مع الأخ أحمد جمال العتاب قبل الجواب
العدد 28
بحوث الجامعة الإسلامية بالمدينة
بقلم فضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
منذ توفي والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه وطلاب العلم يتبادلون التعازي في فقيد العلم وراحل العلماء. ولا يزالون في كل مناسبة وعند كل بحث علمي يتذكرونه ويتذاكرون حديثه ويعرضون أقواله, فهم لا يزالون يعيشون في ظل تراثه العلمي, وما خلفه من نفائس التأليف.
غير أن الأخ الأستاذ أحمد جمال توجه إلى ما كانت تنشره مجلة الجامعة الإسلامية في حياة الشيخ رحمة الله تعالى عليه من كتابه (دفع إيهام الاضطراب) وأداه توجهه إلى وجهات نظر عنده بعث بها إلى مجلة الجامعة لنشرها فأحيلت إلى المسئولين ليروا رأيهم في صلاحية نشرها. وقبل جوابهم عليها بعث بها إلى مجلة التضامن الإسلامي فنشرتها حالاً على ما هي عليه طبعاً.
وكان هذا العمل من الوجهة الصحافية قد يعتبر من حرية الصحافة وإن اتسم بالعجلة وعدم التريث.
ولكن من الناحية العلمية والموضوعية قد لفت أنظار طلاب العلم وخاصة أبناء الشيخ وتلامذته فكتب الأخ أحمد الأحمد بياناً لنواح علمية ونشر في جريدة المدينة. فلم يرق للأخ أحمد جمال ما نشر فكتب في جريدة عكاظ تعقيباً على الرد وجاء بما لا ينبغي لمثله أن يأتي به.
فكتب الأخ أحمد الأحمد ليرد عن نفسه فلم تفسح له ولا جريدة مجالاً آنذاك للنشر ولغرض ما كان ذلك.
فكتبت للأخ أحمد جمال عتاباً قبل الجواب ولكنه لم ينشر ولأمرٍ ما أيضاً فتركت وشغلت ولربما كان الترك نوعاً من الرد.(1/1)
غير أن الأخ أحمد جمال لم يترك, بل ولم يكتف بالصحف المحلية ولا بجرائد المملكة, فراح إلى خارجها فعبر الصحراء وقطع الربع الخالي حتى وصل إلى الشقيقة الكويت فنشر في الزميلة مجلة الوعي الإسلامي, وبنفس الموضوع حول دفع إيهام الاضطراب مع تغييره في العنوان فقط, ولست أدري ما الحامل على ذلك أهو الحرص على نشر العلم والمعرفة؟ فإن الموضوع لم يتغير والصحف والمجلات تغطي المنطقة.
أم هو تجاهل مكانة الصحافة؟ وكانت في وقت ما تسمى (صاحبة الجلالة) لحريتها واحترام كلمتها, أم هو إستجهال القراء بتغيير العنوان فقط؟ أم هي أشياء أخرى تعتمل في نفسية الكاتب ولم يستطع الإفصاح عنها ولم يستطع أيضاً الإفلات من جاذبيتها ولا الخروج عن نطاقها فراح يكتب هنا وهناك؟.
ومرة أخرى: فقد نقرأ حتى لطالب ثانوي في موضوع يناسب مرحلته الدراسية فنكبره ونقدر كتابته ونقرأ لأستاذ توجيهاً فنستمع إليه ونستفيد منه.
ولكن أن نقرأ لكاتب نقاشاً علمياً مع كبار العلماء ولم يقدم ولا دليلاً علمياً على ما يأتي به فهذا مالا يستسيغه قارئ ولا يقدم عليه كاتب مخافة من خطيئة وتجنباً لزلة.
وهذا ما كنت أظنه بالأخ أحمد جمال ولكنه سارع فماذا كانت النتيجة وماذا بعد الخطأ في العقدية إذ يقول في كلام الشيخ رحمة الله تعالى عليه عن أخذ الكتب يوم القيامة باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر, إنه لا كتب ولا يمين ولا شمال ولا وراء ظهر, إنه ضري مثال عن اليمن والتشاؤم, أبمثل هذا القول وبمثل هذه الجرأة على الله وعلى كتابه يرد ويناقش كبار العلماء.(1/2)
ولو تساءلنا مع الأخ أحمد جمال بأي نوع من أنواع الدلالات أخذت هذا المعنى؟ إن القرآن ليدل في هذا المعنى بدلالة التطابق على وجود الكتب وعلى أخذ الناس كتبهم بأيديهم فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه والكافر يأخذه بشماله أو من وراء ظهره، والقرآن يدل بدلالة الالتزام على وجوب الإيمان بذلك بدون تأويل ولا تعطيل, ويدل بدلالة الإيماء والتنبيه أن من رد ذلك فهو من جهله وفساد عقيدته وهذا ما أربأ به عنه.
وقد يكون قد رآه في بعض كتب التفاسير مما لا يفرق بين رأي المعتزلة وغيرهم ولم يحاول الأخ أحمد جمال أن يقف عنده ويرد أو يناقشه بمدلول منطوق القرآن.
وحيث أن الأخ أحمد جمال لم يكف عن الكتابة ولا يزال يبعث بمقاله هنا وهناك على ما فيه من أخطاء علمية وتهجمات أدبية على سلطان العلماء العز بن عبد السلام ووالدنا الشيخ محمد الأمين فقد استوجب زيادة العتاب عليه ولزم الكتابة إليه فعدت إلى الموضوع وفي مجلة الجامعة.
وبعد هذا فليكتب الأستاذ ما شاء وليبعث به إلى حيث أراد فإن جاء بجديد فعسى أن يفيد وإن كان تكرارا لما قال ويقول فإن الباطل لا يروج أكثر من مرة والخطأ لا يصححه التكرار.
فأقول وبالله التوفيق:
بسم الله أبدأ وبه أستعين والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على أشرف الخلق أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد . . . فإلى الأستاذ أحمد محمد جمال حفظه الله.
سلام الله تعالى عليك ورحمته وبركاته كنت منذ عدة أشهر سمعت أنك كتبت مقالاً حول (دفع إيهام الاضطراب) لوالدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وقد قرأته على شكل مقالات في مجلة الجامعة الإسلامية وكان مقالك عبارة عن ملاحظات على الكتاب وبعثت به إلى سماحة رئيس الجامعة لاستطلاع رأيه ونشره في المجلة وسمعت أن سماحته أحاله على جهة مختصة فلاحظت عليه ما يمنع نشره وأعادته لسماحته مع ملاحظاتها عليه.(1/3)
ثم فوجئت بنشر المقال في مجلة (التضامن) وبدون ملاحظة ولا تعليق عليه وإن كان هذا حقا من حقوق كلتا المجلتين من قبول ورفض فقد عجبت لنشره أكثر من كتابته وبما أن الحقيقة العلمية هي بغية كل محق وهدف كل باحث وغاية كل منصف تصفحت المجلة وطالعت المقال فبدت لي ملاحظات من عدة جهات حتى في العقيدة من حيث النفي والإثبات لحقائق القرآن وصريح النصوص ودلالة المطابقة في بعض ما تناوله مقالكم ورغبة في بيان الحقائق وواجب النصح أحببت إخبارك بها ولكن قبل إبدائها والتحدث فيها لي معك عتاب أخوي قبل البحث العلمي يتلخص في الآتي:
أولاً: بنيت مقالك على أن الشيخ رحمه الله توهم اضطراباً في آيات كتاب الله ثم راح يدفعه والحال في نظرك أنه لا إيهام ولا اضطراب والواقع أن هذا وهم منكم سبق إليكم في حق الشيخ وسأحاول دفعه عنكم إن شاء الله في بيان حقيقة الكتاب وسبب تأليفه وعتابي عليك هنا: أنك كتبت المقال وأبديت الملاحظات على كتاب لم تطلع على مقدمته وهذا ما ساقك إلى توهمك في الشيخ ما لم يكن فيه، وملاحظاتك على كتاب ما ليس فيه ومعلوم أن مقدمة كل كتاب هي توجيه لما فيه وهي موجز موضوعه ومرآة محتوياته.
فمثلك يعاتب على ملاحظاته على كتاب لم يقرأ مقدمته أو قرأها ثم أغفلها. .
ولو كنت قرأتها قبل ذلك لعرفت هدف الشيخ رحمه الله ولكانت استفادتك من الكتاب أكثر ولقدمت للشيخ وافر الشكر وسألت الله له الرحمة والرضوان ولعل مما يكشف عن حقيقة هذا الكتاب ويدفع ما توهمته في الشيخ وقوفك على سبب تأليفه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن معرفة أسباب النزول تعين على فهم الآيات", فكذلك هنا معرفة سبب التأليف تعين على فهم موضوع الكتاب، والغرض من تأليفه، ومعلوم لديكم ما يقوله الأدباء والكتاب والنقاد:
إن معرفة ظروف وملابسات إنشاء القصيد وكتابة المقال تحدد نقاط النقد وتضع الميزان الصحيح للناقد الموجه بناء على أن لكل مقام مقال.(1/4)
وحقيقة هذا الكتاب وسبب تأليفه يخصني في الدرجة الأولى وأستطيع أن أقول: إنما وضع بسببي إن لم يكن من أجلي وذلك حينما كنت أقرأ على الشيخ رحمه الله تفسير سورة البقرة وكان رحمه الله مخصصاً لي حصة يومياً ما بين المغرب والعشاء. . ومكثت فيها لمدة سنتين في تلك الحصة وكان رحمه الله يأتي بما فتح الله عليه من دقائق التفسير ولطائفه. . على أن تفسير هذه السورة يعتبر أساساً لتفسير القرآن كله. فكان رحمه الله يمعن في بيان شتى علوم القرآن من بلاغة ولغة وأصول وأحكام وغير ذلك وخاصة بيان أوجه الجمع بين بعض الآيات التي ظاهرها التعارض، وبيان أقوال السلف في ذلك ابتداء من قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} مع قوله تعالى :{هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} , ومثل قوله تعالى : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} , مع قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} , ومثل ذلك كثير مما هو مسطور في الكتاب.
فسألته: وهل يوجد تأليف يوقف طالب العلم على هذه الأوجه للجمع بين تلك الآيات؟
فأجاب : أنه لم يطلع على مثله.
ورغبته في وضع رسالة في ذلك خدمة لكتاب الله وتسهيلا لطلاب العلم، لأنها توهم كما يوجد في الأحاديث ما يوهم ويحتاج إلى بيان أوجه الجمع. فشرع رحمه الله في تأليفه في أوجز وقت وذلك في عطلة المذاكرة قبل الاختبار حوالي العشرين يوماً وأعطانيه أبيضه للطبع فكانت لي دراسة خاصة لجميع نقاطه وكنت أعرف الناس بموضوعه وقد أشار رحمه الله في مقدمته بأوضح عبارة حيث قال ما نصه:(1/5)
"أما بعد فإن مقيد هذه الحروف عفا الله عنه أراد أن يبين في هذه الرسالة ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يظن بها التعارض في القرآن العظيم". فترى أنه عفا الله عنه ورحمه أراد بيان أوجه الجمع ودفع الظن عن كتاب الله. فكان رحمه الله عالماً ولم يك متوهماً وحاشاه رحمه الله من مثل ذلك مع ما أعطاه الله من فهم في كتاب الله.
ولعل بهذا الإجمال يكون قد ذهب عنك ما توهمته أنت في الشيخ رحمه الله، والتقيت مع الشيخ في موضوع الكتاب وأنه أراد تصحيح مفاهيم من يظنون توهماً في كتاب الله ومن هنا يكون منطلق عتابي معك ثم إن موضوع (إيهام الاضطراب) الذي ينفيه سيادتكم ليس جديداً ولا حادثاً. وقد سئل عثمان رضي الله عنه عن الاستمتاع بالأختين بملك اليمين فقال:"أحلتهما آية وحرمتهما آية يعني {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مع {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وقد ذكر البخاري رحمه الله أن رجلاً أتى ابن عباس وسأله عن آيتي البقرة والنازعات في خلق السماوات والأرض فقال له ابن عباس: أشك في كتاب الله؟ فقال لا: بل أسأل.
فبين له ابن عباس وجه الجمع بينهما. فهذا في زمن ابن عباس توهم اختلافاً واضطراباً في كتاب الله وكشف له ابن عباس عن المعنى وبيّن له وجه الجمع فلا غرابة إذاً أن يتوهم إنسان اليوم وأن يدفع أحد العلماء هذا التوهم وهكذا فعل الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب فلم يوجد اضطراب فعلاً في كتاب الله كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ولكن يوجد إيهام عند من ليسو بعلماء به كما قال تعالى :{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فخص التفصيل بقوم يعلمون ومفهومه أنه غير مفصل عند غير العالمين وليس غريبا منهم أن يتوهموا والعلماء هم الذين يبينون.
ثانيا- بين الترك والاستعجال:(1/6)
وهو أن الكتاب قد طبع منذ عشرين عاماً والمقالات نشرت منذ خمس سنوات ولم تظهر ملاحظاتك إلا بعد وفاة الشيخ رحمه الله وقد عاتبك الأخ أحمد الأحمد على تركك إبدائها طيلة هذه المدة فاستثارك عتابه واعتذرت بأنك لم تطلع عليه في حين طبعه وهذا يمكن قبوله منطقياً بالنسبة لطبع الكتاب ولكن لا يقبل بالنسبة لنشر المقالات في مجلة الجامعة وقراءتك له فيها وقد اعتذرت أيضاً عن اطلاعك على المقالات بأنك كتبت ملاحظاتك قبل وفاة الشيخ ولكن يا أستاذ أحمد: أعلم يقيناً أنك لم ترسلها إلى مجلة الجامعة إلا بعد وفاته بأشهر وهنا عتابي عليك كعتابي على سلف لك من قبل. لِمَ لَمْ تقدمها للشيخ شخصيا في بعض لقاءاتك إياه في الرابطة؟ أو ترسلها إليه خاصة؟ فكنت تلقيت منه الجواب وكان في ذلك فائدة عظيمة وكفيت المؤونة في ذلك كله وسلمت مما قيل عنك وقلته أنت عن غيرك وسلمت أفكار الناس من هذا الاضطراب. علماً بأنك قلت إنها كانت مكتوبة في حياة الشيخ فماذا كان المانع إذا؟ هذا من ناحية الترك والتأخير. أما من ناحية الاستعجال فما هو موجب التسرع في النشر في مجلة أخرى بعد امتناع الأولى عن النشر؟ أليس كان من الأولى التريث؟ حتى تعلم ما هو المانع من النشر وكان يجمل الاستفسار عن ذلك فلربما قدموا لك ما فيه مقنع أو على الأقل عرفت وجهة نظر غيرك قبل إبداء ما عندك ولن تعدم فائدة في ذلك.
فأين اصطبارك مدة حياة الشيخ من استعجالك إثر وفاته؟ وأرجو ألا يثيرك هذا التساؤل كما أثارك مثله من قبل.(1/7)
ثالثاً: قد تقول: إن كل شيء مرهون يوقته وقد كنت مشغولاً بمهام عملك وكان مقالك يحتاج إلى تنقيح وتصفية أو تبييض وتهيئة وقد فرغت من ذلك كله وقدمته وبعد وفاة الشيخ وأنا معك على هذا كله لأنه منطق مقبول وقد تتحكم الظروف خاصة مع مثلك لكثرة أشغاله وتعدد التزاماته ولم يكن هناك توقيت لوفاة الشيخ رحمه الله وحرصاً منك على الفائدة للقراء قدمت ملاحظاتك أو نشرت مقالك وذلك قطعاً بعد وفاة الشيخ وأنت قطعاً تعلم بها ويدفن في مكة وقد نشرت مجلة الجامعة محاضرة كاملة في نعيه وترجمته ونشرت قبل مقالك وهنا عتابي عليك هو أن مقالك كله وأنت الكاتب الأديب جاء خلواً نهائياً من أية عبارة تنم عن أسىً وأسف أو تعزية لموت الشيخ رحمه الله وقد أسف وتوجع من هو أقل صلة به منك علماً بأن موته لم يكن رزءاً في شخصه ولا على أبنائه فحسب بل كان على العلم والعلماء وقد علمت قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الرجال ولكن بموت العلماء"، فكان من حقه عليك أن يتضمن مقالك ما يشعر القارئ بأحاسيسك نحوه وقد قال القاضي عياض عن بعض مشايخه: "ما لكم تأخذون العلم عنا وتذكروننا فلا تترحمون علينا", وقد نوهت في مقدمة المقال مدى استفادتك من تأليفه رحمه الله وقد يكون تداركاً منك لذلك في كلماتك التي أوردتها في ردك على الأخ أحمد الأحمد وترحمك عليه ثم أعقبتها بقولك أقول ذلك طائعاً مختاراً ولكنها جاءت بعد عتاب ولو سبقته لكانت كافية وافية وقد أذكرتني بذلك لوعة الأسى فيه وشدة الحرمان من بعده مما يدفعني نيابة عنك أن أجدد التعازي لكل طالب علم والمجلس الأغر في المسجد النبوي في الشهر المبارك (شهر رمضان) من كل عام والذي كان بحق روضة من رياض الجنة يسعد فيه الصوام بتفسير القرآن وترتع فيه ملائكة الرحمن وقد خلا فيه هذا العام فعظم علينا في المدينة فقده وحرمنا درسه فإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/8)
رابعاً - في النقد الشخصي والنقد الموضوعي:
من المعلوم لسيادتكم ولكل كاتب وناقد أن النقد الهادف هو النقد الموضوعي وأن النقد الشخصي إنما هو من قبيل الهجاء. والعتاب هنا أنك أدخلت النقد الشخصي في النقد الموضوعي فبدأت باتهام الشيخ بأنه توهم اضطراباً في كتاب الله ثم حكمت عليه بأنه أسرف في ادعاء النسخ ثم كنت مع الأخ أحمد الأحمد في مطلع كلامك افتتحته بهراء ونداء وطعن شخصي وتعريض بإيراد آيات من كتاب الله تمتدح نفسك وتنتقص غيرك فجئت بما عبت وهذا وإن كان يقع فيه الكثيرون وللأسف فإنه لا يليق بمثلك لأنك كما قلت كما قلت طالب علم متأدب بآداب القرآن ثم جئت في نهاية مقالك بالسلام على من اتبع الهدى. فلمن توجه هذه التحية وترسلها من جوار البيت الحرام وأنت تخاطب زميلاً لك مسلماً يدرس في معهد المسجد الحرام وقراء مسلمين. إن هذا كله أمر شخصي لا صلة له بالموضوع ولذا فإني لا ولن أقصد إلى أية جانب من الجوانب الشخصية وهو مبدأي دائماً لا مع سيادتك فحسب ولكن مع كل إنسان وقد أصلته أثناء تدريس الفقه المقارن بالجامعة وضمنته مقدمة رسالة (زكاة الحلي) لأن الغرض معرفة الحق من غير تعرض ولا تأثر بقائله كما قال النووي في مقدمة (المجموع) قال:"إني لأعرض المسائل الخلافية وأبيّن الحق والراجح فيها وأبين الخطأ وأبالغ في تزييفه وإن كان قائله كبيراً عندنا لئلا يغتر أحد بنسبة القول إليه مع إقامة الدليل عليه والعتاب هنا هو إدعاؤك على الشيخ الإسرف في النسخ بدون دليل عليه وأنت تعلم أن النسخ من بين علوم القرآن الذي لا يقال فيه بالرأي لأنه متوقف على معرفة التاريخ لمعرفة المتقدم من المتأخر وهذا لا يكون إلا عن طريق الرواية والإثبات بالسند. فكل من ادعى نسخاً بدون دليل فادعاؤه مردود عليه وكل من نفى نسخاً ثابتاً بالدليل فنفيه باطل ولكي تقف على حقيقة موقف الشيخ من النسخ أذكر لك ما لم تطلع عليه من رسالة في النسخ وهي مخطوطة لدي وستنشر(1/9)
إن شاء الله مع تتمة (أضواء البيان) وهي شرح لأبيات السيوطي رحمه الله التي ذكرها في الإتقان وقد عاب السيوطي على من يسرف في ادعاء النسخ وذكر المتفق على أنه منسوخ بصفة إجمالية وشرحها الشيخ وبيّن المراد منها وموقفه من الموضوع وأنه بعيد كل البعد عن دعوة الإسراف في النسخ ولعل بهذا تلتقي مع الشيخ في أمر النسخ إلا فيما ذكرته ولم تعقب عليه من القول بعدم النسخ نهائياً وسكوتك عنه يوهم رضاك به ومعلوم أن القول بعدم النسخ هو قول اليهود لعدم البداءة على الله وهو مذهب باطل كما لا يخفى.
خامساً: أبديت جميع ملاحظاتك وأوردت جميع تعقيباتك دونما نص يعتمد عليه وبنيتها كلها على قولك (قلت) بينما من تلاحظ عليه لم يورد مسألة إلا ومعها دليلها والنص الذي بناها عليه. والعتاب عليك أنك تفتح باباً (لقلت) وهو باب (رأيت) الذي عابه سلف الأمة وسموا أصحابه بأصحاب الرأي وقال الشافعي رحمه الله في رسالة (جماع العلم) ما معناه:"ليس لنا أن نقول بشيء في هذا الدين إلا بدليل وإلا لكان كلامنا مثل كلام من نعيب عليهم وكان لكل شخص أن يقول برأيه ما شاء وليس لقولنا فضل على قوله: "إلا بما نورده من دليل"والواقع أن هذا الباب هو أخطر أبواب القول في الدين وخاصة في كتاب الله وقد أجمعوا على تحريمه نهائياً في كتاب الله تعالى ولم يدخل الشك على الشباب إلا من هذا الباب وأنت ممن يعمل على سد هذا وصيانة الفكر الإسلامي من الحيرة والشك.(1/10)
سادساً: بعد إبداء ملاحظاتك وبعد الرد عليها ماذا تكون النتائج؟ وما هو موقف القراء بعد ذلك؟ أيعيدون النظر أم لا يبالون بما قلت؟ على كل فإن العالم الإسلامي لم يعد يحتمل تشكيكاً في علمائه ولا إهمالاً لكتابه وهو في أمس الحاجة لتقوية أواصر روابطه بالعلماء والأدباء في نطاق الدعوة والإرشاد والتوجيه والتضامن والترابط ليصل بهم علماؤهم إلى ما يرضي ربهم وأداء واجبهم في حياتهم ويأخذوا عن أدبائهم محاسن أخلاقهم ومن هنا لم أكُ لآخذ النقاش العلمي على صفحات الجرائد بالقيل والقال فقد يقع المقال في يد القارئ ولا يقع الجواب في يده إما لفواته عليه أو لعدم نشره إليه أو غير ذلك فيقع الشك ولا يأتي ما يزيله وقد كان الشيخ رحمه الله يأبى أشد الإباء مناقشة أي موضوع علمي على الجريدة بل يترفع بالعلم أن ينشر في الجرائد وقد امتنع فعلاً عن الرد على من تكلم عن الكتاب في حين طبعه وتولى الرد أحد طلابه هو أحمد الأحمد نفسه ولو كان رحمه الله موجوداً الآن لما سمح بالرد ولا بالمناقشة على هذا النحو ولذا فإني أقول كلمة أخيرة وهي خطوة أولى: إن كل ما قدمته هو عتاب أخوي وليس بحثاً علمياً ولا رداً ولا مناقشة إنما البحث العلمي والمناقشة تكون مني مع سيادتكم على أحد تلك الأمور:
1- إما أن نلتقي شخصيا نتعاون معاً على طلب الحقيقة العلمية يهديها كل منا لأخيه.(1/11)
2- وإما أن تختار من شئت من أصحاب الفضيلة العلماء وهم لله الحمد قريب مني ومنك يشهدون بحثنا ويعاوننا على تحقيق غايتنا والحكمة ضالة المؤمن والحق أحق أن يتبع وقد قال مالك رضي الله عنه:"كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم"، وليكن محضر من شئت من العلماء لبيان ما يقبل وما يرد من القول عملاً بقوله تعالى :{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} , والعلماء هم ورثة الأنبياء وليس هناك تعصب ولكن إنصاف ليس هنا ادعاء ولكن مطالبة بالحق وإذا كان الرأي والقول موافقاً للصواب فهو ملزم بالقبول مهما كان قائله ومهما كانت منزلته كما قيل في ذلك:
لا تحقرن الرأي وهو موافق ... ... حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أعز شيء يقتن ... ... ما حط قيمته هوان الغائص
وقديماً قبل أبو هريرة رضي الله عنه الحكمة من الشيطان وأقره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وختاماً: نظراً لضيق الوقت عندي وعدم استعدادي للمقاولات والتلاقي على صفحات الجرائد فأقول:
أرجو أن تتقبل كلماتي بروح أخوية وتفسرها تفسيراً أدبياً لا يخرجها عن نطاق العتاب ولا تحملها أي معنى آخر فإنني أقرر مقدماً ونهائياً أني لم أضمن كلامي ولا أقصد به سوى ما تنطبق عليه حرفياً وإذا كان فيها مالا يرضيك فمعذرتي إليك لأني لا أرضى من نفسي ما لا أرضاه لها من غيري وتقبل فائق تحياتي وتحية الله لمؤمنين {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}..(1/12)