المقدِّمة
... الحمد لله الحنّان المنان ، منَزِّل القرآنَ في شهر رمضان ، رحمةً بأهل الإيمان ، وهدايةً لأهل العصيان .
والصلاة والسلام على نبيِّ الكرم والجود ، ( المصطَلَح ) عليه بأحمدَ ومحمود ، كان عليه السلام في رمضان كالريح المُرسلةِ ، في كرمه وعطائه من غير مسألة ، يجتهد فيه بالعبادة ، ويُغيِّرُ فيه العادة ، تنويعاً للطاعات ، وابتغاءً لرضا ربِّ الأرض والسماوات .
وعلى آله أصحاب [ التسابيح ] ، الناشطين في شهر رمضان [بالاعتكاف ] و [التراويح ] ، فهم أهل جماعةٍ ، فيما يُعَدُّ من النوافل طاعة . وعلى المؤمنين الذين إذا قَدِم عليهم شهر رمضان يستبشرون ، وإذا فارقهم يحزنون ، ولدموع الفراق يذرفون .
أمّا بعد
فهذه هديةٌ نادرة ، وتُحفةٌ طريفةٌ فاخرة ، أضعها بين يديّ إخوتي في الله ، ممن لا يُلهيهم عن ذكره لاهٍ .وهي مجموعة مصطلحات يكثُرُ تداوُلُها على الألسن في شهر رمضان ، سواء على لسان الخطباء أم الوعاظ أم الصُوَّام ، وأصلها مجموعة أحاديث إذاعيّةَ متسلسلة ألقيت خلال شهرٍ كامل ، ثمَّ حُوِّلت إلى مسلسل تلفزيوني ، ولأن مُخرِجهُ لم يلتزم بشروط العقد المُبرَم بيني وبينه ، فقد أتى المسلسل على غير ما كان يُنتظَرًُ له ، فلم يَرُق لي تنفيذه ، فآل الأمر إلى منعه قضاءً ، ثم حُكم لي بتعويضٍ ، مضافاً إلى المنع المذكور .(1/1)
وكنت قد عزمت على جمع الأحاديث تلك بكتاب ، لِماَ رأيت من إطرائه من الأحباب ، ولكن } لكلِ أجلٍ كتاب { ، وقد تداولت كتابته أيدٍ ، ليس لها قوةٌ ولا أيْدٍ ، فقدمت منه نسخةً للإِجازة وأنا في مرضٍ مؤرضٍ ، ولو لم يكن هناك آرضٌ ولا مؤرِض ، فعاقني ما كنت فيه ، عن متابعة إبحاره ومرافيه ، وقد آذاني من كنت أظن أنّهُ سيكفيني ، وما خطر ببالي أنَّ في ذلك تكفيني !!، وقد حمدت الله كلَّ الحمد، إذ أوقع ذلك التحبير ، بيد ذلك المخلص الخبير ، وما أن أطَّلعت على ما كان منه من تسطير ، حتى كدت من الفرح أن أطير، فهذا الرجل محبٌّ ، ومخلصٌ فيما يُعهد إليه من جليل أو خطير، فلو كان غيرُهُ فلا أظن أنَّهُ كان سيُبْدي ما أبداه من ملاحظات ، ولا يُبديها إلاّ حاذقٌ في اقتناص الهفوات ، وقد لا يلتفت إليها إلاّ كاتبُها لما عانى فيها من ضروب المُعاناة ، فلله الحمد على أمانته فيما أدّى ، ولم يحل حائلٌ منه عن قول الحقِّ فيما أبدى ، فجزاهُ الله عنِّي وعن الدين المتين خيراً لما قدَّم وأسدى ، ولو وقع بيد غيره فأجازه على ما قُدَّم ، لكانت لي كارثةٌ [ أو قل : كارفةٌ ] والله أعلم ، ولكنَّ
} الله لطيفٌ بعباده {، وهو الكفيل بمن ليس على شاكلة ثمودِه أو عادِه .(1/2)
و أجدني مسوقاً لبيان سبب الإرباك ، فخذه عنِّي ولا تُصدِّقُ كلَّ حاك ، و حاصِلُهُ أنَّ كلَّ حلقة ٍ أو قل كلَّ [ مصطلح ] ، قد رُقِّمت صفحاتُهُ استقلالاً و لا علاقة لها بما يأتي أو بما سَنَح ، فحصل أن تداخلت صفحات الحلقات ، ولا يمكن للطابعي أن يعيَ ذلك بحال ، فوقعت الهنات غير الهيِّنات ، ولا يُمكن أن يقع عليها إلاَّ الخبير الضليع ، أو ذات الكاتب ولو بنظرٍ سريع ، ولكن زاد الطين بللا ، وأثقل المُمْرَض أسقاماً وعللا ، أنَّ من ظننت به الكفاءة من بعضِ طَلَبَتي ، ما نِلتُ من تدقيقه بعض بُغيتي ولا طِلْبَتي ، بل تعجَّل حيث ظنَّ أنَّ التَعَجُّل يُرضيني !!، و ما درى أنَّ هذا يَرُضَّني ولا ُيرضيني ، فالحمد لله على كلِّ حال ، و إليهِ المرجعُ و المآل ، وهو اللطيفُ بعباده ، الموكلين أمرهم إلى عطائه و رِفادهِ .
و أعود إلى المصطلحات ، فهي ـ و الله ـ فريدةٌ بين الموضوعات ، تكَفَّلت بشرح ما يتردد على مسامع الصائمين ، من الخطباء والعلماء والواعظين ، وقد يستحيي الكثير أن يسأل ، أو لا يجِدُ ما يبتغي و يأمل ، وهو مما يتكرر في لواحق الأعوام ، ويدخل عليه سَمعَهُ من غير استئذانٍ أو احتشام ، وقد يخرجُ من رمضانَ إلى غيرِه ، وهو غيرُ عالمٍ بالمصطلحات من غُرَرِه ، فجعلت هذا لمثل هذا ، حتى لا يُشَوِشَّنَّ عليه كلُّ من افترى أو هذى .
وصادف عند عرضي للفكرةِ على بعض الجهات الإعلامية ، و كان بعضُ الحُسَّاد من ذوي النفوس الدَننيَّة ، قد صادف في ذلك الآن حُضُورُهُ ، فازداد اكتئابُهُ وقلَّ حُبُورُهُ ، فحاول سرقة الفكرة برمتها ، وظنَّ أنَّ إليه المنتهى !،(1/3)
بل نفذَّ بعضَ ما كنت قد انتهيت منه ، وهو بعدُ ما بدأ ولا انتهى !! ، واتفق مع مُخرجٍ غير مُنتِج ، على أن يُطبَّلَ أحدُهما و الآخر يُهرِّج ، فصنعوا بعضَ حلقاتٍ للأطفال ، وظَنُّوا أنّ فألهم هو الفال ، ولكن خابت منهم الآمال ، ووقعوا بأسوأ مآل ، و كم كان الموقف مُحْرِجاً ، ولهذا الحسود مزعجاً ، حين نشرت صحيفةٌ محليَّةٌ حلقاتٍ من هذه المصطلحات ، وكان قد دسَّ إليها ما افترى به و افتات ، فاكتشف رئيسُ التحرير ما انتحل ، وفي ذلك منتهى الخجل لمن يخجل ، أو له إحساسٌ فيَوْجَل ، وقد أخَّرت انتحالات [ الكَتَبَة ] من غير الفريسيين ، ما كان مؤملاً أن تراه منذ زمن العين ، فحال دون الطبع بَعضُ ما لا يَقبَلُهُ الطبع ، ولا ريب أنَّ في كلِّ زمنٍ حُسّاد ، يأكُلُ قلبَهم السواد ، بل ليس لهم بين أهل الفضل جمْعٌ ولا سواد، ورَحِمَ الله الإمام الأعظم ، والمجتهد الأقدم ،الإمام التقي النقي الصفي ، أبا حنيفة بن ثابت الكوفي ، جوزيَ عن دين المصطفى خيراً وكوفي ، حين كان يستشهد دوماً عندما يقع له من فعل الحاسدين شيء، بقول الشاعر :
هم يَحْسِدُني وشرُّ الناس كُلِّهِمِ من عاش في الناس يوماً غيرَ محسودِ
كما كان يستشهِد بقول القائل :
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَهُ فالناسُ أعداءٌ له و خُصُومُ كضرائر الحسناء قلنَ لوجهها حسداً ولؤماً إنَّهُ لدميمُ
فالشكرُ لله على ما أنعَمْ ، وله الحمدُ على ما أولى وقَسَمْ ، فليس سعي المرء وحده والهمم ، تُحيي نُفوُساً من الرمَمْ ، بل لابد أن يكون له في رضى الربِّ نصيباً وخَلاق ،يحوزُهُ لا [ باللطش ] ولا بالإختلاق ، ويضَعَ أحدُنا لقاء الملك الخلاّق ، فليس الأمرُ إلى هذه منتهاه ، فهذا فكرٌ عُقُلُ أهل النهى تأباه .(1/4)
هذا وآمل من قارئي الكريم ، أن يَغفِر لي ما يقع عليه من خطأ يفرحُ به اللئيم ، [ فإنَّ الكريم يُصلح ، واللئيم يَفضَح ] ، } ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إن نسِينا أو أخطأنا ... ربّنا ولا تُحَمِلْنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنَّا واغفِر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين { .
وآخِرُ دعْوانا أنْ الحمدُ لله ربَّ العالمين .
الاعظمية : د. مُحمّد مَحروس المدَرّس الأعظمي
محلة / 314 - زقاق / 88 - دار / 41
هاتف المسكن / 4225253 و 4228669 .
هاتف المدرسة الوفائيَّة الدينيَّة / 8879723 .
يقول تعالى :
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان ... } البقرة / 185 .
منّ الله على البشر أمورا لا تُعدُّ ولا تُحصى ، ثم امتنَّ ببعضها عليهم في كتابه الكريم تذكيراً ، وتنبيهاً ، وتنويهاً. ومن نافلة القول ، أنَّه جلَّ وعلا لم يمتنَّ عليهم إلاّ بما عرفوا ، وخاصة العرب من أولئك البشر ، لأن بدء الخطاب كان إليهم ، والنبوة فيهم ، وخطابه كان بلسانهم . فمما أمتنَّ به عليهم ، ما ورد في ... .
قوله تعالى : { وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون } النحل /16 .
فدلَّت الآية على أنّ العرب كانت تتخذ النجوم علاماتٍ تهتدى بها في الفلوات ، عند حِلِّها وتَرحالها ، وفي إنْجادِها وإتْهامِها ، فهي لاشك تعرف مواقعها ، ومنازلها ، ومواسم ظهورها .
ولقد اتخذت العرب من بعض الكواكب وسائل للتوقيت ... . يقول تعالى :
{ يسألونك عن الأهلَّة قل هي مواقيت للناس والحج..} البقرة / 189 .
ولقد كانت العرب تنسِّئ ـ أي تؤجل ـ موعد الحج عن شهره ، حسبما تراه قريش مناسباً لأحوالها وتجارتها ، وما فعلت العرب ذلك إلاّ وهي قد عرفت الشهور ، وقسّمت متتاليات الدهور، إلى : أعوام ، وسنوات .
وجعلت الشهور: أسابيع ، تضم أياما سبعة في نظام بديع .(1/5)
ثم جعلت اليوم ساعات ، وقسَّمت الساعات الى أوقات ، وجعلت اليوم والليلة ، وجعلت لأجزائهما أسماءً ، حدَّدوهما حينما نظروا كوكباً وسماءا .
ويقول تعالى : { إنَّ عدَّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرُم ذلك الدين القيِّم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين * إنَّما النسيء زيادةٌ في الكفر يُضل به الذين كفروا يُحلُّونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عِدّة ما حرّم الله فيحلُّوا ما حرَّم الله زُيِّن لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين } التوبة / 36 إلى 37 .
لقد كانت أشهر : رجب الفرد [ أو رجب الأصم ، أو رجب المرجَّب ] ، وذي العقدة ، وذي الحجة ، والمحرَّم . أشهرٌ حُرُم لا قتال فيها ، يأتي الأول منفرداً ، وباقي الثلاثة متتالية .
وكانت أشهر الحج هي : شوال ، وذو القعدة ، وعشرٍ من ذي الحجة .
فكلُّ هذا وذاك ، دلَّ على معرفة العرب : بالكواكب ، والمنازل ، والتوقيت ، والتقسيم ، ممّا يَسّر لهم معرفة الشهور، والمواسم .
لقد كانت أشهرهم ، التي أقرهّم عليها الاسلام ، هي :
المحرَّم ، وصفر ، وربيع الأول ، وربيع الثاني ، وجمادى الأولى ، وجمادى الآخرة أو الثانية ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوال ، وذو القعدة ، وذو الحجَّة . ولقد أقرّ الإسلام تقسيماتهم ، ونقض تنسيئاتهم ..
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : { إنَّ الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حُرُم ... } .
[ رواه مسلم في كتاب القسامة / 3179 ، وأبو داود في كتاب المناسك / 1663 ، ورواه البخاري في كتاب بدء الخلق ، وفي كتاب تفسير القرآن / 2958 و 4294 باختلاف يسير ] .
لقد جعلت العرب كل شهر يبدأ بحرف [ الراء ] ، يُسبق بكلمة : [ شهر ] والبواقي تُنطق بدون سبقها به .(1/6)
يقول الله تعالى : { شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان..} البقرة / 185 .
فلفظة [ رمضان ] : على وزن [ فَعَلان ] .
إنَّ هذا الوزن وضع في العربية ليدلَّ على الحركة والاضطراب ، فيقال : غَلَيان ، طَيَقان ، غَشَيان ، هَيَجان ، سَيَلان ... الخ.
إنّ لفظة [ رمضان ] مصدر أصبحت اسماً علما ً، ونظائرها في العربية كثير ، وأبرزها لفظة [ قرآن ] ، فهي مصدر أصبحت اسماً علماً على : كلام الله المقروء المجموع .
ورَمَض [ وهي الفعل الماضي ] تعني : طرح الشاة على النار لتنضج .
ورَمَضَ : صام رمضان .
والرمضاء : شدة الحر .. يقول الشاعر :
والمستجير بعمروٍ عند كُربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
********
أقول : فكأن العرب حين سمّت شهورها ، كان رمضان يأتيها صيفاً ، والمرء يتقلب فيه ويضطرب لشدّة حرِّه ، وهو يتقلب ويضطرب ـ بعد الاسلام ـ فيه ، لصومه .. فوافق الاسم المسمّى !! .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعُرجون القديم * لا الشمسُ ينبغي لها أن تُدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌّ في فلكٍ يسبحون } يس/ 39 و40.
لقد ربطت العرب توقيتاتها السنوية والشهرية بالقمر ، ولم تجعل للشمس مكاناً في مواقيتها إلاّ بمعرفة أجزاء النهار ، فهي تحدد بدء النهار ببزوغ الفجر ، والظهيرة بتعامد الشمس في كبد السماء ، والعصر بميلانها للغروب ، وانتهاء اليوم بمغيبها .
أمّا الأشهر: فتتعامل فيها مع بزوغ الهلال ، ثم اكتماله ، ثم تناقصه ، ومحاقه . فينتهي شهر ٌ، ثم يُستهلُّ شهرٌ جديد .
ولمّا كان القمر [ يُولد ] أي : يخرج من المحاق على شكل هلال ، فإذا كانت ولادته والشمس بازغة ، فإنّه لا يُرى إلاّ بُعيد غروبها .(1/7)
ولو أنّ الولادة كانت قبيل وقت الغروب ، فإنَّ الهلال قد يُرى في بلد الولادة ، وقد لا يُرى ، لأنه مازال أصغر من أن يتضح في الأُفق ، والشفق ما زال شديد الحمرة .
والمعتدُّ في الرؤية ـ شرعاً ـ هي العين المجردة ، والتي عليها التعويل ، وبها التأميل .
نعم قد يُرى الهلال في البلاد التي غرب بلد الولادة بوضوح .
وقد لا يظهر الهلال ظهوراً واضحاً في أول ليلته ، إذا كانت ولادته في وقتٍ متأخر من بدء النهار .
وقد لا يلبث إلاّ قليلا بعد ظهوره في نوئه ومنزلته ، فلأجل هذا وذلك قامت الحاجة الى مراقبته ، واقتناص رؤيته ، إذ بالرؤية تتحدد كثير من المواقيت الشرعية الزمانية ، منها :
دخول رمضان ، وخروجه ، ودخول العيد ، وتحديد الأضحى ، وأيام النحر والتشريق ، وتحديد الأشهر الحُرُم ، وأشهر الحج ، وليلة عرفة ، ويومها ، وليالي [ مِنى ] التي تُنال بها المُنى .
فكانت رؤية الهلال من الواجبات الشرعية التي حضّ الاسلام القادرين عليها ، لأنهم يقدمون الى الناس منّة ، ولأنفسهم إذ يحوزون بفعلهم أجراً ورضاً من الله بمنّه .
وهكذا قامت الهيئات الشرعية في كل بلاد الاسلام ، للتثبُّت ممن يدَّعي [ الرؤية ] ، ثم تقضي بصحة ظهور الهلال ، أو عدمه .
وقد دأبت بعض دول الاسلام في عهوده المتتالية على : الاحتفال ، والاحتفاء بالرؤية الشهرية للهلال ، وخاصة الأشهر المهمة المعلومة ، ولعل بقايا ذلك مازال معمولاً به في بعض البلاد .
********
ويشترط في مدعي الرؤية شروط الشهادة ، ويبدأ الشاهد إخباره بلفظة [ أشهد ] ، ولهذا نِيطَت مسألة الرؤية في كثير من البلاد بقضاة الشرع ، وحينما تؤلف لجان متخصصة ، فإنَّه يكون من أعضائها بعض القضاة .
لقد جعل الله الظواهر الكونية مواقيت شرعية ، تنبيهاً بفضل الله على العباد ، وتنويهاً ببديع صنع الله ، الذي خلق كل شيء بقدر فأحسن صنعه ، وأعمَّ نفعه .(1/8)
يقول تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق يفصِّل الآيات لقوم يعلمون } يونس / 5 .
ويقول تعالى :{ الله يعلم ما تحمل كلُّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكلُّ شيء عنده بمقدار* عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال } الرعد/8 و9.
ويقول تعالى : { .. إنَّ الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدراً } الطلاق / 3 .
ويقول تعالى : { .. والله يقدِّر الليل والنهار ... } المزمل / 20 .
ويقول تعالى :{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدُنَّا إنّا كنّا فاعلين } الأنبياء / 16 إلى 17 .
ويقول تعالى :{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلاَّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون } الدخان / 38 إلى 39 .
********
إنَّ في جعل القمر ميقاتاً ، مع تغيِّر أحواله ، وعدم وحدة شهوره ، ووجود بعضِ نوعٍ من المشقة في إرصاده ، حِكمٌ كثيرةٌ أرادها الله لعباده ، ومن عباده .
فتغييب الحكم عنّا هو عين الحكمة في كثير من الأحيان ، وهذا فعل الشارع الحكيم في غالب الأحيان ، ولأجله غيِّبت ليلة القدر مع جلالها ، لحِكمٍ أرادها الله ( ، منها :
1. إنَّ البحث ، ولذة العثور ، نجدها في البحث عن الهلال .
2. وربط الناس بالحدث ، وإبعادهم عن التلقي المجرد ، نجدها في البحث عن الهلال .
3. وبسبب ذلك نشأت : علوم ودراسات ـ منها الفلك ـ في المسلمين .
4. كما أنَّ استدارة الأوقات في التوقيت القمري على مدار العام، لتقاصره عن العام الشمسي ، يجعل الحج يستدير على كل المواسم على مدى ثلاثة وثلاثين عاما .
وكذا الصائم إن صام ـ بفضل الله ـ هذه المدة ، فكأنما صام الدهر كله.(1/9)
من أجل هذا كلِّه ، وكثير غيره ، ربط الله عباداتنا بالقمر لا بالشمس ، ولو شاء الأخيرة لفعل ، ولو أراد لنا الدقة المتناهية في التحديد لما أعجز الله جلَّ وعلا ذلك ، ولكن جعَلَ الأمرَ في متناول الجميع ، وفي مسوؤلية الجميع ، فإنَّ المشاركة في الإعداد تعطي لذة للآكل لا يجدها في الطبق الجاهز ... ولله الحكمة البالغة .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :{ أُحلَّ لكم ليلةَ الصيامِ الرفثُ إلى نسائكم هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن } البقرة / 187.
ويقول تعالى : { ألم ترَ إلى ربك كيف مدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً * وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً و جعل النهار نشوراً } الفرقان / 45 إلى 47 .
فمن الأقوام من اتخذ الشمس لتوقيت الأشهر والسنين واتخذت العرب - وأقرها الاسلام - القمر لتوقيت ذلك ، والشمس لتحديد أجزاء النهار، ودخول الليل ، وفَصَلْنا ذلك في الحلقة السابقة وعلى هذا فالتوقيت القمري يبدأ مع رؤية الهلال ، و رؤيته المعتبرة المعتمد بها هي ما كانت بعيد الغروب ، ولذا كان بدأ اليوم القمري مع غروب الشمس ، لا من منتصف الليل ، وينتهي بغروبها في اليوم التالي ، فيتم بذلك يوم وليلة ، وبهذا الاعتبار يسبق الليل في القدوم المتوالي النهار عند من جعل القمر ميقاته ، و تسمى أول ليلة من الشهر [ ليلة المُستَّهل ] ... ومنه جاء قولهم : مستهل هذه القصيدة كذا ، وأهلّ فلانٌ بطلعته .
يقول تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لِمستقرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدَّرناه منازلَ حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تُدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌّ في فلك يسبحون } يس/ 37 إلى 40 .(1/10)
وبقوله تعالى :{.. ولا الليل سابق النهار ..} ، يعني أن آية الليل هي القمر، لا تستبق موعدها فتظهر مع آية النهار ، وهي الشمس ، فالآيتان متعاقبتان ، وهما أيضا ـ الليل والنهار ـ متعاقبان غير متداخلين .
وقد شاع على ألسنة الناس قولهم في مساء الخميس مثلا : هذه الليلة هي الجمعة ، أو يقولون : في هذه الليلة رمضان ، أو : هذه الليلة عيد . وكل هذا الكلام دقيق ، وفيه منتهى التوفيق ، فعلى وجه التحقيق ، أنّ الليلة هي لليوم التالي ، فتأخذ حكمه .
أ لا رأيت معي ، أو ربما سمعت ، أو شاهدت ، أنَّ [ ليلة ] رمضان تُصلي فيها التراويح ، وفي ليلة العيد لا تُصلى ؟ ... . لماذا ؟
لأننا نعتبر رمضان داخلاً بمغيب شمس آخر يوم من شعبان .
ونعتبر شوال داخلاً بمغيب شمس آخر يوم من رمضان .
فلهذا تُصلي ، أو لا تصلى التراويح ، في هذه الليلة أو تلك . إذ التراويح ظرفها هو الليل الرمضاني لا غير ؟ .
من أجل هذا قال الله ( : { أُحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم ... } .
********
إننا في الأحكام نعطي الليلة حكم نهارها القادم ـ كما مرَّ بك تواً ـ إلاّ في مواضع استثناها الرسول الكريم ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم . . . وإليك إيّاها :
أولها : يوم عرفة ، فقد جُعل الليل الذي يليه تبعاً له ، ليمتَدَّ وقت الوقوف بعرفة ، الى فجر يوم النحر [ أول أيام العيد ] .
ثانيها : ليالي أيام الأضحى ، وهي : يوم النحر [ وهو أول أيَّامه ] ، وأيام التشريق ـ وهي الثلاثة الباقية ـ ، فهذه تتبعها الليالي اللاحقة لها ، كما ذكرنا ، ولا تتبع هذه الأيام الليالي السابقة لها ـ كما هو الأصل ـ ، وذلك :
1. ليمتدَّ أَمَدُ رجم الجمار إلى قبيل الفجر التالي.
2. وليمتدَّ أمَدُ نحر الهدى أيضاً إلى نفس الفترة .(1/11)
3. وليمتدَّ أمَدُ طواف الإفاضة [ وهو طواف الركن ] إلى قبيل فجر ثالث أيام التشريق ـ رابع أيام العيد العرفي ـ ، وتأخيره عن أيام التشريق عند الحنفية ، فيه دمٌ ، أي : ذبيحةٌ تذبح في الحرم .
ففي كلِّ هذا تخفيف على المسلمين إذا لم يتسع يومهم لكلِّ هذا . والذي ذكرناه هي مواقيت زمانية ، وهي غير المكانية التي لا يتجاوزها الحاجُّ من غير إحرام ، وتفصيل أحكامها تجده في باب الحج من كتب الفقه .
أمَّا ما أفتى به بعض أفاضل العلماء قبل سنوات ، بامتداد أمد الرجم الى الليل ـ ممّا عدّه البعض توسعةً من علماء تلك البلاد ـ ، فإنّه لا مزية لهم فيه ، والأمر جارٍ قبل نطقهم ، بل وحتى بدونه .
أما الليل .. فيبدأ من سقوط قرص الشمس وراء الأفق ، إلى حين بزوغ الفجر الصادق ، بعد نهاية الليل الناشئ من غيابها ، وسنفصل معنى [ الفجر ] في حلقةٍ قادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ .
فلا تستغرب بعد هذا قول الناس مساء الجمعة : الليلة هي السبت . أو مساء الخميس : الليلة هي الجمعة .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتَّقون } البقرة/ 183 .
لقد عدَّد رسول الله ( أركان الاسلام في حديث المسافر الذي رواه عمر ابن الخطاب ( ، [ راجع: صحيح مسلم / كتاب الإيمان / 9 ، ورواه ابنه عبد الله ، وكذلك عبد الله ابن مسعود، كما في مسند الإمام أبي حنيفة ، والنسائي/ كتاب الإيمان / 4904 ، وأبو داود ـ باختلاف يسير - / كتاب السنّة / 4075 ، وفي مسند أحمد / مسند العشرة المبشرين بالجنة / 179 ، وابن ماجة / كتاب المقدمة / 62 ] .
ورواية عمر ( هي :
{(1/12)
بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منّا أحد ، حتى جلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه الى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال :
يا محمد ... أخبرني عن : الاسلام .
فقال رسول الله ( :
الاسلام أن تشهد ألاّ إله إلاّ الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلا .
قال : صدقت .
فعجبنا له يسأله ويصدقه ـ والكلام هذا لسيدنا عمر( ـ ، ...
إلى أن قال رسول الله ( : يا عمر أتدري من السائل ؟
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال الرسول ( :
هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم } .
فالصوم عبادة بدنية ، وركن من أركان الاسلام .
والصوم في لغة العرب هو : الإمساك مطلقاً عن أي شيء .
ويستعمل للإنسان ، وللحيوان ، وللجماد.
********
فمن أمسك عن الكلام فهو صائم .
يقول تعالى : { فناداها من تحتها ألاّ تحزني..* ..* فإمّا تَرَيَنَّ من البشر أحداً فقولي إنِّي نذرت للرحمن صوماً فلن أُكلِّم اليوم إنسيا} مريم/24 إلى26 . فقوله تعالى : فقولي .. مع أنها صائمة عن الكلام ، فيه إشارة إلى أن [ الإشارة ] بمثابة القول ، ولهذا قال الفقهاء في قاعدة كليَّة :
[ إشارة الأخرس المعهودة نطقه ] .
وعليها يُعوَّل في الحكم ، وإثبات الحقوق .
********
أما الحيوان ... فقد قالت العرب :
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ تحت العجاج وأخرى تَعلِك اللُجُما
********
أما الجماد ... فتقول العرب : [ صامت الشمس في كبد السماء ] .. وذلك إذا أمسكت عن السير ساعة الزوال .
********
والصوم في الشرع هو : إمساك مخصوص ، بصفة مخصوصة ، من شخص مخصوص ، في زمن مخصوص ، وبشروط مخصوصة .
********
فالإمساك المخصوص هو : الامتناع عن المفطرات الثلاث ، وهنَّ :
الأكل ، والشرب ، والرفث ـ وهو هنا الجماع ـ .(1/13)
والصفة المخصوصة هي : قصد القربة الى الله ، فمن أمتنع ، أو مُنع عمّا يفطِّر من غير قصد [ أي: نيّة ] ، فلا يعد هذا صوماً شرعيًا يؤجر عليه ، بل هو صوم لغوي فقط .
والشخص المخصوص هو : المسلم .
إذ العبادات مطلوبة منه ، وقبول الأعمال معلّق بالإيمان .
يقول تعالى :{ فمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } الإسراء / 9 .
ويقول تعالى : { من عمل سيئةً فلا يجزى إلاّ مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب } غافر / 40 .
أما الزمن المخصوص فهو : الإمساك من طلوع الفجر الثاني [ وهو الفجر الصادق ] ـ وسيأتي بيانه ـ ، إلى غروب الشمس .
أما الشروط المخصوصة فهي : الطهارة من الحيض والنفاس ، مع بلوغ الحُلُم..أي : القدرة على النكاح وذلك بالإنزال للرجل والحيض للمرأة ـ، والعقل ـ فلا تُقبل العبادة من مجنون ، أو غائبٍ عن الوعي ، وشبههما ـ .
فمن كان دون البلوغ صحَّ صومه ، وإن لم يجب عليه ، فخطابه [ خطاب تأليفٍ ] لا تكليف .
وينبغي ألا يُدخل في صومه جزءً من الليل ، لأن الله قد جعله غاية ، في قوله تعالى : { .. ثمَّ أتمُّوا الصيام الى الليل .. } البقرة / 187 .
والغاية إذا كانت من غير جنس ما جعلناها له غاية ، فلا تدخل فيه.وكذلك إذا أدخلنا الجزء الأول من الليل في الصيام ، فليس هو بأولى من الجزء الذي يليه ، وهكذا الى أن نستوعب الليل كلَّه ، فحينئذ نقع في [ صوم الوصال ] ، وهو حرام إلاّ لرسول الله( ، فتنبّه هدانا وإياك الى الصواب ، بمنِّه وفضله .
في حين أنّ الغاية إن كانت من جنس ما جعلنا له غاية ، أي : [ المغيّا ] ، فإنّها ـ أي الغاية ـ تدخل في المغيّا .
فقوله تعالى في آية الوضوء : { ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكُم الى المرافق..} المائدة / 6 .(1/14)
فإن المرافق تدخل في الغسل ، لأنها من جنس اليد ، فمن قيل له سر هذا الشارع الى نهايته ، فإنّه يقف عند أول مدينة ينتهي بها ، ولا يُطالب بالسير في داخلها ، لأنها من غير جنس الشارع ، ولكنه لا يُعذر لو توقف قبلها .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى : { إنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدِّقين والمتصدِّقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعدَّ الله لهم مغفرة وأجرأ عظيما } الأحزاب / 35 .
الصوم أنواع عدة ، وله أسماء متعددة ، فعلينا أن نعرف أنواعه ، ونبيِّن أسماءه ، وأحكامه .
فالصوم صومان : واجب ، وتطوع أو نفل ـ وهو المباح ـ .
والنفل : مطلق الزيادة .
يقول تعالى مخاطباً سيدنا محمداً ( : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يَبْعَثَك ربُك مقاماً محمودا } الإسراء / 79 .
ويقول تعالى ـ في معرض امتنانه على إبراهيم ( ـ :
{ ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلةً وكلاً جعلنا صالحين } الأنبياء/ 72 .
فإبراهيم سأل ربه ولداً ، فأعطاه الله ما سأل ، ثم زاده ، أي :
[ نَفَلَه .. نافلةً ] بيعقوب ولد الولد .
وصوم النفل أو التطوع : ما يصومه المرء من غير ما إلزام شرعي ، بل هو يُلزم نفسه بنفسه .
********
وصوم النافلة ينقلب واجباً بالشروع فيه ، فإذا أفسد المتطوع صومه ، أو فسد الصوم لذاته ، وجب قضاؤه .
********
أمّا الصوم الواجب ، فأنواع :
? أوله : صوم رمضان ، ويسمى صوم الفريضة ، وهو صوم الاسلام .
أي : الصوم المطلوب من المسلمين من غير تمييز ، وبشروطه التي لا يصح بدونها .
فمن شروطه : طهارة النساء من الحيض والنفاس ، والعقل ، والبلوغ ، فضلاً عن الاسلام ، وكذلك النيّة .(1/15)
? وثانيه : صوم القضاء ، وذلك لمن أفطر في رمضان بعذرٍ أو بغيره ، أو من فسد صومه في رمضان ، كالمرأة تحيض أو تلد ، وكذلك لمن فسد صومُ نفله ، أو أفسده هو. ففساده بالحيض والنفاس الطارئين ، وإفساده بالإفطار العمدي بعد الشروع ولو بعذر لا يمنع القضاء أبداً ، بل تأثيره في الكفارة فقط،إذ تجب بالإفساد العمدي فقط . ولا يشترط في وجوب القضاء ، وقوعه قبل مجيء رمضان القادم ، وإن كان ذلك أفضل ، فالعمر كله وقت للقضاء ، والتعجيل أفضل في كلِّ الأحوال ، إذ الموت خلال عامٍ غير بعيد.
? ثالثه : صوم النَذْر.
والنَذْر في لغة العرب هو : ... الوعد .
والنَذْر في لغة العرب أيضا هو : ما أوجبه المرء على نفسه ، فيقال نذر نفسه فداءً للحق ، إذا أوجب على نفسه أن يموت في سبيل الحق .
والنذر في الشرع هو : ما أوجبه المرء على نفسه متقرباً إلى الله ( .
يقول تعالى : { وما أنفقتم من نفقةٍ أو نَذَرْتُم من نَذْرٍ فإنّ الله يعلمه} البقرة/ 270 .
1. فما أوجبه المرء على نفسه مما لا يُعدُّ قربة .. كالفسق ، وأعمال السوء ، فإنّه لا يُعد نَذْراً.
2. وما كان واجباً في ذاته .. لا يُعد نًذْرا، لأنه إيجابٌ لما هو واجب عليه ، بحكم الشرع .
3. وما كان غير ممكن التنفيذ [ أي مستحيلاً ] .. لا ينعقد نَذْراً .
فكل الأنواع المتقدمة يكفِّر فيها المرء بكفارة يمين ، فالنذر يكون لله ( ، وليس لأحد سواه ، ولا يُطاع الله ( بعصيانه !! . فهذا هو الشرعي .
يقول تعالى :{..إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلِّم اليوم إنسياً } مريم/26.
وليكن معلوماً أنّ مسائل النذور تحمل على مسائل الأيمان ، عند تعذر الوفاء بالنذر .
والوفاء بالنَذر الصحيح واجبٌ .
يقول تعالى :{.. و ليُوفوا نذورهم و ليطَّوَّفوا بالبيت العتيق } الحج / 29 .
و جاء في صفة المؤمنين ، قوله تعالى :
{ يوفون بالنَذْر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيرا } الإنسان / 7 .
********(1/16)
والأولى والأحسن ألاّ ينذر الإنسان ، فالنَذْر مكروه ، لأنه :
1. إلزام للنفس من غير مُلزِم شرعي، وهذا تعسيرٌ ، ولا تكليف بالعسير.
2. وفيه نوعُ مساومةٍ مع الله ( ، والأولى أن يفعل المسلم كلَّ خير أولاً ، والله ( يستجيب دعاء المخلصين .
********
والنذر ـ صوماً أو غيره ـ قد يكون مطلقاً ، أو معلقاً .
فالمطلق ، كأن يقول : لله عليَّ أن أصوم الخميس القادم .
والمعلَّق ، كأن يقول : إن نجحت ، فللّه عليّ صيام ثلاثة أيام .
* رابعه : صوم الفدية .
والفدية والفداء في اللغة : هو ما يُقدّم من حال لاستخلاص آخر، مما هو فيه مطلقا .
والفدية في الشرع : ما يقدم من مال لاستخلاص العبادة من الفساد .
ومثاله في قوله تعالى :
{ وأتمّوا الحجَّ والعمرةَ لله فإن أُحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلِقُوا رؤوسكم حتى يبلغ الهديُ مَحِلَه فمن كان مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُك .. } البقرة / 196 .
? خامسه : صوم البدل عن دم التمتع .
يقول تعالى : {.. فإذا أَمِنْتُم فمن تمتَّع بالعمرةِ إلى الحَجِ فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثةِ أيامٍ في الحج وسبعةٍ إذا رَجَعْتُم تلك عشرةٌ كاملة ... } البقرة / 196 .
? سادسه : صيام البدل عن جزاء قتل الصيد لغير المُحْرِم في الحرم ، أو للمُحْرِم في الحرم أو غيره ، سواءٌ بسواء .
وحكمه هذا ورد في.. قوله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتُلُوا الصيد وأنتم حُرُم،ومن قتله منكم متعمداً فجزاؤه مثلُ ما قتل من النَعَم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هدياً بالغَ الكعبة أو كفارة طعام مسكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } المائدة / 95 .
? سابعه : صوم الكفّارات ، وهو ما يستغفر به الآثم ربَّه ، من :
صدقةٍ ، أو صومٍ ، أو نحرٍ .
وصوم الكفارات ، أنواع هي :
? أولاً - صوم اليمين المنعقدة .(1/17)
يقول تعالى : { لا يُؤاخِذُكُم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخِذُكُم بما عقَّدتم الأيمان فكفارتُهُ إطعامُ عشرةِ مساكينَ من أوسطِ ما تُطعمون أهليكُم أو كسوتُهُمْ أو تحريرُ رقبة فمن لم يجد فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلك كفارة أيْمانِكِم إذا حلفتم .. } المائدة / 89 .
? ثانياً - كفارة الإفطار عمداً في رمضان من غير عذر . وهي :
صوم شهرين متتابعين عن كل يوم إفطار مُتَعَمَد ، من غير عذرٍ .
? ثالثا- كفارة القتل الخطأ .
يقول تعالى : { وما كان لمؤمنٍ أنْ يقتل مؤمناً إلاّ خطأً ومن قَتَل مؤمناً خطأً فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ ودِيَةٌ مُسلَّمةٌ إلى أهلِهِ إلاّ أن يصّدّقوا فإن كان من قومٍ عدوٍ لكم وهو مؤمن فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ فَدِيةٌ مسلّمةٌ إلى أهلهِ وتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبةً من الله وكان الله عليماً حكيما..} المائدة / 96 .
? رابعا- كفّارة الظِهار.
يقول تعالى:{ والذين يُظاهرون منكم من نسائهم ثم يعودون لِما قالوا فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به والله بما تعلمون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا ..} المجادلة /3 و4 .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :{ يُريد الله ليُبيِّن لكم ويَهْدِيَكُمْ سُنَن الذين من قبْلِكُم ويتوبَ عليكم والله عليمٌ حكيم } النساء / 26 .
أراد الله تعالى ألاّ يكون لتقليد الأولين في عقائدهم الفاسدة ، وعباداتهم وعاداتهم الكاسدة ، مكانٌ في شريعتنا . وقد هدى الله الى الإيمان بالطرق العقلية ، لا التقليدية .
لقد أجاز لنا الإسلام من سنن الأمم التي سبقت الأمة المحمدية أُموراً ، وألغى منها أموراً أخرى ، وسكت عن القسم الثالث .
وهذا الموضوع علمٌ جليلٌ ، وأمرٌ جميلٌ ، ألا وهو دليل :
[ شرائع مَنْ قبلنا ] .(1/18)
والذي يهمنا هنا ، هو [ الصوم ] عند الأُمم السابقة ، وما جاز لنا منه ، وما لم يَجُزْ .
فقد ألغى [ أي: حرّم ] شرعنا ، أنواعاً من الصيام وردت لدى الأمم السابقة ، منها :
1.الصوم لغير الله : وهو محرم بلا أدنى شُبهةٍ أو شكٍ في ذلك ، إذ الصوم عبادة ، والعبادة في الاسلام تكون خالصة لله ( وحده .
يقول تعالى :{ وما أُمِروا إلاّ ليعبُدوا الله مخلصين له الدين حنفاء }البيِّنه/ 5.
وإخلاص الدين ، أي : الخضوع في العبادة لله ( وحده ، تكرر تأكيده في القرآن الكريم . فالصوم منويّاً : لبشرٍ ، أو حجرٍ ، أو نُصُبٍ ، أو لأجل يومٍ كالنوروز ، أو الغدير..فذلك كله حرام ، وهو عمل محبوط لا أجر فيه ، بل هو مجْلَبَةٌ للوِزر والإثم ، لأنه لغير الله ( ، ولم يأمر به رسولُهُ ( .
ومن جعله له ولغيره ، فهذا يحرم أيضاً ، لأنه لم يكن خالصا لله .
2. وحُرِّم صوم الوصال : فهو مواصلة الليل بالنهار في الصيام،وهذا صوم محرَّم على الناس.
لقوله تعالى :{.. ثم أتِمّوا الصيام الى الليل .. } البقرة / 187 .
وبيَّنَا في حلقة سابقة أن الليل وجزأه لا يدخلان في الصوم ، وشرحناه وافياً .
إنَّ أمر الله واجب التنفيذ ، فأمره بعدم الإستمرار واجبٌ ، وهو أمرٌ ولا ريب ، وأوامره تعالى واجبة الطاعة في كلِّ الأحوال . ومخالفته جلَّ وعلا ، حرام و لا ريب .
يقول تعالى :{ يُريد الله أن يُخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفا * يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالَكَم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةٍ عن تراضٍ منكم ولا تقتُلوا أنفسَكَم إنّ الله كان بكم رحيما ، ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نُصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيرا } النساء / 28 إلى 30.
فصوم الوصال : قتلٌ للنفس ، وتشديدٌ لا يناسب ضعف الإنسان... نعم كان رسول الله ( يواصل الصوم ، كما صام كل من أنبياء الله : عيسى ( ، وموسى ( ، وإيليّا ( ، أربعين يوماً وليلة وصالاّ .(1/19)
وكل هذا وذاك من خصوصياتهم عليهم السلام ، وما كان من خصوصيات الأنبياء ، فلا يكون تشريعاً للأمم .
3. وحُرِّم صوم يومي عيد الأضحى ، وعيد الفطر : لأنهما يوم عيد وفيه الفرحة والبهجة ، وتمامها بالأكل والشرب وغيرهما ، فتحريم ذلك منافٍ لمعنى العيد ، فحَرُم الامتناع عنها ، تحقيقاً لمفهوم العيد .
ولا يغيب عن الذهن أنّ عيد الفطر هو يومٌ واحد فقط ، فيجوز صوم ما عداه ، ولذلك نراهم يصومون الست من شوال من اليوم الثاني من شوال .
4. كما حَرُم كلُّ صوم فيه تشبهاً بالأمم الأخرى : كصوم جزء النهار، أو الصوم بالامتناع عن نوع أكل ، أو بالامتناع عن اللحوم فقط .. فكلُّ هذا لا يُعدُّ صوماً أصلاً ، كما يحرُم من جهة التشبُّه بغير المسلمين .
ويقول المصطفى ( : { من تشبَّه بقومٍ فهو منهم }
[ رواه أبو داود في كتاب اللباس - وانفرد به - / 3512 . ]
أي : يكون كافرا ، لارتكابه ما يؤدي الى الكفر، وهو حرام قطعاً ، إذ [ للوسيلة حكم المقصد ] ، وقس على هذا أشباهُهُ، فسيعطيك إجاباتٍ للكثير. 5. الصوم عن الكلام ، وهو المسمى بصوم [ زكريَّا ] ، أو صوم
[ الخرساني ] : فهو حرام ، إذ ليس الصوم عن الكلام من الصوم الشرعي في ديننا ، وهو تشبُّهٌ بغير المسلمين ولم يدلُّ الدليل على جوازه .
إذ العبادة لا بدَّ لها مِنْ دليلٍ للجواز ، وغيرها عكسها ، إذ الأصل في غيرها الجواز ... فتدَّبر .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ ولا تقفُ ما ليس لك به علمٌ إنّ السمع والبصر والفؤاد * كلُّ أولئك كان عنه مسوؤلا ولا تمشِ في الأرض مرحاً إنّك لن تَخْرِق الأرض ولن تبلُغَ الجبال طولا * كلُّ ذلك كان سيِّئُهُ عند ربِّك مكروها } الإسراء / 36 إلى 38.
الكراهة : هي وصف للفعل الذي يصدر من الإنسان ، مؤداها أنّه لو لم يفعل ذلك الفعل ، لكان أفضل .(1/20)
فالمكروه : فعل لا يؤجر المرء عليه ، ولو تركه لحاز أجراً ، إذا كان تركه هو بنيّة الامتثال ، أي : لا لعجزٍ ، أو خوفٍ ، وأشباههما .
********
والصيام المكروه أنواع :
? أوله : صوم يوم الشك ، وهو اليوم الذي لا يُعرف أمن شعبان هو، أم من رمضان؟ .. فيصومه المسلم على أنّه إن كان قد حلَّ رمضان فهو منه ، وإن لم يكن قد حلَّ ، فهو تطوع من شعبان !! .
فهذا [ ترديدٌ ] للنيّة ، أي : عدم الجزم بها ، والإسلام يريد الجزم ، والحزم ، والقطع ، والبتات ، والوضوح ... وفي كلِّ شيء ، فافهم .
يقول تعالى :
{..فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} آل عمران/159 .
أي : أنّ الاعتماد على الله لا يكون إلاّ جازماً ، وبعد اتخاذ السبب ، وهو التوكل . نعم.. إذا صادف يوم الشك صوماً يصومه المسلم [ كالاثنين ] و[ الخميس ] ، فلا بأس بذلك حينئذ .
عن عمار بن ياسر ، يقول المصطفى ( :
{ من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم } .
[ رواه الترمذي في كتاب الصوم / 632 وأورد في الباب عن أبي هريرة وأنس أقوالاً مقاربة . وعن حديث عمار قال هو حسن صحيح ، العمل على هذا عند : النسائي /2159 وأكثر أهل العلم من أصحاب الرسول ، ومن التابعين ، وأورد أسماءَهم .
وأورده أبو داود /1987 ، وابن ماجة / 1635 ، والدارمي / 1620 ] .
********
? ثانيه : صوم يوم الجمعة لوحده ، والكراهة لكونه : يوم عيد .
فمما اشتُهر أنّ : { الجمعة عيد المؤمنين ، وحج الفقراء والمساكين } .(1/21)
ويقول ( : { لا يصُم أحدكم الجمعة إلاّ أن يصوم قبله ، أو يصوم بعده } . [ باقي مسند أحمد / كتاب المكثرين / 7503 روى عن رسول الله قوله : { إ نّ يوم الجُمُعة يوم عيد ، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم ، إلاّ أن تصوموا قبله أو بعده ، وفي الترمذي / كتاب تفسير القرآن ، قال ابن عباس ( : إنّها نزلت يوم عيدٍ في يوم جُمُعة ، ويوم عرفة } ، وراجع : البخاري / كتاب الصوم/ 1849، ومسلم / كتاب الصيام / 1929 و1930 ، والترمذي/كتاب الصوم/674 ، وأبو داود / كتاب الصوم / 2067 ، وأحمد /مسند المكثرين / 7503 و8764 و9523 و10021 ] .
وهي : يوم اجتماع ، ولقاء ، وفرح ، وسرور . ولا يناسب كل ذلك الامتناع عن الطعام .
وهذا : تخفيف ، ورحمة من الله لعباده ، ولطف بهم .
يقول تعالى : { الله لطيف بعباده ... } الشورى / 19 .
********
? ثالثه : صوم يوم عرفة للحاج ، فإذا كان صوم عرفة سنة للناس ، فهو مكروه للحجاج ، فإنه : يوم انشغالهم ، وتعبهم ، ودعائهم ، وعبادتهم ، وتلبيتهم ، ومناداتهم ، ومناجاتهم . وكل هذا يحتاج الى قوة ، فنُهوا عن صومه لأجل هذا ، وهو سنة لغيرهم .
ويقول ( : { صيام يوم عرفة إنِّي أحتسب على الله أنْ يُكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده } .
[ راجع : الترمذي / الصوم / حديث حسن ، وقد استحب أهل العلم صيام يوم عرفة إلاّ بعرفة ، وابن ماجة / الصيام /1720 و1721 ، وعند أحمد : صيام عرفة يُكفِّر السنة التي تليها ، وصيام عاشوراء يُكفِّر سنة ..أحمد / باقي مسند الأنصار/ 1492 ] .
********
? ورابعه : صوم عاشوراء لوحده .
وعاشوراء : هو يوم العاشر من محرّم .
فحين قدم رسول الله ( إلى المدينة المنورة مهاجراً ، وجد اليهود يصومونه وحين سأل عن ذلك ، قالوا له :
[ إنَّه يومٌ أنجى الله فيه موسى من الغرق ] .
فقال عليه ( : { أنا أحق منهم بأخي موسى } ، أو كما قال .(1/22)
وقال عليه ( : { فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع } .
وذلك بعد أن صام العاشر في عامه ، وقُبِض ( قبل عاشوراء الذي بعده.
********
? خامسه : صوم أيام التشريق ، وهي أيام [ منى ] غير يوم العيد ، الذي هو يوم النحر ، أما الأيام التي تليه فهي ثلاثة ، وتسمَّى :
[ أيام التشريق ]..لأنهم كانوا يشرقون بها اللحم ويقدِّدونه ، أي : يجففونه ليأخذونه معهم إذا رجعوا من [ منى ] إلى أهليهم .
وقال ( : { أيام التشريق أيام : أكلٍ ، وشُربٍ } .
[ راجع : مسلم /الصيام /1926، وأبو داود / الصيام /1710 ، وفيه / في كتاب الصوم / 2065 برواية أخرى ] .
فإن فيها يشكر الحاج ربه على تمام حجِّه ، وإكمال نُسكه . وهي أيام اجتماع ، والتئام ، ففيها : الدعوات ، والزيارات ، وما تزال لحوم الأضاحي طريَّة ، فالأكل منها ، أولى من العزوف عنها .
********
? سادسه : صيام الدهر .
وهو : أن يصوم المرء يومياً ما دام حياً ، دون أن يكون له يوم يُفطر به .
وهذا : عزوف عن رحمة الله ( الذي خلق لنا الطيبات .
وهذه : رهبانية ، والإسلام نهى عن الرهبانية .
عن عبد الله ابن عمرو ( قال :
أُخبر الرسولُ ( أنِّي أقول : لأقومنَّ الليل ، ولأصومنَّ النهار، ماعشت .
فقال له الرسول ( :
{ إنّك لا تستطيع ذلك ، فصم وأفطر ، ونَم وقُم ، وصم من الشهر ثلاثة أيام ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر } .
وقال ( لعثمان بن مظعون ( :
{ يا عثمان أرغبت عن سنتي ؟
قال : لا والله يا رسول الله ، ولكنْ سنتك أطلب .
فقال له الرسول ( :
{ فإني أنام وأصلي ، وأصوم وأفطر ، وأنكح النساء ، فأتق الله ياعثمان ، فإن لبدنك عليك حقا ، إن لضيفك عليك حقا ، وإن لنفسك عليك حقا ، فصم وافطِر، وصلِّ ونَمْ } .
[ راجع : البخاري / كتاب الجُمُعة /1085، ومسلم / كتاب الصيام /1962و1966 ] .
********
? سابعه : إفراد يوم السبت بالصوم .
قال الرسول ( :
{(1/23)
لا تصوموا يوم السبت إلاّ فيما افترض عليكم ، وإن لم يجد أحدكم إلاّ لِحاءَ عنبة ، أو عود شجرةٍ فليمضُغْه } .
وهذا من باب مخالفة أهل الأديان الأخرى ، وإظهار خصوصية المسلم ودينه .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :{.. فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون } البقرة / 184 .
المندوب : هو الفعل الذي صفته الندب .
والندب في اللغة : من نَدَب إلى الأمر .. أي دعا إليه .
والندب في الشرع : هو ترجيح جانب الفعل على الترك ، بحيث يؤجر
فاعله ، ولا يؤاخذ تاركه ، ويسمى [ السنة ] ، والمستحب أدنى منه ، وهو يقابل [ المكروه ] ، كما يقابل [ الحرامُ ] [ الواجبَ ] .
وبين المجموعتين : [ المباح ] ، ويُسمى [ الحلال ] .
والصيام المندوب أنواع متعددة :
? أوله : ندب إتمام الصوم للمسافر، ولصاحب العذر القادر على الإتمام.
لقوله تعالى :{ .. وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون } .
والحقيقة : أن الندب صفة ( الإتمام ) وليس صفةً لذات الصوم، فذات الصوم واجب ، وإتمامه أفضل لمن استطاع من المعذورين : كالمسافر، والمريض ، والمُرضع ، وغيرهم .
********
? ثانيه : صوم الأيام البيض ، وهي الأيام التي يكتمل فيها القمر ، ويكون بدراً . وكماله في : ليالي الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر. وأيامها هي التي تلي كلاً منها .
يقول الرسول ( : { إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم : ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة } .
وعن ملحن القيسي قال : [ كان رسول الله ( يأمرنا أن نصوم البيض ... ].
[ راجع : النسائي / كتاب الصيام / 2305 ، و2379 ، و2380 ، و2388 ] .
********
? ثالثه : صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وهذا تعوِّض عن صوم الدهر.
فلو صام كل إنسان أياماً ثلاثة من كل ، شهر والحسنة بعشر أمثالها ، فكأنما صام ثلاثين ، وإذا تكرر هذا في كل شهر فكأنما صام الدهر.(1/24)
ولو صام أيام الليالي البيض ، فتكون اجتمعت المزيَّتان ، والتمّت الفضيلتان .
عن عبد الله ابن عمرو ( ، قال : قال لي النبي ( :
{ صم من الشهر ثلاثة أيام ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر } .[ مرَّ تخريجُه ] .
وقال الرسول ( : { صوم ثلاثة من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر } .
وقال ( : { أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهُنَّ حتى أموت : صوم ثلاثة أيامٍ من كلِّ شهر، وصلاة الضحى ، ونومٍ على وترٍ ] .
[ راجع : البخاري / الجمعة /1107، ومسلم / صلاة المسافر/1182 ، والنسائي/ في الصيام وقيام الليل /1659و2364 ، والترمذي / الصوم /691 والدارمي / الصلاة / 1418 و1681 ـ كلاهما بتقديم وتأخير ـ ] .
وقد نزل القرآن بتصديق ذلك ..
فقال تعالى :{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيِّئة فلا يُجزى إلاّ مثلها } المائدة / 160 .
********
? رابعه : صوم الاثنين والخميس .
سُئِل الرسول ( عن صوم يوم الاثنين والخميس ، فقال : { فيه ولدت ، وفيه أنزل عليّ } . [راجع : مسلم / الصيام / 1978 ] .
وسئل ( عن صيامها ، فقال : { إنَّ أعمال العباد تُعرض يوم الاثنين ويوم الخميس ، فأُحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم } .
[ وبروايات متقاربة ، راجع : النسائي/ الصيام /2318 ، وأبوداود / الصوم /2080 ، وأحمد / 20758 ] .
وعن عائشة ( : { أنَّ رسول الله كان يتحرى صيام الإثنين والخميس } .
[ راجع : النسائي / الصيام /2320 و2321 و2322 و2324 ، وفيه : أنّه كان يصوم الإثنين والخميس ] .
ولقد كان رسول الله ( يجمع بين عدَّة فضائل في صيام تطوعه ، فهو : 1. يصوم ثلاثة أيام في الشهر، ليَعْدِل ذلك الدهر.
2. ويجعل في صيامه الاثنين والخميس ، ليحوز فضلهما .
وعن عائشة الصدِّيقة رضي الله عنها وعن أبيها ، قالت :
{ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر: السبت ، والأحد . ومن الشهر الآخر : الثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس } .(1/25)
وعن بعض أزواج النبي ( قالت : { أنَّ رسول الله ( كان يصوم تسعاً من ذي الحجة ، ويوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كلِّ شهرٍ : أول إثنين من الشهر ، وخميسين } .
[النسائي / الصيام/ 2332 و2374 ، وأبو داود ـ باختلافٍ يسير ـ / الصوم/ 2281 ]
********
? خامسه : صوم يومٍ ، وفطر يومٍ وهذا صيام نبيِّ الله داود ( .
فعن عبد الله بن عمرو( قال.. قال لي الرسول ( :
{ أحبُّ الصيام الى الله عز وجل ، صيام داود عليه السلام ، كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً } . [ مرّ تخريجه ] .
********
? سادسه : صوم شوال .
وقال ( فيما رواه أبو أيوب الأنصاري ( عنه :
{ من صام رمضان ثم اتبعه ستاً من شوال ، فكأنما صام الدهر } .
[ راجع : مسلم / الصيام / 1984 ، وباختلافٍ يسير راجع : الترمذي / الصوم /690، وأبو داود / الصوم / 2078 ، وابن ماجة / الصوم / 1706 ، والدارمي / الصوم / 1689، وأحمد / 22454 ] .
فإنَّ الحسنة بعشر أمثالها ورمضان بعشرة شهور،والأيام الست بستين يوماً ، أي : بشهرين ، فكأنما هو قد صام العام كله ، وهكذا في كل عام .
********
? سابعه : صوم عرفة لغير الحاج .
قال المصطفى ( : { صيام يوم عرفة ، إني أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله ، والسنة التي بعده } .
قلت : وصومه لغير الحاج ـ وسيأتي ـ .
فقد ورد عن أبي هريرة ( أنَّ رسول الله ( :
{ نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة } .
[ أبو داود / الصوم / 2084 ، وباختلافٍ يسير : ابن ماجة / الصوم /1722 ، وأحمد / 9384 ] .
********
? ثامنه : صوم تاسوعاء مع عاشوراء .
وقد مرّ الكلام عنهما، وصومهما معاً مخالفةً لليهود .
? تاسعه : صوم الشابُّ الأعزب الذي به توقان ، وهو غير مستطيع .
يقول الرسول ( : { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فمن لم يستطِع فعليه بالصيام ، فإنه له وِجاء } .
[(1/26)
راجع : البخاري / النكاح / 4677 ، ومسلم / النكاح / 2485 و 2486، والنسائي / الصيام /2207 وابن ماجة /النكاح /1835، وأحمد / مسند المكثرين /3411 و 3819 و3830 و 3903 ، وباختلاف يسير: الترمذي / النكاح /1001 ، والنسائي / الصيام /2208 و2209 و2210 ، وأبو داود / النكاح /1750 ، والدارمي /النكاح / 2019 ] .
********
? عاشره : صوم الشكر لله .
فإذا أُعطي الإنسان نعمةً ، أو حقق الله له رغبةً ، أو نال أُمنيةً ، حُقَّ عليه الشكر باللسان ، وبالصلاة ، وبالصدقة .. وكذا بالصوم لله تطوعاً ، ولو من غير نَذرٍ .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى : { .. فمن شهد منكم الشهر فليصمه .. } البقرة /185.
هناك فرق بين شَهِد وشاهد .
فشاهد : بمعنى رأى وعاين . تقول : شاهدت اليوم شيئاً عجباً .
فالشاهد : من رأى شيئا .
والشاهد : من يُخبر بما رأى . أي : يقرَّ بالشهادة .
والشهادة : هي ما يخبر به الشاهد .
والشهادة : هي عالم المحسوسات .
يقول تعالى :{ عالم الغيب والشهادة .. } ـ الرعد/ 9 ، والمؤمنون / 92 .
********
وأمّا شَهِد : فهي بمعنى .. حضر .
نقول : شهد فلان الشهر ، أي : حضره ، وأدركه حياً .
ونقول : شهد فلان الجمعة ، أي : حضرها .
وتأتي [ شَهِد ] بمعانٍ أُخر . منها :
أداء الشهادة ... والحلف بالله . تقول : أشهد بالله .
إذن المعنى المقصود من الآية الكريمة ، هو :
إن من حضر الشهر - والألف واللام ترجع الى شهر رمضان ، لأنه مذكور قبل ذلك ـ فعليه صومه . فلا يقتصر الصيام على من رأى الهلال ، فإنّ الناس اليوم يطلقون لفظ [ الشهر ] على الهلال ، على اعتبار أنّه سببه ، وعلامة بدئه . ولكن هذا المعنى غير مقصود بالآية ، بل الشهر المقصود .. هو : شهر رمضان .(1/27)
والشهر مدته ... ما بين هلالين . ولو كان وجوب الصوم على من [ شاهد ] فقط ، لكان من غير المشروع ، ولا من الجائز تكليف الأعمى ، ولا الأعشى أو من ضَعُف بصره ، أو الذين لا يستطيعون رؤية الهلال ، بسبب : الغيم ، أو الغبار ، أو الدخان ... الخ .
ولو عوّلنا على هذا المعنى لوصلنا الى نتائج غير مقبولة ، منها :
عدم صيام البعض لكل الشهر بتمامه .
أو عدم صيام الأيام السابقة لقدرة المكلف على الرؤية .. وكلُّ هذا قام الإجماع ، على خلافه .
لكن .. ليس مجرد حضور الشهر يكفي لوحده ، لوجوب الصوم .
فقد أضافت السنة النبوية شروطاً يجب أن تتوفر مع شهود الشهر [ أي : حضوره ] ، فيجب :
1. أن يكون من [ شهد ] الشهر ... مكلّفا .
والمكلف هو : المسلم ، العاقل ، البالغ ، الصحيح ، الذي علم بالوجوب ، ولم يقم به ما يمنع صحة العبادة .
فغير المسلم - وإن شهد الشهر ـ لا يكلّف بالصوم .
والمجنون - وإن شهد الشهر - لا يكلف بالصوم .
والصبي - وإن شهد الشهر- لا يكلف بالصوم تكليفاً ، بل يُطلب منه تأليفا وتعويداً ، إن استطاع .
والمسافر - لا يُلزم بالصوم ترخيصاً له ، ودفعاً للعُسر والمشقة عنه .
والمريض - يحق له الإفطار ، ولا يلزم بالصوم ، إذا كان الفطر يُساعده في الشفاء ، أو يُخفف عنه تباريح المرض .
والمسلم - في بلد لا يستطيع العلم فيه بتكاليف الإسلام ، فلا يُلزم هذا المسلم بالصوم ، لجهله بالأحكام .
والحائض ، والنُفساء ، فإنهما لا تصومان ، وإن شهد كل منهما الشهر، لوجود المنافي ، وهما : الحيض ، والنفاس ، المانعان من صحة الصوم .
والحمد لله ربِّ العالمين .
قال ( : { إنَّما الأعمال بالنيات ، و إنَّما لكل امرئ ما نوى } .
ونوى : بمعنى قَصَدَ .
والنية : هي القصد . نقول .. نواك الله بخير ، أي : قصدك .
والنية : في الشرع ، هي قصد الشيء بفعله .
والعزم : هو قصد الشيء وعدم التراخي عنه .(1/28)
يقول تعالى : { .. فإذا عزمت فتوكل على الله .. } آل عمران / 159 .
أي : أداء الفعل بعد اتخاذ الأسباب الموصلة إليه ، مستعيناً بالله ، فليست الاستعانة بالله تعني [ الدعة ] ، أو انتظار الأحداث ، بل لا بدَّ من :
[ صنع الأحداث ] ، بنيَّةٍ خالصةٍ لله ، واستعانة به مقصودة .
أمّا الهمُّ فهو : عقد القلب على فعل شيء قبل أن ُيفعل .
يقول تعالى :
{ ولقد همَّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه ... } يوسف / 24 .
********
وشرِّعت النية لأجل :
1. التمييز بين العادة والعبادة . والعادة لا أجر فيها ، وفي العبادة الأجر. فمن امتنع عن : الطعام ، والشراب ، والبُعال ، من الفجر الصادق الى غروب الشمس ، ولم ينوِ طاعةً لله عزّ وجلّ في ذلك ، ففعله ليس إلاّ أمراً عادياً لا عبادياً .
ومن اغتسل من جنابة او لنظافة ، أو لتجمُّلٍ ، ولم يقصد بفعله الامتثال لأمر الله ورسوله ، كان فعلاً حسناً في ذاته لكنه غير جالب للأجر .
والعكس في كل هذا صحيح .. فمن نوى عند قيامه بالفعل العادي القُربة لله ، والطاعة للرسول ، وامتثالاً لأحكام الدين ، كان كل فعل يومي هو عبادة في ذاته ، وهذا يفسِّر لنا :
قوله تعالى :{ وما خلقت الجنَّ والإنس إلاّ ليعبدون ... } الذاريات / 56 .
فليس المقصود بهذا عبادتهم بالتلبس بالصوم والصلاة وغيرها في كل لحظة ، بل بنيّة القربة في كل فعل عادي ، حيث تقلبه النية عبادياً . وهذا من رحمة الله بهذه الأمة ، ومن استمرارية الرحمة التي كانت مصاحبة للرسول ( في حياته .
ويقول القرآن الكريم : { وما أرسلناك إلآّ رحمة للعالمين } الأنبياء / 107 .
فالعَالَمُون ، جناً وإنساً ، متفرقون في الأصقاع ، موزعون على الأزمان ، فكيف تعمُّ رحمةُ نبيِّنا هؤلاء ؟ .
فيما ذكرناه ، فهمٌ لبعض تلك الرحمة المُهداة .
ومن تلك الرحمة هو ما يتعلق بأمر النيّة .(1/29)
يقول رسول الله ( : {.. فمن همَّ بحسنة فلم يعملها ، كتبها الله عنده حسنة كاملة . وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات ، الى سبعمائة ضعف ، الى أضعاف كثيرة . وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة . وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدة } .
[ راجع : البخاري / كتاب الرقاق / 6010 ، ومسلم / كتاب الإيمان /187 ، وأحمد / مسند بني هاشم /1897 ، والدارمي / كتاب الرقاق / 2667 ] .
فانظر رحمة الله ( .. فالهمُّ بالحسنة يكتب حسنة ، لأن النية [ فعل ] يؤجر المرء عليه ، وبعد التنفيذ تتصاعد الأجور . ومن همَّ بالسيئة فلا شئ عليه رحمة من الله لعباده ، وهي من أوجه الرحمة التي حباها الله لرسوله .
فإذا عَدَل المر عن السوء ، كتب له بذلك العدول حسنة ، لأن العدول عن نية فعل الشيء ، هو [ فعلٌ ] ، ولما كان هذا الفعل حسناً ، فإنَّه يحوز عنه أجرا !! ، فانظر أثر النية في كسب الأجور ، ونوال المراتب ، والاغتراف من رحمة الله . فقد يسافر المرء لأجل النزهة ، فلو قال إنَّ الله أمرني على لسان رسوله ، إذ يقول :
{ روحوا القلوب ساعة بعد ساعة } ، فإنه يُكتب له في سفره أجر .
ويقضي المرء حاجته من زوجته ، فلو نوى أن يَعصِم بهذا نفسه من الزنا ، كُتب له في هذا أجر. وكذا..طلب الرزق ، وطلب العلم ، والتزاور ، وحسن الملبس ، وحسن الكلام ، وحسن المعاشرة ، وكل أمر دنيوي يومي عادي ، قد يفعله الناس للمجاملة ، أو ما يُسمى بآداب اللياقة ، فإذا فعله المسلم بنيّة الامتثال لله ولرسوله ، و يفعله غيره من غير هذه النيّة ، فالمسلم مأجور ، وغيره محروم .
2. كما شرِّعت النيَّة للتمييز بين العبادات ذاتها ، فالمرء قد يصوم ممتنعا عن الطعام و الشراب والبُعال ، لكن قد ينوي صوماً واجباً ، أو ينويه تطوعاً ، أو شكرا ، أو غير ذلك .
فالفعل واحد ، وتتنوع الصفة ، والنية هي المميزة بين الأفعال المتشابهة .(1/30)
يقول الله تعالى : { الحج أشهرٌ معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ..} البقرة / 197 .
أي : من دخل في أفعال الحج بنيَّة ، فيترتب عليه : عدم الرفث ، وعدم الفسق ، وعدم الجدال .
3. وبالنية يتميز ما يقع من المرء نفسه عن نفسه ، وما يقع من نفسه عن غيره ، توكيلاً ، أو تطوُّعًا يهديه لغيره . فالكل يحج .. لكن هذا يحج عن نفسه ، والآخر وكيلاً عن غيره ، والمفرِّق النية .
وهذا يقرأ القران ليحوز أجراً لذات نفسه ، والآخر يقرؤه فيُهدي أجره لأبيه - حياً أو ميتاً - ، أو يهدي القراءة لأخيه الشهيد ، أو لغيرهما.. وهكذا ، والمفرِّق النية .
والآخر يعلِّم الناس ويُكلِّمهم بالدين ، إمّا : للمال ، أو للشهرة ، أو لغرض دنيوي . في حين يعلمهم الآخر كسبا للأجر وامتثالا للرب ، والمفرِّق النية .
فخذ من هذا سبيلاّ لكل الأفعال ... تصل إلى المُبتغى والمنال ، بإذن الملك المتعال .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى : { وما تفرق الذين أُوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيِّنة * وما أُمِروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويُقيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة وذلك دين القيِّمة } البينة / 4 إلى 5 .
ينوي المرء أن يكون هذا الفعل عبادياً ، فيكون كذلك بهذه النية ـ وهو أمرٌ فصلناه قبلاّ ـ . لكن قد يأتي بالفعل العبادي المنوي ، ولأسباب متعددة ، في مكان ، أو في زمان ، أو بحضور أناس ، أو يؤديه على هيئة مخصوصة .
ولكن لو فعل هذه العبادة لوحده ، لأداها على غير تلك الأحوال والهيئات!!.
إذن هو حينئذ لم [ يُخلص ] بعبادته لتكون لله وحده !! . اذ لو فعلها لله وحده لكانت بشكل آخر .
فالإخلاص : كون العبادة لله ( وحده ، مع عدم مراعاة أيِّ اعتبار غيره .
قال الفُضيل بن عياض :
[ ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما ] .(1/31)
والشرك هنا هو: الشرك الأصغر ، وهو الرياء ، حيث يُشرك المرء في عبادته غير الله تعالى !! .
فعبادة المخلصين لله ثلاثة أنواع :
? الأول : أن يفعل عبادته خوفا من الله تعالى . وهذه عبادة العبيد .
? الثاني : أن يفعل عبادته لطلب الجنة والثواب...وهذه عبادة التجار .
? الثالث : أن يفعل عبادته حياءً من الله ، وتأديةً لحق العبودية ، وتأديةً للشكر، وهو مع كلِّ هذا يرى نفسه مقصِّراً ويكون مع ذلك قلبه خائفاً لأنه لا يدري أيقبل عمله أم لا ؟ ... وهذه عبادة الأحرار .
وإليها أشار رسول الله ( حينما قالت له عائشة ( ـ وقد تورمت قدماه الشريفتان من قيام الليل ـ قالت : تتكلف هذا ، وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
قال ( : { .. أفلا أكون عبداً شكوراً } .
[ راجع : البخاري/ 1062 , مسلم/ 5045 ، والترمذي / كتاب الصلاة / 377 ] .
وقد يسأل سائل : هل الإخلاص في العبادة ، الأفضل فيها أن تكون مع الخوف ، أو مع الرجاء ؟!
يقول الإمام الغزّالي : [ العبادة مع الرجاء أفضل ، لان الرجاء يورث المحبة ، والخوف يورث القنوط ] ، فليَتأمل هذا الذين لا يُسنون الظن بالله .
ولكن الله ( مدح الراجين الخائفين في آن واحد ...
يقول تعالى : { تتجافى جُنُوبُهم عن المضاجع يدعون ربَّهم خوفاً وطمعاً} السجدة/16 .
فذكر الله الخوف والطمع مجتمعين ، وهو مما ورد في القران كثيراً ، ونكتفي بما ذكرنا .
********
ومما ينافي إخلاص العبادة لله : العُجُب .. و .. الكِبْر .
فمن أُعجب بعمله حَبِط عملُه . ومن استكبر حَبِط عمله .
لقد امتدح القرآن العظيم غير المستكبرين في عبادتهم ، بقوله :
{ ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابةٍ والملائكةُ وهم لايستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون }النحل/49-50.
لقد كانت عداوة اليهود و ما تزال شديدة للمسلمين ، وأقرب أهل الكتاب مودةً للذين آمنوا هم النصارى ، وتعليل قربهم هو ما ورد في ...(1/32)
قول الله تعالى :
{ لتجِدَنَّ أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا ولتجدنَّ أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } المائدة / 82 .
فالعُجْب والكِبْر .. في العبادة أمران يجعلان العبادة لغير الله .
********
أمّا حالة العبادة لطلب الدنيا والآخرة معاً ، فهذا قد ذهب بعض أهل العلم الى أنّه مُحبِطٌ للعمل . وبعضهم فصَّل فيه .
والأصل في قولهم يُحبط العمل ، هو : فقدان الإخلاص .
نعم أجاز الله بالنص القرآني أن يكون الحج للفريضة وللنفع الدنيوي ... بقوله تعالى :{ وأذِن في الناس بالحج يأتوك رِجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ..} الحج / 28 .
فكانت الاستجابة لنداء سيدنا ابراهيم في الذهاب الى الحج ، لأجل الأمرين معاً : شهود المنفعة ، وذكر اسم الله في الأيام المعلومات . فهذا مما أجازه الله تعالى بنص القرآن ، فلا ينافي الإخلاص .
أما الصوم .. فلابد فيه من الإخلاص أيضاً ، ويرد عليه الإحباط ، وإن لم يَدْخُلْه الرياء .
فمن صام لله ... ولأجل الصحة ، لم يخلص النية لله .
ومن صام لله ... ولأجل تعويد نفسه على الصعوبات ، لم يخلص النية لله . وكذا كلُّ ما يُشبه هذا .
فمثل هذا لا يستطيع الرياء ، ولكنه يستطيع عدم الإخلاص ، والصوم المختلط الذي جعله المكلف لله ولغيره ... قد يأثم على عدم الإخلاص ، وإن صح صيامه ، بحيث لا يُطالب بالإعادة ولا بالقضاء.
ومن أخلص النية لله ... فإنّ الأمور الأخرى تكون نتائج لازمة لذلك الصوم ، ويصح صومه ، ويثبت أجره ، ولم يكدره شئ . وقد حاز ما أراد .
فلاحظ هذا أخي المسلم ، واخلص نيتك لله ، ودع النتائج الأخرى ، وإن لم تنوِ تحصيلها بصومك ، فإنها سوف تأتيك هي ، ظاهرةً ، واضحةً ، مع الأجر الجزيل غير المشوب بشكٍ أو ريبة ... إن شاء الله ( .(1/33)
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى:
{ .. وليَبتَليَ الله ما في صُدوُرَكم وليُمحِّصَ ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور } آل عمران / 154 .
ويقول تعالى :
{ ولنَبلُوكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونبلُوَا أخباركم * إن الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروك شيئا وسيحبط أعمالهم * يا أيُّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تُبطلوا أعمالكم } محمد / 31 إلى 33 .
قسّم العلماء التكاليف تقسيماتٍِ متعددةً ، بالنظر إلى زوايا مختلفة ، فهم قسموها إلى :
تكاليف عينية و تكاليف كفائية .
وتكاليف مؤقتة و تكاليف مطلقة .
وتكاليف بدنية و تكاليف مالية .
وتكاليف تجمع بين المالية والبدنيّة .
فالصوم هو : تكليف عبادي .. وعيني .. ومؤقت .. وبدني .
أمّا كونه بدنياً : فلأنه مفروض على البدن ، لا على المال كما في الزكاة ، أو صدقة النافلة وغيرهما . فالصلاة عبادة بدنية .. والوضوء عبادة بدنية .. والنية عبادة بدنية . والصوم كذلك . في حين إنّ الحج عبادة اجتمع فيها المال والبدن .
فالعبادات المالية الصرفة : جاز فيها التوكيل والإنابة ، لأن الفريضة في المال ، وإن كان الخطاب لإخراج المال الى الفقير ، قد وجهه الله الى صاحب المال نفسه، فالمطلوب منه لا يتعلق بذات بدنه ، ليقوم هو به دون غيره . فتجوزـ حينئذ ـ النية من غير المزكي أو المتصدق . والنية تحدِّد إذا كان الدفع عن : نفسه ، أو عن فلان ، أو عن فلان ... الخ .
وأُلحقَ بهذا الحج ، حيث غَلَّب الشرع جانب المال في حالة عجز البدن ، فإن لم يكن عاجزاً ، وتوازن الاثنان ، لم تجز الإنابة .(1/34)
كذلك جاز القيام بالعبادة المالية الصرفة ، أو المشتركة من المال والبدن ، من غير صاحبها ولو بعد الموت ، لنفس الاعتبارات التي ذكرناها ، والدفع يكون من التركة لإيصال حقوق الله من: زكاةٍ ، وكفاراتٍ ، وفديةٍ ، وغيرها، فضلاً عن حقوق الناس من ديون ، وتعويضات وما إليهما .
وفي الحج .. يجوز الحج عن المتوفى من تركته إذا أوصى ، تغليباً للمال على البدن ، لان البدن مفقود ، فيحج عنه الحي ممن يُنيبه الورثة عنه ـ بالشروط الشرعية لذلك ـ . أما الصوم و الصلاة .. فلا يجوز قضاؤهما من أيِّ فردٍ كان . نعم يتطوع عنه قريبه أو الغير، ناوياً القضاء ، لكن هذا لا يُبريء ذمته ، لما ذكرنا . وفي كلِّ الأحوال أمره مردود الى الله ، لكن لا تنفذ وصاياه بالصلاة عنه مقابل مالٍ يُستقطع من التركة .
فالله ( الذي أعطى الانسان هذا الجسد الذي أسكنه الروح ، فأضحى في أبهى حُلّةٍ وحالة ، لا يرضى أن يكون الغني ذا امتياز في عبادة البدن ، بل العبادة البدنيَّة بحقِّه أوجب ، لزيادة الإنعام منه تعالى عليه بالمال .
يقول تعالى :{ لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم } التين/ 4 .
فلكل نعمة زكاة ، ومقابل كل إكرام واجب .
فأراد الله لهذا الانسان..الصحيح ، القوي ، المتكبِر، المتعالي ، الثري ، الغني ، أو الفقير الصحيح ... كلُّ أولئك أراد لهم الله ( في الدنيا أن يمرِّغوا أنوفهم بالأرض، تذللاً لرب العزَّة، واعترافاً بقوة [ القويِّ ] ... ألا وهو الله ربُّ الخلائق كلها ، ومانح إياها القوة ومعطيها. كذلك يبلوا الله الانسان في حال عزِّه ، وقوته ، وكماله ، واكتماله .. فيطلب منه هذه العبادات من : صلاة ، وصيام ، وجهاد ، وتقديم المعونات البدنية لمحتاجها .
وكل هذا لا تجوز النيابة فيه ، ولا يجوز فيه البدل المالي ، ولا يجوز فيه القيام به من الغير نيابة عنه ، لا في حياته ، ولا بعد مماته ، لا تطوعاً ، ولا وصيةً ، ولا استئجاراً .(1/35)
نعم ... يجوز أن يصوم إنسانٌ ، أو يُصلي ويُهدي ثواب فعله للمُتوفى ، أو للحي .. لكن ذلك لا يُسقط عن المتوفى الفريضة العينية البدنية ، لأنها افترضت عليه ، ولا تعفيه من المساءلة الأخروية .
فمن أعطى للناس حق الإيصاء بالصلاة بالأجرة عنهم ، أو الصوم بالأجرة بعد الموت ، أو في الحياة ، فقد خالف حكمة الله من هذه العبادات .لأن الله أراد التلبُّس بالفعل من ذات الشخص ، لاختبار خضوعه ، ورضوخه ، وقبوله ، ورضاه ، وعدم امتعاضه ، رغم غناه وثروته ، وقوته .
فلا نجمع للغني فضيلتي : الغنى ، وإسقاط الفرائض !!! .
ولا نجمع على الفقير: فقره ، والعبادة بالبدن !!! .
بل الغنيِّ أولى بأداء تلك العبادات ـ كما بيّنّا قبل قليل ـ .
ثم أنَّ الذي تنقطع آماله من الحياة ، فيوصي بصرف مبلغ الصوم ، أو الصلاة ، عنه بعد وفاته ، فذلك دلالة لؤمه ، إذ لم تَطِب نفسُه بشئ في حياته ، ولم يفعل عبادته بنفسه ، فذلك مضيِّعٌ لحكمة الله من العبادات البدنية.
فإحذر مثل هذا ، ولا تتعامل به ، هدانا الله ( وإيَّاك إلى مهيع الرشاد .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ ... وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام الى الليل ... } البقرة / 187 .
دلّت الآية الكريمة على أن الصوم موعده نهار رمضان ، ما بين الفجر الى الليل . وعلى هذا عمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، من لدن رسول الله ( إلى يومنا هذا ، وعليه دلّت السنة النبوية .
وقد فصّلنا القول في معنى الليل في حلقة سابقة ، وعلينا أن نقف على معنى الفجر .
فالفجر في لغة العرب : الشق أو الفتح .
يقول تعالى :
{ وقالوا لن نؤمن لك حتى تَفْجُر لنا من الأرض يَنبُوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعِنَب * فَتُفَجِّر الأنهار خلالها تفجيرا} . الإسراء / 90 إلى 91 .
ويقول تعالى : { .. وفجَّرنا خلالهما نَهَرا } الكهف / 32 .(1/36)
ويقول أيضاً : { ... فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ... } البقرة / 60 .
وهذا وغيره في القران الكريم ، كلُّه يدل على أنّ الأرض تتشقق ، فيخرج منها الماء ، أو تجري فيها الأنهار . فكأنما الفجر مخصوص بشق معين دوماً ، وذلك في كل ما له علاقة بالماء عند ذكر مشتقاته المتعددة . وهذا عينه هو استعمال القرآن الكريم .
أمّا ذكر الفجر ذاتِه في القرآن الكريم - دون مشتقاته - ، فقد استعمل في شق معيَّنٍ دون غيره ، ولا علاقة له بالماء .. بل النور!! .
إذ استعمله في : انصداعِ ، وانشقاقِ ظلمة الليل عن نور الصبح ، وضوئه ، ولهذا سُميَّ : الفجر ... [ بالصديع ] ، و هذا الذي قلناه نجده في قوله تعالى : {.. والفجرِ * وليالٍ عشرٍ * والشفع والوتر..} الفجر / 1 إلى 3 .
وقال الله تعالى عن ليلة القدر : { سلامٌ هي حتى مطلع الفجر } القدر / 5 .
وقال تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل وقرآن الفجر إنَّ قرآن الفجر كان مشهودا...} الإسراء / 78 .
وهكذا استعمل القرآن الكريم كلمة الفجر دوماً ، في ذلك المعنى وهو الإنصداع ، والإنشقاق .
********
إنَّ الفجر فجران :
فجرٌ أول .. ويُسمى الفجر الكاذب .
وفجرٌ ثانٍ .. ويُسمى الفجر الصادق .
********
والفجر الأول هو : الفجر المستطيل . أي الذي يظهر في الأفق من جهة الشرق طولا ، ويظهر بعد ظلمة الليل مباشرة ، و يمتد طولاً في الأفق ، من جهة الشمس ، متصاعداً الى الأعلى . وهذا لا يبقى إلإ قليلاً ، ثم لا يلبث أن يختفي ، فهو[ انصداع ] للظلمة كاذب ، و انشقاق لها عن نور الصبح غير الصحيح ، و لذلك لا تتعلق به الأحكام .
فلا يُمنع الصائم مما يباح له ، وحتى الفجر الصادق .
********(1/37)
أمَّا الفجر الصادق فهو : الفجر الثاني ، وهو الفجر[ المستطير ] أي الذي يتفرق في الأفق ، و يمتدُّ من جهة الشرق عُرضاً ، فتراه حين يبدو وكأنه خيط رفيع أبيض قد وضع أفقياً مع الأرض ، ووراءه نور الصباح يزداد ، و أمامه خيط الظلمة التي تليه بجحافلها المتقهقرة ، وهذا يسميه العسكريون : [ بالضياء الأول ] .
وعن هذين الفجرين، يروى ابن عمر ( فيقول :
كان للنبي مؤذنان : بلال ، وأبن أم مكتوم الأعمى .. فقال رسول الله ( :
{ إنَّ بلالاً يؤذن بليلٍ فكلوا واشربوا حتى يؤذِن ابن أم مكتوم } .
قال - أي ابن عمر- : ولم يكن بينهما إلاَّ أن ينزل هذا ، و يرقى هذا!! .
[ راجع : البخاري / كتاب الأذان / 587 ، ومسلم / كتاب الصيام /1829 ، والنسائي/ كتاب الأذان / 635 ، وأحمد / مسند الأنصار/23039 . وفيها اختلافات يسيرة ] .
أمَّا حينما جعل عَدِيُّ بنُ حاتِم الطائي ( عقالين تحت وسادته.. أحدهما أبيض ، و الآخر أسود ، بعد نزول ... قوله تعالى :
{ حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } .
فقد قال عَدِيّ لرسول الله ( : { إنّي أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالاً أبيض و عقالاً أسود ، أعرف بهما الليل من النهار } .
فقال له رسول الله ( : { إنَّ وسادتك لعريض ، إنما هو سواد الليل ، وبياض النهار } .
[ راجع : البخاري / كتاب الصوم ، وفي البخاري بألفاظٍ أخرى ـ /1783، والبخاري / في التفسير /4149 و4150 ، ومسلم / الصيام /1824 ] .
ولهذا قال المصطفى ( :
{ لا يغُرَنَّكم من سُحُوركم أذان بلال ، ولا بياض الأفق المستطيل هذا ، حتى يستطير هكذا } .
وفي رواية : { لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، و لكن الفجر المستطير في الأفق } .
[(1/38)
راجع : الترمذي / الصوم/640 ، ومسلم- باختلافات يسيرة - / الصيام /1832 و1834 ، وأبو داود / الصوم / 1999، والنسائي / الصوم / 2042 ، وأحمد / أول مسند البصريين / 19221 و19238 و19290 - وبألفاظٍ متقاربة - ] .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أُخَر .. } البقرة / 183 إلى 184 .
خفف الشيْ : إذا قلّل ثِقَله .
وخفّ الميزان : إذا شال ، وارتفع .
وخفَّ المطر : إذا نقص .
والتخفيف : التسهيل في تَلَفُظ الهمزة ، وذلك بسقوطها، أو إبدالها بحرف مدٍّ.
وكلُّ الذي تقدَّم هو في استعمال اللغة ..
********
وفي اصطلاح الشرع : هو نفس المعنى اللغوي .
والتخفيف عادة ، يكون بإباحة المحرّم ، أو تقليل قيوده ، بعد أن كانت كثيرة ، وكلُّ ذلك قد يكون كلاً أو جزءا ، فالتخفيف أنواع عدة :
النوع الأول : التخفيف ما بين الشرائع ، وهذه هي الرخصة المجازية .. فشرائع الأنبياء متغايرة ، يقول تعالى :
{.. لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً..} المائدة /48 .
فشريعة نبينا محمد ( خاتمةً للشرائع ، ناسخةً لكثير مما جاء قبلها ، ونسخت هي بعض ما جاء فيها أولاً ، ولا تنسخها شريعة أخرى .
و نسخُ شريعةِ محمدٍ ( لما قبلها ، هو لأجل التخفيف .
يقول تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلاّ وُسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حَمَلْتَه على الذين مِنْ قبْلِنا ... } البقرة / 286 .
فالله ( أخبر أنّه لا يكلف النفس إلاّ ما تقدر. وعلّمنا أن نوجه دعواتنا ليُخفف عنّا الآصار .. أي : المشاقُّ التي كانت على الامم السابقة . وهذا ما جاء به نبينا ( ، ليرفع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة ، عن هذه الأمّة المرحومة .(1/39)
يقول تعالى : { .. قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتَّبعون الرسول النبيَّ الأميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ... } الأعراف / 156 إلى 157 .
ويقول تعالى :{ يُريد الله ليُبيّن لكم ويَهدِيَكُم سُنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليكم حكيم * والله يُريد أن يتوب عليكم ويُريد الذين يتَّبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً * يُريد الله أن يُخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفا } النساء / 26 إلى 28 .
********
النوع الثاني : التخفيف الحقيقي في نطاق الشريعة الواحدة . وهذا له صور وأوجه :
? الوجه الأول : نسخ بعض الاحكام ضمن شريعتنا تخفيفاً على المؤمنين .
يقول تعالى :{ يا أيها النبيُّ حرِّض المؤمنين على القتال إن يكُنْ منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قومٌ لا يفقهون * الآن خفف عنكم وعلم أنّ فيكم ضَعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكُن منكم ألفٌ يَغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } الأنفال / 65 - 66 .
? الوجه الثاني : هو الترخيص الذي نحن بصدده . فالترخيص بعض أنواع التخفيف ، والترخيص يكون على شكلين :
? الشكل الأول : تغيُّر الحكم مع بقاء وصف الفعل بالحرمة ، فيُثاب المرء بالالتزام بهذه الحرمة ، وإن ترخّص . جاز له ذلك .
ومثاله : إفطار رمضان كُرهاً بفعل من الغير . أو طوعاً لمرضٍ ، أو سفرٍ.
وكذا إجراء كلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان بإكراه من الغير .
وكذا إتلاف مال الغير بغير إذنه ، في حالة الإكراه أو المخمصة .
? الشكل الثاني : تغيُّر الحكم من الحرمة الى الحلِّ ، مع تغيُّر وصف الفعل .(1/40)
مثاله : شرب الخمرة ، و أكل الميتة ، في حالة الإكراه ، والمخمصة ، فيصبحان حلالاً بحق المشرِف على الهلاك . مع بقاء الحرمة بحق الغير .
و لو امتنع الانسان عن ذلك يؤاخذ شرعاً .
فإذا علمنا موقع [ رخصة الإفطار ] في رمضان ، أي : حين يُصبح الإفطار حلالاً فيه ، بسبب الترخيص الذي هو من أنواع التخفيف . فإننا سنفصل في المصطلح التالي [ الرخص ] و قواعدها .
والحمد لله رب العالمين.
يقول تعالى :
{ وإذا ضربتُم في الأرض فليس عليكم جُناحٌ أن تقصُرُوا من الصلاة ، إن خفتم أن يَفْتِنَكم الذين كفروا إنّ الكافرين كانوا لكم عدواً مبينا }النساء / 101.
ورَخَصَ : يسَّرَ ، و سهَّل .
ورخَّص : زاد في التيسير .
ورخَّص : رَفْعَ التشديد ، و التوسعة ، و اليسر ، و السهولة .
********
وفي الشرع : وهي اسمٌ لِما شُرِّع استثناءً للعوارض ، وإذا ذهب العذر عاد الحكم ، فاستبيح لعذرٍ مع قيام المحرِّم . مع بقائه في حق جميع الناس .
إنَّ الأحكام تُشرَّع للحالة الاعتيادية الدائمية ، لكن إذا قام عارض ، وهو أمر غير دائم فتقوم الحاجة الى التخفيف ، وهذا النوع من التخفيف ، هو : [ الترخيص ] . وقد علمنا سابقاً ، أن [ الترخيص ] بعض التخفيف .
والترخيص في الشرع متعلق [ برفع الحرج ] ، و[ بجلب التيسير ] ، والذي دل عليه من الشرع نصوص كثيرة ، منها :
قوله تعالى :{.. يُريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر ..}البقرة /185.
وهذا في أحكام الصوم خاصّة .
ويقول تعالى :{ ... وما جعل عليكم في الدين من حرج ... } الحج / 78 .
ويقول تعالى :{ فإنّ مع العسر يسرا،إنّ مع العسر يسرا } الإنشراح / 5 و 6.
وعن مجاهد ( : { ... ولن يغلب عسرٌ يسرين ... } .
[ راجع : البخاري/ كتاب تفسير القرآن ] .
فالقاعدة في العربية : أن النكرة إذا أعيدت كانت غير الأولى .
والمعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى .(1/41)
و لهذا كانت الآيتان تدلان على عسرٍ واحدٍ لأنه ورد معرفةً ، وعلى يسرين ، لأنه ورد نكرةً .
فجعل الله مع [ العسر ] الواحد تيسرين . وهذا من فضل الله ( على عباده .
و يقول تعالى :{ لا يكلف الله نفساً إلاّ وُسعها ... } البقرة /286 .
و يقول المصطفى ( :
{ يسرّوا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا } .
[ راجع : البخاري / كتاب العلم / 67 ، وفي : البخاري بألفاظٍ متقاربة / الجهاد /3262 وفي البخاري / الأدب / 5660 ، ومسلم/3264 ، وأحمد /11883و12692 بعباراتٍ أخرى ، وفي : أبي داود /4195 ، وأحمد/2029 و3269 باختلافٍ يسير عمّا قبله ] .
ويقول ( : { إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق } .
[راجع : أحمد / باقي سند المكثرين/12579 - وانفرد به - ] .
و يقول ( : { أحبُّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة} .
[راجع : البخاري/ كتاب الإيمان ] .
********
كلُّ ذلك جعل الفقهاء يصوغون قواعد كلية فقهية ، تجمع كل ما ورد في التيسير ، فقالوا :
1. [ المشقة تجلب التيسير ] .
2. [ إذا ضاق الأمر أتسع حكمه ] .
3. [ الضرورات تبيح المحظورات] .
4. [ حفظ الأبدان مقدّم على حفظ الأديان ] .
فإذا كان هناك ضرر محقق ، أو احتماله الراجح ، أو احتمال مرضٍ ، أو زيادته ... فيناسب كل ذلك التخفيف ، وهذا هو تشريع الرحيم الرحمن .
أمّا الجهاد ـ وهو شاقٌّ لا ريب ـ فالكلام فيه يكون بشكل آخر ، لسنا في معرض الكلام فيه ، ولعل له مناسبة أخرى ـ إن شاء الله تعالى ـ .
********
وأسباب الترخيص كثيرة ، وهي :
1. المرض .
2. السفر .
3. الجهل بالأحكام [ على تفصيل في ذلك ] .
4. الإكراه .
5. النسيان .
6. العسر، وعموم البلوى .
7. النقص : كالصغر ، والجنون ، والرق .. الخ .
وقد نص كتاب الله ـ في أمر الصيام ـ على عذري : المرض و السفر .
وهناك :
عذر النقص : .. لغير البالغ ، وللمجنون ، وللمعتوه .
وعذر الإكراه : فإنّه يسقط الكفارة فقط .
وعذر النسيان : لا يكون معه شيء قط .(1/42)
وعذر الجهل : إن أسلم الإنسان في دار الكفر، ولا يعلم فريضة الصوم .
فهذه عُرفت أدلتها في مواضع أخرى .
و حاصل التخفيف الذي من نوع الترخيص ، أنّه يكون أنواعاً :
1. تخفيف إسقاط : كسقوط العبادات عند العجز عنها .
2. تخفيف تنقيص : كالقصر في السفر .
3. تخفيف إبدال : بإبدال الوضوء والغسل ، بالتيمم .
4. تخفيف تقديم : كالجمع بين الظهر و العصر بعرفات ، وكتقديم الزكاة على الحول ، وكتقديم زكاة الفطر ودفعها بعد دخول رمضان .
5. تخفيف تأخير: كالجمع في المزدلفة بين المغرب و العشاء ، وكتأخير صيام رمضان للمسافر والمريض ، وكتأخير الصلاة لإنقاذ إنسان مشرف على الهلاك .
6. تخفيف تغيير : كتغيير نظم الصلاة من أجل الخوف .
7. تخفيف ترخيص : كشرب الخمر للمضطر .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{..فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أُخر} البقرة / 184.
علمنا من الحلقة السابقة أن [ السفر ] من أعذار الترخيص ، والرخصة تستوجب [ التخفيف ] للأحكام بالنسبة للمكلف الذي قام العذر بحقه ، مع بقاء الحكم الأصلي في حق باقي المكلفين .
ففي الصلاة مثلاً .. يجب على المسافر أن يقصر الصلاة الرباعية الى ركعتين فقط وتسقط عنه السنن ، فمن قال بالوجوب أستند الى قوله ( :
{ إنَّ الله يُحبُّ أن تؤتي رُخصَه كما تؤتى عزائمه } .
[راجع : أحمد / باقي مسند المكثرين /5600 و5606 ، لكنّه رواه هكذا : إنّ الله يُحبُّ أن تُؤتى رُخصُهُ كما يكره أن تُؤتى معصيتُه ] .
وقالوا إنَّ الذي يدعو آخر الى بيته أو الى طعامه ، يُصيبه الضيق إذا لم يحضر المدعو إلى بيته ، فإذا كان الداعي الله ( ، فعدم الاستجابة هو العزوف عن ضيافته ( ، وإعراض عن رحمته ، وترفُّع عن كرمه ... وهذا لا يليق بذوي الهيئات والمروءات ، فضلاً عن العبيد مع السادة .
وبعض أهل العلم قال : بجواز القصر في السفر، والإتمام عندهم أفضل ، أخذاً بظاهر..(1/43)
قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جُناح أن تقصروا من الصلاة ... } النساء/ 101 .
ونفي الجُناح يعني الجواز لا الوجوب .
أمَّا الجمع في السفر ..
فأجازه فريق .
واقتصره آخرون على : يوم عرفة ، و ليلة مزدلفة .
وأشترط فريق أن يكون السفر ، سفر طاعة لا معصية لكي يؤخذ بالرخصة.
والأكثر لا يُفرَّق بين سفر الطاعة و المعصية ، لأن النصوص مطلقة فلا فرق ، والعذر أُنيط بتحقق مفهوم السفر، دون أي شيء زائد .
وهذا الكلام ينسحب إلى [ الصوم ] أيضاً ، من ناحية وجوب الإفطار للمسافر ، أو جوازه ، ومن ناحية سفر الطاعة والمعصية .
لكن يُضاف هنا..
قوله تعالى :{ .. و أن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون } البقرة / 184.
فأستدل الأكثر على أنَّ إتمام الصوم للقادر أفضل ، وافترق أمر الصوم عن الصلاة بهذا الدليل .
********
أمَّا معنى السفر فهو : مفارقة مدينة الإنسان المقيم ، أو محل إقامته ، بحيث يُفارق العُمران ، أي : الدور والأبنية ، بحيث من نادى بأعلى صوته فإنّه لا يسمع من في الدور صوته .
ويشترط في هذه المفارقة لدور بلده ، أن يقصد بسفره مسافة تزيد على ثلاث مراحل لسير الإبل المتوسط ، أو سير السفن في الريح الهادئة .
فالمراحل الثلاث : هي المسافة بين [ خان ] و[ خان ] في الطرق القديمة. مثلاً ما بين بغداد - خان بني سعد .. [ مرحلة ] ، وبينه و بين [ خان اللوالوه ] ـ يقع على مشارف بعقوبة ـ مرحلة . و منه الى [ دلَّي عباس ] ـ المنصورية ـ مرحلة .. و هكذا .
وتقدّر المراحل الثلاث بالكيلومترات ما بين[ 80 ] إلى[100] كم ، والأخذ بالأكثر أحوط . لأن عدم القصر ، مع تحقق الجواز الشرعي ، لاشيْ فيه ، لأن البعض قال به ، أما القصر قبل تحقق شروطه ، فإنّه لا يجوز بالاتفاق ،
ويؤخذ في الجبال ما يُناسبها .(1/44)
أمَّا البدو المتنقلون : فتصح منهم نيَّة الإقامة لمدتها ، وهي خمسة عشر يوماً بلياليها ، وهم مسافرون في غيرها ، ما لم يستقروا تلك المدّة .
********
واعلم أن الأوطان ثلاثة :
? الأول / وطن أصلي : و يسمى [ أهليّاً ] ، وهو الذي يستقر فيه المرء مع أهله . وذلك لا يبطل إلاّ بوطن آخر مثله ، ينتقل اليه مع أهله .
فإنّ رسول الله ( انتقل إلى المدينة ، ثمَّ عدَّ نفسه مسافراً حين فتح مكة ، وحين حج إليها في حجَّة الوداع ، قصر الصلاة وعدَّ نفسه مسافراً ، لأنه عليه السلام استبدل موطنه الأصلي السابق ، بموطن جديد ، وحين عاد إليه مسافراً ـ بحج وغيره ـ لم يُقم مدّة الإقامة ، فاستمرعلى القصر.
? الثاني / وطن إقامة : و هو الذي المكان الذي يدخله المسافر، فينوي الإقامة فيه خمسة عشر يوماً ، فيكون مقيماً بالنيَّة .
فإذا لم ينوِ بقيَ مسافراً ، وإن أقام الدهر كله متردداً في موعد السفر.
و يبطل هذا الوطن :
1. بالعودة الى الأصلي .
2. وبإلغاء نيّة الإقامة للمدة التي ذكرنا .
3. وبطروء سفرٍ جديد .
4. وبوطن آخر مماثل له .
? الثالث / و طن سكني : و هو أن يقيم الإنسان في مكان أقل من خمسة عشر يوماً ... . ويبطل :
1. بالوطن الأصلي .
2. وبوطن الإقامة المتقدم ذكره .
3. وبالوطن الجديد المماثل لهذا .
وهذا وطن ضعيف.. أضعف من الوطنين السابقين ، و بالتالي يُلحق بالسفر، وتطبق فيه أحكامه .
فكن - أيُّها المسلم - على بينة من هذه الفوارق ، لتكون عبادتك صحيحة. أما لمَ بقيَ السفر عذراً رغم تقدُّم الوسائل الحديثة ، فهذا ما سنعالجه لاحقاً بإذنه تعالى .
والحمد لله رب العالمين .
تلونا في الحلقة السابقة الآيات التي جعلت السفر عذراً مرخِّصاً للتخفيف في عبادتي الصوم و الصلاة ، ولكن كثيراً ما يتساءل المتسائلون :
إذا كان السفر شاقاً في العصور السالفة وبالوسائل القديمة من : دواب وعربات ، ومشيٍّ على الأقدام .. الخ .(1/45)
فإن مشقته أصبحت زائلة ، بتقدم الوسائل من : سيارات مكيَّفة ، و طيارات فارهة ، و قطارات مريحة .. و غير ذلك .
فما جدوى بقاء الترخيص ؟ ! .
الجواب : هذا الكلام غير مبني على أساس علمي ، ولا مستند فقهي ، بل هو ظنٌ مرجوح ، والله تعالى يقول :
{ وما لهم به من علمٍ إنْ يتَّبعون إلاَّ الظنّ وإنَّ الظنَ لا يُغني من الحق شيئاً * فأعرِض عمن تولى عن ذكرنا ولم يُرِد إلاَّ الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إنَّ ربَّك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } النجم / 28 إلى 30 .
فاعلم أخي الكريم أنَّ : [ المشقة ] هي المعنى الموجب للتخفيف .
وهي خفيَّة ... ... غير ظاهرة .
وهي متفاوتة ... ... غير منضبطة .
********
أما كونها غير ظاهرة :
فقد يكون المرء في أشد حالات التذمر ، ولا يظهر عليه شيء من ذلك .
وقد يكون في أشد حالات الإعياء .. و لكن لا يُعرف ذلك عنه .
وقد يضحك المرء وهو حزين ، ويرقص الطير وهو ذبيح ،
وقد يشقُّ السفر على المسافر وهو يتصنع البهجة ، أو يتجشَّم الرضا ، لأنه لابد له من ذلك السفر ، وحقيقة حاله عكس ذلك تماماً .
وعند البعض فإنَّ : مجرد تغير المكان شاق ، و مجرد تبدل المواعيد التي اعتادها يُعدُّ عنده منتهى الكلفة !! .
وهكذا .. فقد نرى بعض من ينوي السفر يشعر بالمشقة قبل بدء السفر، فعيناه لا تغمضان ليلة السفر ، لا فرحاً بهً ، بل قلقاً ، أو حزناً ، فراحة الوسيلة لا يدُّل على راحة المُتوسِل بها ، أي : مستعملها.. وهو المسافر، فراكب الطائرة يشعر بمشاقٍ متعددة ، لا تدفعها راحة المقعد ، وشِبْههِ .
وبعض الناس عند القلق يحتاج إلى :
الأكل !! .. بل يجوع مراراً !! ، ومثل هذا نحتاج فيه الى دعم الأطباء .
وآخر يلجأ إلى النوم!! ، وثالث الى كثرة التدخين !!. *******
وأما :عدم انضباط المشقة عند الناس ..:(1/46)
فبعضهم يشقُّ عليه أبسط الأمور ولكنهم لا يرتاحون إلاّ بالسفر، ومفارقة البيت !! .. كسواق القطارات ، و ربابنة الطائرات ، وسائقي الشاحنات .
إذن ما يعدُّه البعض مشقة يعدُّه الآخرون سهولة بل نزهة ، وهو لهم عادة!!.
ويقول رسول الله ( : { عوِّدوا الجسم ما اعتاد } .
واعلم أخي القاريء الكريم : أنَّ الأحكام لابد أن تكون مراعيةً للظواهر لتكون عادلة ، فلا تعتدُّ بالخفيِّ غير المعلوم ، ولا بالمتفاوت غير المنضبط. وإنَّ الأحكام لابد أن تراعي أحوال الجميع بقاعدة عامة مستوعبة ، لكي تكون منضبطة مع الجميع ، اذ يصعب معرفة تحقق السبب تارة ، أو معرفة الحكم عند تخلُّف السبب تارةً أخرى .
من أجل هذا وذاك يبقى السفر عذراً للتخفيف ، و إن تقدمت الوسائل .. وتقدمت . فهذا علمٌ دقيق أنيق ، و تحقيق رقيق ، يخفي أمره على الكثير ، فيقولون مالا يعلمون ، و يعترضون على الله ( بما لا يُحسنون .
والله قد جعل كلَّ شيء بقدر، ولا تختل موازينه ، وهو العادل الحكيم ( ، وإلاَّ وضع كلُّ إنسانٍ لنفسه مقياساً للمشقَّة ، ومثل هذا لا ترتضيه أيَّة تنظيمات اجتماعيَّةٍ ، أو دينيَّة .. لها بنفسها اعتداد ، ولها بشؤون المكلفين أدنى اهتمام ..
فهل وضُح لك الأمر الآن ..؟؟
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ .. فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام ُأخر يريد الله بكم ليسر و لا يريد بكم العسر و لتُكملوا العدة ..} البقرة / 185 .
لكل عبادة ، بل قل كل فعل ، بدءٌ ومنتهى .
والصوم فعل ، والصوم عبادة ، وهو بهذين الاعتبارين له بدء ، وله منتهى.
أمّا بدؤه : فالفجر ، وأمّا منتهاه : فالغروب .
والنهار هو معيارٌ له ، أي : أنّ العبادة تستغرقه .
إنّ مجموع أيام شهر رمضان ، بدؤها أول نهار منه ، ومنتهاها نهاية آخر نهار منه .(1/47)
فالصوم من العبادات المؤقتة غير المطلقة ، ووقته وقت مضيَّق ، أي: لا يتسع وقته لعبادةٍ أخرى من جنسه ، فلا يستطيع الصائم في شهر رمضان القيام بأي صيام آخر ، وكذلك كلُّ نهار يصومه المرء ، فإنه لا يستطيع أن يصوم معه صومٌ آخر ، فوقته لا يُصام فيه صومان .
لكن يستطيع الإنسان الواحد أن يصوم و يتصدَّق ، ويصوم ويصلي ، ويصوم ويُسبِّح ، وهكذا .
عليه فلا نتصور عند فساد الصوم إمكان [ الإعادة ] أبداً . لأن الإعادة تكون في العبادة التي لها وقتٌ موسَّع ، وذلك ما يمكن حصوله في الصلوات كلها . فوقت كل صلاة يتسع للصلاة الوقتية و لغيرها معها ، وهي ولا ريب من جنسها ، كصلاة الظهر مع قضاء ظهر فائت ، أو التطوع بصلاة نافلة . فمثل هذا الوقت الموسَّع ، إذا فسدت العبادة فيه ، وكان الوقت ما زال فيه متسعاً ، [ أعاد ] المكلف عبادته ، فالصلاة نتصور فيها [ الإعادة ] ، ولا نتصورها قط في الصيام !.
********
أما القضاء : فهو في اللغة ذو معاني سنأتي إليها .
إنّ لهذه الكلمة معانٍ عديدة في القرآن الكريم :
? فالقضاء بمعنى : الإعلام ... ... ... في قوله تعالى :
{ وقضينا الى بني إسرائيل .. } الإسراء/4 .
? والقضاء بمعنى : المُضي ... ... ... في قوله تعالى :
{.. ليقضي الله أمراً كان مفعولا } الأنفال/42 .
? والقضاء بمعنى : الإنتهاء ... ... ... في قوله تعالى :
{ فإذا قضيتم مناسككم ..} البقرة /200 .
? والقضاء بمعنى : الوجوب ... ... . في قوله تعالى :
{.. لمّا قُضي الأمر.. } إبراهيم / 22 .
? والقضاء بمعنى : الوصية ... ... ... في قوله تعالى :
{ وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه .. } الإسراء / 23 .
? والقضاء بمعنى : الأجل ... ... ... في قوله تعالى :
{.. فمنهم من قضى نحبه..} الأحزاب / 23 .
? والقضاء بمعنى : الخلق ... ... ... في قوله تعالى :
{ فقضاهنَّ سبع سماوات..} فصِّلت / 12 .
? والقضاء بمعنى : الفعل ... ... ... في قوله تعالى :
{كلا لَمّا يقضِ ما أمره } عبس/ 23 .(1/48)
? والقضاء بمعنى : الإبرام ... ... ... في قوله تعالى :
{.. إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها..} يوسف / 68 .
? والقضاء بمعنى : العهد ... ... ... في قوله تعالى :
{..إذ قضينا الى موسى الأمر..} القصص/44 .
? والقضاء بمعنى : الأداء ... ... ... في قوله تعالى :
{ فإذا قُضيت الصلاة..} الجمعة/ 10 .
********
أمّا في اللغة : [ فالقضاء ] موضوع لكل ما أُحكم عمله ، وخُتم ، وأُديّ ، وأُوجب ، وأُعلم ، وأُنفذ ، وأُقضي . فكل واحد مما تقدم معناه : [ قضى ] .
ومجمل ما قيل في معناه عند أهل اللغة ، أنَّ [ القضاء ] هو :
إتمام الشيء قوةً وفعلاً .
********
وفي الشرع : ورد [ القضاء ] مقروناً [ بالقَدَر ] .
وورد بمعنى : فصل الخصومة وقطعها .
أو هو : القول المُلزم الصادر عن ذي ولاية عامة . فيشمل قضاء القاضي .
وهو في اصطلاح الفقهاء : تسليم مثل الواجب بالسبب .
وهذا المعنى الأخير هو المقصود : [ بالأيام الآخر ] .
********
فعلى هذا من فاته صومٌ يومٍ أو أيام سهواً ، أو كان الفوات لعدم العلمٍ ، فعليه قضاء أيامٍ بعدد ما فات ، أي : يصوم مثل الأيام التي فاتت . والمثلية هنا تعني صيام أيام بعدد الذي فات ، وإن طال النهار أو قصُر ، فهي لا تعني المساواة بعدد الساعات ، ولا في الحر والبرد ، وأشباه ذلك .
فلو أشترط الشرع ذلك لشقَّ هذا على الناس ، وصعُب ، وعسُر .
ولا نقصد بالمثلية أيضاً ، أن يكون صوم القضاء في شهر رمضان أيضاً ، لأنه سيجتمع القضاء والأداء ، وقد فصّلنا قبلاً أنّ اليوم الواحد لا يقع عن صيامين ، فراجعه .
وكذلك من أفطر عمداً - لعذر أو بدون عذر- وجب عليه القضاء ، غاية ما في الأمر أن المعذور لا كفّارة عليه ، مثل : الساهي ، والذي لايعلم بالوجوب . و غير المعذور يقضي - أي يسلّم مثل الصوم الفائت ـ ، و لكن يلزمه مع قضائه كفارة .
فالقضاء في الفقه - أقول مكرراً - هو : تسليم مثل الواجب بالسبب .(1/49)
فالفدية للعاجز لا تعدُّ قضاءً ، بل هي بدل . فلا تخلط بين الأمرين .
والحمد لله رب العالمين .
يقول تعالى :
{ أَمَّنْ هو قانتٌ آناءَ الليل ساجداً وقائماً يَحذرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنّما يتَّذَكَرُ أولوا الألباب } الزمر/ 9 .
ويقول الرسول ( :
{ من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه } .
********
وأصل القيام في اللغة هو : الانتصاب وقوفاً .
وهو يأتي بمعانٍ عدة ، بحسب الصلة ، حيث تحمل كلُّ صلة معنى مغايراً .
فتقول : قام بالأمر ، إذا تكفَّل به ، وحفظه .
وتقول : قام ميزان النهار ، إذا انتصف .
وتقول : قام على أهله ، إذا تولى أمرهم ، ونفقاتهم .
وتقول : قام إلى الصلاة ، إذا توجّه اليها .
********
والقيام في الشرع : جزء من الصلاة ، و هو أحد أركانها ، حيث يقف المصلي بعد دخوله في الصلاة ليقرأ أدعية مخصوصة ، ويتلو القرآن .
ويستحب إطالة القيام في صلاة الفجر .
وكون المصلِّي في صلاة الليل [ يقوم ] من فراشه ، فيذهب الى الصلاة ، فهو [ قائم ] .
وقد سميّت صلاة الليل [ بالقيام ] بهذين الاعتبارين .
فالمصلي في صلاة الليل يُطيل الوقوف في العادة ، لأنه متطوِّع مبتغٍ للأجر.
وكذلك المصلي في صلاة الليل ، يترك الهجوع ، والنوم ، و[ يقوم ] إلى صلاةِ تطوُعهِ .
********
وصلاة القيام في الأيام العادية لا تحديد لها ، و يأتي منها المرء ما شاء ، وبالطول الذي يستطيع ، في حين هي في حق النبي ( واجبة .
يقول تعالى :
{(1/50)
إنّ ربّك يعلم أنك تقوم أدنى من ثُلُثي الليل ونصفَه وثُلُثه وطائفةٌ من الذين معك والله يقدِّر الليل والنهار عَلِم أنْ لَّنْ تُحصوُه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسّر من القرآن علم أن سيكون منكُم مرضى وآخرون يَضْرِبون في الأرض يَبْتَغون من فضل الله وآخرون يُقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقْرِضوا الله قرضاً حسناً وما تُقَدِّموا لأنفسكم تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً.. } المزمل / 20 .
فأصبح قيام الليل في حق الرسول ( ، واجباً وفي حقِّ أمته سنة . وهذا الوجوب هو من خصوصياته في العبادة عليه ( ، وهذا في الأيام العادية .
********
أمّا في شهر رمضان ، فإن قيام الليل سنة مؤكدة في حق الناس .
وهذا القيام : هو التراويح على رأي غالب أهل العلم .
والتراويح : جمع [ ترويحة ] .
والترويحة : هي القعدة التي يستريح فيها المصلون أثناء التراويح . فسميّت الصلاة باسمها .
والمسنون في هذه .. الاستراحة ، أن تكون بعد كل أربع ركعات ، فيجلس المصلِّي بقدرهنَّ .
وهذه الركعات الأربع التي تفصلها الجلسة عن الأربع التي سبقتها والتي تليها تُسمى : [ ترويحة ] أيضاً.
فكأنهم أسموا الصلاة بأسم ما يلازمها ، وهي الإستراحة !!.
********
وهيأة التراويح أنْ تُصلي كلُّ ركعتين بتسليمتين . حتى إذا أتمّ أربعاً ، فتسمى حينئذٍ [ ترويحة ] ، كما تسمى كلُّ قعدة بقدر الركعات الأربع [ ترويحة ] أيضاً . فجاء من كل ذلك اسم التراويح .
أو لعل : التسمية جاءت من أن المرء يراوح بين الصلاة والاستراحة ، وذلك وجه يُقبل .
********
أما عددها فقد صلاّها النبي ( ، والصحابة عشرون ، وجمع الناس على إمام واحد فيها سيدنا عمر بن الخطاب ( ، بعد أن كانوا يصلوُّنها فُرادى .
ولم يواظب الرسول ( على الجماعة ، حتى لا تُكتب على الأمّة فتكون شاقّة ، فمن صلاها مع الجماعة ، كان له أجر الجماعة والقيام معاً .(1/51)
والأولى بالمسلم في العبادات ألاّ يتنطّع ، ولا يُماري ، أو يُكثر من الكلام فيما لا جدوى فيه ، في الاختلاف حول عددها ، ومقدار ما يُقرأ فيها من القرآن ، أو غير ذلك . فإنّ ترك [ المِراء ] واجب ، في حين أنّ صلاة التراويح سنة ، فلا نترك واجباً يوقع في محرّمٍ ، من أجل سنة يُراد أن يُكسب بها الأجر، فتكون مدعاةً للوقوع في المنْهي عنه ، فتدبّر هذا جيِّداً ، هدانا الله وإيّاك لكل خير.
وهذا رسول الله ( يقول :
{ من يُرد الله به خيراً يُفقهه في الدين } .
[ رواه سِّيدُنا معاوية بن أبي سفيان ( كما في : البخاري / الإعتصام بالسنن/6768 ورقم69، وفي : مسلم / الزكاة /1719 و1721 و3549 ، وابن ماجة /216 و217 ، وراجع : أحمد ، ومالك ، والدارمي.. ] .
فالفقه في الدين يُبعدنا عن : الشحناء ، والبغضاء ، واللجاجة من غير نفع ، والكلام من غير علم .
وهؤلاء علماء الحرمين يجتمعون عليها يوميَّاً بجماعةٍ ، ويُتِّمون العشرين،
ولا يُقال فيهم مبتدعين !! ..
والله ( يقول :
{ .. وإذا قُلْتُم فاعدِلُوا ولو كان ذا قُربى .. } الأنعام / 152 .
ويقول ( :
{ يا أَيُّها الذين آمنوا كُونُوا قوَّامين لله شهداءَ بالقِسْط ولا يَجْرِمنَّكَم شنآن قومٍ على ألاَّ تعدلوا اعدلُوا هو أقربُ للتقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون } المائدة / 8 .
والحمد لله رب العالمين .
يقول تعالى :
{ أُحلَّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ الى نسائكم هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنَّ علمَ الله أنّكم كنتم تَخْتانون أَنْفَسكَم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتببّين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر ... } البقرة / 187 .
إنّ الله ( حيِيٌ ، وأمر الناس بالحياء ، و كنّى في القرآن عن أمور، فلم يصرِّح بها ، فجلَّ جلال الله( ، فلم يَردْ لفظُ [ الجماع ] في القرآن قط ، بل عبَّر عنه الله بأمور ، منها :(1/52)
1. لفظة : [ المسّ ] .. في قوله تعالى على لسان مريم العذراء :
{ قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر .. } مريم/20 .
فكأنه عبّر عن الحلال منه ، بدليل ما سيأتي .
2. لفظة : [ البغاء ] .. في قوله تعالى تتميماً للآية السابقة :
{.. و لم أكُ بغيّاً }
فجعل [ البغاء ] كناية عن الجماع ، إذا كان محرّماً .
3. لفظ : [ التغشِّي ] .. في قوله تعالى :
{..فلما تغشّاها حملت منه حملاً خفيفاً فلما أثقلت آتيناهما صالحاً..} الأعراف / 189.
فعبر عن حال الرجل مع المرأة بذلك ، لأنه غالب حالهما ، حيث يكون الرجل كالغشاء للمرأة !!.
4. لفظة : [ الرفث ] .. وهو قد ورد في آية الصيام التي تلوناها . على أن [ الرفث ] في اللغة يأتي بمعانٍ :
? فإذا كان يُطلق على فعل اللسان فهو : بمعنى الكلام القبيح .
? وقد يأتي بمعنى : المواعدة سراً .
? وإذا كان يطلق على فعل العين فهو : الغمز .
? وإذا كان يطلق على فعل الفرج فهو : الجماع .
وهذا ما ورد في آية الصوم .
وهو : كلمة جامعة لما يريد الرجل من المرأة في سبيل الاستمتاع ، وقد يطلق على اللفظ القبيح ، وعلى الفعل القبيح أيضاً ، في قوله تعالى : ... { الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرضَ فيهنَّ الحجَ فلا رفثَ ولا فُسُوقَ ولا جدال في الحج .. } البقرة / 197 .
فالكلام القبيح الذي يكون من مقدمات الفعل، وذات الفعل يدخلان في هذا .
فإذا علمنا هذا ، فإن سبب نزول الآية هو : أنّ تناول المفطرات كان في أول فرض الصوم مباحاً من غروب الشمس الى حين نوم الإنسان ، فإذا نام ، فقد أمسك وصام !.
فكان أنْ بعض الصحابة نام ثم استيقظ ، فتقرّب من أهله ، فجاء الى الرسول ( ، وكان غيره يفعل هذا أيضاً ، ولا يعلمه إلاَّ الله ( فنزلت الآيات المخففة التي تجعل جواز : الأكل ، والشرب ، والجماع ، طوال الليل لكل صائم ، رجلاً كان أم امرأة !.(1/53)
وفي هذا بيانٌ لرحمة الله بهم ، و بيانٌ عمليٌّ في أن الله ( قد راعى حالهم و حاجتهم ، في الحال الذي استقر عليه حكم الصيام !.
وقد شبّه الله النساء في الآية بأنهنّ لباس للرجال ، أي سترٌ لهم من المعصية ، وشبّه الرجال بأنهم لباس للنساء ، أي سترٌ لهنَّ من المعصية .
كما طلب منهم بقوله تعالى :
{ .. و ابتغُوُا ما كتب الله لكم ..} البقرة / 187.
أي : على الأزواج طلب الولد عند قُربان بعضهم من بعض ، وهذا هو هدف الزواج ، لتدوم الحياة ، وتستمر، وتكثر الأمة الإسلامية ، وتزداد .
فكل اقتران بين رجل وامرأة لا يُقصد فيه هذا المقصد ، كان بعيداً عن هدف الإسلام ، ومَقْصوده ، وبه تُفهم أمورٌ كثيرة ، وسبب إبطال الإسلام لأنكحةٍ متعددةٍ ذميمة ، لا يُقصد منها الإنجاب ، بل أموراً أخرى .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ ... وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون } البقرة / 184 .
فكلمة : فَداه .. فِداء .. و فَدىً .. و فِدىً ، معناها في لغة العرب هو ..
استنقذه بمال أو غيره ، و خلّصه مما كان فيه .
ويُقال : فداه بنفسه ، و فداه بماله .
والمُفَدّى : هو المستَنْقَذْ [ بصيغة اسم المفعول ] .
والمُفدي : هو المُستنقِذ [ بصيغة اسم الفاعل ] .
والفِداء : ما يُقدّم من مالٍ و نحوه [ كالذبيحة ] ، لاستنقاذ المُفْدى ، واستخلاصه ، أو تخليصه.. قال تعالى :
{ .. وفديناه بذِبحٍ عظيم } الصافات / 7 .
والفدية : هي الفداء .
يقول تعالى :{فإذا لقِيتُم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدُّوا الوَثاق فإمّا مناً بعد وإمّا فداءً حتى تضع الحرب أوزارها ... } محمد/4.
وافتدى : نفسه أو غيره ، أي .. قدّم الفداء .
يقول تعالى : { للذين استجابوا لربِّهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به ... } الرعد / 18 .
وهذا من هول يوم القيامة .(1/54)
إنّ المعاني اللغوية ، وردت في القرآن الكريم باستعمالات عدّة ، لسنا الآن في معرض إحصائها .
********
أمّا في الشرع ، فقد قالوا فيها :
الفدية : هي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجّه إليه .
فهي [ مال ] يُعطى لتخليص العبادة البدنيّة ، واستنقاذها ، واستخلاصها ، ممَّا قد يطرأ عليها فيَشُوبُها .
والفدية غير الكفارة ، فلا يختلطنَّ عليك الأمر ، وسنتكلم عن الكفارة لاحقاً .
وقد ورد ذكر الفدية بالمعنى الشرعي .. أي : بمعنى استنقاذ العبادة ، في موضعين اثنين من القرآن الكريم :
? أحدهما هو : آيات الصيام ـ وقد مرّ ذكرها ـ .
? وثانيهما هو:
قوله تعالى : { وأتمّوا الحج والعمرة لله فإن اُحصرتُم فما استيسر من الهدي ولا تحلِقوا رؤوسَكم حتى يبلغَ الهديُ محِلَّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقةٍ أو نُسُك..} البقرة / 196 .
فمن أحرم بالحج فلا يحقُّ له أن يحلق رأسه ، أو يُقصِّر من شعره ، إلاّ بعد ذبح نُسكه ، أو دمِّ الإحصار . وجاز للمريض ، ومن به مرضٌ في رأسه يُلزمه بالحلق قبل موعد الحلق وهو [ التحلل ] ، أو يُلزمُه بتغطية رأسه ... فيمكنه استنقاذ عبادته بفديةٍ حدّد النص القرآني أنواعها .
وهناك ما يُمكن تسميته [ فدية ] في الحج غير ما ذُكر، وهو : الجزاء الذي يُقدِّره ذوا عدلٍ من المسلمين مقابل [ قتل الصيد ] في الحرم للحِلِّ والمُحْرِم .. أوقتل الصيد للمُحْرِم ، ولو خارج الحرم .
فما ذُكر استنقاذٌ للعبادة بعد لحوق ما يُنافيها بها ، بدلاّ من إبطالها بالكليّة .
********
أمّا : الحالة الأخرى للفدية ، فقد وردت في آيات الصوم المتقدمة ، وأحوالها هو الآتي :
1. يدفعها الشيخ الفاني الذي لا يقوى على الصوم ، وطبعاً لا يستطيع القضاء مستقبلاّ .
2.المريض الذي لا يُرجى شفاؤه ، وحتى نهاية عمره . والقول في هذا للأطباء .(1/55)
فهذان لا يصومان ، لعدم القدرة . وهما لا يستطيعان القضاء مستقبلاّ ، فيلزمهما تقديم الفدية .
********
ومقدارها هو : إطعام مسكين واحدٍ ، عن كلِّ يوم إفطار عمدي بالأعذار المتقدمة .
والإطعام : يكون بقيمة ما يُعادل وجبتين مشبعتين ، أو بالإطعام الفعلي لتلك الوجبتين ، وحدِّدا باثنتين لأن الصائم لا يأكل إلاّ السحور، والفطور. فهما وجبتان .
********
ونوعيتهما : يكونان من أوسط ما يأكله الناس ، وهم غالبيتهم العظمى ، وهو بين طعام الفقراء ، وبين طعام الأثرياء ـ لا الأغنياء ـ ، فالأغنياء طعامهم الوسط ، وهم من يملك أحدُهم نصاب زكاة من مجموع ما بحوزته ، وهو الذي تجب عليه زكاة الفطر ـ وسيأتي هذا لاحقاً ـ .
وممَّّا تقدَّم نفهم ..
قوله تعالى : { وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين }
وهذا على الرأي الغالب ، باعتبار أنّ كلمة [ يُطيقونه ] تعني :
مضارع الفعل [ أطاق ] أي : إذا أصبح لا يطيق الشيء ،فهوغير مُطيق له .
فالألف التي دخلت على الفعل الثلاثي [ طاق ] تُسمّى : [ ألف السلب ] ، فهي تسلب الفعل معناه الأصلي إلى ما يُخالفه تماماً ، شبيه [ عَذَرَ ] التي تعني إعطاء العذر للغير ، و[ أَعْذَرَ ] التي تعني سلب العذر من الغير .
فعلى هذا يكون معنى [ طاق ] : قَدِرَ .
ويكون معنى [ أطاق ] : غير القادر ، أي المسلوب للقدرة .
على أنّ البعض يقول أنها تعني :
وعلى الذين يُطوقونه ولا يُطيقونه !! .
********
وذهب آخرون إلى أنّها تعني :
وعلى الذين [ لا ] يُطيقوُنه ، بتقدير[ لا ] محذوفة ، تُعرف من السياق !!.
والذي تطمئن إليه النفس ، هو الرأي الأول .. والله أعلم .
ولا يغيب عن الذهن أنّ هناك أنواعاً من الفدية قد وردت في السنّة النبوية ، تتعلق بجنايات الحاج حال إحرامه ، وتتطلب أن تُجبر بجابر، تُستنقذ به العبادة ، وليس هنا موضع تفصيله .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{(1/56)
لا يُؤاخِذُكُم الله باللغو في أيْمَانِكِم ولكن يؤاخِذُكُم بما عقَّدتم الأَيْمان فكفارتُه إطعام عشرةِ مساكينَ من أوسط ما تُطعمون أهليكم أو كسوتُهُم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم ... } المائدة / 89 .
والكفَّارة : مأخوذةٌ من الفعل الماضي [ كَفَر ] .
وكَفَر : جَحَد .
والكافر : الجاحد .
والجاحد: هو الذي يغطي الحقيقة و يظهر غيرها .
و كَفَر : تأتي بمعنى .. غطّى .
و الكُفر : يعني الستر .
والكفّار : هم الزرّاع ، لأنهم يغطون بُذُورَهَم عند الزرع .
يقول تعالى : { كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباتُه .. } الحديد / 20 .
والكفران : جحود النعمة .
********
وفي الشرع ..الكفارة : فهي من الكَفَر ، أومن الكَفْر. أي الستر، فهي ستّارةٌ للذنب ، مغطيةٌ له ، أو ماحيةٌ له.
قال ( : { العمرة الى العمرة كفارةٌ لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنَّة }.
[ راجع : البخاري / الحج /1650 ، ومسلم / الحج /2403، والترمذي / الحج /855 ، والنسائي / منلسك الحج /2575 و2576 ، وابن ماجة / المناسك /2879 ، ومالك /الحج /675 ، وأحمد - باختلافٍ يسير - / مسند المكثرين /7050و9569 ] .
فهنالك أفعال تُرتكب تحتاج الى محوٍ، أو تغطيةٍ ، أو ستر لها ، فشرَّع الله ( لها [ الكفّارات ] .
********
والكفارات أنواع متعدِّدة ، تجب بأسبابٍ مختلفة ، منها :
1. كفارة اليمين المنعقدة .
2. كفارة القتل الخطأ .
3. كفارة الظهار .. والظهار أن يقول الرجل لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي ، وكفارته مذكورة في سورة المجادلة / 3 .
4. وكفارة الذي قتل الصيد في الحرم وغيره ، وقد مرَّ تفصيلها .
5. وكفارة الفطر في رمضان عمداً من غير عذر.
********
إنّ المذكور في القرآن من هذه الحالات بلفظ [ الكفارة ] ، حالتان هما :
كفارة صيد المُحرم ، وكفارة اليمين .
والمذكورة في القرآن حكمها من غير تسميتها كذلك كفارة :(1/57)
القتل الخطأ ، و كفارة الظهار .****
إنَّ كفارة المفطرعمداً في رمضان بلا عذر، حدِّدُها قوله ( :
{ من أفطر في نهار رمضان فعليه ما على المظاهِر } .
[ في : الترمذي / كتاب الصوم/656 ، أنّ رجلاً جاء الى النبي ( ، فأخبره بمواقعة أهله في نهار رمضان ، فأمره بتحرير رقبة ، فأبدى عجزه ، ثم أمره أن يصوم شهرين متتابعين ، فأبدى عجزه ، ثم أمره أن يطعم ستين مسكيناً ، فأبدى عجزه ... ] .
فالكفارة في الصيام ، تكون واجبةً بإفساد صومٍ مُسْتَحَقٍ على الصائم .
ومقدار كفارة المظاهر الواردة في الآية [ 3 ] من سورة المجادلة ، هي :
عتق رقبة فإن لم يجد :
فصيام شهرين متتابعين فإن لم يجد :
فإطعام ستين مسكيناً .
وهذه الكفارة عن كل يوم إفطار عمدي بلا عذر .
فاحذر الفطر في رمضان عمداً بلا عذر ، و تحرَّ في العذر حتى لا تقع في المحذور، والله المستعان ..
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ وإذا سألك عبادي عني فإنِّي قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون } البقرة / 186 .
لقد توسطت هذه الآية آيات الصيام ، فقبلها ...
قال تعالى :
{ يا أيُّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتِب على الذين مِن قبلكم لعلّكم تتّقون أياماً معدودات فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيامٍ أُخر وعلى الذين يُطيعونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون * شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبِّينات من الهدى والفرقان، فمن شَهِد منكم الشهر فلْيَصُمه و من كان مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيام أُخر يريد الله بكم اليُسر ولا يُريد بكم العسر ولتُكملوا العدَِّة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } ، ثم تأتي آية الدعاء .. ثم يُواصل أحكام الصيام ..القرآن العظيم فيقول :
{(1/58)
أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ الى نسائكم هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنَّ ، عَلِم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ... } البقرة / 187.
فلِمَ ذلك ؟.
قيل : هو التلوين في الخطاب ، فكما أنّ الله ( لوَّنَ خطابه عن طريق الأنبياء ، فإنّه يُلوِّنَه مع النبي الواحد أيضاً ، فهذا القرآن ، هو مُعجِزٌ بلفظه ومعناه . أنظر الى السنة النبوية الكريمة ، فستجد سنةً موحى بمعناها واللفظ للرسول ( ، وهي على ضربين :
? حديث نبوي .
? وحديث قدسي .
فكما أراد الله لسنّة نبيِّه ( التلوين ، كذلك لوّن ( خطابه الواحد أيضاً ... و المثال قريب . وكل ذلك لدفع السأم والملالة عن : عبيده ..!!.
ألم يخلق لهم من المأكولات ما تشترك بالتلذذ به كل الحواس ؟ .
ألم يعدِّد ملامسها ، وكذا عدّد ألوانها ، وعدّد روائحها ، وعدّد مذاقاتها ، وعدّد أصوات هضمها ، ثم عدّد ( سُبل هضمها .
فهل رأيت سيداً يتعامل مع عبيده هكذا ؟ !! .
هو [ تدليل ] من السيِّد للعبد ، وأغلب العبيد عن ذلك غافلون !!.
نعود إلى [ الدعاء ] ... فهو في اللغة مصدر مأخوذٌ من :
دعا بالشيء : دعوا ً، ودعوةً ، ودعاءً ، ودعوىً .
ودعا بالشيء : طلب إحضاره .. يقال دعا بالكتاب والدواة .
ودعا فلاناً : ناداه ..
يقول تعالى:
{ لا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء بعضكم بعضاً ..} النور/ 63.
ودعا بفلان : سمّاه به .
ودعاه لفلان : نسبه إليه .
ودعا الشيء : حثّ على قصده ، فيقال .. دعا الى القتال ، ودعا إلى الصلاة ، ودعا الى الدين .
ودعا القوم : طلبهم ليأكلوا عنده .
والداعي : السبب ، و يسمى [ الداعية ] أيضاً للمبالغة ، تقول الداعي إلى الصوم هو الامتثال والطاعة ، والداعية الى العبادة مرضاة الله .
والداعية : الذي يدعو الى دين ، أو فكرة.. و الهاء للمبالغة .
والداعية : المرأة التي تدعو الى نفسها ، وقد عرفت بالفساد !!.(1/59)
والدعاية : الدعوة الى مذهب أو فكرة أو دين ، فعن المصطفى ( في رسائله الى ملوك الأرض في عصره ، ورد في خطابه ( لبعضهم قوله:
{ أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ... }.
ودعا : رغب إليه ، وأبتهل ، فيقال .. دعا الله راجياً منه الخير .
ودعا لفلان : طلب له الخير .
ودعا على.. : طلب له الشر .
والدَّعاء : الكثير الدعاء .
وفي الشرع : الدعاء والقنوت ، بمعنىً .
فالقنوت : خفوت فيه دعاء .
و الدعاء : الطلب بتذلل وخضوع .
والدعاء يكون في :
? الخوف والرجاء .
? والرغبة والرهبة .
يقول تعالى :
{ وزكريَّا إذ نادى ربًّه ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين* فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات و يدعُونَنَا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين } الأنبياء / 89 و 90.
ويقول تعالى :
{ ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعونِ خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين } الأعراف / 56 .
ويقول تعالى :
{ تتجافى جُنُوبُهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} السجدة / 16 .
وقد نزلت آية الدعاء المتخللة بين آيات الصوم ، حين سئل الرسولَ ( من بعضِ أصحابه ، عن الله ( : { أقريبٌ ربَّنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ } فأجابهم إنه قريب لمن استجاب له ، ومجيب دعوة المستجيب لربه . وإجابة الدعوة هي وعدٌ من الله بقضاء الحاجة ، وناهيك به وعداً .
ومن شروط الإجابة ، التي يقول عنها الله تعالى { لبيك يا عبدي } :
1.ألاّ تكون في إثم .
2. ولا في قطيعة رحم .
والإجابة غير مخصوصة بالمطيع ، بل الطاعة أرجى في الإجابة ، دون أن يُحْرَم من الرحمة غيرُ المطيع ، فكرَمُ الله يعمُّ ، ما لم تكن الدعوة في إثمٍ ، أو في قطيعة رحِم .
والأرجى في الإجابة إذا كانت الدعوة في :
? الأماكن المخصوصة .. مثل : مكة ، وعرفات ، والمزدلفة .
? والأزمنة المخصوصة .. مثل : رمضان ، ويوم عرفة .(1/60)
? والكيفية المخصوصة .. : وهو اليقين بالإجابة .
وقد : تتخلف الإجابة مطلقاً ، وقد تتخلف الى حين ، والمسلم عليه أن يتحرى موضع الخلل ، عند تأخر الإجابة ، ولا يقنط من رحمة الله .
إنّ الدعاء يكون من الله وحده ...
{ أليس الله بكافٍ عبده ويُخوِّفونك باَّلذين من دونه ومن يُضلل الله فما له من هاد } الزمر/ 36 .
فإذا كان الدعاء من الله دون غيره ، فالإجابة منه لا محالة.. يقول تعالى:
{ أمََّن يُجيب المضطرَ إذا دعاه ويكشِفُ السوءَ ويَجْعَلَكُم خلفاءَ الأرض أ إله مع الله قليلاً ما تَذَكَرون } النمل / 62 .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ ... ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلَّهم يتقون } البقرة / 187.
المعنى اللغوي لكلمة [ عَكَفَ ] ومشتقَّاتها هو :
عكََف : بمعنى أقام ، واحتبس ، ولزم مكانه ، ولبث .
فالاعتكاف : الاحتباس ، و اللزوم مطلقاً .
والمُعتكَف : محل الاعتكاف.
********
وفي الشرع : هو لبث مخصوص ، في مكان مخصوص .
فاللبث المخصوص : هو الإحتباس عن كثير من المباحات ، كقربان النساء ، والمفطِّرات من الأكل والشرب ، فإنَّ الله ( خاطب الصائمين في آيات الصيام بالاعتكاف ، فلذلك ..
قالوا : لو لم يكن الصوم من شروطه ما خاطب الصائمين به ، ولجعله في موضع آخر.
وقالوا: لا يكون الاعتكاف أقل من يوم ، لأن الصوم لا يكون أقل من يوم .
وهناك من قال : لا يشترط الصوم ، ولا المدة .
قلت : وهو أيسر في نوال الأجر، وعدم حرمان من أراد الإعتكاف بعض يوم ، ولو من غير صوم .
ومن شروط اللبث : النيّة ، لأنها تفرق بين العادة والعبادة .
********
أما المكان المخصوص : فهو المسجد .
يقول تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوْا على قوم يعكفون على أصنامٍ لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } الأعراف / 138 .(1/61)
و يقول تعالى :{ إنَّ الذين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد .. } الحج / 25 .
أي : المقيم ، والطارئ ، في القدوم الى بيت الله الحرام .
وفي القرآن الكريم مواضع أخرى تدل على أنّ [ الاعتكاف ] : هو الإقامة ، والاحتباس ، واللبث مطلقاً من أي نوع كان ، ولأي سبب .
ولفظ الاعتكاف الوارد في النصوص الشرعية ، والمتعلق به الحكم، هو : على وزن [ افتعال ] . والوزن يدل على إيجاد الفعل بعد إذ لم يكن .
وعدم الوجود يعني به : العدم الواقعي ، لا العدم الشرعي ، فالشرع لم يأمر به وجوباً ، والمرء يُلزم به نفسه تطوعاً . فمن الشرع مجرد الإباحة ، والإيجاد من العبد .
وذلك بدليل.. قوله تعالى:{ ... . وأنتم عاكفون في المساجد ... } .
وكذا قوله تعالى :{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا الى إبراهيم وإسماعيل أن طهِرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركع السجود } البقرة / 5 .
و قال قوم : لابد من مسجد جامع ، ليصُحَّ الإعتكاف .
لقوله ( : { كل مسجد له إمام ومؤذن يُعتكف فيه } .
أمّا المرأة : فتعتكف في مسجد بيتها .
********
ولا يخرج المرء من معتكفه إلاّ :
لقضاء الحاجة .. أو .. لأداء صلاة الجمعة .
? فالأولى : ضرورة ، ولذلك لا يجاوز فيها موضع الضرورة ، فلا يتكلم بكلام الناس ، و لا يزيد عن ذهابه وإيابه ، و تجديد وضوئه.
? الثانية : فرض ، وبالفرض تُتركُ السنة المؤكدة ،هُديت لكل خير. وحين ذهابه وإيابه لا يَفسد اعتكافه ، ولا ينقطع بهذين الأمرين ، إذا لم يفعل ما زاد عليهما من غير ضرورة ، كقتل دابة تؤذي ، أو ما ييسر له مهمته ، من غير مجاوزة للحاجة والضرورة .
********
ويجوز الاعتكاف في كل العام ، إلاّ في العيدين .(1/62)
وأفضله العشر الأواخر من شهر رمضان ، وهو فعله ( ، والتأسي به ( أفضل . ولأن الإعتكاف ذُكر في آيات الصيام . وكان بحث أمر الإعتكاف دوماً ملحقاً بالصوم .
********
و يكره للمعتكف : السكوت ، لأنه فعل المجوس .
فقد نهى رسول الله ( عن : صوم الصمت .
********
ويحرم علي المعتكف : الجماع و دواعيه .
لقوله تعالى : { ولا تُباشِرُوهن وأنتم عاكِفُون في المساجد .. } .
ودواعي الجماع : هي مقدماته من .. كلام ، ولمس ، وقبلات ، ... وغيرها . فكلها تحرُم على المعتكف ، لأنها تؤدي الى الحرام في حق المعتكف ، والقاعدة تقول : [ للوسائل حكم المقاصد ] .
وهذه قاعدة جليلةٌ جميلةٌ ، يحتاجها المسلم كثيراً ، وعليه أن يعرف تطبيقاتها وهي كثيرة في حياته .
فالنظر مباح ، فإذا كان إلى محرّم كان حراماً ، و إذا كان للتفكر في خلق الله ، فهو واجب ، وإذا كان للخطبة فهو سنة ، ... . وهكذا .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{ ولقد نعلمُ أنَّك يضيق صدرك بما يقولون * فسبِّح بحمد ربِّك وكن من الساجدين * واعْبُد ربَّك حتى يأْتِيَكَ اليقين } الحجر/ 97 إلى 99 .
الصلوات أنواع :
1. فمنها المفروضة ... . وهي نوعان :
أ. فرض عين : وهذه تجب على كل : مسلم ، بالغ ، عاقل ، قادر على أدائها ، إذا بلغه خطاب الشارع الحكيم الموجِب لها . وهي الصلوات الخمسة المفروضة .
ب. فرض كفاية : وهي التي إذا قام بها البعض سقطت عن الآخرين ، و إذا تركها الجميع أثموا جميعاً . كصلاة الجنازة .
والصلوات المفروضة قد تكون : صلاةٌ في حالة الخوف وهي صلاة المحاربين ، أو صلاة اطمئنان وهي صلاتنا الاعتياديّة .
أو صلاة جماعة ، وصلاة فرد ، وغيرها من الأوصاف .
وإنما سمّيناها مفروضة من جهة قوة طلبها ، لا من جهات أخرى .
2. ومنها الصلوات المسنونة .. وهي أنواع :(1/63)
? السنن الرواتب : أي التي تتكرر برتابة ، وسمِّي الراتب راتباً ، لأنه يتكرر ... وأعدادها ، وأنواعها [ قبليّه ] ، [ وبعديه ] ، معروفة .
? صلاة الاستخارة : وهي أن يصلي الإنسان ، و يدعو الله ( قبل أن يقدِم على أمر مهم له وجهان أو أكثر ، ليجعله الله مختاراً لما ينفعه.
وأحسن ما ورد فيها، دعاء سيدنا أبي بكر الصديق ( :
اللهم أخِرْ لي ، واخْتَر لي .
ثم ُيُلهم المرءُ ما يفعل ، فيلزمه أن يعزم ، ولا يتردد .
وفي الإلهام وأنواعه ، وتفصيل حكمه ، يُراجع كتابنا : كشف اللثام وبلوغ المرام في قوله تعالى ..ويُنَزِّلُ الغيث ويعلم ما في الأرحام .
? صلاة الإشراق : وهي ركعتان بعد شروق الشمس وارتفاعها قدر رمح في السماء ، وهو وقت صلاة العيد .
? صلاة الضحى : وهي ما يصلى في الضحوة الكبرى ، أي بعد ربع النهار. والمسنون فيها أربع ركعات ، و قد تزداد بحسب نشاط المتطوع ، ووقته .
? صلاة الأوابين : وهي ست ركعات بعد المغرب ، بتسليمةٍ واحدة ، أو بتسليمتين ، أو بثلاث تسليمات .
أي : يجوز أن تُصلى مثنىً مثنىً ، أو ثلاثاً ثلاثاً ، أو ستاً مجتمعة .
قال رسول الله ( : { من صلى ست ركعاتٍ بعد المغرب قبل أن يتكلم ، غُفر له ذنوب خمسين سنة } .
? صلاة التراويح ، أو القيام : و قد فصلناها بحلقة مستقلة .
? صلاة الليل : في غير رمضان ، وهي نوعان : فما كان منها قبل النوم فهي : [ صلاة الليل ] ، وما كان منها بعد النوم فهي: [ تهجُّد ] .
? صلاة الرغائب : وهي ما تُصلى في أول ليلة جمعة من رجب ، وتصلى منفردة .
? صلاة الحاجة : وهي ما تُصلى لطلب قضاء الحاجة .
? صلاة الشكر : وهي ما يتطوع به المرء عندما ينال نعمة من الله 0
? صلاة الآيات : و هي عند حدوث : كسوف الشمس ، وخسوف القمر، أوالزلازل ، أو أية نازلة .(1/64)
والأولى أن تصلى صلاة الكسوف جماعة لأنها في النهار ، وصلاة الخسوف فردية ، لما في جمع الناس من مشقة . اللهم إلاّ إذا كان هناك إعلام سابق لهم ، فحضروها ، فلا مشقة حينئذ ، وخاصة في أزماننا.
? صلاة الاستسقاء : وهو ما يُصلى عند احتباس المطر ، فبعضهم أجازها جماعة ، وبعضهم فردية ، والكل أجازوا الخروج إلى ظاهر البلد ليلاً ، للدعاء لأجل طلب [ السُقيا ] أي : المطر .
? وأخيراً صلاة التسابيح : و هي أربع ركعات ، إمَّا بتسليمةٍ واحدةٍ ، أو بتسليمتين . أي يجوز أنْ تُصلى مثنىً مثنىً ، أو أربعاً متصلة .
وتصلى جماعةً أو فردية ، ويأتي فيها المصلون بثلاثمائة تسبيحةٍ ، يأتون في كل ركعة بخمسٍ ٍوسبعين تسبيحةً .
وما ورد فيها هو : ما رواه عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، أن رسول الله ( قال لعمِّه العباس ( :
{ يا عباس ، يا عمَّاه ، ألا أُعطيك ، ألا أمنحُك ، ألا أحبوك ، ألا أفعل بك عشر خصال ، إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوَّلَه وآخِرَه ، قديمَه وجديدَه ، خطأَه وعمدَه ، صغيرَه وكبيرَه ، سرَّه وعلانيتَه ، عشر خصالٍ : أن تصلي أربع ركعات ، فإذا فرغت من القراءة وأنت قائم قلت : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا أله إلا الله ، والله أكبر، خمس عشرة مرة ، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً ، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً ، ثم تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً ، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً ، ثم تسجد فتقولها عشراً ، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً.فذلك خمس وسبعون في كل ركعة ، وفي ركعتين مائة وخمسون ، وفي الأربع ثلثمائة } .
[ راجع : ابن ماجة / إقامة الصلاة / 1377 ، وأبو داود / الصلاة / 1105 ] .(1/65)
و التسبيحات هي : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وفي آخر كل مجموعة منها يزيد : ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وتصلى جماعة بعد التراويح وقبل الوتر ، وأفضل أيامها العشر الأواخر .
والناس - والحمد لله - يُصلونها في العشر الأواخر من شهر رمضان ، فترى المساجد تعجّ بالتسبيح فيهن ليلاً ، والويل لمن أقفرت مساجدهم ، أو اتُّخِذَت للهْوِ الحديث ، والله حسبهم .
والحمد لله رب العالمين .
يقول تعالى :
{ إنّا أنزلناه في ليلة القدر * و ما أدراك ما ليلةُ القدر * ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألف شهر* تَنَزّل الملائكةُ والروحُ فيها بإذن ربِّهم مِنْ كلِّ أمر * سلامٌ هي حتى مطلع الفجر } سورة القدر .
ويقول تعالى : { حم ، والكتاب المبين ، إنّا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنّا كنا منذرين فيها يفرقُ كلُّ أمرٍ حكيم ، أمراً من عندنا إنّا كنا مرسلين ، رحمةً من ربك إنّه هو السميع العليم } الدخان/ 1 إلى 5 .
القَدْر : المنزلة ، في لغة العرب .
فليلة القدر : هي الليلة ذات المنزلة العظيمة .
أمَّا قَدَرَ : فهي ضيَّق .
********
أكثر المسلمين على أنَّ [ ليلة القدر ] هي في رمضان ، واختلفوا فيها : فالأكثر على أنها ليلة السابع والعشرين ، وفي الحديث الشريف ، عن عائشة ( :{ تحرّوُا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان} .
[ راجع : البخاري / صلاة التراويح /1880 وفي الحديث / 1878 بزيادة : في الوتر من العشر..]
فالأكثرون على : أنَّها في العشر الأواخر .
والأكثرون على: أنَّها في الأوتار منها .
والأكثرون على: أنها في ليلة السابع و العشرين .
********
ولماذا أُخفيت هذه الليلة عنّا ؟ .. لذلك حِكمٌ .
والحكمة هي : الفائدة العمليّة التي تتحصّل من الحكم ، وهذه بعضُها :
1. لنتحرّاها .. وفي هذا لذة الوجود .(1/66)
2. ولنتحراها .. وفي ذلك لذة النشاط غير الاعتيادي الذي يبذله المرء بشوق ولهفة ، منتظراً به أشياءَ كثيرةً .
3. ولنتحراها .. وفي لذة إظهار الطاعة والصدع بأمر الله ، لا بصفة مستمرة اعتدناها ، بل بصفة استثنائية ، فقد يسهُل على النفس من الأعمال ما اعتدناه ، وفي الطاريء مزيد أجرِ .
4. وهي .. سبب للاعتياد على كثرة العمل ، على سبيل المواصلة .
5. وفيها .. ربط للمكلفين بأحكام دينهم ، وبربِّهم ، بتعددٍ ظاهرٍ نلمسه في هذه الشريعة الغرّاء ، وفي كلّ مناسبة متيسِّرة . فالجُمَع ، والجماعات ، والعيدين ، والحج ، ... الخ ، هي وسائل وضعها الشرع الشريف للربط الدائم ـ فضلاً عن الجانب العِبادي ـ ، وهو أمر معروف نفعه وحكمته.
إنّ في كل ذلك دروس وعِبَر لنا ، ولمن يتفكر فهناك المزيد .
ولا يقلِّل من شأنها خفاؤها . يقول الشاعر :
ليس الخفاء بعارِ على امرئ ذي جلال
فليلة القدر تخفى وهي خير الليالي
وأماراتها : فهي إنْ كانت لا تُعرف يقيناً ، فقد ورد بعض أماراتها وعلاماتها ، هي أن تكون ليلةً :
بلجةٌ ، صافيةً ، ساكنةً ، لا حارةً ولا باردة ، كأن فيها قمراً ساطعا ،ً ولا يُرمي فيها بنجمٍ حتى الصباح .
وقيل : يحصل هذا في ليلة قدرٍ بذاتها ، لا نعرفها .
********
ولماذا سميّت بهذا الاسم ؟.. فيه أقوال :
1. قالوا : لأن الله أنزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا ، ثم أنزله على محمد ( ، في ثلاثة وعشرين عاماً .
فهي .. ليلة الشرف ، وليلة القدْر .
2. وقالوا : سميّت بذلك ، لأن الملائكة تنزل الى الأرض لتَبُرُّ وترحم مَنْ في الأرض ، فتضيق بهم لكثرتهم .
فهي .. قَدَرَ بمعنى ... ضاق .
3. وقالوا : هي ليلة التقدير، لما روي عن ابن عباس ( قوله : أنه يُقدّرُ فيها ، ويُقضى ما يكون في تلك السنة من : مطرٍ ، ورزقٍ ، و إحياءٍ ، وإماتةٍ ... . الى السنة القابلة .(1/67)
فهي .. يتم فيها إظهار ذلك للملائكة الموكّلين بالأعمال ، ليعملوا على مقتضاه ، و إلا فكل ذلك مقدَّرٌ من قبل .
********
وقيام هذه الليلة ، وصيام يومها خير من ألف شهر .. وهي تعادل ثلاثاً و ثمانين سنةً و ثلثاً !!!.
لقد كانت الأمم السابقة تعمِّر في أعمارها ، وأعمار أمّة محمد ( ، ما بين الستين الى السبعين ، كما أخبر الصادق المصدوق ( ، فعوّض الله الطائعين منهم أعمالاً صالحة ، ولو لم تمتد أعمارُهم !!!.
وتفضلّ الله على العُصاة إذ لم يمدّ في أعمارهم حتى لا يزدادوا إثماً !!!.
ففضلُ الله على أمة محمد ( المبعوث رحمةً للعالمين كبير، وأوجه رحمته بنا كثيرة ، منها :
1. جعل الحج سبباً للتوبة ، ومحو الذنوب .
2. ومضاعفة الأجور .
3. والإثابة على النية ، وسبق تبيان ذلك تفصيلاً ، فراجعه .
4. وليلة القدر .
وغير ذلك كثير ، لسنا في معرض إحصائه .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :{ شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان ... } البقرة / 185 .
تأتي لفظة [ نَزَل ] ، ومشتقاتهاـ في العربيّة ـ بمعانٍ عدة ، أهمها :
نزل بمعنى : حلَّ ، تقول : نَزَل بهم ، و نَزَل عليهم ، ونَزَلَهم ، كلُّها بمعنى .. حلّ بهم .
واستنزله ، وأنزله ، وتنزّله ، ونزّله منزلاً .. كلُّها بمعنى : أحلّه آخر بينهم .
والطعام ذو البركة هو : كالنزيل ، وهكذا .
والمكان الذي يحل به الضيف هو : النُزُل .
أمّا في القرآن الكريم ، فقد استُعمِلت بمعانٍ عدّة ، أهمها :
? 1. بالمعنى المتقدم في اللغة . وذلك في مواضع عديدة منها :
قوله تعالى : { إنّ الذين قالوا ربُنّا الله ثمّ اسْتَقاموا تَتَنَزَّلُ عليهم الملائكة إلاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبْشروا بالجنَّة التي كنتم توعدون..} فصلت/ 30 .
وقوله تعالى في ليلة القدر :{ تَنَزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربِّهم من كل أمر } القدر/ 4 .(1/68)
وقوله تعالى : { وبالحق أنزلناه وبالحق نَزَل وما أرسلناك إلاً مبشِّراً ونذيرا ، وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مُكثٍ ونزلناه تنزيلا } الإسراء/105 إلى 106 .
ويأتي الإنزال ، بمعنى : المنزل ، لأجل الإنعام ..
في قوله تعالى : { لكنّ الذين اتقوا ربّهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نُزُلاً من عند الله وما عند الله خيرٌ للأبرار}الإنعام/ 198.
وقوله تعالى : { إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جناتُ الفردوس نُزُلا ، خالدين فيها لا يبغون عنها حولا } الكهف / 107و 108 .
وهناك مواضع أخرى غيرها .
? 2. ويأتي [ الإنزال ] في : المنزل ، للدلالة على سوء المصير ، وللعقاب تهكماً بالكفار. في ..
قوله تعالى : { أ فحسب الذين كفروا أنْ يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنّا اعتدنا جهنم للكافرين نُزُلا } الكهف / 102.
? 3. ويأتي [ الإنزال ] بمعنى : الخلق ، والإنشاء ، كما في ..
قوله تعالى : { و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج .. } الزمر/ 6 .
وقوله تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس..} الحديد/ 25.
وذلك لأن أمر الله ينزل من السماء الى الأرض بخلق ما ذكره الله تعالى في كتابه ، فكأنه أنزل ما أمر بخلقه حقيقةً .
? 4. ويأتي [ الإنزال ] بمعنى : المنّ ، والهبة للبشر، في ..
قوله تعالى : {..يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يُواري سوءآتكم وريشاً ولباسُ التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذّكّرون } الأعراف/26 .
? 5. ويأتي [ الإنزال ] بمعنى : التعليم في ..(1/69)
قوله تعالى : { واتَّبَعُوا ما تتلوا الشياطينُ على مُلك سليمان وما كَفَرَ سليمانُ ولكنّ الشياطينَ كفروا يعلّمون الناسَ السحرَ وما أُنزل على الملكين ببابلَ هاروتَ وماروتَ وما يعلِّمان مِن أحدٍ حتى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تَكْفُر فيتعلمون منهما ما يُفَرِّقون بين المرءِ وزوجهِ وما هم بضارِّين به من أحدٍ إلاّ بإذن الله ويفعلون ما يضرّهم ولا ينفعهم ... } البقرة / 102 .
? 6. ويأتي [ الإنزال ] بمعنى : البرهان ، في.. قوله تعالى :
{ إنْ هي إلاَّ أسماءٌ سمَّيْتُمُوها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان..} النجم / 23 .
أمَّا : المعنى الذي جاء مقترناً بذكر القرآن الكريم ، في ثنايا القرآن الكريم ، فأهمّه ما ورد في فضل رمضان ، إذ عنه.. قال تعالى :{ شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان ... } البقرة / 186 .
والمفسرون على رأيين :
الرأي الأول : أنّ [ فيه ] ظرفيَّة خلال [خلال] رمضان ، وفي ذلك أقوال :
1. بدء نزوله على النبي ( كان في رمضان .
2. أنّه أُنزل جملة من [ اللوح المحفوظ ] ، إلى [ بيت العِزَّة ] في السماء الدنيا . وهؤلاء يقولون أنه كان في ليلة القدر .
الرأي الثاني : أن [ فيه ] بمعنى : لأجل ، أو بمعنى : [ عن ] ، فالمعنى :
شهر رمضان الذي أنزل الله لأجله قرآنا، أو انزل عنه قرآنا .
وعلى هذا الرأي ، أو على الرأي الذي قبله ، يكن المعنى أنّ الإنزال في رمضان كان الى السماء الدنيا ، فإنّ ما رُوي من أن بدء الوحي الى سيدنا محمد ( في غير رمضان ، يكون مستقيماً ، مفهوماً ، ولا تعارض فيه .
ومع كل هذا فشهر رمضان هو شهر القرآن
والحمد لله رب العالمين .
يقول تعالى : { قد أفلح من تزَّكى * وذكر اسْم ربه فصلَّى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خيرٌ وأبقى } الأعلى / 14 - 17 .
الصدقة : الصدق ، وهو معناها في اللغة .(1/70)
فطيب النفس بالإعطاء مصدِّق لمن آمن ، و تصدق ، وصلّى . فليس سهلاً على المنافق أن يدفع مالاً بلا مقابل ، فإن احتمل الأفعال الأخرى ، فلا يصدِّقه في دعوى الإيمان ، إلاَّ [ الصدقة ] ، ولأجل ذلك قال المصطفى ( :
{ الطُهُور شطرُ الأيمان ، والحمدُ لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ... } .
[ راجع : مسلم / الطهارة / 328 ، والترمذي / الدعوات /3439 ، والنسائي / الزكاة / 2349 ، والدارمي /الطهارة /65 ، وأحمد / مسند الأنصار/21828 ، وابن ماجة / الطهارة /276 ، ببداية مغايرة ، وهي : إسباغ الوضوء..] .
وفي الشرع : هي العطية التي تُبتَغى بها المثوبة من الله .
فهذه العطية بدون مقابل مادي .. و لكن لأجل ابتغاء رضا الله ( .
إنّ الهدية بدون مقابل أيضاً ، ولكنها تكون :
للتودُّد ، والتحبُّب ، وللإكرام .
فالصدقة يُقصد بها : العون والمساعدة ، وسدِّ الخَلَّة ، لذلك جاز فيها السرُّ ، والستر ، وعدم إظهار شخص المتصدق .
أما في الهدية فبالعكس .. حيث يستحب الإعلان [ للمُهدى له ] ، ومعرفة [ المُهدي ] لكي تكون مودّة ، وتنشأ محبة ، وتُزال جفوة ، أو تتمتَّن علاقة ، وإلاّ لَما قام بذلك الإعطاء كله .
نعم .. قد يُهدي الإنسان امتثالا لقوله ( : {تصافحوا يذهب الغلُّ ، وتهادوُا تحابُّوا وتذهب الشحناء } .
[ راجع : موطأ مالك / الجامع /1413 ] .
فلا يعني أنّ ذلك يجعل الهدية صدقة ، إذ فيها ما ذكرنا ، ومع نيَّة طاعة الله ورسوله ( ، يكون للمُهدي أجرا ، فافترقا ، وإلاّ كان كلُّ إعطاء صدقة !!!، ولا يُقبل مثل هذا الكلام .
إذن : الزكاة ... ... ... .. صدقة
والنَذْر ... ... ... ... صدقة
إنّ أحكام الهبة تطبق على الصدقة ، إلاّ في الرجوع .. إذ لا رجوع في [الأجر ] .(1/71)
ويشترط في الصدقة [ القبض ] كالهبة ، وعلى هذا هدايا الزوجين ، والخطيبين ، فلا تُطبق عليهما أحكام الصدقات ، وإن نوى أحدهما في فعله الإمتثال ... فلا تُحتسب من الصدقة .
فالصدقات إذن أنواع :
? 1. فمنها الزكوات ، فكلّ زكاة صدقة ، وبعض الصدقات زكوات ، فالزكاة المفروضة سمّاها الله [ صدقة ] .. في قوله تعالى :
{إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل..} التوبة / 60 .
فزكاة الفطر تُسمى أيضاً : بصدقة الفطر .
? 2. وبعض ما يُطالب به المرء يُسمى : [ صدقة ] ، وليس مفروضاً على المكلفين كافة ، كما في.. قوله تعالى :
{ ... ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك } البقرة / 196 .
فالصدقة هنا : الفدية ، وهي ليست كالزكاة التي في الأموال والزروع والأنعام ، أو زكاة الفطر .
? 3. والتنازل عن الحق يسمى [ صدقة ] ، يقول تعالى : { وإن كان ذو عُسْرةٍ فنَظِرَة الى مَيْسرة وأنْ تَصَدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}البقرة / 280
وقوله تعالى : {.. ودِيَةٌ مسلَّمةٌ إلى أهله إلاّ أن يَصَّدَّقوا ... } النساء / 92.
? 4. والتسامح قد يسمى [ صدقة ] ، ورد ذلك لسان أخوة يوسف في ..
قوله تعالى : { فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضُّرًّ وجئنا ببضاعة مُزجاة فأوفِ لنا الكيلَ وتصدّق علينا إنّ الله يجزي المُتصَدِّقين } يوسف / 88 .
وصدقة الفطر تُعطى عيناً ، بنص الحديث الذي يقول :
{ أدُّوا عن كل حر وعبد،صغيرأ أو كبيرا،صاعاً من بُرٍّ ،أو صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعير. وفي رواية : أو صاعاً من زبيب } .
وجوَّز الإمام أبو حنيفة النعمان ( إعطاء القيمة ، لكونها أنفع للفقير .
والأصل فائدة الفقير ، ففي مثل أزماننا المواد العينية ، أفضل وفي أزمنة مرت كان دفع النقود أنفع ، فانظر فائدة الاختلاف .
ويجوز أن تُعطى من طحين الحنطة ، فهو أيسر ، وأنفع ، وأجود .(1/72)
وفي المقدار وزمن الإخراج كلام نتركه لإمام الحيِّ أو البلد .
أمَّا سبب وجوبها : فشهود المسلم للشهر حياً .
وتُدفع عن : إنسان ، مسلم ، حراً أم عبداً ، صغيراً أم كبيراً .
وشرطها : أن يجد مقدار النصاب فاضلاً عن حوائجه ، من غير حولان الحول .
فبعض الناس : تعطي ولا تأخذ ، كالأثرياء .
وبعض الناس : تأخذ ولا تعطي ، كالمساكين والفقراء .
وبعض الناس : قد تأخذ وتعطي ، فإنها تأخذ الزكاة العاديّة ، إن لم يملك وقت إعطائه منها نصابها ، ويعطي زكاة الفطر إن كان يملك وقت إخراجها قيمة نصابٍ من مجموع ما بحوزته من موجودات ، وإن لم تكن زائدة عن حوائجه ، فتدبر هذا جيِّداً .
وبعضهم : لا يأخذ ، ولا يُعطي ، فما عنده من نصاب لا يزيد عن حوائجه .. فلا يعطي ، وهو لا يأخذ ، لأنه يملك نصاباً .
وهي مشروعة :
1. لإدخال السرور الى قلب الفقير في ليلة العيد .
قال نبيُّنا عليه السلام : { أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم } .
ولذلك وجب إخراجها قبل العيد .
2. ولجبر ما يكون قد وقع من خلل في الصوم ، من :
كلام ، أو نظر ، أو غيرهما ، مما لا يوجب القضاء .
ويفضل الإعطاء للقريب المحتاج . وتُعطى من أفضل الأنواع ..
لقوله تعالى : { لنْ تنالوا البِّر حتى تنُفقوا ممّا تُحبون } آل عمران / 92 .
والحمد لله ربِّ العالمين .
يقول تعالى :
{.. ولتُكملوا العدَّة ولتُكبِّروا الله على ما هداكم ولعلَّكم تشكرون } البقرة / 185.
ويقول تعالى :
{ قد أفلح من تزَكَّى ، وذكر اسم ربّه فصلّى } الأعلى/ 14إلى15.
لقد دلَّت هاتان الآيتان ، على أنّ ترتيب الأمور المطلوبة من المسلم في أُخريات رمضان ، هي :
1. تربًّص إكمال العدة : أي إكمال عدد أيام الصوم بحسب الشهر، تسعٍ وعشرين ، أو ثلاثين .
2. ثم : دفع صدقة الفطر ، قبل البدء بتكبير التشريق .
3. ثم : التكبير المسمى .. بتكبير التشريق .
4. ثم : أداء صلاة العيد .(1/73)
وإكمال العدة يتعلق بالرؤية الشرعية ، وقد عرفنا معناها في بدء هذه السلسلة من المصطلحات.
وأما صدقة الفطر ، فقد عرفناها في الحلقة السابقة .
بقي أمران .. نتكلم عن أحدهما في هذه الحلقة . وعن الأخر في الحلقة القادمة إن شاء الله .
أحدهما التكبير : وهو ذكر لفظة [ الله أكبر ] . فهي تكبير الله ، أي وصفه الكُبْر ، و الصيغة تدل على حصول أصل الفعل مرة بعد أخرى ـ أي التكرير ـ .
وثانيهما التشريق : فهو مصدر الفعل [ شرّق ] .
وهو : تقطيع اللحم ، بجعله قِطعاً خفيفة يُوضع معها الملح، ثم تُعرّض الى الشمس فتجف ، وحينئذٍ تُسمى : [ قديداً ] .
وهذا ما يفعله أهل [ منى ] في الأيام المسماة [ بأيام التشريق ] .
********
إنّ أيام الحجِّ في أيامه ، هي الآتي :
? 1. فاليوم الثامن من ذي الحجّة ، هو : يوم التروية .. وذلك لقيامهم بملأ قربهم من الماء فيه .
? 2. واليوم التاسع من ذي الحجة، هو : يوم عرفة .. وذلك لوقوفهم على صعيد عرفات فيه .
? 3. واليوم العاشر من ذي الحجة ، هو : يوم النحر .. وذلك لقيامهم بنحر الأضاحي فيه .
? 4. وأما الأيام التالية منه ، فهي : أيام التشريق .
وهي أيام : الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر .. من ذي الحجة ، وفيها يرمون الجمار ، ويكَبِّرون الله على ما هداهم إليه من المناسك ، ويتزاورون ، ويتدارسون فيه أمور الأُمّة . وهم في فرح ٍ وسرور لما أنعم به الله عليهم ... وكذا يشَرِّقون لحوم الأضاحي ليأخذ منها المحتاج إلى أهله وبلده ، ويأكل الآخرون منها ـ لأنه جائز لهم ـ ، ويتصدقون منه .
لقد سُمِيَّت هذه الأيام الأخيرة بذلك الإسم تغليباً لهذا الفعل على بقية الأفعال ، وهذا أمر اصطلح عليه الجاهليون ، فأقرّه الإسلام .(1/74)
ولمّا كانت مناسك الحج وأفعاله ممّا سنّه سيِّدُنا الخليل إبراهيم ( بعضها مأخوذٌ مما جرى له ولولده إسماعيل ( ، ومما جرى لأم إسماعيل أيضاً، فقد أصبح مسنوناً [ التكبير ] بهيئته المخصوصةٍ ، ولكل المسلمين المكلفين ، فالحجاج من باب أولى ، وسُنَّ لغيرهم أيضاً ، بعد الصلوات ، بدءً من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة ، وإلى ما بعد صلاة العصر من ثالث أيام التشريق .
وهو مسنون لمن خرج لصلاة العيد في يوم الفطر ، ولذلك ذكرناه .
********
وتسلسله يكون : بعد إخراج زكاة الفطر للقادر، وبعد صباح يوم العيد . ويُردِّده المصلي في ذهابه الى المسجد لأداء الصلاة وإن اختلفوا في الجهر به في عيد الفطر، فهم لم يختلفوا في الجهر به في أيام التشريق .
وصيغة تكبير التشريق ، هو :
الله أكبر ... .. الله أكبر .
لا إله إلاّ الله ... ..الله أكبر .
الله أكبر ... ... ولله الحمد .
أمّا أصله ، فهو :
إنّ سيدنا إبراهيم ( حين أمره ربُه في المنام ، أن يذبح ولده إسماعيل ( ورؤيا الأنبياء وحيٌّ ، فذهب به أبوه الى وادي [ منى ] ، التي يقع واديها على [ المحصّب ] أو [ الأبطح ] من مكّة المكرّمة ، وذلك تنفيذاً لما أُمر به ، ثم جاء الفداء من السماء ، وكما قصّه القرآن الكريم ..
بقوله تعالى :{ فلما بلغ معه السعي قال يا بُنيَّ إني أرى في المنام أنِّي أذبحُك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستَجِدُني إن شاء الله من الصابرين ، فلمّا أسلما وتَلَّه للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم قد صَدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين ، إنَّ هذا لهو البلاء المبين ، وفديناه بِذِبحٍ عظيم } الصافات / 101 إلى 107 .
فكيف حصل الفداء ، وما علاقة تكبير التشريق به ؟(1/75)
فحين همّ نبي الله إبراهيم ( بتنفيذ أمر الذبح ومن غير تردد ، مع تمام الاستسلام من سيّدنا اسماعيل ( ومن غير أن يتزعزع !! ، فالوحي لا يُناقَش . فقد جازى الله ابراهيم على طاعته ، واسماعيل على صبره واستسلامه ، جازاهما ربُّهما بإرسال جبريل ( ومعه الفداء ، وخشية أن يتعجّل بالذبح إبراهيم ( ، فقد حصل الآتي :
أ. نادى جبريل ـ وهو بين السماء الأرض ـ :
ألله أكبر ... الله أكبر .
ب. رفع الأب والإبن رأسيهما إلى السماء، فنادى إبراهيم :
لا إله إلاّ الله ... الله أكبر .
ج. وحين أيقن اسماعيل ( بالخلاص الذي أتاه من السماء ، نادى :
الله أكبر ... ولله الحمد .
فهذه ثلاثة مقاطع .. مقطع قاله سيّدنا جبريل ( ، والآخر قاله سيّدنا إبراهيم ( ، والثالث قاله سيّدنا إسماعيل ( .
فهذا هو تكبير التشريق ...
فالحجاج يُردِّدونه .. شكراّ لأنعم الله عليهم إذ يسّر لهم حجّهم .
والمصلون يُردِّدونه .. في أيام التشريق ... شكراً لأنعم الله عليهم .
والصائمون يُردِّدونه .. في عيد فطرهم ... شكراً لله إذ أحياهم إلى نهاية الشهر، فأتمّوا صومهم بكلِّ خيرٍ وبركةٍ .
فالحمد ( إذ يُنهي المسلمون :
ليله .. بترك المنام ! .
ونهاره .. بترك الطعام ، استجابةً لأمر الله .
وسَحَرَهُ .. بالقيام وقراءة القرآن ، مع التهليل والتكبير بين الترويحات.
ونصفه .. بصلاةٍ وتسبيح ، في التراويح والتسابيح .
وختامه .. بدفع زكاة الفطر ، وأوصلوها إلى يدِّ الفقير .
ألا يلزمنا بعد هذا كلّه التكبير ... للعليِّ القدير ؟ .
ثم يبدأون الشهر الجديد بفضل الله ( بصلاة العيد ، السعيد فيه من طلب من المولى المزيد ، وامتثل ما دعاه إليه ربُّه من الخيرات والمكرمات.{..ولتُكملوا العدّة ولتُكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون }
الله أكبر ... ... الله أكبر
لا إله إلاّ الله ... ... الله أكبر
الله أكبر ... ... ولله الحمد
والحمد لله ربِّ العالمين .
قال تعالى :
{(1/76)
قال عيسى ابنُ مريمَ ، اللَّهم أنْزِل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين } المائدة/114 .
العيد لغةً مصدر من الفعل الماضي : عاد .
وعاد : صار الى الشيء نفسُه مرةً بعد أخرى .
وعاد : قومٌ ذُكروا في .. قوله تعالى :
{ وإلى عادٍ أخاهم هودا .. } الأعراف / 65 ، وهود / 50 .
وهؤلاء قومٌ كان لهم زرع ونخيل في البادية ، ولهم أجسام عظام ، و لهم أعمارٌ طوال ، فبعث الله إليهم [ هوداً ] يدعوهم الى الإسلام ، فأبوا ، فحلّ بهم ما حلَّ . { ولو ردُّوا لعادوا لِما نُهوُا عنه .. } الأنعام / 28 .
من هنا جاءت تسميتهم ، لأنَّهم كلَّما نُهوا عادوا، وعقابهم ذكره القرآن .
وقيل : بل نسبتهم الى جد لهم اسمه [ عاد ] .
وهم قومان : الأولى .. والآخرة .
ومما يرد في معنى لفظ [ العيد ] قوله تعالى :{.. يبدأ الخلق ثم يعيده ..} ، في مواضع متعددة من القرآن الكريم . ومعناه : يُرجعه الى ما كان عليه .
أمّا قوله تعالى :
{ إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد..} القصص / 85 .
فمعناه : مُعيدك الى مكة المكرّمة .
وسُمِّيَ الحج [ معاداً ] ،لأنهم : يعودون إليه مرة أخرى .
وسُميَّت بلدة الرجل [ معاداً ] ،لأنه : يعود إليها .
وسُميَّت الآخرة [ يوم المعاد ] ، لأنها : تُعاد فيها الأجسام ، ولا معاد قبل يوم القيامة أبداً ، فاحذر من دعاوى المبطلين .
والعادة : هي الفعل المتكرر، إرادياً كان ، أم غيره .
والعائد : الذي يأتيك مرة أخرى .
فالعيد : هو يومٌ يعود .
والعيد : هو يومٌ يعود فيه الفرح والسرور .
وأعياد : الجمع ولا يُجمع على .. أعواد ، حتى لا يختلط بأعواد الخشبة .
والعيد : كل يوم مَجْمَعٍ عند العرب .
وقد جاء رسول الله ( الى المدينة فوجد لهم يومين يضربون بهما بالدُفِّ ، ويلعبون فيهما ، فقال عليه السلام : { ما هذا ؟ } .
قالوا : هذان عيدان لنا في الجاهلية .(1/77)
فقال ( : { إنّ الله أبدلكما خيراً منهما : الفطر ، والأضحى } .
********
والعيدان المذكوران يقعان في : الأول من شوال ، وفي العاشر من ذي الحجة . وكلٌّ منهما يوم واحد شرعاً ، والزائد يُعطِّل الناس فيه عُرفاً .
والدليل : أنّ صيام ستٍ من شوال ، يحرم البدء به أول شوال لأنه يوم عيد، ويجوز الصوم من ثاني أيامه .. لأنه لا يعد من العيد ، وإلاّ لما جاز صومه.
ولكل أمَّةٍ أعيادها ، ولكل أهل ديانةٍ أعيادهم .
و عيدنا .. هو : التكبير .. والصلاة .. وتبادل التهنئة .. وإدخال السرور على قلب الفقير .
والتكبير عرفناه في الحلقة السابقة ، و للمسلم أن يكبَّر وهو خارجٌ من بيته ، والى أن يعود ، ويذهب من طريق ، ويعود من غيره . وفي رفع الصوت بالتكبير خلاف ، والعمل جارٍ برفعه في الجوامع . وفي عيد الأضحى يرفعونه في الطرقات أيضاً ، وهو من شعائر الإسلام .
********
وصلاة العيد موعدها عند ارتفاع الشمس قدر رمح في السماء .
وصفتها : أنها تصلّى جماعةً مع الإمام ، ويقدِّم الصلاة على الخطبة ، عكس الجمعة .
? وفي الركعة الأولى / يكبِّر الإمام وبعده متتالياً المصلون ، فيبدأ بتكبيرة الإحرام ، ثم يكبر ثلاث تكبيرات ، ثمّ يقرأ الفاتحة وما يتيسر ، والأولى أن يقرأ سورة الأعلى في هذه الركعة .
? وفي الركعة الثانية / يبدأ بالقراءة ، ثم يكبِّر ثلاثاً كالأولى ، والرابعة للركوع .
? وتكبيرات الزوائد ، هي هذه .. فلا تغفل عن تسميتها .
? ويرفع المصلي يديه في الزوائد ، كما يرفعها في تكبيرة الإحرام .
? ويلبس المصلي أحسن ثيابه ، ويأكل شيئاً قبل الخروج الى المصلى في عيد الفطر ، ويؤخر ذلك في الأضحى ليأكل من أضحيته ، إن كان قادراً على الذبح .
? ويستحب أن يتسحّر ليلة عيد الفطر .
? ويُكره الخروج الى المقابر ، واختلاط الرجال والنساء .
? وكذلك الإنفاق الزائد من غير ضرورة ، بل يواسي الفقراء والمحتاجين .(1/78)
أعاد الله على المسلمين رمضان في كلِّ عام ، وأعاد عليهم العيد ، السعيد فيه من طلب من المولى المزيد ، و استشعر من مولاه ما يُريد ، فليس العيد لبس الجديد ، دون أن تتفقد الجيران ، والقريب ، والبعيد .
والحمد لله ربِّ العالمين .
الصفحة
المصطلح
1
? المقدمة
6
? شهر رمضان
9
? المراقبة و الرؤية
13
? الليل و الليلة
16
? الصوم
20
? الصوم الواجب وصوم النافلة
25
? الصوم الحرام او المُحرّم
28
? صوم الكراهة او الصوم المكروه
33
? الصوم المندوب
38
? شهود الشهر او المشاهدة
41
? النية
45
? الاخلاص
49
? العبادة البدنية
53
? الفجر
57
? التخفيف
60
? الترخيص
64
? عذر السفر
68
? الجواب عن التساؤل لم بقي السفر عذرا مع تقدم الوسائل؟
71
? الايام الاخر او القضاء
الصفحة
75
المصطلح
? صلاة القيام او التراويح
79
? الرفث
82
? الفدية
86
? الكفارة
89
? الدعاء
94
? الاعتكاف
98
? صلاة التسابيح
102
? ليلة القدر
106
? نزول القرآن
109
? صدقة الفطر
113
? تكبير التشريق
118
? العيد
122
? الفهرست
1. مشايخ بلخ من الحنفية وما انفردوا به من المسائل الفقهية / طبعته وزارة الأوقاف العراقية .
2. الشخصية الإسلامية وموقعها بين النظم والعقائد / الطبعة الأولى - دار البشير / عمان ، والطبعة الثانية – دار [ الراشدون ] -الموصل.
3. رفع أكف الضَّراعة لجمع كلمة أهل السنة والجرعة / طبع على الآله مع التصوير.
4. الزكاة ومصرف [ في سبيل الله ] والدعوة الإسلامية وتأسيس البنوك الإسلامية / مقدَّم إلى المجمع الفقهي الهندي ـ طبع على الآلة مع التصوير.
5. المرة والتكرار في نصوص الأوامر الشرعية / مستل من مجلة المجمع العلمي العراقي لسنة 1997.
6. نثار العقول في علم الأصول / مطبوع على الآله مع التصوير.(1/79)
7. كشف اللثام وبلغ المرام في قوله تعالى : [ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ] طبع مطبعة الخنساء / بغداد / 1999 .
8. العقل والنفس والروح / مخطوط .
9. مكانة الحرب العربي في الإسلام / مخطوط .
10. البهره من الفرق الإسماعيلية / مخطوط.
11. الخوارق في الشريعة الإسلامية [ بحث في الباراسايكولوجيا الإسلامية ] / مخطوط .
12. الصحوة الإسلامية والدعوة الإسلامية / مخطوط .
13. بيع الحقوق والمنافع / مخطوط .
14. قراءة قانونية في سورة يوسف / مخطوط .
15. توازن التبعات في الشريعة الإسلامية / مخطوط .
16. الإيضاح والبيان الظهوري على التسهيل الضروري لمسائل القدودي / مطبوع من قبل دار الكتب في بغداد عام 1999 .
17. شرح وصية الإمام الأعظم لتلميذه القاضي أبي يوسف ، في [ آداب العالم والمتعلم ] / مخطوط .
18. التصوف في الإسلام / مخطوط .
19. بين الإسلام وأمثلة العوام في دار السلام / مخطوط .
20. المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية / مخطوط .
21. مصطلحات رمضانية / [ أحاديث في الراديو ، ومسلسل تلفزيوني ] وهو هذا الكتاب.
22. أسماء القران في القران / مخطوط [ أحاديث من الراديو ].
23. كليات القران الكريم / مخطوط .
24. المسؤوليات الإدارية في الأسرة المسلمة / مخطوط .
25. التحصين ضد الجريمة في الشريعة الإسلامية / مخطوط. مقدم الي الندوة المشتركة بين وزارة الداخلية ومنتدى الإمام أبي حنيفة ( .
26. مبادءات ومتابعات / مجموعة مقالات صحفية .
27. نقد قانون الأحوال الشخصية العراقي / مخطوط .
28. العامي الفصح / مخطوط .
29. عظمة التشريع الإسلامي / مخطوط .
30. الشركات في الفقه الحنفي / مخطوط .
31. ظهور الفضل والمنَّة في بعض مسائل الأجنَّة / مخطوط.
32.
33.
34. مقالات ومقدمات كتب ومحاضرات وتعقيبات في مواضع شتى .
35.(1/80)
هو محمد محروس آل علقبند الأعظمي الحنفي، المعروفة عائلته بآل المدرس لتدريسهم في الحضرتين الأعظمية و القادرية، و في المدرسة الوفائية .
ولد في الأعظمية 1491 م . درس على علماء بغداد لشيوخ الأجلاء : محمد القزلجي،عبد القادر الخطيب ، نجم الدين الواعظ ، أمجد الزهاوي ، محمد فؤاد الألوسي ( و أختص به في المدرسة المرجانية ، الى حين وفاته فيها ساجداً بين العشاءين سنة 1963 م)،والدكتور عبد الكريم زيدان ، و اخيراً على العلامة عبد الكريم محمد المدرس - متع المسلمين بحياته -.
تلقى على علماء مصر الأجلاء الشيوخ الأفاضل : محمد أبو زهرة ، محمد سلام مدكور ، محمد الزفزاف ، أحمد هريدي -مفتي الجمهورية-، محمد أحمد فرج السنهوري ، زكريا البّري ، زكريا البرديسي،علي الخفيف واختص أخيراً بالشيخ عبد الغني عبد الخالق المشرف على رسالته للدكتوراه.
حاز بكالوريوس الحقوق من بغداد سنة 2691م وحاز دبلوم الشريعة من حقوق القاهرة سنة 1967 ،و ماجستير الفقه المقارن من كلية الشريعة و القانون بالأزهر سنة 1968.والدكتوراه بذات الاختصاص، سنة 1970.
عمل محامياً ،و مدير ناحية ،و مديراً للمدارس الدينية في الأوقاف ومشاوراً قانونياً لها،ومديراً للدراسات الإسلامية فيها،ورأس أول بعثة عراقية عليا الى الحج سنة 1975، ثم درّس في كليّات:الإمام الأعظم ،والقانون والشرطة والتراث الجامعة،وفي القسم العالي في ندوة العلماء في لكنهؤ/الهند. عضو دائم في المجمع الفقهي في الهند .
رأس منتدى الإمام أبي حنيفة ( سنوات عديدة . شارك في مؤتمرات علميّة وفقهيّة في: العراق ، والهند ، والحجاز ، وبلاد الشام .
الكتاب في سطور(1/81)
شهر رمضان هو الشهر المؤثر تأثيراً بالغاً في حياة المسلمين ، ففيه يتوب العاصي ، وفيه تمتليء المساجد ، ويُقام الليل ، ويُصام النهار ، وتتبدل حياة المسلمين فيه تبدلاً تاماً ، ففي النهار يمتنعون عن مباحاتٍ كثيرةٍ من : طعام ، وشراب ، وقربانٍ للزوج ..! ، وفي الليل تنشط الحياة بالعبادة ، وتتبدل فيه العادة . فضلاً عن كونه هو موسم : الدروس الدينيَّة ، وعقد مجالس الوعظ اليوميَّة ، والعبادة الليليَّة .
وفي شهر رمضان خصوصيَّةٌ أُخرى .. ألا وهي : استعمال ألفاظٍ ، قد لا تتردد على الألسن في خلال العام ، مثل .. السحور ، والإعتكاف ، والفجر الصادق ، والإمساك ، والرفث ... إلخ . فيردد الناسُ ذلك دون تحديدٍ دقيق لمعاني هذه [المصطلحات ] ، وقد تُحمل على غير معانيها الصحيحة ، فألزم هذان الأمران: بشرح ما يتردد ، ومعرفة ما يدور بهذا الصدد ، وإبعاد المسلم عن حمل الألفاظ على غير محمَلِها الشرعي ، وذلك مما يؤدي إلى الخطأ التطبيقي لا محالة ... ولأجل كلِّ هذا جاء هذا الكتاب !.
إنَّ المعالجة قد جاءت بإسلوب جديد غير مطروق ، وهو مبتكرٌ غير مسروق ، فيه منتهى السهولة في إيصال المعلومة الرمضانيَّة لطالبها ، غير مملةٍ في إسهابها ، ولا مخلَّةٍ في إيجازها ، أخذت كلَّ لفظٍ يتعلق به حكمٌ على حدته ، فأبانت منه الخفيَّات ، وأزالت عنه الغشاوات ، فهو سهل الترتيب ، سلسُ التبويب ، ينتفع منه مَنْ لم يعتَدْ المطالعة ، ويُحتكم إليه في المنازعة .. فحريٌّ بالمسلم المتحرِّي أن يركن إليه ، والمحتاج المتأني أن يلج فيه ولا يحوم حواليه ... فهذا رفيق المسلم في الطريق ، ومفزعه في رمضان عند الضيق ، وهو نافعٌ في كلِّ الأوقات ، في كثيرٍ من المسائل المهمَّات ، ولا يُستغنى عنه في سائر الأيام المتواليات ، فموضوعه عميمٌ نفعه ، سهلٌ حفظه ، جميلٌ لفظه !! نفع الله به المسلمين .. وكاتبه في يوم المحشر والدين ... .. آمين //..// .
مصطلحات رمضانيَّة(1/82)
الدكتور
محمد محروس المدرس الأعظمي
1420هـ 1999م(1/83)