفق سياسة توضع بالنهار ولا تبيت بالليل ، غرضها واضح ، لا إسلام بعد اليوم . ومن المغفلين من يحسب قضية فلسطين صراعا بين "مليونى" يهودى و "مليونى" عربى ، على قطعة من الأرض اغتصبها هؤلاء من أولئك ..!! كلا ، إن الصراع عالمى بين الدول المكلفة بقتل الإسلام والفتك بأتباعه ، وبين العرب والمسلمين جميعا . . واليهود ليسوا إلا أداة فى يد الآخرين . الآخرين الذين يقولون ـ دون حياء ـ إن إسرائيل خلقت لتبقى . ولو صرحوا بما ينتوون لقالوا ـ للمسلمين جميعا ـ إن بقاءكم أنتم أيضا مرهون بأجل قريب ، ثم تذهبون إلى حيث ألقت . ص _ ص 9(1/310)
ومأساة الجزائر تحمل الطابع نفسه ، وانحصار القتال فيها الآن لضرورات موقوتة ، وإلا فالهدف الكبير سحق المسلمين فى هذه المناطق من الشمال الإفريقى كله . . والهدم العسكرى الذى تتعرض له الأمة الإسلامية ، بدأ على نطاق واسع فى أخريات القرن التاسع عشر الميلادى ، ولم يتأخر فى الوصول إلى غاياته المرسومة إلا لما ينشب من حروب بين المستعمرين أنفسهم . وكلما هادن بعضهم بعضا شرع الزحف الحقود يضطرد فى مجراه ، لا يحيد قيد شعرة عن أمله وعمله ، أمله فى قتل الإسلام ، وعمله لتقريب الوفاة . . وعلى الداعية المسلم ـ وهو يقاوم هذا الهدم ـ إفهام أمته أن ذلك ليس إدراكا لثأر قديم ـ كما يزعم المستعمرون ـ وإنما هو تجديد لعدوان سابق ، وتكرير لمآس سلفت . فإن الإسلام يرعى حق الحياة لمخالفيه ، ويعاملهم على قدم المساواة مع أتباعه . ولذلك فهو أبعد ما يكون عن التعصب والاعتداء . أما النصرانية ، فهاك ما يكتبه عنها أحد مفكرى الغرب الكبار وهو الأستاذ "بابيه" ترجمة الدكتور "عبد الحليم محمود" . " أثبت ذلك الباحث أن السبب البارز ـ بل السبب الوحيد ـ الذى جعل "الإمبراطور قسطنطين " يتخذ المسيحية دينا رسميا إنما هو ما رآه فيها من التعصب الذى لا يوجد فى غيرها من الأديان المعروفة على عهده ، والمنتشرة فى "روما" يوم ذاك . لقد رأى أن هذا التعصب هو الذى سيشد أجزاء الإمبراطورية برباط من حديد ، ويمنع عوامل الاسترخاء والتحلل التى أخذت منذ أمد تسرى فى أوصالها . وكان الإمبراطور مبتئسا محزونا لحال مملكته المترامية الأطراف ، ولملاحظته بوادر التفكك فى كيانها الرحب . فوجه جهده لجمع هذه الأشلاء ، التى توشك أن تتداعى . فلما نظر إلى الأديان السائدة ، وجدها ثلاثة متعادلة ، انتشرت بينها العداوات فكل منها يصارع الآخر ليصرعه . وهو ـ عندما نظر إليها ـ لم يلتمس فى أحدها الهداية والرشاد . ولم يكن باحثا عن النجاة فى الدار الآخرة . إن ذلك لا يعنيه(1/311)
بقدر ما يهمه اختيار أشدها تعصبا ، وأكثرها استعدادا للتنكيل بالمخالفين ، والاستئثار دونهم بالحياة والسلطة. ص _320
ولقد وجد ضالته المنشودة فى المسيحية ، فاختارها بعدما وثق من تحقق آماله فى رجالها ، وقرر ـ لهذا السبب فحسب ـ جعلها دينا رسميا للإمبراطورية ... ". ثم وكل إليها أن تستأصل شأفة اليهود ، والوثنيين . وتحقق للسياسى الداهية ما يريد ، فإن الحاكم يعبد دولته كما يعبد الشحيح ثروته ، وهو يتخذ كل شئ وسيلة لتوطيد حكمه ، وإعلاء شأنه وحده . وقد حاولت المسيحية ـ لما ظهر الإسلام ـ أن تطبق عليه قانونها العتيد ، وأن تعامله بخاصتها الفريدة . فلما أعجزتها صلابة المؤمنين به تولت عنهم وهى تصمهم بأقبح السباب . . وظلت ـ على بُعد ـ تتربص بهم الدوائر حتى إذا لاحت فرصة للوثوب ، هجمت لتلغ فى الدم الحرام ، وتنفرد فى الأرض بالبقاء …… عيب الإسلام أنه عرف هذه العلة ، وتغلب عليها ، ولم يضعف أمام الحاقدين .. إن طبيعة الصلة بين النصرانية والإسلام تشبه ـ إلى حد بعيد ـ طبيعة الصلة بين "الشيوعية" أو "النازية" وبين النظام البرلمانى الأصيل . فإن ذلك النظام يحقق للأفراد والجماعات أنصبة مطلقة من حرية القول والعمل ، ومن حق الحياة والتجمع والمعارضة . . وفى ظل هذا الوضع الديمقراطى يستطيع "الشيوعيون" أن يظهروا ، وأن ينشروا رأيهم وأن يهاجموا خصومهم ، وأن يكون لهم حزب معترف به . وذلك كما نرى فى "إنجلترا" و"فر نسا" و "إيطاليا" وغيرها . فإذا حدث أن تكونت للشيوعيين كثرة محدودة وصلت بهم إلى الحكم تغيرت الأوضاع القديمة للفور ، وألغيت الأحزاب الأخرى ، وخنقت الآراء الناقدة ، وأمسى مفروضا على المعارضين أن يذوبوا ، أو يتجمعوا ـ إذا شاءوا المخاطرة بأعناقهم ـ فى جوف الليل ، وفى خفية عن الرقباء ، كما نرى فى "روسيا" و "الصين" وغيرهما . . وهكذا الحال بالنسبة إلى الإسلام ، إنه يمنح غيره ضمانات البقاء كلها ، ولذلك عاش الكافرون(1/312)
به فى كنفه دون حرج . ذلك أن طبيعته فى المعاملة إذا حكم ، هى هذه الديمقراطية الراقية . أما إذا حكم غيره ، فإن الأرض الفضاء ستضيق به ، وفرص البقاء ستنعدم أمامه . ص _321
وذاك هو السبب فى أن المسيحيين عاشوا فى الأندلس يوم كان الحكم فيها إسلاميا . فلما انهزم المسلمون وتحول الحكم إلى أيدى الصليبيين لم يُسمح للإسلام ولا لأمته ببقاء . ففنى وفنُوا جميعا فى هذه البقعة من أرض الله . وما زالت المأساة تتكرر فى غيرها من أقطار الأرض . هل مرونة النظام الديمقراطى عيب فيه ؟ وهل سعة أفقه جناية عليه ؟ كذلك يظن بعض الناس ، وهم يردون مصارع الديمقراطية فى البلاد التى تلاشت فيها ـ كألمانيا النازية مثلا ـ إلى هذه العلة . والأمر يستدعى التأمل أو التحسر ، فإن تقوض النزعات الإنسانية الراقية أمام المذاهب الحاقدة ، يعطى هذه النزعات حقوقا أن تخرج على طبيعتها حينا لتصون نفسها ، وتحفظ بقاءها . . وإذا كان التعصب للنفس وحدها ديدن الصليبية إذا حكمت ، فمن الواجب إيصاد أبواب الحكم أمامها ، وكذلك الشيوعية . والغشاوة المضروبة على أعين هؤلاء وأولئك والتى تجعلهم يحسبون الحق هو ما عندهم وحدهم ، والباطل هو كل ما لدى غيرهم ، لا تعطيهم بداهة أى حق ضد الآخرين ، فهى غشاوة جهالة ، وجشع ، وضيق فطن ، أكثر من أن تكون غيرة على الحقيقة المعتنقة !. والغريب أن الصليبية لما انقسمت على نفسها مذاهب متعددة ، عامل كل مذهب مخالفيه فى الرأى على قاعدة : "البقاء للأقوى" و "الويل للمغلوب" و "لا حق إلا عندى" . والأغرب من ذلك أنها تتهمنا ـ نحن المسلمين ـ بالتعصب . وقد كتب الأستاذ "عبد الرحمن الشرقاوى" يشرح هذا المعنى فقال : " جرت عادة المستعمرين من الإنجليز والفرنسيين ، كلما تناول خطباؤهم أو كتابهم الكلام عن الشرق والشرقيين ، أن يتعرضوا ـ من قريب أو بعيد ـ إلى خلائقنا ، ليُلصقوا بها ما تفرق من نقائص البشرية ، كأنها خصائصنا اللازمة . وهم(1/313)
يبادرون فيرموننا بما فيهم من طبائع الجور والنفاق والشهوة . ولا يزال فى مقدمة ما يتجنّون به علينا ، نسبة التعصب الدينى إلينا . ص _322
وهم يسلكون إلى ذلك سبيل الزيف والتلفيق "خصوصا الإنجليز والفرنسيين" ، ولا يرجعون فى ذلك إلى شاهد صدق من التاريخ . والعجيب فى الأمر أن وصمة التعصب الدينى أظهر ما تكون فى تاريخ كلتا الأمتين ، كما رواه الثقات الأعلام من مؤرخيهما . فإن فرنسا الكاثوليكية لا يسعها فى سجل تاريخها إلا أن تذكر اضطهاداتها لرعاياها البروتستانت طوال قرنين من الزمان ، كانت واسطة عقدهما مذبحة "سان بارتلوميو" التى بلغ عدد ضحاياها فى "باريس" وغيرها من المدن الفرنسية نحو الثلاثين ألفا من البروتستانت فى مدى شهرين . ولقد ظل أشياع هذا المذهب من الفرنسيين مغبونين مضطهدين لا يعرفون طعم الحرية الدينية ، حتى كانت الثورة الفرنسية . أما فى الإمبراطورية البريطانية ، فليس أدل على التعصب الدينى عند الإنجليز البروتستانت من سوء معاملتهم للكاثوليك فى إيرلندة . فقد سمحت "إنجلترا" بقيام برلمان فى "إيرلندة" ولكنها جعلته مقصورا على البروتستانت دون غيرهم ممن يخالفون الإنجليز فى الدين . فإذا ذكرنا أن الكثرة فى "إيرلندة" هى للكاثوليك المحرومين ، تمثل لنا التعصب الإنجليزى فى أرذل مظاهره وأسمجها وقاحة ، وأنكلها تضييعا للحقوق المدنية وإهدارا للكرامة القومية . ولقد كان هذا البرلمان البروتستانتى الذى صنعه الإنجليز فى "إيرلندة" شوط عذاب على "الكاثوليك" . فقد جعل يصدر كل جائر من القوانين ، ويصبها أكداسا على أكداس فوق رؤوسهم ، حتى قال أحد المؤرخين المحدثين الإنجليز ـ على الرغم من اعتداده بإنجليزيته -: إن هذه القوانين تُعد شر ما ورد فى اللغة الإنجليزية وعبر عنه اللسان الإنجليزى . كان من تعصب الإنجليز على الكاثوليك أن لم يكف حرمانهم من حق التمثيل فى برلمانهم الإيرلندى ، بل صدرت القوانين إثر القوانين بحرمان(1/314)
الكاثوليك من العمل فى أية وظيفة من وظائف الدولة ، ومن حق الانتخاب النيابى ، وكذلك من الاشتغال بالمحاماة أمام المحاكم ، ومن مزاولة صناعة الطب ، وما شابه ذلك من مرافق العيش ، حتى القيام بحراسة غابات الصيد حرم على القوم . ص _323
فلما صمد الكاثوليك لهذا الحرمان من وسائل العيش وأسبابه ، طلع عليهم البرلمان البروتستانتى بقوانين أخرى تعمل على تفكيك الأسرة ، وقطع وشائج الأرحام بين الأخ وأخيه ، وبين الأب وابنه ، لعلمهم بما قد يؤدى إليه فصم العُرى العائلية من توهين العصبية القومية . ومن أمثلة ما شرعوه لهذا الغرض من تشريعاتهم ، أنه إذا طاب للولد الكاثوليكى أن يعتنق المذهب البروتستانتى ، فقد سقطت ولاية والده عليه ، ووجب انتزاع الولد من والده وإيداعه فى كنف وصى بروتستانتى ، مع الحكم على والده بأداء نفقته . وأبلغ من هذا نكاية بالرجل الكاثوليكى وأشد تحريضا عليه وإغراء به ما يوجبه القانون عليه إذا ارتأى أخوه الأصغر اعتناق البروتستانتية ، فإن الأخ الأصغر فى هذه الحالة يخلفه على كل ما يثبت له ، ويصبح الصغير البروتستانتى بحكم القانون رب الأسرة . ومما تناولته هذه القوانين الجائرة من الشئون الخاصة ، أنه ليس لكاثوليكى أن يرث من مات من أهله بغير وصاية ، ولو كان أقرب أقربائه ، وأمسهم به رحما . وأما الزواج فقد كان محرما عقده بين البروتستانت والكاثوليك مع ما بينهما من جامعة المسيحية . فإذا اجترأ قسيس على عقد مثل هذا الزواج اعتبر باطلا . وإذا كان الزوج الكاثوليكى محاميا سقط حقه فى مزاولة مهنته ، وأما القس فقد حق عليه الشنق . ومن غرائب هذه القوانين التى تشبه النوادر ، تحريمها على الكاثوليكى اقتناء جواد يربو ثمنه على الخمسة جنيهات ، حرمانا له من مظاهر الوجاهة . فإذا ثبت أن جواده أعلى من ذلك قدرا ، وجب أن يجد له مشتريا بروتستانتيا ، وأن يبيعه إياه بخمسة جنيهات فقط . وفى هذه الشذرات ـ ولا شك ـ الكفاية ،(1/315)
وفوق الكفاية ، للدلالة على ما أصدره البرلمان الإيرلندى البروتستانتى ـ صنيعة الإنجليز ـ من قوانين ظلت أمدا غير قصير سارية نافذة على الكاثوليكية فى الجزيرة الإيرلندية . ولا نحسب القارىء يستغرب ـ بعدما قدمناه من عجائب هذه القوانين ـ حين يعلم أن تشريعاتها الأولى قضت ـ فيما قضت به ـ بالقبض على كل كاثوليكى تسوّل له نفسه الجريئة أن يكون بين المتفرجين فى شرفة البرلمان . " أ. هـ . * * * ص _324
هذه هى أساليب المعاملة بين شتى الطوائف المسيحية هناك . وقد انكسرت حدة هذه الأحقاد قليلا مع انتشار العلم ، وشيوع الإلحاد ، وبغض الكثيرين لنتائج الخلاف الدينى التاريخى القديم . لكن هذه البغضاء لم تختف فى الواقع ، بل توارت تحت ألبسة من الختل والمداهنة قضت بها ضرورات موقوتة . على أن المؤسف أنها بالنسبة إلى الإسلام لم تزدها الليالى إلا ضراوة . ولنذكر مثلا مما حدث فى طليعة هذا القرن ، قبل أن نفيض القول فيما يقع الآن: حينما نشبت حرب البلقان عام 1912 بين الدولة العثمانية من ناحية ودول البلقان المؤلفة من (اليونان ، وبلغاريا ، والصرب ، والجبل الأسود) ، من ناحية أخرى ، خشيت الدول الأوروبية أن تنتهى الحرب بانتصار الدولة العثمانية ، فأعلنت الدول الأوروبية الكبرى قرارا حاسما بلسان المسيو "بوانكاريه" وزير خارجية فرنسا صرح فيه نيابة عن تلك الدول بأنه لا يسمح للمنتصر فى هذه الحرب بأن يجنى ثمرة انتصاره ، أو يضم أى جزء من أراضى خصمه المغلوب إلى بلاده . ولما انتهت تلك الحرب بتغلب دول البلقان على الدولة العثمانية ، وفتكت الجيوش البلقانية بالمسلمين نساء وشيوخا وأطفالا فى وحشية هائلة وصفها المرحوم أحمد شوقى فى قصيدته : يا أخت أندلس عليك سلامُ هوت الخلافة عنك والإسلام بدلت الدول الأوروبية الكبرى موقفها فورا ، وأعلنت موافقتها على ضم البلاد العثمانية التى احتلتها دول البلقان إليها ، وهى ولايات "الرومللى" جميعا(1/316)
المؤلفة من: (سلانيك ، مناستر ، قوصوة ، يانية ، شقودرة ، والرومللى الشرقى) . ولم يبق للدولة العثمانية من أراضيها الشاسعة شرقى أوروبا ، والتى كانت الكثرة الساحقة من سكانها مسلمين بل كان عدد المسلمين فيها حينئذ نحو خمسة عشر مليونا ، إلا "أدرنة" التى استرجعها الجيش العثمانى قبيل إنهاء تلك الحرب . ولما ذكرت الدولة العثمانية حينئذ الدول الأوروبية بقرارها المذكور كان جوابها: "إن ما يأخذه الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب أما ما يأخذه الصليب من الهلال فلن يعود إلى الهلال " . وعلى أثر ذلك بعثت الدولة العثمانية بأحد وزرائها ، وهو "سليمان البستانى" المسيحى ، لمقابلة "بوانكاريه" ، وتذكيره بتصريحه الرسمى فى بداية الحرب . ص _325(1/317)
فلما قابله واسترعى نظره إلى نتائج هذا الموقف ، وسوء تأثيره على عواطف مئات الملايين من المسلمين الذين تحكم فرنسا جزءا وافرا منهم أجابه بوانكاريه : "مسيو بستانى ، إنك مسيحى عاقل وإن هذه الملايين لو اجتمعت كلمتها وانتظم عقدها لحسبت أوروبا حسابها ، وأما فى حالتها الحاضرة فليس لها أى وزن" . * * * وقد تضطر دول الغرب تحت ضغط الوجل من الحروب ، والرهبة من دمارها والاتعاظ بما عانت من آلام ، قد تضطر للاحتكام إلى بعض المواثيق الإنسانية ، والخضوع لمعاهدات عالمية . ولكن ذلك كله يُنسى إذا كان الأمر متصلا بالمسلمين ، إن منطق الحقد وحده هو الذى يعلو . ولذلك كان السلطان "عبد الحميد" رحمه الله يردد هذه الكلمة فى كثير من المناسبات : "إن لدى الدول الأوروبية ميزانين ، أحدهما بالنسبة لجميع شعوب العالم وهو يزن الأمور بالعدل والقسطاس ، وأما الآخر فهو بالنسبة لنا نحن المسلمين وهو ميزان جائر خاسر" . * * * * حديث ذو شجون . الدعاة المسلمون فقراء كل الفقر إلى تعرُّف ما أصاب دينهم وأمتهم من كوارث التعصب ، وفواجعه القديمة والحديثة على سواء . ولو أفردت لهذا الموضوع مادة علمية مستقلة فى دراساتهم التاريخية والإسلامية ، لما كان ذلك كثيرا . ويخيل إلى أن هذا الجهل الشائع ، إما أن يعود إلى غفلة حقيقية سوف تنتهى بصاحبها إلى التلاشى حتما . وإما أن يكون أثرا لخطة مرسومة ، تستهدف تجهيل المسلمين فى أسباب عطبهم ، حتى يُستدرجوا إليها وهم بله ، ثم يتخلص خصومهم منهم فى صمت . وددت لو أن جمعا كبيرا من هؤلاء الدعاة كان معى عند السيد "أمين الحسينى" مفتى فلسطين وهو يسرد علىّ أطرافا من مآسى الحقد التى تعرض لها العرب ص _326(1/318)
والمسلمون فى الآونة الأخيرة ، والتى أصابتهم بجراح لن تندمل أبدا ، بل ستظل تقطر دما على اختلاف الليل والنهار أو يقضى الله أمرا كان مفعولا . كان هذا الرجل يتكلم ، وليس فى صوته رنين حزن ، لا لأن شعوره ضعيف بالنكبة التى اجتاحت دينه وقومه فى فلسطين ، كلا ، فإن أثر النكبة راسب فى أغوار حسه ، ولكنه كما قال أبو الطيب : رمانى الدهر بالأرزاء حتى فؤادى فى غشاء من نبال فصرت إذا أصابتنى سهام تكسرت النصال على النصال كان الرجل مثلا للإسلام المكافح فى معركة لا تكافؤ فيها ولا عدالة . ولكنه ـ بدوافع اليقين والرجاء ـ يصابر الأيام ولا يفكر بتة فى الانسحاب من الميدان . . سمعته يتحدث ووعيت منه حقائق كثيرة ، أثبت نبذا منها فى هذه الصحائف علها تكون عبرة للعقلاء ، وذكرى للمؤمنين . قال : إن قصار النظر من المسلمين يحسبون أن أوروبا وأمريكا هجرتا الدين وابتعدتا عن إيحائه الجلى والخفى فى الشئون المحلية والعالمية . وهذا غلط فاحش ، بل جهل مطبق بما يدور فى العالم من أحداث ، وما يقوم وراءها من نيات ، وما يطلب بها من نتائج . فليس يخفى على ذى بصيرة أن الناحية الدينية لها الأثر الأكبر فى توجيه السياسة الدولية ، وأن التكتلات القائمة على شتى العقائد ، هى التى تمسك بزمام الأمور وتديرها وفق هواها ، مستعينة بالأوضاع الاقتصادية والعسكرية وما إليها . وأمام العالم الإسلامى اليوم خمس كتل متميزة تدور فى علاقاتها العامة حول محور ثابت ، ولا تنسى نفسها أبدا فى زحمة المؤتمرات والمؤامرات ، أو حركات الجذب والإرخاء فى المؤسسات الدولية المعروفة . ( أ ) هناك الكتلة البروتستانتية التى تقودها أمريكا وإنجلترا ، وكلتا الدولتين تعاون الأخرى وتشذ أزرها فى السياسة العالمية ، ولما كان البروتستانت شديدى الاعتماد على مقررات العهد القديم ، والاهتمام بأحكامه فإن ذلك قوى آصرتهم باليهود ، ودفعهم إلى مناصرتهم ضد العرب ، باعتبار أن إقامة وطن(1/319)
قومى لليهود قد قالت به نصوص العهد القديم المعترف به منهم جميعا . ص _327
ومن ثم أعطت إنجلترا وعد "بلفور" بإنشاء هذا الوطن ، وقامت "أمريكا" بتنفيذه بعد ذلك . والدولتان الآن متفقتان على حماية "إسرائيل" بعد خلقها بالقوة ، وهو اتفاق تغذيه عقيدة مشتركة من احترام التوراة ، وعداوة مشتركة من كراهية القرآن . ومع أن مصلحة "أمريكا" و "إنجلترا" كانت تنقضى باسترضاء العرب ، لإمكان إنشاء أقوى جبهة ضد الشيوعية ، بيد أن الدولتين تضحيان بهذه المصلحة الظاهرة ، تحت تأثير ذكريات دينية وأحقاد تاريخية . (ب) وهناك الكتلة الكاثوليكية ، وهى تنتظم فى سلكها بضعا وعشرين دولة فى جنوب أوروبا ووسطها وفى أمريكا اللاتينية بأسرها ، عدا الطوائف الكاثوليكية الكثيفة المنتشرة فى العالم . والجميع يلتفون حول الفاتيكان ، ويرونه المصدر الروحى لكل توجيه نافذ . وأغلب الدول الكاثوليكية تخضع خضوعا تاما لمشيئة بابا رومة ، وتستمد منه فكرها وعاطفتها . ويلاحظ أن البابا حمى أسبانيا من كل شرّ فى أعقاب الحرب العالمية الثانية ، مع أنها انضمت إلى دول المحور ، وكان المفروض أن تتعرض لشئ من العقوبات الاقتصادية . لكن سلطان الفاتيكان لم يحمها فقط ، بل قدم لها معاونات مالية سخية لإصلاح شئونها الاقتصادية . (جـ) وهناك الكتلة اليهودية . . وبنو إسرائيل . . وبنو إسرائيل لا يزيد تعدادهم فى الأرض على ستة عشر مليونا ، ولكنهم فى البقاع التى يوجدون فيها يملكون من أسباب السيطرة المادية والأدبية ، ما يجعلهم أقدر من أمة كالصين أو الهند تضم مئات الملايين . واليهودى حيث كان ابن عقيدته وجنسه ، وعصبيته لدينه وقومه لا يرجح أمامها شئ . فهو فى "روسيا" يهودى قبل أن يكون شيوعيا ، وفى "أمريكا" يهودى قبل أن يكون رأسماليا . وقد استطاع يهود "روسيا" و"أمريكا" أن يجعلوا سياسة الدولتين تتحد ضد العرب على تكوين إسرائيل ، برغم ما بين الدولتين من خصام سافر عنيف . ص(1/320)
_328
ويهود العالم يتحركون وفق سياسة دقيقة ، يرسمها لهم مجلس حكماء صهيون ، توضح لكل جماعة منهم دورها الذى تقوم به كى تبقى لليهود مكانة متميزة فى أرجاء العالم . وهمهم الأول الآن هضم القطعة التى التهموها من كيان الإسلام وأمته ، والتهيؤ لمزيد بعدها . . والتعاون مع الاستعمار لإدراك هذه المآرب . ( د ) وهناك الكتلة الشيوعية ، وتضم الآن "روسيا" ، و" الصين" ، و"رومانيا" ، و"بلغاريا" ، و "المجر" ، و" بولندا" ، و "تشيكوسلوفاكيا" ، و"ألبانيا" ، و"يوغوسلافيا"، وجملة أحزاب ضخمة ينتسب لها قريب من ثلث السكان فى "إيطاليا" و"فرنسا" ، ودول أخرى . والشيوعى يدين بولائه لمذهبه ، ويتجه فى قبلته إلى "روسيا" ، والشعوب الضالعة معها ، ولا ينظر إلى وطنه إلا من خلال هذا الولاء المقدم . وبديهى أنه لا يعرف له ربا ، وهو يكره الأديان على العموم ، ولكن بغضاءه للإسلام أشد . إذ إنه يراه مزودا بطاقة من اليقين أقوى ، وجملة من الشرائع المالية والاجتماعية تغنى عن أى نظام آخر . ولذلك لم تظهر الشيوعية إلا فى أوروبا ، ولم تجد لها موئلا فى أنحاء الوطن الإسلامى الرحب إلا حيث أفلح الاستعمار فى زلزلة العقيدة ، و إبعاد التشاريع والتقاليد الإسلامية من الحياة العامة . وإذا استقرت الشيوعية فى بلد فمعنى هذا الاستقرار أن الدين كله مات ، وأن الإسلام ـ على الخصوص ـ قُضى عليه ، وأن ما بقى من رفاته رسوم لا وزن لها ولا أثر ، تتخلف عن العدم قليلا ، ثم يدركها المصير المحتوم . (هـ) وهناك الكتلة الوثنية ، ومركزها الرئيسى جنوبى آسيا ، وإن كانت مجاهل أفريقية لا تزال ملأى بهذه الفئات المتقطعة من البشر . . إلا أن "البرهمية" و"البوذية" والنحل المتشابهة فى الهند ، و"الفيتنام" ، و"سيلان" ، وما جاورها تتمتع بقوى كبيرة . ولا يستغربن القارىء إذا علم أن مستقبل المسلمين فى هذه البلاد مهدد بأخطار شتى ، وأن هذه الوثنيات زاحفة لا جامدة !!! والسر هو(1/321)
ضغط الاستعمار ، وضعف المسلمين . ص _329
واستطرد السيد مفتى فلسطين يقول : إننا ـ نحن المسلمين ـ نمقت ضروب الاستعمار وألوان التعصب ، ونود لو يحيا البشر ـ على اختلاف عقائدهم ـ متعاونين متعارفين ، وأن يتنفسوا فى جو من السماحة والتراحم . ولكن من لنا بتحقيق هذا الأمل ؟ إن المؤسسات الدولية التى افترض فى قيامها أن تصل إلى هذا الغرض ، كانت ـ للأسف الشديد ـ أول من خان قضايا العدل والحرية . وأيّا ما كان الأمر فنحن ـ ببواعث خالصة من ديننا ـ سنظل نقاوم ـ ما حيينا ـ كل ظلم يقع بنا ، وكل غبن يقترفه الأقوياء ضدنا ، وكل أمنية حمقاء فى تركنا للإسلام ، ومحاولة تهويد قطر ، وتنصير آخر ، من أرضه الطيبة . وقد قلت لك : إننا نكره الاستعمار كله شرقية وغربية ، بيد أنى أقصر الكلام الآن على نوع خبيث منه ، مرجئا الكلام عن غيره إلى فرصة أخرى . إن الغزو الصليبى الذى التهم بعض بلادنا ، ويتربص الدوائر بالبعض الآخر له خصائص يجب أن نذكرها . فهو ـ أولا ـ امتداد لضغائن قديمة لم تبرد جذوتها على مر الأعصار ، واستمرار لنوبات من الحقد تعترى القوم فينطلقون كالقذائف المدمرة ، ويصيبوننا بأشد الخسار . وهو ـ ثانيا ـ العلة التى أوهنت الإسلام فى الهند ، وقوضت حكمه ، وانتزعت من يده السلطات الحقيقية لتضعها فى أيدى الوثنيين . وهو ـ ثالثا ـ مصدر الجراثيم التى جعلت بعض الأغرار من شبابنا يظن فى الشيوعية خيرا . وبلاد الإسلام كانت فى حصانة أسبغتها عليها تعاليم الكتاب والسنة ، وتقاليد الفضل والكرم التى تتوارثها . غير أن الاستعمار الغربى ـ فى حملته على الإسلام ، وقتله لدراسته ـ أحدث هذه البلبلة التى تعانيها أمتنا فى بعض أجزائها . وهو ـ رابعا ـ مُلحٌّ كل الإلحاح فى تقطيع أوصالنا . ومهما هددته الكوارث ، وفرضت عليه مصلحته أن يصالحنا أو يهادننا غلبته سورات العداء الغبى ، فأبى إلا المضى فى إهانتنا . ص _330(1/322)
وهو ـ خامسا ـ يتناسى خلافاته الداخلية ليوحد صفه وعاطفته ضدنا . إن الناس لا يزالون يذكرون كلمة "اللنبى" لما دخل بيت القدس : "الآن انتهت الحروب الصليبية" . ويذكرون أنه دخل هذا الحرم بين يدى حشد طويل من القُسُسِ ، والرهبان ، والمباخر ، والصلبان ، والتراتيل الدينية . لكن المدهش أن هذا الانتصار فى الحرب العالمية الأولى ، لم يرحب به أصحابه فقط ، بل رحبت به ألمانيا المهزومة . ألمانيا التى اندحرت مع حليفتها تركيا فى هذه الحرب !!! إن الألمان ما كادوا يستمعون إلى نبأ دخول الإنكليز بيت القدس ، وتتردد فى آذانهم كلمة "اللنبى" حتى سارعوا هم الآخرون يقرعون نواقيس الكنائس فى طول البلاد وعرضها ، ترحيبا بفوز الإنكليز وإعلانا للفرحة به . والمضحك أن الأمير "شكيب أرسلان" كان فى ألمانيا يومئذ فكتب يعاتب الألمان على هذا الموقف ، ويذكرهم بأنهم إنما يفرحون بانكسار زملائهم فى الميدان ، وهيهات !! لقد ذهب العتاب مع الريح ، أو مع تيار الحقد القديم . ثم قال : يجب أن نعترف بأن الصليبية نجحت فى محو الإسلام من الأندلس ، بعدما غنيت مدائن الأندلس وقراه بهذا الدين ثمانية قرون طوال . وقد أغرى هذا النجاح بطلب المزيد . ولولا قوة الأتراك العسكرية فى السنين التى تلت هذه الكارثة ، لتابع القوم زحفهم ، وكرروا ما حدث فى الأندلس بأقطار أخرى . فلما ضعف العثمانيون وضاعت هيبتهم الحربية ، قرر القوم استئناف عملهم الأول ، وبلوغ أهدافهم نفسها ، وإن تغيرت بعض الوسائل . وكان لابد ـ فى نظرهم ـ من محو الإسلام فى جنوب أوروبا وشرقها ، ثم الوثوب على مواطنه الأولى فى القارتين القديمتين ، لقطع دابره . وتم لهم ـ بالفعل ـ ما أرادوا ، فمحوا الإسلام من جنوب إيطاليا ، ومن صقلية وكريت . وشرع الصليبيون فى إتمام خطتهم ، فأوعزوا إلى دولة البلقان والقوقاز أن تقاتل الأتراك ، وأن تدمر معالم الإسلام فى كل بقعة من هذه الأرجاء ، كما أوعزوا إلى ص(1/323)
_3 ص
الأرمن أن يحدثوا فتوقا فى كيان الدولة ، وأن يرتكبوا خيانات كثيرة لحساب روسيا القيصرية وحلفاء الغرب جميعا . واندلعت نيران الفتنة فى أماكن شتى ، وسعرها الأوروبيون بما استطاعوا من وقود . وانتهى الأمر على ما بيتوا ، فقد كان المسلمون من الفرقة والعجز والانحلال بحيث تخلت عنهم العناية ، واستمكن من أعناقهم الأعداء . والموقف الآن جد خطير ، فإن الأندلس كانت فى أطراف العالم الإسلامى ، وانحسار الإسلام عنها ـ على فداحة المصاب فيه ـ لا يستتبع النتائج الخطيرة التى يستتبعها على وجه اليقين تهويد "فلسطين" فى آسيا وتنصير الجزائر فى إفريقية. إن ذلك إن تم اليوم ـ لا قدر الله ـ فمعناه الذى لا شك فيه ، أن الإسلام ضاع غدا من إفريقية وآسيا جميعا ، وأن أمته كلها إلى بوار . ومن ثم فكل محاولة للرضا بقيام إسرائيل ، أو للتفريط فى قضية الجزائر ، فهى ارتداد عن الإسلام وخيانة عظمى لأمته . وعلى أولى الغيرة والنجدة أن يتدبروا العواقب ، ويوجلوا من سوء المصير . وأنا لهم النذير العريان !!! أجل ، فخلف أسداف مطبقة من الصمت المتعمد ، تجرى الآن أحداث رهيبة لسحق الإسلام سحقا لا قيامة منه . هذه مصيبتنا فى الجزائر ، هل يعلم الغافلون مداها ؟ إن التقدير الابتدائى لخسائر المسلمين فى الأرواح منذ قامت الثورة الأخيرة تربو على ستمائة ألف قتيل . أما القرى التى محيت بعدما تعرضت للنسف والتدمير بوحشية سافلة ، فحدث عنها ولا حرج . وهذه المجزرة التى لم يتوقف السفاحون إلى الآن لحظة عن المضى فى فظائعها تنظر أمام المؤسسات العالمية بشئ ظاهر من قلة الاكتراث أو عدم المبالاة ، وتدحرج من سنة إلى أخرى ، فلا يتخذ فيها قرار . وستظل تتدحرج إلى أن يستطيع الجيش الفرنسى الإجهاز على الضحية ، وإخماد أنفاسها فلا يُسمع لها صراخ . . ومن وراء الجيش الفرنسى أسلحة حلف الأطلنطى كلها . ص _332(1/324)
إن الدم الذى يراق هو الدم الإسلامى ، وهو الدم الوحيد الذى لا ثمن له ، أو الذى توضع الأكاليل على رؤوس سفّاكيه . أما فلسطين فقد دخلها الإنكليز وسكانها من اليهود ثمانية فى المائة ، وأملاكهم ـ برغم جميع المساعدات الخفية ـ لا تبلغ ثمانية فى المائة . وتركها الإنجليز الشرفاء بعدما استجلبوا من يهود الأرض ما جعلهم مثل العرب عددا ، وبعدما ورثوهم أملاك العرب كلها ، ونبذوا هؤلاء فى العراء . وهم لم يصلوا إلى هذه النتيجة إلا بعد سلسلة من المآسى الدامية ، قتل فيها ألوف الأحرار ، ومحيت فيها عشرات من القرى . أما المساجد التى دُكت ، والأوقاف التى نهبت ، فشئ لا حصر له . وفى الوقت الذى يدوخ فيه العرب ، وتحكم الخيوط حول وجودهم المادى والمعنوى حتى يحتويه ظلام الأبد ، فى هذا الوقت يتفجر سيل من الأموال الأمريكية والأوروبية إلى إسرائيل كى تقوى ، وتقوى . وبلغ ما بعثت به ألمانيا الغربية وحدها 43 مليون ونصف من الماركات ، هذا عدا دول أوروبا الأخرى . أما أمريكا فقد أرسلت وحدها أربعة آلاف مليون جنيه . والمغفلون وحدهم هم الذين لا يحسبون هذا الدعم ليوم له ما بعده ، ليوم ترمقه الصليبية من خلال الغيوب . وتعمل ـ بجلد ودأب ـ لتقريب موعده . إنه يومها المأمول . . اليوم الذى تنقضُّ على المنطقة كلها ، لتطوى أعلام الإسلام فيها طيا لا يعقبه نشور . ودول أوروبا تزعم لنفسها الحق فى حماية المسيحيين أين كانوا ، وتتصيد الأكاذيب للتدخل فى شئون الآخرين باسم هذا الحق . أما المسلمون الذى جعلهم سوء الحظ قلة فى بعض الأقطار ، فمن حق دول أوروبا أن تضع سياسة صارمة لإبادتهم ، دون أن يحتج مسلم أو يعترض . ولا بأس إذا حدث شئ من ذلك أن يُتهم هذا المسلم بالتعصب !!! أرأيت شبيها فى العالمين لهذه الصفاقة ؟ لقد هاجت الهيئات السياسية والدينية ضد الدولة العثمانية ، وافتعلت ضجيجا عاليا على ما أسمته مذابح الأرمن ، ولم تكن هذه القصة إلا عملا(1/325)
تأديبيا لقوم حركتهم أوروبا كى يطعنوا المسلمين فى ظهورهم ، ويسلموهم إلى أعدائهم . ص _333
والآن هل يتحرك أحد للأسلوب الهمجى الذى يعامل به العرب مثلا داخل إسرائيل ؟.. ولندع عرب فلسطين جانبا ، فإن قضيتهم معروفة على الأقل للعرب أنفسهم . أما مسلمو أوروبا الشرقية ، أما الثمانية عشر مليونا من المسلمين المبعثرين فى هذه الأرجاء ، فإن قضاياهم تحتاج إلى قليل أو كثير من إيضاح . إن الإسلام يحتضر فى تلك البقاع دون صريخ ولا معين . . إن أندلسا أخرى تصنع الآن فى شرق أوروبا إتماما للخطة التى أشرنا إليها آنفا. إن المسلمين فى هاتيك البقاع يشبهون غديرا تجمعت فيه المياه ، ولكنه انقطع من ينبوعه ، فهو موشك على الجفاف ، مع انقطاع المدد ووقدة الجو . غير أن أعداءهم يخافون أن تمتد حياتهم لأسباب غير منظورة ، فهم يستعجلون هلاكهم بالقتل قبل أن يطول بهم الأجل .!!! ومن يدرى : ربما تجددت لهم حياة مع حب العقيدة وقبول التضحية ؟ فليفتكوا بهم اليوم قبل الغد . ووقعت مذابح البلقان الأولى سنة 1912 ، وهلك فى أتونها الألوف المؤلفة من النساء والأطفال والشيوخ ، وصكت اسماع العالمين أنباؤها المفظعة . أما دول أوروبا فلا نقول : إن ذلك أرضاها وحسب ، بل نقول إن ذلك كان يإيعاز منها وتشجيع . وأما الشرق الإسلامى فقد ضج بالبكاء . وترجم "شوقى" عن مشاعره الأسيفة بهذه القصيدة المشهورة : يا أخت أندلس عليك سلام !! هوت الخلافة عنك والإسلام !! وفيها يصف ملك الصرب ، قائد تلك المجزرة : سكينه ، وحزامه ، ويمينه والصولجان ، جميعها آثام ولم يأبه الصليبيون لشيء من هذا . لقد تركوا الإسلام الجريح يلقى حتفه بعد هذه الطعنه الموجعة . غير أن الإسلام لم يمت ، وتحامل أهله على أنفسهم واستأنفوا السير فى قافلة الحياة . وجاءت الحرب العالمية الثانية . جاءت ليستقبل المسلمون فى شرق أوروبا نكبة أخرى . ص _334(1/326)
فقد انضمت "يوغسلافيا" إلى الحلفاء ، وحاولت أن تكون عونا لهم على دولتى المحور : "ألمانيا" و"إيطاليا" . فلما حمى الوطيس لم تلبث "يوغسلافيا" قليلا أمام الجيش الألمانى حتى استسلمت ، وفرت حكومتها لتقيم فى القاهرة تحت جناح إنجلترا المسيطرة يومئذ على الشرق الأوسط كله . وبقى فى "يوغسلافيا" وزير الحربية اليوغسلافى يقاوم الألمان على رأس فلول من العصابات المعتصمة بالجبال . فهل هذه كانت حقا وظيفة الجنرال "ميخايلوفتش" قائد هذه العصابات ؟ كلا . إنه انتهز فرصة انشغال الألمان فى الجبهة الروسية ، واشتباك أغلب قواهم فى معاركها المريرة ، وتجنيدهم فرقة من الشباب اليوغسلافى المسلم للعمل فى هذا الميدان البعيد ، انتهز "ميخايلوفتش" هذه الفرصة ووثب على القرى الإسلامية ، وأعمل فيها الفتك والسلب والنهب ، وأرخى العنان للضغائن التى احتبست حينا ، ثم أمكنها الآن أن تتنفس !!. فإذا السيف يحصد من المسلمين كم ؟ كم الذين هلكوا فى تلك النار الموقدة ؟ مائتا ألف مسلم . إن الفكرة التى استيقظت بغتة هى إخلاء هذه الديار من المسلمين العزل المفجوعين . وهام جمهور الموحدين على وجهه لا يدرى أين يذهب .؟؟ ويُقدر الهلكى من المرض والجوع والبرد بمائتى ألف أخرى . . يقول مفتى فلسطين ـ وكان يومئذ لاجئا إلى ألمانيا ـ: أبرق إلى بعض زعماء المسلمين يطلبون النجدة ، فأسرعت إلى وزارة الخارجية الألمانية أستحثها على علاج الموقف ! فأجابتنى : إن هذه المنطقة أصبحت خاضعة لإيطاليا . فسافرت إلى "روما" فورا وقابلت "موسولينى" وقلت له : إنه لو قتلت فى بلادنا أسرة واحدة من الكاثوليك ، بل شخص واحد فقط لقامت الدنيا ، ولكن هنا ، فى منطقة احتلالكم ، وقعت مجازر هلك فيها الآن قريب من مائتى ألف مسلم . فأمر "موسولينى" وزير خارجيته "كونت شيانو" بمقابلة السفير الألمانى "فون ماكنزى" لاتخاذ إجراءات مشتركة كى توقف هذه المذابح . ولكن المذابح لم تقف ، وإن تك(1/327)
وطأتها خفت قليلا. ص _335
قال " فسافرت مرة أخرى إلى "برلين" ، ثم إلى " فيينا " ثم إلى "زغرب" . وبعد جهود مضنية تمكنت من السفر إلى "سراجيفو" على مقربة من الأحداث الشنعاء . واستطعت إقناع القائد الألمانى هناك أن يزود المسلمين بالسلاح ، ليدافعوا عن أنفسهم . وتفاهمت مع زعماء الطائفة الإسلامية على طريقة العمل ، فألفنا جيشا من شبابهم بلغ تعداده المائة ألف . وما كاد يظهر فى الميدان حتى انسحب الجنرال "ميخايلوفتش" إلى أوكاره فى الجبال . بل إن القائد الوغد أخذ يتودد إلى المسلمين ، ويظهر لهم اللين . واليد التى أسداها مسلمو الشرق إلى إخوانهم مسلمى البلقان فى هذه المأساة العصيبة هى قرابة خمسة وثلاثين ألف جنيه ، تبرعت بها الحكومة المصرية وهيئة الهلال الأحمر لمواساة المنكوبين ... ولم تجد هذه النكبة شوقيا آخر يرسل وراءها عبراته . ولا استغرقت من تعليقات الأسى إلا سطورا ، قرأها المؤمنون حينا وعلى وجوههم سيماء الهزيمة والحزن ، ثم عمل الغزو الثقافى عمله فى جز ذيول النسيان على كل شئ . ولو أن أربعمائة ألف كلب ماتوا فى إحدى البقاع النائية ، لكان لذلك الحدث خبر يروى هنا وهناك . ولكن القتلى مسلمون بين جماهير الأوروبيين . مسلمون متعصبون بين أوروبيين معتدلين !! إن أحدا من رجال السياسة ، أو من رجال الدين فى القارتين المتحضرتين أوروبا وأمريكا لم يأبه لما حدث ، لأن الذى حدث صادف هوى مكينا فى النفوس . ألم أقل لك : إن استباحتنا ، واجتياح بلادنا وعقائدنا شئ يستحق التكريم فى منطق هؤلاء ونظرهم إلى الأمور . إنه عبادة يتقرب بها إلى الله ، وأدنى جهد فى هذه السبيل مأثرة تذكر لصاحبها ـ رجلا كان أو امرأة ـ بالحمد والثناء . وإلا فبماذا تفسر ما نشر فى الصحف أخيرا من أن الفاتيكان يطلب المعلومات الكاملة عن إحدى المجندات فى الجيش الإنجليزى الزاحف على السودان من ستين سنة للقضاء على ثورة المهدى ؟ إنه يطلب المعلومات عنها(1/328)
تمهيدا لرسمها قديسة ...!! بنت مصرية ، خرجت على وطنها والتحقت مجندة بالجيش المحتل . ص _336
لم تكن طبيبة ولا ممرضة ، لأن الأمة المصرية يوم ذاك لم تكن تألف هذا النوع من العمل . إنها كانت شيئا لا ندريه .. ولا نذكره . ولكن المهم أن البحث يدور حول تاريخها المجهول ، تمهيدا لدرج اسمها مع القديسات ..!! وهاك الخبر كله ، كما نشرته مجلة "منبر الإسلام" التى تصدرها وزارة الأوقاف تحت عنوان "هذه هى الحقائق.. فليقرأها الفاتيكان.. " . قديسة مصرية شهيدة قتلت فى ثورة المهدى الفاتيكان يستعد لإدراجها بين القديسات . هامبورج فى 27ـ1 . ش 1ـ قالت اليوم مجلة "رد شيبجل" : إن الفاتيكان قد طلب من الجمعية "الجيزويتية" "الآباء اليسوعيين" بالإسكندرية أن تجمع معلومات عن سيدة مصرية تدعى "مارى لطيف" كانت قد تحولت إلى الكاثوليكية ، وقتلت وهى تحارب إلى جانب القوات المسلحة المصرية فى ثورة المهدى عام 1882. وتقول الصحيفة : إن الفاتيكان قرر جمع المعلومات عن هذه السيدة تمهيدا لإعلانها قديسة بين قديسات الكنيسة الكاثوليكية . وختمت الصحيفة هذا النبأ بقولها : إن تقديس هذه البطلة المصرية من شأنه أن يعزز العلاقات القائمة بين الفاتيكان والعالم العربى . هذا ما نشرته الأهرام . والحقيقة التى يعرفها التاريخ ، أن إنجلترا ـ بعد احتلالها مصر ـ استشرفت بأطماعها إلى احتلال السودان ، وبدأت تمد لذلك حبائلها ، وتدبر خططها ، مستغلة ضعف الحكام المصريين الذين وقعوا تحت سيطرة احتلالها . ولما أحس المهدى بوادر التدبير ثار لاحباط ما يراد ببلاده من شر ، ورأت إنجلترا فى هذه الثورة ما يهدد أطماعها الاستعمارية ، فاغتاظت وقررت القضاء عليه ، وسيرت إليه جيوشها بقيادة الكبار ، وأعلنت فى الملأ أنها إنما تحاربه لأنه ثائر على السلطة المصرية الشرعية ، ولكى تستر أغراضها ونياتها أكرهت الحكومة المصرية على أن ترسل بعض قواتها مع جيشها المحارب فى السودان .(1/329)
وكان المعروف لدى ضباط وجنود القوات المصرية ، أنهم مسخرون لخدمة أغراض ص _337
الاستعمار ..، وكانوا يشعرون بالغيظ الحانق والألم المر ، إذ يرون أنفسهم مكرهين إلى السير لقتال إخوانهم فى العروبة والدين والوطن ، أو مكرهين على التمكين للعدو البغيض أن يحتل السودان ، وأن يقتل أحراره الثوار ، وأن يضرب على إخوانهم من الذلة والمهانة مثل ما ضرب على المصريين من قبل . فكانوا ينتهزون كل فرصة مواتية ، للفرار من الصف الإنجليزى ، والانحياز إلى صف الإخوة الأشقاء . وذلك لجملة أسباب : أولا : أن الجيوش التى كانت تقاتل المهدى هى جيوش إنجليزية لحما ودما ، وإليك شهادة الإنجليز أنفسهم : يقول المراسل الحربى لجريدة "الديلى نيوز" المرافق للجيش الإنجليزى بشرق السودان : إن الجيوش الإنجليزية تقاسى مصاعب ومشاق شديدة فى قطع الطريق . ولما حوصر "غوردون" كتبت جريدة الديلى تلغراف تقول : إن هلاك "غوردون" أو وقوعه فى أسر المهدى ، يذهب بالأعمال الحربية التى قامت بها العساكر الإنجليزية فى السودان . وكان من قواد هؤلاء الجند : "غوردون" و "جراهام" و "هفت" و "هكس" و"باكر" وغيرهم ، وهى قطعا أسماء إنجليزية صميمة وليست أسماء مصرية . ثانيا : أن الجنود والضباط المصريين ، كانوا يدعون صفوف العدو ، وينحازون إلى صفوف السودانيين ، حتى كان مع المهدى من الضباط وحدهم ما يزيد على خمسين ضابطا ، وتذكر "التيمس" فى غيظ : أن "غوردون" لما أشتد عليه الحصار خرج بألفى جندى من المصريين لفك الحصار ، فتراخى الجند ، وانحاز خمسة ضباط إلى جند المهدى ، وقبض "غوردون" على اثنين من القواد الباشوات لأنهما حرضا الجند على التراخى ، وأعدمهما رميا بالرصاص . . ثالثا : أن هذه الحرب كانت حربا استعمارية قذرة ، وليست حربا مقدسة يستشهد فيها القديسيون والقديسات ، وكيف يكون قديسا من ينهض لحرب أقوام أبرياء مسالمين لم يعتدوا على أحد ؟ وكل جريمتهم أنهم أرادوا أن(1/330)
يعيشوا فى أوطانهم أحرارا ، فقاوموا رغبة المستعمر فى إذلالهم . ص _338
ولا شك أن مبادىء السيد المسيح عليه السلام تبرأ كل البراءة من أى حرب عدوانية ، تراق فيها الدماء ، وتزهق الأرواح ، ويهدم العمران ، وتعم الخسائر والفواجع . وإذن ، فهذه السيدة المصرية ، كانت تصحب جيشا إنجليزيا ، لا جيشا مصريا!! وكانت تؤازر الجيش الإنجليزى على قتل الأبرياء ، وترميل النساء ، وتيتيم الأطفال ، تمكينا له على أغراضه الاستعمارية الخسيسة ، ولسنا نخلع عليها اللقب الذى تستحقه من وجهة النظر المصرية ، ولكنا نحسب أن سيدة هذا شأنها لا يرحب بها السيد المسيح فى زمرة القديسات . . ولعل مما ينشرح له صدر الفاتيكان بهذه المناسبة : أن من وقائع ثورة المهدى الثابتة أن "غوردون" كان قد أرسل فى طلب قُسُس لنشر المذهب البروتستنتى بين مسلمى السودان ، لا لنشر المذهب الكاثوليكى الذى يعتنقه البابا . ولنسمع الآن ما يذكره السيد "جمال الدين الأفغانى" عن سماحة "المهدى" مع الكاثوليك ، قال فى العروة الوثقى : " جاء إلى الخرطوم ضابط مصرى ، وأخبر أن رسل الكاثوليك فى مدينة عبيد تحت كنف "محمد أحمد المهدى" على حرية تامة ، تُجرى عليهم المرتبات من طرفه ، وأن كنيستهم مفتحة الأبواب " . رابعا : أن تقديس هذه البطلة ، ليس من شأنه أن يعزز العلاقات القائمة بين الفاتيكان والعالم العربى كما تظن مجلة "ردشبيجل" فى آخر كلمتها ، لأن السودان قطر عربى شقيق ، وكل العرب معه ينظرون إلى مثل هذا العمل ـ إذا وقع ـ نظرة جزع وألم ، ولا سيما أن الإنجليز أوقعوا ما أوقعوا بالسودان وهم يعلمون أنه قطر عربى ، وها هى ذى جريدة "التيمس" تصف جنود الجيش السودانى بأنهم "عرب" حين ذكرت إحدى هزائم "غوردون" إذ قالت : "وعاد غوردون إلى الحصون ، وغنم العرب من جيشه مقدارا وافرا من الذخائر" . ووقف "لورد جرانفيل" فى مجلس اللوردات يتكلم عن مقاومة العرب لا مقاومة السودانيين فيقول :(1/331)
"إن المقاومة التى لاقيناها من قبائل العرب فى سواحل البحر الأحمر" شرق السودان" كان الغرض منها تمكين سلطة المهدى فى البلاد السودانية " . * * * ص _339
وبعد ، فقد ذكرت المجلة التى نشرت الخبر أن الفاتيكان طلب من الجمعية الجزويتية "الآباء اليسوعيين" أن تجمع المعلومات عن هذه السيدة التى كانت تدعى "مارى لطيف" . وها نحن أولاء نضع تحت أنظار "الجزويتية" هذه الحقائق لعلها تصلح لأن ترفع للفاتيكان ...!!! * * * أما حال المسلمين الآن فى "ألبانيا" و"يوغوسلافيا" وغيرهما من دول البلقان فإن للكلام فيه صحائف أخرى ، نرجو عون الله قريبا كى تنشر على حقيقتها الكاملة ، كما نرجو أن نوفق إلى إخراج بحث شامل عن حال المسلمين فى البلاد الشيوعية كلها . وأظن أن الدعاة المسلمين ، بعد هذه الإيماءة العجلى إلى حال دينهم وأمتهم ، أمام الكتل المتألبة عليهم ، سيعرفون كيف يحمون الحقيقة من الضياع ، وأصحابها من التلاشى والفناء . أظنهم سوف يذكرون ولا يغفلون ... وإننا لنشكر سماحة مفتى فلسطين ، على هذا الدرس الذى سجلنا أصوله ، ووسعنا حقائقه وفصوله . * * * ص _341
الفصل السابع نماذج حية ص _342(1/332)
نماذج حية * القرآن الكريم : الداعية إلى الله صديق لكتابه الكريم ، يألف تلاوته ، وينتظم فى أداء ورده ، ويستوحش إذا حجزته عنه شواغل طارئة . والأصل أن يستوعبه كله حفظا وتجويدا . فإن قصر عن تلك الدرجة ، فلن يقصر فى إدمان مطالعته ، واستذكار مواضع الاستشهاد منه . وليس المطلوب أن يكون الداعية وعاء لآى القرآن وأحرفه ، بحيث لو وصل إلى القمة فى هذا المجال وُصف بأنه مصحف متحرك ، كلا . إن صلة الداعية بكلام الله أسمى وأجل . إن المعانى العلمية للقرآن الكريم ، يجب أن تكون جزءا كبيرا من الحياة العقلية له . تسبح فى فكرة كما تسبح الكواكب فى أجواء الفضاء . ففى رأسه صورة للكون كله كما وصفته آيات القرآن . وفيه تاريخ للأمم البائدة ، وَلِمَ لقيَتْ مصارعها . .؟ وإحصاء لأحوال النفوس ، وبيان للمطلوب منها . ووعى لشتى التشريعات الموزعة فى السور ، وفقه لأحكامها . وتصور لمشاهد الحشر والنشر ، يزاحم صورة الحياة الحاضرة . وحسٌّ بقيام الله على الخلائق كلها ، قياما يوضحه ختام الآيات بعشرات من أسمائه الحسنى . وكما أن عقل الداعية يمتلىء بهذه المعارف النظرية ، فإن قلبه يجب أن ينتعش ببواعث الذكر الميسر له . وأن تستجيشه مصادر الرغبة والرهبة ، وتهزه معانى الوعد والوعيد . ويتحرك مع أدوار الصراع المستمر بين الحق والباطل . ويقشعر جلده فى مواطن الوجل ، ويستريح ضميره مع بواعث الطمأنينة . ص _343(1/333)
الداعية رجل يحيا فى القرآن عقلا وعاطفة ، ويراه أساس وجوده المادى والمعنوى ، ووظيفته التى تشغله بمغانمها ومغارمها . . ولا ريب أن حياته على هذا النحو ترقى آمادا رحبة عن مستوى الناس . إنها ترفعه إلى الملأ الأعلى ، وذاك معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة" . لكن ، هل يسهل الوصول إلى تلك المكانة ؟ والجواب : إنه ليسير على من يسره الله له . والواقع أن امساك الآيات فى الذاكرة صعب ، ما لم يتعهدها الإنسان باستمرار التلاوة . والقرآن فى جوف الإنسان أشد تفصيا من الإبل فى عقلها ، كما ذكر النبى صلى الله عليه وسلم ، فكيف بالحياة معه ، والتنفس فى جوه ؟؟ إن ذلك يحتاج إلى طول مجاهدة ، ودوام صحو . والدعوة إلى الله على كل حال ليست مسلاة امرىء خالى البال . فإن لم يستعد الرجل لها باستجماع قلبه ولبه فهيهات أن يصل . والجهد الإنسانى وحده ضائع ما لم تلحقه العناية العليا ، ويدركه الفضل العظيم . والأمر يتطلب مزيدا من الضراعة والإنابة والدعاء . وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو فيقول : "اللهم أنا عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك ، وفى قبضتك ، ناصيتى بيدك ، ماض فى حكمك ، عدل فى قضاؤك... إلخ". * * * ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فى هذه الصلة بالقرآن . ومنه يتعلم الدعاة كيف يكونون صلتهم بالوحى المبارك . والداعية الذى يحيا فى جو القرآن ينشد للمجتمع حوله أن يحيا هو الآخر فيه ، وأن يقيم أوامره ويجتنب نواهيه ، وينفذ أحكامه ، ويرعى حدوده ، ويُقبل عليه إقبال المعظم لرسالته ، الموقن بصدقها ، الراجى سعادة الدارين من ورائها ... ومن ثم فهو يلفت النظر بقوة إلى أن التوقير المفتعل لمجالس القرآن وأصوات التلاوة ـ كما مردت على ذلك العامة ـ لا جدوى منه ، وأن القرآن ما نزل لهذا ، ولا يخدم بهذا . القرآن أمة تُنشأ فى بوتقته ، وكيان يصاغ وفق تعاليمه . ص _344(1/334)
قال الهراوى تحت عنوان "نحن نبغى القرآن" : إن هذا القرآن يهدى إلى الرشد ويدعو لصالح الإنسان نحن نبغى القرآن علما وفهما يخلقان الكمال فى الشبان نحن نبغى القرآن لفظا ومعنى فهو صقل الحجا وصقل اللسان نحن نبغى القرآن دينا ودنيا يتجلى فى هديه الحُسنيان نحن نبغى القرآن فى معهد الدرس وفى كل منزل ومكان وقال الشاعر فى وصف بلاغته : الذكر آية ربك الكبرى التى فيها لباغى المعجزات غناء صدر البيان له إذا التقت اللغى وتقدم البلغاء والفصحاء نسخت به التوراة وهى وضيئة وتخلف الإنجيل وهو ذكاء لما تمشى فى الحجاز حكيمه قضت عكاظ به وقام حراء والقرآن كله نماذج يتخير منها الداعية ، ما يناسب مقتضى الحال . * * * * السنن : كم من السنين كنت سأقضيها بحثا وراء الحق الذى أهدانيه محمد صلى الله عليه وسلم وأنا فى ضمير الغيب ؟ وكم من الآلام كنت أعانيها وأنا أنفق العمر فى تجارب قبل أن أهتدى إلى السداد؟ ومن الذى يضمن لى مع قدرتى أن أظفر بالحقيقة الغالية ، وقد تاه عنها رجال تشابهت عليهم الطرق حينا ، وانسدّت فى وجوههم المنافذ حينا آخر ؟؟ وهبنى أوتيت قدرا من الذكاء الكشاف ، والنشاط الدءوب ، فمن للألوف المؤلفة من الناس الذين قلت حظوظهم المعنوية ؟ وكيف يحيون على ظهر الأرض ؟؟ إننى كلما أحسست راحة الإيمان فى نفسى ، وبرد اليقين فى قلبى ، وروعة الدين الذى ينير باطنى ، أشعر بميل شديد إلى شكر الرجل الذى يسرَّ لى هذا الخير ، وأتاح لى أن أعرف ربى الواحد جل شأنه ، وأن أقدر النعمة التى حولى وأدرى من بُعث بها ؟ نعم إننى أشعر بميل إلى شكر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتنويه بفضله ، والثناء على صنيعه كلما غسلت وجهى فى وضوء ، وطهرت بدنى لصلاة ، ووضعت وجهى على الأرض ساجدا أسبح ربى الأعلى !!! ص _345(1/335)
نعم ، وكلما سرت فى الطريق منتصب القامة ، رافع الرأس ، عزيز النفس ، أرمق الكبار والصغار على أنهم عبيد مثلى لله الذى أدعوه وحده وأرجوه وحده . وكلما شعرت بأنى إنسان أعرف من أين جئت ؟ وإلى أين أصير ؟ ولماذا خلقت ، وماذا أفعل وماذا أترك ؟؟ وكلما تصورت أن هناك بشرا كثيرين ، تكتنفهم الحيرة والظلمة لأنهم محرومون من ذلك المتاع المتاح لى ، أحسست أن فى عنقى وعنق كل مؤمن مثلى دينا للرجل الطيب الكريم الذى مهد لنا بجهاده هذا الصراط المستقيم ، لمحمد صلى الله عليه وسلم . إن هذه نظرة قد تكون منبعثة من الأثرة . رجل أهدانى خيرا جزيلا ، وهدانى إلى حق جليل ، فبديهى أن أذكره وأشكره ، وأذيع بين الناس صنيعه . لكن لماذا لا يُقدر المرء لفضله المجرد ؟ إن الجمال الرائع يُعجِب وكذلك الذكاء البارع ، والتفوق البارز فى أى شأن من شئون الحياة . إن المعدن الإنسانى النفيس يستحق أن يغالى به تلقائيا ، وأن تعرف له مكانته . لقد طوفت ببصرى ، وأنا تحت ، ومعى على السفح ألوف مؤلفة من أوساط الخلق. رفعت الرأس ونظرت إلى القمة المتوجة بالنور والبر والبركة . تأملت فى سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشمائله وسياسته . . ورأيت أنه من هنا انبجست جميع القيم والمُثل التى تحدو الإنسانية إلى أمجادها ، فعرفت سر الحقيقة التى تقال دون افتعال أو افتخار ، تقال للتعليم لا للاستعلاء ، يقولها هذا الرسول نفسه : "أنا سيد ولد آدم ، ولا فخر" . يقولها ليرسم الطريق أمام كل حُر يكره الهوان . أمام كل امرىء يكره حيرة الباطل ، وهوان الجمود . أمام كل إنسان ينشد الوصول إلى أسباب السيادة الصحيحة . يقولها ليعرف الجميع من أين تؤخذ الأسوة الحسنة . * * * على كل داعية إلى الله أن يعرف قدر محمد صلى الله عليه وسلم جهد طاقته ، وإذا جأر إلى الله بالصلاة عليه ، فليُودِع هذه الصلاة روح الحب ، والشكر . ! ثم على كل داعية أن يعرف كيف خلص هذا الحق له . ص _346(1/336)
وكيف وصل هذا الدين إليه . وكيف مُهدت السبيل لجماهير السالكين إلى يوم القيامة ... إن العالم كان محكوما بإشاعات باطلة ، وظنون قاتلة ، وأوهام لا حصر لها .. وكما تشيع الفرية المختلفة بين بعض الناس ، فتمسخ تصورهم وتفسد أحكامهم ، شاعت عن الله وعن دينه أكاذيب بلغت من السمك والصلابة حدا يُعيى المصلحين ، وهامت الجماهير فى القارات المائجة بسكانها تخبط فى ديجور ليس له قرار . ونظر الله إلى الخلق فمقتهم عربهم وعجمهم . لقد ضلوا ضلالا بعيدا . فى هذا العماء السائد ، بدأ بصيص من الحق يشتعل ، ونور من الوحى يتألق . وبدأ صوت محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهداية المستغربة . وتحولت الدنيا كلها من حول الرجل المبلغ عن الله إلى عاصفة تريد اقتلاعه من جذوره . وظل العراك بين الفريقين قريبا من ربع قرن ، كان الحق الناشىء فيها يُسقى بخلاصات من عرق المجاهدين ودماء الشهداء . وكان البطل الجلد الصبور يضرب بذراعيه هنا وهناك ، كما تضرب الشمس بأشعتها أكناف السحب فى يوم غائم . وما زال يقاوم قوى الظلام حتى تغلب عليها وملأ الأرض بأنوار الإسلام . وقصة هذا الكفاح ، وما أثر عن الرسول فيه من قول ، أو فعل ، أو حكم ، أو تقرير هو سنة الرسول العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يجب أن يدرسها الدعاة وأن يجعلوها بعد كتاب الله ، أساس الحكمة التى يتعلمون ، ويُعلمون . * * * ويقول الجاحظ ، ومكانته فى الأدب ما تعلمون ، يصف كلام الرسول : "ألقى الله على كلامه المحبة ، وغشاه بالقبول ، وجمع له بين المهابة والحلاوة ، وهو مع استغنائه عن إعادته ، وقلة حاجة السامع إلى معاودته ، لم تسقط له كلمة ، ولا زلت له قدم ، ولا بارت له حجة ، ولم يقم له خصم ، ولا أفحمه خطيب ، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير ، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم ، ولا يحتج إلا بالصدق . ص _347(1/337)
ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا ، ولا أصدق لفظا ، ولا أعدل وزنا .. من كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وإنى محاول الآن أن أسوق لكم نبذا من قوله فى مواضع شتى ، ومعان متفرقة ، فيها ترون الفصاحة والبلاغة المحمدية حية منيرة ، لم تبل القرون جدتها ولم تذهب شيئا من طلاوتها . انظروا إلى هذه الكلمات : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أمرنى ربى بتسع : خشية الله فى السرّ والعلانية ، وكلمة العدل فى الغضب والرضا ، والقصد فى الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعنى ، وأعطى من حرمنى ، وأعفو عمن ظلمنى ، وأن يكون صمتى فكرا ، ونطقى ذكرا ، ونظرى عبرة " . وقد وجدوا مكتوبا على قائم سيفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اعف عمن ظلمك ، وصل من قطعك ، وأحسن إلى من أساء إليك ، وقل الحق ولو على نفسك " . ويقول ابن عباس : كنت رديفَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لى : " يا غلام إنى أعلمك كلمات ، احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة كلها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله (تعالى) لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله (تعالى) عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف" . رواه الترمذى وقال : حديث حسن صحيح . وعن أبى ذر قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " . وعن ابن عمرو بن العاص قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله تعالى شاكرا صابرا ، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكرا ولا صابرا : من نظر فى دينه إلى من هو فوقه ، فاقتدى به ، ونظر فى دنياه إلى من هو دونه ، فحمد الله على ما فضله به عليه " . وعن حُذيفة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا يكن أحدكم إمعة (وهو الذى لا يثبت مع أحد ولا(1/338)
على رأى لضعفه) يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت و إن أساءوا أسأت ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، و إن أساءوا أن تجنبوا إساءتهم " . ص _348
وعن معاوية أنه كتب إلى عائشة : أن اكتبى إلى كتابا توصيننى فيه ولا تكثرى ، فكتبت : سلام عليك ، أما بعد : فإنى سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله تعالى مئونة الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله تعالى إلى الناس ، والسلام عليك " . وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " شرّ ما فى الرجل ، شحٌّ هالع ، وجبن خالع ، اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة . واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " . وقال : "إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال" . وقال : "لا تظهر الشماتة بأخيك ، فيعافيه الله ويبتليك " . وقال : " ألا أنبئكم بشراركم ؟ الذى يأكل وحده ، ويجلد عبده ، ويمنع رفده" . وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما فى أيديهم مثل أذناب البقر ، يغدون فى غضب الله ، ويروحون فى سخط الله". وقال : "صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البُخت لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها " . وقال : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " . ثم انظروا إلى هذه الكلمات الموجزة ، وتدبروا ما فيها من حكم بالغة : لا خير فى صحبة من لا يرى لك ما ترى له . رحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو سكت فسلم . الناس بزمانهم أشبه . العدة عطية . العاقل ألوف مألوف . لا تزال أمتى بخير ما لم تر الأمانة مغنما ، والصدقة مغرما . اتقوا المهلكات : شحِّ مطاع ، وهوىً متبع ، وإعجاب المرء بنفسه . ص _349(1/339)
كان صلى الله عليه وسلم خطيبا لا يبارى ، يقصد إلى الحقيقة ، فيضعها بين سمع الناس وبصرهم ، لا يحاول أن يستبى القلوب بزخرف القول ، يكره التفاصح والتنطع ، بيِّن العبارة ، واضح المعنى ، وله خطب طوال لا حشو فيها ولا تقصير ، وقصارى القول إن كلامه هو الكلام الموجز الشامل . يقول أبو سعيد الخُدرىّ: صلى بنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما صلاة العصر ، ثم قام خطيبا ، فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به ، حفظه من حفظه ، ونسيه من نسيه ، وكان فيما قال : " إن الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون . ألا فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ، ألا إنه يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عامة . ألا وإن الغضب جمرة فى قلب ابن آدم ، أما رأيتم حمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه فمن أحسَّ بشئ من ذلك فليلصق بالأرض " . ثم انظروا إلى هذه الخطبة الجامعة لكثير من أصول الشرائع ، فى صفحة موجزة ، يلقيها على مائة ألف ، فى موقف عرفة فى حجة الوداع ، ففيها ألغى مآثر الجاهلية ، وقرر مبادىء المساواة ، وحرم الثأر وقضى بذلك على أقدم عرف للعرب ، وأمس شئ بقلوبهم ، وقضى كذلك على الربا ، ورفع درجة المرأة ، وحرم الفتن والنهب والغزو ، وكان مفخرة وعزة ، وذكر الأشهر الحرم ، فسوى بين أوقات السنة فيما هو حلال أو حرام بالباطل ، وحرم النسئ الذى ألفه الجاهليون ، ونصح الناس فى أمور شتى ، وحذرهم ما يحقرون من أعمالهم ، وما يستهينون به من الآثام . قال صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس اسمعوا قولى ، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا . أيها الناس : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم ص _350(1/340)
خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مُضر الذى بين جمادى وشعبان . أى شهر هذا ؟ أليس ذا الحجة ؟ قالوا : بلى . قال : فأى بلد هذا ؟ أليس البلدة ؟ ـ يعنى مكة ـ قالوا : بلى . قال : فأى يوم هذا ؟ قال : أليس يوم النحر ؟ قالوا : بلى . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فلا ترجعوا بعدى ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض . ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه . ألا هل بلغت ؟ ألا هل بلغت ؟ فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من آئتمنه عليها . وإن كل ربا موضوع "أى مهدر" ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون ، قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا العباس بن عبد المطلب "عم النبى" موضوع كله . وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دمُ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب "أى ابن عم النبى" . أما بعد : أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك ، فقد رضى بما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم . أيها الناس : (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله) أما بعد : أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن ألا يُوطئن فرشكم أحدا غيركم تكرهونه ، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن ص _351(1/341)
فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع ، وأن تضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف . أيها الناس : استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان ، لا يملكن لأنفسهن شيئا ، فاعقلوا ـ أيها الناس ـ قولى ، فإنى بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا : كتاب الله وسنة رسوله . أيها الناس : اسمعوا قولى واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا مالا أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم ، اللهم هل بلغت ؟ فأجاب الناس من كل صوب : نعم ، فقال : اللهم اشهد . ونزل عن ناقته . هذه الخطبة جمعت أصولا قد تبدو الآن معترفا بها ، مجمعا عليها ، ولكن الذين درسوا حالة المجتمع العربى وقت إلقائها ، بل حالة المجتمع الإنسانى أنها كانت أساسا جديدا لأكبر انقلاب اجتماعى منذ ظهوره صلى الله عليه وسلم ، ويلحظون إحاطتها على قصرها بالداء والدواء ، وأن فيها أسس الحضارة التى جعلت من الحرب الضلال أمة تسوس المشرق والمغرب قرونا كثيرة . وها هى ذى الأيام تمر فتبلى كل جديد ، وفصاحة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبلاغته لا تزال نضرة عذبة ، يبتهج بها المتطلع إلى الأدب والعلم ، ويجد فيها الأديب ريا وشفاء . * * * ص _353
الفصل الثامن زاد للدعاة ص _354(1/342)
زاد للدعاة وهذه نماذج للقراءة والتدبر ، لا للحفظ والإلقاء . قصدت من سوقها إثارة ما فى النفوس من مشاعر الخير والصدق . فإن الكلمات العامرة باليقين ، الحافلة بالإخلاص ، الصائبة فى تصوير جوانب الحياة ، الراشدة فى إيضاح قضاياها ، لها أثر ساحر فى إحياء القلوب ، وإيقاظ الهمم ، وإطلاق العواطف الحبيسة وراء الهموم الصغار والأغراض التوافه . وقد ارتأيت فى ترتيب هذه النماذج أن تكون منوعة النزعات ، متوازنة الفكرة والوجهة ، فلا ينجذب القارىء مع مناجاة خاشعة إلا شدته خطبة مهتاجة ، ولا يبغض سورة الحياة إلا ارتد إليها فى صراع مع هذه الدنيا . ولا يهتم فى طلب الآخرة إلا أبصر قصده مع هذه الدنيا . والحق أن التدين الصحيح هو الذى يستكمل فى طبيعته عناصر الكمال فى المعاش والمعاد جميعا ، وتلتقى فيه شعب الإيمان كلها ، فلا يطغى جانب على جانب ، ولا يتضح معنى ويغيم آخر . ونريد من الداعية إلى الله ـ إذا عاش حينا بين أفكار الرجال وكلماتهم ـ أن يقتبس منها ما يؤكد فى نفسه هذه الحقيقة . أى أنه ينتفع بها فى زيادة تفهمه لدينه وإفهامه للآخرين . ثم ليجعل من هذه الكلمات بذورا تلقى فى نفسه ، كما تلقى الحبوب فى الأرض الخصبة لتخرج بعد حين ، وقد زادت أضعافا مضاعفة . ثم إن مستويات البلاغة فى هذه النقول تتبع العصور التى قيلت فيها ، وأذواق الناس تختلف فى تقدير ما احتوته من جمال فنى ، وأعتقد أن بساطة الأداء الظاهرة فى صدر الإسلام ، أفضل من ضروب الأناقة التى التزمت فى العصور الوسيطة . وأحسب أن عصرنا الحاضر أخذ يقترب فى تعبيره من طابع الصدر الأول . وليس يهمنا ما ينتمى إليه الكلام من طبقات البلاغة ، إنما يهمنا ما أودع فيه من روح الإيمان ، وقوة الشعور ، وأصالة المعنى . فذلك هو الزاد الذى تربو به ثروة الداعية ، ويقتدر به على توجيه الناس . * * * ص _355(1/343)
وصية أبى بكر الصديق لعمر الفاروق : "إنى مستخلفك من بعدى ، وموصيك بتقوى الله . إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار وعملا بالنهار لا يقبله بالليل . وإنه لا تُقبل نافلة حتى تُؤدى الفريضة . واعلم أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة ، باتباعهم الحق فى الدنيا وثقله عليهم . وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا . وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة ، باتباعهم الباطل وخفته عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا . إن الله ذكر أهل الجنة ، فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم ، فإذا ذكرتهم قلت : إنى أخاف ألا أكون من هؤلاء . . وذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ، ولم يذكر حسناتهم ، فإذا ذكرتهم قلت : إنى لأرجو ألا أكون من هؤلاء . . وذكر آية الرحمة مع آية العذاب ، ليكون العبد راغبا راهبا ، ولا يتمنى على الله غير الحق ، ولا يُلقى بيده إلى التهلكة . فإذا حفظت وصيتى فلا يكن غائب أحب إليك من الموت ـ وهو آتيك ـ وإن ضيعت وصيتى فلا يكن غائب أبغض إليك من الموت ، ولست بمعجز الله " . * * * * من خطب أبى بكر : خطب رضى الله عنه عند توليه الخلافة فقال ـ بعد أن حمد الله وأثنى عليه ـ: " أيها الناس : إنى وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتمونى على حق فأعينونى وإن رأيتمونى على باطل فسددونى . أطيعونى ما أطعت الله فيكم ، فإذا عصيتُه فلا طاعة لى عليكم ألا إن أقواكم عندى الضعيف حتى آخذ الحق له . وأضعفكم القوى حتى آخذ الحق منه . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم " . أ. هـ . * * * ص _356(1/344)
وقال مرة ـ بعد الحمد والثناء ـ: " إن أشقى الناس فى الدنيا والآخرة هم الملوك !! فرفع الناس رؤوسهم ـ تعجبا ـ فقال : أيها الناس إنكم لطعانون عجلون . إن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما بيده ، ورغبة فيما بيد غيره ، وانتقصه شطر أجله ، وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل ، ويسخط على الكثير ، ويسأم الرخاء . . لا يستجلى العبرة ، ولا يسكن إلى الثقة ، فهو كالدرهم القسى أو السراب الخادع ، جذل الظاهر ، حزين الباطن ، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحا ظله ، حاسبه الله فأشد حسابه وأقل عفوه . ألا وإن الفقراء ـ يعنى القانعين ـ هم المرحومون . ألا و إن خير الملوك من آمن بالله وحكم بكتابه وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وإنكم اليوم على خلافة نبوة ، ومفرق حجة ، وسترون بعدى مُلكا عضوضا ، ومَلكا عنيدا ، وأمة شعاعا ، ودما مباحا . فإن كانت للباطل نزوة ، ولأهل الحق كبوة ، يعفو بها الأثر ويموت لها البشر ، فالزموا المساجد واستشيروا القرآن ، واعتصموا بالطاعة ، وليكن الإبرام بعد التشاور ، والصفقة بعد طول التناظر " أ. هـ . * * * وخطب مرة أخرى فقال : " أوصيكم بتقوى الله ، وأن تثنوا عليه بما هو أهله ، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ، فإن الله أثني علي زكريا وعلى أهل بيته فقال : (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات و يدعوننا رغبا و رهبا و كانوا لنا خاشعين). ثم اعلموا عباد الله أن الله آرتهن بحقه أنفسكم ، وأخذ على ذلك مواثيقكم ، وعوضكم بالقليل الفانى الكثير الباقى . وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه ، ولا يُطفأ نوره ، فثقوا بقوله ، وانتصروا لكتابه ، واستبصروا فيه ليوم الظلمة ، فإنه خلقكم لعبادته ، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون . ص _357(1/345)
ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون فى أجل قد غيب عنكم علمه ، فإن استطعتم ألا تنقضى الآجال إلا وأنتم فى عمل لله فافعلوا ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله. فسابقوا فى مهل بأعمالكم قبل أن تنقضى آجالكم فتردكم إلى سوء أعمالكم ؛ فإن أقواما جعلوا آجالهم لغيرهم ، ونسوا أنفسهم ، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم . فالوحا الوحا ، والنجاء النجاء ، فإن وراءكم طالبا حثيثا مرة، سريعا سيره"أ.هـ . * * * من خطب عمر : "الحمد لله الذى أعزنا بالإسلام ، وأكرمنا بالإيمان ، ورحمنا بنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فهدانا من الضلالة ، وجمعنا به من الشتات ، وألف بين قلوبنا ، ونصرنا على عدونا ، ومكن لنا فى البلاد ، وجعلنا به إخوانا متحابين . فاحمدوا الله على هذه النعمة ، واسألوه المزيد فيها والشكر عليها ، فإن الله قد صدقكم الوعد بالنصر على من خالفكم . وإياكم والعمل بالمعاصى ، وكفر النعمة فقلما كفر قوم بنعمة ولم يفزعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم . أيها الناس : إن الله قد أعز دعوة هذه الأمة ، وجمع كلمتها ، وأظهر فلجها ، ونصرها وشرفها ، فاحمدوه عباد الله على نعمة ، واشكروه على آلائه ، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين " أ. هـ . * * * وخطب مرة أخرى فقال : " أيها الناس : إنه قد أتى على زمان وأنا أرى أن قراء القرآن إنما يريدون به الله عز وجل وما عنده . ألا وإنه قد خيل إلى أن قوما مرائين يريدون به الناس والدنيا . ألا قأريدوا الله بأعمالكم . ألا إنما كنا نعرفكم إذ يتنزل الوحى ، وإذ رسول الله بين أظهرنا ينبئنا من أخباركم ، فقد انقطع الوحى ، وذهب النبى ، فإنما نعرفكم بما أقول لكم . . ص _358(1/346)
ألا من رأينا منه خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه ، ومن رأينا منه شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه ، سرائركم بينكم وبين ربكم . ألا وإنى إنما أبعث عمالي ليعلموكم دينكم وسنتكم ، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ، ويأخذوا أموالكم ، فوالذى نفسى بيده لأقصنكم منهم . فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت إن بعثت عاملا من عمالك ، فأدب رجلا من رعيتك أتقصه منه ؟ قال : نعم ، والذى نفس عمر بيده لأقصنه منه ، فلقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقص من نفسه " أ. هـ . * * * * من آخر ما قال عمر قال ابن عباس : دخلت على "عمر" فى أيام طعنته ، وهو مضطجع على وسادة من أدم ، وعنده جماعة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . . فقال له رجل : ليس عليك بأس . قال : " لئن لم يكن على اليوم ، ليكونن بعد اليوم ، وإن للحياة لنصيبا من القلب ، وإن للموت لكربة ، وقد كنت أحب أن أنجى نفسى وأنجو منكم ، وما كنت من أمركم إلا كالغريق يرى الحياة يرجوها ، ويخشى أن يموت دونها ، فهو يركض بيديه ورجليه ، وأشد من الغريق الذى يرى الجنة والنار وهو مشغول ، ولقد تركت زهرتكم كما هى ، ما لبستها فأخلقتها . . وثمرتكم يانعة فى أكمامها ، ما أكلتها . . وما جنيت ما جنيت إلا لكم ، وما تركت ورائى درهما ما عدا ثلاثين أو أربعين درهما " . ثم بكى ، وبكى الناس معه . فقلت : يا أمير المؤمنين أبشر ، فوالله لقد مات رسول الله وهو عنك راض ، ومات أبو بكر وهو عنك راض ، وإن المسلمين راضون عنك . قال : "المغرور والله من غررتموه ، أما والله لو أن لى ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطلع . . " أ. هـ . * * * ص _359(1/347)
* من عمر إلى أبى موسى كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعرى : " أما بعد ، فإن للناس نفرة عن سلطانهم ، فأعوذ الله ، أن تدركنى وإياك عمياء مجهولة ، وضغائن محمولة ، وأهواء متبعة ، ودنيا مؤثرة . أقم الحدود ولو ساعة من النهار ، وإذا عرض لك أمران : أحدهما لله والآخر للدنيا ، فآثر نصيبك من الآخرة ، على نصيبك من الدنيا فإن الدنيا تنفد ، والآخرة تبقي وكن من خشية الله على وجل ؛ وأخف الفساق ، واجعلهم يدا يدا، ورجلا رجلا. واستدم النعمة بالشكر والطاعة بالتألف ، والمغفرة والنصرة بالتواضع والمحبة للناس . وعد مرضى المسلمين ، واشهد جنائزهم ، وباشر أمورهم ، وافتح بابك لهم ؟ فإنما أنت رجل منهم ، غير أن الله جعلك أثقلهم حفلا . وقد بلغ أميز المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة فى لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها ؟ فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة : همها فى السمن والسمن حتفها . واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته ، وأشقى الناس من يشقى به الناس ، والسلام " . * * * * وصية عمر للخليفة من بعده : أوصى عمر الخليفة من بعده فقال : "أوصيك بتقوى الله لا شريك له . وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا وأن تعرف لهم سابقتهم . وأوصيك بالأنصار خيرا ؛ فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم . وأوصيك بأهل الأمصار خيرا ، فإنهم درء العدو ، جباة الفىء ، لا تحمل فيأهم إلا عن فضل منهم . وأوصيك بأهل البادية خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام ، أن تأخذ من حواشى أموال أغنيائهم فتردها على فقرائهم . ص _360(1/348)
وأوصيك بأهل الذمة خيرا ، أن تقاتل من ورائهم ، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا أو عن يد وهم صاغرون . وأوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه مخافة مقته أن يطلع منك على ريبة . وأوصيك أن تخشى الله فى الناس ، وألا تخشى الناس فى الله . وأوصيك بالعدل فى الرعية ، والتفرغ لحوائجهم وثغورهم ، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم ، فإن ذلك بإذن الله سلامة لقلبك ، وحط لوزرك ، وخير فى عاقبة أمرك حتى تفضى من ذلك إلى من يعرف سريرتك ، ويحول بينك وبين قلبك . وآمرك أن تشتد فى أمر الله ، وفى حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم ، ثم لا تأخذك فى أحد رأفة حتى تنهك منه ، مثل ما انتهك من حرمة الله . واجعل الناس عندك سواء ، لا تبال على من وجب الحق ، ثم لا تأخذك فى الله لومة لائم . وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المؤمنين ، فتجور وتظلم بل تحرم نفسك من ذلك مما قد وسعه الله عليك ، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة ، فإن اقترفت لدنياك عدلا وعفة عما بسط الله لك اقترفت به إيمانا ورضوانا ، وإن غلب عليك الهوى اقترفت به سخط الله . وأوصيك ألا ترخص لنفسك ، ولا لغيرك فى ظلم أهل الذمة . ولقد أوصيتك وحضضتك ونصحتك ، فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة ، واخترت من دلالتك ما كنت دالا عليه نفسى وولدى ، فإن عملت بالذى وعظتك وانتهيت إلى الذى أمرتك أخذت به نصيبا وافرا ، وحظا وافيا ، وإن لم تفعل ذلك ، ولم يهمك ، ولم تنزل معاظم الأمور عند الذى يرضى الله به عنك يكن ذلك بك انتقاضا ورأيك فيه مدخولا ، لأن الأهواء مشتركة ، ورأس كل خطيئة إبليس ، وهو داع إلى كل هلكة ، وقد أضل القرون السالفة قبلك فأوردهم النار ولبئس الثمن أن يكون حظ امرىء موالاة عدو الله الداعى إلى معاصيه . ثم اركب الحق ، وخض إليه الغمرات وكن واعظا لنفسك . أنشدك الله لما ترحمت على جماعة المسلمين ، فأجللت كبيرهم ، ورحمت صغيرهم(1/349)
، ووقرت عالمهم ، ولا تضربهم فيذلوا ، ولا تستأثر عليهم بالفىء فتغضبهم ، ولا تحرمهم ص _361
عطاياهم عند محلها فتفقرهم ، ولا تجمرهم فى البعوث فتقطع نسلهم ، ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم ، ولا تغلق بابك دونهم ، فيأكل قويهم ضعيفهم . هذه وصيتى إياك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام ". * * * * لعثمان رضى الله عنه : لما بويع عثمان رضى الله عنه خرج إلى الناس فخطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أيها الناس : أول كل مركب صعب ، وإن بعد اليوم أياما ، وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها ، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله" !!! ومن خطبة له قال : " أيها الناس : اتقوا الله فإن تقوى الله غنم ، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، واكتسب من نور الله نورا لظلمة القبر ، وليخشى عبد أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرا . وقد يلقى الحكيم جوامع الكلم ، ولكن الأصم ينادى من مكان بعيد . واعلموا أن من كان الله له لم يخف شيئا ، ومن كان الله عليه فمن يرجوه بعده" ؟ * * * وقال فى خطبة له : " ابن آدم : اعلم أن ملك الموت الذى وكل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك منذ أنت فى الدنيا ، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك ؟ فخذ حذرك ، واستعد له ، ولا تغفل فإنه لا يغفل عنك . واعلم ابن آدم أنك إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها لم يستعد لها غيرك . ولابد من لقاء الله ، فخذ لنفسك ولا تكلها إلى غيرك والسلام " . * * * ص _362(1/350)
وأخر خطبة خطبها عثمان قال : " إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ، ولم يعطيكموها لتركنوا إليها إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى ، لا تبطرنكم الفانية ، ولا تشغلنكم عن الباقية ، وآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله . اتقوا الله فإن تقواه جنة من بأسه ، ووسيلة عنده ، واحذروا من الله الغير . والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابا : (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) أ . هـ . * للإمام على رضى الله عنه الناس والعلم : قال كميل بن زياد النخعى : أخذ على بن أبى طالب رضى الله عنه بيدى ، فأخرجنى ناحية الجبّانة فلما أصحر جعل يتنفس ، ثم قال : يا كميل بن زياد : القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها ، احفظ عنى ما أقول لك : الناس ثلاثة : فعالم ربانى ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق . العلم خير من المال : العلم يحرسك وأنت تحرس المال . العلم يزكو على الإنفاق ، والمال تنقصه النفقة . العلم حاكم ، والمال محكوم عليه . ومحبة العلم دين يدان به . العلم يُكسب العالم الطاعة فى حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، وصنعيه المال يزول بزواله . ص _363(1/351)
مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون على الدهر ؛ أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم فى القلوب موجودة . هاه هاه ، إن ههنا علما ـ وأشار إلى صدره ـ لو أصبت له حملة ! . بل أصبت له لقنا غير مأمون عليه ، يستعمل آلة الدين للدنيا ، يستظهر بحجج الله على كتابه ، وبنعمه على عباده . أو منقادا لأجل الحق لا بصيرة له فى أحنائه ، ينقدح الشك فى قلبه بأول عارض من شبهة ، لا ذا ، ولا ذاك . أو منهوما باللذات ، سلس القيادة للشهوات . أو مغرى بجمع الأموال والادخار . ليسوا من دعاة الدين ؟ أقرب شبها بهم الأنعام السائمة . لذلك يموت العلم بموت حامليه . اللهم بلى ، لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته ، لكى لا تبطل حجج الله وبيناته . أولئك الأقلون عددا ، الأعظمون عند الله قدرا ، بهم يدفع الله عن حججه . حتى يؤدوها إلى نظرائهم ، ويزرعوها فى قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر ، فاستلانوا ما استرعوا منه المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان ، أرواحها معلقة بالملأ الأعلى . أولئك خلفاء الله فى أرضه ، ودعاته إلى دينه . هاه هاه شوقا إلى رؤيتهم ، وأستغفر الله لى ولك . إذا شئت فقم . * * * ص _364(1/352)
* بادروا بالعمل : أما بعد . . فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة قد اقتربت وأشرفت باطلاع . ألا وإن المضمار اليوم ، والسباق غدا . أفلا تائب من خطيئته قبل منيته ؟! ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ؟ . ألا وإنكم فى أيام أمل من ورائه أجل ، فمن أخلص فى أيام أمله ، قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ، ولم يضره أجله ، ومن قصر فى أيام أمله قبل أجله فقد خسر عمله وخَتَرَهُ أجلُه . ألا فاعملوا لله فى الرغبة ، كما تعملون له فى الرهبة . ألا وإنى لم أر كالجنة نام طالبُها ، ولا كالنار نام هاربُها . ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل ، ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال إلى الردى . ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد . وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباعُ الهوى وطولُ الأمل ، فتزودوا فى الدنيا ما تُحرزون به أنفسكم غدا . * المرء فى الدنيا : إنما المرء فى الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا ، ونهب للمصائب ، وفى كل أكله غُصص ، ومع كل جرعة شرق ، ولا ينال العبد فيها نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يستقبل يوما من عُمُرِه إلا بهدم آخر من أجله ، فنحن أعوان الحتوف ، وأنفسنا تسوقنا إلى الفناء . فمن أين نرجو البقاء ؟ وهذان الليل والنهار لم يرفعا من شىء شرفا إلا أسرعا الكرة فى هدم ما بنياه ، وتفريق ما جمعاه ...!!! فاطلبوا الخير وأهله . واعلموا أن خيرا من الخير معطيه ، وشرا من الشر فاعله . * * * ص _365(1/353)
* لا تذموا الدنيا : ذم رجل الدنيا عند على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه فقال على : الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار نجاة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، ومهبط وحى الله ، ومصلى ملائكته ، ومسجد أنبيائه ، ومتجر أوليائه ، ربحوا فيها الرحمة ، واكتسبوا فيها الجنة . فمن ذا الذى يذمها ؟ وقد آذنت ببينها ، ونادت بفراقها ، وشبهت بسرورها السرور ، وببلائها البلاء ترغيبا وترهيبا ؟ ! فيا أيها الذام للدنيا المعلل نفسه متى خدعتك الدنيا ؟ أم متى استذمت إليك ؟ أبمصارع آبائك فى البلى ؟ أم بمضاجع أمهاتك فى الثرى ؟ كم مرضت بيديك وكم عللت بكفيك ؟ تطلب له الشفاء ، وتستوصف له الأطباء ، غداة لا يغنى عنه دواؤك ، ولا ينفعه بكاؤك . * * * * قل من حرم زينة الله ؟ مرض الربيع بن زياد الحارثى ، فذهب أمير المؤمنين على بن أبى طالب يعوده ، فكان فيما قال له الربيع : يا أمير المؤمنين ألا أشكو إليك عاصم بن زياد ؟ قال : وما له ؟ قال : لبس العباءة ، وترك الملاءة ، وغم أهله ، وأحزن ولده . فقال : على عاصما . . فلما أتاه عبس فى وجهه ، وقال : ويلك يا عاصم ، أترى الله أباح لك اللذات ، وهو يكره أخذك منها ؟!. لأنت أهون على الله من ذلك . أو ما سمعته يقول : (مرج البحرين يلتقيان ، بينهما برزخ لا يبغيان) . ثم قال : (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) . وقوله : (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها). ص _366(1/354)
أما والله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال ، وقد سمعته عز وجل يقول : (وأما بنعمة ربك فحدث). ويقول : (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق). وإن الله عز وجل خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال : (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم). وقال : (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم). فقال عاصم : فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن ، وأكل الجشب ؟ قال : إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يشنع على الفقير فقره . قال : فما برح حتى لبس الملاء ، ونبذ العباء . * * * الله جل جلاله : قال فى خطبة له يثنى على الله : " هو أول كل شىء ووليه ، وكل شئ خاشع له ، وكل شىء قائم به ، وكل شىء ضارع إليه ، وكل شىء مستكين له . خشعت له الأصوات ، وكلت دونه الصفات ، وضلت دونه الأوهام ، وحارت دونه الأحلام ، وانحسرت دونه الأبصار . لا يقضى فى الأمور غيره ، ولا يتم شئ منها دونه . سبحانه ما أجل شأنه ، وأعظم سلطانه ، تسبح له السموات العلا ، ومن فى الأرض السفلى ، له التسبيح والعظمة ، والملك والقدرة ، والحول والقوة ، يقضى بعلم ، ويعفو بحلم . قوة كل ضعيف ، ومفزع كل ملهوف ، وعز كل ذليل وولى كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، وكاشف كل كربة ؛ المطلع على كل خفية ، المحصى كل سريرة يعلم ما تُكِنُّ الصدور ، وما تُرخى عليه الستور ، الرحيم بخلقه ، الرؤوف بعباده ؛ من تكلم ص _367(1/355)
منهم سمع كلامه ، ومن سكت منهم علم ما فى نفسه ، ومن عاش منهم فعليه رزقه ، ومن مات فإليه مصيره ؟ أحاط بكل شراء حفظه . اللهم لك الحمد عدد ما تحيى وتميت ، وعدد أنفاس خلقك ولفظهم ولحظ أبصارهم وعدد ما تجرى به الريح ، وتحمله السحاب ، ويختلف به الليل والنهار ، وتشرق عليه الشمس والقمر والنجوم ، حمدا لا ينقضى عدده ولا يفنى مدده . اللهم أنت قبل كل شيء ، وإليك مصير كل شيء ، وتكون بعد هلاك كل شيء ، وتبقى ويفنى كل شيء ، وأنت وارث كل شيء ، أحاط علمك بكل شيء ، وليس يعجزك شيء ، ولا يتوارى عنك شيء ، ولا يقدر أحد قدرك ، ولا يشكرك أحد حق شكرك ، ولا تهتدى العقول لصفتك ، ولا تبلغ الأوهام حدك . حارت الأبصار دون النظر إليك فلم ترك عين فتخبر عنك : كيف أنت ؟ وكيف كنت ؟ لا نعلم اللهم كيف عظمتك غير أنا نعلم أنك حى قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم لم ينته إليك نظر ، ولم يدركك بصر ، ولا تقدر قدرتك ملك ولا بشر ، أدركت الأبصار وكتبت الآجال ، وأحصيت الأعمال ، وأخذت بالنواصى والأقدام . لم تخلق الخلق لحاجة ولا وحشة ؛ ملأت كل شيء عظمة ، فلا يرد ما أردت ، ولا يعطى ما منعت ، ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد فى خلقك من أطاعك . كل سر عندك علمه ، وكل غيب عندك شاهده فلم يستتر عنك شيء ، ولم يشغلك شيء عن شيء . وقدرتك على ما تقضى ، كقدرتك على ما قضيت . وقدرتك على القوى كقدرتك على الضعيف ، وقدرتك على الأحياء كقدرتك على الأموات ، فإليك المنتهى وأنت الموعد ، لا منجى منك إلا إليك . بيدك ناصية كل دابة ، وبإذنك تسقط كل ورقة ولا يعزب عنك مثقال ذرة . " * * * * طلب التوبة اللهم إنه يحجبنى عن مسألتك خلال ثلاث ، وتحدونى عليها خلة واحدة . 1ـ يحجبنى أمرٌ أمرت به فأبطأت عنه . 2ـ ونهىٌ نهيتنى عنه فأسرعت إليه . ص _368(1/356)
3ـ ونعمة أنعمت بها على فقصرت فى شكرها . ويحدونى على مسألتك تفضلك على من أقبل بوجهه إليك ، ووفد بحسن ظنه إليك. إذ جميع إحسانك تفضل ، وإذ كل نعمك ابتداء . فها أنا ذا يا إلهى واقف بباب عزك وقوف المستسلم الذليل ، وسائلك على الحياء منى سؤال البائس المعيل ، مقرٌّ لك بأنى لم أستسلم وقت إحسانك إلا بالإقلاع عن عصيانك ، ولم أخل فى الحالات كلها من امتنانك . فهل ينفعنى ـ يا إلهى ـ إقرارى عندك بسوء ما اكتسبت ؟ وهل ينجينى منك اعترافى لك بقبيح ما ارتكبت ؟ أم أوجبت لى فى مقامى هذا سخطك ، أم لزمنى فى وقت دعائى مقتك ؟ سبحانك ؛ لا أيأس منك وقد فتحت لى باب التوبة إليك . بل أقول مقال العبد الذليل الظالم لنفسه المستخف بحرمة ربه الذى عظمت ذنوبه فجلت ، وأدبرت أيامه ، حتى إذا رأى مدة العمل قد انقضت ، وغاية العمر قد انتهت ، وأيقن أنه لا محيص له منك ، ولا مهرب له عنك ، تلقاك بالإنابة ، وأخلص لك التوبة فقام إليك بقلب طاهر نقى ، ثم دعاك بصوت حائل خفى . قد تطأطأ لك فانحنى ، ونكس رأسه فانثنى . قد أرعشت خشيته رجليه ، وغرقت دموعه خديه . يدعوك بـ " يا أرحم الراحمين ، ويا أرحم من أناب إليه المنيبون وانتابه المسترحمون ، ويا أعطف من أطاف به المستغفرون ، ويا من عفوه أكثر من نقمته ، ويا من رضاه أوفر من سخطه ، يا من تحمد إلى خلقه بحسن التجاوز ، ويا من عود عباده قبول الإنابة ، يا من استصلح فاسدهم بالتوبة ، ويا من رضى من فعلهم باليسير ، ويا من كافأ قليلهم بالكثير ، ويا من ضمن لهم إجابة الدعاء ، ويا من وعدهم على نفسه بتفضله حسن الجزاء . ما أنا بأعصى من عصاك فغفرت له . وما أنا بألوم من اعتذر إليك فقبلت منه . وما أنا بأظلم من تاب إليك فعُدت عليه . أتوب إليك فى مقامى هذا ، توبة نادم على ما فرط منه ، مشفق مما اجتمع عليه ، خالص الحياء مما وقع فيه ، عالم بأن العفو عن الذنب العظيم لا يتعاظمك ، وأن التجاوز عن الإثم الجليل(1/357)
لا يستصعبك ، وأن احتمال الجنايات الفاحشة لا يتكاءك ، وأن أحب عبادك إليك من ترك الاستكبار عليك ، وجانب الإصرار ، ولزم الاستغفار . ص _369
وأنا أبرأ إليك من أن أستكبر . وأعوذ بك من أن أصر . وأستغفرك لما قصرت فيه . وأستعين بك على ما عجزت عنه . اللهم صل على محمد وآله ، وهب لى ما يجب على لك ، وعافنى مما أستوجبه منك وأجرنى مما يخافه أهل الإساءة . فإنك ملىء بالعفو ، مرجو للمغفرة ، معروف بالتجاوز . ليس لحاجتى مطلب سواك . ولا لذنبى كافر غيرك ، حاشاك ، ولا أخاف على نفس إلا إياك . إنك أهل التقوى وأهل المغفرة . صل على محمد ، وآل محمد ، واقض حاجتى ، وأنجح طلبتى ، واغفر ذنبى وآمن خوف نفسى ، إنك على كل شيء قدير ، وذلك عليك يسير . آمين رب العالمين . * * * * وله رضى الله عنه فى التضرع : اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون ، ويا من إلى ذكر إحسانه يفزع المضطرون ، ويا من لخيفته ينتحب الخاطئون ، يا أنس كل مستوحش غريب ، ويا فرج كل مكروب كئيب ، وياغوث كل مخذول فريد ، ويا عضد كل محتاج طريد . أنت الذى وسعت كل شيء رحمة وعلما . وأنت الذى جعلت لكل مخلوق فى نعمك سهما . وأنت الذى عفوه أعلى من عقابه . وأنت الذى تسعى رحمته أمام غضبه . وأنت الذى عطاؤه أكثر من منعه . وأنت الذى اتسع الخلائق كلهم فى وسعه . وأنت الذى لا يرغب فى جزاء من أعطاه . وأنت الذى لا يفرط فى عقاب من عصاه . وأنا يا إلهى عبدك الذى أمرته بالدعاء فقال : لبيك وسعديك . ها أناذا يا رب مطروح بين يديك . أنا الذى أوقرت الخطايا ظهره . وأنا الذى أفنت الذنوب عُمُرَهُ . ص _370(1/358)
وأنا الذى ـ بجهله ـ عصاك ، ولم تكن أهلا منه لذاك . هل أنت ـ يا إلهى ـ راحمٌ من دعاك فأبلغ فى الدعاء ؟ أم أنت غافر لمن بكاك فأسرع فى البكاء ؟ أم أنت متجاوز عمن عفر لك وجهه تذللا ؟ أم أنت مغنى من شكى إليك فقره توكلا ؟ إلهى لا تخيب من لا يجد معطيا غيرك ، ولا تخذل من لا يستغنى عنك بأحد دونك. إلهى فصل على محمد وآله ، ولا تعرض عنى ، وقد أقبلتُ عليك . ولا تحرمنى ، وقد رغبت إليك ، ولا تجبهني بالرد ، وقد انتصبت بين يديك . أنت الذى وصفت نفسك بالرحمة ، فصل على محمد وآله ، وارحمنى . وأنت الذى سميت نفسك بالعفو فاعف عنى . قد ترى يا إلهى فيض دمعى من خيفتك ، ووجيب قلبى من خشيتك ، وانتفاض جوارحى من هيبتك . كل ذلك حياء منك لسوء عملى ، ولذاك خمد صوتى عن الجأر إليك ، وكل لسانى عن مناجاتك . يا إلهى فلك الحمد ، فكم من عائبة سترتها على فلم تفضحنى ؟ وكم من شائنة ألممت بها فلم تهتك عنى سترها ؟ ولم تقلدنى مكروه شنارها ولم تُبد سوءاتها لمن يلتمس معائبى من جيرتى ، وحسدة نِعمتك عندى . ثم لم ينهنى ذلك عن أن جريتُ إلى سوء ما عهدت منى . فمن أجهلُ منى ـ يا إلهى ـ برشده ؟ ومن أغفل منى عن حفظه ؟ ومن أبعد منى عن استصلاح نفسه ؟ حين أنفق ما أجريتَ على من رزقك فيما نهيتنى عنه من معصيتك ؟ ومن أبعد غورا فى الباطل ؟ وأشد إقداما على السوء منى حين أقف بين دعوتك ودعوة الشيطان ، فأتبع دعوته على غير عمى منى فى معرفة به ، ولا نسيان من ص _371(1/359)
حفظى له ، وأنا حينئذ موقن بأن منتهى دعوتك إلى الجنة ، ومنتهى دعوته إلى النار ؟ سبحانك ، ما أعجب ما أشهد به على نفسى ! وأعدده من مكتوم أمرى . . وأعجب من ذلك ، أناتك عنى ، وإبطاؤك عن معاجلتى . وليس ذلك من كرمى عليك ، بل تأنيا منك لى ، وتفضلا منك على ، لأن أرتدع عن معصيتك المسخطة ، وأقلع عن سيئاتى المحلقة ، ولأن عفوك عنى أحب إليك من عقوبتى . بل أنا يا إلهى أكثر ذنوبا وأقبح آثارا ، وأشنع أفعالا ، وأشد فى الباطل تهورا وأضعف عند طاعتك تيقظا ، وأقل لوعيدك انتباها وارتقابا من أن أحصى لك عيوبى ، أو أقدر على ذكر ذنوبى . وإنما أوبخ بهذا نفسى طمعا فى رأفتك التى بها صلاح أمر المذنبين ، ورجاء رحمتك التى بها فكاك رقاب الخاطئين . اللهم وهذه رقبتى قد أرقتها الذنوب ، فصل على محمد وآله وأعتقها بعفوك . وهذا ظهرى أثقلته الخطايا ، فصل على محمد وآله وخفف عنه بمنك . يا إلهى لو بكيت إليك حتى تسقط أشفار عينى . وانتحبت حتى ينقطع صوتى . وقمت لك حتى تتنشر قدماى . وركعت حتى ينخلع صلبى . وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاى . وأكلت تراب الأرض طول عمرى . وشربت ماء الرماد آخر دهرى . وذكرتك فى خلال ذلك حتى يكل لسانى ، ثم لم أرفع طرفى إلى آفاق السماء استحياء منك ، ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتى . وأن كنت تغفر لى حين أستوجب مغفرتك . وتعفو عنى حين أستحق عفوك . فإن ذلك غير واجب لى باستحقاق . ص _372(1/360)
ولا أنا أهل له باستيجاب . إذ كان جزائى منك فى أول ما عصيتك النار . فإن تعذبنى فأنت غير ظالم لى . إلهى فإذ قد تغمدتنى بسترك فلم تفضحنى . وتأنيتنى بكرمك فلم تعاجلنى . وحلمت عنى بتفضلك فلم تغير نعمتك على ، ولم تكدر معروفك عندى . فارحم طول تضرعى ، وشدة مسكنتى ، وسوء موقفى . اللهم صل على محمد وآله ، وقنى من المعاصى ، واستعملنى بالطاعة ، وارزقنى ، حسن الإنابة ، وطهرنى بالتوبة ،، وأيدنى بالعصمة ، واستصلحنى بالعافية ، وأذقنى حلاوة المغفرة ، واجعلنى طليق عفوك ، وعتيق رحمتك ، واكتب لى أمانا من سخطك ، وبشرنى بذلك فى العاجل دون الآجل بشرى أعرفها . إن ذلك لا يضيق عليك فى وسعك ، ولا يتكاءدك فى قدرتك ولا يتصعدك فى أناتك ، ولا يئودك فى جزيل هباتك التى دلت عليها آياتك . إنك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد ، إنك على كل شيء قدير . آمين رب العالمين . وصل اللهم على محمد وآله المطهرين . * * * * أبو الكلام آزاد فى سجنه يتحدث عن الإسلام ويحارب الاستعمار وتظهر عظمة آزاد ، ويتجلى إيمانه الوثيق بالله ، وفهمه الصحيح للإسلام ، حين قدّمه الإنجليز للمحاكمة بتهمة التحريض على الثورة ، وجمعوا لذلك أدلة الاتهام من خطبتين كان قد ألقاهما فى مدينة "كلكتا" ، يدعو المسلمين خاصة ، والهنود عامة إلى العصيان المدنى . كان ذلك فى أواخر سنة 1923 ، و"آزاد" فى بقية من شباب يحرص المرء عليها أشد الحرص ، ويضن بها أن تذهب فى مجال الحياة الجافية المظلمة داخل السجون . إن المرء فى هذه المرحلة من العمر يقف عادة وقفة المشفق على شبابه المتأهب للرحيل ، ووقفة الخائف من شبح الشيخوخة المقبلة . ص _373(1/361)
فهو من هذا ومن تلك مقبل على منفعته ، مشغول بنفسه . ولو وقف "آزاد" هذا الموقف قبل ذلك بسنوات ، لقلنا : إنها فورة الشباب وثورة الصبا تدعوه إلى المغامرة وتحمله على التهور . ولو وقف "آزاد" هذا الموقف بعد ذلك بسنوات ، لقلنا : إنه يأس الشيخوخة ومرارة الهرم ، حملته على أن يخرج من الحياة من هذا الباب فى صورة بطل من أبطال التاريخ ! ولكن شاء القدر أن يتخير لـ "آزاد" هذا الموقف بالذات ، فى الوقت الذى يقبل فيه وإحدى قدميه فى دنيا الشباب والأخرى فى طريقها إلى عالم الهرم . . أراد القدر ذلك ليثبت فى سجل الإنسانية آية من آيات السمو البشرى ، ومثلا من أمثلة الإنسانية الرفيعة فى الإيمان بالحق والقيام فى وجه الظالمين الطغاة . على حين اشتدت نوازع النفسى وقويت رغبتها فى الحياة ، وفى وقت استغلظ فيه بأس الظالمين وجُن جنونهم بالانتقام والتنكيل ! وهكذا التقى "آزاد" وحيدا إلا من إيمانه ، أعزل إلا من روحه . التقى بالإمبراطورية الإنجليزية كلها ، بما كان لها إذ ذاك من قوة متحكمة فى العالم متسلطة على الشرق والغرب ، وما كان لها من رهبة مخيفة مفزعة تطوف على الناس بالاستكانة إليها واليأس من الخلاص منها . التقى "آزاد" بهذه الإمبراطورية سجينا فى قفص الاتهام ، يواجه قضاة لا يطمع منهم فى رحمة ، ولا ينتظر لديهم إلا ما ينتظر الحمل الوديع من مخالب الأسد . وتدور المعركة فى ساحة المحكمة ، فيشهد التاريخ أعنف معركة وأعجبها . . يسجل فيها "آزاد" نصرا حاسما للإنسانية ، به يتقرر مصيرها ، ويتحدد موقفها لأجيال عديدة مقبلة . وندع الموقف لآزاد ، يتلو علينا فيه من آياته ما تعنو له جباه الجبابرة ، وتستخذى له قوى البغى وأبالسة الثمر فى كل مكان ، على قدر ما تشتد به عزائم الرجال وتقوى نفوس المؤمنين . استقبل "آزاد" المحكمة ثابت الجأش ، ساكن النفس ، كأنما يسعى إلى موعد حبيب إليه ، مألوف عنده ، وساد المحكمة سكون رهيب . . قطعة "آزاد"(1/362)
بقولة : " أيها القضاة ! إنى كنت عازما على ألا أقدم إلى المحكمة بيانا ما لأنها مكان لا رجاء ص _374
لنا فيه ، ولا طلب منه ، ولا شكوى إليه ، وإنما هى كمنعرج الطريق إلى المنزل ، لابد من قطعه للسالك ، ولذا نقف فيه وقفة على كره منا ، وإلا لدخلنا السجن توا" . فهو إنما يستعجل الطريق إلى السجن ، أو الموت ، لأن السجن أو الموت أحب إلى نفسه من أن يعيش طليقا فى وطن يتحكم فيه الظالمون ، ويستبد به الطغاة. ثم يقول: (إنى إذ أتدبر التاريخ العظيم لهذا الموقف ، وأرانى قد شرفت بالوقوف فيه ، تسبح روحى بحمد الله ، ويلهج لسانى بشكره من غير قصد منى ، وهو وحده يعلم ما أجده من الفرح والابتهاج ، إذ أحسبنى فى هذا القفص محسودا للملوك والسلاطين العظام . . فأين لهم في قصورهم المريحة ، تلك المسرة والراحة التى ترقص فى صدرى ؟ إنى أقول حقا : إنه لو أدركها الناس لتمنوا المثول فى هذا المكان ولنذروا النذور لأجله ! " . ويقول : " إنى كنت عازما على السكوت فى المحكمة ، ولكن لما أحضرت إليها ، ورأيت الحكومة تقدم في إثبات جريمتى الخطبتين اللتين ألقيتا فى مجامع "كلكتا" وهما لا تحتويان على جميع الأمور التى مازلت أكررها فى جميع خطبى ورسائلى ومقالاتى والتى إن قدمت كانت أنفع لقصدها ـ علمتُ أنها عاجزة حتى عن تهيئة المستند الذى يُعتبر فى هذه الأيام كافيا لإنزال العقاب بى ، مع شدة رغبتها وحرصها على سجنى ، فغيرت قصدى وقلت : إن العلة التى كانت مانعة من الكلام أصبحت موجبة له . وأردتُ أن أثبت بلسانى الأمر الذى لا تستطيع الحكومة إثباته" . أرأيتم متهما يقيم الدليل على تهمته ، ويمهد للقاضى سبيل الحكم عليه ؟ ولكن هكذا تكون مواقف الرجال فى ملاقاة الأهوال والمحن ! ثم يمضى "آزاد" يؤكد للمحكمة فى صراحة ثبوت التهمة الموجهة إليه فيقول : " إن كانت هذه التصريحات جناية فإنى معترف بأن قلبى قد اشتغل بها ولسانى نطق بها ، وأنا الذى صرحت بها أمام(1/363)
عشرات الألوف من الناس . . بل إنى لأجدنى الآن مدفوعا إلى التصريح بها أمام المحكمة ، ولا أزال قائلا بها ما دام لسانى بين أسنانى ، وروحى فى جثمانى ، وان لم أفعل ذلك أكن ظالما لنفسى ، وعاصيا عند الله وعند الناس أجمعين " أ. هـ . وهكذا يرى "آزاد" أن السكوت عن المنكر ظلم للنفس ، وعصيان لله وعقوق ص _375
للإنسانية ، . إنه مطالب أمام عقيدته الدينية ، وأمام ضميره الإنسانى أن يدفع هذا بكل ما يستطيع ، وما دامت القوة المادية غير مستطاعة له الآن ، فلا أقل من أن يعلن للظالمين بلسانه ، ويفضح آثامهم على أعين الناس ! ويصرخ "آزاد" فى وجه قضاته : " إنى مسلم . . ولأنى مسلم وجب على أن أندد بالاستبداد وأقبحه ، وأشهر بمساويه . إن الإسلام بمجرد ظهوره أعلن أن الحق ليسن للقوة ولا هو القوة ، بل الحق هو الحق ، وأنه ليس لأحد من البشر أن يعبد عباد الله ويذلهم ويسخرهم . . الناس كلهم متساوون فى الإنسانية ، متساوون فى الحق ، متساوون فى الحياة ، وليس اللون أو الجنس أو النسل معيارا للفضل والحسب ، وإنما معياره العمل وحده ، فأعلاهم قدرا ، وأكرمهم حسبا ، أحسنهم عملا ، وأتقاهم لله . . إن الإسلام أعلن حقوق الإنسان قبل انقلاب فرنسا بأحد عشر قرنا . . ولعمرى إن مطالبة المسلم بأن يسكت عن نصرة الحق ولا يسمى الظلم ظلما ، مثل مطالبته بأن يتنازل عن حياته الإنسانية ، فإن كنتم لا ترون لأنفسكم أن تطالبوا أحدا بأن يرتد عن دينه ، فليس لكم أن تطالبوا مسلما بأن يمتنع عن قوله للظالم إنه ظالم " . كذلك كان "آزاد" . . إنه لم يكن محترف سياسة ، يتحول بها مع الأحوال ويتقلب مع مقتضيات الظروف ، ولكنه صاحب دين ، وليس لصاحب الدين ، أن يقبل المساومة فى دينه ، والتنازل عن شيء من عقيدته . . إنها كل لا يتجزأ . . فإما الحق ، وإما الباطل . . وفى سبيل الحق يحتمل المسلم ـ فى إيمان وصبر ـ كل ما يعرض له من فتنة وبلاء . . ثم يقول "آزاد" : " الإسلام(1/364)
من أوله إلى آخره دعوة عامة إلى البسالة ، والجرأة ؟ والتضحية ، والاستهانة بالموت فى سبيل الحق . . وقد ابيضت عين الدهر ، ولم تر مثل هذه التضحيات الكثيرة فى إعلاء كلمة الحق التى قدمتها الأمة الإسلامية فى كل دور من حياتها . . ألا ! فلتعلم الحكومة الإنجليزية : أن المسلم الذى أمره ربه أن يرحب بالموت الأحمر ، ويتغلغل فى أعماق الدواهى والكوارث ، ولا يقبل السكوت عن الحق ، لا يخيفه قانون العقوبات الاستعمارى ، ولا يرده عن دينه وأداء فريضته . إنى أقول حقا : إنه لا يؤلمنى أن أرى الحكومة عازمة على معاقبتى ، وأنها لا تحاكمنى إلا لكى تزجنى فى السجون ، إذ هذا أمر لابد منه ؛ وإنما الذى يؤلمنى فيفتت كبدى ، هو أن أرى الحالة تنقلب انقلابا تاما فبدلا من أن ينتظر من المسلم صدق اللهجة والقول الحق ، يطلب منه السكوت عنه وكتمان الشهادة ، وألا يقول للظالم إنك ظالم ، لأن قانون المستعمرات يعاقب عليه " ! ص _376(1/365)
وفى ختام هذا المشهد الرائع العجيب ، يلتفت "آزاد" إلى أولئك الذين غرر بهم المستعمر من أبناء الهند ليقيموا الدليل على إدانته ، فيقيم لهم العذر ، ويطلب لهم المغفرة ، ويوجه إليهم الخطاب قائلا : " أصحابى . . ثقوا بأنى لا أغضب منكم ولا أحقد عليكم بل لا أتهمكم بالكذب والزور على ، لأن كل ما قلتموه فى الشهادة حق وصدق ، ولكنى أراكم قد عصيتم الله بمساعدة الحكومة الإنجليزية فى استبدادها ، وظلمها ، ومحاربتها للإسلام والإنسانية . . إنى أعلم أن صوت الضمير يوبخكم فى أعماق سرائركم على ما تعملونه ، ولكنكم إنما اضطررتم إليه اضطرارا ، لأنكم لا تملكون ما تسدون به عوزكم ، وترزقون به أهليكم ، وليس فيكم قوة لتحمل البأساء والضراء فى سبيل الحق . . فلذا لا أحنق عليكم ، ولا أعذلكم بل أعفو عنكم ، وأستغفر الله لكم . . " . إن "آزاد" يعرف الضعف الإنسانى الذى يتسلط على بعض الناس . . إنه لا يطلب من الحياة أن ترتفع بالناس جميعا إلى هذا المستوى الكريم الذى ارتفع إليه فى التضحية والاحتمال . . فهو يعذر ويغفر ، ومن ثم ، فإن صلاته بالضالين من مواطنيه تظل قائمة ، يعالجها بحكمته ، ويداويها بتسامحه . وقبل أن يسدل الستار على هذه المأساة التى يمثلها الاستعمار على مسرح القضاء ويلبسها ثوب العدل والحق ، يوجه "آزاد" حديثه إلى القاضى فيقول : ".. وأنت أيها القاضى ماذا عسى أن أقول لك ؟ إن أقول إلا ما قاله المؤمنون قبلى فى مثل موقفى هذا : (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) . أيها القاضى : لقد طال الحديث ، وآن أوان الوداع فليودع كل منا صاحبه ، إن ما يدور الآن بيننا ، سيسجله التاريخ فى سجله ليعتبر به المعتبرون . لقد اشتركنا فى ترتيبه على سواء . . أنا من القفص للجناة . وأنت من ذاك الكرسى للقضاء . . فهلم بنا نفرغ من هذا العمل ، لنسرع فى المجيء إليك ولتسرع أنت في القضاء علينا ، فإن هذا العمل لا يطول قليلا حتى يفتح باب(1/366)
محكمة أخرى ، محكمة قانون الله الحق . ص _377
إن الزمان سوف يقضى فيها ، وسوف يكون قضاؤه حقا ، وحكمه نافذا " أ. هـ. ذلك هو "آزاد" المسلم ، الذى تمكن الإسلام من قلبه ، فخاض لجج الأهوال وتقحم سبل المهالك ، دون أن تتعثر خطاه ، أو ينحرف عن غايته . إن الإسلام دين الوحدانية المطلقة التى رفعت بصر الإنسان خالصا لله ، لا يلتفت إلى سواه . . فمن آمن بهذا الدين فليرفع رأسه وليقل كلمة الحق لأنها كلمة الله . وقد وقف "آزاد" الموقف الذى يدعوه إليه دينه ، ويهتف به وجدانه . * صلاح النفس : رؤى أن رجلا أتى إبراهيم بن أدهم فقال : يا أبا إسحق . . إنى مسرف على نفسى ، فاعرض على ما يكون لها زاجرا ، أو مستنقذا . . قال إبراهيم : إن قبلت منى خمس خصال فقدرت عليها ، لم ـ تضرك المعصية. قال : هات يا أبا إسحق . . قال إبراهيم : أما الأولى ، فإذا أردت أن تعصى الله عز وجل فلا تأكل رزقه . . قال : فمن أين آكل ، وكل ما فى الأرض من رزقه ؟! قال : أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتعصيه ؟! قال : لا . . هات الثانية . قال : وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده . قال : هذه أعظم من الأولى يا إبراهيم . . إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن ؟! قال : يا هذا ، أفيحسن بك أن تأكل رزقه ، وتسكن بلاده ، وتعصيه ؟ قال : لا . . هات الثالثة . قال : وإذا أردت أن تعصيه فانظر موضعا لا يراك فيه . . فاعصه فيه . . قال : يا إبراهيم ما هذا ؟ وهو يطلع على ما فى السر ؟! قال : يا هذا أفيحسن بك أن تأكل رزقه ، وتسكن بلاده ، وتعصيه ، وهو يراك ويعلم ما تجاهر به ؟ قال : لا هات . . الرابعة . ص _378(1/367)
قال : إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له أخرنى حتى أتوب . قال : لا يقبل منى . . قال : يا هذا إذا كنت لا تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب ، وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير ، فكيف ترجو وجه الخلاص ؟! قال : هات الخامسة . . قال : إذا جاءك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم . . قال : إنهم لا يقبلون منى . قال : فكيف ترجو النجاة إذن ؟ قال : يا إبراهيم . . حسبى . . حسبى ، أنا أستغفر الله وأتوب إليه . . * * * * الحياة تافهة إذا خلت من مثل أعلى " علمتنى الحياة أننى ما حرصت على بلوغ شيء فبلغته ، إلا وأكون عند بلوغه قد زهدته . كنت صبيا أعيش فى أسرة مستورة الحال ، تهيأت لها أسباب العيش فى شيء من الطمأنينة والدعة ، ولم تتهيأ لها أسباب الثراء . . فتطلعت إلى خفض من العيش أوطأ مما كنت فيه ، فأراد الله أن أبلغ شيئا من ذلك ، وإذا أنا أزهد ما فى يدى منه ، لا أرى البيت الذى أسكنه ـ وكنت أتطلع إلى مثله فى مقتبل حياتى ـ إلا شيئا عاديا لا يشقى ولا يريح ، ولا أرى المال الذى أحرزته ـ وكنت أحسب أنه يحقق شيئا من السعادة ـ إلا شيئا تافها لا يؤخر ولا يقدم ، ولا أرى الجاه الذى بلغته ـ وكنت أنظر إلى مثله لدى غيرى فأتوق إليه ـ إلا شيئا فارغا لا ينقص ولا يزيد ، فعلمت أن الحياة تافهة ، ما لم يرسم الإنسان لنفسه هدفا ساميا يسعى لتحقيقه ، هدفا يعلو عن المادة ، ويبقى على الزمن ، إذا ما حقق شيئا منه طابت نفسه ، وطلب المزيد . * * * وعلمتنى الحياة أن الناس فى درك هاو من الخسة ، وفي درجة عالية من السمو ، ينطوون على الخير والشر معا ، ويهبطون بقدر ما يرتفعون . عرفت وأنا شاب فى العشرين شابا فى سنى ، وقامت بيننا أواصر الود والصداقة ثم ص _379(1/368)
تنكر لى بغتة ، وأبدى من أسباب الجفوة ما دل على انحطاط فى الخُلق ، ودناءة فى الطبع ، ثم ما لبث هذا الصديق ، فى ظروف أخرى ، أن صفا معدنه ، وسمت نفسه ، فتقدم فى ميدان الجهاد ، وبذل روحه فداء لأمته ، ومات شهيدا ، فعلمت أن الناس لا يخلصون شياطين ، ولا يتمحضون ملائكة ، والعاقل من لبس الناس على حالهم ، لا يزهد فى الصديق وإن بدا شره ، ولا يقطع ما بينه وبين الناس لجرح لا يلبث أن يندمل ، أو لعارض لا يلبث أن يزول . * * * وعلمتنى الحياة أن حظوظ الناس تبدو متفاوتة أكثر من حقيقتها ، وهم فى الواقع متقاربون فى الشقاء والسعادة ، لكل من حظه ما يسعده ، ومن همه ما يشقيه . عرفت رجلا كثير العيال رقيق الحال ، لا يشك من ينظر إليه فى أنه ضيق بحظه من الدنيا ، وهو لا يكاد يفيق من هم إلا ويعثر فى هم . وعلمت بعد ذلك أن الرجل ليس من الشقاء بالقدر الذى توحى به حاله ، فهو قد ألف ضيق العيش ، ووطن نفسه عليه ، حتى إذا أصابته نعمة ضئيلة على غفلة من دهره ، كان تقديره لها كبيرا ، وفرحه بها عظيما ، وذاق بها السعادة كما ذاق من قبلها الشقاء ، وعلمت من ثقة أن أحد ملوك المال فى مصر ، وهو رجل من أقوى الرجال فى بلده ، ومن أعرضهم جاها وأوسعهم نفوذا ، رجل عرف بالسيطرة على أقدار الحكومات ، حتى إنه ليُسقط حكومة ويقيم أخرى . هذا الرجل كثيرا ما يخلو إلى نفسه ، لينسى سوء حظه ، وليبتعد بشقائه عن عيون الناس ، بل إنه ليتسلل من سريرة فى جنح الظلام لينفرد بنفسه ويبكى . وعرفت سيدة كانت تتبرم من ضيق العيش ، ثم ورثت شقيقا لها ، فأصبحت تتبرم بما أصابته من مال لا تعرف كيف تستغله ، فآمنت بعد كل ذلك أن الناس سواسية فى الشقاء والسعادة ، على خلاف ما يبدو من تفاوتهم فى أحوالهم ، وأن فى الأرض عدلا بين الناس أكثر مما يظن الناس . * * * وعلمتنى الحياة أن نجاحى فيها رهن إيمانى بنفسى وإيمان الناس بى . فقد كانت ثقتى بنفسى تدفعنى إلى العمل ،(1/369)
وكانت ثقة الناس بى تجعلنى أطمئن إلى نتيجة عملى ، وهذا القدر المتوازن من ثقة الإنسان بنفسه وثقة الناس به ، لا بد منه لنجاحه فى الحياة . ص _380
فإن زادت ثقته فى نفسه على هذا القدر كان ذلك غرورا يضله عن الحقائق ، وإن جاوز اعتماده على ثقة الناس به هذا القدر ، بحيث أصبح لا يصدر إلا عن رأى الناس ولا ينزل إلا عند هواهم ، كان ذلك ضعفا واضطرابا يورثان انقيادا واستسلاما . وتابعت فى نفسى وفيمن حولى هذا التوازن ، فأدركت أنه ضرورى فى كثير من الصفات الأخرى ، هو ضرورى فى الواقعية والخيال ، فإن زادت الواقعية على الحد الواجب ، كان ذلك جمودا وضيقا فى الأفق ، وإن زاد الخيال كان ذلك ميوعة وإغراقا فى البعد عن الحقائق . وضرورى فى المادية والروحية ، فإن زادت المادية كان ذلك بلادة وتنكرا للقيم العليا فى الحياة ، وإن زادت الروحية كان ذلك عجزا عن مواجهة الحياة فى حقائقها المادية . وهو ضرورى فى الاختلاط بالناس ، والانطواء على النفس ، وإلا كان الإمعان فى الاختلاط بالناس إهدارا للشخصية ، وكان الإغراق فى الانطواء على النفس عزلة ضارة . ومع ذلك ، لابد من التسليم بصعوبة أن يجمع الإنسان فى نفسه هذا المزاج الموفق من الاعتدال والتوازن ، والأمر الجوهرى هو أن يعرف كيف يستطيع أن يتخفف من الإفراط فى صفة ، والتفريط فى أخرى . وعلمتنى الحياة أن الغفلة عن المستقبل هى أهم أسباب الراحة . وما تعبت لشيء أكثر من تعبى عندما أفكر فى المستقبل . ولعل الموت هو الحقيقة الأولى التى لا يتطرق إليها الشك ، فهو المستقبل المحتم. ومن نعم الله على الإنسان أن جعله قادرا على التغافل عن هذه الحقيقة ، وإلا ظل قلقا حائرا لا يفكر إلا فى الموت . وعلمتنى الحياة ألا تتسع أطماعى ، فلا أعرف أين أقف ، ثم يتعثر بى الحظ فأرضى بالقليل . وعلمتنى الحياة أننى أتعلم منها كل يوم ، ولن أنقطع عن التعلم حتى تنقضى الحياة ومن يدرى ـ إذا أنا عشت ـ ماذا سأتعلم(1/370)
منها غدا . " أ. هـ . * * * ص _381
وصايا الإمام الغزالى من رسالة تضمنت وعظ ملك أما بعد : فالنصيحة هى هدية العلماء ... وإنه لن يُهدى ـ أحد ـ إليه هدية فيجزيه بشيء أكرم من قبوله لها ، وإصغائه بقلب فارغ من ظلمات الدنيا إليها … وقد قيل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من أكرم الناس ؟ فقال : أتقاهم … فقيل : من أكيس الناس ؟ فقال : أكثرهم للموت ذكرا ، وأشدهم له استعدادا … وقال صلى الله عليه وسلم : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت . . والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأمانى . * * * وأشد الناس غباوة وجهلا من تهمه أمور الدنيا التى تختطف منه عند الموت ، ولا يعرف أهو من أهل الجنة أو من أهل النار ، وقد عرفه الله تعالى ذلك حيث قال : (إن الأبرار لفي نعيم) . (و إن الفجار لفي جحيم) . (فأما من طغى ، و آثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى) . (وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى). ص _382(1/371)
وإنى أوصيه أن يصرف إلى هذا المهم . . همته . . وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب . . وأن يراقب سريرته وعلانيته ، وأقواله ، وأفعاله . . أهى مقصورة على ما يعمر دُنياه بالمكدرات والهموم ، ثم يختمها والعياذ بالله بالشقاوة ...؟ فليفتح عن بصيرته : (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) . وليعلم أنه لا مشفق عليها ولا ناظر فى أمرها سواه . . وليتدبر ما هو بصدده . . فإن كان مشغولا بعمارة ضيعة فلينظر : كم من قرية أهلكها الله وهى ظالمة ، فهى خاوية على عروشها بعد عمارها ؟ وإن كان مقبلا على استخراج ماء أو عمارة نهر فلينظر : كم من بئر معطلة بعد عمارها ؟ وإن كان مهتما بتأسيس بناء فلينظر : كم من قصور مشيدة البنيان محكمة القواعد والأركان أظلمت بعد سكانها ؟ وإن كان مشغولا بخدمة سلطان فليتذكر ما ورد فى الخبر : أنه ينادى مناد يوم القيامة . . أين الظلمة وأعوانهم ؟ فلا يبقى أحد مد لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلا أُحضر . . فيجمعون فى تابوت من نار فيلقون فى جهنم . . وإن كان فى طلب المال وجمعه ، فليتأمل قول عيسى عليه السلام : " يا معشر الحواريين . . مسرة فى الدنيا . مضرة فى الآخرة . . بحق أقول لكم : لا تدخل الأغنياء ملكوت السماء " . وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : " يحشر الأغنياء أربع فرق : رجل جمع مالا من حرام وأنفقه فى حرام . . ص _383(1/372)
فيقال : اذهبوا به إلى النار . . ورجل جمع مالا من حرام وأنفقه فى حلال . . فيقال : اذهبوا به إلى النار . . ورجل جمع مالا من حلال وأنفقه فى حرام . . فيقال : اذهبوا به إلى النار . . ورجل جمع مالا من حلال وأنفقه فى حلال . . فيقال : قفوا هذا وسلوه . لعله ضيع بسبب غناه فيما فرضناه عليه . أو قصر فى الصلاة ، أو فى وضوئها ، أو فى ركوعها ، أو فى سجودها ، أو فى خشوعها ..؟ أو ضيع شيئا من فروض الزكاة والحج ... فيقول الرجل : جمعت مالى من حلال ، وأنفقته فى حلال . وما ضيعت شيئا من حدود الفرائض ، بل أتيت بتمامها . فيقال : لعلك باهيت بمالك ، واختلت فى شيء من ثيابك ؟ فيقول : يا رب ! ما باهيت بمالى ، ولا اختلت فى شيء من ثيابى . . فيقال : لعلك فرطت فيما أمرناك من صلة الرحم ، وحق الجيران والمساكين ، وقصرت فى التقديم والتأخير ، والتفضيل والتعديل . . ويحيط به هؤلاء فيقولون : ربنا ، أغنيته بين أظهرنا وأحوجتنا إليه فقصر فى حقنا... فإن ظهر تقصيره ذهب به إلى النار . . وإلا قيل له : قف ...! هات الآن شكر كل نعمة . . وكل شربة . . وكل أكلة . . وكل لذة . . فلا يزال يسأل ويسأل ... " . * * * ص _384(1/373)
فهذه حال الصالحين المصلحين القائمين بحقوق الله . . فكيف حال المفرطين المنهمكين فى الحرام والشبهات ..؟ * * * هذه المطالب الفاسدة ، هى التى استولت على قلوب الخلق ، تسخرها للشيطان وتجعلها ضحكة له . . فعليه وعلى كل مستمر فى عداوة نفسه أن يتعلم علاج هذا المرض الذى حل بالقلوب . . فعلاج مرض القلوب أهم من علاج مرض الأبدان . . ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم . وله دواءان : أحدهما : ملازمة ذكر الموت وطول التأمل فيه . . والدواء الثانى : تدبر كتاب الله تعالى ، ففيه شفاء ورحمة للعالمين ... وقد أوصى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بملازمة هذين الواعظين فقال : تركت فيكم واعظين : صامتا ، وناطقا . الصامت : الموت ... والناطق : القرآن ... وقد أصبح أكثر الناس أمواتا عن كتاب الله تعالى ، و إن كانوا أحياء فى معايشهم ، وبُكما عن كتاب الله ، وإن كانوا يتلونه بألسنتهم ، وصُما عن سماعه ، وإن كانوا يسمعونه بآذانهم ، وعميا عن عجائبه ، وإن كانوا ينظرون إليه فى مصاحفهم ، وأميين فى أسراره وإن كانوا يشرحونه فى تفاسيرهم . فاحذر أن تكون منهم . وتدبر أمرك ، وأمر من لم يتدبر ، كيف ندم وتحسر ؟ وانظر أمرك ، وأمر من لم ينظر فى أمر نفسه ، كيف خاب عند الموت وخسر؟ واتعظ بآية واحدة فى كتاب الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) . * * * ص _385(1/374)
وإياك . إياك . أن تشتغل بجمع المال . فإن فرحك به ينسيك أمر الآخرة ، وينزع حلاوة الإيمان من قلبك . قال عيسى عليه السلام : " لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا ، فإن بريق أموالهم يذهب بحلاوة إيمانكم " . * * * وأسأل الله أن يصغر عنده الدنيا التى هى صغيرة عند الله ، وأن يعظم فى عينيه الذى هو عظيم عنده ، وأن يوفقنا وإياه لمرضاته ويحله فى الفردوس الأعلى من جناته . بفضله ، وكرمه ، آمين . * * * * الرسالة التأديبية للإمام الغزالى : يقول الإمام الغزالى : إن هاشما الأصم كان من أصحاب شقيق البلخى رحمة الله عليهما . فسأله يوما فقال : صاحبتنى منذ ثلاثين سنة ما حصلت فيها ؟ قال : حصلت ثمانى فوائد من العلم ، وهى تكفينى منه لأنى أرجو خلاصى ونجاتى فيها . فقال شقيق : ما هى ؟ قال هاشم الأصم : الفائدة الأولى : إنى نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبا يحبه ويعشقه ، وبعض أولئك المحبوبين يصاحبه إلى مرض الموت ، والبعض الآخر إلى شفير القبر . ثم يرجع كله ويتركه فريدا ، وحيدا ، ولا يدخل معه فى قبره منهم أحد . فتفكرت وقلت أفضل محبوب المرء ما يدخل فى قبره ويؤانسه فيه ، فما وجدته فى غير الأعمال الصالحة ، فأخذتها محبوبا لى لتكون سراجا فى قبرى ، وتؤانسنى فيه ولا تتركنى فريدا . ص _386(1/375)
الفائدة الثانية : إنى رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم ، ويبادرون إلى مراد أنفسهم فتأملت قوله تعالى: (وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى) . فتيقنت أن القرآن حق صادق ، فبادرت إلى خلاف نفسى وتشمرت بمجاهدتها وما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة الله سبحانه وتعالى وانقادت . الفائدة الثالثة : إنى رأيت كل واحد من الناس يسعى فى جمع حطام الدنيا ، ثم يمسكه قابضا بيديه عليه . فتأملت قوله تعالى : (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) . فلذت بالإيثار ، واستودعت عند الله إعانة البائس ، وإسعاف الفقير ، لعلى أحشر فى ظل صدقتى يوم يقوم الناس لرب العالمين . الفائدة الرابعة : إنى رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزه فى كثرة الأقوام والعشائر فاعتز بهم . وزعم آخرون أنه فى حيازة الأموال ، وكثرة الأولاد فافتخروا بها . وحسب بعضهم الشرف والعز فى غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم . واعتقدت طائفة أنه فى إتلاف المال وإسرافه وتبذيره ، وتأملت قوله تعالى : (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). فأقبلت على ربى ونفضت يدى من هذه الملهيات والأباطيل . الفائدة الخامسة : إنى رأيت الناس يذم بعضهم بعضا ، ويغتاب بعضهم بعضا فوجدت ذلك من الحسد فى المال ، والجاه ، والعلم . فتأملت قوله تعالى : (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) . (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) . ص _387(1/376)
فعلمت أن القسمة من الله تعالى فى الأزل ، وأن الضيق بها حمق ، فما حسدت أحدا ورضيت بقسمة الله تعالى . الفائدة السادسة : إنى رأيت الناس يعادى بعضهم بعضا لشتى الأغراض والأسباب فتأملت قوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) . فعلمت أنه لا يجوز غير عداوة الشيطان ، فانتصبت له وتأهبت لحربه . الفائدة السابعة : إنى رأيت كل أحد يسعى بجده ، ويجتهد فى طلب القوت والمعاش ، بحيث يقع فى شبهة أو حرام ، بل قد يذل نفسه وينقص قدره ، فتأملت قوله تعالى : (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) . فعلمت أن رزقى على الله تعالى ، وقد ضمنه ، فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعى عمن سواه وترفعت عن الشبهات والدنايا . الفائدة الثامنة : إنى رأيت كل واحد يعتمد على مخلوق . بعضهم على الدنيا والدرهم . وبعضهم على المال والملك . وبعضهم على الحرفة والصناعة . وبعضهم على مخلوق مثله من الكبراء أصحاب الحول والطول . فتأملت قوله تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) . فتوكلت على الله تعالى ، فهو حسبى ونعم الوكيل . فقال شقيق : وفقك الله ، إنى نظرت فى التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان فوجدت الكتب الأربعة تدور حول هذه الفوائد ، فمن عمل بها كان عاملا بهذه الكتب الأربعة أ. هـ . ص _388(1/377)
بين العلم والعمل " رسالة من الإمام الغزالى إلى أحد تلاميذه . . " يا ولدى . . ! النصيحة سهلة ، ولكن الصعب قبولُها...! لأنها فى فم من لم يتعودها مرة المذاق . وإن من يحصل العلم ولا يعمل به ، تكون الحجة عليه أعظم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه " . يا ولدى . . . لا تكن من الأعمال مفلسا ، ولا من الاجتهاد فى الطاعة خاليا ، وتيقن أن العلم المجرد لا يأخذ باليد ، كما لو كان مع رجل عشرة أسياف هندية وهو في صحراء فخرج عليه أسد عظيم مهيب ، فهل تدفع عنه هذه الأسلحة دون أن يستعملها ؟! كذلك مثل العلم والعمل ، لا فائدة فى الأول بدون الثانى . يا ولدى . . . لو قرأت العلم مائة سنة ، وجمعت ألف كتاب ، لا تكون مستعدا لرحمة الله إلا بالعمل . (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) . (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا …). يا ولدى . . . ما لم تعمل لم تجد الأجر . وفيما يُنسبُ إلى "علىٍ" كرم الله وجهه : من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمن ، والمنى بضائع الحمقى . وقال الحسن البصرى رضى الله عنه : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب . وفى الخبر عن الله تعالى : "ما أقل حياء من يطمع فى جنتى بغير عمل " . ص _389(1/378)
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من اتبع هواها ، وتمنى على الله المغفرة " . يا ولدى . . . عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزى به . . والعلم بلا عمل جنون . . (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). والعمل بغير علم لا يكون . فلابد منهما معا . . وإن العلم وحده لا يبعدك اليوم عن المعاصى ، ولا ينجيك غدا من النار . . فإذا لم تجتهد اليوم فى العمل ، لتقولن يوم القيامة : ارجعنا نعمل صالحا : فيقال لك : يا هذا أنت من هناك جئت .؟ أ. هـ . * * * موقفى من الناس " علمتنى الحياة خطتين فى سياستى مع الناس . . خطة أتبعها فيما يصيبنى من الناس ، وخطة أتبعها فيما يصيب الناس منى . فاسترحت كثيرا من تبديد شعورى فى غير طائل ، وعرفت كيف يكون الاقتصاد فى إنفاق ثروة الحياة . أما خطتى فيما يصيبنى من الناس ، فهى أن أتناول طباعهم وأخلاقهم جملة واحدة ، ولا أفرق بينهم على حسب اختلاف الأشخاص والأفراد . كان الخُلُق الواحد فى مبدأ الأمر يسبب لى الألم وخيبة الرجاء عشرات المرات ، بل مئات المرات . . وكنت فى كل مرة أشعر بصدمة المفاجأة ، كأنى أكتشف شيئا جديدا لم أتوقعه من قبل . ثم تعودت مع الزمن أن أجعل للناس جميعا حسابا واحدا فى رصيد المكسب والخسارة ، فهبطت الخسارة كثيرا على الأقل ، وهذا فى ذاته مكسب محدود . ص _390(1/379)
تعودت أن أجمع الأخلاق إلى أنواعها ، وأن أضع كل نوع منها تحت عنوانه ، فى الناس أنانية ، فى الناس صغار ، فى الناس سخافة ، فى الناس نقائض وغرائب ، وهكذا ، وهكذا إلى آخر هذه المألوفات التى توارثناها نحن أبناء آدم وحواء ، فليس فيها من جديد . فإذا أصابنى من الناس شيء مكدر ، رجعت به إلى عنوانه ، فوجدته مسجلا هناك ولم يفاجئنى بما لا أنتظر ، فى الناس أنانية ، فى الناس صغار ، نعم . . نعم وماذا فى ذلك ؟ ألم تعلم هذا من قبل ؟ بلى ، علمته مرة بعد مرة ، فما وجه الاستغراب ، ولماذا الألم والشكوى ؟ وراقبتُ نفسى طويلا فوضعتُ نفسى فى القائمة ، وتعودت أن أقول لها كلما أصابها ما يكدرها : " وأنتِ أيضا كذلك " فلا محل للحساب والعقاب . أما خطتى فيما يصيب الناس منى ، فهى أن أسأل نفسى كلما شعرت بسخطهم أو انتقادهم : " هل الأمر يعنينى ؟ " وبعبارة أخرى " هل يضيرنى أن أفقد رضاهم ، وهل يعيبنى أن أفقده ؟ " . فإذا كان فى الأمر ما يضير أو ما يعيب ، فالأمر يعنينى ولابد من معالجته بما أستطيع ، وإلا فلا وجه للتعب والاكتراث ، وعولت دائما على المقياس العملى لأن الجرى وراء النظريات لا ينتهى إلى غاية ، فكنت أضع أمامى على الدوام خمسة أو ستة من الذين أعرفهم ، وأعرف أنهم من أصحاب الحظوة عند الناس ، وأن الناس لا يسخطون عليهم ، ولا ينتقدونهم ، فأتساءل : وهل يسرك أن تكون مثلهم ، وأن تحصل على الرضا كما حصلوا عليه ؟ وكان جواب هذا التساؤل نافعا لى على الدوام ، لأنه يحدد لى العلم اللازم ، أو يعفينى من كل عمل ، ويبين لى فى معظم الأحوال أن ثروة الرضا والثناء عملة زائفة ، أو عملة صحيحة ، على أحسن الوجوه ، ولكن الاستغناء عنها غير عسير . * * * ومن التجارب الكثيرة فى الأشخاص الذين عرفتهم حق المعرفة تبين لى أنهم يحتالون ، ويتعبون عقولهم وضمائرهم فى الاحتيال ، طلبا للشهرة التى لا تهمهم لذاتها ، ولكنها تهمهم لغاية يصلون إليها من(1/380)
ورائها . ص _391
وحمدت الله لأن تلك الغاية لا تهمنى أنا ، ولا تستحق عندى أن أبذل فيها أى تعب حتى لو استطعته كل لحظة ، وكنت كمن يتمنى نصيبا من المال ليشترى به شيئا ثم علم أن الشيء لا يستحق الشراء ، فاستغنى عن المال واستغنى عن ثمنه . خطتان سهلتان ـ خطة مع الناس ، وهى أن أجمعهم جملة واحدة . وخطة مع نفسى ، وهى أن تقصر جهودها وهمومها على ما يعنيها . والخطتان سهلتان ، كما قلت ، ولكنى لا أنسى أن أقول : إنهما سهلتان على من هو مثلى ، مطبوع على العزلة وقلة الاختلاط بالناس . وحب العزلة عادة لم أتعلمها من الحياة ، بل أخذتها من أبوى الاثنين بغير تعليم فمن استطاع أن يتعلمها فليتعلمها ، إن كانت تعنيه . " أ. هـ . * * * * من خطبة لعمر بن عبد العزيز قال (رضى الله عنه) : " أيها الناس . . إنكم لم تُخلقوا عبثا ، ولم تُتركوا سُدى ، وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه ، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التى وسعت كل شيء ، وحرم جنة عرضها السموات والأرض ، واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف اليوم ، وباع قليلا بكثير ، وفانيا بباق . ألا ترون أنكم فى أسلاب الهالكين ، وسيخلفها بعدكم الباقون ! كذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين . ثم إنكم فى كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله ، قد قضى نحبه ، وبلغ أجله ، ثم تغيبونه فى صدع من الأرض ، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد ، قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب ، وواجه الحساب مرتهنا بعمله ، غنيا عما ترك ، فقيرا إلى ما قدَّم. وأيم الله ، إنى لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندى ، فأستغفر الله لى ولكم . وما تبلغنا عن أحد منكم حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناه . ولا أحد منكم إلا ووددت أن يده مع يدى ولحمتى الذين يلوننى ، حتى يستوى عيشنا وعيشكم . وأيم الله إنى لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به ناطقا ذلولا ، عالما ص _392(1/381)
بأسبابه ، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق ، وسنة عادلة ، دل فيها على طاعته ، ونهى عن معصيته . . ثم بكى . . " فتلقى دموع عينيه بردائه ونزل . . فلم ير بعدها على تلك الأعواد حتى قبضه الله تعالى . * * * * هكذا ترك الخليفة أولاده : دخل مسلمة بن عبد الملك على "عمر بن عبد العزيز" فى المرضة التى مات فيها فقال له : يا أمير المؤمنين إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال ، وتركتهم عالة ، ولابد لهم من شيء يصلحهم ، فلو أوصيت بهم إلى ، أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مؤونتهم إن شاء الله . فقال عمر : أجلسونى ، فأجلسوه ، فقال : الحمد الله : أبالله تخوفنى يا مسلمة ؟ أما ذكرت أنى فطمت أفواه ولدى عن هذا المال ، وتركتهم عالة ، فإنى لم أمنعهم حقا هو لهم ، ولم أعطهم حقا هو لغيرهم . وأما ما سألت من الوصاة إليك ، أو إلى نظرائك من أهل بيتى ، فإن وصيتى بهم إلى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . و إنما بنو "عُمَر" أحد رجلين : رجل اتقى الله ، فجعل الله له من أمره يسرا ورزقه من حيث لا يحتسب ، ورجل غير وفجر ! فلا يكون "عمر" أول من أعانه على ارتكابه الآثام . ادعوا إلى بنى ... فدعوهم وهم يومئذ اثنا عشر غلاما .؟ . فجعل يُصعد بصره فيهم ويصوبه ـ حتى اغرورقت عيناه بالدمع ـ ثم قال : بنفسى فتية تركتهم ولا مال لهم !! يا بنى إنى قد تركتكم من الله بخير ، إنكم لا تمرون على مسلم ، ولا مُعاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله . ص _393(1/382)
يا بنى : لقد أدرتُ رأيى بين أن تفتقروا فى الدنيا ، وبين أن يدخل أبوكم النار . فكان ان تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخولكم وأبيكم يوما واحدا فى النار . قوموا يا بنى عصمكم الله ورزقكم . قال : فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر . * * * * الإمام العادل : طلب "عمر بن عبد العزيز" حين ولى الخلافة إلى "الحسن البصرى" أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل ، فكتب إليه الحسن رحمة الله : " اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل ، وقصد كل جائر ، وصلاح كل فاسد ، وقوة كل ضعيف ، ونصفة كل مظلوم ، ومفزع كل ملهوف . والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعى الشفيق على إبله ، الرفيق بها ، الذى يرتاد لها أطيب المرعى ، ويذودها عن مراتع الهلكة ، ويحميها من السباع ، ويكنفها من أذى الحرِّ والقرِّ . والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحانى على ولده ، يسعى لهم صغارا ، ويعلمهم كبارا ، يكتسب لهم فى حياته ، ويدخر لهم بعد مماته . والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها ، حملته كرها ووضعته كرها ، وربته طفلا ، تسهر بسهره ، وتسكن بسكونه ، ترضعه تارة ، وتفطمه أخرى ، وتفرح بعافيته ، وتغتم بشكايته . والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصى اليتامى ، وخازن المساكين ، يربى صغيرهم ، ويمون كبيرهم . والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح ، تصلح الجوانح بصلاحه ، وتفسد بفساده . والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده ، يسمع كلام الله ويُسمعهم ، وينظر إلى الله ويُريهم ، وينقادُ إلى الله ويقودهم . ص _394(1/383)
فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده ، واستحفظه ماله وعياله ، فبدد المال ، وشرد العيال ، فأفقر أهله ، وفرق ماله . واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش ، فكيف إذا أتاها من يليها ؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده ، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم ؟! واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده ، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه ، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر . واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذى أنت فيه ، يطول فيه ثواؤك ويفارقك أحباؤك ، ويسلمونك إلى مقرك فريدا وحيدا . فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه . واذكر يا أمير المؤمنين إذا بُعثر ما فى القبور ، وحُصِّلَ ما فى الصدور ، فالأسرار ظاهرة ، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فالآن يا أمير المؤمنين وأنت فى مهل ، قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل ، لا تحكم يا أمير المؤمنين فى عباد الله بحكم الجاهلين ، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين ، فإنهم لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة ، فتبوء بأوزارك ، وأوزار مع أوزارك ، وتحمل أثقالك ، وأثقالا مع أثقالك . ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ، ويأكلون الطيبات فى دنياهم بإذهاب طيباتك فى آخرتك ، لا تنظر إلى قدرتك اليوم ، ولكن انظر إلى قدرتك غدا وأنت مأسور فى حبائل الموت ، وموقوف بين يدى الله فى مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين ، وقد عنت الوجوه للحى القيوم . إنى يا أمير المؤمنين و إن لم أبلغ بعظتى ما بلغه أولو النهى من قبلى ، فلم آلك شفقة ونصحا ، فأنزل كتابى إليك كمداوى حبيبه ، يسقيه الأدوية الكريهة ، لما يرجو له فى ذلك من العافية والصحة . والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته " أ. هـ . * * * ص _395(1/384)
* نموذج للحاكم المسلم : دخل "ضرار الصدائى" على "معاوية" فقال له : يا "ضرار" صف لى "عليا" . قال : اعفنى يا أمير المؤمنين . قال : لتصفنه . قال : أما إذ لا بد من وصفه فكان ـ والله ـ بعيد المدى ، شديد القوى . يقول فصلا ، ويحكم عدلا . يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطلق الحكمة من نواحيه . يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته . وكان غزير الغبرة ، طويل الفكرة . يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن . وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، وينبئنا إذا استنبأناه ، ونحن والله ـ مع تقريبه إيانا وقربه منا ـ لا نكاد نكلمه هيبة له . يعظم أهل الدين ، ويقرب المساكين . لا يطمع القوى فى باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله . وأشهد لقد رأيته فى بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكى بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا غرى غيرى . . إلى تعرضت أم إلى تشوقت ؟ هيهات هيهات !! قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها . فعمرك قصير ، وخطرك حقير . آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق . فبكى معاوية وقال : رحم الله أبا الحسن . . كان ـ والله ـ كذلك . فكيف حزنك عليه يا "ضرار" ؟ قال : حزن من ذبح ولدها وهو فى حجرها . * * * ص _396(1/385)
* خطبة يزيد بن الوليد : لما قتل "الوليد بن يزيد" قام ابن عمه "يزيد بن الوليد بن عبد الملك" خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أيها الناس : والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ، ولا حرصا على الدنيا ، ولا رغبة فى الملك ، وما بى إطراء نفسى ، ولا تزكية عملى ، و إنى لظلوم لنفسى إن لم يرحمنى ربى . ولكنى خرجت غضبا لله ودينه . داعيا إلى الله وسنة نبيه لما هُدمت معالم الهدى وأطفىء نور التقوى ، وظهر الجبار العنيد ، المستحل لكل حرمة ، الراكب لكل بدعة ، مع أنه والله ما كان يؤمن بيوم الحساب ، ولا يصدق بالثواب والعقاب ، وإنه لابن عمى فى النسب ، وكُفئى فى الحسب ، فلما رأيت ذلك ، أشفقت إن غشيتكم ظلمة لا تقلع عنكم على كثرة من ذنوبكم وقسوة من قلوبكم ، وأشفقت أن يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو علية ، فيجيبه من أجابه منكم ، فاستخرت الله فى أمرى ، وسألته ألا يكلنى إلى نفسى ، ودعوت إلى ذلك من أجابنى من أهل ولايتى ، حتى أراح الله منه العباد ، وطهر منه البلاد بحول الله وقوته ، لا بحولى وقوتى . أيها الناس : إن لكم على ألا أضع حجرا على حجر ، ولا لبنة على لبنة ، ولا أكرى نهرا ولا أكنز مالا ، ولا أعطيه زوجا ولا ولدا ، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد فقر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم ، فإن بقى فضل فهو إلى البلد الذى يليه ممن هو أحوج إليه منه حتى تستقيم المعيشة بين المسلمين ، وتكونوا فيه سواء ، ولكم ألا أجمركم فى ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهلكم ، وألا أغلق بابى دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم ، وألا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم وأقطع نسلهم . ولكم عندى أعطياتكم فى كل سنة ، وأرزاقكم فى كل شهر ، حتى يعم الخير بين المسلمين ، فيكون أقصاهم كأدناهم . فإذا أنا وفيت لكم فعليكم السمع والطاعة ، وحسن المؤازرة والمكاتفة . وإن أنا لم أف لكم ، فلكم أن تخلعونى إلا أن تستتيبونى ، فإن أنا تبت قبلتم منى . ص _397(1/386)
وإن عرفتم أحدا يقوم مقامى ـ ممن يُعرَفُ بالصلاح ـ يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من بايعه ودخل فى طاعته . أيها الناس : لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم " أ. هـ . * * * * أبو حمزة الخارجى يصف أصحابه : يا أهل مكة . . تعيروننى بأصحابى ؟. تقولون : إنهم شباب ! وهل كان أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا شبابا ؟ شباب والله مكتهلون فى شبابهم . عَمِيَة عن الشر أعينهم ، بطيئة عن الباطل أرجلهم . قد نظر الله إليهم فى آناء الليل منثنية أصلابهم بمثانى القرآن . إذا مرّ أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها . وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم فى أذنيه ... قد وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم . أنضاء عبادة . . قد أكلت الأرض جباههم وأبدانهم وزكتهم من كثرة السجود . مصفرة ألوانهم ، ناحلة أجسامهم من كثرة الصيام وطول القيام . مستقلون لذلك فى جنب الله ، موفون بعهد الله ، حتى إذا رأوا سهام العدو قد فوقت ، ورماحه قد شرعت وسيوفه قد انتضيت ، وبرقت الكتيبة بصواعق الموت ، استهانوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله ... فمضى الشباب منهم قُدُمًا حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه قد زُمِّلت محاسن وجهه بالدماء ... وعُفر جبينه بالثرى ... وأسرع إليه سباع الأرض ، وانحطت عليه طير السماء … ص _398(1/387)
فكم من مقلة فى فم طائر ، طالما بكى صاحبها من خشية الله ..؟ وكم من كفٍّ بانت من معصمها ؟ طالما اعتمد عليها صاحبها فى سجوده ؟ وكم من خد عتيق ، وجبين رقيق ، قد فلق بعمد الحديد ..؟ رحمة الله على تلك الأبدان . . وأدخل أرواحها فى الجنان . . * * * * رجل مؤمن يعظ المنصور : بينما المنصور فى الطواف ليلا إذ سمع قائلا يقول : اللهم إنى أشكو إليك ظهور البغى والفساد فى الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع . فخرج "المنصور" فجلس ناحية من المسجد ، وأرسل إلى الرجل يدعوه . فصلى الرجل ركعتين ، واستلم الركن ، ثم أقبل مع الرسول ، فسلم عليه بالخلافة . فقال المنصور : ما الذى سمعتك تقول من ظهور البغى والفساد فى الأرض ؟ وما الذى يحول بين الحق وأهله من الطمع ؟ فوالله لقد حشوت مسامعى ما أمضنى !! فقال : إن أمَّنتنى يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها ، وإلا احتجزت منك ، واقتصرت على نفسى فلى فيها شاغل . . قال : فأنت آمن على نفسك . فقال : يا أمير المؤمنين إن الذى دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر فى الأرض من الفساد والبغى لأنت ! فقال: كيف ذلك ؟ ويحك … أيدخلنى الطمع والصفراء والبيضاء فى قبضتى ، والحلو والحامض عندى !! قال : وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك ؟ إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم فأغفلت أمورهم ، واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر ، وأبوابا من الحديد ، وحراسا معهم السلاح ، ثم حجبت نفسك عنهم فيها . ص _399(1/388)
وبعثت عمالك فى جباية الأموال وجمعها ، وأمرت ألا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان نفرا سميتهم ...، ولم تأمر بإيصال المظلوم ، ولا الملهوف ، ولا الجائع ، ولا العارى إليك ، ولا أحد إلا وله فى هذا المال حق . فلما رآك هؤلاء النفر استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك ، وأمرت ألا يحجبوا دونك تجبى الأموال وتجمعها ، ولا تقسمها على أهلها ، قالوا : هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه؟! فائتمروا ألا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم ، إلا خوَّنوه عندك حتى تسقط منزلته ، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظَّمهم الناس وهابوهم وصانعوهم ، فكان أول من صانعهم عُمَّالك بالهدايا والأموال ليقدروا بها على ظلم رعيتك ، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك ، لينالوا ظلم من دونهم ، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغيا وفسادا ، وصار هؤلاء القوم شركاءك فى سلطانك وأنت غافل ، فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه ، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك ، وجدك قد نهيت عن ذلك ، ووقّفت للناس رجلا ينظر فى مظالمهم ، فإن جاء ذلك المتظلم ، فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك …، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ، ويلوذ به ويشكو ، ويستغيث ، وهو يدفعه ، فإذا أجهد وأحرج ثم ظهرت صرخ بين يديك !!، فيضرب ضربا مبرحا يكون نكالا لغيره ، وأنت تنظر فما تنكر !! فما بقاء الإسلام على هذا ؟ وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين ، فقدمتها مرة ، وقد أصيب ملكهم بسمعه ، فبكى بكاء شديدا ، فحثه جلساؤه على الصبر … فقال : أما إنى لست أبكى للبلية النازلة ، ولكنى أبكى لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته . ثم قال : أما إذ ذهب سمعى ، فإن بصرى لم يذهب ، نادوا فى الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلم . ثم كان يركب البغل طرفى النهار هل يرى مظلوما ؟ فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله بلغت رأفته بالمشركين هذا(1/389)
المبلغ وأنت مؤمن بالله ومن أهل بيت نبيه ، ولا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك !!!. فإن كنت إنما تجمع المال لولدك ، فقد أراك الله عِبَرًا فى الطفل يسقط من بطن أمه ، ص _400
ما له على الأرض ، من مال يعطى ، إلا ودونه يد شحيحة تحويه ، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه . ولست الذى تعطى ، بل الله يعى من يشاء ما يشاء . فإن قلت : إنما تجمع المال لتشديد السلطان ، فقد أراك الله عبرا فى بنى أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب ، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد . وإن قلت : إنما تجمع المال لغاية هى أجسم من الغاية التى أنت فيها ، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه … يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل ؟ فقال المنصور : لا . فقال : فكيف تصنع بالملك الذى خولك ملك الدنيا ، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ، ولكن بالخلود فى العذاب الأليم ؟ فقد رأى ما عقدت عليه قلبك ، وما عملته جوارحك ، ونظر إليه بصرك ، واجترحت يداك ، ومشت إليه رجلاك ، هل يغنى عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب ؟ فبكى المنصور ثم قال : ليتنى لم أخلق !! ويحك كيف أحتال لنفسى ؟ فقال : يا أمير المؤمنين إن للناس أعلاما ؟ يفزعون إليهم فى دينهم ، ويرضون بهم فى دنياهم ، فاجعلهم بطانتك يرشدوك ، وشاورهم فى أمرك يسددوك . قال : قد بعثت إليهم فهربوا منى . قال : خافوك أن تحملهم على طريقتك ، ولكن افتح بابك ، وسهل حجابك ، وانصر المظلوم ، واقمع الظالم ، وخذ الفىء والصدقات على حلِّها ، واقسمها بالحق والعدل على أهلها ، وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة . ثم جاء المؤذنون ، فآذنوه بالصلاة فصلَّى ، وعاد إلى مجلسه ، وطُلِبَ الرجل فلم يوجد ! * * * ص _401(1/390)
* ولا تركنوا إلى الذين ظلموا : لقى أبو جعفر المنصور "سفيان الثورى" فى الطواف ـ و "سفيان" لا يعرفه ـ فضرب بيده على عاتقه وقال : أتعرفنى ؟ قال : لا ، ولكنك قبضت على قبضة جبار . قال : عظنى أبا عبد الله . قال : وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت ؟! قال : فما يمنعك أن تأتينا ؟ قال : إن الله نهى عنكم ، فقال تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) . فمسح أبو جعفر يده به ثم التفت إلى أصحابه ، فقال : ألقينا الحَبَّ إلى العلماء ، فلقطوا … إلا ما كان من سفيان ، فإنه أعيانا فرارا . * * * * خطبة للمأمون فى عيد الفطر : قال بعد التحميد والتكبير : " ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسرور ، وابتهال ورغبة ، يوم ختم الله صيام شهر رمضان وافتتح به حج بيته الحرام فجعله خاتمة الشهر وأول شهور الحج ، وجعله معقبا لمفروض صيامكم ، ومتنفِّل قيامكم ، أحل الله لكم الطعام ، وحرم عليكم فيه الصيام ، فاطلبوا إلى الله حوائجكم ، واستغفروه لتفريطكم ، فإنه يقال لا كبيرة مع ندم واستغفار ، ولا صغيرة مع تماد وإصرار ، ثم كبر وحمد ، وذكر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوصى بالبر والتقوى ثم قال : اتقوا الله عباد الله ، وبادروا الأمر الذى اعتدل فيه يقينكم ، ولم يحضر الشك فيه أحدا منكم ، وهو الموت المكتوب عليكم ، فإنه لا تستقال بعده عثرة ، ولا تحذر قبله توبة ، واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه ولا شيء بعده إلا فوقه ، ولا يعين على ص _402(1/391)
جزعه وكربه ، وعلى القبر وظلمته ، ووحشته ، وضيقه ، وهول مطلعه ومسألة ملكية ، إلا العمل الصالح الذى أمر الله به ، فمن زلَّت عند الموت قدمه ، فقد ظهرت ندامته ، وفاتته استقامته ، ودعا من الرجعة مالا يجاب إليه ، وبذل من الفدية مالا يقبل منه ، فالله الله عباد الله ، كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ مُنعها الذين طلبوها ، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا الأجل المبسوط لكم ، فاحذروا ما حذركم الله منه ، واتقوا اليوم الذى يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم ، ونشر صحائفكم الحافظة لأعمالكم فلينظر عبد ما يضع فى ميزانه مما يثقل به وما يملى فى صحيفته الحافظة لما عليه وله ، فقد حكى الله لكم ما قال المفرطون عندما طال إعراضهم عنه ، قال جل ذكره : (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك أحدا) . وقال : (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين) . ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها ، فإن كل ما بها يحذر منها وينهى عنها ، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها ، وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ، ذم كتاب الله لها والنهى عنها فإنه يقول تبارك وتعالى : (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) . وقال : (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) . فاكتفوا بمعرفتكم بها وبأخبار الله عنها ! واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله ، فحذروا مصارعها ، وجانبوا خدائعها ! وآثروا طاعة الله فيها ، وأدركوا الجنة بما تركوا منها " . ص _403(1/392)
* من كلام الأعراب : قال الأصمعى : أصابت الأعراب أعوامٌ جدب ، وشدة وجهد ، فدخلت طائفة منهم البصرة وبين أيديهم أعرابى يقول : أيها الناس ، إخوانكم فى الدين ، وشركاؤكم فى الإسلام ، عابروا سبيل ، وظلال بؤس ، وصرعى جدب ، تتابعت علينا سنون ثلاثة ، غيرت النعم ، وأهلكت النعم ، فأكلنا ما بقى من جلودها فوق عظامها ، فلم نزل نعلل بذلك أنفسنا ، ونُمنّى بالغيث قلوبنا حتى عاد مُخُّنا عظاما ، وعاد إشراقنا ظلاما ، وأقبلنا إليكم يصرعنا الوعر ، ويكننا السهل ، وهذه آثار مصائبنا لائحة فى سماتنا . فرحم الله متصدقا من كثير ، ومواسيا من قليل ، فلقد عظمت الحاجة ، وكسف البال ، وبلغ المجهود ، والله يجزى المتصدقين . * * * ووقف أعرابى بقوم فقال : أشكو إليكم أيها الملأ زمانا كلح فى وجهه ، وأناخ على كلكله ، بعد نعمة من المال ، وثروة من الآل ، وغبطة من الحال ؛ اعتورتنى جدائده بنبل مصائبه عن قسىِّ نوائبه ، فما ترك لى ثاغية أجتدى ضرعها ، ولا راغية أرتجي نفعها ، فهل فيكم من معين على صرفه ، أو معد على حتفه ؟ * * * وأملى أعرابى يقال له "مرثد" دعاء فكان منه : يارب تظاهرت على منك النعم ، وتداركت عندك منى الذنوب ، فلك الحمد على النعم التى تظاهرت ، وأستغفرك للذنوب التى تداركت . يارب أمسيت عن عذابى غنيا ، وأصبحت إلى رحمتك فقيرا . اللهم إنى أسألك نجاح الأمل عند انقطاع الأجل . اللهم اجعل خير عملى ما ولى أجلى . اللهم اجعلنى من الذين إذا أعطيتهم شكروا ، وإذا ابتليتهم صبروا ، وإذا ذكرتهم ذكروا . ص _404(1/393)
واجعل لى قلبا توابا أوابا ، لا فاجرا ولا مرتابا . واجعلنى من الذين إذا أحسنوا ازدادوا ، وإذا أساءوا استغفروا . أدعوك دعاء ضعيف عمله ، متظاهرة ذنوبه ، ضنين على نفسه ، دعاء من بدنه ضعيف ، ومنته عاجزة ، قد انتهت عدته ، وخلفت جذته ، وتم ظمؤه . اللهم لا تخيبنى وأنا أرجوك ، ولا تعذبنى وأنا أدعوك . اللهم إنى أعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك . وأعوذ بك أن أقول زورا أو أغشى فجورا ، أو أكون بك مغرورا . وأعوذ بك من شماتة الأعداء ، وعُضال الداء ، وخيبة الرجاء ، وزوال النعمة . * * * * وصية أعرابية لابنها : قال إبان بن تغلب ـ وكان عابدا من عباد البصرة ـ: شهدتُ أعرابيه توصى ولدا لها وقد أراد سفرا وهى تقول : " أى بنى . . اجلس أمنحك وصيتى ـ وبالله توفيقك ـ فإن الوصية أجدى عليك من كثير عقلك . قال إبان : فوقفت مستمعا لكلامها ، مستحسنا لوصيتها ، فإذا هى تقول : أى بنى : إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة ، وتفرق بين المحبين . وإياك والتعرض للعيوب فتتخذ غرضا ، وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام ، وقلما اعتورت السهام غرضا إلا كلمته . وإياك والجود بدينك والبخل بمالك . وإذا هززت فاهزز كريما يلين لهزتك ، ولا تهزز اللئيم فإنه صخرة لا ينفجر ماؤها. ومثل لنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به ، وما استقبحت منه فاجتنبه ، فإن المرء لا يرى عيب نفسه . ومن كانت مودته بشره ، وخالف منه ذلك فعله ، كان صديقه منه على مثل الريح فى تصرفها . . ص _405(1/394)
ثم أمسكت فدنوت منها فقلت : بالله يا أعرابية إلا زدته فى الوصية ..؟ فقالت : أوقد أعجبك كلام العرب يا عراقى ؟ قلت : نعم . قالت : والضرر أقبح ما تعامل الناس بينهم ، ومن جمع بين الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة ، ريطتها وسربالها " . * وصية أعرابى لأخيه : " آثر بعملك معادك ، ولا تدع لشهوتك رشادك ، وليكن عقلك وزيرك يدعوك إلى الهدى ، ويعصمك من الردى ، وألجم هواك عن الفواحش ، وأطلقه فى المكارم ، فإنك تبرُّ بذلك سلفك ، وتشيد شرفك ، وابذل الصداقة تستفد إخوانا ، وتتخذ أعوانا ، فإن العداوة موجودة عتيدة ، والصداقة متعذرة بعيدة ، وجنب كرامتك اللئام ، فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكروا ، وإن نزلت شديدة لم يصبروا " . * * * * أعرابى يفحم الحَجاج : خرج الحَجاج ذات يوم فأصحر ، وحضر غداؤه فقال : اطلبوا من يتغذى معنا؟ فطلبوا فلم يجدوا إلا أعرابيا فى شملة فأتوه به . قال له : هلم . قال : قد دعانى من هو أكرم منك فأجبته . قال : ومن هو ؟ قال : الله تبارك وتعالى ، دعانى إلى الصيام فأنا صائم . قال : صوم فى مثل هذا اليوم على حر ؟!. قال : صمتُ ليوم هو أحرُّ منه !! قال : فأفطر اليوم وتصوم غدا . قال : أو يضمن الأمير لى أن أعيش إلى غد ؟ ص _406(1/395)
قال : ليس ذلك إلى . قال : فكيف تسألنى عاجلا بآجل ليس إليه سبيل ؟! قال : إنه طعام طيب . قال : والله ما طيَّبه خبازك ولا طباخك ولكن طيَّبتهُ العافية . قال الحجاج : تالله ما رأيت كاليوم ، أخرجوه عنى ! * * * * مواعظ : قال صاحب الأمالى : حدثنا أبو بكر بن دريد رحمه الله ، قال : حدثنا العكلى عن أبيه قال : بلغنى عن ابن عباس أنه قال : كتب إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه بموعظة ما سررت بموعظة سرورى بها . أما بعد : فإن المرء يسرة درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه ما لم يكن ليدركه ، فما نالك من دنياك فلا تُكثر به فرحا ، وما فاتك منها فلا تُتبعه أسفا . وليكن سرورك بما قدمت ، وأسفك على ما خلفت ، وهمك فيما بعد الموت . وأنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدى قال : أنشدنا أحمد بن يحيى الشيبانى : إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل : عَلىَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليك يغيب قال : وأنشدنا أحمد بن يحيى : فى كل بَلوَى تصيب المرء عافية إلا البلاء الذى يُدنى من النار ذاك البلاء الذى ما فيه عافية من العذاب ولا سِترٌ من العار ص _407(1/396)
وأنشدنا أبو محمد النحوى قال : أنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد قال : أنشدنى عمرو بن بحر الجاحظ ، قال أبو محمد :- والشعر لصالح بن عبد القدوس:- وإن عناء أن تُفهِّم جاهلا فيحسب جهلا أنه منك أفهم متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يَهدمُ متى ينتهى عن سيئ من أتى به إذا لم يكن منه عليه تندم وأنشدنا أبو عبد الله قال : أنشدنا محمد بن يزيد قال : أنشدنى عبد الله بن القاسم قال : أنشدنى العتبى : تأنقت فى الإحسان حتى أتيته إلى أبن أبى ليلى فأنزله ذما فوالله ما آسى على فوت شكره ولكن خطأ الرأى يُحدث لى غمَّا وحدثنا أبو بكر بن دريد قال : حدثنا أبو حاتم قال : كان بالمدينة غلام يُحمَّق ، فقال لأمه يُوشِك أن ترينى عظيم الشأن . فقالت : والله ما رجوت هذا الأمر إلا من حيث يئست منه . فقال : أما علمت أن هذا زمان الحمقى وأنا أحدهم !!!. * * * ص _409
خاتمة ص _410(1/397)
خَاتِمَة اتفقت كلمات الدارسين على أن الإسلام أتى العالم بعد اكتمال رشده ، واستواء خصائصه النفسية ومواهبه الذهنية ، وأن رسالته جاءت كتابا يخاطب الألباب ، ويناشد الضمائر ، وأن أدلتها تجاوزت طور الإعجاز المادى بالخوارق الباهرة ، إلى الإقناع العقلى بالمقدمات التى تلفت الحس ، والنتائج التى تملك النفس . أجل ، إنهم اتفقوا على ذلك ، ونالت هذه الحقائق نصيبها من طول الشرح فلا نضيف إليها مزيدا ، وإنما نريد أن نشرح خاصة أخرى فى الإسلام ، يربطها بهذه الحقائق نسب قريب ، تلك الخاصة هى ما يتعلق بحماية الدعوة وتمهيد سبلها ، ورد خصومها ، ودفع غوائل المبطلين عنها . فإن الإسلام امتاز عن الديانات السابقة بطبيعة تزوِّده بأسباب المناعة ، كما يمتاز الجسم المحصن ضد أنواع الحمى . ألا ترى "المصل" الذى سرى فيه يمنحه مقاومة للأوبئة المهتاجة ؟ كذلك الإسلام !. إن العناية العليا ادَّخرت فى كيانه طاقة يرد بها البلى ، وقوة يغالب بها العلل ، وقدرة على التجدد والكفاح تُعيى الخصوم ، وتهزم الليالى . وكأن الله أراد أن يجنبه مصاير كثير من رسالات الإصلاح التى حملها النبيون الأوائل ، وأن يجعله تراثا مصون الجوهر قريب النفع إلى الأبد . فلنلق نظرة عجلى على هذه الرسالات الأولى وما لقيت من كيد ، وما واجهت من ختام ، لنعرف سر الخاصة التى تفرد بها الإسلام ، وكتبت له خلودا لم يعرف لغيره . أول ما نلقاه فى مسير الديانات الأولى ، والعوائق التى اعترضتها أن كفة الشر كانت أرجح ، وأن سطوته على الناس كانت أظهر ، وأنه ـ لولا تدخُّل السماء ـ لَحُصِدَ الإيمان وأهله دون هوادة . ص _411(1/398)
ولم يكن ذلك الضعف الذى أذل جانب الدين عن قصور فى بيانه ، أو تقصير فى حمايته ، بل لأن ضراوة الكفر بلغت حدا رهيبا من الجسامة !! وإلا فقد ظل نوح عليه السلام بضعة قرون يدعو قومه بكل أسلوب دون جدوى (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ، ثم إني دعوتهم جهارا ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ، فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) . بيد أن هذه المناشدة الحارة ذهبت سدى ، وبقى المجتمع الكنود على كفره ، لم يتغير من أحواله المضطربة شيء ، ولم يستقم له حال . . واتضح أن موجة الكفر فى مد متتابع ، وأن مستقبل هذه الجماعة لن يكون إلا صورة مكررة لحاضرها السيء ، بل إن نطاق الإيمان ينقص ولا يزيد ، وذلك ما جعل نوحا ينادى : (..رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) . وهيمنة الضلال على المجتمع ، التى أحنقت نوحا وأحرجته ، أخذت طابعا أقسى فى رسالات أخرى أعقبته . فقد بلغ من استمكان العُتو فى أرض مدين أن هدد الكفر ـ وزمام الأمر بيده ـ بطرد شعيب ، ونفى المؤمنين من أتباعه ، إن هم ظلوا يؤمنون بالله ويدعون إلى القسط !! (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ..). وكذلك صنعت قرى المؤتفكة مع نبيها الذى يُعلمها العفاف ، ويجنبها الشذوذ ، ويريد تطهير أنديتها من المنكر ، لقد كان صوت الفساق من العلوّ والقحة بحيث لم يستح أن يتوعَّد الأطهار بالطرد (قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ، قال إني لعملكم من القالين ، رب نجني وأهلي مما يعملون) . ص _412(1/399)
وكما تأيدت دعوات أولئك الأنبياء السابقين بالخوارق المعجزة ، فإن تخليصهم من براثن عدوهم تنزلت به آيات من السماء ، وتولته ملائكة الله جل شأنه ، على النحو الذى وعاه التاريخ ، ودوَّنه الوحى . لكن الرسالة الخاتمة لها فى ذلك الميدان شأن آخر . فإن الإيمان الذى تهدى إليه يعتمد فى رسوخه النفسى على حركة العقل الذكى والقلب المنيب ، ويعتمد ـ فى بقائه الخارجى ـ على عمل اليد الدؤوب ، وكدح الإنسان المجاهد . أجل . . على المرء أن يؤمن بإيقاظ فكره . . فإذا تيقظ واهتدى فعليه أن ينتصب لحماية هذا الإيمان بكل ما لديه من قوى . لا . بل عليه أن يخلط هذا الإيمان بشئون الحياة ليجعل منه قانونا تصلح به الأوضاع ، ومنارا تعرف به الغايات ، وحضارة يصطبغ بها الركب السائر ، وتتوارثها الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة . وعليه ـ إلى جانب ذلك ـ أن يجالد دونه الخصوم ، وأن يرمق ذهاب جذوره فى الأرض ، واستطالة أغصانه فى الجو ، وهو حارس ناشط ، يُرهب العادين ، ويَصُدّ المجرمين . إن الإسلام الذى قام على كتاب يؤسس الإيمان باستثارة المواهب الإنسانية ، دون جنوح إلى الخوارق المعجزة ، اعتمد فى صيانة الرسالة ، واستدامة نورها ، وكسر خصومها ، على جهود المؤمنين أنفسهم ، ومدى ما يبذلون من تضحيات غالية ، دون انتظار للآيات السماوية التى تقهر الخصوم وتستأصل شأفتهم . ولذلك ترى الإسلام يغالى بكل عمل صالح ، من شأنه أن يمد رواق الإيمان فى الحياة العامة ويُحكم هيمنة الدين على الجماعة . إن مثل هذا العمل العام أرفع عند الله أجرا ، من أى عمل آخر ، لأنه أوسع فى الحياة أثرا . قد تكون الصلاة عبادة جليلة القدر ، لكن العمل الذى يؤديه المؤمن ـ إعلاء لكلمة الله ، وتمكينا لشريعته ـ أعظم . ص _413(1/400)
لماذا ؟ لأنه لولا هذا الجهاد ما استطاع مصلٍّ ولا صائم أن يقوم لله بحق . وتأمل فى هذه الآثار النبوية ينكشف لك وجه الصواب : 1ـ عن أنس رضى الله عنه قال : "سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أجر الرباط ؟ فقال : من رابط ليلة حارسا من وراء المسلمين ، كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى". 2ـ وعن مجاهد عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه كان فى الرباط ففزعوا إلى الساحل ثم قيل : لا بأس ـ أى لا خوف من عدوان ـ فانصرف الناس وأبو هريرة واقف فمر به إنسان فقال : ما يوقفك يا "أبا هريرة" فقال : سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : "موقف ساعة فى سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود " . 3ـ وعن "ابن عمر" أن النبى رضى الله عنه " ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس حرس فى أرض خوف لعله ألا يرجع إلى أهله " . 4ـ وعن عثمان رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : "حرس ليلة فى سبيل الله أفضل من ألف ليلة يُقام ليلها ويصام نهارها " . وهذا التنوية الغريب بالجهاد ، إنما يرجع إلى أنه الحزام لشعائر الإسلام ، وأنواع الطاعات ، فإذا انقطع لضعف أو وهن ، ذهبت كلها بددا وتلاشت فى الحياة سدى . وقد رأينا الأذكياء يرفضون مسالك الزهاد ممن آثروا العزلة واستحلوا عبادة الله بعيدا عن الناس . ورُوى أن بعض العلماء خرج فصعد إلى رأس جبل اجتمع فيه العباد والزهاد منقطعين إلى طاعة الله ـ كما يزعمون ـ فقال لهم : أتجلسون فى مأمن هنا ، وتتركون الإسلام تعبث به الأهواء الظلوم ، والنحل الفاسدة ؟ أما كان خيرا لكم ولدين الله أن تخالطوا الناس وأن تناضلوا عن سبيل الله بالحجة والبرهان ، إن فاتكم الدفاع عنه بالسيف والسنان ؟ . وذلك حق ، فإن الإسلام يرفض بتة هذه المواقف السلبية تجاه الضلال . ص _414(1/401)
إنه يفترض على المسلم الذى يعتنقه أن يتحول به إلى قوة خلاقة ، تزرع الخير فى كل ناحية وتقتلع من حوله الأشواك . ومن هنا لم يتعب الشيطان من شيء تعبه من هذا الدين الذى يبنى النفوس على الحب فى الله والبغض فى الله ، والذى يأبى مهادنة المنكر أبد الدهر . فإن أعياه الانتصار عليه وحسم مادته ، استبقى له فى الضمائر كراهية كامنة تتربص به الدوائر . وبهذه الخاصة نجا الإسلام من المصاير التى طوت ديانات أخرى قبله ، وبقيت فيه الحقيقة التى تاه عنها كثيرون من الأوائل . نعم ، بقيت مصونة كما نزلت من السماء برغم ما ألقى عليها الدهر من ظلال .. لقد ظهر نبى الإسلام منذ أربعة عشر قرنا ، بعد عشرات ومئات من المرسلين الذين سبقوه إلى هداية الخلق وتعليم الأمم . . وكانت النتائج المستخلصة من الماضى الطويل لا تدع مجالا لتحسين الظن بالضلال وأهله (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا) . ومن ثم تجاور فى تعاليم الإسلام ، أن الإيمان بالحق والجهاد عنه صنوان ، وأن نبذ الكفر وتقليم أظافره أخوان لا يفترقان . . وأن القضاء العدل ، والسلطة المنفذة له أمران لا ينفكان . وبذلك المنطق شق الإسلام طريقه فى الحياة وسط شرك طالما قهر التوحيد ، وجبروت طالما استباح الأمم ، وأضل الأجيال ، شق طريقه دون أن يأبه لعصابات القطاع وهى تقول : إن سيفه مخوف الحد ، شديد الفتك . ليكن ، وما يعيبه هذا ، وهو إنما خلص بحياته منكم على ضوء بريقه ؟ إن شكايات اللصوص من بطش رجال الشرطة لا معنى لها ، والذين يسمعون لها هم الذين ضاقوا بالقوة فى كنف الإسلام ، أقوام مريبون ، كانوا ـ قبحهم الله ـ يبتغون الإجهاز عليه ، فلما ارتدوا مدحورين أخذوا يسبون سيفه ، ويشتمون قوته..!! ص _415(1/402)
وذلك ـ فى نظرنا ـ أفضل من أن يقفوا على جثته يرسلون دموع التماسيح . * * * وكأن الله ألهم الفاروق "عمر" رضى الله عنه هذه الحقيقة عندما جعله يؤرخ بالهجرة لسير الإسلام فى الأرض . . إن هذه الهجرة تعنى أن المسلم يحيا لله ولرسوله ، ويربط مستقرة فى أى بلد بمقتضيات العقيدة التى ارتضاها ، فهو يتبعها حيث تزدهر وتؤتى ثمارها . وبَونٌ بعيد بين من يجعل نفسه وماله وأهله تبع إيمانه الأثير وغايته الرفيعة . ومن يحيا على أى وضع وفى أى ظل ! والغريب أن الله جعل العزة والسيادة للأولين ، ومكَّن لهم فى العالم بقدر ما خدموا دينه ، وأقاموا أمره ... على أن الجهاد العلمى أرفع رتبة وأسبق مكانة من الجهاد الحربى . فالناس ـ أولا ـ أحوج إلى من يُعرفهم الحق ، حتى إذا انشرحت به صدورهم تطلعوا إلى ما يستبقيه فيهم ، وإلى ما يثبتهم عليه ، وإلى ما يُورثه ذراريهم بعد انقضائهم ... فالحق أساس ، والجهاد حارس . وهبك زرعت حديقة يانعة الأثمار مهدلة الأفنان ثم أنشأت حولها سياجا يقيها السطو والاختلاس ، ما تظن قيمة هذا السياج إذا انقطع عن الحديقة الماء فذوى باسقها ، وجف مُخضلها ؟ . أو ما قيمة هذا السياج إذا أصابها إعصار فيه نار فاحترقت ؟ إن السياج عندئذ سيكون مضروبا حول صحراء لا خير فيها . . والعلماء عندما يكتبون ويخطبون ، وعندما يُرَبُّون ويتعهدون ، وعندما يحلون أو يرتحلون ، وعندما يدافعون ويجادلون ، إنما يغرسون فى النفوس حقائق الوحى وهدايات السماء ، ويَخلُفُون أنبياء الله جل شأنه على رعاية الخلق ، و إحسان قيادتهم ، وكفالة حاضرهم وغدهم . ص _416(1/403)
وقد راعنا ـ معشر الدعاة ـ أن مواطن الإسلام فى هذا الزمان تتعرض لعبث هائل فى قوامها الروحى والفكرى ، وأن أسرابا من الحشرات الفتاكة انطلقت مع زحف الاستعمار الأخير ، وشرعت تجتاح الأخضر واليابس فى ميادين العقائد والأخلاق ، وأن آمال الزبانية تركزت بكل ما واتاها من قوى باطشة ، وسياسات خاتلة لتجعل الإسلام أثرا بعد عين … ونحن نمد الطرف يمنة ويسرة ، نبحث عن العلماء الدعاة ليذودوا هذا البلاء ، ويتلافوا تلك المحنة . يجب أن يبقى الإسلام فى أرض لتبقى لها صلة بالسماء ، ولتبقى بين الأحياء رسالة تكفل لهم الرشد واليُمن ، وتقيهم العثار والزلل . . لن تنقطع حاجة العالم إلى الإسلام ، إلا يوم تستغنى العيون عن الضياء ، والصدور عن الهواء . . فيا دعاة الإسلام فى المشارق والمغارب ، أدوا حق الله عليكم ، وانقلوا الإسلام إلى الأجيال اللاحقة نقيا مصفى ، كما انتقل إليكم عن الأجيال السابقة . خذوا حذركم من أعداء الحقيقة ، الذين قاتلوا الأنبياء فى العصور الأولى ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا . أعيدوا الحياة الصحيحة إلى الأفئدة الفارغة والرؤوس الخربة ، ليتحاب الناس بروح الله ويتعارفوا على هداه .. * * *(1/404)