بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الناشر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
نحن في هذه الدنيا ضيوف غرباء... فكيف نحن مع الله في آداب الضيافة.. كيف نحن حينما تدركنا مصيبة الموت.. ما حالنا في أول ليلة في القبر.. هل الأنيس عمل صالح ونافذة إلى الجنة.. وإجابة مسددة على أسئلة الملكين؟ إنه حقًا صندوق العمل.
ما حالنا عند البعث والنشور وتطاير الصحف؟ ما حالنا ونحن حُفاة عُراة غُرلاً بُهْمًا؟! ليس معنا إلا ظل أعمالنا: محبة في الله.. تآخ في الله.. تعلُّق بالصلاة.. عِفَّة في حياة.. أمانة في اللسان واليد.. دمعة صادقة في عين خاشعة.. كيف حالنا والصراط مدحضة مزلة لا يجوز عليه إلا العاملون؟ إنها مشاهد تقشعر منها الأبدان.. أهوال عِظام وأحوال جِسام في ذلك اليوم العظيم { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المطففين: 6]، حينها يا نجاة الناجين حين يُؤمْرَون إلى الجنة برحمة الله... روح وريحان { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر: 55]، ويالهلاك الهالكين – حمانا الله وإياكم – حين يُؤمَر بالأَبْعَد إلى النار { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [الطور: 14]، يا الله ما أصغر هذه الحياة وما أكبر عناءها، حقًا نحن فيها غرباء فيها نعود إلى أوطاننا ونسلم؟ نحن أصلنا في الجنة.. بيوتنا في الجنة.. زوجنا في الجنة، فهل نعود؟ هل نعود؟
فيا رحمة الله حُثِّي السير مسرعة في حل عقدتنا يا رحمة الله.
هذه أيها القارئ الكريم بين يديك «سلسلة الدار الآخرة»؛ لعلها أن تحيي في قلوبنا إيمانًا.. وتزيد في قلوبنا رجاءً بما عند الله. وتنمي في حياتنا خوفًا من وعيد الله.. فنكون من الناجين. إنها لسلسلة بدأت بـ «مصيبة الموت»، فـ «القبر صندوق العمل»، فـ «اليوم العظيم»، فـ «مشاهد من ذلك اليوم»، ثم «تلك الجنة» - جعلني الله وإياك من أهلها -، ثم «هذه النار» - حمانا الله منها -.(1/1)
اللهم إيمانًا لا يرتد.. ونعيمًا لا ينفد.. ومصاحبة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - في أعلى جنان الخُلد. والحمد لله أولاً وآخرًا.
الناشر
* * * *
بسم الله الرحمن الرحيم
مصيبة الموت
نهاية كل مخلوق، ومصير كل حي...، لقد استوقف أمام جلالته العلماء، وأسكت الفصحاء، وأعيا المفكرين والأدباء.. إنه الموت.. بداية رحلة عظيمة تملأ النفس روعة ورهبة، في موقف عصيب يكفي استحضاره في النفس لتقضي رحلتها كلها على الأرض في خوفٍ وحذرٍ وتوجس...
يقول الحسن البصري: فضح الموت الدنيا لم يدع لذي لب فرحًا.
ولما احتضر أبو هريرة - رضي الله عنه - بكى، فقيل له: وما يبكيك؟ فقال: بعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إلى جنة أو إلى نار.
ولمَّا حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه، إنك لتقول لنا: ليتني كنت ألقى رجلاً عاقلاً لبيبًا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد.. وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت، فقال: يا بني، والله كأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سَمِّ إبرة، وكأن غصن شوك يُجْذَب مِن قدمي إلى هامتي.
إنه موقف يزيد القلوب حساسية ورهبة واستحياء..، ويكشف للإنسان ما كان مخفيًّا عنه من أسرار الغيب، ويظهر له خلف الحُجُب ويرى موعود الرب جل وعلا { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22].
إنه موقف مؤثِّر وذكرى لمن كان له قلب، ذكرى كافية ليعيش الإنسان في حذر دائم، وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة.
إنها المصيبة العظمة والرزيَّة الكبرى... إنها مصيبة الموت كما سمَّاها الله في محكم التنزيل { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } [المائدة: 106].(1/2)
«قال علماؤنا: وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذِكْره، وقلَّة التفكُّر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرةً لمَن اعتبر، وفكرة لمن تفكَّر، وفي خبر يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينًا».
ويُروى أنَّ أعرابيًّا كان يسير على جملٍ له، فَخَرَّ الجملُ ميتًا، فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به ويتفكَّر فيه، ويقول: مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث؟ هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة؟! وما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي كان يبعثك؟ ما الذي صرعك؟ ما الذي عن الحركة منعك؟ ثم تركه وانصرف متفكرًا في شأنه متعجبًا من أمره» [التذكرة للقرطبي].
مصيبةٌ مَن فرَّ منها اقترب! ومَن اقترب اضطرب! فكم حريص على الحياة يموت بأتفه الأسباب! وطالبًا للموت مظانه يموت على فراشه «فلا نامت أعين الجبناء» كم من عاش بعيدًا عن وطنه سنوات عديدة ثم عاد ليموت في يوم وصوله! ومسافر ما نزعه من وطنه إلاَّ الموت! وآخر حرص على أمرٍ بذل في تحقيقه جهده، واستفرغ وسعه، حتى إذا ظفر به كان الموت في طياته!!
وزوج ما بنى بزوجته، وخريج ما استلم وثيقته، ومولود ما رأى والدته، ووالد وتر أهله وماله! كم وكم...!!
وآهٍ ما أقسى الموت، وما أعظم غربته..
يهونُ كلُّ اغترابٍ في الحياةِ فكمْ
ذي غربةٍ عادَ محفوفًا بإجلالِ
وغربةُ الموت أقسى ما نكابدهُ
كم فرقتْ بيننا من غير إمهالِ
من ذا الذي نالَه من دنياه غايته؟
من ذا الذي عاشَ فيها ناعمَ البالِ
يفنى الفتى وعلى عينيه أشرعةٌ
من الذهول تواري دمعهُ الغالي(1/3)
يقول أحد العارفين: «والموت أشد ما يحاول الإنسان أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره، ولكن أنَّى له ذلك: والموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد، وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال! وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق: 19]، وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات! وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «سبحان الله، إن للموت لسكرات»... يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى، واشتاق إلى لقاء الله، فكيف بمن عداه».
إننا نعيش في زمانٍ كثر فيه الموت، وزاد فيه القتل، حتى أصبح ذلك من أكثر أخباره وأهم أنباءه، فما تُسرِّح طرفك إلا وتسمع بالموت..
وأنَّا لإعلام مرئي أو مسموع أو مقروء أن يحصى الموتى في ساعة واحدة فضلاً عن يوم فأكثر...!
فمن نجا من الحروب فلا ينجو من الزلازل والفيضانات والمجاعات والكوارث والحوادث والأمراض المستعصية وموت الفجأة وغيرها كثير...
وقد ثبت كما عند البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشح ويكثر الهَرْج» قالوا: وما الهَرْج؟ قال: «القتل القتل».
ولكن ليس هذا المهم...!
وأنت للأرضِ أولاً وأخيرًا
كنتَ مَلِكًا أو كنتَ عبدًا ذليلاً
ولكن المهم... على أية حال يكون، وبأي نفسٍ يُستقبل؟!
حال المؤمن عند مصيبة الموت:
إن المؤمن يرضى بقدر الله، ويسلم بقضائه ولسان حاله يقول: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [طه: 84].(1/4)
إنه يؤمن بموعود الله، ويعلم أن الموت نقلة إلى حياة كريمة في جوار رب رحيم، في جوار الله القائل –كما في الحديث القدسي-: «يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي. يا ابن آدم، لو بلغن ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة» [رواه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - ].
إن المؤمن يُبشر عند موته بروح وريحان، ورب غير غضبان { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل: 32].
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - كما ورد في كتاب «التذكرة»: «إذا جاء مَلك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام».
إن المؤمن ينتقل إلى حياة أخرى، أضخم من حياتنا هذه، وأعمق إحساسًا، وأرحب آفاقًا... حياةٌ تعُدُّ حياتنا هذه - مهما حصل فيها من نعيم وسعادة وسعة رزق - حياة لهو وعبث، ولذلك يعبر عنها القرآن بقوله: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64].(1/5)
روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله، وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر – مرتين أو ثلاثًا -، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت - عليه السلام - ، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض...».
ورُوي عن ابن عمر قال: إذا قبض ملك الموت روح المؤمن قام على عتبة الباب ولأهل البيت ضجة، فمنهم الصاكة وجهها، ومنهم الناشرة شعرها، ومنهم الداعية بوَيْلها، فيقول ملك الموت - عليه السلام - : فيم هذا الجزع؟ فوالله ما أنقصتُ لأحدٍ منكم عمرًا، ولا ذهبت لأحد منكم برزق، ولا ظلمت لأحد منكم شيئًا، فإن كانت شكايتكم وسخطكم عليَّ فإني والله مأمور، وإن كان ذلك على ميتكم فإنه في ذلك مقهور، وإن كان ذلك على ربكم فأنتم به كفرة، وإن لي فيكم عودة ثم عود.
قيل: إن أبا حامد الغزالي، لما أحس دُنُوَّ أجله قال لبعض أصحابه: ائتني بثوب جديد.
فقال له: ما تريد به؟!
قال أبو حامد: سألقى به المَلَك!
فجاءوه بالثوب، فطلع به إلى بيته، وأبطأ على أصحابه، فلم يَعُدْ، فذهب إليه أصحابه يستطلعون نبأه، فإذا هو ميت، وإذا عند رأسه ورقة كتب فيها هذه الأبيات:
قل لإخواني رأوني ميِّتًا(1/6)
فرثوني، وبكوا لي حَزَنًا...
أنا في الصُّورِ وهذا جسدي
كان بيتي وقميص زمنا
أنا عصفور وهذا قفصي
طرتُ عنهُ وبَقِي مُزتهنا
أنا دُرٌّ قد حواهُ صَدَفٌ
لامتحاني فنفيتُ المِحَنَا
أحمدُ اللهَ الذي خلصني
وبنى لي في المعالي سكنا
قد ترحَّلْتُ وخلَّفتكُمو
لستُ أرضى داركمْ لي وطنًا
لا تظنُّوا الموت موتًا إنهُ
كحياة، وهو غاياتُ المنى..
لا تَرعْكُمْ هجْمةُ الموتِ فما
هي إلا نِقْلةٌ من ها هنا
حال الكافر عند مصيبة الموت:
أما غير المؤمن فكما قال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [الأنعام: 93].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «أي في سكرات الموت وغمراته وكرباته، والملائكة باسطوا أيديهم بالضرب لهم، حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } ومن ذلك أن الكافر إذا احتضر، بشرته الملائكة بالعذاب والنكال، والأغلال، والسلاسل، والجحيم، والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم فاليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله».اهـ.(1/7)
وقد وردت أحاديث كثيرة تبين شدة ما يجده الكافر عند موته ومن ذلك حديث البراء بن عازب الآنف الذكر «قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء مَلَك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض...» الحديث.
ولذلك يرى الكافر أن الموت شبح قادم، وهمٌ مطبق، يتغلغل في أعماقه ويسري في إحساسه حتى أصبح مجرد ذكره كفيل بتنغيص لذاته وتكدير صفائه، فهو حريص على الحياة مهما كانت هذه الحياة حتى لو كانت حياة الشقاء والذُّل وحياة الحشرات والديدان، لأنه لا يرجو غيرها، ولا يُأمِّل سواها، فهي جنته مهما كان شقاؤها، وهي غايته مهما كانت حقارتها، إن أُعطي منها رضي وإن لم يعط سخط، هي أكبر همه، ومبلغ علمه { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [البقرة: 96]، فتراه يبذل من أجلها الغالي والنفيس، ومع ذلك يجري عليه أقدار الله ويمضي فيه حكمه وأمره، وفي الآخرة ليس له إلا العذاب والنصب، وصدق الله حين يقول: { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } [الغاشية: 3، 4].
حُسن الظن بالله:
إن علينا أن نؤمن بموعود ربنا، ونحسن الظن به، في خوف ورجاء وحب، نخاف عقابه ونرجو رحمته، ونحبه ونحب لقاءه، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.(1/8)
أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أنس - رضي الله عنه - : «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو بالموت فقال: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمَّنه مما يخاف» فحاشا لفضل الله وكرمه وجوده أن يتخلى عن عبد في مثل هذا الموقف الذي هو أحوج ما يكون فيه لله عز وجل وتوفيقه.
ذكر الموت والاستعداد له:
رُوي أم ملك الموت دخل على داود - عليه السلام - فقال: مَن أنت؟ فقال: من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشا، قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعد بعد؟ قال: يا داود أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد.
وقال السدي في قوله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [الملك: 2] أي: أكثركم للموت ذِكرًا، وله أحسن استعدادًا، ومنه أشد خوفًا وحذرًا.
وفي حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أكثروا من ذِكر هاذم اللذات» قلنا: يا رسول الله، وما هاذم اللذات؟ قال: «الموت» [رواه أحمد والترمذي].(1/9)
يقول القرطبي في «التذكرة»: «قال علماؤنا رحمة الله عليهم: قوله - عليه السلام - : «أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت» كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن مَن ذَكَرَ الموت حقيقةَ ذكرِه نغص عليه لذَّاته الحاضرة، ومنعه مِن تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: «أكثروا ذكر هادم اللذات» مع قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [آل عمران: 185] ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيرًا ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويودِي المال والولد
لم تغنِ عن هُرمز يومًا خزائنُهُ
والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجرى الرياح له
والإنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها
من كل أوب إليها وافد يفد؟
حوض هنالك مورود بلا كذب
لابد من ورده يومًا كما وردوا
يُروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بِغَيْرِ اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
ومن حديث شداد بن أوس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الكَيِّسُ مَن دَان نفسه وعَمِلَ لِمَا بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله» [رواه الترمذي].(1/10)
يقول القرطبي في «التذكرة»: «وقوله عليه الصلاة والسلام: «الكَيِّسُ مَن دَان نفسه»؛ «دان»: حاسب، وقيل: ذل. قال أبو عبيد: «دان نفسه»: أذلها واستعبدها، يقال دنته أدينه، إذا ذللته فيذل نفسه في عبادة الله سبحانه وتعالى، عملاً يعده لما بعد الموت، ولقاء الله تعالى، وكذلك يحاسب نفسه على ما فرط من عمره، ويستعد لعاقبة أمره، بصالح عمله، والتنصُّل من سالف زَلَلِه، وذكر الله تعالى وطاعته في جميع أحواله. فهذا هو الزاد ليوم المعاد. والعاجز ضد الكيس، والكيس: العاقل، والعاجز: المقصر في الأمور، فهو مع تقصيره في طاعة ربه، واتباع شهوات نفسه متمن على الله أن يغفر له. وهذا هو الاغترار فإن الله تعالى أمره ونهاه، وقال الحسن البصري: «إن قومًا ألهتهم الأماني [المغفرة] حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أُحْسِن الظن بربي. وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل» وتلا قوله تعالى: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
[فصلت: 23], وقال سعيد بن جبير: «الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة».
ومما لا شك فيه «أنَّ ذِكْرَ الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية؛ ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق وسعة، ونعمة ومحنة، فإن كان في حال ضيق ومحنة، فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم، والموت أصعب منه، أو في حال نعمة وسعة فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها، والسكون إليها، لقطعه عنها».(1/11)
فتفكَّر أخي المسلم «في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فياللموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكمٍ ما أعدله، كفى بالموت مقرحًا للقلوب، ومبكيًا للعيون، ومفرقًا للجماعات، وهاذمًا للذات، وقاطعًا للأمنيات، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، وإذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك إلى عرر، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومَدَرَ، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان ليس لك والله من مال إلاَّ الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب وجسمك للتراب والمآب. فأين الذي جمعته من المال؟ فهل أنقذك من الأهوال؟ كلا بل تركته إلى مَن لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك. ولقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى: { وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [القصص: 77] هو الكفن، فهو وعظ متصل بما تقدم من قوله: { وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ } [القصص: 77] أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا، الدارَ الآخرة وهي الجنة؛ فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في الطين والماء والتجبُّر والبغي، فكأنهم قالوا: لا تنسى أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن».
قال الدقاق: مَنْ أكثر مِنْ ذِكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
ختامًا
وإنَّ مما يُسلي المحزون، وينفس عن المكروب، ويفرج عن المهموم عند موت عزيز أو فقد غريب أن يتذكَّر مصاب المسلمين بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أصابه من الكرب العظيم، ووجع أليم، وهو يعاني سكرات الموت.(1/12)
ففي الصحيحين ومسند الإمام أحمد، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك فمسسته فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكًا شديدًا؟ قال: «أجل، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم»، قلت: إن لك أجرين؟ قال: «نعم، والذي نفسي بيده، ما على الأرض مسلمٌ يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها».
وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: لمَّا ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم»، فلما مات قالت: واأبتاه، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه من جنة الفرودس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب.
قال النور الحلبي في إنسان العيون: «والحكمة فيما شوهد من شدة ما لقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكرب عند الموت تسلية أمته إذا وقع لأحدٍ منهم شيء من ذلك عند الموت».اهـ.
قال القسطلاني: كادت الجمادات تتصدع من ألم مفارقته - صلى الله عليه وسلم - فكيف بقلوب المؤمنين، ولما فقده الجذع الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حَنَّ إليه وصاح، وكان الحسن البصري إذا حدَّث هذا الحديث بكا وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه، وروي أن بلالاً - رضي الله عنه - كان يؤذن بعد وفاته وقبل دفنه فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ارتجَّ المسجد بالبكاء والنحيب، فلما دفن ترك بلال الأذان وخرج إلى الشام.
لقد أظلمت الدنيا في أعين الصحابة، فما قيمتها وقد أفل نجمها، وغابت شمسها، لقد كان لهم أبًا رحيمًا، ومعلمًا شفيقًا، ومربيًا حريصًا.
ولئن رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ
هذان في الدنيا هما الرحماءُ
لقد عاشوا معه أجمل الأيام، وأروع الأوقات وأحلى الذكريات.(1/13)
قال أنس - رضي الله عنه - كما في صحيح مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب – وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجت حتى أمر على صبيان يلعبون في السوق، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: «يا أنيس! أذهبت حيث أمرتك؟» قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما ضربني، ولا سبني، ولا عبس في وجهي، وما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء صنعته: لِمَ صنعته؟ ولا لشيءٍ تركته: لِمَ تركته؟ ولا لمست خزًّا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كفِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا كان أطيب من عرق النبي - صلى الله عليه وسلم - . اهـ.
اللهم اجمعنا بنبينا في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، اللهم ارزقنا نطقها في ساعة الزفرات، إذا ضاقت الكربات، وازدادت الآهات واشتدت الأزمات، ونجنا منها بعد الممات...
* * * *
يا أيها الموتُ البعيد بناظري
قل لي بربك هل تطيعُ خواطري
إني لأعلمُ أن عقربَ ساعتي
يحكي خطا الموت القريب الزائرِ
يا ليت أني إن ذكرتك ساعةً
أرسلتُ دمعًا جفَّ خلفَ محاجري
يا ليت أني إن ذكرتكَ ساعةً
أصغرتُ دنيا لا تدومُ لعامرِ
أبصرتُ بكرًا للمشيب بلحيتي
أنذيرُ شؤم أم رسولُ بشائرِ
يا للأماني كيف يُلهين الفتى
حتى يمر العمرُ لمحةَ ناظرِ
إن كان يعذرني الشبابُ وزهوهُ
فالشيبُ إن يأتي فليسَ بعاذري
إعداد
عبد الله بن خضر الغامدي
أبها – ص.ب 1918
* * * *(1/14)