ص _003مقدمة إن الحمد لله الواحد الأحد. الفرد الصمد. نحمده سبحانه أن جعلنا مسلمين. وأمدنا بالقرآن الكريم دستور حياة ومنهاج عمل.. ونحمده سبحانه أن بعث إلينا رسولاً من أنفسنا. مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدّى الأمانة. وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله عليه وسلم. إذ يقول فى الحديث الشريف: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة" . ويقول الله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) وبعد.. فالدعوة إلى الله تعالى رافقت بدء الخليقة ، وسوف تصحبها حتى يومها الأخير.. مؤيدة بتأييد الله ومحفوظة بحفظه .. غير أن الحياة الإسلامية تكون أنضر حياة على الأرض وأرقاها وأعلاها ، بقدر شدة ارتباط المسلمين بالمصحف الشريف وبالنبوة التى طبقت أحكامه ، وأبرزت أهدافه ، وجعلت الحياة العامة والخاصة تستمد وجودها وضياءها من آياته وهداياته .. وعلى العكس من ذلك فإن سقوط المسلمين كان يوم قطعوا حبل الإسلام واستهانوا بروابطه .. إن الله تعالى يأبى أن يكون مجمل صلته بخلقه لحظات هدوء أو مناجاة فى هذه البيوت التى أقيمت باسمه ، ثم ينطلق الناس بعدها فى جنبات الأرض يحيون كيف يشتهون ويتعاملون بما يتواضعون عليه من قوانين وتقاليد . ذلك أن الله تعالى قد نظَّم للناس شئونهم الخلقية والاجتماعية والسياسية ، وأراد أن يسيروا على ما شرع لهم ، لا داخل جدران المعابد وحدها ، بل فى تقلبهم آناء الليل وأطراف النهار.. فى أنحاء البر والبحر. وفى ممارسة شئون الحياة جميعاً .. والمسلمون ـ وهم ربع سكان الأرض تقريباً ـ يعيشون اليوم فترة حرجة من تاريخهم فى ظروف غامضة ، فأطرافهم تنتقص يوماً بعد يوم ، وصميمهم مهدد
ص _004(1/1)
بالضياع ، والاستعمار الثقافى يلح فى محو شرائعهم . ولذلك فهم مطالبون بتطويع الحياة لخدمة الدين وتوجيه النشاط الفردى والجماعة لخدمة الرسالة العامة وتحقيق غاياتها ، وإن الكدح لله تعالى هنا يتجاوز المسجد ليتناول الحقل والمصنع والمرصد والدكان والديوان والبر والبحر وما يكتب وما يسمع .. ويتناول خطرات النفوس وأحلام النيام ، فالإسلام رسالة ، توجب على معتنقيها أن يجعلوا مجتمعهم أجدر بالحياة وأقدر على النجاح . إن هموم الأمة وأزماتها الروحية والفكرية تستولى على شعورى ، وقد وضعت هذا الكتاب بعاطفة الأم على وليدها المريض ، وإن كان قد جاء أشبه بفهرس لما نكترث له من آمالنا وآلامنا ولعل الإيجاز الذى يتسم به يرضى قراء عصر السرعة.. ويهمنى هنا أن أشير إلى أننى قد أذنت لدار نهضة مصر بإصدار طبعة خاصة من هذا الكتاب ، واعتمدت إضافة فصل جديد فى نهايته تحت عنوان " فقه الدعوة الإسلامية ومشكلة الدعاة " .. أسأل الله تعالى أن يجعله متجدد العطاء وأن ينفع به وأن يتقبله ويجعله فى ميزان حسناتى .. (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيمُ) محمد الغزالي غرة رمضان 1416 هـ يناير 1996 م ص _005(1/2)
مقدمة الطبعة الأولى أتابع النشاط الإسلامى المعاصر بحب وخوف . حبّى لأننى مسلم أريد للحقِّ الذى أعتنقه أن يسود ، وأن يقوم من عثرته التى طالت ! وخوفى عليه لأن الأعداء أقوياء أغنياء يريدون الإجهاز على الدين الجريح ، وانتهاز الفرص التى لاحت بعد طول انتظار أو طول تدبير ...! إن المدافعين لا ينقصهم غالباً الحماس والإخلاص وإنما ينقصهم عمق التجربةوحسن الفقه. إنهم يحسبون أن حال المسلمين اليوم وليد علل عارضة ، ومن السهل إزالتها فى أيام معدودات ، أوعلى الأكثر فى بضع سنين من حياتهم هم .. ثم يعود المسلمون إلى مجدهم الأول أيَّام الصحابة والتابعين . وما على الشباب إلاَّ أن يُقْدِم ويقاتل ويحطم ما أمامه من عوائق ، وسوف يبتسم له النصر بعد مرحلة أومرحلتين . وهذا الاستعجال كان وراءه متاعب كثيرة وخسائر ثقيلة للدعوة الإسلامية بل ربما زاد خصومها تمكيناً وضراوة.! إن حالة المسلمين اليوم تخالف حالة الألمان الذين خاضوا حرباً عالمية ثانية بعد هزيمتهم فى الحرب العالمية الأولى ، ولمَّا تمرّ على هذه الهزيمة عشرون سنة! إننا نحن المسلمين نتقهقر من عدة قرون ، وكأننا فى معركة انسحاب من أوائل القرن الثالث عشر للهجرة ، وقد قاوم الأجداد والآباء والأعقاب ، وورثنا نحن هذه المقاومة الباسلة النبيلة ، وكسبنا مواقع وخسرنا أخرى. وأرى أنه لابدَّ من دراسة شاملة لأسباب تقهقرنا المدنى والعسكرى ، وما هى العناصر الحيوية التى فقدناها حتى دهانا ما دهانا ؟ لابد من بصيرة فاحصة متعمقة تتدبَّر ثقافتنا وتُنفِّى منابعها! وتنقذ مستوانا الحضارى الأخير ، وتستكشف أسباب هبوطه !. أكنَّا حقّاً على الفطرة التى فطر الله الناس عليها ، أم غلب علينا داء الأمم الأولى فشردنا عن الصراط المستقيم؟ ص _006(1/3)
وعندما نريد العودة فما أرشدُ الوسائل؟ إن إقامة دين الله شىء ومجرد الاستيلاء على الحكم بطريقة أو بأخرى شىء آخر.. إن إقامة دين الله تعنى قبل كل شىء تأسيس علاقة زاكية بين المرء وربِّه ، منزهة عن طلب الدنيا والتَّشبُّع من لذائذها، والاستعلاء فى أرجائها . (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) كما تعنى الإسهام فى بناء مجتمع عالمى يعرف المعروف ، وينكر المنكر ، ويحترم الحقوق ، ويوقِّر رب العالمين .. وفى تاريخنا الثقافى والسياسى زادٌ كافٍ لمن كان له قلب ، غير أن هزائم شتى تصيب المجاهدين فى سبيل الله لضعف التجربة وقلة الخبرة ، أو لفقر شديد فى العلم الصحيح بكتاب الله وسنة رسوله . وفى هذا الكتاب نماذج لقضايا خاضها أو سيخوضها العاملون فى الحقل الإسلامى أحببت أن أشرحها على ضوء ما بلوْتُ من تاريخنا الحاضر والغابر، لعلها تعصم من مزالق ، وتنبِّه إلى حقائق وتقود إلى الخير. وقد تتشابه الموضوعات فى بعض ما أكتب ! ومع ذلك ففى الجديد مزيد من سعة العرض ووفرة الحجج . (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم) محمد الغزالى 1982 ص _007
الفصل الأول
صور
جديدة وعديدة
للأعمال الصالحة
ص _009(1/4)
كانت الخصومات الكبيرة تُحَل قديما بمبارزات فردية يلتقى فيها الخصمان ولا يزال أحدهما يصاول الآخر حتى يصرعه ، ويدع جثته فى العراء ، كما قال شاعر عربىّ : والله لو لاقيْتَنى خالياً لآب سيفانا مع الغالب ! وربما بدأ قادة الجيوش الحرب بهذه المبارزات ، قبل أن يتزاحف الجمعان ، ويتلاحم العدوّان ، وتنجلى المعركة عن فوز هذا أو ذاك .. ثم تسقط بعد ذلك القرى والمدن فى أيدى المنتصر .. المهم أن الخسائر الحربية كانت محدودة ، وإن كانت النتائج السياسية والاقتصادية والدينية بعيدة المدى.. أما الآن فإن الحروب تشارك فيها ابتداء شعوب كثيفة ، ويحشر لها الشباب والشيب والرجال والنساء ، وتدور رحاها على سواء فى البر والبحر والجو، ويتعرض لمغارمها مَنْ فى المقدمة ومن فى المؤخرة وترصد لها الألوف المؤلفة من الجنيهات ـ قبل اللقاء المباشر ـ وتُنسَّق لها أشتات القوى المادية والأدبية . فالناس قبل الحرب الساخنة فى حرب باردة ، وقبل الالتحام الدامى فى تأهب واستعداد .. وعندما نرمق الشرق الشيوعى أو الغزو الصليبى نجد كلتا الكتلتين متحفزة متجهزة حتى لا تؤخذ بغتة ، وحتى إذا دقت طبول الحرب كان كل فريق مبصراً بحدّة ما يفعل كى ينجو أو يغلب . والفرد فى الشرق أو فى الغرب يدرى واجبه ، ويحمل الأعباء الملقاة عليه برضى ، ويعلم أن ذلك قدره فقلما يزيغ عنه . موقف المسلم فى هذا العصر تُرى ما موقف المسلم فى هذا العصر؟ ماذا يصنع لرسالته فى زحام هذه الحياة؟ إن ألف مليون مسلم بدأوا القرن الخامس عشر من تاريخهم فى ظروف عاصفة. أعداؤهم يعالنون حينا ويواربون أحيانا بنيتهم تجاه الإسلام ، وسواء صرَّحوا أولمَّحوا فإن أعمالهم تصرح بما يبيتون!. ص _010(1/5)
إنهم يريدون القضاء عليه ، وقد رسموا الخطط وبدأوا التنفيذ . والليالى الحبالى تتمخض عن أحداث كئيبة ، فأطرافنا تُنتقص يوما بعد يوم ، بل صميمنا مُهدد بالضياع ، والاستعمار الثقافى مُلحُّ فى محو شرائعنا وشراعنا ، يعينه كُتَّاب مرتدُّون، أو ساسة مبغضون لكتاب الله وسنة رسوله . ونعيد سؤالنا مرة أخرى : ما موقف المسلم فى هذا العصر الذى تطورت فيه الحروب فانتظم فى جهازها كل شىء ، وتوقح فيه الأعداء حتى قرروا نفض أيديهم منَّا والبناء على أنقاضنا ..؟ إنه لابد أولاً من إعطاء صورة سريعة لعلاقة المسلم بدينه ، أو لمطالب هذا الدين من تابعيه .. المسلم إنسان يعرف ربه معرفة صحيحة ، ويقيم صلته به ـ سبحانه ـ على مبدأ السمع والطاعة .. وهو يتعاون مع إخوان العقيدة على تأسيس مجتمع يلتزم بإقامة الصَّلاة ، وإيتاء الزَّكاة ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. وهو ـ مع هؤلاء الإخوة ـ ينشئون الحكمة التى تحمى هذا المجتمع ، وتُطوِّع شئون الحياة كلها ، لإثبات صبغته وإعلاء شرعته . ذاك فى الداخل ، أمّا فى الخارج : فالدولة الإسلامية صاحبة فكرة ترتبط بها ، وتتيح لكل ذى لب أن يتعرف عليها ، وتصادق أو تخاصم على ضوء من مواقف الآخرين بإزائها . فمن ترك الفكرة تعرض نفسها لم يَرَ منَّا إلاَّ الخير ، ولا إكراه فى الدين ، ومن أقام فى وجهها العراقيل جفوناه ولا كرامة . وتطويع الحياة لخدمة الدين عمل شعبِّى وحكومِّى فى آن واحد ، وهو يحتم توجيه النشاط الفردى والجماعى لخدمة الرسالة العامة وتحقيق غاياتها . والمسلم منذ صلاة الفجر يتحرك فى الموضع الذى اختاره القدر له ليعلى كلمة ربه ، وإذا كان كفاح العقائد فى هذه الأيام قد فرض تجنيداً إجبارياً على كل شىء ، فإن مناصرة الإسلام لن تشذ عن هذه القاعدة . ص _011(1/6)
ومن ثَمَّ فإن كل مسلك يجعل المجتمع الإسلامى أضعف من نظيره الشيوعى أواليهودى أوالصليبى يُعدُّ خيانة أو ارتداداً .. وكل تفريط مدنى أوعسكرى فى خدمة الإسلام فهو عصيان لخوف العُقْبى . إن الكدح لله هنا يتجاوز المسجد ليتناول الحقل ، والمصنع ، والمرصد ، والدكان ، والديوان ، والبر ، والبحر ، ومايكتب وما يسمع ، وقد يتناول خطرات النفوس وأحلام النيام .. الإسلام رسالة توجب على معتنقيها أن يجعلوا مجتمعهم أجدر بالحياة ، وأقدر على النجاح . وكل ما يعين على ذلك فهو دين ، أو كما يقول علماء الأصول : ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب . حقيقة العبادة وعندما ننظر إلى العبادات السماوية نجد أداءها فى اليوم والليلة لا يستغرق نصف ساعة ، ونجد تعاليمها تستغرق صفحة أو صفحتين ، ويبقى الزمان بعد ذلك واسعاً ، والمجال رحباً لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها وتسخيرها كُلاً وجزءاً لخدمة الدين . وكل جهد يُبذل فى ذلك يُسَمَّى شرعاً : عملاً صالحاً ، وجهاداً ، مبروراً ، وضميمة إلى الإيمان تؤّهل المرء لرضوان الله .. (فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون ) ومن المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا عجزة فى الحياة ، والصالحات المطلوبة تصنعها فأس الفلاح ، وإبرة الخياط ، وقلم الكاتب ، ومشرط الطبيب ، وقارورة الصيدلى ، ويصنعها الغواص فى بحره ، والطيار فى جوه ، والباحث فى معمله ، والمحاسب فى دفتره ، يصنعها المسلم صاحب الرسالة وهو يباشر كل شىء ، ويجعل منه أداة لنصرة ربه وإعلاء كلمته !! . وإنه لفشل دفعنا ثمنه باهظِاً عندما خِبْنا فى ميادين الحياة ، وحَسِبنا أن مثوبة الله فى كلمات تُقال ومظاهر تُقَام. ص _012(1/7)
تخيل رجلاً وصل إلى الحكم وقال لأتباعه : أمامكم أجهزة الدولة أديروها لإثبات وجودكم وتحقيق هدفكم .. فإذا هم يتركون الأجهزة عاطلة ، ويجتمعون بين الحين والحين أمام قصره للهتاف باسمه! إنه لو طردهم من ساحته ما بغى عليهم ، ولو أمر الحراس بضربهم ما ظلمهم ، إنهم مخربون لا مخلصون ! . ومن قديم رأى نفر من العابدين أن يحصروا عبادتهم فى الصلوات والأذكار ، يُبدئون ويعيدون ويظنون أن الأمم تقام بالهمهمة والبطالة ، فمن ينصر الله ورسوله؟ إذا كان أولئك جهَّالاً بالحديد وأفرانه ومصإنعه؟ والله يقول فى كتابه: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) إن هناك سبعين صناعة مدنية وعسكرية تتعلق بالنفط واستخراجه والانتفاع بمشتقاته ، لا نعرف منها شيئاً ، فهل تُخْدَم عقيدة التوحيد وما ينبنى عليها بهذا العجز المهين؟. إنه لو قيل لكل شىء فى البلاد الإسلامية : عُدْ من حيث جئت ، لخشيت أن يمشى النَّاس حفاة عراة ، لا يجدون ـ من صنع أيديهم ـ ما يكتسون ، ولا ما ينتعلون ، ولا ما يركبون ، ولا ما يضىء لهم البيوت . بل لخشيت أن يجوعوا لأن بلادهم لا تستطيع الاكتفاء الذاتى من الحبوب ! ! . إن الله لا يقبل تديناً يشينه هذا الشلل المستغرب ، ولا أدرى كيف نزعم الإيمان والجهاد ونحن نعانى من هذه الطفولة التى تجعل غيرنا يطعمنا ويداوينا؟! ويمدنا بالسلاح إذا شاء . إنها طفولة تستدعى الكافل المهيمن ، والحديث عن إنجاح رسالة ما- ونحن فى طوقها- حديث يثير الهزء ، فما للأطفال وتكاليف الأبطال ؟ ! . ولقد راقبت الكثير من الشبان الذين يستحبُّون خدمة دينهم ، وأفزعنى أن الخلط الموروث يهيمن عليهم ، إنهم لا يحسبون عرق الجبين فى البحث عن البترول، أو تلوُّث ص _013(1/8)
الجبهة وراء آلة دوَّارة ، لا يحسبون ذلك جهاداً ، إن الجهاد فى وهمهم تلاوات وأوراد ، وتكرار ما تيسر من ذلك ما دام فى الوقت متسع . وقد رأيت صيدلياً مشغولاً ببحث قضية "صلاة تحية المسجد" فى أثناء خطبة الجمعة ، ومهتماً بترجيح مذهب على مذهب ، فقلت له: لماذا لا تنصر الإسلام فى ميدانك ، وتدع هذا الموضوع لأهله؟ إن الإسلام فى ميدان الدواء مهزوم ! ولو أراد أعداء الإسلام أن يسمِّموا أمته فى هذا الميدان لفعلوا ، ولعجزتم عن مقاومتهم ! أفما كان الأولى بك وبإخوانك أن تصنعوا شيئاً لدينكم فى ميدان خلا منه ، بدل الدخول فى موازنة بين الشافعى ومالك ؟ وسألنى طالب بأحد أقسام الكيمياء عن موضوع شائك فى علم الكلام! فقلت فى نفسى : إن جائزة "نوبل " لهذا العام قسِّمت بين نفرمن علماء الكيمياء ليس فيهم عربىّ واحد ، وحاجة المسلمين إلى الاستبحار فى علوم الكيمياء ماسَّة ، وقد أوردت فى بعض كتبي كيف أباد الروس قرية أفغانية عندما شنُّوا عليها حرباً كيماوية ، وذهب الضحايا فى صمت ، وتسامع جمهور المسلمين بالنبأ وهو لا يدرى شيئاً عما كان أو يكون . قلت للطالب السائل: إنَّ ما تسأل عنه درسناه قديماً ، وحكايته كيت وكيت ، وخير لك أن تنصرف عن هذا الأمر وأن تُقبل بقوة على ماتخصصت فيه ، إننا فقراء إلى النَّابغين فى المادة التى تتعلمها ، وأغنياء عن المشتغلين بالفلسفات الكلامية .. واستتليت ضاحكاً : كانت الكيمياء قديماً تهتم بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب ، وتحدث الشعراء عن كيمياء الحظوظ التى ترفع السفلة إلى مناصب العُلا ! وسألنى الطالب وهو يضحك أيضاً عن كيمياء الحظوظ هذه ؟ فذكرت له بيتى ابن الرومى: إن للحظ كيمياء إذا ما مسَّ كلباً أحاله إنسانا يرفع الله ما يشاء متى شاء كما شاء كائنا ما كانا ..!! ص _014(1/9)
والحظوظ قد تلعب دوراً فى الحياة ، ولكنه ثانوى محدود ، أما ارتفاع الأمم وانخافضها فيرجع إلى قوانين صارمة وأقدار جادة ، والمسلمون لم يُظلموا عندما هُزموا فى سباق الحياة ! إنهم شوَّهوا معنى التدين فانهزموا بجدارة . وعدت أقول للطالب: تعمق فى علوم الكيمياء فهذا أجدى على الإسلام من انكبابك على بعض قراءات دينية تخصصية ليست مطلوبة منك ، وحسبك من فقه الدين ما ينطبع فى فؤادك وأنت تقرأ القرآن الكريم ، ثم سِر وراء نبيك البطل صلى الله عليه وسلم وتعلَّمْ منه كيف غيَّر الدنيا باسم الله . وانصرفت عن الطالب الحائر وما أدرى هل اقتنع أم لا ؟ ! إنه مع كثير من الشباب يظنون التقوى : بذل وقت أكبر فى القراءات الدينية ، والأخذ بقدر يسير من شئون الدنيا وعلوم الحياة ، ولعمرى إن الإسلام لايكسب خيراً من هذا المسلك ، ولا تنتصر عقائده إذا كان أهله فى بلاهة الهنود الحمر، وكان أعداؤه يملكون " مكوك " الفضاء ! ! . املك ناصية الحياة بعلم واقتدار تقدر على نصرة الحق الذى تعتنق ، أمَّا قبل ذلك فهيهات ولسوف يسبقك الدهاة والشطار . . !! فرض الكفاية. وفرض العين. الفروض ـ كما يقول الفقهاء ـ قسمان : فرض عين .. وفرض كفاية . يعنون بفرض العين ما يجب على الشخص نفسه ويُسأل عنه وحده ، أمَّا فرض الكفاية فهو واجب على المجتمع وجوب شيوع ! . ومن هنا فإن المسلمين يعرفونه بهذه الخاصة ، أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين ولا يجرى على ألسنة العامة إلاَّ مثل واحد له ، هو صلاة الجنازة .! وقصة فروض العين وفروض الكفاية لا تُحكى بهذا الأسلوب العليل ، وسوء عرضها فى مجال التربية والإعداد جعل المسلمين يتصرفون بطيش فى أمور تمس حياتهم وبقاءهم ، وقد تعلى رايتهم أو تنكسها . ص _015(1/10)
والواجبات الكفائية تتطلب من الدولة أمرين ينبعان جميعاً من تكليفها ابتداءً باختيار من يحمل أعباء هذه الواجبات ويستطيع أداءها : الأول : الاطمئنان إلى أن هذه الواجبات وجدت العدد الكافِى من الاختصاصيين للنهوض بها ، فإذا كانت الأمة تحتاج إلى مائة صيدلية مثلاً ولم يتوفر إلاَّ خمسون ، اهتمت باستكمال العدد الذى يضمن الصحة العامة ، ولايجوز أن تتغاضى عن هذا النقصان . الثانى : أن تتابع بوسائلها الكثيرة حسن الأداء ، ودقة الوفاء حتى تقوم المصلحة العامة على دعائم ثابتة . إن الأمة العاجزة عن استخراج بركات الله من أرض الله لن تؤدى رسالة الله ، والأمة العاجزة عن تجنيد مواهب المسلمين لإعزاز المسلمين أمة تُلقى بأيديها إلى التهلكة . تُرى كم مصنعاً لصنوف الأسلحة يحتاج إليها تحرير المستضعفين؟ وكم فنِّياً يجب إعدادهم لتحقيق هذه الغاية؟ إن فرض العين قد يتناول أركان العبادات من صلاة وزكاة ، وأركان الأخلاق من صدق وحياء ، وقد يتناول ترك الكبائر من ربا وخنا ، وهذه أمور ترتبط عادة بالضمير الفردى والسلوك الخاص . أمَّا فرض الكفاية فإنه قد يتصل بحراسة الأمن ، والقضاء بين النَّاس ، والقيام بشتى المناصب ، وإجادة الفنون والصناعات التى ينهض بها العمران ، وتحيا عليها الأمة .. وغير ذلك من الشئون المهمة . فهل فرض الكفاية- وذاك خطره- يكفى فى وصفه أن يقال فى حقه : إذا قام به البعض سقط عن الباقين ؟ ! إن المجتمع الإنسانى كيان متشابك المصالح ، والناس ما يستغنى بعضهم عن البعض الآخر ، والأجهزة الإدارية والثقافية والصحية والاقتصادية والعسكرية فى بنيان الأمة تشبه الأجهزة العصبية والهضمية والتنفسية والدورية فى الجسد البشرى ، ومن هنا فإن فروض العين والكفاية تتداخل فى الحياة العامة تداخلاً تاماً، ويتوزع الاهتمام الدينى عليها كلها فلا يدع شيئاً منها. ص _016(1/11)
إن فرض الكفاية يأخذ هذه التسمية قبل أن يختار الشخص المناسب ويتحدد الجهد المطلوب ! أما بعد الاختيار والتحديد فإنه يتحول إلى فرض عين ، وعلى من كُلِّف به أن يستفرغ الوسع فى إتمامه . ولنزد الأمر وضوحاً .. الصَّلاة فرض عين لأن كل إنسان يستطيع الصلاة فما يُستثنى أحدٌ من وجوبها ، أمَّا القضاء والتدريس والهندسة فهى فروض كفاية لأنه ليس كل إنسان يقدر أن يكون قاضياً ، أومدرساً أو مهندساً . فإذا ترشح امرؤ بمؤهلاته العلمية للقضاء ، وعينته الدولة فى المنصب المعدِّ له ، فإن قيامه بأعباء منصبه هذا أصبح فرض عين كالصلاة والصيام ، ومايجوز له أن يتراخى فيه أويفرط ، وكل ذرَّة من استهانة أوخيانة فهى عصيان لله ، واعتداء على الدين ، ولايقبل أبداً الاعتذار بأن ذلك وقع فى فرض كفاية . إن الجهد البشرى يجب أن يوزع بالقسطاس المستقيم بين الصَّلاة المفروضة عليه والقضاء المطلوب منه ، حتى يشيع العدل فى المجتمع وتبلغ الحقوق أصحابها . وربما استغرقت دراسة القضايا عشرة أضعاف الوقت الذى تستغرقه إقامة الصلاة ! ليكن ، فهذه عبادة وتلك عبادة ، وفروض الكفاية غالباً تأخذ من الوقت أكثر مما تأخذ فروض العين ، ولعلَّها تستغرق أعمار النَّاس ، ليكن ، فذلك هو الطريق لإرضاء الله ، وحماية الأمة ، والحفاظ على الدين ، وإنشاء دنيا تصونه وتنميه . وما يقال فى القضاء ، يقال فى التدريس ، والتطبيب ، وفى كل مهنة تحتاج الأمة إليها ويرتبط قيامها بها . والجماعات البشرية فى القارات الخمس تدرك هذه الحقيقة ، وتنشىء ألوفاً مؤلفة من الوظائف ، وتعين ألوفاً مؤلفة من الأشخاص ، وتقر نفقات ضخمة فى موازناتها العامة ، لكى تضمن هذه المصالح . والمطلوب من كل مكلَّف أن يؤدى العمل على خير وجه ، وأن يوفى بالعقد الذى التزم به مع الدولة ، وهى لن تضنّ عليه بما يطمئنه . وأعتقد أن ذلك بعض ما يعنيه قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) فإن المناصب كلها(1/12)
أمانات مسئولة ، والقيام عليها عقد مَرْعىُّ الذمام.. ص _017
لكن المسلمين للأسف الشديد أكثر الأمم إضاعة لهذه الأمانات والعهود ، والأعمال الرسمية فى بلادهم مهدرة الحرمة ، والوظيفة مصدر للأخذ أكثر مما هى وسيلة إلى العطاء .. وجهالة المسلمين فاحشة بفروض الكفاية وطبيعتها وآثارها. ويرجع ذلك ـ عند بعض المتدينين ـ إلى أنهم يفرقون بين صور العبادات المأثورة ، وأداء الأعمال المدنية المختلفة ، الأولى عندهم دين ، والأخرى ليست عبادة إلاَّ على ضرب من التجوُّز . رأيت بعضهم على مكتبه جالساً بادى السآمة ، يجيئه النَّاس لحاجاتهم فيرجئ ما يشاء ، ويهمل ما يشاء ، حتى إذا اقترب وقت الظهر شرع يستعدُّ له قبل الأوان .. قلت له : إن ما تقوم عنه ليس بأهون مما تقوم له . ونشاطك فى إنجاز مصالح النَّاس فى أخصر وقت ، وعلى أحسن وجه دين ، وهو واجب كالصلاة والصيام ! قال : إننا نستعد للصلاة المكتوبة ، وسنؤدى عملنا بعد أداء حق الله ! قلت: جميل أن تحرص على الصَّلاة فى وقتها ، ولا عليك أن تصليها أول الوقت أو وسطه ! وخير لك أن تعجل بإنجاز عمل هذا القادم من بلده ، القَلِق على مصلحته ، خاصة وأن الصَّلاة تربى الإنسان على الشعور بالواجب ، ولا تستغرق من الزمن أكثر من بضع دقائق معدودة . ونحن لا نهوِّن من شأن الصلاة المكتوبة وأدائها على وقتها ، ويمكن وضع نظام لأدائها جماعة أول الوقت ، أو بعد انتهاء المحاضرة فى المدرسة ، والنوبة فى المصنع ، والجراحات والكشوف فى المستشفى ، ويحدد لذلك زمن معتدل لا يستغله أهل البطالة . أما عدُّ الأعمال العامة شيئاً تافهاً ، أو شيئاً يقبل فيه العبث والتسويف فهذا تضييع لفرض يحرم تضييعه. * * * ص _018(1/13)
الفريضة والنافلة من قبيل الاستهانة بالفروض الكفائية أن رجلا رغب أن يحج نافلة ـ أظن ذلك للمرة الثالثة ـ فقلت له : كم تتكلف هذه الحجة؟ قرابة ألف جنيه؟ قال: نعم وأكثر! قلت له: أدلك على عمل أفضل ، إن فلاناً تخرج فى كلية الصيدلة ، وهو فقير والمسلمون فقراء إلى صيدليات إسلامية ، فضع فى يد الشاب المتخرج هذا المبلغ يبدأ به حياة تنفعه وتنفع أمته ، ولك عند الله ثواب أكبر من ثواب حجتك هذه ! ! فنظر الرجل إلىَّ دهشاً وصاح: أهذا كلام يقال ؟ قلت له : إنك إذا أطعتنى أقمتَ فريضة وسددت ثغرة ، وشاركت فى جهاد جليل الثمرة .. بدل هذه النَّافلة التى تبغى . قال وهو لا يزال فى دهشته: أدَعُ الحج ! وأُعينُ على فتح صيدلية ، ما هذا ؟ إن جمهوراً غفيراً من المسلمين لا يدرى أبعاد المأساة التى تعيش فيها أمته ، ولا مدى التخلف الرهيب الذى يهدد يومها وغدها ، ومن ثم فهو يَخْبِطُ فى دينه خَبْطَ عشواء ! . وفى مكان آخر فى كتبى ذكرت قول الفقهاء : إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ، والفريضة المطلوب أداؤها يستوى أن تكون فريضة عينية أو كفائية . ! ص _019(1/14)
وقلت: إذا كان التنفُّل يعجز عن إحسان واجب فلا مكان له ، وضربت مثلاً لذلك : إذا كان صوم التطوع يعجز المدرس عن تصحيح ورقة إجابة فلا ينبغى له أن يصوم ، وكذلك إذا كان شىء من ذلك يعجز الطبيب عن إجادة فحص المريض ، أو تصوير الموضع المصاب ، أو كتابة الدواء اللازم . إن الله سبحانه أعفى جمهور المؤمنين من قيام الليل وطول القراءة فيه، إذا كانوا يعانون من الجهاد فى سبيل الله ، أو طلب الرزق من هنا ومن هناك . (والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه) ولقد كان ابن مسعود يؤثر الإفطار على الصيام ـ صيام التطوع ـ لأن الفطر أعون له على قراءة القرآن ، وكان ابن مسعود رضى الله عنه ، يتأنق فى تلاوته ، وكان النَّاس يأخذون القرآن عنه . والواقع أن العبادات العينية أو الكفائية وسائل لتزكية الفرد ورفعة المجتمع ، والمؤمن الحصيف يقبل على ما يلائمه من هذه وتلك ، دون محاولة للفرار من واجب يتعين عليه . فالغنىُّ عبادته الأولى : البذل وإسعاف المحتاجين ، ولا يصلح له الصيام وقيام الليل ، إذا كان الصيام والقيام مَهْرَباً له من الإِنفاق فى سبيل الله . والقارئ الفقيه عبادته الأولى : النصح وتعليم الخاصة والعامة ، ولا يصلح له الاعتكاف ، والخروج بالصمت عن " لا " و" نعم " فى مواطن الأمر والنهى وشيوع الفتن . . " ص _020(1/15)
التدين وصلته بآلاء الله فى الكون وثَمَّ أمر آخر يتصل برسالة الدين بين الأحياء ، إننى أكره التدُّين المحجوب عن جمال الكون وعظمته ، المشلول عن فهم أسراره وتسخيرها لمصلحته . . وبين الحين والحين يساورنى ـ وأنا أتلو القرآن ـ شعور بأن الله يريد لفتنا إلى إبداعه فى الأنفس والآفاق ، يريد إشعارنا بما فى كونه من دقة ورقة ولطافة واقتدار، يريد من النَّاس أن يطالعوا آيات عظمته فى هذا الكون الدَّال على ربه ، الموجِّه إليه بالليل والنهار.. وهل يقسم الله بعناصر كون تافه؟ انظر إلى هذه الصورة : (فلا أقسم بالشفق * و الليل و ما وسق * و القمر إذا اتسق) إنها صورة الأصيل المحمرّ الأفق يعقبه الغروب ، وبزوغ القمر . ثم صورة أخرى لمرحلة تابعة من مراحل الزمان . (و الليل إذا عسعس * و الصبح إذا تنفس) لقد تحركت الدنيا واهتز صدرها بأنفاس اليقظة الباكرة . إن الذى خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، يطلب منَّا أن نستكشف صفاته فى أرجاء ملكوته ، وأن ننظر إلى العالم على أنه مَجْلى أسمائه الحسنى ، وأن نبنى سلوكنا بعد ذلك على إيمان وثيق ، وخضوع مطلق ، وأن نسترشد بوحيه ونحن نكدح على الثرى استعداداً لرحلة العودة ، وهى رحلة لابد منها . (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) إنه أمر مثير للعجب أن يعيش جمهور المسلمين من بضعة قرون ، لا يعرفون عن الكون شيئا يذكر ، وأن تكون علومه ثانوية فى ثقافتهم الخاصة والعامة ، وأن يكون التعرف على أسراره وقواه شيئا كماليّاً خفيف الوزن عند البعض ، وضرباً من اللغو والعبث عند البعض الآخر !! ص _021(1/16)
فما الذى استحوذ على انتباههم من فنون المعرفة؟ كلام فى دين الله لو عرفه سلفهم ما فتحوا بلداً ولا أنشأوا حضارة ! ! . فى الوقت الذى صدَّ فيه المسلمون عن الدراسات الكونية أوغل آخرون فى طريقها ، وحققوا مآرب رهيبة ، ثم طوَّعوها لنصرة عقائد باطلة وفلسفات وضيعة.!! إن هذه القطيعة الموحشة بين الدين من ناحية وبين الكون والحياة من ناحية أخرى ينكرها الإسلام كل الإنكار ، ويطلب من عباد الله الصالحين مسلكاً يناقضها كل المناقضة . قد تقول : نحن نعرف ذلك ولا جديد فيما تحكى . ! وأجيب : لا يزال الشباب الذى يريد المتاب والعمل للإسلام يدير ظهره للدنيا وعلومها ، ويخفف حقائبه من البحوث الكشافة للقوى الحيوية الكثيرة ، ويظن الذكر والشكر فى العبادات المحضة ! . كنت فى بعثة إلى "نواكشوط " عاصمة موريتانيا الإسلامية تهتم بشئون الدعوة . ورأيت هناك جماعة من الشيوعيين الصينيين لا يعملون للسماء وإنما يعملون للأرض ، استطاعوا اكتشاف منابع للمياه العذبة ، ومدُّوا شبكة للأنابيب إلى الأراضى التى كانت تحتاج إلى المياه ! . ورأيت هؤلاء الشيوعيين الصينيين فى اليمن الشمالى يشقون فى قلب الصحراء وبين سلاسل الجبال طرقاً " مزفتة " أو " مسفلتة " بتعبير العوام ! . فقلت فى نفسى : من أقصى الشرق ، من بعيد بعيد ، يجىء هؤلاء ليصنعوا فى بلادنا ما يصنعون ! فماذا نعمل نحن ؟ ! . لقد شعرت بالغيظ عندما علمت أن قطراً إسلامياً كان يصدِّر القمح أيام كان مستعمرة ، فلما استقل ، ووقع زمامه بين أيدى أهله اقشعرت الأرض ، وبدأ استيراد القمح من الخارج !! وشعرت بالاستحياء وأنا أحصى الدول الصناعية المنتجة فلا أجد ، بين العشر الأولى ، ولا بين العشر الثانية ، دولة مسلمة واحدة !! ومعروف أن اليابان بدأت نهضتها من قرن تقريباً ، وأن شعوباً إسلامية بدأت نهضتها فى الزمان نفسه ، ووصلت اليابان إلى الذروة وبقينا نحن فى السفح . !. ص _022(1/17)
ما السبب؟ قد يكون لفساد الجو السياسى دخل كبير ، ولكن فساد الجو الثقافى له ـ فى نظرى ـ دخل أكبر . ما تقول فى فتيان يريدون إشعال معركة من أجل قضايا جزئية تتعلق باللباس وغيره هى أقرب إلى سنن العادة منها إلى سنن العبادة ، وقد تأتى فى نهاية سُلَّم الأولويات . إن دين الله لا يقدر على حمله ولا على حمايته الفاشلون فى مجالات الحضارة الإنسانية الذكية ، الثرثارون فى عالم الغيب ، الخرس فى عالم الشهادة . وأشعر بأن فقر المسلمين إلى الاستبحار العلمى لخدمة دينهم ودنياهم يحتاج إلى شرح أكثر ، فإن تبجح الجهال بما لديهم من معارف مغشوشة أو قاصرة أمر لا يطاق ، وإذا لم نوضح لأمتنا الحق كله تعرضت وتعرضنا معها للهلاك . ولأنقل إلى القارئ خلاصات وجيزة عن سير التقدم العلمى فى العالم الحديث ، ليعرف أى هاوية سنتردى فيها إذا لم نغير أنفسنا . شىء عن التقدم العلمى ألقى الدكتور محمد كامل محاضرة فى هذا الموضوع نقتبس منها هذه العبارات ، مع تصرف فى الصياغة اللفظية ، قال : "من قرن وثلث فقط بدأ التطبيق الواعى للعلم فى ميادين الصناعة والزراعة والطب .. استطاع عالم إنجليزى تحضير مركّبات كيماوية ملوَّنة تحل محل الصبغات الطبيعية المعروفة ، ونتج عن ذلك الكشف ظهور الأصباغ والأدوية والأسمدة المخصِّبة والمبيدات الحشرية والألياف .. إلخ . استخدمت الأساليب العلمية فى جميع الصناعات ، وتنافست فى هذا المجال إنجلترا وفرنسا وألمانيا أولاً ، ثم لحقت الولايات المتحدة بهذه الدول فى القرن الماضى .. وأخيراً الاتحاد السوفييتى واليابان.. بعد الحرب العالمية الثانية أصبح التقدم العلمى يسير بخطوات فِساح ، ومعدَّلات خيالية! وثبت أنَّ 80% من الدخل الموجود فى الدول الصناعية يرجع إلى هذا السبق ، وأن 20% يرجع إلى تراكم رأس المال. ص _023(1/18)
أدرك النَّاس جميعاً خطورة التقدم العلمى من الناحيتين النظرية والتطبيقية ، فشرعوا يتجهون إليه ، وصفوة العلماء ـ فى الدول الكبرى ـ مشغولون الآن ولبضع سنين ، بالبحث فى قشرة الأرض وما تحتوى عليه من يابسة وماء وهواء ، وقد أقروا الآن نظرية فى " التركيبات الأرضية اللوحية " ـ ترجمة حرفية لنص إنجليزى ـ ولهذه النظرية ارتباط مباشر بعدة قضايا ، منها : احتمالات العثور على الثروات المعد نية والنفطية و مستودعات الغاز الطبيعى ، واختيار الأماكن التى تُدفن فيها النفايات الناتجة عن المفاعلات الذرية ، ومتابعة الحركة المعقدة للمحيطات وتياراتها ، ومعرفة الأسس لتغيِّر الجو ، وحدوث الجفاف ، ورسم صور لأعماق البحار واستخراج عينات من صخورها ، وأخطار زيادة الكربون فى الجو.. إلخ. ثم هناك التطبيق العلمى الواسع لكشوف الفضاء ، وعمل الأقمار الصناعية ، ودراسة الصور التى تقدمها لنا عما يقع فى هذه الأرض من حركات مدنية وعسكرية ! وإمكان الإفادة من هذه الأقمار فى عالم الإعلام والبث الإذاعى" . ترى ماذا نقول للناس فى هذا البث ؟ ومضى المحاضر يتحدث عن آفاق التقدم العلمى المعاصر ، فتطرق إلى علم الأحياء ، وبيَّن أنه خطا إلى الأمام ، فبعد أن كان علماً وصفياً ، يعنى بسلوك وتركيب الكائنات الحية كلها ، ويشرح وظائف أعضائها ، تحوَّل إلى علم تحليلى يهتم بتكوين الخلايا الحيَّة منذ نشأتها الأولى مستعيناً بالأجهزة الحديثة مثل: " الميكروسكوب الألكترونى " الذى يستطيع تكبير الأشياء آلاف المرات ، وأجهزة الطرد المركزى التى أمكنت من فصل أجزاء الخلية وجزيئاتها ، والأشعة السينية التى تعطى فكرة عن التركيب البلُّورى للمواد ، والرنين النووى المغناطيسى الذى يساعد على تركيب الجزيئات ، بالإضافة إلى التطورات الكبيرة الناتجة عن استخدام النظائر المشعة ! . لقد استطاع العلماء ـ بهذه الأدوات ـ نقل الجزيئات الحاملة للصفات الوراثية من كائن حى إلى(1/19)
كائن آخر ، وقد تدخَّل " الكونجرس " الأميركى ومنع المضىّ فى هذه البحوث ، لأنه خشى أن تتولد من عمليات النقل جراثيم تقضى على الحياة البشرية . قال المحاضر: "وقد اتجه العلماء ببحوثهم فى مجال الهندسة الوراثية إلى البكتريا والفيروسات ، ومنها إلى الكائنات الأكثر تعقيداً بعد توفير ضمانات معينة ، طمأنت المسئولين. ص _024
وصعد البحث من الأرض إلى السماء ، والصورة المرتسمة الآن فى أذهان العلماء أن الكون يحتوى على ملايين المجرات الموزعة فى الفضاء على جميع الاتجاهات بشكل متجانس ، وأن هذا الكون يتمدد ، وقد يظل كذلك حتى ينفجر.. " ثم تحدث المحاضر عن " الحاسبات الألكترونية " قائلاً : " إن توسعاً هائلاً دخل في صناعتها ، وأن المواد نصف الموصلة قد تطورت من 1004 قطعة من المعلومات لكل شريحة سنة 1971 إلى 64 ألف قطعة معلومات لكل شريحة سنة 1978 ، وأن هذه الحاسبات ستدخل البيوت فى الولايات المتحدة خلال عشرين سنة ، ومن الممكن تصور استخدام الحاسب لتنفيذ مطالب معينة عن طريق التليفون ، كطهى الطعام فى الأفرإن ، وغسل الملابس ، وتسجيل المواعيد ، والإشراف الطبى على المرضى ، والحراسة والإنذار عند الخطر ، والجلوس مع الأطفال . . إلخ " . إننى أبحت لنفسى هذا التلخيص كى يشعر المسلمون بأن ضيق الأفق قاتلهم لا محالة ، وأن العزلة عن الكون وعلومه جريمة فى حق الإسلام وأهله ، وأن تأييد الحق الذى شرَّفهم الله به لا يتم بالقصور العلمى وحسبان الدين مراسم جوفاء ، وأن العبادة كما تكون مناجاة لله فى صلاة خاشعة تكون مدارسة لعلمه الجليل فى كونه الكبير .. التفريط فى خدمة العربية وقد رأيت أن الأستاذ الدكتور ألقى محاضرته باللغة العاميِّة لأنه- مع إيمانه- كان عاجزاً عن التحدث باللغة الفصحى! . وتفريط العرب قى خدمة اللغة العربية فضيحة مشهورة ، وهو تفريط بدأ هيِّن النتائج فى عصور خلت ، ثم استفحل شرُّه فى العصر الأخير حتى بلغ الخزى بنا(1/20)
وبلغتنا أن طالبا فى بيروت سأل أستاذه عن المعنى العربى لمصطلح أجنبى ، فقال له الأستاذ المرتدُّ : وهل العربية لغة ؟ ! وسماسرة الغزو الثقافى يضاعفون جهودهم فى هذه الأيام العجاف للقضاء على اللغة قضاء تاماً فى أغلب ميادين النشاط الفنى والعلمى. والمفروض أن تكون اللغة العربية لغة عالمية ، فهى اللغة الوحيدة للوحى ص _025
الآلهى الباقى على ظهر الأرض ، وتعليمها وتعميمها واجب كفائى ـ بتعريف الأصوليين ـ وبالتالى فهو فرض عين على المدرسين العرب ، وعلى المجامع والمعاهد التى خصصت لذلك . وهو أبرك وأغزر مثوبة من قضاء الليل فى التسابيح والتحميد ! لأن العربية إذا انهزمت وانفرط عِقْدُها ضاع القرآن نفسه ، ونشأت أجيال أعجمية لا تفهمه إذا بقى من يقرؤه !! . وصورة واقعنا الآن أن ألف مليون مسلم يقدسون القرآن شكلاً ، وأن سُبْعهم من العرب الذين يندر فيهم المجيدون لقواعد اللغة وآدابها ، وقد وصل إلى مناصب الحكم دهماء لا يحسنون الخطابة السياسية باللغة الفصحى . ولغتنا لا وجود لها فى الكليات العملية لأن الدراسة باللغات الإنجليزية ، أو الفرنسية ، أو الروسية ، أمَّا ألفاظ الحضارة التى نحتت لها فى اللغات الأخرى ألوف المفردات والتراكيب فليس لها مقابل لدينا . وريبتى شديدة فى المجامع المتخصصة ، ما الذى قامت به ـ وهذا عملها؟ وإذا كان لها عمل ـ ما حالت عوائق مصطنعة دون ظهوره ـ فما أخرسها عن الجؤار بالشكوى واللغة تموت ؟ وسبب الريبة أن الدكتور طه حسين ظل رئيساً لمجمع اللغة العربية عدة سنين ، وهو يصل إليه محمولاً لعجزه عن المسير ـ أو عن التفكير ـ ومع ذلك فقد استبقى عن عمد ! لأنه لا يهتم بالدفاع عن اللغة إلاَّ مؤمن غيور ، والرجل فى ذلك المجال معروف ! والسؤال الذى لا نفتأ نردده : ماذا يصنع حرَّاس اللغة العربية واللغة تموت يوماً بعد يوم ؟ إن موت لغتنا يعنى هلاكنا الروحى والمادى معًا . ملحق من أمارات النُّضرة فى ثقافتنا(1/21)
القديمة هذه الكلمات لابن الجوزى يدعو فيها إلى علو الهمة ، ويطلب من المسلم أن يكون طليعة سابقة فى كل ميدان ، يقول : " ينبغى للعاقل أن ينتهى إلى غاية ما يمكنه ، فلو كان يتصَوَّر للآدمى صعود السموات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض! ولو كانت النبوة تحصَّل ص _026
بالاجتهاد رأيت المقصِّر فى تحصيلها فى حضيض " إن هذه الصيحة الشَّماء نضحت من وحى الإيمان الحق ، ومن خصائص التربية الإسلامية فى الشروق المحمدىِّ الأول ، وهو الشروق الذى قاده رجال أصحاب عَزْمات شداد ، وآمال عِراض ، فطووا فى سياحتهم المشارق والمغارب ! . وابن الجوزى من علماء القرن السادس الهجرى ، ولو رأى المسلمين الآن فى عصر الفضاء ينظرون إلى غزاة الجوّ ببلاهة لحمل السوط وجلد به الظهور ، ولبرَّأ الإسلام من هذا الانتماء المخزى ! . وأريد أن أنقل نصّأ لإمام الحرمين يتحدث فيه عن فروض الكفاية ، وعن الموقف إذا تعارض فرض كفاية مع فرض عين ؟ ولنثبت النَّص أولاً ثم نتبعه بشرح موجز.. قال رحمه الله : " ثم الذى أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات ، وأعلى فى فنون القربات ، من فرائض الأعيان! ما تعيَّن على المتعبد المكلَّف لو تركه ولم يقابل أمر الشَّارع فيه بالارتسام ـ الانقياد ـ اختصَّ المأثم به ، ولو أقامه فهو المثاب " . " ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لَعَمَّ المأثم الكافَّة على اختلاف الرتب والدرجات ، فالقائم به كافٍ نفسه وكافَّة المخاطبين الحرج والعقاب ، وآملُ أفْضَلَ الثوابِ ، ولا يهون قَدْرُ من يحلُّ محلّ المسلمين أجمعين فى القيام لِمُهِمٍّ من مهمات الذين " . " ثم ما يُقضَى عليه بأنه من فروض الكفايات قد يتعين على بعض الناس فى بعض الأوقات ، فإن من مات رفيقه فى طريقه ، ولم يحضر موته غيره تعيَّن عليه القيام بغسله وتكفينه ودفنه .. إلخ " . ومضى الإمام بمنهجه الذكى بشرح ضرورة التيقُّظ لفروض الكفاية ، ويبيِّن(1/22)
كيف تتحول فروض عين ، ويبدى رأيه فى تقديمها على الواجبات العينية فى بعض الأحيان. ولست أحب الجدال فى قضايا موهومة ، فأتخيل فى دنيا النَّاس اليوم أن الوقت لابد فيه من أحد أمرين : إمَّا الصلاة مثلاً ، وإما كذا من الواجبات الكفائية ! . إن أسبوع العمل فى العالم المتقدم أربعون ساعة فقط ! استغرقت كل ما تطالبُ به الأمة من أعمال تثبت وجودها ، وتنجح رسالتها ، وتعلى رايتها. ص _027
وما بقى من (168) ساعة هو لاستجمام الفرد ومرحه ولهوه . والدين لم يقاسم المرء ساعات عمره بهذا الحساب ، ولم يجعل للعبادات المحضة إلاَّ أويقات محدودة ! . ويقدر كل إنسان أن يجعل طعامه ومنامه عبادة بحسن القصد وإرادة الله وابتغاء ما عنده. ويقدر كل إنسان أن يجعل أى عمل له فى البر أو البحر أو الجو طاعة لله بهذه النيَّة الشريفة . وعندما فرض الله الصلوات المكتوبة جعل لها أوقاتاً موسعة ، وأوقات ضرورة. ويمكن التنسيق الجميل بين شعائر الله ، وسائر الأعمال الأخرى ! . الأساس الذى ننطلق منه أن نعرف أنفسنا ، أن نعرف أننا أصحاب رسالة سماوية لا تنجح إلا إذا ملكت خيرات الأرض وبركاتها وطوَّعتها لخدمة هذه الرسالة . لا، إن الإسلام هو وحده العلاقة الفذَّة بين الله والنَّاس ، من بدء الخلق إلى قيام السَّاعة! ولدينا وحدنا معالم الوحى وكلماته الأخيرة ، فإذا فشلنا فى تقدير تراثنا ، وحشد قوى الكون لإحقاق الحق وإبطال الباطل فلا نلومَنَّ إلاَّ أنفسنا . * * * * ص _029
الفصل الثاني فى الثقافة والتربية والأخلاق ص _031(1/23)
الدراسات التقليدية عندنا ، أو ما يسمّى بالتعليم الأصلىّ فى الجزائر، أو ما أسميه الثقافة الذاتية للأمة الإسلامية ، هذا النوع من المعرفة يذوى ويخفّ وزنه ويتوارى رجاله ! إن الثقافة الذاتية شىء ، والعلم الذى لا وطن له شىء آخر ! . العلم العام كالهندسة والجبر والحساب ، والفيزياء والكيمياء والأحياء ، والطب والعمارة والفنون العسكرية والمدنية المختلفة ، هذه كلها تنتشر فى القارات الخمس ، ويتنافس البشر فى إجادتها ، ويقتربون أو يتحدثون فى حصيلتها . وهى فى جملتها وسائلُ لخدمة الأمم ورسالاتها المتباينة فى هذه الحياة . أى أنها تنمو وتمتد فى حضانة ووصاية الثقافة الذاتية لأية أمة . ذلك أن هذه الثقافة تصوَّر شخصية الأمة وملامحها الفكرية والنفسية ، وتشرح عقائدها التى تنطلق منها ، وأهدافها التى تنطلق إليها ، وتقاليدها وأخلاقها وشرائعها بدءاً من الأسرة إلى علائقها الدولية . كما تشرح آدابها ولغتها وخصائص شِعْرها ونثرها . وتهتم بالتاريخ لتربط الأجيال اللاحقة بالأجيال السابقة ، وتربط الولاء الخاص والعام بالقيم المقررة والشعائر الظاهرة . . الثقافة الذاتية إن هذه الثقافة الذاتية هى أكسير الحياة للأمة ، والمجدد الدائب لطاقاتها الأدبية والمادية . ومن هنا اتجه الاستعمار العالمى إلى ضرب هذه الثقافة ، وتوهين معاهدها فإما أجهز عليها ، وإما شلَّ حِراكها وأبقاها صورة هامدة أو اسماً بلا مضمون . وذلك ما حدث لجامعة القرويين والزيتون والأزهر والجامعات الإسلامية فى ليبيا والسودان وأقطار أخرى . ونتج عن ذلك أمران خطيران : اضمحلال العقل الإسلامى ، وضعف الدراسات الدينية . ثم اضمحلال اللغة العربية وآدابها وانكماشها أمام التقدم الحضارى وقلة المجيدين لها ، وكثرة اللاحنين فيها دون أدنى حياء . ص _032(1/24)
ولما كان ساسة العرب وقادتهم من خريجى التعليم المدنى ـ أكثر من 99% منهم بعيد الذهن عن ثقافتنا الذاتية ـ فإن النهضة الإسلامية تتعثر حيناً وتتقهقر حيناً ، وإذا تقدمت خطوة ففى وجه صعوبات دامية . وقد شعرتُ بالخزى وأنا أسمع هؤلاء يخطبون ! إنهم يتحدثون عادة بلغة الدهماء ، وإذا جرت على ألسنتهم كلمات عربية ، فإن (بَدْء) تنطق بكسر الباء ! و (من ثَمَّ) تنطق بضم الثاء ! أما قواعد النحو ، فحدِّث ولا حرج عما يعتريها من إهانة ! والأغرب من ذلك أن محطات الإذاعة تنشر دراسة متصلة عن " الخصائص البلاغية " لصاحب هذه الخطابة العامية ، ولم يبق إلا أن ننشر بحوثاً أخرى عن مظاهر البديع والبيان والمعانى فى بغام الدواب ونقيق الضفادع !! . ولا أعرف لغة اعتدى على شرفها كما يعتدى هؤلاء على اللغة العربية المسكينة. أما الدين نفسه فحديث مملول ، وتذكر بما مات أو بما ينبغى أن يموت ، ولكن هذا الشعور يُغلِّف ببعض عبارات المجاملة أو التوقير المصنوع اتقاء لغضب الجمهور. فإذا أمن ذلك الغضب فى مجتمع ذليل ، أو منحلٍّ فالدين رجعية ، والصلاة مشغلة للوقت ، والصيام مُعطِّل للإِنتاج . وهذا كله يقع والعرب فى حرب مع اليهود الذين أحيوا لغتهم ، ومزقوا عنها الأكفان ، وأحيوا صلواتهم ، ومشوا لأدائها فى عواصم أمريكا باعتزاز وثقة . العلوم الإنسانية وصلتها بالثقافة الذاتية لندع هذا الاستطراد الحزين ولنعد إلى حديث الثقافة الذاتية والعامة لنتساءل : هل العلوم الإنسانية من النوع الأول أو الأخير؟ والعلوم الإنسانية هى علم النفس والاجتماع والتربية والأخلاق والاقتصاد والسياسة والإدارة والتاريخ .. إلخ ، وقد تنضم إليها بعض الفلسفات الإلهية أو غير الإلهية . ص _033(1/25)
وموضوعات هذه وتلك تتناول صلة الإنسان بنفسه وغيره ودائرتها تتشابك مع الإسلام فى مساحات واسعة . وأرى أن نستفيد من هذه الدراسات على ضوء من المعرفة الدقيقة بما قال الإسلام فى قضاياها المتشعبة . إن العلوم الإنسانية تكون أحياناً وَصّافة لأحوال النفس والمجتمع ، ويتسم عملها فى هذا المجال بالصدق والحياد غالباً . وقد تقرر أحكاماً حسنة تتفق مع النظرة التى هى صفة الإسلام الأولى . وقد تشرح وسائل جيدة لأهداف يسعى إليها الدين ، ويترك مايوصل إليها لاجتهادنا العادى . وإلى جانب ذلك فقد تتضمن أخطاء ونظرات شاردة ، وعلى كل حال فالإسلام إذا تكلم فهو أهدى منها سبيلاً ، وأصدق قيلاً . وقد تناول آباؤنا فلسفة اليونان ، ونشاطاتهم العقلية ، فمنهم من فُتِنَ بها إلى حدِّ الغفلة ، ومنهم من رَدَّها جملة وتفصيلاً ، ومنهم من أخذ وردَّ ، ونظر ونقد . وإنى لأعجب من مفكر مسلم يقبل خرافة العقول العشرة التى اختلقها أرسطو ، ومن مفكر آخر يقبل الهراء المذكور عن مدينة أفلاطون الفاضلة ، ولا أعرف سبب هذه الغفلات ؟ ! وقد درسنا جملة من العلوم الإنسانية فى شبابنا ، ولا نزال نتابع القراءة والمقابلة فى قضايا كثيرة . وإنما دفعنى إلى الوصاة باستمرار هذه الدراسة أمران : أنها تعرض الواقع الأدبى والمادى للبشرية كلها ، ومعرفة هذا الواقع مطلوبة . وأنها قد تتضمن مقترحات لخير الإنسانية أجود من المقترحات التى يعرضها أصحاب التدين المغشوش ، أو السطحى للإصلاح العام ! . إذ يوجد بين المتدينين للأسف من يعتبر الدساتير بدعة مردودة ، لأن ضبط نواقض الوضوء أهم عنده من ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم .! ص _034(1/26)
الحاجة إلى إحياء الثقافة الذاتية وأشعر فى هذه الأيام بأن الحاجة ماسة إلى إحياء ثقافتنا الذاتية ، وتنقية جوها وتوسيع دائرتها ، فإن الاستعمار الثقافى الملحاح نجح فى إعطاب شخصيتنا المعنوية ، وفتنة ألوف مؤلفة من عقائدنا وعباداتنا وأخلاقنا ، كما نجح فى بلبلة ألسنتنا وطىِّ شرائعنا وتحقير شعائرنا ، ودفعنا فى المجتمع الدولى بلا صبغة حقيقية وهوية متميّزة ، وهذا هو الانهزام التام . إن الرجل عندنا قد ينال أعلى الإجازات العلمية فى الطب أو القانون ، وقد يُّعيَّنُ فى أعلى المناصب بأوروبا وأمريكا ، لكن صلته بدينه صفر ، وعلاقته بجنسه هواء ، على حين يكون زميله اليهودى كالإعصار فى خدمة الصهيونية ، وزميله النصرانى أسرع من البرق فى خدمة الاستعمار ، فهل هذا المسلم البارد الشعور أوالمرتد القلب يُجدى على أمته شيئاً؟ إنه كالجندى المرتزق بسلاحه يخدم أى مبدأ على ملء بطنه وإيثار عاجلته .. وانتشار التعليم المدنى فى بلادنا على أساس تجريده من ثقافتنا الذاتية ، وانتماء المحدَّد شىء يضر ولا يسرّ ، ويقلق ولا يطمئن . . وعندما نعود إلى قواعدنا الروحية والفكرية لابد من تجنب محظورات كثيرة. * العقائد عندنا أقلّ كمّاً وكيفاً من الكتب التى تعرضها ، ومجادلات الفراغ التى حفَّت بها والتى شعَّبت قضاياها دونما سبب . . وهى تُستفاد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فى وقت قليل ، والمهم أن تتشبث بالقلب ، وتتحول إلى قوة دافعة ، ونور يضىء الطريق . . * العبادات وعلومها ليست بحراًّ طامّاً لا ساحل له . إنها فى ديننا سهلة الفهم والأداء ، ويوجد ناس يحبون أن يشرحوا الطهارة للصلاة فى شهر من الزمان ! إن هذا المسلك ضرب من البطالة المقنّعة ، وقد شاع فى عصور شتى اعتبار الكلام فى الإسلام هو العمل الأول والأخير به . وما كان سلفنا العظيم كذلك قط ، كان يتعلم دينه فى ساعات قلائل ، ثم يشق ميادين الحياة به مستبطناً روحه ، منطلقاً(1/27)
إلى أهدافه فى جد وصدق . نعم قد يوجد متخصصون فى دراسات معينة ، وللتخصص رجالاته ومطالبه، كأى ميدان علمىِّ آخر . ص _035
* بناء الأفراد على الأخلاق الفاضلة ، وبناء المجتمعات على التقاليد الشريفة ركن ركين فى دين الله ، والتربية كالزراعة و الصناعة عمل يحتاج إلى جهد طويل، وتشترك فيه عناصر كثيرة ، وليس كلاماً مرسلاً ، أو خطابة حماسية . كيف نخلِّص النفوس من الحرص والحقد والكبر والرياء؟ كيف ننشىء ناساً يحبون الإتقان ، ويعشقون الجمال والإجادة ويرفضون الخلل والفوضى ؟ فى أمة يكره دينها الأمر الفرط ، لماذا ينتشر التسيُّب فى إداراتها ؟ وفى أمة يُبْنى فقهها على النظافة لماذا تنتشر القمامة والوساخة ؟ إن تقاليد الرياء تقتل الرجال والنساء فى أكلهم وشربهم ولباسهم وزواجهم وأحوالهم كلها ، أين السهولة والإخلاص والبساطة ، وديننا أساسه الفطرة ؟ ! . أحياناً أنظر إلى حضارة الغرب فأجدها- على ما بها- أقرب إلى فطرة الله من ضروب التكلف والتزوير التى نمارسها بالليل والنهار. فنغضب ربنا ونشقى أنفسنا!. ما أفدح الثمن الذى تدفعه أمتنا للحفاظ على تقاليد ما أنزل الله بها من سلطان ، وعلى تزويق الظاهر مع خواء الباطن ! . التربية المنشودة إن التربية المنشودة ليست شيئاً سهلاً ، إنها معاناة وجهد يقوم بهما المربِّى والمربَّى معاً وتشترك فى تحقيق النتيجة عناصر أخرى ، فى مقدمتها : البيت والبيئة والسلطة الحاكمة ، كما يشترك الماء والشعَاع ، والحر أو البرد فى إنضاج الثمار . . وعظة المنبر ، ونصيحة المدرس وحدهما لا تصنعان الناشئ ، وإن كان لهما أثرهما . إن علم المنطق ، كما عرفوه ، آلة قانونية تعصم الذهن عن الخطأ فى الفكر ، ومع ذلك فهذا العلم لا يصنع مفكراً . وعلم العروض والقوافى قد يحصى بحور القصائد ، ويكشف ما فى التفاعيل من خبن وقبض ، وهيهات أن يصنع شاعراً. ص _036(1/28)
وقد ألفنا أن نتلقى الدين كلاما أو رسوما ، بيد أن هذا التلقى لا يصنع زكاة الأنفس ، ولن تفلح نفس فقدت هذه الزكاة ، ولن يفلح امرؤإذا تحرك عقله تحركت معه قيود الخرافة أو الأوهام التى نسجها الخيال . والعناصر المؤثرة فى التربية لابد من تجانسها وتناسقها ، أى : لابد أن ينتظمها ولاء واحد ، وأن تتدافع إلى هدف واحد ، فإذا كان البيت مسلماً ملتزماً بتعاليم الدين فإن عمله سيبطل أويضعف إذا كانت الحكومة علمانية والمدرسة مدنية. والخلل الذى نلاحظه على المسلمين المعاصرين يعود كثِفْلٌ ضخم منه على هذا التقطع والتضاد فى وسائل التوجيه ، فإن الاستعمار العالمى استمات فى إقامة أجهزة اجتماعية واقتصادية وسياسية تضرب التربية الإسلامية بخبث وقساوة ، فما ينجو إلا من عصم الله . وأكره أن أحمِّل الاستعمار كل هزائمنا المادية والأدبية ، وأن أفرَّ من تبعات التقصير الذى عرقل خُطاى من قديم ، إننا نحن المسلمين عُنينا بجانب من الأخلاق وأهملنا جوانب ذات بال ، وظننَّا أن هذا الإهمال يغفر أو يُجبر بالانتماء إلى عقيدة ما ، والمداومة على عبادة ما . أخذنا من الأخلاق جوانبها القريبة ، فقد نفهم الأمانة على أنها الوديعة ، ونردّ ما استودعنا الآخرون إياه ، أما أن المنصب أمانة ، لا يجوز استغلاله لمأرب خاص ، ولا يجوز الإخلال بأعبائه الجسام فهذا شأن آخر . .! ويغلب أن يكون طلب المنصب للاستغناء والاستعلاء ، والبحث عن الذات لا البحث عن مصالح الأمة . . والصدق خلق معروف ، ويغلب أن نصدق فى القول لا فى العمل ، لأن الصدق فى العمل صعب ، إنه إحقاق الحق وإبطال الباطل ، والتزام السنن التى قامت عليها السماوات والأرض . وقد يتقاضانا هذا أن ننتخب الأصلح ، ولو كان من غير قرابتنا ، وأن نؤثر بالوظيفة فقيراً ونطرح غنيّاً ، وليس يقدر على هذا إلا الرجال . وحب النفس من طباع البشر ، فإلى أى مدى يهيمن هذا الطبع على مسالكنا؟ إن السيادة تقدم ، فيسبق(1/29)
الرجل المرأة ، ويتخطى الكبير الصغير ، ويتحرك هذا الشعور الهابط فى عشرات المعاملات ! الكل يقول : نفسى نفسى ! فهل هذا السلوك هو التفسير المنتظر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه " ؟ ص _037
إن الله كتب الإحسان على كل شىء ، ونكاد نحن قد قررنا التقصير فى كل شىء ! وقد بحثت عن السبب وراء هذا الخراب النفسى ، وهُديتُ إلى شىء قد يكون الحق ، أو بعض الحق ، إن المغالاة فى تقدير الجانب الغيبىِّ من الدين تتم على حساب الجانب العملى أو الواقعى ، وهذا خطأ ! . رأيت تاجرً يبيع السلعة لأحد الناس بأغلى من سعرها ، فقلت له : لِمَ تغبنُ هذا المشترى وهو مسترسل معك؟ قال : ألا تعرفه ، إنه فلان الذى ينكر كرامات الأولياء! قلت: ينكرها أو يقرها ، يجب أن تعامله بشرف ! قال : هذا قليل الدين و . . قلت له : ليكن يهوديّاً أو نصرانيّاً فاستغلاله لا يجوز ، والخداع حرام مع المؤمن والكافر . . أتظن إيمانك بالكرامات مُسقطاً لفضائل الأخلاق . ! ولاحظت أن شاباً يتكلم بحقد عن أحد الدعاة ، قلت : ما تنقم منه؟ قال: ما يعرف السنة ! ألا ترى إسباله لثوبه؟ وما يحسن الصلاة ! يقعد وقدماه على هيئة كذا ! قلت : تكره مسلماً وتتمنى له الشر لهذه الصغائر؟ إن تضخيم هذه الأمور دليل مرض نفسى ، ومعصية قلبك أبعد عن المغفرة من اضطراب مظهره ، ولعله أقرب إلى الله منك . . ! وعلى هذا النحو ترى رجلاً يتبع مذهباً فى العقيدة ، أو فى فقه الفروع ، فيحسب أن اهتداءه إلى هذا المعنى ، أو إلى هذا المسلك ، قد جمع له المجد من أطرافه ، فلا حرج عليه أن يتصرف كيف يشاء ، وكأنما قال الله له : افعل ما شِئْتَ فقد غفرتُ لك !! . ومن هنا استهان كثير من الذاكرين أو الدارسين لبعض السنن ، بمعاقد الأخلاق وقواعد الآداب ، كما استهانوا بشئون الحياة ، وضبط مجراها ، وامتلاك زمامها ، فكانوا نكبة على الدين والدنيا معاً ، ولقى الإسلام(1/30)
على أيديهم هزائم نكراء !! . والأمراض الخُلقية التى تصاب الأمم بها مع انتشار الفساد السياسى كثيرة ، وهى تختلف من عصر إلى عصر ، ولسنا بصدد إحصائها ، وإنما نتساءل فقط : ماذا يعنيه تزوير انتخابات فى قطرٍ ما ؟ إن هذا التزوير يُحدث دماراً أخلاقيّاً أوسع من الدمار المادىّ الذى يحدثه أى زلزال رهيب ! جيش من الرجال ذوى المناصب الكبرى والصغرى يتحول إلى خلية نحل فى مصنع للأكاذيب واسع الدائرة ، هادر الآلات ، يعاون بعضه بعضاً فى اختلاف الآراء وتسجيلها ، وتصعيدها وترحيلها من بلد إلى بلد ، ثم تلتقى آخر الأمر كما تلتقى ص _038(1/31)
شبكة المجارى القذرة لتخبر العالم كله أن فلاناً أحرز من أصوات الناخبين كذا وكذا . . ونجح نجاحاً كاسحاً . .!! وعندما يُمسى الناس ويصبحون على هذا التكاذب المفضوح ، أيكون الصدق عملة رائجة أم مُزْجاة ؟ أتستقر فى المجتمع تقاليد الشرف أم تقاليد اللصوصية ؟ أيتقدم أهل الأدب والتقوى أم يُهال عليهم التراب ؟! . إن دعائم التربية تحتاج إلى حراسة مشددة بعد أن يتم استنقاذها من هذا البلاء المبين ! . وعرض ثقافتنا الذاتية على الناس فى هذه الأيام ينبغى أن يصحبه ما اكتنفها على مرّ العصور . ونحن نذكر على عجل أن المسلمين فى العصر النبوى ، ثم فى عصر الخلافة الراشدة ، لم تكن لديهم هذه البحوث المطوَّلة فى أصول الدين وفروعه ، كانت آيات أو سور من القرآن الكريم ، وجملة من الأحاديث الصحيحة هى كل ما يعرفون ـ حاشا المتخصصين وأهل الفتوى ـ وكان فقه العبادات يتناقل بالأسلوب العملىِّ ، ثم يتوجه الجمهور بعد ذلك إلى الكدح والجهاد وإعلاء كلمة الله. ثم استفاضت الدراسات الدينية ، وكثرت البحوث فى كل ميدان. تُرى هل هذه السعة للتحلِّى والتسلِّى أم لمزيد من الخشية والتقى . ؟ المقرر عندنا أن المرء مسؤول عن علمه ماذا عمل به ؟ والذى رأيته وأنا أعمل فى ميدان الدعوة من أربعين سنة أو يزيد ، أن أكثر هذه المعارف فضول ، وأن الناس يقبلون عليها تزجية للفراغ ، ومدافعة للبطالة ، وأن عشر ما يعلمون يكفيهم فى فقه الإسلام كله ، ويبقى عليهم بعد ذلك أن ينصرفوا إلى العمل المثمر . والقرن الرابع عشر ينتهى ، ثم يجىء القرن الخامس عشر ، ومشكلات الأمة الإسلامية تتعقد وتتضاعف . والليالى من الزمان حبالى مثقلات يَلِدْنَ كلَّ عجيبة ! الأعداء تنمو أطماعهم، وتربو ضغائنهم ، وتتقارب مسافة الخُلْفِ بينهم ، والتخلُّف الحضارى عندنا يثير الأسى ، ومع ذلك كله فإن بعض حملة العلم الدينى يَسْتَحْى من الآراء المدفونة ما يثير الغثيان ! . ص _039(1/32)
وبدلاً من أن يُوجِّه شباب القرن الجديد إلى العمل المناسب لخدمة دينهم ، يديرهم فى حلقة مُفْرغة من القضايا التى أوجدها الفراغ أيام الفراغ. قلت لواحد من هؤلاء : إن الفكر الدينى سَمِنَ ونما له كرش من هذه القضايا، وما تعود له صحته إلا إذا ذهبت هذه السمنة ، واختفى هذا الكرش ، واشتغل المسلمون بعلوم الحياة التى ينصفون بها دينهم المُحْرَج ، ويردون بها أعداء متوقحين . وهنا نتكلم عن الثقافة الأخرى المقابلة لثقافتنا التقليدية ، أو العلم الذى لا وطن له كما يقال ! .. لقد فكرت يوماً فى " المطبعة ومخترعها " ورددت لو أن هذا المخترع النابه رجل مسلم عربى أو غير عربى ، فإن المعروف لدينا أن أول كلمة فى وحى الله لنبينا (اقرأ) لكن هذا الجهاز بدأ ساذجاً فى الصين ، ثم تحسن كثيراً فى ألمانيا ، وبلغ حداً من الكمال فى هذه الأيام بعيدا عن أرض الإسلام. تساءلت : لماذا ! إن هذا الاختراع وغيره ولد ونما بعيدا عن مجتمعاتنا ، فهل نحن بشر دون البشر؟ وسمعت صحافياً يقول عن خبرة : إن الصحراء الغربية مليئة بالنفط . فقلت : لماذا لا يستخرج؟ قال : إن الشركات الأجنبية ترجئ ذلك إلى حينه ! قلت : وما دخل الشركات الأجنبية؟ قال : هى التى تملك أدوات التنقيب ، وتتعرف بأجهزتها على الأماكن الحافلة بالمادة الثمينة ! وهمست إلى نفسى : ونحن لا نعرف الأماكن ، ولا نملك الأدوات ، لماذا ؟ ويجب أن نعرف الإجابة على هذه الأسئلة . إننا لسنا فوق المساءلة ! إن المسلمين الآن خُمْس العالم أو ربعه ، ولهم دينهم ودعاواهم وآمالهم ، لقد كان المفروض أن يكونوا للعالم مرشدين ، فماذا أزرى بهم؟ وكان مفروضاً أن تكون يده العليا بالعطاء الأدبى والمادى فماذا عراهم ؟ هل لدينا أثر فى هذا العجز؟ والجواب السريع : كلا كلا ، فما يوجد كتاب ينتمى إلى السماء فيه تنشيط للعقل ، وإطلاق للمواهب كالقرآن الكريم . وماذا بْعد أن يقال للناس إن الله سخر لكم الكون كله ،(1/33)
سماءه وأرضه ، فاهبطوا واصعدوا وسيحوا وقرُّوا كيف تشاؤون . ص _040
(ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) هل المسلمون دون البشر ، ففى بصرهم قصر ، وفى هممهم بلادة ؟ كلا كلا ، فقد سادوا العالم كله أعصاراً ، ودخلوا فىِ عراك فناء أو بقاء مع أعتى أمم الأرض ، وخرجوا من ميادين الوغى منتصرين بعد جِلاد وحشىِّ !! إذن ما السبب فيما عرا العقل الإنسانّى ـ بعد ـ من خمول ـ وما أصاب جماهير المسلمين من كَلال سلَّطَ عليهم ذئاب الأرض تنهشهم من كل جانب ، ذئاب الأرض؟ لا بل ذبابها . ! ؟ إن يهوديّاً من " لوس انجلوس " بالولايات المتحدة جاء إلى فلسطين يطلق الرصاص على أهل " الخليل " يريد استخراجهم من مساكنهم واحتياز الأرض لنفسه ! إن البغاث بأرضنا يستنسرُ !! أصبع الاتهام وأقول فى إيجاز وصراحة : إن أصابع الاتهام تشير إلى صنفين من الحكام والعلماء جرُّوا على أمتنا هذا التخلّف المهين خلال قرون متطاولة ، وكانوا السبب فى الأمراض التى أقعدتها فى وقت انطلق فيه أهل الأرض ينسفون العقبات ، فلم يكفهم أن بلغوا السحاب حتى غزو الفضاء ، ولم يكفهم أن بنوا الجوارى فى البحر كالأعلام حتى غاصوا فى أجواف البحار يحملون معهم " الرؤوس النووية " ذات الدمار الشامل. فى رأيى أن الاستبداد السياسى من أول أسباب الشلل الفكرى عند المسلمين ، إنه ليس هيناً أن يسير الإنسان فى الطريق خائفاً يترقب ، فقد تهوى عصا على أمِّ رأسه تودى بحياته ، أو تناله صفعة على قفاه تودى بكرامته ، أو يُّؤخذ بتلابيبه فيرمى فى السجن لا يدرى شيئاً عن أهله وولده !! إن الحاجة إلى الاستقرار النفسى كالحاجة إلى القوت ، وكان الخليل إبراهيم يقدر حقوق الإنسان الأدبية والمادية معاً عندما جأر ـ قبيل إنشاء مكة . (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) الجندى المأمور بضرب الناس لا يبالى أن يسحق تحت حذائه أكبر مُخٍّ فى ص(1/34)
_041
العالمين ، لأنه لا يميز بين مخ ومخ ، ولا يدرى إلا أنه مكلّف بالضرب ، إنه آلة بشرية فى يد جبار .. وعندما يصف القرآن الكريم سياسة الفراعنة يسلك الآمر والمأمور فى نظام واحد : (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) قد يضفى على الجميع الطابع العسكرى القاسى : (هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود * بل الذين كفروا في تكذيب * و الله من ورائهم محيط) المستبد لا يرى إلا نفسه ، ولا يبصر إلا مصلحته ، ولا يقرِّبُ منه إلا من يتملقه ويترضاه ، وأذكر أنه فى بقعة ما فى أرض الله ـ لا أقدر على تحديدها ـ ركب وزير مع رئيسه ، الذى كان يقود سيارته للتسلية ، فاصطدمت السيارة بشجرة على جانب الطريق ، ونزل الوزير مسرعاً ليقول لسيده : إن قيادتك للسيارة صحيحة ولكن الشجرة كانت تقف خطأ . !! فى هذا الجو الكالح من الزلفى والاستعلاء تموت المواهب النفسية ، فإذا انضم إلى الاستبداد الأعمى تضييق فى الرزق ، وأضحى المال عطاء يمرّ من بين أصابع الفرد الحاكم ، فهو يقبض ويبسط ، فعفاء على الأخلاق والذمم . . عندما كنت أقرأ قصة اختراع الآلة البخارية كنت أرى الشباب الإنكليزى يتابع ببصره رفع البخار لغطاء الآنية ، ويفكر بأناة فى استغلال هذه القوة لمصلحة البشر ، كان مطمئن البال وهو يتأمل ويستنتج ، إن أحداً لن يجرَّه إلى دار العمدة ليضرب مائة سوط على تصرفه ، إنه لن يقف أمام ضابط يقول له : فكر فيما ينفعك " يا روح أمك " كما يجرى على كثير من الألسنة فى الشرق الإسلامى ! كانت الكرامة الأدبية والمادية قد تقررت للجماهير فى بلده بثمن رهيب ، دفعه ملك إنجلترا من رأسه . !! ولا أستطيع التوسع فى هذا البحث ، وحبذا لو تولت لجنة جامعية استقصاء آثار الحكم الفردى على الفكر الإسلامى فى شتى العصور . أما دور المتحدثين فى الدين الذين وقفوا النشاط العلمى ، فيظهر أولاً فى البحوث الكلامية الغيبية ، والفروع الفقهية الوهمية ، والكراسات التى حفلت(1/35)
بحَشْو لا آخر له ، ثم عدَّت ذلك كله هو العلم الذى لا علم معه. وبذلك قطعت الطريق على طب ابن سينا ، وكيمياء جابر ، وبصريات ابن ص _042
الهيثم ، ولوغاريتمات الخوارزمى ، بل إن معرفة التقدم العلمى عند العرب لا تجد مراجعة إلا فى مكتبات الغرب ، وعند المنصفين من المؤلفين الأوروبيين ! . أما جهود آبائنا فى الكون والحياة والطب والفنون الحربية فهى أقل من أن تذكر أو يؤرخ لها ! . إن الجهاز العصبىَّ للإنسان يضنيه ما اخترعه الغلاة والمخرفون من عبادات وأوراد ، ولا يبقى له وقت يستجمُّ فيه ، ويعكف بعده على التأمل والاختراع .. عندما يكلَّف مسلم ـ بعد ما ورد من أذكار اليوم والليلة ـ أن يقول : يا لطيف عشرة آلاف مرة ، فماذا يبقى له من فكر يكتشف به المجهود أو يخترع به شيئا . ؟ يتدرب لو استراح فى نومه وقام ، يتدرَّب على عمل عسكرى فى البر أو البحر أو الجو ، لكان ذلك أجدى عليه وعلى الإسلام ، إن ربنا ـ تبارك اسمه ـ أعفى المجاهدين من قيام الليل حتى يوفر لهم القدرة على جهاد النهار ، وكذلك أعفى التجار حتى يتفوقوا فى الميدان الاقتصادى ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قام بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه.. " . لكن الفكر العام عند جمهور المسلمين أن علوم الكون والحياة نافلة ، ونحن نستميت فى تفهيم الشباب الآن أن كلمة التوحيد مهددة ما لم نبرع فى هذه العلوم . ! وقد رأيت أحد طلاب الطب يقتنى أسفاراً ضخمة فى الفقه والحديث ، فأشحت عنها قائلا: أولى بك أن تقتنى هذه الأسفار الضخام فى المعرفة التى تخصصت لها ، لماذا لا تنافسون أطباء " لندن " و" باريس " فى رسوخهم وشموخهم بالمزيد من الاطلاع والتعمّق؟ وذكرت أن طبيباً شاباً من أصدقائى كان يتحدث مع أستاذ له فى " الخلية " فإذا الأستاذ يمد يده إلى رفًّ قريب ويتناول مجلداً كبيراً ويناوله الطبيب الدارس ، وإذا المجلَّد كله عن " الخليَّة " الحية وما أودع الله فيها من(1/36)
أسرار . . إن ألوفاً مؤلفة من الكتب العلمية تساند الحضارة الحديثة ، وتضمن لها هيمنة على شئون الدنيا فى كل ناحية من نواحي الحياة ، والقوم يدرسون بعشق هذه المواد كلها فى الوقت الذى أجد فيه طالباً جامعيّاً فى إحدى الكليات العملية مشغولاً بالرد على الجهمية !! ص _043
الفصل الثالث كلام فى الإسلام ص _045
قلت لأحد الناس: تعرف فلاناً ؟ فإن لى صديقاً يحب الاتصال به ، ولعله يريد أن يصاهره ، أو يشاركه فى تجارة كبيرة . . . قال : أعرفه معرفة حسنة ، إنه متوسط العمر ، قصير القامة أسمر الملامح. قلت : ثم ماذا ؟ قال : له رباط عنق جميل ، وحذاؤه لامع ، وعندما يتحرك . . فأسرعت أنا بإكمال الوصف ، فقلت فى سخرية : عندما يتحرك يكون مرح الأعطاف حلو اللفتات !! قال : ما تعنى بهذا الهزء ؟ قلت: السخرية منك! . . أهذا وصف تقدمه لإنسان ؟ إنك تشبه بعض المتحدثين عن الإسلام فى هذا العصر الأنكد ! يعرفون الناس به فلا يزيدونهم إلا جهلاً ، وربما صَدُّوهم عنه ، يجعلونه كائناً محلوق الشارب ، مكشر الأنياب ، مكحول العينين ، كميش الثياب . . إلخ التعريف يتجه إلى الحقائق الذاتية والعناصر المهمة ، إن ديننا مجهول عند الكثيرين ، الناس يريدون وصفاً للعقل الإسلامى ، والضمير الإسلامى ، والخلق الإسلامى ، والحكم الإسلامى . . يريدون أن يعرفوا الأسرة كما بينها الإسلام ، والدنيا كما ينشدها الإسلام ، وموازين العدالة كما ينصبها الإسلام . إننى أعتقد أن انتشار الكفر فى العالم يقع نصف أوزاره على متدينين بَغَّضُوا الله إلى خلقه بسوء كلامهم أو سوء صنيعهم ! . وما أرتاب فى أن الشيوعية ما راجت فى أوروبا وغير أوروبا إلا لأن الأحبار والرهبان أيأسوا الكادحين من عدالة السماء ، وسدُّوا فى وجوههم أبواب الرحمة ، فاتجهوا إلى السراب يحسبونه العباب .. ص _046(1/37)
واليوم يقوم ناس من المسلمين بدور الكهان القدامى ، فيصوِّرون الإسلام ديناً دموىَّ المزاج ، شرس المسلك ، يؤخر اللطف ، ويقدم العنف ، ويهتم بقصِّ الأظافر والأشعار أكثر مما يهتم بقصِّ زوائد الأنانية وغمط الناس !! . . والصورة التى تقدَّم ـ عالميا ـ لدار الإسلام أنها الدار التى ينتهب فيها المال العام ، ويسودها حكم الفرد ، وتهان فيها كرامة المرأة ، بل تضيع حقوقها . . وأن شوارعها ملأى بالقمامة ، ومدنها وقراها مظهر التخلّف المادى والأدبى ، وأن الفوضى والتقطع هما الرباط الذى يسود الجماهير . . وأن المصلحين الدينيين لا جؤار لهم إلا بحرب التصوير والغناء والسفور والتلفاز ، وأن العودة إلى الإسلام كما يطلبها الشباب لا تعنى إلا العودة إلى الهمجية الأولى . . ! ومعنى ذلك كله أن الحضارة الإنسانية فى خطر . .!! هل تسرُّنا هذه الصورة الكئيبة التى ترسم لنا ؟ إن أعداءنا يكذبون علينا ، بيد أننا نشجعهم على الكذب حين يضطرب فقهنا لديننا ، ويضطرب عملنا له ، وتكون حياتنا الخاصة والعامة بعيدة عن جوهر الدين وغاياته العظيمة . ذكر لى صديق ثقة أن رجلاً أمريكيّاً دخل الإسلام بعد دراسة متعمقة ، ثم قادته الأيام إلى بلاد الإسلام فى عملٍ مَّا ، وعاد الرجل مذعوراً يقول : الحمد لله الذى عرفنى الإسلام قبل أن أرى المسلمين . ! إنه توجد ردَّة جزئية فى بعض بلاد الإسلام ، وفى بعض آخر تقصير مكشوف ، كما يوجد جهل فاضح فى أرجاء كثيرة . وهناك نهضة مخلصة ينقصها الفقهُ والتجربة ، ونهضات صادقة يخونها الرسميون من علماء الدين أو يتثاقلون فى نصرتها . وهناك نفر من الحكام يحبون الإسلام حباً جمّا ، ولا يدرون كيف يخدمونه! وهناك حكام عالنوا بتأييدهم للعلمانية ، ولسياسة المرتد التركى مصطفى كمال أتاتورك. . ! ص _047(1/38)
جملة حقائق ونريد أن نثبت هنا جملة من الحقائق لا ينبغى أن تغيب عن الأذهان . . إننى أؤيد رأى ابن خلدون فى العرب لا بل إن وقائع الدهور هى التى أمست تؤكد هذا الرأى ! الرجل يرى أن العرب يستحيل أن يقوم لهم مُلك إلا على أساس نبوّة ، أو أن تقوم لهم دولة إلا على أساس دين !! . الجنس العربى له غرائزه الحادَّة ، ومشاعره الجياشة ، وخياله الواسع ، وخصائصه العقلية الحسنة ، وهذه السماء إذا لم تضبطها كوابح " فرامل " حديدية هوت بصاحبها فى عرض الطريق ! وإذا واتتها هذه الضوابط وراء نهضة دينية جيدة حلقت بها فى الأوج . وشواهد ذلك واضحة فى التاريخ العربى المديد . فى التاريخ القديم كان للعرب وجود فى الأعصار القديمة ، عادٌ فى الأحقاف جنوبى الجزيرة ، وثمود فى الحجر شمالى الحجاز ، ومدين فى شرق سيناء ، وقرى المؤتفكة فى الأردن ، لكن هذا الوجود عدت عليه عوادى الفناء بسبب أخلاق الترف ، والجبروت ، والشذوذ ، والتظالم . . وقد حكى القرآن الكريم قصص الأنبياء العرب فى أممهم ، وما لاقاه هود وصالح وشعيب ولوط من صدود وغطرسة ! فقضى فيهم الحق قضاءه ، واخترمتهم العقوبات التى حلت بسائر المجرمين . (فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته الصيحة و منهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ص _048(1/39)
حتى أهل مكة ، لما بغت فيها " طسم " و" جديس " أحيط بهم ، وأصبحوا أحاديث ملعونة ، فقال قائلهم : كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنَّا أهلها فأزالنا! صروف اللَّيالى والجدود العواثر وليس للحظ العاثر دخل فى حرب الإبادة التى شنتها الأقدار على أولئك العرب الفجار! إن العرب البائدة تمردت على الله فأذاقها بأسه ! . (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) وما بقى من هذه الأجيال بقى ليروى لنا ما يعتبر به أولو الأبصار . . وجاء الإسلام ووثب التاريخ وثبة فسيحة ، وظهر العرب مرة ثانية على صعيد الحياة ، لقد اصطفاهم الله ليحملوا الرسالة الخاتمة بعدما ربَّاهم " محمد " صلى الله عليه وسلم بتعاليمها ، وأضاء حناياهم بأشعتها . وفى خلال ربع قرن تقريباً كان نبىُّ الإنسانية قد استطاع إعداد جيش من المعلمين والمجاهدين ، من رهبان الليل وفرسان النهار ، من عشاق الخلد ومصلحى الأرض ، سبحان من أبدع محمداً صلى الله عليه وسلم لينشىء هذا الجيل من الأصحاب البررة المهرة ، الذين ساحوا فى البلاد واجتاحوا جذور الفساد ، وكانوا خير أمة أخرجت للناس !! . وفى هذا الدور من الوجود العربى امتزجت خصائص جنس بحقائق رسالة ، وكانت كلمة " عروبة " ترادف كلمة " إسلام " وعرف العرب أنهم جسد روحه هذا الدين ، فهم به يتحركون وهو بهم ينطلق ، ليفتح السجون ويكسر القيود ، ويمكن المستضعفين أن يتنفَّسوا الصعداء ، ويخرجوا من ضيق الدنيا إلى سعة الإسلام ، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله تبارك وتعالى . إن المدينة المنورة ـ عاصمة الإسلام يومئذ ـ كانت أحق بلد فى الأرض بقيادة العالم ، لأن ما تقدمه من قيم ومناهج كان أرجح فى ميزان لاحق مما تقدمه رومية وأثينا ومصر وفارس والهند والصين ، إن العرب الأميين حوَّلهم الإسلام إلى أساتذة ص _049(1/40)
راسخين فضلاء ، بينما كانت العواصم الأخرى تعجّ بعصابات من الكهنة الصغار ، والحكام الجبابرة ، والأثرياء اللصوص ، والجهالات المطبقة . . معالم النقلة الجديدة وحتى لا يكون حديثنا دعوى مجردة نذكر معالم النُّقْلة التى حوَّلت العالم إلى أوضاعه الجديدة : ( أ ) قام العقل الإسلامى على الحقائق وحدها ، ونَفْى الأوهام والظنون ، واعتمد على الفكر الذكىّ والحواس اليقظة فى تقرير أنواع المعرفة ، وما كانت البشرية تدرك ذلك لولا القرآن الذى عدَّ الغباء ، وبلادة الحواس ، وقلة الوعى هى طريق النار . . وعلى النسق البلاغى العالى فى تعبير القرآن تقرأ قوله تعالى : (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) والصياغة فى الآية كما نقول : إن السقوط يتخيّر ذويه من كل كسول لا يذكر دروسه ومن كل لاهٍ يهجر أساتذته . إن الإسلام بظهوره العظيم أنشأ حركة فكرية ما كان للعالم عهد بها من قبل . . (ب) قام الخُلُق الإسلامى على نشدان الكمال فى السلوك الإنسانى كلٍّه ، وصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يقول : " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . ويقول : " ما من شىء أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، إن الله يكره الفاحش البذىء ، وإن صاحب حسن الخلق ، يبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة " . كان تدريس الأخلاق حكراً على بعض الفلاسفة يترفعون به في مجالسهم ، أو كان شارة تخصّ المُعَدِّين لعمل معين ، حتى جاء الإسلام فجعل الخُلُقَ الفاضل كالنقد المتداول ، يسود كل مجلس ، ويدخل كل سوق ، ويصبغ كل معاملة. ص _050(1/41)
ورفض الإسلام قبول العبادات المعزولة عن مكارم الأخلاق المخلوطة بمنكر القول والعمل ، وكانت المراسيم العبادية قديماً هى مظهر الفضل والامتياز . . (ج) والضمير الإسلامى (وهو القلب بتعبير الشرع) ضمير شديد الحساسية بالخير والشر ، وما يرضى الله وما يسخطه ، وهو معمور بالتقوى ، ومراقبة الله ، بعيد عن دوافع الرغبة العاجلة والخوف الخسيس ، موصل بالله وحده ، رضىٌّ بما عنده . . ولا تنسَ أن الضمير الاستعمارى أباد سكان إستراليا إلا قليلاً ، وأباد سكان أمريكا إلا قليلاً ، لكى ينفرد بخيرات الأرض! إنه ضمير تجارى جشع ، يتحرك بمنطق الربح والخسارة ، يتقهقر عند خوف العصا ، ويقدم عند أمن العقوبة . . أما الضمير الإسلامى فهو محصنَّ بمعانى التقوى ، محكوم بقوله تعالى : (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) وقول رسوله عليه الصلاة والسلام : " ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب " . (د) والجسم فى نظر الإسلام يجب أن يكون وضيئاً ، والوضاءة شىء فوق الطهارة والجمال ، وأنواع الغسل التى أوجبها الدين تجعل المرء ناصع الجبين أغر الوجه ، ليس على الجلد درن ولا عرق ، ولا كدر . ولم تعرف العواصم الأوروبية الحمامات وأنواع التطهر إلا اقتباساً من الإسلام ، وتقليداً لأهله . والكلام يطول فى سنن الفطرة وحقوق الجسد! وليس ذلك بداهة عبادة للجسد أو ترجيحاً له على اللب والقلب ، ولكنه اهتمام بالشخصية الإنسانية كلها . والتجمُّل بالنسبة إلى المرأة ، هو المحافظة على تكوينها السليم ، وتقويمها الحسن ، وهو غير التبرج الذى يعنى استثارة الآخرين ومحاولة فتنتهم . .! الإسلام والمرأة (هـ) والمرأة المسلمة إنسان كالرجل ، وهى شقيقته أمام تعاليم الإسلام كلها ، وكانت المرأة محقورة الشأن عند العرب ، تُوأد طفلة ، وتُزْدَرى كبيرة ، وكان الأوروبيون قديماً يتساءلون : ألها روح مثل الرجل؟(1/42)
وكان فى الهند من يحكم بموتها حرقاً عندما يمرض زوجها ويموت فى مرضه !! ما يجوز أن تبقى بعده !! ص _051
وأفلاطون فى مدينته الفاضلة يرى شيوع المرأة بين الرجال ! حتى جاء الإسلام فغير هذه الأوضاع والأفكار، واستخرج المرأة من البيت إلى المسجد خمس مرات كل يوم ، إذا كان ذلك لا ينقص عملها لولدها ولزوجها ، وتقدير ذلك إليها . . ! ولم يمنعها من الجهاد إذا قدرت عليه ، وأوجبه عليها وعلى الرجال جميعاً عند الدفاع عن دار الإسلام . . إن شخصية المرأة ولدت مع مجىء الرسالة الإسلامية ، وقد بلغ من تدليل النبى صلى الله عليه وسلم لزوجاته أن حرَّم على نفسه بعض المباحات إرضاء لهن ، حتى نزل قوله تعالى : (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك) وما كان للمرأة هذا الامتداد فى شخصيتها من قبل ، وإن كان الأمر قد سار فى اتجاه آخر ، غلبة للتقاليد القديمة لا انسياقاً مع تعاليم الإسلام . الأسرة وأهميتها (و) والأسرة فى الإسلام من آيات الله ، قرن تكوينها بتكوين العالم أجمع قال تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) ثم قال : (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) وفى الفقه الإسلامى كلام طويل عن نظامها المادى ، وعن رسالتها الأدبية . وهناك كلام عن عقد الزواج ، وتبادل الواجبات ، وحضانة الأولاد وأسلوب النفقة ، وآداب العشرة . . وطريقة حل العقد إذا تعذر بقاؤه ، وأنصبة المواريث . . الخ . وهناك كلام عن الآثار الروحية والخلقية المربوطة بوجود الأسرة ، وكيف أن الأسرة امتداد للنوع الإنسانى ، وللعقائد والعبادات والأخلاق التى أمر الإسلام بها وقام عليها .. وحماية للأسرة حرَّم الإسلام الاختلاط الحيوانى المعروف فى بيئات شتى ، وحرم ص _052(1/43)
كل ما يخدش العرْض والحياء ، وقد قال لى صديق : إن كلمة " العرض " بمدلولها الشريف لا توجد لها ترجمة فى اللغات الأخرى! وأنى يوجد معناها فى هذه المجتمعات التى تبيح أن يرقص الرجل مع امرأة أجنبية ، يحتضنها ويخطر بها فى الحلبة ، وقد يكون زوجها الوغد حاضرا ينظر ولا يتحرج ، وقد يكون أبوها أو أخوها بين الحضور !! إن الأسرة المحاطة فى ديننا بهالة من الشرف والقداسة ، لا توجد فى بلاد أخرى، وقد توجد على الورق فقط ، وإلى حين ، ثم عند البلوغ يكلف الفتى ، أو تكلف الفتاة بشق الطريق وحدها لتكسب وتعيش . (ز) والمجتمع فى الإسلام أسرة كبيرة تقوم على التعارف والتواد ، والناس على صعيد الأرض سواسية ، ولاؤهم لله لا لجنس ولا لتربة ، أكرمهم عند الله أتقاهم . . أساس المعاملة " ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا وبعرف لعالمنا حقه " . والافتخار بالنسب مردود ، والاستكثار بالعزوة مرفوض ، والامتياز والسبق لمن تقدمه كفايته ، لا عراقته ولا وجاهته . ومن هنا قاد الموالى العالم الإسلامى ، وتصدروا فى ميادين الفتوى والفقه والأدب واللغة ، وسبقوا العرب أصحاب الرسالة الأوائل ، ثم تصدروا فى ميادين السياسة والحكم ، وقامت دولة للمماليك وشتى الأجناس ، كان لها أبعد الأثر فى خدمة الإسلام. . للمال وظيفة اجتماعية (ح) وللمال فى الإسلام وظيفة اجتماعية واسعة ، والحق الأول فيه لكاسبه الذى كدح فى تحصيله وتأثيله ، فله أن يرتفقه ويصون به مروءته ، ويحمى به نفسه وأسرته ، ولكن ذلك لا يؤخر الحق المعلوم الذى أوجب الله إخراجه للفقراء والمساكين ، كما لا يهدر الحقوق الأخرى التى بينتها الشريعة . . وقد وقع صراع مرير بين الواجدين والمعدمين أنتج أنظمة متفاوتة الكفر والمروق، ولو أن الأغنياء رعوا حدود الله فى طريق الكسب ، وسبل الإنفاق لحقنت دماء ، وصينت حقوق ، ولكن من ضنَّ بالقليل الذى طلبه الله ، ضاع منه الكثير من المال ومن الأجر على سواء ..(1/44)
وسيظهر موقف الإسلام واضحاً عندما نعرض صورة الحكم فى العصر الأول .. ص _053
الحكم أمانة ومسئولية (ط) والحكم فى الإسلام أمانة ثقيلة يوجل منها الأقوياء فكيف يرنو إليها الضعفاء؟ إنه ليس جنون العظمة عند محب للسلطة ، ولا الاعتداد بالنفس سواء كان هذا الاعتداد وليد قدرة ذاتية ، أو وليد حالة مرضية . .!! إن الحكم ـ عند من يكلف به ـ مسئولية فادحة أمام الله ، والحاكم أجير عند جمهور المسلمين ، يرعى مصالحهم الدينية والمدنية لقاء ما يأخذ من مرتبات . . ولننقل من سيرة أبى بكر ثم من سيرة عمر رضى الله عنهما ما يصور هذه المعانى ، وما يكشف إجمالا سياسة المال والحكم فى الإسلام . . قال أبو بكر لأم المؤمنين عائشة حين حضرته الوفاة : " هذا يوم يُجْلَى لى عن غطائى ، وأشاهد جزائى! إن فرحا ، فدائم ، وإن ترحا ، فمقيم . . " " إنى اضطلعت بإمامة هؤلاء الناس حين كان النكوص إضاعة ، والخذْلُ تفريطا " يعنى أنه ما رغب فى الخلافة ، ولا أحبها ، ولكنه أحس أن الجبن عن قبول المنصب المعروض سيعرض الأمة لفتن شداد ، ولذلك يقود بعد : " فشهيدى الله ما كان يقيلنى إياه ـ ما كان يقبل منى تركه ـ . . " . ويذكر أبو بكر أنه ما أخذ من مال الأمة إلا النزر اليسير ، صفحة فيها لبن من ناقة خصِّصت له من بيت المال ، فيقول : " فتبلَّعت بصَفْحتهم ، وتعلَّلت بدرَّة لقحتهم ، وأقمت صلاتى معهم ، لا مختالاً أشرا ، ولا متكاثرا بطرا . .!! لم أعد ـ أتجاوز ـ سد الجوعة ، وَوَرْىَ العورة ، وقواتة القوام ! ـ قدر ما يعيش به من القوت الذى يمسك حياته ـ " . ثم يستشهد الخليفة الأول بالله أنه اضطُر للأكل من بيت المال دفعا للجوع ، وأن أحشاءه كانت تمتعض لغثاثة الأكل الذى يتناوله! ولكن المضطر يستسيغ المرَّ ! وعبارته هى " حاضرى الله مِنْ طَوى ممعض تهفو منه الأحشاء ، وتجب له الأمعاء ، فاضطررت إلى ذلك اضطرار المريض إلى المعيف الآجن ". ثم يوصى الخليفة المحتضر(1/45)
ابنته أن ترد على المسلمين ما أخذه من مالهم ، فيقول: ص _054
" فإذا أنا مت فردِّى إليهم صفحتهم ، وعبدهم ـ الذى كان يخدمه ـ ولقحتهم ـ الناقة التى كانت تحلب له ـ ورحاهم ، ودثارة ما فوقى اتقيت بها البرد ، ودثارة ما تحتى اتقيت بها نز الأرض ، وكان حشوها قطع السعف " . كانت المرتبة التى ينام عليها محشوة بقطع السعف .. !! قال الشيخ الخضرى : وكأن أبا بكر يرى أنه لا حق له فى بيت المال ـ نظير عمله ـ فأوصى بأرضه للمسلمين مقابل ما أخذ منهم. أما بلاؤه الطويل فى تثبيت قواعد الإسلام أمام المرتدين ، وإعداده الفذّ لحرب الفرس والروم ، فذاك جهاد عبد يبتغى وجه الله ، ولا يطلب عليه أجراً . . وظاهر أن الخليفة الأول جشم نفسه ما لم يكلَّف به ، فإن الصحابة عن طيب نفس فرضوا له المال العام ما يستحقه عدلا ، وما لا حرج فيه أبدا . . روى ابن سعد فى طبقاته ، قال: كان أبو بكر ينفق من استغلال ملكه وعمل يده وقد ظل ستة أشهر بعد خلافته وهو على حاله تلك ، لا ينفق على نفسه من بيت مال المسلمين شيئا . . فأصبح يوما وعلى ساعده أبراد ، وهو ذاهب إلى السوق! فلقيه عمر، فقال: أين تريد؟ قال : إلى السوق! قال : تصنع ماذا ، وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالى : فقال : انطلق يفرض لك أبو عبيدة (أمين بيت المال) فلما ذهب إليه قال أبو عبيدة: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين ، ليس بأفضلهم ولا أوكسهم ، وكسوة الشتاء والصيف ، إذا أخْلَقْتَ شيئاً رددته وأخذت غيره ! ففرضا له كل يوم نصف شاة وما كساه . . قالت عائشة ـ فيما رواه الطبرى ـ : كان منزل أبى بالسُّنح عند زوجته حبيبة ابنة خارجة ، وكان قد حجر عليه حجرة من سعف فما زاد على ذلك حتى تحوَّل إلى منزله بالمدينة . مكث بعد البيعة ستة أشهر بهذه الحجرة من السَّعف !! سبحان الله . لقد قرأت وصفا لحوض السباحة المكيَّف الهواء الذى كان يتردد عليه الرفيق "خروشوف " على شاطىء البحر الأسود ،(1/46)
فشعرت بنفحة من الترف تلطف الجوّ وأنا أقرأ من بعيد ، فكيف لو سبحت فيه ؟ ! ص _055
إن ممثلى الشعب يأكلون هنيئا ويشربون مريئا من مال الشعب ، ويقولون عن الدين: إنه أفيون الشعوب ، وعن أمراء المؤمنين: انهم آكلو الشعوب ! ترى لو أن " خروشوف " بات ليلة واحدة فى الحجرة الممردة من سعف النخيل ، وتقلب على فراش من القشِّ يقيه نزَّ الأرض ورطوبتها ، ماذا كان يقول! هل يبقى على قوله : إن الدين يخدِّر الشعوب ، وإن الخلفاء يأكلون الجماهير؟ أم يعلم أن آكلى الشعوب قوم آخرون !! فى هذا المسكن المتواضع أقام الرجل الذى وضع الخطة لطرد هرقل من الشام إلى الأبد ، وطرد كسرى من عاصمته وكان يقيم فى قصره الأبيض الذى وصفه البحترى بقوله : لستُ أدرى أَصُنع إنسٍ لجنِّ سكنوه أم صُنعَ جِنِّ لإِنس؟ وجاء بعد أبى بكر عمر بن الخطاب ، رجل الدولة العظيم ، وعبقرى الحرب والسلام ، ومنصف الجماهير من رؤوسها ! والذى يعنينا هنا إبراز خُلَّتين اثنتين من سيرته الماجدة : شعوره الغامر بمسؤولية الحكم ، وقلقة من حسابه عنه أمام الله . . ثم رفضه الصارم لكل ذرة من استغلال الحكم للنفس أو للآل . . !! فى منقبته الأولى ، نذكر قوله : " لو أن جملا هلك ضياعا بشطِّ الفرات ، لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب ـ يعنى نفسه ـ ويشبه ذلك ما روى عنه أيضاً: " لو أن بغلا عثر بالعراق لحسبت عمر مسؤولا عنه : لِمَ لمْ يسوِّ له الطريق ؟؟ وعن أبى رواحة كتب عمر بن الخطاب إلى الولاة : " اجعلوا الناس عندكم فى الحق سواء ، قريبهم كبعيدهم ، وبعيدهم كقريبهم ! إياكم والرشا ، والحكم بالهوى ، وأن تأخذوا الناس عند الغضب ، قوموا بالحق ولو ساعة من نهار . . " . وخطب يوما فقال : " أيها الناس إنى قد وُلِّيتُ عليكم ، ولولا رجاءُ أن أكون خيركم لكم ، وأقواكم عليكم ، وأشدَّكم استضلاعاً بما ينوب من مُهِمِّ أموركم ، ما توليت ذلك منكم . . ولكفى عمر مُهِما مُحزنا انتظار مواقف(1/47)
الحساب بأخْذ حقوقكم ، كيف آخذها ، ووَضْعها ، أين أضعها؟ وبالسير فيكم ، كيف أسير؟ فَرَبِّىَ المستعان " ، فإن عمر ص _056
أصبح لا يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده . . " . أما بُعْده هو وأهله عن كل عمل يُشم منه استغلال النفوذ فهاكم ما ذكره الأستاذ الخضرى فى محاضراته . . قال : لما ترك ملك الروم الغزو ـ وشرع فى الصلح ـ وكاتب عمر وقاربه ، سَيَّر إليه عمر الرسل مع البريد فبعثت أم كلثوم بنت على بن أبى طالب ـ وكانت زوجة لعمر ـ هدية إلى ملكة الروم ، فيها طيب ومشارب وأحناش من أحناش النساء ، ودَسَّتْه إلى البريد فوصَّله لها ، وجمعت امرأة القيصر نساءها ، وقالت لهنَّ : هذه هدية امرأة ملك العرب ، وبنت نبيهم ! وكاتبتها وأهدت لها ، وكان فيما أهدت عِقْدٌ فاخر! فلما انتهى البريد إلى عمر أمر بإمساكه ، ودعا : الصلاة جامعة !! فاجتمع الصحابة وصلى بهم عمر ركعتين ، ثم قال : إنه لا خير فى أمر أُبرم بغير شورى ، قولوا فى هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم ، فأهدت لها امرأة ملك الروم ؟ فقال قائلون : هُوَ لها بالذى أهدته إليها ـ أى فى مقابله ـ وليست امرأة الملك بذمَّة فتصانع به . . وقال آخرون :قد كنا نهدى الثياب لنستثيب ـ أى لنتلقى جزاءها هدية قد تكون أفضل . قال عمر : ولكن الرسول ـ الذى حمل ـ رسول المسلمين ، والبريد بريدهم . . ورأى عمر أن الهدية المرسلة إلى امرأته فاخرة ثمينة ، وأن العقد على صدر امرأته يقلقه ، فصادره لحساب بيت المال ، وأعطى امرأته ثمن ما أنفقت فى هديتها الأولى . . قال المؤرخون : وكان عمر إذا نهى الناس عن أمر من الأمور جمع أهله فقال : إنى نهيت الناس عن كذا وكذا ، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم ، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعله إلا أضعفت عليه العقوبة . . إن عمر استعف وأعف أهله عن دانق من المال العام ، وكان مثل الخليفة الأول يكدح فى خدمة(1/48)
الأمة ورسالتها إيمانا واحتسابا . . لقد قدَّم المسلمون للدنيا فى المجال الفردى والاجتماعى والسياسى مبادئ ونماذج شَدَهَتِ الناظرين ، وسحرت المراقبين . إن العرب فى العصر الوسيط لم ينطلقوا من فراغ ، لقد صبَّهم الإسلام فى قوالبه ، ثم قذف بهم فى المشارق والمغارب ، فأعادوا تشكيل العالم أجمع على نحو جديد . . وأسلست الجماهير قيادها للدين الوافد لأنها رأت فيه نجاتها وكرامتها.. ص _057
ومهما تعصبت الوثنية والصليبية والصهيونية ضد الإسلام ، فإن الحقائق الكبرى التى أشرق بها هذا الدين لن تستخفى عن العيون ، ولن تذيبها الضغائن السود ! ماذا كان فى فارس والروم من مناهج الحكم التى طبقت فى المدينة المنورة ؟ بل ماذا كان فيهما من سياسة الأخلاق وأصول التربية؟؟ لقد كان من مصلحة الإنسانية المجردة أن تختفى هذه الأمبراطوريات البالية ، وهذه النحل المخرفة الجائرة ، وأن يطلع الإسلام على الدنيا ليزكيها ويعلى مستواها. . وفى العصر الحديث ثم تراخت الليالي ، وانقضت أيام وأيام ، وذهب عرب القرون الوسطى وطلع العصر الحديث على عرب آخرين ! إنها خلوف يتفرس المرء فيها فتغمر قلبه كآبة ثقيلة . . وموقف أولئك العرب يحتاج إلى استبانه وتفصيل ، وإن كانت الهزائم المادية والمعنوية تغزو كل أفق وتكسوه بالقار . هناك حديث مسموع بالمجالس ، ولغط يعم الميادين الثقافية والاجتماعية أن العروبة يمكن ـ بل يجب ـ أن تنفك عن الإسلام ، وأنه بعد هذا الفصل تكون الصدارة لها لا له . .!! إنه ـ إن صح له بقاء ـ سوف يكون تابعا يتحرك بقدر ، ووفق ما يصدر له من أمر ! وقد ولدت فكرة القومية العربية ، وشتى النزعات التى تشبهها لتضع جماهير المسلمين داخل هذا الإطار ، فالولاء للجنس لا للدين ، وللوطن لا للعقيدة ! والحرب الخفية والجلية لابد أن تدور رحاها ليلا ونهارا لتطحن كل ما يعترض هذه الغاية الفاجرة . وعلى القادة العرب أن يتأسَّوْا بالقائد التركى المرتد "(1/49)
مصطفى كمال " فإما بلغوا مرادهم طفرة ، أو على مهل ! المهم أن يصلوا يوما إلى جعل الأمة العربية علمانية مبتورة العلاقة برسالتها وتراثها . . وقد اصطدمت حركة الارتداد تلك بمقاومة صلبة ، ولكن الغزاة وعملاءهم يركبون الصعب والذلول لإدراك مأربهم ، وكلما ظنوا أنهم قاربوا النصر هبت عليهم موجة من أمواج الإيمان المكافح فلَّت حدَّهم وخيبت أملهم ، ويستأنف المرتدون ص _058
نشاطهم ، ويعاودون الكرَّة ، ويأبى سواد الأمة الاستسلام ويستميت فى حماية ما بقى له من إيمان ، ولا يزال العراك ناشئا بين الفريقين ، ولا يزال أمل المؤمنين قويا أن يخرجوا من هذه الساحة الدامية والإسلام بخير !! أمور مهمة وننبه إلى أمور . . أن الحكم بغير ما أنزل الله له أنصار كُثْر ، تمدهم من الخارج الشيوعية والصليبية والصهيونية على سواء . وأن بثَّ جراثيم العفن الخلقى ، وإدمان الشهوات يسير جنباً إلى جنب مع تعويق الإنتاج المحلى وتعطيل الأيدى المتوضئة . . وأن السلطات القائمة تعرف المكانة الشعبية للإسلام ، ومن هنا فهى تؤوى إلى كنفها صنفا من علماء الدين يطلق عليهم : العلماء الدواجن ، لا شوكة لهم ولا غيرة ، يمثلون الدين على نحو ما ، وينفون عن أعدائه شبهة الارتداد ، ولو كانوا يعملون بيقين لحساب الشيوعية والصهيونية والاستعمار . . أما الشيء الذى نقف بإزائه برهة ، فهو الجبهة العاملة للإسلام بإخلاص ، فكثيرا ما تكون الأخطاء هنا قاتلة ، بل كثيرا ما تكون الثغرات هنا هى المنافذ التى يتسرب منها الخطر ، أو يتسلل منها الخصوم لإلحاق أفدح الأذى بالإسلام وأمته ..! أحيانا أوازن بين صورة الإسلام الحقيقية ، وبين صورة الإسلام فى ذهن أحد الدعاة، فأجد الفارق بين الصورتين كالفارق بين سيارة لعبة أطفال وبين سيارة تنهب الأرض نهبا ! إن الضحالة العلمية عند مشتغل بالدعوة جريمة ! وليس كل مسلم مطالبا أن يكون عالما راسخا ، ولكن القيادة لها خصائص عالية . . وفى(1/50)
عصرنا هذا استبحرت المعارف ، وتسلحت المذاهب برجال عباقرة ، فإذا بقى قادة الجبهة الإسلامية عندنا على مستواهم الحالى ، فالمستقبل مظلم . . ومعروف أن الدعاة الذين يمكن أن يفيدوا دينهم وأمتهم يَلْقَوْنَ العنت ، ليكن . . !! فهذه سنة الله فى الأولين والآخرين ، لا يجوز الفزع منها ، ولا التعليل بها فى تقصير . . ص _059
ليس من الدعاة وعلى أية حال فلا أستطيع بتة أن أعدّ فى الدعاة رجلا قليل البضاعة فى التاريخ السياسى للإسلام ، أو التاريخ التشريعى له ، رجلا لا يدرى إلا النزر اليسير عن خصائص الفكر الإسلامى ، لأن وعيه غامض فى القرآن الكريم ، كل ما يعرفه بضعة أحاديث إن صح سندها ، فهو لا يدرى كيف يضعها مواضعها . لا نستطيع أن ننظم فى سلك الدعاة امرءاً لا يعرف عن العالم المعاصر شيئا ، ولا عن الفلسفات التى تحكمه ، ولا أسرار رجحان الإسلام عليها . . لا نستطيع أن نعقدَّ من الدعاة امرءاً يريد نشر الإسلام فى الغرب بنقل تقاليد وعادات يظن أنها من الإسلام ، وهى فى حقيقتها ليست من الإسلام ، وقد تكون منفرة للقوم هناك . . كأن يسلب المرأة حقوقها التى أقرها الإسلام تحت وطأة عادات اجتماعية فى بيئة معينة . . ولا يعنى ذلك أبدا إقرار المجون الفاضح والاختلاط الفاحش الشائع هناك . . فالإسلام شىء غير العادات المستقرة هنا أو هنا ، وله أحكامه التى يقررها العلماء لا الدهماء . . إن هناك علماء دين لا يعرفون شيئا عن حقوق الإنسان ، لا يعرفون شيئا عن الدساتير التى أرست العلاقات بين الدولة والشعب ، لا يعرفون شيئا عن الطور الذى بلغته العلاقات بين الدول . . والأنكى أنهم لا يعرفون وضع مجموعة الدول الإسلامية بين غيرها من المجموعات ، ولا يحسون ما يُبيت لدينهم بليل ، ولاما يرسم لتحديد مستقبلهم الثقافى والاجتماعى . ويتبع هذا القصور العقلى أن القضايا التى يستولى عليها الاهتمام ، وتقع عليها المفاصلة تكون من النوع الهامشى أو الخيالى(1/51)
أو التاريخى البالى . . عرب العصر الحديث ولنعد إلى عرب العصر الحديث الذين يريدون الاعتزاز بغير الإسلام ، والذين يتعمدون إهمال شرائعه ، وإسقاط شعائره . . المعروف أنه إذا عزّ الإسلام عزّ العرب ، وإذا ساد سادت لغته وآدابه ، بيد أن المستغرب فى مسلك القوم أنهم يتعصبون للعروبة ، ويتنكرون للسيد الأوحد الأمجد ص _060
الذى اصطفاه الله منها ، وتوَّج به المستقدمين والمستأخرين ، وبعثه بختام الأديان وأنفس الرسالات ، هل يحقد على محمد صلى الله عليه وسلم عربى ، وهو شرف العرب وفخرها ؟! ثم كيف يكون عربيّا من يهمل لغة العرب ، ويُؤْثر عليها اللغات الأخرى ؟ الحق يقال : إن النزعة القومية هنا ستار مفضوح لحركات تخريبية يراد بها ضرب الإسلام وحده ونسف قواعده فى بلاده ، ويمكن القول بأن هذه الحركة المشؤومة هى حملة صليبية ناجحة فى العصر الحديث !! لقد تعصب العرب قديما لأنفسهم ، فماذا أفادوا من هذه العصبية الجنسية ؟ خسروا أنفسهم ورسالتهم ، ونتج عن هذه العصبية العمياء أن العرب اختفوا من معارك الإسلام الحاسمة عسكرية كانت أو سياسية أو ثقافية ، فهل هذا ما يقصدون؟ وإذا كنا مطالبين الآن بالتعصب للعروبة ، وبعث نهضة على أساسها ، فهل سنأخذ القدوة من عاد وثمود ؟ أم من امرئ القيس وطرفة بن العبد ؟ وهل سيكون جحدنا للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم كلا أم جزءا ؟ ومن سيكون مستشارنا فى الاختيار ، أيكون روسيَّا أم أمريكا ؟؟ ! أرجو أن تنتهى هذه المأساة أو هذه المهزلة ! وأرى أن تتكون لجنة من جميع الأجناس التى اعتنقت الإسلام ، من عرب وأتراك وهنود وفرس وأندونيسيين وزنوج وغيرهم ، لتذويب الفوارق العنصرية فى كيان إسلامى مشترك ، وسحق كل الثغرات الجاهلية ، وجعل اللغة العربية التالية لكل لغة وطنية ، وجعلها اللغة الرسمية العامة فى كل ملتقى إسلامى ، كما أنها لسان الوحى ولغة التعبُّد لله رب العالمين . ويمكن تجديد ما وهى من أواصر قديمة(1/52)
، كما يمكن التعاون فى مؤتمرات وأسواق مشتركة لمواجهة مستقبل تكتنفه الضغائن والمتاعب . . وليعلم العرب أنهم قبل غيرهم مأكولون يوم يتركون الإسلام ويخونون الله ورسوله . * * * * ص _061
الفصل الرابع محنة اللغة العربية والأخطار التى تكتنفها ص _0 ص
من عهد بعيد والعرب لا يقومون بواجبهم تجاه لغة الوحى ولا عذر لهم فى ذلك عند الله ولا بين الناس . . إن المصريين والشاميين وغيرهم ، تركوا لغاتهم الأولى وآثروا لغة القرآن ، أى : أن حبهم للإسلام هو الذى عرَّبهم ، فهجروا دينا إلى دين ، وتركوا لغة إلى أخرى . وإذا كان للعرب فضل فهو أنهم حملوا الإسلام إلى العالم ، وبلَّغوه بشجاعة وبسالة فائقتين ، لم تُعرفا عن أتباع نبى من قبل ، إن أصحاب عيسى عليه السلام عجزوا عن مثل هذا الصنيع ، ومكنوا رجلا يهوديا ، كبولس ، أن يحوِّل الرسالة عن غايتها ، وأن يزحزح دين عيسى عليه السلام عن قواعده الأولى . ويجب أن نثنى على العرب لأنهم صانوا بدقة ، وبلغوا بأمانة ، وقدموا أرواحهم فدى لما يعتقدون . لكن العرب بعد ذلك تركوا الدين واللغة ودائع لدى غيرهم ، فلم ينهضوا بنشر اللغة ، ولم يبذلوا جهدا يذكر فى شرح قواعدها وآدابها للآخرين ! واضطر الأعاجم إلى النهوض بهذا العبء ، فكانوا علماء النحو والصرف والبلاغة بفنونها الثلاثة : المعانى ، والبيان ، والبديع . وإذا كان المسلمون من غرب آسيا وشمال أفريقية قد استعربوا بالإسلام ، فإن تعميم ذلك على سكان الأرض متعذر ، وكان يجب على الجنس العربى أن يبذل جهودا شاقة فى توسيع دائرة العربية ، حتى تجتذب الهنود والأتراك والفرس والأندونيسيين والأفارقة الزنوج . . إلخ . ونحن نسجل بحزن أنه لم يُبذل جهد يذكر فى تعريب الأتراك ، وهم الجنس الحاكم طيلة ستة قرون ، وأن الإسلام دخل البلقان ، ولم تدخله اللغة ، فخرج تاركا آثارا مهتزة ، وأن جنوب آسيا وشرقها كذلك . . والعرب هم سُبع المسلمين فقط ، وواجبهم(1/53)
تعليم لغتهم لإخوان العقيدة بل واجبهم نشر لغتهم فى أقطار الأرض كلها ، لأن رسالتهم عالمية ، وفرض عليهم أن يمهِّدوا الطريق إليها . . قد تقول : إن العرب بدعوتهم إلى الإسلام يدعون ضمنا إلى تعلم العربية ، لغة الوحى ، وأسلوب المناجاة بين الله وخلقه فى الصلوات المكتوبات .. ص _064
ونقول : إن أصحاب الرسالات لا يخدمون أنفسهم بالدلالات الضمنية ، واللغة العربية لغة متشعبة القواعد ، وتعليمها يحتاج إلى معاناة ومشقة ، وعلينا أن نخترع طرقا لتيسير قواعدها وضبط أصواتها ، ونحن نرى الإنكليز فى عصرنا يفعلون العجب فى تعميم لغتهم ، ويبتكرون الحيل الطريفة لتحبيبها إلى النفوس حتى أصبحت الإنكليزية لغة العالم ، ولغة العلم معا . أما نحن فلا نفعل شيئا من ذلك حتى غُزينا فى عقر دارنا ، وأخذت اللغات الأخرى تغير علينا ، وتكتسح لغتنا فى مواطنها الأولى . علاقة مزورة والمضحك أن دعاة العروبة لا يحسنون لغتهم ، مما أكد عندنا أن دعاة هذه القومية العربية سماسرة غزو أجنبى ، وأن علاقتهم بالعربية ومآثرها ومواريثها علاقة مزوَّرة ، وأنهم قنطرة صُنِعَتْ عمدا لتعبُر عليها أديان وفلسفات وقوميات أخرى !! أقترح تكوين لجنة تختار ألف كلمة عربية مثلا مما يحتاج المرء العادى إليه فى البيت والسوق والشارع والوظيفة والعبادة . . إلخ ، وأن يكون أساس الانتقاء لهذه الكلمات ترك المترادفات ـ وهى فى لغتنا كثيرة ـ وإيثار الثلاثى على الرباعى ما أمكن ، وأخذ الكلمات المنضبطة تحت قاعدة فى تصريف الأفعال وفى جموع التكسير ـ وهى فى لغتنا معقدة ـ وتفضيل ما استعمل فى الكتاب والسنة ، وتفضيل ما سهل على اللسان من المدارس النحوية المختلفة ، ويمكن الاستعانة بالصور وآلات ضبط النطق . ويبدأ المعنيون بتعليم المسلمين الأعاجم ، وإن كان التخطيط يبدأ بمشروع شامل لنشر العربية بين أبنائها ! وبين المسلمين الذين لا يعرفونها . . وبين الأجانب عامة بعد ذلك . . إن هذا(1/54)
اقتراح ساذج ، وما أريد إلا بدء العمل فورا ، فلغتنا فى خطر ! وعند المتخصصين طرائق شتى ، والمهم هو أن نَغَار على لغتنا وتراثنا ، وأن يقف الزحف المروِّع الذى يكاد يجتاحنا من كل ناحية . . إن ناسا من قادة هذه الفترة العجفاء من تاريخنا ، يتناولون الساسة القدامى بالهزاء ! وقد سمعت بعضهم يضنُّ على " سعد زغلول " بلقب الزعامة ، وأنا لا صلة ص _065
لى بسعد أو بغيره ، ولكنى أعلم أن سعدا لما تولى وزارة المعارف فى مصر كان التعليم فى المراحل الأولى باللغة الإنكليزية ، كان كتاب الحساب المقرر على الصف الابتدائى تأليف " مستر تويدى "! وكذلك سائر العلوم ، فالغى سعد هذا كله ، وأمر أن تدرس المقررات كلها باللغة العربية وأن توضع مؤلفات جديدة باللغة القومية !! وبذلك المسلك الناضج حفظ على مصر عروبتها . . لقد كانت فى سعد زغلول بقية من ثقافته الأزهرية الإسلامية ، جعلته يفعل ما يفعل! قال لى أحد الناس : إن سعدا اقترف كذا . . قلت له : إن كان لابد من اختيار أحد الشرين فلنرتكب أخف الضررين !! إن سعدا ـ غفر الله له ـ أحسن إلى جيلنا كله بجعلنا عربا . . والمطلوب الآن : هل يستطيع رجل أن يفعل فعل سعد ، فيُعرّب التعليم الجامعىَّ ، إنه إنكليزي فى أقطار ، فرنسى فى أقطار ، روسى فى أقطار ، ولا توجد صيدلة عربية ولا طب عربى !! . . إلخ هل من زعيم شجاع غيور يبدأ هذا العمل ، ويتمه فى عشر سنين ؟؟ إهانة العربية إن اللغة العربية الآن تهان وتنتقص من عدة جهات . . ا- الروايات التمثيلية التى تحكى عبارات السوقة والطبقات الجاهلية ، فتحيى ألفاظا كان يجب أن تموت مكانها ، وتؤذى المسامع باللهجات العامية المنكورة ! 2- الزعماء الذين لا يحسنون الفصحى ويحلو لهم أن يتحدثوا إلى الجمهور ساعات طويلة ، فيجىء حديثهم معزولا عن العقل والروية ، وتختلط فيه العربية والعامية ، وهم مولعون بخفض المرفوع وجر المنصوب ، ولا نعرف لغة فى أرجاء الأرض يتحدث(1/55)
رؤساؤها بهذه الطريقة !! 3- الأشخاص الذين يقلدون المنتصر ، والذين ذابت شخصياتهم ذوبانا تامّا ، فيرون من الرقِّى أن يكون حديثهم بأى لغة إلا العربية ، وهذا النوع من الناس : أفكارهم فى جلودهم ـ كما قيل ـ أعنى أنهم يُجلدون بالسياط كى يفهموا ، فليست لهم عقول يُقادون منها ..!! ص _066
4- والطَّامة الكبرى فى رجال المجامع الذين يرون العربية تنهار أمام ألفاظ الحضارة المحدثة ، ومصطلحات العلوم الكثيرة ، ومع ذلك فهم لا يحركون ساكنا ، مع أن العربية فى خطر حقيقى !! كتب الدكتور محمد عاطف كشك مقالا عن تعريب التعليم الجامعى ناقش فيه الأوهام التى يرددها بعضهم لإبقاء العلوم تدرَّس باللغات الأجنبية ، والمتناقضات التى يقعون فيها وهم يحاولون إبعاد اللغة العربية عن ميدانها العتيد . . ونحن ننقل من مقاله الجيد المخلص ردَّه الهادئ على شبهات القوم ، وبيان ما فيها من فراغ .. تناقضات.. ومغالطات عند تأمل الأبعاد المختلفة لقضية تعريب التعليم الجامعى فى وضعها الراهن يمكن اكتشاف عدد من التناقضات والمغالطات التى تحتاج إلى وقفة لفحصها ونقدها، ويمكن مناقشة أهم هذه التناقضات والمغالطات فى النقاط التالية : 1- يمكن تقسيم الدول العربية فيما يتعلق باستعمال اللغة العربية فى التعليم والحياة إلى مجموعتين : مجموعة الدول التى استطاعت أن تحافظ على استعمال اللغة العربية فى معظم مراحل التعليم وفى الحياة والتعاملات الرسمية ، ثم مجموعة الدول التى استطاع المستعمر أن يفرض عليها لغته لدرجة أنها وجدت نفسها بعد الاستقلال ومعظم أفرادها لا يستطيعون أن يتكلموا أو يفهموا لغتهم القومية كما حدث فى الجزائر وتونس . ومن الغريب أن المجموعة الأخيرة تقدر ضرورة بذل جهود مضنية ومخلصة لاستعادة مكانة اللغة العربية ، فى حين أن مجموعة الدول التى حافظت على اللغة العربية طوال فترات الاحتلال ، هى التى تتصاعد فيها الآراء التى تشكك فى صلاحية اللغة(1/56)
العربية لاحتواء العلوم الحديثة ، وقدرتها على التعبير ، ومتابعة المتغيرات العالمية السريعة ، وخاصة فى مجال العلم والتكنولوجيا .. والتفسير الوحيد الذى نستطيع أن نقدمه لهذا التناقض ، هو أن الدول التى سادت فيها لغات غير لغتها القومية قد أتيحت لها الفرصة لأن تلاحظ أكثر الأثر الهدام لإهمال اللغة الأم ، وأن تؤمن أكثر باستحالة تحقيق الوحدة الثقافية والاستمرارية التاريخية وربط الأجيال الجديدة بواقعها ، مما أدى إلى تخبط وفشل عمليات التنمية المتكاملة ، فى حالة الاستمرار فى تجاهل اللغة القومية ، والوقوع ص _067(1/57)
فى مثل هذا التناقض الغريب ليس نادر الحدوث ، فهو شائع على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدول عندما تتجاهل قيمة ما تملكه بالفعل . 2- مغالطة شائعة أيضا فيما يتعلق باستعمال اللغة العربية يرددها كثير من العلماء ، مؤداها أن اللغة العربية عاجزة عن استيعاب التقدم العلمى والمصطلحات العلمية والحضارية التى نشأت فى لغات أخرى . ولن نرد على هذه المغالطة أو هذا الخطأ بمحاولة ترديد ما قيل كثيرا عن خصوبة اللغة العربية وغناها وقدرتها غير المحدودة على استيعاب كل مصطلحات العلم الحديث عن طريق البحث فى التراث ، أو عن طريق الاشتقاق ، أو نحت ألفاظ جديدة ، ولن نرد أيضا على هذه المغالطة بالاستشهاد بعدد غير قليل من المحاولات العلمية الناجحة سواء بُذلت بواسطة أفراد أو جماعات أو هيئات ( مثل مجامع اللغة العربية ) والتى تم فيها نقل مصطلحات العلم الحديث والحضارة المعاصرة إلى اللغة العربية . وأثبتت هذه المحاولات بالفعل ـ رغم وجود بعض نواحى النقص فيها ـ قدرة اللغة العربية ـ ربما أكثر من لغات أخرى كثيرة ـ على استيعاب كل مصطلحات الحضارة الحديثة . كما أننا لن نرد على هذه المغالطة وهذا الخطأ بمحاولة تذكير القائلين به بما كان عليه الحال فى عصور الحضارة العربية الإسلامية ، وازدهار العلم والفلسفة العربية عندما كانت اللغة العربية تستوعب العلوم المختلفة ، وتمتلك من الغنى والخصوبة والتجدد ما يجعلها قادرة على التعبير والتأثير ، سواء فى العلوم التى نشأت فى ظل الحضارة العربية أو التى نقلت إليها عن طريق الترجمة وخاصة العلوم والفلسفة الإغريقية . كل ذلك ربما كان معروفا تماما للقائلين بعجز اللغة العربية ، وإذن ربما يكون مفيدا أكثر أن نحاول اكتشاف الأسباب الدافعة للوقوع فى هذا الخطأ أو هذه المغالطة ، وأعتقد أن الأسباب لا تخرج عن أحد الاحتمالات الآتية : ( أ ) أن يكون القائلون بعجز اللغة العربية لا يفهمون لغتهم الأم فهما جيدا ،(1/58)
ولا يعرفون قدرتها وإمكاناتها الهائلة ، لكنه يجب أن نذكرهم دائما بأنه مهما كان تعمقهم وتبحرهم فى اللغات الأجنبية التى يستعملونها ، فسوف يظلون عاجزين عن معرفة كل أسرارها ، لأنها رغم كل شىء ليست لغتهم الأم. ص _068
(ب) بعض الذين يحاولون باستمرار التشكيك فى قدرة اللغة العربية ويصرون على استعمال لغات أجنبية ـ رغم عجزهم الفاضح أحياناً فى فهم أسرارها ـ إنما يحاولون إخفاء تفاهة مضمون ما يقدمونه من مادة عن طريق تغريب الشكل الذى يضعونها فيه . (ج) الاحتمال الثالث لتفسير هذه الظاهرة هو احتمال الكسل الذى يجعل البعض يقول : مادمنا نأخذ مضمون ومحتويات العلوم من الخارج فلماذا نتعب أنفسنا ونبدد وقتنا فى محاولة نقلها إلى العربية ؟ وخطر هذا الاتجاه ـ كما سوف نرى ـ أنه لا يدل فقط على الكسل ولكنه يدل أكثر على تجاهل طبيعة التقدم العلمى وارتباطه الوثيق باللغة . 3- المغالطة الثالثة الشائعة يقول أصحابها إن استعمال اللغة العربية يعزلنا عن العالم المتقدم ـ المنشئ للعلوم الحديثة ـ ويجعلنا غير قادرين على الاتصال بهذا العالم والتأثر به أو التأثير فيه . وهذه مغالطة من السهل فضحها فسوف نرى كيف أن التأثير فى العالم واحتلال مكان بارز فيه ، لن يكون إلا عن طريق بناء الوحدة الثقافية لأمة ، والارتباط بالجذور التاريخية لها . كما أن القائلين بهذا الادعاء إنما يخلطون بين استعمال اللغة العربية وتعلم اللغات الأجنبية الحية ، فلا أعتقد أن أحدا يمكن أن ينكر فائدة ـ بل وضرورة ـ تعليم اللغات الأجنبية الحية بطريقة جادة وعميقة لكل الأجيال الجديدة ، لكن ذلك شيء واستعمال اللغة القومية شىء آخر ، والأمثلة أمامنا عديدة ، فمعظم النتائج الهامة للعمل متاحة فى عدد محدود من اللغات الحية ، ولو أن الاتصال بالعالم المعاصر يحتم ضرورة التعليم بهذه اللغات لرأينا التعليم فى معظم بلاد أوروبا يتم بالإنكليزية أو الفرنسية ، لكن ذلك لا يحدث فى(1/59)
الواقع ، والمثل الواضح الذى يمكن أن أسوقه هنا هو هولندا ، فالهولنديون يعرفون أن لغتهم ليست هامة حيث لا يتكلم بها أكثر من خمسة عشر مليونا ، ولذلك لا يوجد شاب هولندى لا يعرف بجانب اللغة الأم لغتين أو ثلاثا من اللغات الحية ، ولكن أحدا لا يناقش بالمرة فى أن التعليم فى جميع مراحله يجب أن يكون باللغة الهولندية ، فما بالك باللغة العربية وهى لغة أهم بكثير من اللغة الهولندية باعتبار عدد الناطقين بها ، وباعتبار تاريخها وتراثها ، وحتى باعتبار اعتراف العالم بها . ص _069(1/60)
هذه المغالطة أدت فى الواقع إلى معضلة صعبة ، ففى مثل هذا الوضع المتردد والمهتز لا نحن حققنا الاتصال بالعالم ، ولا نحن حافظنا على وحدتنا الثقافية لأننا أهملنا لغتنا القومية ولم نتعمق فى تعلم اللغات الأجنبية الهامة. ثم إن هذه المغالطة جعلتنا أيضا نقصر فى محاولات الترجمة والتعريب للمصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة باعتبار أنه لا مبرر لبذل الوقت والمال والجهد فى ذلك ، فى حين أن كل الدول المتقدمة والتى تعتز بلغاتها القومية تعترف بالترجمة والنقل وسائل فعالة فى الاتصال والتبادل بين الحضارات واللغات المختلفة. 4 ـ المغالطة الرابعة تتعلق بالادعاء القائل : إن التعليم فى المرحلة الجامعية وخاصة فى مرحلة الدراسات العليا لا يمكن أن يتم باللغة العربية ، وهنا تجاهل واضح لنجاح التعليم باللغة العربية فى كل مراحل التعليم قبل الجامعة فى معظم الدول العربية . وخطورة هذه المغالطة أنها ترتبط مباشرة بتدهور مستويات التعليم فى كثير من الجامعات ، فكثير من الأساتذة لا يجيدون اللغات الأجنبية التى يُعلِّمون بها ، ومعظم الطلاب يجهلونها جهلا تاما ، وذلك يكون على حساب المادة العلمية والمستوى ، ويكون على حساب محاولات التأليف فى اللغة العربية ، ومحاولات الترجمة إليها ، ونحصل فى النهاية على أجيال غير قادرة على مواصلة التعليم ورفع المستوى العلمى ، وملاحقة تطورات العلم والتكنولوجيا لأنها لا تستطيع القراءة فى لغات أجنبية ، ولا تجد أو لا تؤمن بما هو متاح فى اللغة العربية . هذا غراس الاستعمار شرقية وغربية فى أمتنا المحروبة . .!! فى مجال الأدب وفى الوقت الذى كان الاستعمار الثقافى يئد الفصحى فى مجال العلم ، كانت جهوده موصولة لقتلها فى مجال الأدب ، ولكى نكشف أسلوبه فى الفتك نحب أن نرجع قليلا إلى الوراء . . منذ خمسين سنة ، انتعشت العربية بنهضة أدبية فى شعرها ونثرها ، أشبهت أو أربت على تألقها القديم فى العصر العباسى الأول(1/61)
، ولم يحدث فى تاريخنا الأدبى أن تعاصر فيه مجموعة من العمالقة ، كما حدث ذلك خلال القرن الماضى. ص _070
ففى ميدان النثر ظهر الرافعى ، والعقاد ، وأحمد أمين ، وزكى مبارك ، وطه حسين ، وأحمد حسن الزيات ، وعلى الطنطاوى ، وشكيب أرسلان ، وآخرون تغيب أسماؤهم عنى الآن . وكان الانتماء الروحى لهؤلاء ، متباينا ، فمنهم الوفىُّ للإسلام ظاهرا ، وباطنا منذ بدأ إلى أن مات ! ومنهم من استقى من ينابيع أجنبية تأثر بها فى كتابته حينا من الدهر ، كالعقاد الذى تأثر بأدب السكسون ، وطه حسين الذى تأثر بأدب اللاتين ، ووقع بينهما تلاوم وجدال على هذا الانتماء وقيمته الإنسانية والثقافية ، ومنهم من غلبه فكر المستشرقين، واتجه إلى التحلل . . على أن هؤلاء جميعا كانت الفصحى لغتهم ، وكان حسهم البيانى رفيعا ، وكانوا يحتقرون العامية ويترفعون عنها ، ومع أن بدايتهم كانت على هذا الخلط الذى وصفنا ، فإن أغلبهم ختم حياته بخير . . فلم يمت العقاد إلا بعد أن ألف أروع كتبه وأخلدها فى الإسلام وحقائقه ورجاله . . وعلى نحو مّا كان طه حسين ، الذى بدأ ملحدا مارقا ثم أخذ ينعطف نحو الإسلام ، وقد اعتمر وزار المسجد النبوى ، وقال لى الصديق الأستاذ محمد فتحى ، إنه كان معه على حافة القبر الطهور ، وقال : . . . وكنت أمسك ذراعه وكان بدنه ينتفض بقوة . .!! ويبدو أن الاستعمار الثقافى حاول تجفيف الروح الدينية فى ميادين الأدب ، ولكنه لم ينجح كل النجاح ، وبقيت الفصحى رفيعة الهام . وفى ميدان الأدب الدينى وجد فقهاء ودعاة ومفكرون ومفسرون لهم تدفق وبلاغة وذكاء مثل : محمد رشيد رضا ـ تلميذ الإمام محمد عبده ـ ومحمد فريد وجدى ، وجمال الدين القاسمى ، ومحمود شلتوت ، ومحمد البهى ، والفقيه الكبير محمد أبو زهرة ، والفقيه المؤرخ محمد الخضرى ، ومجدد الإسلام فى القرن الرابع عشر حسن البنا ، وآخرون أذهل عنهم الآن . . كانت اللغة العربية على ألسنة هؤلاء إذا خطبوا ،(1/62)
وعلى أسنة أقلامهم إذا كتبوا ، تنفجر ينابيع صافية . . ص _071
ولو قُدِّر لهذه الفئة أن يطول بقاؤها لارتفعت بمستوى الجماهير ، وأعادتهم إلى حظيرة اللغة التى هبطوا دونها . . وفى ميدان الشعر وجد أحمد شوقى ، وحافظ إبراهيم ، وخليل مطران ، والزهاوى ، والرصافى ، وأحمد محرم ، وعلى الجارم ، وغيرهم . . وهؤلاء ما يقلون عن المتنبى ، والمعرى ، وأبى تمام ، وبشار بن برد ، بل إن هناك من النقاد ومؤرخى الأدب العربى من يرون أحمد شوقى أمير الشعراء العرب قديما وحديثا .. وهؤلاء الشعراء ـ أعنى المسلمين منهم ـ كانوا عواطف الإسلام الحارّة ومشاعره النابضة ، وكان شوقى الباكى الحزين فى مآتم الإسلام وهزائمه ، كما كان المغنى الفرح فى انتصاراته وانتفاضاته ، وكان الشعر يقود معارك الحرية ضد الاحتلال الأجنبى ، ويوقد نيران الحماس فى الجماهير التى تنطلق بين الحين والحين لتدافع عن وجودها المادى والأدبىّ . وظاهر أن هذه النهضة الأدبية المباركة كانت تبنى على المهاد الأول ، وتصل من أمجاد المسلمين ما أضاعه التفريط والغدر ! وظاهر أن محافظتها على التراث ، وتقديسها للقيم الدينية ، وولاءها العميق للغة العربية ، أن ذلك كله ثابت لا يتزحزح . . ولكن الاستعمار الثقافى لم ييأس ، وعداوته للغة القرآن لم تفتر ! إنه يريد القضاء على الإسلام ، وأيسر السبل إلى ذلك القضاء على العربية وقواعدها وآدابها . وأظنه اليوم قد بلغ ما يشتهى ! فقد اختفى الأدب العربى الأصيل ، وإذا وجدت كتابات بالحروف العربية فإنها وعاء لمعان مبتوتة الصلة بأصولنا الروحية والفكرية.. وإذا كان الأدب مرآة أمة ، ودقات قلبها ، فإن المتفرس فى أدب هذه الأيام العجاف لا يرى فيه بتة ملامح الإسلام ولا العروبة ولا أشواق أمة تكافح عن رسالتها ، وسياستها القومية . وثقافتها الذاتية . . ما الذى يراه فى صحائف هذا الأدب ؟ لا شىء إلا انعدام الأصل وانعدام الهدف ، والتسول من شتى الموائد(1/63)
الأجنبية . . وحيرة اللقيط الذى لا أبَّوة له . والشعر ؟ لا موضوع له ! أذكر أن المرحوم أحمد زكى أبو شادى كان يهوى قول الشعر ، وأصدر من نصف قرن مجلة باسم " أبوللو " تجمع إنتاج أمثاله من الهواة ، وكان ص _072
أبو شادى " نحالاً " يزكى نحل العسل ، فقال أحد الظرفاء : " إن أبا شادى مغرم بكل ما يلسع : بتربية النحل وقرض الشعر " !! وأشهد أن شعر أبى شادى كان أنظف ألف مرة مما يسمى فى عصرنا هذا بالشعر المرسل . . فقد كان لكلامه نظم موسيقى ومحور يدور عليه . . أما الأشخاص الذين يحلو لهم حمل لقب " شاعر " دون أى نصاب من القدرة على النظم الموزون ، والمعنى الرائق فأمرهم يستثير الدهشة والغضب . .!! وأريد أن أصفهم بصدق ليعرف الناس : ما هم ؟ إذا لمحت عينى ما يسمَّى بالشعر المنثور تجاوزته على عجل ، لأنى من طول ما بلوته يئست أن أجد فيه معنى جاداً ، أو شعورا صادقا أو فكرة واضحة ! غير أنى أحيانا أقرأ ما يترجم من الشعر الأجنبيّ لأتعرف على ألوان الحسّ التى تخامر شتى الأجناس ، ولأصل الرحم الإنسانية بيننا وبين الآخرين . . وشاء الله أن أقرأ خلال فترة قصيرة كلمات ، ولا أقول أبياتا لشاعرين ، أحدهما : أميركى ، والآخر : إسبانى ، تريثت وأنا أطالعها إذ استبانت لى من خلال السطور حقائق بالغة الوضوح جديرة بالاحترام . أما الشاعر الإسبانى فيذكر فى شعره المرسل ـ هكذا ترجم لنا ـ أن فى أصله عرقا عربيا ، ومن ثَمّ فهو يتغنى بالحضارة التى أينعت فى الأندلس ثمانية قرون ، ويومئ إلى شعاعاتها التى أضاءت أوروبا خلال العصور الوسطى ، ويذكر فى ألفاظ خاطفة كيف أمّحت هذه الحضارة ، أو كيف انتحر أصحابها ! وهاكم كلمات الشعر الإسبانى (عن الحضارة العربية فى أسبانيا ، للدكتور محمود على مكى) : أنا مثل أولئك القوم الذين عمروا أرض أجدادى أنا من جنس كان قديما صديقا للشمس !! أنا من أولئك الذين كسبوا كلَّ شىء وفقدوا كل شىء . . وروحى هى روح(1/64)
الزنابق العربية الإسبانية . . إن هذه الكلمات أهاجت فى نفسى عاصفة ترابية ، كرياح الخريف التى تهب بغتة ، فتثير الغبار ، وتحمل الأوراق الجافة ، وتحرك معانى البلى . . ص _073
نعم كانت لنا على هذه الأرض حضارة أقمناها يوم كنا حملة وحى ، وصلةً بين الأرض والسماء ، فلما خُنَّا كتابنا ، وأرخصنا رسالتنا طاردتنا نقمة رهيبة ، وفقد كل شىء ، أو كما قال أبو تمام : ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها ، وكأنهم أحلام . .!! والأعجب من هذا التاريخ أن أصحابه لا يذكرونه ، ولا يستخلصون منه عبرة !! مالى أذهب بعيدا عن موضوعى؟ إننى أريد الكلام فيما يسمى بالشعر المنثور ، وقد نقلت نموذجا منه للشاعر الإسبانى " مانويل ما تشادو " فلأذكر النموذج الآخر الذى أعجبنى للشاعر الأميركى " جون هانيز " " من مقال للأستاذ درويش مصطفى الفار" كلما نظرت إلى اللبن مسكوبا على المائدة ورأيت الأكواب ملقاة بغير عناية تذكرت كل الأبقار التى تشقى . . وضياع " الأطنان " من الحشائش فى المرعى ومعاناة الضروع التى تمتلئ لتحلب وأشجار الغابات التى تجتثُّ لصناعة الورق و " ملايين " الشموع التى تحترق هباء فعلى كل مائدة فى العالم المتخم تنسكب الألبان ضائعة ويحاول " ملايين " الأطفال الغرثى التقاطها بقطع الإسفنج دون جدوى . .! هل هذه النظرة مادية ؟ هل الشاعر الأميركى يتألم للدولارات الضائعة ؟ من الظلم أن نوجه إليه هذه التهمة ، إن الرجل يمقت الإسراف ، وإراقة نعم الله على الثرى . تصور اللقمة التى ترمى بها دون اكتراث ، كم سنبلة قمح بها ؟ كم بذل الفلاح من جهد حتى حصدها ؟ وكم بذل غيره من جهد حتى أوصلها إلى يدك؟ أما كان الأولى أن تصان لينتفع بها فقير بدل أن تستقر فى صناديق القمامة ؟ لكن التبذير يزين لأصحابه ازدراء كل شراء ، والاستهانة بمواقعه ، ولأمر ص _074(1/65)
ما يقول الله تعالى : (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفورا) والجنس العربى أجدر الناس بمعرفة مقابح التبذير ، فإن العرب الأغنياء متخصصون فى بعثرة مال الله هنا وهناك دونما اكتراث . .! والشاعر الأميركى يقرر فى كلماته حقائق لا ريب فيها ، ولست أدرى هل هى فى الأصل الإنجليزى مضبوطة الأداء وفق موسيقى خاصة ، أم أن الشعر عند القوم مرسل ؟ إن الشعر العربى له موسيقاه الخاصة ، وقد أحصى الرواة له ستة عشر نغماً تتعانق مع العواطف ، وتنساب معها الأحاسيس الإنسانية إنسياباً ساحرا جميلا . . والفرق بين الكلام العادى والقصائد المنظومة ، كالفرق بين الأصوات المعتادة ، وبين ألحان الناى وصدح الآلات الموسيقية المختلفة ، وقد نبغ شعراء كثيرون فى تاريخنا الأدبى ولا يزال تراثهم موضع درس واحترام ، وترديد لما حوى من عواطف وتجارب . . وقد غالى أبو تمام فى وصف الشعر وأثره عندما قال : ولولا خلال سنَّها الشعر ما درى بغاة العلا من أين تؤتى المكارم ! وبيت أبى تمام أفضل من بيت العقاد الذى يقول : والشعر من نفس الرحمان مقتبس والشاعر الفذ بين الناس رحمان ! هذا الكلام من هفوات العقاد ـ رحمه الله ـ المردودة عليه . الشعر المرسل وقد ظل العرب أقل من عشرين قرنا يصوغون شعرهم حسب البحور المأثورة عنهم حتى جاد هذا العصر الأنكد بما يسمَّى : الشعر المرسل ، محاكاة للشعر الأوروبى كما يقولون . . وأكرهتنى الأيام على سماع هذا اللغو من بعض الإذاعات ، أو قراءته فى بعض المجلات فماذا وجدت ؟ تقطُّعا عقليّا فى الفكرة المعروضة ، كأنها أضغاث أحلام ، ص _075(1/66)
أو خيالات سكران . . ثم يُصَبُّ هذا الهذيان فى ألفاظ يختلط هزلها وجدُّها ، وقريبها وغريبها ، وتراكيب يقيدها السجع حينا ، وتهرب من قيوده أحيانا . . ثم يوصف المشرف على هذا المخلوط الكيماوى المشوش . . بأنه شاعر . . فى الشعر الأجنبى المرسل صورة ذهنية أو عاطفية ظاهرة على النحو الذى سُقنا شواهده أول هذا البحث ، أما التقليد العربىُّ له فشىء غريب حقا. واسمع هذا الكلام الذى نشرته صحيفة الراية فى ملحقها الأسبوعى ( 567 ) : وصاعدا فصاعدا . . نأيت عن خريطة الليمون والحوانيت الخفيفة . . حجر من النهر اصطفانى . . فارتعدت ! الثور والحمير تجرى فوق أكوام الغلال !! وحاجتى لمعطف التبرك . . ابتداء فجر صحن بيتنا ـ السحارة العتيقة . . آن الأوان . . لأروح فى السيجا قوى الجأش . . لأروح تحت البواكى أملأ السيجا مرابيع النجوم . . قوس الجنازة الذى . . يمتد فى قوس البيوت الواطئة . . الصاغة الملثمون والحلب . . والنسوة الحبالى . . قلبى الذى يجول . . إلخ إلخ مَنْ مِنَ الناس فى الدنيا أو فى الآخرة يفهم هذا المجون ؟ كأن جامع الحروف التقط كلمات من على الأرض ، ورصَّها كيفما اتفق ! وزيادة فى التهويل أو التزوير جاء الرسام فوضع حولها بعض الزخارف الغامضة ، وتحت عنوان " وشم العاشق " سمى هذا الخليط الكيماوى شعرا . !! ص _076(1/67)
كان صديقى محمد مصطفى حمام رحمه الله مولعا بتقليد هذا الشعر المرسل ، والضحك من قائليه ، فجاءنى يوماً يقول : اسمع هذه القصيدة . تحت شجرة الأبدية . . جلس الدهر يتفلَّى وجلست معه أرمق الأفق البعيد . . على شاطىء مديد من الصخور اللينة . . هناك فى الجزر التى تبارز الأمواج . . كانت حبيبتى تحيا مع الغزلان وبقر الوحش . . أين أنت يا حبيبتى . .؟؟ فقلت له مصححا : أين أنت يا مصيبتى ؟ هكذا قال الشاعر ، أو كذلك يجب أن يقول! ومع ذلك فهذا الهزل المصنوع أكثر تماسكا من الشعر المرسل الذى انتشر فى صحفنا انتشار القمامات فى الطرق المهملة . . ذلكم صنيع الاستعمار الثقافى بنا ، وبلغتنا ، وتراثنا الأدبى ، وخصائصنا الفنية! وقد راقبت إنتاج ذوى الأسماء اللامعة فى هذا الميدان المبتدع ، فوجدت السمة الغالبة على هذا اللغو المسمَّى شعرا لا تتخلف أبدا . . التفكير المشوش أو اللا تفكير ، والتعبير الذى يجمع الألفاظ بالإكراه من هنا ومن هنا ويحاول وضعها فى أماكنها ، وتحاول هى الفرار من هذه الأماكن . . والسؤال الذى يتردد باستمرار لماذا أيها القوم تسمون أنفسكم شعراء إذا كنتم لا تحسنون قرض الشعر وبناء القصيدة ؟ لماذا لا تحاولون أن تكونوا ناثرين بعد استكمال القدرة العقلية واللغوية ؟ ومن العجائب أن هذا العجز الأدبى يلبس ثياب البطولة ، فعندما مات صلاح عبد الصبور ، غفر الله له ، نشر الرسامون الهزليون صورة لتمثال أقيم له وقد نقشت فى قاعدته هذه العبارة " فارس الكلمة "! ص _077(1/68)
أى فروسية ؟ إنها طريقة المصريين ـ أوالعرب أحيانا ـ فى تسمية الأعمى أبا بصير ، وتسمية الأقرع : شعراوى !! كذلك يسمى العاجز عن نظم الكلم : فارس الكلمة . .!! العربية فى خطر عندما يتشابه الأنين أقول : قد تكون العلة واحدة ! ولقد سمعت مدرسا للغة العربية فى إحدى دول الخليج يتألم ، وكأنه يستغيث ، فقلت : إن مثل هذا الجؤار شق مسامعى فى دول الشمال الإفريقى ، وفى وادى النيل ، وفى أقطار أخرى ، لا بدَّ أن العلة واحدة . وأخذت أقرأ ما نشرته جريدة الاتحاد فى العدد (3140) . قال المحرر : " اللغة العربية من أهم الركائز التى تميز مجتمعنا عن بقية المجتمعات الأجنبية ، تلك اللغة التى تميز هوية هذا المجتمع ، وتثبت شخصيته وانتماءه . . وحين نطالب بالاهتمام بلغتنا العربية وإرساء قواعدها فى أذهان طلابنا ، فإننا ندعو إلى ذلك من باب الغيرة على لغة الضاد . والذى دعانى إلى الخوض فى هذا الموضوع . هو شكوى تلقيتها من أحد أساتذة اللغة العربية عبر الهاتف حيث عبر عن تذمره ومعاناته ، وأبدى دهشة واستغرابا من ضياع معالم هذه اللغة فى مجتمع الإمارات ! ذكر لى أنه يقوم بتدريس اللغة العربية ، ويحاول جاهدا أن يرسخ ويثبت فى أذهان التلاميذ مدى أهمية هذه اللغة وجمالها وسهولتها وبساطتها ، وكيف أن العرب قديما كانوا حريصين كل الحرص على معالم لغتهم ، واعتبروها أساس الحضارة . يقول : إنه حين يخرج من المدرسة فإن معالم اللغة العربية تضيع من أمامه تماما ، فسائق التاكسى الذى يركبه أجنبى (هندى أوباكستانى) ، وحين يصل إلى البيت ويرفع سماعة التليفون ليسأل فى المستشفى عن صديق له يعالج هناك ، فإن عامل البدالة " الأجنبى " يجبره على التفاهم معه بلغة غير العربية ، وحين يذهب إلى السوق ، فإن كل البائعين فى السوق أجانب ، ويحتاج إلى عدد من القواميس لكى يستطيع التفاهم معهم ، وحتى الحمّال الذى ينقل مشترياته من داخل السوق إلى ص _078(1/69)
السياراة أجنبي . . ويكمل هذا المدرس " العربى " طريقه ليفاجأ أن كل شىء فى هذا المجتمع بعيد كل البعد عن اللغة العربية ! فيحس فى المدرسة أنه هو الوحيد الذى يجاهد ويكافح من أجل إرساء أسس هذه اللغة فى أذهان أبناء هذا المجتمع " العربى " . الحقيقة أنه ليس لدىّ أى تعليق على أقوال هذا المدرس " الغلبان " ، سوى أن أضيف أن التلاعب بلغتنا امتد إلى لوائح الإعلانات فى الشوارع العامة ، وأسماء المحلات ، والمعارض التى تكتب بخطوط عريضة ومليئة بالأخطاء اللغوية ! والغريب أن البلديات لا تعير هذا الجانب أى اهتمام ، وتترك أصحاب المحلات " الأجانب " يكتبون ما يشاؤون بالطريقة التى يريدونها ، ويعلقون كتابتهم بشكل استفزازى فى الشوارع العامة ! " . هذا مثال للهوان الذى تلقاه اللغة العربية فى الأسواق والشوارع . . وقد سقنا آنفا مثالا لما تلقاه لغتنا " الجميلة " من اقصاء وإزراء فى ميادين العلوم ، ثم لما يلقاه أدبها من تشويه وغبن فى ميادين الآداب والفنون ، وماذا بقى للغتنا من أماكن تكرَّم فيها ؟ إننا نصيح محذِّرين : اللغة العربية فى خطر ، أدركوها قبل فوات الأوان !! * * * * ص _079
الفصل الخامس بين الاعتدال والتطرف ص _081(1/70)
مع أننى حارّ العاطفة ، جيّاش المشاعر ، إلا أننى أفضِّل الهدوء والتلطف على الشدة والتعسُّف ، وأفرض على نفسى منطق العقل ، وربما قسرتُها على حكمه وهى له كارهة ! وعقبى ذلك حسنة فى الدنيا والآخرة ! ولقد دار بينى وبين شاب من العاملين فى الميدان الإسلامى حوار قاس ، كنت فيه أطيل الاستماع ، وأقلُّ التعليق ، وفى نهاية المطاف ، قلت ما عندى كله .. قال : إنكم تتهموننا بالتطرُّف فهلا شرحتم موقف الطرف الآخر منا ؟ وكشفتم عن مسلكه معنا ، أكان معتدلا أم متطرفا ؟ إن فلانا فعل بنا كذا وكذا ، مِنْ سفك وهتك و . . و . . قلت : إن فلانا هذا مات من سنين طوال وأفضى إلى عمله ، رحمه الله ! فصاح : لا رحمه الله ولا غفر له ، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له ما قبل منه ! ألم تقرأ قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فى مثل هذا الشأن : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) وحاولت الكلام . .! ولكنه مضى يهدر : ماذا تقول فى رجل أذلَّ العرب ومكَّن لليهود ؟ ماذا تقول فى رجل ألغى المحاكم الشرعية ، والوقف الإسلامى ، وحل الجماعات الإسلامية ، أو وضع نشاطها تحت الحراسة ، وقتل مئات المؤمنين فى السجون أشنع قِتلة ، وعذاب الألوف عذابا تشيب له النواصى ، وأذل من أعز الله ، وأعز من أذل الله ، ولم يترك الدنيا إلا بعد أن صبغ وجوه المسلمين بالسواد والخزى !! ومكن لأعداء الله تمكيناً ما رأوا مثله من ألف عام !! قلت له : لا تجترَّ آلام الماضى ، واشتغل بالبناء للإسلام ، وليكن ذلك أغلب على فكرك من الانتقام وطلب الثأر . . واستمعوا إلى من يعرفكم بحقائق الإسلام من كبار المربين ، وجهابذة العلماء ، بدل أن تكتفوا بقراءة مجردة لبعض الكتب.. ص _082(1/71)
فقال الشاب فى مرارة : كبار العلماء ؟ ! إن أمرا صدر إلى هؤلاء الكبار باستقبال " مكاريوس " جزار الإسلام فى قبرص ، فاستقبل بحفاوة فى الأزهر الشريف . . وإن أمرا آخر صدر بمنح " سوكارنو " وهو شيوعى متبذل ، معروف جيدا فى أندونيسيا ، شهادة الدكتوراه فى الفلسفة فاجتمع هؤلاء الكبار ومنحوه من الأزهر الشريف هذه الشهادة ! وأمرا ثالثا صدر بوضع الحجر الأساسى لكنيسة ، فسارع وكيل الأزهر إلى تلبية إشارة السادة الذين أمروه ، ولم يقع فى تاريخ الفاتيكان نفسه أن كُلِّفَ رجل دين كاثوليكى بوضع الأسس لكنيسة تخالف مذهبه !! وقد سكت أولئك العلماء على مظالم أفقدت الجماهير نخوتها وكرامتها وشجاعتها ، ورضوا بمحاربة مظاهر التديُّن والتقوى مع أننا نواجه دولة دينية أقامت كيانها على أنقاضنا .! قلت : يا بُنىَّ ليس كل العلماء كما تصف ، وإذا مضيت أنت وصحبك فى هذه السبيل فلن تعودوا . . قادة الأمة إن الخوارج قبلكم ركبوا هذا الشطط ، فَدُفنوا فى تراب التاريخ على عجل .. والذين قادوا الرسالة الإسلامية ليسوا ولاة السوء ، ولا المعارضين الحمقى! إنما قادة الإسلام العلماء المربون ، والفقهاء المخلصون . . ! هل أقول : إن اليهود أعقل منكم ؟ قال : كيف ؟ ص _083(1/72)
قلت : لما عقدوا أول مؤتمر عالمى لهم فى سويسرا كى يقيموا دولتهم ، ووصلوا إلى مخطط مدروس ، قال رئيسهم " هرتزل " : ستقوم " إسرائيل " بعد خمسين سنة ! وقامت بعد خمسين سنة . .! إن الرجل لم يعمل لنفسه ولا لأولاده ، إنه يغرس لمدىً بعيد ، ربما لا يذوق جناه إلا الأحفاد ! ليس مهما أن يرى هو نتاج ما فعل ، المهم أن يصل إلى غايته .. وإنما قدّر الرجل نصف قرن لأنه يريد الخلاص من مشكلات تراكمت خلال قرون طوال ، لا يمكن الخلاص منها بجرة قلم أو بصيحة حماس ! ومن الظلم أن أُحمِّل الجيل المعاصر أوزار الهزائم الهائلة التى لحقت بنا ، إنها حصاد خيانات اجتماعية وسياسية وقعت من زمان غير قصير ، فكيف تفكرون فى إزالتها بخطط مرتجلة وجهود قاصرة ؟ إن رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم صَاح بعقيدة التوحيد كانت مئات الأصنام صفوفا داخل الكعبة وحولها ، وقد ظل ثلاثا وعشرين سنة يدعو ، تدرى متى هَدَمَ هذه الأصنام ؟ فى السنة الحادية والعشرين من بدء الدعوة !! . إنه ما فكر حتى فى عمرة القضاء أن يمسَّ منها وثنا ـ أى قبل فتح مكة بسنة ـ أما أنتم فتريدون الدعوة إلى التوحيد فى الصباح ، وشنَّ حملة لتحطيم الأصنام فى الأصيل ! والنتيجة التى لا محيص عنها مصارع متتابعة ، ومتاعب متلاحقة ، ونزق يحمل الإسلام مغارمه دون جدوى ! وأريد أن أؤكد للشباب أن إقامة دين شىء ، واستيلاء جماعة من الناس على الحكم شىء آخر ، فإن إقامة دين تتطلب مقادير كبيرة من اليقين والإخلاص ونقاوة الصلة بالله ، كما تتطلب خبرة رحبة بالحياة والناس والأصدقاء والخصوم ، ثم حكمة ، تؤيدها العناية العليا فى الفعل والترك والسلم والحرب . .! إن أناسا حكموا باسم الإسلام ، ففضحوا أنفسهم ، وفضحوا الإسلام معهم !! فكم من طالب حكم يؤزه إلى نشدان السلطة حب الذات ، وطلب الثناء ، وجنون العظمة !! وكم من طالب حكم لا يدرى شيئا عن العلاقات الدولية ، والتيارات العالمية والمؤامرات السرية(1/73)
والجهرية !! ص _084
وكم من طالب حكم باسم الإسلام وهو لا يعرف مذاهب الإسلاميين فى الفروع والأصول ، فلو حكم لكان وبالا على إخوانه فى المعتقد ، يفضلون عليه حكم كافر عادل ! ولقد رأيت ناسا يتحدثون عن إقامة الدولة الإسلامية لا يعرفون إلا أن الشورى لا تلزم حاكما ، وأن الزكاة لا تجب إلا فى أربعة أنواع من الزروع والثمار ، وأن وجود هيئات معارضة حرام ، وأن الكلام فى حقوق الإنسان بدعة . . إلخ ، فهل يصلح هؤلاء لشىء ؟! إننى أقوم بالعمل أحيانا ، ثم أراجع دوافعه فى نفسى ، فأشعر أنى لم أكن فيه مخلصا كما ينبغى ! غلبنى حب الدنيا أو الاعتداد بالنفس ، فأحس الألم والندم ، وأرى أنى ـ بهذا الخلط ـ لا أصلح لولاية الناس ، وجعل كلمة الله هى العليا . . ذلك أن الله عندما يُهلك الظلمة لا يستخلف بعدهم ظلمة مثلهم ، إنما يستخلف مسلمين عُدولاً صالحين ، قال تعالى موضحا سبيل من يؤيدهم من خلقه : (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون * وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) هناك نصاب من الكمال النفسى والعقلى لابد من تحصيله لمن يريد خدمة الدين ، وإقامة دولة باسمه ، واكتمال هذا النصاب لا يتم بغتة ، وإنما يتكون مع سياسة النَّفَس الطويل . . ومعاذ الله أن أتهم غيرى بسوء النية ، ولكننى أريد تحصين نهضتنا من العلل التى لا تبلغ القصد ، ولا تحقق الهدف . . من أسباب التطرف الدينى للتدين المنحرف أسباب نفسية ، وأخرى علمية ، تظهر فى أقوال المرء وأفعاله ، وتلحظ فيما يصدره من أحكام على الأشخاص والأشياء ! وتتفاوت هذه الأسباب قوة وضعفا ، وقلة وكثرة ، ولكنها على أية حال ذات أثر عميق فى تحديد المواقف والاتجاهات ..! ص _085(1/74)
والمفروض فى العبادات التى شرعها الله للناس أن تزكى السرائر ، وتقيها العلل الباطنة والظاهرة ، وتعصم السلوك الإنسانى عن العوج والإسفاف ، والجور والاعتساف . وكان هذا يتم حتما لو أن العابدين تجاوزوا صور الطاعات إلى حقائقها ! وسجدت ضمائرهم وبصائرهم لله عندما تسجد جوارحهم ، وتحَرَّك أَنْفَسُ ما فى كيانهم ـ وهو القلب واللب ـ عندما تتحرك ألسنتهم . . أما إذا وقفت العبادات عند القشور الظاهرة ، والسطوح المزوَّرة ، فإنها لا ترفع خسيسة ولا تشفى سقاما . وقد كتبت يومًا كلمة عن " الحطئية عندما يشتغل بالدعوة " وتساءلت : ماذا تنتظر من رجل طبيعته شرسة إلا الوعظ بقوارص الكلم وسىء العبارات؟ إن طبائع بعض الناس تحوِّل الدين عن وجهته إلى وجهتها هى ، فبدل أن تهدى تصدُّ! وبدل أن تسدى تسلب ! وقد نبه القرآن الكريم إلى خطورة نفر من الأحبار والرهبان ، جعلوا الدين كهانة تفسد بها الفطرة ، وتصطاد بها المنفعة . (إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل و يصدون عن سبيل الله) وهذا النوع من الناس آفة الأديان كلها ، وفيه يقول الشاعر: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها . . فباعوا النفوس ولم يربحوا ولم تغل فى البيع أثمانها ! والآفات النفسية تبدأ مع الطفولة ، بل قد تنحدر مع خصائص الوراثة ، وإذا لم تذهب بها التربية الراشدة ، نمت مع المرء شابا ، وبقيت فى دمه شيخا . وانظر إلى رجل كأبى سفيان ، لقد كان قائد مكة وشيخها المقدم فى الجاهلية ، ولم يفت الرجال الذين يعرفونه أنه يحب الفخر ، وأن كلمة تنوِّه بشأنه قد تؤثر فى حكمه . . ص _086(1/75)
واقترح العباس رضى الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل له شيئا يطمئنه على مكانته بعد غلبة التوحيد على أم القرى ! واستجاب النبى صلى الله عليه وسلم لرأى عمه ، فقال : " نعم ، من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ومن قعد فى بيته فهو آمن " واستراح أبو سفيان أن ذكر اسمه ، ومَهَّد لتسليم مكة دون حرب !! وقد تتستر العلة النفسية وراء الحماسة للقيم والغيرة على الحق ، وأوضح مثل لذلك الرجل الذى علّق على تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم للغنائم ، فقال : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله . . إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يتألّف بعض الناس بشراء من حطام الدنيا ، لأن اليقين لم يستمكن من قلوبهم ، وكان على الرجل الذى لم تعجبه القسمة أن يتساءل عن سرها . . إما أن يسارع إلى اتهام أشرف الخلق فهذا مرض باطن ! وقد نبه النبى عليه الصلاة والسلام إلى أن هذا الصنف يطيل الصلاة والقراءة ، ولكن عبادته لا تزكى سريرته ، ولا تشفى علته . . ! وفى غزوة العُسْرة تساءل النبى صلى الله عليه وسلم عن كعب بن مالك ، ما أخَّره ؟ فتطوع رجل باتهامه قائلا : ألهاه النظر فى بُرْدَيْه ! وهى كلمة محقورة تنبىء عن الحقد ! فكعب أحد الثلاثة الذين خُلِّفُوا ، وقد عفا الله عنهم ، وتاب عليهم . وفى أثناء أزمة كعب جاءته رسالة من ملك الروم تستحثه على ترك المدينة ، واللحاق معززا بحاشية الملك ، فعدَّ ذلك محنة ، وأحرق الرسالة ! وارتقب الفضل الأعلى حتى جاءه ـ وهو له أهل ـ بيد أن بعض الناس ينظر إلى غيره بعين المقت التى تبدى المساوئ وتخفى المحامد ، وينتهز أول فرصة ليشبع ضغنه . . وجاء وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهم رجل ثرثارة دعىُّ متشدِّق ! كلما قال رسول الله كلاما ، طوعت له نفسه أن يقول كلاما أفصح يحاول أن يُسامى به رسول الله صلى الله عليه وسلم . . !! وكان التعليق الذى باء به أن هذا ومثله يلوون(1/76)
ألسنتهم بالكلام كما تلوى البقر ألسنتها بالحشائش ، لهم النار يوم القيامة . . !! ص _087
وكما رأينا من سَبَّاق للكلام فى الدين لا حصيلة له إلا اللغو والهباء ، فالوعظ لا يبلغ هدفه مهما كان بليغا إذا قارنته نية مغشوشة . . سمع الحسن البصرى ناصحا قوىّ البيان ، لكنه لم يتأثر به ، فقال له : " يا هذا ، إن بقلبى شيئا أو بقلبك . .! " . والآفات النفسية تشيع بين ناس كثيرين ، فيهم المتدين وغير المتدين ، وعلماء التربية يرون هذه العلل أخطر من الرذائل المادية . ومن المقرر أن معاصى القلوب أخطر من معاصى الجوارح ! فالكبر شر من السكْر ، وإن كان الشارع أعد عقوبة عاجلة للسكارى ، إلا أنه أرجأ المستكبرين ليوم تطؤهم فيه الأقدام . . والسر فى هذا أن السكران يتناول ما يضره وحده غالبا ، فهو بالخمر يفرى كبده ويحقر عقله ، أما المتكبر فهو يجتاح حقوقا ، ويظلم مستضعفين ، ولا يقف دائرة عدوانه عند حدّ . . ولا تحسبن الكبر صعر الخدّ وتثاقل الخطو ! فهذه مظاهره الطفولية ! الكبر بطر الحق وغمط الناس ، وانتهاج مسلك يفرض شهوة فرد على جماهير غفيرة . وتدبر سياسة هؤلاء المرضى العتاة ، وهم يقلبون الحق باطلا والباطل حقا . يقول موسى لفرعون : (قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل) ويكون جواب الطاغية وملئه : (إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم) رجل يريد الفرار بقومه من العذاب فيتهم بأنه يريد إخراج المواطنين من أرضهم .. فإذا عرف نفر من الأتباع الحق وآمنوا به ، قيل لهم : (آمنتم به قبل أن آذن لكم) سبحان الله ! لماذا ينتظر إذنك ؟ ص _088(1/77)
قديما وحديثا وجد أولئك المنحرفون من حملة الأسماء الطنانة ، فكانوا بلاء على أممهم ، ودفعت الشعوب آلافا مؤلفة من القتلى ، ثمنا للمجد الشخصى الذى يزعمه رجل يقول : أنا الدولة . .! أو أنا وحدى . .! والاستبداد السياسى هو البيئة الخصبة لإنبات هؤلاء الفراعين ، ويؤسفنا القول : إنه فى الشرق أكثر منه فى الغرب ، وهو السَّدُّ الأعظم أمام ارتقاء أمم شتى والسر فى انتشار رذائل المَلَق والصَّغَار فى جنباتها . . وعندما أبحث عن جراثيم الانحراف بين المتدينين أجد هذا اللون من الفرعنة وراء جملة من المسالك التى نشجبها ، ونضيق بأهلها ، فبعض الجماعات نبتت أفكارها فى السجون ، ونمت أشواكها وراء القضبان ، يوم استطاع رجل فرد أن يأمر باعتقال ثمانية عشر ألفا فى عشية واحدة ، وأن يدخل الكآبة والذل على ثمانية عشر ألف بيت من المسلمين !! هل أدافع بهذا القول عن التطرف ؟ لا ، فأى عالم مسلم يأبى العِوج الفكرى ، والانحرافات النفسية ! إن هذا الشباب مختل المزاج ، فصاحب الرسالة ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وهؤلاء الشبان ما خُيِّروا بين أمرين إلا اختاروا أصعبهما . والإسلام يقدم الدليل ، ويؤخر العنف ، فما يلجأ إليه إلا كارها ، أما أولئك الشبان فقد نظروا إلى الأسلوب الذى عُوملوا به ، واستبيحت به دماؤهم وأعراضهم فلم يروا أمامهم إلا السلاح ! . ويوجد بين المتدينين قوم أصحاب فقر مدقع فى ثقافتهم الإسلامية ، وإذا كان لهم زاد علمى فمن أوراق شاحبة بعيدة عن الفكر الإسلامى الصحيح والأقوال الراجحة لفقهائه ! وهم يؤثرون الحديث الضعيف على الصحيح ، أو يفهمون الخبر الصحيح على غير وجهه ، وإذا كانت المدارس الفكرية فى تراثنا كثيرة ، فهم مع ظاهر النص ضد مدرسة الرأى ، وهم مع الشواذ ضد الأئمة الأربعة ، وهم مع الجمود ضد التطور ، وقد سمعت بعضهم يحارب كروية الأرض ودورانها ، فلم تهدأ حربه حتى روى له أن ابن القيمّ يقول باستدارة الأرض!(1/78)
ومازال البحث جاريا عن رواية أخرى تقول : ص _089
إن الأرض تدور! كى يسكت ويستكين . . ! هل بين أولئك القوم وبين الخوارج القدامى قرابة روحية وفكرية ؟ ربما . بيد أن اتهام الخوارج بالافتئات على الأمة يمكن أن يستمع من خليفة راشد أعنى من حاكم وليد شورى صحيحة ، له مكانته الخلقية النزيهة . .!! أما أن يتوجه بالتهمة حاكم مستبد متسلط على رقاب العباد مثلا فإن الرد معروف ، سيقال له : وما مكانتك أنت من الأمة ومصالحها وقيمتها ؟ إن الجو الحُرّ هو المكان الوحيد الذى يموت فيه التطرف ، ويتوارى أهله على بطء أو على عجل ، المهم أنهم لا يبقون ولا يستقرون ! على أن الفساد السياسى لا يسيغ الانحراف العقائدى ، ولا العوج الفقهى ، وليس الدين ستارة لتغطية العيوب ، وإنما هو طهارة منها ، وحضانة ضدها ، وفى تجاربى ما يجعلنى أشمئز من التدين المغشوش ، وأصيح دائما أحذِّر عُقْباه . . إن المنحرفين يسترون ـ بركعات ينقرونها ـ فتوقا هائلة فى بنائهم الخلقى وصلاحيتهم النفسية ، وهم لا يظنون بالناس إلا الشر ، ويتربصون بهم العقاب لا المتاب ، وهم يسمعون أن شُعَب الإيمان سبعون شعبة ، بيد أنهم لا يعرفون فيها رأسا من ذنب ، ولا فريضة من نافلة ، والتطبيق الذى يعرفون هو وحده الذى يُقرون. إفراط . . وتفريط والخلاف الفقهى لا يوهى بين المؤمنين أُخوّة ، ولا يحدث وقيعة ! وهؤلاء يجعلون من الحبة قبة ، ومن الخلاف الفرعى أزمة . والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة ، وهؤلاء تكمن وراء خلافاتهم علل تستحق الكشف! كتب أحدهم ردا علىّ جاء فيه أن الدعوة كانت تسبق القتال فى صدر الإسلام ، ثم نُسخ ذلك وأمسى القتال يقع دون حاجة إلى دعوة تسبقه ! وساق حديثا ، لم يحسن فهمه ! وبدت لى خلال السطور المكتوبة صورة المؤلف المتحمس ، إنها صورة قاطع طريق يشنُّ الغارات على الناس باسم الدين . . ! ص _090(1/79)
ولم يكتف المسكين بتدوين هرائه حتى ضمَّ إليه سعاية إلى أولى الأمر بأنى أسأت إلى الملك عبد العزيز رحمه الله ! هل ذلك مسلك الأتقياء الذين يخدمون التراث النبوىّ ؟ إن التدين يوم يفقد طيبة القلب ، ودماثة الأخلاق ، ومحبة الخلائق يكون لعنة على البلاد والعباد . . والغريب أن التطرُّف لا يقع فى مزيد من الخدمات الاجتماعية ، ولا فى مزيد من مظاهر الإيثار والفضل ، إنه يقع فى الحرص البالغ على الأمور الخلافية كالتنطع فى مكان وضع الدين أو طريقة وضع الرجلين خلال الصلاة ! والاهتمام الهائل هنا تقابله قلة اكتراث ببناء دولة الإسلام الغاربة ، والإقبال على تجميع العناصر التى لابد منها لإقامة حضارتنا واستعادة كياننا . . والمجال المستحب للغالين فى دينهم ينفسح عندما ينظرون فى ذنوب الناس ، إنهم يسارعون إلى الحكم بالفسق أو الكفر وكأن المرء عندهم مذنب حتى تثبت براءته، على عكس القاعدة الإسلامية . . ومنذ أيام ثار جدل حول تارك الصلاة كسلا ، فلم يذكر أحد فى شأنه إلا أنه كافر ، مستوجب للقتل ، مخلد فى النار ! قلت: إن تارك الصلاة كسلا مجرم حقا ، ولكن الحكم الذى ذكرتموه هو فى تاركها جحدا ، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة خروج من الدين ، أما الكسول فهو مقر بأصل التشريع ! قالوا : يقتل حتما. قلت : لماذا تنسون حديث أصحاب السنن فى أن الرجل لا عهد له عند الله ـ بتكاسله ـ إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه ! ودخول هذه الجريمة فيما دون الشرك ، أعنى إمكان العفو الإلهى عنها ، هو رأى جمهور المسلمين ، ومذهب الأحناف ألا يقتل الكسول . . وعلينا بالتلطف والنصح الحسن ، أن نقوده إلى المسجد لا إلى المشنقة . . ص _091(1/80)
بيد أن المتطرفين يأبون إلا القول بالقتل ، وأن هذا وحده هو الإسلام !! ومجال آخر هو قضايا المرأة ، إن حبسها وتجهيلها ، واتهامها هو محور النظر فى شئونها العبادية والعادية جميعا ، ويجب لىَّ النصوص والآثار التى تربطها بالمسجد ، وبالأمر والنهى ، والتعليم ، وإذا خرجت من البيت لضرورة قاهرة فلا ينبغى أن تُرى لها ظفر ، هى عورة كلها ، لا ترى أحدا ولا يراها أحد !! ومن هؤلاء المتطرفين ناس لهم نيِّات صالحة ، ورغبة حقة فى مرضاة الله ، وعيبهم ـ إن خلوا من العلل والعقد ـ ضحال المعرفة وقصور الفقه ، ولو اتسعت مداركهم لاستفاد الإسلام من حماسهم وتفانيهم . . حدث فى إحدى القرى أن أرسل العمدة إلى إمام المسجد يخبره أن المهندس الزراعى قادم ، وأنه ينبغى الاجتماع بالأهالى كى يقدم لهم إرشادا مهما ، ويرجو العمدة إعلام المصلين بذلك حتى يتم اللقاء . وعندما حاول الإمام الكلام فى مكبر الصوت ، قال له طالب متدين : إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم منع نشدان الضالة فى المسجد ، وقال : إنما بُنيت الصلاة لَمّا بُنيت لله! ـ يعنى العبادة ـ ومنعه من أخذ المكبِّر ! ولما اشتد النزاع قال الطالب : لن يؤخذ المكبِّر إلا على جثتى !! إن قياس الإرشاد الزراعى على نُشدان جمل تائه لأحد البدو قياس غير صحيح ولو فرض صحيحا ، فالأمر أهون من أن تقدم فى سبيله جثة !! ونحن مع رفضنا لهذه المسالك نرى أن الصلف اليهودى لا يكسر حدَّه إلا فداء يستند إلى هذا اليقين ، وأن على المربين والقادة أن يعاملوا هذا الشباب بحكمة ، وأن يتعهدوهم بالعلماء الواعين المتجردين ، فإن هؤلاء الشبان يكرهون أتباع السلطة ، ويزدرون علمهم إن كان لديهم علم . . * * * * ص _093
الفصل السادس المتاجرة بالخلاف خيانة عظيمة ص _094(1/81)
بذلت جهدا كبيرا فى ردم الفجوات التى تفصل بين الشباب المسلم ، فإنه لأمر مفزع أن يشجر الخلاف بين المسلمين الآن وأعداؤهم يُعدُّون لهم الضربة القاضية بعد ضربات سبقت ، أوهت صفوفهم وشعَّبت أهواءهم . . ! إن هناك أنواعا من الخلاف الفقهى واللغوى لا أخشى منها أبدا ، بل أعدُّها طبيعة البشر الذهنية والنفسية! أما الخلاف المولود على مصاطب الفراغ والثرثرة ، الشاغل لمجالس اللهو والبطالة فهو معصية لله وتوهين للأمة . ولم يكن هذا الخلاف موجودا ، عندما شُغلت الأمة برسالتها ، وعبَّأت قواها كلها لتقليم أظافر القوى الباغية على الإسلام ، فلما استراحت من هذه الأعباء ـ وما كان لها أن تستريح ـ أخذت تتحدث فى دينها وتتقعَّر فى فهم عالم الغيب ، بعدما أراحت نفسها من الكدح فى عالم الشهادة . . ! وكان أن ورثنا بلاء كثيرا فى قضايا مُخْتلَقَة ، وزاد الطين بلَّة أن خصومنا شنُّوا علينا غارة استئصال ونحن ماضون فى هذا اللغو ، حتى خشيت أن تُجْهَض النهضة الإسلامية المعاصرة بغباء المولعين بإثارة هذه القضايا . . !! لما كنت فى القاهرة جاءنى من أخبرنى بأن فتنة وقعت فى حلوان بين المصلِّين! فقلت : لماذا ؟ قال : إن خطيب المسجد تساءل بصوت عال : أين الله ؟ ودهش المصلون للسؤال الملقى عليهم ! ثم تولّى الخطيب الإجابة قائلا : فى السماء ! وذكر حديثا معروفا فى هذا . . وغضب بعض المصلين لهذه الإجابة التى أوقعت الناس فى اللجاج والجدال .. لقد اقشعرَّ جلدى لهذا الحوار وتملكنى غضب شديد ، وقصة الخطيب والمعترض هذه تنوقلت هنا وهناك ، وإذا اللجاج يحيا من جديد بين مُنتسبين للسلف ومنتسبين للخلف! وقلت : قرة عين لليهود والنصارى ، ومصيبة بعد أخرى للمسلمين الضِياع ! ولم أجد بدا من الجرى هنا وهناك ، أسكب الماء على الحريق ، وأشغلُ الأمة بما يجب أن تشتغل به ، وأتحدث عن الخلاف القديم الجديد بما يجمع الشمل ، ويُبعد الفرقة .. ص _095(1/82)
المحكم والمتشابه قلت : فى القرآن آيات محكمة وأخرى متشابهة لكن ما نسبة المتشابه إلى المحكم؟ إن المحكم هو أمُّ الوحى ، وصلب الكتاب ، وأساس للتكاليف ، ويعنى هذا أن العزائم تتجه إلى المحكم تعمل به ، وتقف نشاطها عليه ، أما غيره ـ وهو محدود النطاق ـ فإن الانشغال به عِوَجٌ في فى الفكر وزَيْغٌ فى القلب ، حسبنا أن نمرّ به مرّ الكرام لا نستقصى ولا نتكلف ، فإن طول الوقوف عنده لا يفيد أولاً ، ثم إنه يكون على حساب المحكم ثانيا ، سنقصِّر فيه بعدما بدَّدنا الوقت فى غيره . . قال قائل : لكن آباءنا اختلفوا بعدما فكّروا ، ما نستطيع إنكار ذلك ، وفى البلاد من يتعصب للسلف الذين أقرُّوا الآيات على ظاهرها ، وفيهم من يتعصب للخلف الذين أوَّلوها والتمسوا لها معانى معقولة ، فماذا نصنع ؟ قلت : إن التعصب الأعمى مرفوض ! وعند التدبّر نجد أمرا لابد من إبرازه ، إن السلف والخلف جميعا يُسبِّحون بحمد ربهم ويقدسون له ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، إنهم جميعا يؤمنون بوجوده ، وأنه الحىّ القيوم ، وأنه ليس كمثله شىء ، وأن ما ينسبه إليه اليهود والنصارى من تجسد ، أو تعدُّد ، أو مظاهر بشرية خطأ محض . ! وعبارات السلف والخلف تتجه كلها إلى تلك الغاية ، وقد تضطرب أساليب الأداء ! وإذا لم يكن الخلاف لفظيّا فهو قريب من الخلاف اللفظى . إن القرآن كتاب يُؤسس اليقين فى القلوب ، وينشر الخير فى المجتمع ، ويحدِّث الناس عن الله ليعرفهم بعظمته ، ويُنشئِّهم على تقواه ! وقد نزل القرآن باللغة العربية ، وجرى على قواعدها وأساليبها فى التصوير والتأثير ، وعندما نتدبره على الوجه الصحيح نلزم الصراط المستقيم ، بيد أن للعقل الإنسانى شطحات تكلِّفه أحيانا أن يسأل عما لا جواب له : إذا كنت أحفظ القرآن فأين مكان المحفوظ من رأسى أو قلبى ؟ لست أدرى . . ص _096(1/83)
إن الذاكرة مستودع عجيب فكيف يغيب فى أعماقها ما ننساه ، ويطفو على سطحها ما تبقى صورته ، لست أدرى ! ثم ما قيمة الحرص على هذا التساؤل إذا كان الجواب فوق الطاقة ؟ هل تدرى النملة كيف ينظم الشاعر قصيدة مَّا ؟ أو كيف يحلُّ الأستاذ معادلة جبرية ؟ إنها لا تدرى ولن تدري !! فلم يحاول امرؤ منا أن يعرف كُنْهَ الألوهية؟ وهو لا يعرف نفسه التى بين جنبيه؟ بل لا يعرف جنبيه كليهما . . ! إن تحوُّل الطعام إلى خلايا حية ، ثم تحوُّل الخلايا الحية إلى أجسام ميتة تتلاشى ، ثم تتجدد أمر مذهل للعقل ، ومع ذلك فهو كثير كثرة هائلة فى كل لحظة من ليل أونهار عند من قال عن نفسه : (كل يوم هو في شأن) (هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) السلف.. والخلف وعدت بذاكرتى إلى أيام الدراسة فى الجامع الأزهر ، من خمسين سنة تقريبا ، كنا نحضر علم التوحيد ، ونستمع إلى الأستاذ وهو يعرض نماذج من الآيات المتشابهة ، لقد شحنت عقولنا بأشياء كثيرة عن قوله تعالى : (الرحمن على العرش استوى) وقوله : (يد الله فوق أيديهم) وبعد كلام طويل قال الشيخ رحمه الله : ومذهب السلف أسلم ، ومذهب الخلف أحكم ! قلت له : لماذا ؟ قال: ص _097(1/84)
مذهب السلف أسلم ، لأنه أبعد عن الخطأ فى تقرير المعنى ، وأرجى للثواب لأنه يبتعد عن التأويل ، ويقبل التفويض كما أمرنا ، أما مذهب الخلف فهو أقدر على دحض الشبهات ، وردِّ الوساوس ، وإلزام الخصوم . وسلمنا ـ نحن الطلاب ـ بما تعلمنا ، ومضت السنون واللجاج لا ينتهى بين الفريقين ! وتدبرت الأمر بينى وبين نفسى فرأيت أن كلا من السلف والخلف لجأ إلى التأويل فى بعض الآيات ، فقوله تعالى : (وهو معكم أين ما كنتم) ليست معية ذات وإنما هى معية علم ! وقوله سبحانه : (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) أو قوله : (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) المقصود الملائكة لا الذات العليا ، هكذا يقول السلف . . أما تأويلات الخلف فكثيرة مثل قوله جل شأنه : (الرحمن على العرش استوى) ليس الاستواء استقرارا ومماسَّة ، وإنما هو استيلاء وقهر . . إلخ . وقد مِلْتُ إلى رأى السلف ، وظهر ذلك فى كتابى " عقيدة المسلم " غير أنى بعد مزيد من الاستقصاء والبحث رأيت أن التفويض مطلوب ما لم يُشْعِر بتجسيم ، وأن التأويل مطلوب ما لم ينته بتعطيل ، وبناء على ذلك رفضت مسلك المعتزلة لأنهم ـ تأثرا بالفلسفة الإغريقية ـ أعطوا صورة مشوهة عن الألوهية ، ورفضت مسلك الغلاة من بعض الحنابلة لأنهم كادوا ينتهون إلى التجسيم . . وعدت إلى كلام الأئمة والعلماء على امتداد العصور فرأيت بعضه يصدق بعضا ، أو يكاد ، ورأيت الشُّقة قريبة بين المروىِّ عن السلف والخلف ، وأنه لا مكان لمعارك دامية بين هؤلاء وأولئك . ص _098(1/85)
يقول أبو حامد الغزالى - وهو من أئمة الخلف - : (فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (الرحمن على العرش استوى) وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا " قلنا : الكلام على الظواهر الواردة فى هذا الباب طويل ، ولكن نذكر منهجاً فى هذين النصين يرشد إلى ما عداه ، وهو أنَّا نقول : الناس فى هذا فريقان : عوام ، وعلماء ! والذى نراه لائقاً بعوام الخلق ألا يُخاض بهم فى هذه التأويلات ، بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب التشبيه أو يدلُّ على الحدوث ، ونحقق عندهم أنه - سبحانه - موجود . (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) وإذا سألوا عن معانى هذه الآيات زجروا عنها ، وقيل : ليسى هذا بُعشِّكم فادرجوا . . فلكل علم رجال ، ويجابون بما أجاب به مالك بن أنس : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " . وهذا لأن عقول العوام لا تتسع لقبول المعقولات ، ولا الإحاطة باللغات ، ولا تحيط بتوسيعات العرب فى الاستعارات ! وأما العلماء فاللائق بهم تعرُّف ذلك وتفهمه ! ولست أقول : إن ذلك فرض عين - إذ لم يرد به تكليف - بل التكليف : تنزيهه سبحانه وتعالى عن كل تشبيه بغيره عن " الاقتصاد فى الاعتقاد . . " . وقال الإمام النووى فى شرحه لصحيح مسلم ، عند الكلام على حديث الجارية - الذى جعله خطيب أحد المساجد موضوعا له وأساء كل الإساءة - قال : هذا الحديث من أحاديث الصفات ، وفيه مذهبان : الأول : الإيمان به من غير خوض فى معناه ، مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شىء ، وتنزيهه عن سمات المخلوقات . الثانى : تأويله بما يليق ، فمن قال بهذا قال : كان المراد امتحان الجارية ، هل هى موحِّدة تقرّ بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده ؟ وهو الذى إذا دعاه الداعى استقبل السماء كما إذا صلَّى المصلى استقبل الكعبة ، لأن السماء قِبْلة الداعين ، ص _099(1/86)
كما أن الكعبة قبلة المصلين، أم هى من عبدة الأوثان التى بين أيديهم، فلما قالت: فى السماء! عُلم أنها موحدة، ليست عابدة أوثان. وقال ـ نقلا عن القاضى عياض ـ : لا خلاف بين المسلمين قاطبة، فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم، أن الظواهر الواردة بذكر الله فى السماء مثل: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) ونحوها ليست على ظاهرها، بل متأولة عند جميعهم. إن الإغراق فى التأويل ـ كما هو مذهب المعتزلة ـ أذهب الخشية من القلوب، كما أوقع أصحابه فى نقائض عقلية مستغربة، إذ كيف يقال: عليم بلا علم، وقادر بلا قدرة؟ وهذا التفكير تقليد رديء لأرسطو الذى جرد إلهه من كل وصف، وعمل حتى أصبح إلها يتأمل ذاته وحسب! وقد كان المعتزلة أجرأ على تأويل النصوص منهم على نقد الفلاسفة، وذلك مسلك معيب. مخاطر التجسيم وفى الجهة المقابلة نجد صنفا آخر يدعى التفويض والسلفية، ويتتبع الأخبار التافهة ذات الأسانيد المظلمة، ويستقى منها العقائد! ويجرى وراء نص هنا ونص هناك فيطوى المسافة بينهما ليخرج آخر الأمر بضرب من التجسيم لا يعرفه المسلمون من سلف أو خلف. ولا تغرنك العناوين والأسماء فإن بعضهم زعم أن ابن خزيمة، وابن الإمام أحمد ممن حطبوا فى هذا الحبل، وكونوا بما صنفوا فرقة من الرعاع أحدثت بعض الشغب فى بغداد، ثم انتهى أمرها. ورد فى الكامل لابن الأثير أن الخليفة العباسى الراضى بالله أصدر مرسوما فى شأنهم جاء فيه : .. تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين ، ص _100(1/87)
وهيئتكم الرذيلة على هيئته ، وتذكرون الكفَّ والأصابع والرجلين المذهبتين ! والشعر القَطَط ، والصعود إلى السماء والنزول إلى الأرض ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا . . إلخ . وكان ذلك فى القرن الرابع سنة 323 هـ . وذكر ابن عساكر فى كتابه " تبيين كذب المفترى على الإمام أبى الحسن الأشعْرى : أن هؤلاء المُجسِّمة أبوا إلا التصريح بأن المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل ، وأنه ينزل بذاته فى صورة شاب . . إلخ . ووصفهم أئمة الشافعية الذين أبلغوا عنهم السلطان بأنهم جماعة من الأوباش الرعاع المتسمين بالحنبلية ! وطلبوا الضرب على أيديهم ! والإمام ابن حنبل رضى الله عنه برىء من هذا النسب ، فما كان مشبهاً يوماً ولا زائغاً عن الصراط ، وسنقرأ لابن الجوزى من كتابه " صيد الخاطر " تعليقاً على مسلك هؤلاء الحمقى . . قال : عجبت من أقوام يدعون العلم ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها ، فلو أنهم أمرُّوها كما جاءت لسلموا ، لأن من أمَرَّ ما جاء من غير اعتراض ولا تعرُّض فما قال شيئا ، لا له ولا عليه! ولكن أقواما قصرت علومهم فرأوا أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل ، ولو فهموا سعة اللغة ما ظنّوا هذا ، وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحته الخنساء ، فقالت : إذا هبط الحجاجُ أرضا سقيمة تتَّبع أقصى دَائِها فشفَاها شفاها من الداءِ العضال الذى بها غلامٌ إذا هزَّ القناةَ سَقاها فلما أتمت القصيدة قال لكاتبه : اقطع لسانها ! فجاء ذلك الكاتب المغفَّل بالموسى ! فقالت له الخنساء : ويلك ، إنما قال : أجزل لها العطاء !! ثم ذهبت إلى الحجاج ، فقالت : كاد والله يقطع مقولى . ص _101(1/88)
فكذلك الظاهرية الذين لم يقفوا عند التسليم بما ورد ، فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد لا يلام ، وهذه طريقة السلف . فأما من قال : الحديث يقتضى كذا ، ويحمل على كذا ، مثل أن يقول : استوى على العرش بذاته ، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته ! فهذه زيادة فهمها قائلها من حسِّه هو لا من النقل !! ولقد عجبت لرجل أندلسى يقال له : ابن عبد البر (من أكابر العلماء ، ولا تعجبنا طريقة ابن الجوزى فى تناول الرجل بهذا الأسلوب) صنف كتاب "التمهيد" فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا ، فقال : هذا يدل على أنه سبحانه على العرش لأنه لولا ذلك لما كان لقوله " ينزل " معنى ! وهذا كلامُ جاهلٍ بمعرفة الله عز وجل ، لأن هذا استسلف من حسِّه ما يعرفه من نزول الأجسام ، فقاس صفة الحق عليه ، فأين هؤلاء واتباع الأثر؟ لقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ثم عابوا المتكلمين . . واعلم أيها الطالب للرشاد أنه قد سبق إلينا من العقل والنقل أصلان عليهما مرّ الأحاديث كلها . أما النقل ، فقوله سبحانه : (ليس كمثله شيء) ومن فهم هذا لم يحمل صفة له على ما يوجب الحسّ . وأما العقل ، فإنه قد علم مُباينة الصانع للمصنوعات ، وَاسْتُدِلَّ على حدوثها بتغيرها ، ودخول الانفعال عليها ، فثبت له قدم الصانع . ومضى ابن الجوزى يشرح وجهة نظره ، ويردّ على المشبِّهة ، ويتأول النصوص التى قد توهم ذلك (أليس فى الحديث الصحيح أن الموت يذبح بين الجنة والنار؟ ثم يسأل : كيف يُتصوَّر عقلاً ذبح الموت؟ وكيف تفسِّر الحديث؟ الجواب أن الكلام من باب التمثيل ، والصورة المحكية هى تقريب لمعنى موت الموت وخلود أهل الجزاء فيما نالوا. وكذلك ما صح أنه تأتى سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان ، إن الكلام لا يكون سحابا ! وإنما المراد إتيان ثواب التلاوة . ص _102(1/89)
ما الدليل الصارف لهذه النصوص عن ظواهرها ؟ إنه علمنا بأن الكلام لا يشبه الأجسام ، وأن الموت لا يذبح ذَبْحَ الأنعام !! فإذا كنا صرفنا عن الموت والكلام ما لا يليق بهما أفلا نصرف عن ذات الله سبحانه وتعالى ما يجعله شبيها بخلقه؟ ومعنا فى ذلك أدلة العقل والنقل؟) . ربما فُهم من هذا السياق أن ابن الجوزى من محبِّذى التأويل ودعاته ، وأنه إن لم يَنتم إلى الخلف فقد انتهج نهجهم وسارعلى دربهم ! وهذا غير صحيح ! سننقل له هنا جملة عنيفة على المؤوِّلين ، إن الرجل يرفض التشبيه وما يؤدى إليه ، ويريد التمشِّى مع النصوص فى نطاق الأصلين : النقلى والعقل ، اللذين ذكرناهما آنفا ، قال رحمه الله : (من أضر الأشياء على العوام : كلام المتأولين والنفاة للصفات . . فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا فى الإثبات ليتقرر فى نفوس العوامّ وجود الخالق ، فإن النفوس تَأنس بالإثبات ، وإذا سمع العامى ما يوجب النفى طرد عن قلبه ما ثبت عنده !) . بيان ذلك أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش ، فأنست النفوس إلى إثبات الإله ووجوده . قال تعالى (ويبقى وجه ربك) وقال : ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) (غضب الله عليهم) (رضي الله عنهم) وأخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا وقال : " قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن " . وقال: " كتب التوراة بيده ، وكتب كتابا فهو عنده فوق العرش " إلى غير ذلك مما يطول ص _103(1/90)
ذكره ، فإذا امتلأ العَامىُّ والصبى من الإثبات ، وكاد يأنس من الأوصاف بما يقود إليه الحسُّ ، قيل له : ((ليس كمثله شيء)) فَمُحِىَ من قلبه ما توهمه الخيال . قال ابن الجوزى: " وأكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يكفون من الحسّ ، فيقنع الشارع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه ، فأما إذا ابتدأنا بالعامىّ . . فقلنا ليس فى السماء ولا على العرش ولا يوصف بيد ، والكلام صفة قائمة بذاته ليس عندنا منه شىء ، وأنه لا يتصوَّر نزوله . . أمَّحى من نفسه تعظيم المصحف ، بل لم يتحقق فى سرِّه إثبات إله ، وهذه جناية عظمى على الأنبياء . . " . يعنى أن هذا المسلك العقلى المحض يهدم ما اجتهد الأنبياء فى تأسيسه ، وأخذ الناس به ، والأمر لا يحتاج إلى تأويل اليد بالنعمة أو القدرة ، ولا أن نشرح حديث القلوب بين أصبعين بأن القلوب بين أثرين من آثار الربوبية ، هما : الإقامة على الحق أو الإزاغة عنه . . إلى آخر ما ذكره أصحاب التأويل فى المتشابهات ، وأصلح ما يقال : أمرُّوا هذه الأشياء كما جاءت ، ولا تتمحلوا لها تأويلا . قال ابن الجوزى بعد شرح لرأيه : ومن فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسِّمة ، وتعطيل المعطِّلة ، ووقف على جادّة السلف الأول . . إن نُقَّاد ابن الجوزى اتهموه بالتناقض ! وهذا ظلم للرجل ، فهو شديد الحرص على حقائق الدين ، وعلى تنزيه الله وتمجيده ، وقد كان لزاما عليه أن ينقذ الإسلام من صنفين خطيرين : أصحاب التصوير المادى الساذج الذين يفهمون الألوهية بخيال الأطفال . وأصحاب التجريد العقلى الذين يصوِّرون الألوهية مفهوما يرتفع ويرتفع ، ولا يزال يرتفع حتى يغيب عن الأنظار والأفكار .. ص _104(1/91)
وما دام التأويل ضرورة فى شرح بعض النصوص ، وما دام السلف والخلف قد اضطروا إليه جميعا ، فنحن مع السلف نفوض رافضين التجسيم ، ومع الخلف نُؤَوِّلُ رافضين التعطيل . .! السلوك الرشيد وأرشد المسالك : أن نهتم بالمحكم من التنزيل ، ونصرف إليه اهتمامنا ، وأن نتجاوز المتشابه ، فلا نحاول إعمال الفكر فيه ، إذ ليس للعقل مجال فيما وراء المادة . هذا مع تقرير أن الفارق بعيد بين ما يحكم العقل باستحالته وبين ما يحس العجز عن سبْر حقيقته ، فيكون الواحد ثلاثة مستحيل ! أما كونه أزليّاً أبديّاً ، لا أول له ولا آخر ، فحق و إن غاب على العقل إدراكه . أترانى أحسنت فيما انتهيت إليه ؟ لقد بذلت الجهد وأبرأت الذمة وخدمت الأمة! وسيقول قوم : لا ، إنك انتهيت بنا إلى غير ما ننتظر ، ولهؤلاء الإخوة أسوق هذه الملاحظات . . إن أعداءً حلّوا مكان أعداء ، وأسلحة شُرعت مكان أسلحة ، فلتتغير وسائل الدفاع ! كنت أستمع إلى الأستاذ فى الفصل وهو يقرر موقف الإسلام من الفلاسفة ، ويذكر أبياتا مطلعها : بثلاثة كفر الفلاسفة العدى !! وكان ينظر شزرا فى ركن من الفصل كأن الفلاسفة قابعون فيه يستمعون إلى قرار الاتهام . والثلاثة المذكورة : القول بقدم العالم . وإنكار الجزاء الحسِّى ، وإنكار علم الله بالجزئيات . إن هؤلاء المتهمين ماتوا ، ونبت مكانهم كفار لهم قضايا أخرى . . ولقد انتهى سخف الجهمية والكرَّامية وأمثالهم ، ويمكن أن تُدرس قضاياهم مع المخلفات الفكرية ، ويتجه الانتباه إلى ألوان أخرى من الانحراف جدَّت فى العالم . . والعقل الإنسانى الآن يوم يؤمن بالله كما وصفه القرآن الكريم ، فسوف يزهد فى كثير من الخلافات القديمة ، ولن يقف طويلا أمام المتشابهات ، إنه عقل رفض البحث فى كُنه الضوء ، وأحسن الانتفاع بالضوء فى مجالات كثيرة . . ص _105(1/92)
نعم ، يوم يؤمن هذا العقل فسوف يتجاوز قضايا المصاطب التى خلقها الفراغ ! المهم أن نجعله يؤمن ! الصراع بين المسلمين وغيرهم قد انتقل إلى ميادين يجب أن ندرسها ونَستعدَّ لها بعقل يفهم الوحى والكون معا. وتوجد بين الشباب المسلم طوائف غريبة ، فيها ورثةٌ لفكر الخوارج وفقه الظاهرية ، وخيال المجسِّمين ! وفيها من يرفع خسيسته بشتم الأئمة تحت علم السنة ، ومن يعيد الكهانة القديمة باسم دين الفطرة ، ومن ينشر البداوة ويحارب التقدم الحضارى باسم التقوى والمحافظة على معالم الإسلام . . ونترك النزاع باسم العقيدة إلى النزاع باسم العبادة . . خلاف الفقهاء إن الخلاف الفقهى فى الفروع قديم قدم الإسلام نفسه ، وهو خلاف لا بد منه ، ولا خوف على الدين من بقائه إلى قيام الساعة ! كل ما نبغيه أن يكون هذا الخلاف فى حدود الفكر العلمى الإسلامى والضمير الراغب إلى الله الحريص على مرضاته . . وقد أجمع المسلمون على أن الكتاب والسنة دعائم التشريع الأولى ، ولم يقل مسلم فى المستقدمين أو المستأخرين : إن سنة محمد صلى الله عليه وسلم تهمل ، وإنها ليست مصدرا للتشريع ! وما يردده الآن بعض الشواذ منكر قبيح ، ودلالة خبال وفسوق . . وقد تتفاوت الأنظار فى تقدير المرويات ، والحكم بقبولها أو رفضها ، ولا يعنى هذا ترك السنة ، فإن ما قرر العلماء ثبوته موضع الاحترام . . وعندما يترك فقيه حديثاً من أحاديث الآحاد لدليل آخر أقوى منه فى الكتاب أو السنة ، فهو لا يهتم بترك السنة ، وغاية ما يوصف به أنه شديد التحرى فى الإثبات ، وأنه ما ترك قط حديثاً يعتقد أنه صحيح . لما ألَّفت كتابى " عقيدة المسلم " لم أذكر شيئا عن المهدى المنتظر ، وعندما خوطبت فى ذلك ، وقيل لى : لِمَ لَمْ تذكره فى علامات الساعة ؟ قلت : من ص _106(1/93)
محفوظاتى وأنا طالب أنه لم يردْ فى المهدى حديث صريح ، وما ورد صريحا فليس بصحيح ! وإذا كان ما ورد لم ينهض إلى تكوين حكم ثابت ، فكيف أجعله عقيدة تفصل بين الكفر والإيمان ؟ وأردفت ضاحكا : المشكلة الآن ليست فى المهدى المنتظر ، إنما هى فى المهدى غير المنتظر ، الذى يفاجئنا بظهوره بين الحين والحين ، ويزيد العدد فى إحصاء الدجالين . . ومن تجاربى مع السنة الشريفة أن المسلمين أخطأوا مرتين فى تقديرها : المرة الأولى : عندما روّجوا للمرويات الضعيفة ، وفسحوا لها فى تقاليدهم وأخلاقهم وعباداتهم أحيانا . والمرة الثانية : عندما عجزوا عن وضع الصحيح موضعه الحقيقى ، ولم يحرروا المراد منه تحريرا ذكيا . ولن أنسى أبدا أن رسالة طُبعت فى مكة المكرمة تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على الناس دون دعوة ! وشن الحرب ليأخذ الناس على غِرَّة !! وأخرى تفسّر الغزوات بأنها حرب هجومية ابتداء . والمشتغلون بالسنن من هذا الصنف الغبى بلاء على الكتاب والسنة معاً ، وهم طراز مقلق للجهل المركَّب . وقد تكَّون عندى شعور ينمو على مرّ الأيام ، قوامه أن ضعيف الصلة بالقرآن الكريم ، المحجوب عن هداياته وأنواره لا ينبغى أن يشتغل بالسنة ويستنبط الأحكام منها ، فإنه قلما يُهدى إلى الحكمة مع صدوده عن الينبوع الأول للحكمة ، وهو كتاب الله سبحانه وتعالى . ولست أعنى بضعف الصلة قلة التلاوة ، وإنما أعنى ضعف التدُّبر ، وبلادة الشعور، وعدم إدراك الدلالات البعيدة للكتاب العزيز ! ولما كنت أول عهدى بالفقه ، قد درسته على مذهب أبى حنيفة ، فإنى لا أزال أرى أن ظاهرة القرآن أولى بالتقديم من الآثار الأخرى ، وأن التحريم لابد فيه من قاطع .. إلخ . ومع هذا الميل الفقهى ، فلست أقطع الطريق على غيرى من أصحاب العقول العلمية! ص _107(1/94)
النص القرآنى .. ورواية الآحاد.. ويعجبنى قول الشيخ محمد رشيد رضا : التفرقة بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورة ، فإن من جحد ما جاء فى القرآن يحكم بكفره ، ومن يجحد غيره ينظر فى عذره ! فما من إمام مجتهد إلا وقد قال أقوالاً مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة لأسباب يُعذر بها ، وتبعه الناس على ذلك ، ولا يَعُدُّ ذلك أحد خروجا من الدين ، حتى من لا عذر له فى التقليد ، فما بالك فى مخالفة بعضهم بعضا فى الأقوال الاجتهادية التى تختلف فيها أقيستهم ؟ وقد تسأل : ما العذر فى ترك حديث صحَّ ؟ والجواب : نص آخر أقوى منه مثلا! فالمالكية لم يحكموا إلا بتحريم ما ورد فى الآية : (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) وما عدا ذلك فهو مباح ، وقد يكره فقط رعاية لبعض المرويات الواردة فى كتب السنة . والأحناف أوجبوا الزكاة فى كل ما خرج من الأرض إمضاء لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) ورفضوا قصْر الزكاة على محاصيل معينة مما ورد فى السنن . . والشافعية ردُّوا من السنن ما يفيد أن لمس المرأة مثلاً لا ينقض الوضوء ! والحنابلة ردُّوا ما ورد من أن رضاع الكبار يحرّم ، وأمضوا فقط الرضاع الذى ينبت اللحم ويشدُّ العظم . . وهذه نماذج سريعة فى ذلك العرض المحدود . . إن المرويات كثيرة ، والأفهام أكثر ، ووجهات النظر الفقهية لا تبدأ من فراغ ، ولننظر مثلا فى هذه القضية . . عقد بيع تضمَّن شرطا ! إن فقهاء قالوا بفساد البيع والشرط ، وآخرون قالوا بصحتهما معا، ص _108(1/95)
ومن الفقهاء من قال بصحة البيع وفساد الشرط ، وثمت أقوال أخرى ، قال ابن رشد فى " بداية المجتهد " : والأصل فى اختلاف الناس فى هذا الباب ثلاثة أحاديث ، أحدهما : حديث جابر "ابتاع منى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا ، وشرط ظهره إلى المدينة " والحديث الثانى : حديث بريرة ، قال : " كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط " وهو متفق عليه : والثالث حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، والمعاومة ، والثنيا ، ورخص فى العرايا " وهو فى الصحيح . ومن هذا الباب ما روى عن أبى حنيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط . فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث ، فقال قوم : البيع فاسد والشرط فاسد ، وممن قال بهذا : الشافعىّ وأبو حنيفة . وقال قوم : البيع جائز والشرط جائز ، وممن قال بهذا القول : ابن أبى شبرمة . وقال قوم : البيع جائز والشرط باطل ، وممن قال بهذا القول : ابن أبى ليلى. وقال أحمد بن حنبل : البيع جائز مع شرط واحد ، وأما مع شرطين فلا . . ولمالك تقسيمات طويلة فى الشروط التى تبطل والتى تجيز ، وليس هنا شرح كل مذهب ودليله الذى استند إليه من السنة .. ص _109(1/96)
والفقهاء حين يجتهدون يَتَصببَّون عرقا ولا يعبثون ويتحرَّوْن رضاء الله لا رضاء حاكم أو محكوم ، وإذا ردَّ أحدهم حديثا فلدليل آخر أقوى ، قد يكون حديثا أجود عنده ، أو فهما أصْوب فى نص آخر ، ولا يمكن وصف هذا المسلك بأنه ردٌّ للسنة الشريفة . . ألا ترى أن عمر بن الخطاب عندما ردَّ حديث فاطمة بنت قيس فى سكنى المطلقة ثلاثا ، قال ـ تصويبا لعمله ـ : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندرى حفظت أم نسيت ! أى : أن الردَّ للراوى لا لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ! وسواء أخطأ عمر فى اجتهاده أو أصاب فلا موضع للشغب على صدق اتباعه للنبىِّ صلى الله عليه وسلم وحرصه على سنته . . بين الاجتهاد والتقليد.. وقد كنت أرى الطريق الأفضل فى فهم الأحكام الفرعية سَوْقَ النص أولا من الكتاب والسنة ، ثم إتباعه بأفهام الفقهاء الكبار ، ومن يليهم من أهل العلم . ثم قرأت كلاما آخر للشيخ الأديب الفقيه على الطنطاوى تعليقا على كلمة جميلة لابن الجوزى فى منع التقليد ، نذكرها أولا ، ثم نذكر التعليق : قال ابن الجوزى ينصح طالب العلم : ( . . .ينبغى له أن يطلب الغاية فى العلم ، ومن أقبح النقص : التقليد ، فإن قويت همته رَقَّتْه إلى أن يختار لنفسه مذهبا ولا يتمذهب لأحد ، فإن المقلِّد أعمى يقوده من قلَّده . .) قال الشيخ على : ( أى يستعد بالتعلُّم والدأب حتى يصل إلى القدرة على الاجتهاد وترك التقليد ! لا أن يجتهد لنفسه ، وهو لا يعرف من عُدَّة الاجتهاد إلا حفظ أحاديث وقدرة على معرفة مكان وجودها ، والبحث فى كتب الرجال عن أحوال رواتها ) . قال : (والناس فى هذه المسألة بين مُفْرط فى اتباع المذاهب ، لا يفرق بين الحكم المؤيَّد بالنص الصريح وما هو رأى للفقيه ، وبين مُفرِّط فيها ، يتركها جملة ويحاول أن يأخذ من الأحاديث رأسا ، ولو لم يكن عنده أدوات الأخذ من الحديث) . ص _110(1/97)
قال : (والحق أنه على المسلم أن يتفقه أولا فى مذهب معين، فيعرف أحكام دينه، ثم ينظر فى دليلها، ويحاول أن يتعلم ما يعين على معرفة طرق الاستدلال وقوة الدليل، ثم ينظر، فإن رأى دليلا ثابتا أقوى من دليل مذهبه أخذ به، وقد بين ابن عابدين فى أول الحاشية أن الحنفى المقلد الذى يجد حديثا صحيحا على خلاف مذهبه، عليه أن يأخذ به، لا سيما فى العبادات، وليس يخرج فى ذلك عن كونه حنفيا، والله قد أوجب على المسلم اتباع الكتاب والسنة، ولم يلزمه بمذهب من المذاهب الأربعة ولا غيرها، وما التقليد إلا رخصة للعاجز عن الأخذ من الكتاب والسنة والمتأخرون الذين قالوا باتباع أحد المذاهب الأربعة، إنما قالوا ذلك لما رأوا غلبة العجز على الناس، ولئلا يصير الأمر فوضى، فيدعى كل واحد أنه صار أبا حنيفة أو الشافعى كما هو الحال الآن) . إننى ملتُ إلى هذا الرأى، وإن كان لا يختلف فى نتيجته عن مقترحى الأول، فالمصير هنا أو هنا هو كتاب الله وسنة رسوله..! والذى دفعنى إلى ترجيح كلام على الطنطاوى هو ما بلوته ممن يشتغلون بالسنن مع قصور الفقه وضعف الخلق. إن نبينا عليه الصلاة والسلام بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، وهؤلاء الناس يذهبون بأنفسهم ويتلمسون للبرآء العيب، ويدعون العلم، ويتهمون أكابر الفقهاء بالجهل ومشاقة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. وقد تبنوا أحكاما معينة فى قضايا صغيرة أو كبيرة، وخرجوا بها على الناس فزادوا المسلمين فرقه وزادوا الطين بلة..! ولما كان الإسلام يمر بفترة عصيبة من تاريخه الطويل، ولما كان ضغط الأديان الباطلة والمذاهب الجائرة شديدا عليه، ولما كان أحوج ما يكون إلى أولى النُّهى والحصافة يعرضون تعاليمه، ويحسنون الذود عنه، فإن هؤلاء انطلقوا بقصورهم وجراءتهم يتحدثون عنه فأساءوا وأسفوا ووقفوا سيره وألحقوا به التهم..! إن تاريخنا الثقافى عامر بالرجال الراسخين فى العلم، ولهؤلاء الرجال نظرات لها وزنها فى فلسفات العالم وما(1/98)
يسوده من تيارات، ولهم كذلك فى فقه الكتاب ص _111
والسنة مذاهب محترمة ، وقد استقر الأمر فى ديننا أنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم لا ننتفع بهذه الحصيلة الرائعة من ثقافتنا الإسلامية ونحن نواجه فى فلسفة الأخلاق والقانون والحضارة ما لابد من ردِّه بالحسنى ؟؟ قد تسألنى ماذا تعنى ؟ أقول لك : إننى لا أبخس عظيما حقه لرأى ارتآه قد يخالفه فيه الآخرون ولا أرى حرجا فى تجاوز ما يقال عن خطئه ، والاستفادة من خيره الكثير بعد ذلك ! إن ابن حزم مخطئ فى إنكار القياس ، والإغراق فى الأخذ بالظاهر ، بيد أنه عالم فحل فى مقارنة الأديان ، وفى الاستنباط من الأثر ، وله عبقرية فى هذا الميدان لا معنى لإهالة التراب عليها . وأبو حامد الغزالى يعترف علماء الغرب أنه ألحق بفلسفة اليونان دمارا محققا فى كتابه " تهافت الفلاسفة " وهو أصولى وفقيه ، وأديب ومتحدث فى التربية والأخلاق لا يُشقّ له غبار ! كيف أتناسى كل هذه المواهب لأنه أخطأ فى بعض المرويات . . تقول : إنه من أهل التأويل !! إن مفكرى السلف والخلف جميعا اضطروا إلى التأويل ، وإن كان السلف أكثر تفويضا وأقل تأويلا . لقد تتلمذت على كتابات لابن الجوزى وابن تيمية والغزالى وابن رشد ، وانتفعت من صواب أولئك كلهم ، وتركت ما تعقَّبهم الآخرون فيه بحق ! وعندى أن تأويل الغزالى حينا لا يخدش منزلته ، كما أن إنكار ابن تيمية للمجاز أو توقفه فى نفى الجسمية لا يخدش منزلته . . لماذا أذهل عن الجهود العلمية الجبارة التى خلّفوها بعدهم فى نصرة الإسلام وردِّ خصومه والنصح لأمته ؟ لماذا أتوقع العصمة من البشر ، وأجعل الأخطاء القليلة التى تنسب إليهم جبالا تنهدم فوق رؤوسهم وتأتى على ذكراهم ، ما أحوجنى وإياهم إلى مغفرة الله وأحوج الإسلام بعد ذلك إلى جهاد أبنائه على اختلاف معادنهم ومنازعهم فى الذبِّ عنه ، وردِّ الذئاب الشرسة التى تغير عليه فى هذا العصر . . ص _112(1/99)
التعاون فى المتفق عليه .. إن ما يتفق المسلمون عليه كثير ، فلماذا لا يتعاونون على تحقيقه ؟ أحسب أنهم لو اجتمعوا على ذلك لما بقى لديهم وقت للخلاف على الفرعيات ، ولو اختلفوا عليها ما بقى لديهم وقت لتحويل الخلاف إلى حرب باردة أو ساخنة . . !! إننى أحب أهل الحديث ، والدارسين لعلومه ، وذلك فرع من حبى الجمِّ لصاحب الرسالة ، قمة القمم ونبيّ الأنبياء محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه ، وأرى أن هذا الجانب من ثقافتنا الإسلامية لابد منه ولا غنى عنه . . لكن من قال : إن رجال الفقه ومجتهديه العظام جانب آخر يغاير الأول ، وإن الفقهاء سبب فرقة الأمة ، وبعدها عن ينابيع الإسلام الأولى ؟ إن هذا الكلام ضرب من اللغو ! ولقد تتبعت خلافا فى عدد من القضايا نشب بين المشتغلين بالسنة المعْنيين بالرواية ، فوجدته لا يقل عما يجرى فى آراء الفقهاء من تفاوت . فابن حزم يوقع الطلاق الثلاث ، ويرى هذا الحكم ما تدل عليه السنة ، ولو كان بكلمة واحدة . وابن تيمية يرى غير ذلك ، ويعد الثلاث واحدة مادامت فى المجلس أو بلفظ واحد ويبنى على ذلك جواز الرجعة ، بينما يرى ابن حزم أنه لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره . . وابن حزم يرى الغناء ـ الحسن ـ مباحا ، ويجيز بيع آلاته من معازف ، ومزامير ويرى ابن الجوزى وابن تيمية وابن القيم تحريم هذا كله . . ورأيت خلافا بين الشيخ الألبانى ـ وهو محدث كبير ـ وبين الإمامين ابن تيمية وابن القيم ، فالألبانى يرى الغسل يوم عرفة بدعة ، ويراه ابن تيمية ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : والألبانى يرى الجمع بين الصلاتين فى السفر ثابتا! ويقول ابن القيم : لم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم . ويقول ابن تيمية : إن الوضوء من مسِّ الذكر مستحب ، ويقول الألبانى بل واجب ! ص _113(1/100)
ولو تتبعنا ما اختلف فيه المعتمدون على الأحاديث لطال بنا الإحصاء وآخر ذلك ما قاله الشيخ الألبانى من حرمة الذهب المحلَّق ـ المستدير ـ على النساء اعتمادا على حديث لا يصح ، وفهم لا يتعيّن كما يرى معارضوه ، مع أن الإجماع على حلِّه لهن . .! ماذا يعنى هذا كله ؟ يعنى أن اختلاف الآراء وتباين المذاهب شىء لا يمكن تجاهله ، ولا الفرار منه ، فتلك سنة الله فى الأنفس والأذهان . والخلاف لا يُحلُّ بالعصِّى ، ولا بالسفاهة ! وإنما يُحلُّ بالتعاون على ما اتفقنا عليه والتماس العذر للمخالف إذا كان أهلا للبحث والاجتهاد . إن خطأ المجتهد مأجور . . وينبغى إغلاق الأبواب أمام التافهين حتى لا يتكلم فى دين الله إلا أهل الذكر . . ومن طلب وجه الله قنع بما يحسن ، وحرس الإسلام فى الميدان الذى يعمل به ! وكم من ميدان عمل الآن يخلو من الرجال لأن الرجال يتهارشون فى ميدان الكلام حول بعض الفروع التى لا تُجدى على الإسلام شيئا . * * * * ص _115
الفصل السابع
فقه الدعوة الإسلامية ومشكلة الدعاة
ص _116(1/101)
الدعوة إلى الله تعالى رافقت بدء الخليقة، وسوف تصحبها حتى يومها الأخير، مؤيدة بتأييد الله ومحفوظة بحفظه.. غير أن العمل للإسلام قد يصيب النجاح ويؤتى ثمرته، وقد يعتريه شىء من التعثر والتخبط بحسب قدر الدعاة والعاملين على ملاءمة وتطوير وسائل الدعوة بما تقتضيه الظروف والأحوال المناسبة وإدراك أبعاد الساحة التى يعملون فيها والقدرة على تحديد الموقع الفاعل المؤثر والوسيلة المجدية من خلال الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، الأمر الذى يقتضى معاناة دائمة، وحسًا صادقا، وإدراكا واعيا، وعقلا راجحا، واطلاعا واسعا ، وحسن دراية وفقه لمعركة الإسلام وخصومه حيث تتجدد المعارك، وتتبدل المشكلات وتتطور أسلحة المواجهة بسرعة هائلة . . من هنا تتأكد أهمية عملية المراجعة المستمرة والتصويب الدائب والدائم على ساحة العمل الإسلامى فى المراحل المختلفة لترشيد المسيرة وتأكيد انضباط الحركة مع مبادئ الإسلام وتحديد حجم التصرف بما يتناسب مع الإمكانات ضمن حدود الوسع و(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) خاصة فى عصرنا الحاضر عصر العلاقات المعقدة والتحديات الكبيرة، وعدم الوقوع فى الخلط بين الإمكانيات والأمنيات.. ولسوف يستمر التواصل الحضارى الإسلامى من خلال الفئة القائمة على الحق التى لا يضرها من خالفها حتى يأتى أمر الله ويقيض الله تعالى لهذا العمل من يقوم به فى كل موقع وكل زمان من أهل الفقه والعلم والحكمة والخبرة والممارسة، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقى: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدُوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ". . إن الدعوة الإسلامية تحصد الشوك من أناس قليلى الفقه، كثيرى النشاط، ينطلقون بعقولهم الكليلة، يسيئون ولا يحسنون... إننا نخطىء، وليس فى ذلك عجب، ولكن العجب أن يبقى الخطأ وأن نصر عليه!! والأعجب أن يمضى بعضنا فى طريق الانحراف وهو لا يدرى.. أو لعله يحسب نفسه(1/102)
على صواب .. ص _117
فقه السنن فى الأنفس والآفاق من قضايا الفكر والعمل الإسلامى الهامة ، التى تطرح نفسها بإلحاح ـ مؤخرا : قضية فقدان التوازن الاجتماعى عند كثير من العاملين فى حقل الدعوة ، وهو يتعامل مع المجتمع الذى قد ينطوى على أخطاء وانحرافات ـ وذلك بأن يتخذ مواقف متباينة ، لا تقوم على فقه صحيح لسنن الله الكونية ـ فى نضج الحقيقة واستوائها فى المجتمع ، ولا تعتمد على أساليب مدروسة للدعوة الإسلامية . . وتتخذ هذه المواقف : إما صورة الرفض الكامل للمجتمع وتأثيمه والخروج عليه لتغييره ـ رغبة فى تحقيق نتائج عاجلة ـ أو صورة الانسحاب من المجتمع والهروب منه واعتزاله ، بسبب إحباطات عدم الحصول على هذه النتائج العاجلة . . وهذه القضية فى مجال الفكر والعمل الإسلامى بالذات ـ لها سوابق فى التاريخ ، فقديماً . . وجدوا أخطاء من الحكم أو من الحكام ، فكان موقفهم متباينا بسبب نوع الثقافة الذى سيطر عليهم . . فوجدنا مثلا الخوارج يفزعون إلى سيوفهم ، ويطمئنون إلى عقائدهم ويرون أن حبهم للتضحية ووعد الله لهم بالنصر يتيح لهم أن يخرجوا وأن يقاتلوا وأن يحدثوا فتوقا فى الدولة لا آخر لها . . والنوع الثانى كان يتمثل فى عدد من المتصوفين الذين اعتزلوا المجتمع وأخطاءه ، والحكم ومآربه وشهواته ، ورأوا أن فى العزلة سعادة وأنه خير لهم أن يتركوا المجتمع بما فيه ـ وفى العزلة سلامة ـ وإنهم ينظرون إلى الأحاديث التى وردت فى الغربة والعزلة ويتأولونها على موقفهم هذا . . الحقيقة التى أراها أن كلا الفريقين مخطئ ، فلا الذين خرجوا معتمدين على وقوع الخطأ وضرورة مقاومته كانوا على الصواب الذى يقرره الإسلام ، ولا الذين اعتزلوا الخاطئين وانحرافهم كانوا مصيبين أيضا . الإسلام يريد أن يقاوم الخطأ ، ولكنه يضع خططاً بعيدة المدى ، ويجعل الإنسان على اختلاف الزمان والمكان ، وعلى مراحل ممتدة من الزمن يبلغ غايته على مكث ، ولله سنن كونية فى(1/103)
نضج الحقيقة واستوائها فى المجتمع ، مهما كانت عقائدنا ومهما كانت حرارة الإيمان فى قلوبنا ، ومهما كانت ضراعتنا له أن ينصرنا . . لهذا أرى أن الذين يقومون بالعمل الإسلامى الآن ، يجب عليهم أن يتعلموا من أخطاء الفريقين فى الماضى ، وأن يكونوا أصحاب إيمان وأصحاب غيرة على حرمات ص _118
الله وأصحاب رغبة فى التغيير إلى ما هو أفضل، ولكن متابعة هذا التغيير حتى يصل إلى مداه لا يتم وفق مشيئتنا، ولكن وفق سنن الله الكونية، وقد خضع النبى صلى الله عليه وسلم لهذه السنن، وعندما استعجله أصحابه وقالوا له ادع الله لنا ـ لأن الآلام التى برحت بهم جعلتهم يجأرون بالشكوى ـ كانت الإجابة النبوية: (والله لينصرن الله دينه ولكنكم تستعجلون).. كانت الإجابة النبوية، أن الرجل قديما كان يؤتى به فيُشق نصفين ما يفتنه هذا عن دينه، فلا بد للإيمان من ضحايا، ولابد لحركاته التى تغير العالم وتكتب فيه صفحة جديدة من وقود، يقوم المؤمنون بإمداد سنن الله الكونية بمتطلباتها فى هذا المجال، وليس لهم أن يستغربوا، ولا أن يتعجلوا، وأعتقد أن الاستعجال هنا أو الاستغراب جهل بسنن الله الكونية، فلم يكن أحد أعظم خلقا ولا أكثر دماثة من النبى صلى الله عليه وسلم فى عرضه لحقائق الإسلام، وفى تلطفه لبلوغ غاياته، ومع ذلك فإن الذين ربطوا أوضاعهم ومصالحهم بما مضى أو بما استقر من أوضاع، كانوا حريصين على كره الإسلام ومخاصمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويقول الله سبحانه وتعالى فى هذا : (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا) ويقول فى هؤلاء : (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) والمشيئة هنا ليست أكثر من توضيح لسنن الله الكونية. ويفسر بعضهم هذه الظاهرة بأنها نتيجة عدم فقه السنن الكونية، والوقوع فى إحباطات نتيجة لعدم الحصول على نتائج.. فحينما لا(1/104)
يحصل الإنسان على النتيجة التى يحلم بها أو يراها، يقع فى إحباط يجعله ينعزل عن المجتمع وينسحب منه أو يخرج عليه أو يذوب فيه، فالمشكلة تكمن فى عدم إعطاء السنن الكونية مكانتها فى العقل الإسلامى، حتى إن بعضهم يرى بأن المسلمين لا يفتقدون الإخلاص والإيمان فى هذه المراحل ـ وقد قدموا الكثير من الوقود للعمل الإسلامى ـ لكنهم يفتقدون الإدراك وفقه السنن التى تحكم الحياة والأحياء . . ولا يمكن أن يكون إخلاص الإنسان مهما كان عميقا وحبه لله مهما كان ص _119(1/105)
مكينا لا يمكن أن يكون هذا وذاك سببا فى إلغاء السنن التى أدار الله عليها شئون العالم ، فهى سنن مكينة ـ وقد أخضع الله أنبياءه لها ، فلم لا يخضع لها الأتباع؟!. ثم إن منطق العبودية ـ ولست هنا صوفيا إنما مقرر حقيقة دينية ـ أن أنظر إلى أقدار الله تعالى على أن هذه الأقدار أرشد من تفكيرى ، ومن خططى . . وهى الجو الوحيد الذى يمكن أن تنضج فيه الحقائق الاجتماعية التى يحتاج الناس إلى أن يعيشوا بها ، ليس ما أفكر فيه أو ما أضع خطته هو الذى يحقق المراد ـ لا ـ نحن عبيد الله . ونلمح هذه العبودية وقصورها وعدم معرفتها للمستقبل وعجزها عن إدراك المصلحة العاجلة فى غزوة بدر . . فإن جمهور الصحابة كان يريد الثمرة العاجلة (و تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) وكذلك كان جمهورهم كارها للمعركة ابتداءً ، حتي إن القرآن يذكر هذا بقوله سبحانه وتعالى : (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق و إن فريقا من المؤمنين لكارهون) هم يساقون إلى الموت فى إحساسهم ، ولكنهم لا يدرون أن القدر يسوقهم إلى أعز نصر ستدركه الدعوة الإسلامية فى حياة الرسول عليه الصلاة والسلام . . هذا يجعلنا نضع خطوطا فاصلة بين تصورنا نحن وإدراكنا للحقائق ، وبين ما يخططه القدر الأعلى لنا ، لعل ذلك يجعلنا نشعر بأننا عبيد ، وبأن مراد الله تعالى ينبغى أن نستسلم له أكثر ، وأن نستريح إلى نتائجه مهما كانت مرة .. لماذا يكون غيرنا قديرا على ربط نتائج عمله بزمن طويل . . فى أول مؤتمر صهيونى (897ام) قال هرتزل : إن إسرائيل ستقوم بعد خمسين سنة . وأراد اليهود أن يحققوا وعد الرجل أو نبوءته . فأقاموا سنة 947ام عندما صدر قرار تقسيم فلسطين 29 نوفمبر (تشرين الثانى) 947ام . . وفى الحقيقة لم يكن هرتزل يفكر فى أنه سيعيش حتى يدرك هذه النتيجة ، ولكن ربما رأى أن ما يعجز هو عنه سيحققه أبناؤه ، وما عجز أبناؤه عن تحقيقه سيحققه أحفاده ، المهم أن جنسا تتعاون أجياله المتعاقبة على إدراك(1/106)
نتيجة . ماذا علينا نحن المسلمين ـ ونحن نرث أخطاء لها ص _120
عدة قرون ـ أن نضع خطة بعيدة الأمد لكى نتخلص من هذه الأخطاء ، ولكى يشعر أبناؤنا أنهم يحملون عبئا مع الذين وضعوا الخطة ، فإذا كان بعض الناس قضى نحبه ، فإن بعضهم الآخر ينتظر ، والذى ينتظر ربما يموت قبل أن يرى النتيجة ، ولكنه يخلف من بعده من الأولاد أو من الأنصار من يجعلهم يؤدون حق الله عليهم ، قال تعالى : (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم) ولهذا لا أزال أناشد أهل الحق ألاَّ تكون العاطفة الحارة هى التى تسيرهم ، بل ينبغى أن ينضم إلى القلب الواثق عقل ثاقب ونظر دقيق حتى يمكن أن نخدم ديننا ، خصوصا بعد أن اتسعت مسافة الخُلف بيننا وبين أعدائنا . . إننا من الناحية المعاشية والفكرية والعلمية والفلسفية متخلفون جدّا ، . . الآخرون غزوا الفضاء ووضعوا أرجلهم على بعض الكواكب ويدرسون كواكب أخرى ، ولا نزال نحن نعتمد فى الرغيف الذى نأكله على ما يصنعه الآخرون فى الحقول لا على ما نصنعه نحن . . إن المشكلة فى الواقع تكمن فى أن بعضهم قد يفهم قضية أقدار الله الغلاَّبة ، والتى يجب أن يطمئن لها المسلم ، وإرادة الله النافذة فى نهاية المطاف . . قد يفهم هذا على أنه لون من الجبرية تقعد به عن ساحة التكليف ، وإتقان المقدمات ، وانتظار النتائج ، ودراسة أسباب التقصير واستدراكها ؟ حتى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ـ أو ما إلى ذلك ـ وحتى لا يكون هناك اختلاط بين إيمان الناس بالقدر وبين إتقانهم للعمل وقيامهم به . . والفارق بعيد بين جبرية ترمى العزيمة الإنسانية بالوهن وتجعل الإنسان يتكاسل ويمشى متثاقل الخُطا ، وبين تقدير لسنن الله الكونية . . إن الله سبحانه وتعالى يقول فى كتابه كلمات كثيرة تعتبر سننا كونية . . فمثلا يقول : (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) ويقول : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا(1/107)
فسادا) ويقول فى بنى إسرائيل ـ قديما : (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) ص _121
معنى الصبر واليقين أن الأمر يحتاج إلى زمن ـ واستعجال الزمن خطا ، ومن قوانين الله الكونية أن أعمل وأنا موقن بنصر الله ، لكن ليس من قوانينه أن تنفذ الأمور حسب تقديرى أنا . . فالزمن عندى له ثوانيه وساعإته وأيإمه . . حساب طويل ، لكن الزمن عند الله تعالى له حساب آخر : (و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) وعندما ذهب المسلمون فى غزوة الحديبية كانوا واثقين من أنهم داخلون فى الحرم ومؤدون العمرة ، لكن لفتهم أبو بكر عندما طلبت نفوسهم : (أقال لكم فى هذه السنة ؟ 00) أى : لابد من عودة ، وسندخل ، إلا أن تحديد زمن الدخول ندعه لله عز وجل . . . إننى أؤكد على هذه المعانى ، لأنى وجدت معارك كثيرة حدثت بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين أعداء الله ، كان المؤمنون فيها أصحاب قلوب تنبض باليقين وأصحاب نفوس متوهجة إلى ربها عن إخلاص ولكنها ما أحسنت الخطة ولا درست الميدان ولا قدرت العواقب ، فكان فى ما أصابنا من هزائم ما يمكن أن ينطبق عليه قوله تعالى : (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) فهزائم كثيرة أصابت الأمة الإسلامية وأصابت المجاهدين فى هذه الأمة لأنهم لم يحسنوا التخطيط للمعركة ، والعقل لابد منه ، إنه أثمن هدية أعطاها الله خلقه ، وقد أحصيت كلمة (أولى الألباب ) فى القرآن الكريم فوجدتها تكررت فى ستة عشر موضعا ، ومعنى هذا أن الذين يخدمون الإسلام يجب أن تكون لهم عقول كبيرة . . يمكن أن يكون فرعا عن هذا الكلام أن الرسول محليه الصلاة والسلام أخذ الناس بالتدرج فى التشريع ، وأنه قضى فترة من الزمن فى مكة لم يكسر صنما ولم يمارس المسلمون أية عملية مواجهة مادية ، وإنما كانت القضية قضية بيان لحقائق العقيدة ، وكانوا يحتملون ما يقع عليهم ويصبرون . . وعندما دخل مكة(1/108)
فاتحا لم يُبقِ على الأصنام لحظة واحدة ـ فكان أول عمل بدأ به هو كسر الأصنام . ومن الممكن بالفعل تقسيم فترة الرسالة بين العهدين ـ العهد المكى والعهد ص _122
المدنى ـ ومن الممكن أن يقال : إن العهد المدنى كان عهد تشريع ، وإن العهد المكى كان عهد بيان للعقائد وأخذ للنفوس بها وتكوين لمجتمع أساس الترابط فيه الإيمان بالله وصدق الاتجاه إليه . . ولاشك أن التدرج كان سنَّة فى بعض الشرائع الفقهية الفرعية فى الإسلام ، فمثلا الربا كان أول ما نزل فيه قوله تعالى : (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) فهناك تلويح بأن الربا مرفوض ، لكن الحسم فى تنظيف المجتمع من الربا ومحو آثاره كلها كان في العصر المدني لا في العصر المكي . . وآخر الآيات في هذا نزولا قوله تعالى : (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) وقوله : (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) وقوله : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) فكان التشريع حاسما هنا ، وكذلك فى تشريعات الخمر وما إليها ، لكن لا نستطيع أن نقول : إن الذين يعملون للإسلام الآن يتدرجون فى شرح الحقائق الإسلامية العلمية لأن هذه الحقائق قد اكتملت ، ومنذ نزل قوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم) أصبحنا مكلفين بعرض الإسلام كله آية آية وسُنة سُنة . . لكن بناء الدولة بعد نشر الدعوة ، هذا لابد فيه من التدرج ، لأن البناء الذى انهدم على عدة قرون لا يمكن أن يتم إعادة صرحه فى خلال أسابيع أو فى خلال أعوام قليلة ، ولذلك كان كبار المصلحين يقولون : الزمن جزء من العلاج ـ بمعنى أنى لابد أن أقول الحدود تقام وما أقبل مماراة فى حد ـ لكن عند التطبيق فلا بأس أن أشرع فورا بحد الافتراء . . أو حد قطع يد السارق ، لأن ذلك سهل ويمكن إرجاء بعض الحدود إلى أن تواتينى فرص التنفيذ . .(1/109)
فعلميا أنا مكلَّف ببيان الإسلام كله ، وعمليا لابد أن أتدرج فى التطبيق العملى ، وهذا ما تفرضه أحوالنا التى لابد منها ، فالدواء الذى لابد أن يتجرعه المريض ليصحو أعطيه له جرعة جرعة . ص _123
القرآن . . والسلطان وهنا قضية تتصل بما بدأنا الحديث عنه . . وهى أن بعضهم يرى أن المسلمين أغنياء جدا فى الفقه التشريعى ، وفقراء جدا فى الفقه السياسى بمعناه الإدارى والدستورى ، وما إلى ذلك . . وهذا قد يدعو إلى شىء من التخبط فى الرؤية السياسية لأنها لم تزل عبارة عن مبادئ عامة لم تترجم ـ تاريخيّا ـ إلى فقه وبرامج تشكل خصوبة فى التصور عند الفرد المسلم ، يمكن أن يتعامل مع الحياة من خلاله . . والسؤال هنا هل كان هذا ثمرة لانفصال السلطان عن القرآن فى التاريخ الإسلامى؟ علما بأن الكثير من الآيات التى وردت تحض على النظر والاعتبار ، والدعوة إلى الشورى هى أقرب فى طبيعتها إلى الفقه الاجتماعى والسياسى منها إلى الفقه التشريعى ، وعلما بأن النمو لا يزال مستمرا فى الفقه التشريعى ، بينما نعانى من ضمور فى الفقه السياسى . . . كيف يمكن أن يتخلص المسلمون من بعض هذه المعاناة؟ . . ولابد من الاعتراف ابتداء بأن فقه العبادات ، وجوانب من فقه المعاملات اتسع عندنا اتساعا أكثر من اللازم ، وأن الاستبحار التشريعى فى أمور الطهارة والصلاة والحج والزكاة وما إلى ذلك كان أكثر مما يطيقه الفرد المسلم أو المجتمع المسلم ، وقليل من هذا كان يكفى الناس ، كما أنه عدة أسماء لحقيقة واحدة ليس بلازم أن يعرفها الجميع لكن لاشك أن فى الأمة الإسلامية تخلفا فى سياسة الحكم وسياسة المال ، فأما فى سياسة المال فمعروف أن فتنة أمتنا المال كما جاء فى الحديث : " فتنة أمتى المال " . . والفتنة تجيء من مصادر الكسب ومن طرق الإنفاق ، فلا مصادر الكسب وضعنا لها مصافى تحجب الحرام وتتيح مرور الحلال ، ولا طرق الإنفاق وضعنا عليها رقابات قانونية تمنع التبذير(1/110)
الجنونى وتمنع السفه فى إراقة المال فى غير موضعه ، وربما سبقتنا الآن أمم كثيرة فى هذا ، حيث وضعت للمال سياسات دقيقة فى إنفاقه وفى كسبه ، تظهر فى الموازنات العامة التى تضعها الدول ، فالدول تفرض على الحكومات ألاَّ يؤخذ من الشعب قرش واحد إلا بقانون أو إلاَّ بتشريع واضح يُرى معه أن الدولة محتاجة ، ولا ينفق شىء إلا بالدقة نفسها التى تتبع فى الكسب ، وإعلان الحرب كذلك لا يترك لنزوات فرد يخاصم أو يسالم كيف يشاء ، وإنما الأمة التى تدفع من دمها ثمن الحروب وتضحيات القتال هى التى تبت فى مثل هذه الأمور . . ص _124(1/111)
ولا بد فى الحقيقة من أن تكون هناك أجهزة متخصصة فى أمور فنية وإدارية لمعرفة موقع الأمة الإسلامية من الأمم الأخرى وما يعود عليها بالكسب وما يعود عليها بالخسارة ، وأن تكون هناك قوانين تحكم العلاقات وترسم المعاهدات التى تكون بيننا وبين الآخرين . ومع أن الفقه الإسلامى يمثل على الأقل 50% من المكتبة الإسلامية ، ومع أن هذا الفقه استبحر عندنا بحيث إنه لا توجد حضارة عالمية استبحر فيها الفقه كما استبحر فى حضارتنا ، مع هذا فإننا فى هذه الناحية مصابون بضمور كما قلت ـ فى بعض المعاملات عندنا ـ على سبيل المثال نحو ( 25 ) كبيرة من الكبائر لم توضع لها عقوبات ، نحن لم نضع عقوبات للتعامل بالربا أو للغصب أو للفرار من الزحف أو لأكل مال اليتيم ، أو للغش ، أو لما يقع من مخالفات كثيرة . . . فهل الحدود التى وضعها الله تغنى عن تشريعات لابد منها فى الميدان الاجتماعى ؟ وهل تترك التعزيرات هكذا دون ضوابط ، ودون رصدها بقوانين محكمة ؟ الشىء الثانى : وجدنا أن الفقه الإسلامى ـ حتى فى ميدان الأسرة قد احتبس فى حدود المذاهب الأربعة حتى جاء ابن تيمية واستطاع أن يصنع عملا هائلا عندما رفض طلاق البدعة ودخل بهذا مدخلا معجبا وكريما فى المحافظة على الأسرة الإسلامية ، وإن كان بعضهم يرفض كلامه فى هذا الموضوع ، لكن انفتاح باب الاجتهاد أمام الرجل جعله يضع ضوابط للأسرة الإسلامية ، هذا شىء حسن . . . قوانين العمل والعمال لا تزال صفرا عندنا ونستوردها الآن من الخارج فى إصابات العمل وفى حقوق العامل ، وهذا لا يجوز . . القوانين الإدارية إلى الآن لا تزال أيضا مجلوبة . . ولعل المطلوب هو تحديد الأسباب . . أسباب الضمور فى هذا الجانب والنمو فى الجانب الآخر ـ هل هو الانسحاب من المجتمع ؟ . . هل هو انفصال السلطان عن القرآن ؟ مع أن الإنسان يلمح بأن الآية التى استدل بها الفقهاء على حجية القياس ـ وهى قوله تعالى : (فاعتبروا يا أولي الأبصار)(1/112)
، بعد أن تكلم عن الحال التى كان ص _125
عليها بنو النضير - وكيف أخذهم الله بسبب واقع اجتماعى معين - وأن كل من يصيبه هذا الواقع سينتهى إلى النهاية نفسها وهى أقرب للفقه الاجتماعى منها إلى الفقه التشريعى ، ونلمح بأن هذا لون من الفقه للسنن الاجتماعية – عمليّا - صرف إلى الفقه التشريعى وبقيت القضية الاجتماعية أو الفقه الاجتماعى أو السنن المتعلقة بقيام الأمم وسقوط الأمم وقضايا المال بقيت قضايا ضامرة . . ومن الناحية النظرية استطاع أئمتنا من قديم أن يضعوا قواعد تشريعية مثالية فى هذه النواحى - فمالك وبعض المذاهب الأخرى اعتمدوا مبدأ المصلحة المرسلة والحنفية اعتمدوا مبدأ الاستحسان ، والحنابلة لهم فقه مرن جدّا فى ميدان المعاملات يكاد يكون أكثر سماحة واتساعا من الفقه الحنفى - لأنهم يرون أن العقود ابتداء فى الأصل مباحة أما غيرهم فيرى أنها محظورة ، ولهم فى هذا مجال واسع - لكن . . ويبقى هذا فى إطار الفقه التشريعى فالذى جعل هذا الفقه لم يأخذ امتداده العملى ، بحيث تمتد المبادئ وتتورع على شبكة تشريعات تشمل المجتمع كله . . هو الخصام الذى وقع بين الحكم والعلم الدينى . . فإن الأئمة الأربعة تقريبا كانت بينهم وبين الحكام جفوة . . أبو حنيفة قُتل فى السجن – على الأشهر أو على الأغلب – ومالك ضرب لأنه أفتى فتوى أغضبت الحاكم فى عهده ، وابن حنبل ضُرب ضربا مبرحا وكاد يموت فى سجنه ، لولا أن الله لطف به ، والشافعى قُبض علية وامتنع عن القضاء لأنه وجد أن الأمور تسير سيرا سيئا . . فهذه الناحية التشريعية قد جاء ضمورها من الخلاف . . فالضمور سببه الخلاف بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية إذا صح التعبير . لذلك يجب أن نعقد صلحا بين الاتجاهين ، بين الاتجاه الثقافى والاتجاه السياسى . ويمكن أن نعتبر أن التخلف والارتكاس يمكن أن يكرس ويستمر طالما أن هذا الافتراق حاصل بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية . وسيبقى(1/113)
التخلف حتما . . وهذا أشبه بالانفصال الشبكى الذى يُفقد المرء البصر . . وفى اعتقادى أن شيئا من هذا – أيضا – وقع بين المفكرين أنفسهم . وإذا كنا نلحظ فى تاريخنا انفصالا بين الفكر السياسى والفكر الثقافى التشريعى عندنا - فهناك انفصال وقع بين الفقه التربوى والتشريعى أيضا – فانفصل ما يسمى بعلم القلوب أو علم التصوف أو علم التربية . . أو ما أسموه الحقيقة والشريعة . ص _126
حيث انفصل هذا عن ذاك فى واقعنا الإسلامى انفصالا مرّا . . ونحن نعلم أن كتب التصوف تملأ المكتبات ، وأن الطرق الصوفية زحمت العالم الإسلامى دهرا ، وأن الاستغناء ممكن عن هذه الطرق بل قد تصلح الحياة وترشد بدون هذه الطرق ـ لكنها لا تصلح ولا ترشد إذا بقى القلب الإنسانى دون تعهد فقيه ـ بمعنى أن التربية أساس فى تكوين الأمم ، والتربية التى لابد منها كى تكون النفوس راشدة والمجتمعات فاضلة ، هى التى تقوم على فهم مقام الإحسان ، أو رقابة الله على الضمير البشرى فى سلوكه كله ، ليله ونهاره . . هذه الرقابة هى التى ينشأ عنها الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والمحبة والورع والتوبة ومعرفة المعاصى الكبيرة التى هى أخطر من معاصى الأبدان ، بمعنى أنه كيف تغسل النفوس من حب الظهور . . من الأنانية . . من الحقد . . من طلب الرئاسة . . من العراك على المآرب الخسيسة . . من الذهول فى طلب الدنيا عن الآخرة . . هذا كله إذا فقدناه فإن هيكلا تشريعيا كبيرا لا يغنى مكانه ، وكان مفروضا أن العلماء يربون الأجيال ابتداء على هذه المعانى ، فإن هذا ما بنى عليه المجتمع الأول . وعندما تتأمل تراث ابن تيمية ـ الذى يعتبر خصما للصوفية ـ أو ابن القيم تلميذه ، فإنك ترى أن ابن تيمية رصد جزأين من فتاواه تقريبا فى القلوب والحديث عن الله وخشيته والعمل له والإخلاص والإحسان ، وما إلى ذلك من المعانى التى خاض فيها المتصوفة بدون وعى فقهى . . . وجاء تلميذه ابن القيم وفصَّل هذا(1/114)
فى كتابه " طريق الهجرتين " وكتابه " مدارج السالكين " . . وكتاب " عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين " على ما أظن ـ وكتب كثيرة . . وكان أكثر من أستاذه توسعا فى هذه النواحي . . . هذه المعانى معدومة الآن ، ونجد من يعلم حركات الصلاة من ركوع وسجود ولا يحسن تعليم الخشوع وتقديس الله وسجود القلب مع سجود الجوارح . . وهذا خطأ هائل .. ص _127
الشورى . . فى عصر تبرج الفلسفات ونعود إلى نقطة انفصال القيادة الفكرية والتربوية عن القيادة التشريعية . . هذا الانفصال الذى أحدث الشروخ والأخاديد فى المجتمع المسلم . . . وقد أصبح كثير من الناس يحس بهذه القضية ، ولابد أن توضع أوليات للمعالجة . . ونحن لا نعتقد بأن السبب كله يعود إلى القيادة السياسية ، ولا السبب كله يعود إلى القيادة التشريعية أو الفكرية . . وإنما لكل من القيادتين نصيبه من الخطأ ، فلا نستطيع أن نعود باللائمة على نفر معينين ، فنحن جميعا من علماء وحكام ومن إداريين ومربين ، ومن فقهاء ومن مشرعين وقادة عسكريين ، نحن جميعا نحمل أوزار الضعف الذى ألمَّ بالعالم الإسلامى كله ، ومن الخير أن نتعارف على خطة سواء يمكن بها أن ننقذ أمتنا وننقذ تراثنا ونؤدى رسالتنا التى لابد أن نؤديها حتى نلقى ربنا بوجه أبيض ، وإلاَّ فإن التبعات ثقيلة علينا ، ونحن لا نبدأ من فراغ ، فمن إكرام الله لهذه الأمة أن كتابها لا يزال قائما ، وأن سنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تزال واضحة المعالم ، وأن الفقه فى أصوله وأهدافه الكبرى لا يزال يعطينا القدرة على الرؤية والانطلاق . . كل ما هنالك أن يُمنع القاصرون وأصحاب الغرض من الكلام فى دين الله أو العمل له ، لأنهم يسيئون من حيث يريدون الإحسان ، ودين الله تعالى أشرف من أن يؤخذ من أفواه الحمقى . . إننى أرفض فى مثل هذا العصر الذى دُللت فيه الشعوب وتبرجت فيه الفلسفات التى تعرض نفسها على الخلق ، أرفض أن يجىء إنسان فيقول : الحاكم فى(1/115)
الإسلام يتصرف دون مجالس شورى تشير عليه ، وله أن ينفرد برأيه متخطيّا كل رأى يعرض عليه ، هذا كلام لا يمكن أن يقال ، وصاحب الرسالة المعصوم عليه الصلاة والسلام ما زعمه لنفسه ، فكيف يُزعم للآخرين ؟! . . القول بأن الشورى لا تلزم أحدا كلام باطل ، ولا أدرى من أين جاء ! ؟ . . ولعل فكرة عدم إلزامية الشورى وفكرة المستبد العادل . . كلها كانت فلسفة لواقع معين لتبرير وتسويغ الاستبداد السياسى من فقهاء السلطة .. وكلمة " مستبد عادل " تساوى " عالم جاهل " تساوى " تقى فاجر " . . هذا جمع بين الأضداد .. ص _128(1/116)
وقد يشيع فى المجتمع الإسلامى فترة من الفترات مصطلح مستبد عادل ، أو أنه قد يشيع فى المجتمع الإسلامى أن الشورى غير ملزمة ، كلون من التبرير أو التسويغ أو إعطاء الفتوى للاستبداد السياسى ، أو إلباس ثوب إسلامى للاستبداد السياسى . . وهذا لا يجوز . . فالذى رأيناه فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم أنه التزم بالشورى . . إن الشورى من مبادئ الإسلام ، وقبل أن تقوم للمسلمين دولة قيل لهم مجتمعكم هذا الذى لمَّا يتحول بعد إلى دولة يجب أن يقوم أمره على الشورى: (وأمرهم شورى بينهم) ، وكان ذلك فى العهد المكى ، وعندما قام المجتمع على دولة بعد أن انتقل إلى المدينة ، فإنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة "أحد" (وشاورهم في الأمر) . . وكان أول اختبار للشورى فى غزوة الأحزاب عندما كاد النبى صلى الله عليه وسلم يمضى معاهدة بينه وبين القبائل الوثنية المحدقة بالمدينة والتى توشك على اقتحامها ، لأنه رأى حرج الأنصار وكلب العدو عليهم ، وتتابع البذل منهم ، خشى لأنه رأى العرب ترميهم عن قوس واحدة . . خشى هذا ، واقترح ، فلما عرض ذلك على زعيمى الأوس والخزرج - سعد بن عبادة وسعد بن معاذ - رفضا ، وفى ما أحفظه من روايات أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لهما : " إذا اتفقتما على شىء فلا أخالفكما فيه " . . فهذا أصل الشورى - ومعروف بداهة أن الشورى لا صلة لها بالنصوص ، الشورى حيث لا نص ، والذين يقولون : إن الشورى تغير أحكام الإسلام ، هؤلاء لا يفهمون معنى الشورى . . يوم نقول : الدولة دينها الرسمى الإسلام ، فمعنى هذا أن نصوص الإسلام على العين والرأس ولا كلام فيها ، أما الشورى فحيث لا نص . . وقد سمعت بعض الشبهات أوردها الذين يقولون : إن الشورى لا تلزم . . منها موقف النبى عليه الصلاة والسلام فى غزوة الحديبية - والظاهر أن الموقف فى غزوة الحديبية لم يكن للشورى دخل فيه ، لأن النبى عليه الصلاة والسلام أحس بأن رب العالمين قد(1/117)
تدخل فى الأمر ، فقال : " ما خلأت القصواء وليس لها بخلق ، حبسها حابس الفيل " ، فهم أن الله لا يريد حربا الآن ، فنفذ أمر الله - وهو خبير بالوحى - وعندما سئل قال : " أنا عبد الله وهو لن يخذلنى " ، فكان لابد أن ينفذ أمر الله - وطالما أمر الله فلا شورى لأحد .. ص _129
الشىء الثانى ، وهو عجيب ، قولهم ـ فى قضايا محاربة المرتدين ـ : إن أبا بكر استبد برأيه ـ وهذا كلام باطل ـ لأن معنى الشورى أن يقول الحاكم ما عنده ، وأن يسوق الأدلة عليه ، وأن يعترض من يعترض ، ثم يذكر أدلته ، ثم تستقر الأمور على ما يراه المجتمعون ، فهل رأى المجتمعون رأيا غير رأى أبى بكر ؟ هذا غير صحيح ، عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ الذى اعترض ، قال : (فما هو إلا " كذا " حتى شرح الله صدرى للذى شرح الله له صدر أبى بكر) . . معنى هذا أن المعارضة اختفت . . كذلك اختلفوا فى تخميس الغنائم ، وكانت المصالح المرسلة كما قيل ـ المصلحة المطلقة ـ أنها لا تخمس ، كما يفهم بعضهم من النص . . رأى عمر أن التخميس الذى جاء به النص كان فى أمور محدودة ، أما فى امتلاك أراضى البلاد المفتوحة وتوزيعها على المقاتلين ـ لا ـ واختلفوا شهرا وفكروا ، فكانت الأغلبية مع عدم التخميس . . ورأوا الذى رآه عمر . . فمعنى الشورى أن الآراء تقال وكل يقول ما عنده ويتعصب له وهو يعرضه ، حتى إذا أخذت الآراء وعُرف الاتجاه إلى أين فمع الأغلبية نسير . . هذا هو الذى نقوله . . أما القول الآن بأنه ـ لأى إنسان ـ أن يأخذ الأمة شرقا وهى تريد أن تذهب غربا فهذا لا يمكن أن يقال . البيعة العامة .. وجماعة المسلمين ويمكن أن تنسحب آثار قضية إلزامية الشورى أو عدم إلزاميتها على بعض العاملين للإسلام من الجمعيات والجماعات الإسلامية . . فقضية عدم إلزامية الشورى واردة عند بعض الجماعات الإسلامية أو العاملين للإسلام وقد أوقع ولا يزال بكثير من الارتباك ، ويمكن أن يكون الوجه الآخر للقضية هى(1/118)
مشكلة فهم النصوص التى وردت بشأنها ، ونحن نعلم أن البيعة العامة لا يمكن أن تكون إلا للحاكم المسلم القادر على إعلان الحرب ، وعقد السلم ، وإقامة الحدود ، يعنى له مدى معين وصلاحيات معينة ـ فبعض الجماعات الإسلامية وبعض العاملين للإسلام وقعوا فى مشكلتين . . المشكلة الأولى : عدم إلزامية الشورى . والمشكلة الثانية : البيعة العامة لأمير العمل أو لقائد الجماعة أو ما إلى ذلك ، الأمر الذى أحدث فيما بعد شيئا من التعسف فى التعامل مع الأحكام الفقهية ـ من جانب ـ وتصورهم أنهم جماعة المسلمين ، أدى إلى شىء من التخبط ، والحكم ص _130(1/119)
على المسلمين خارج إطارهم بأحكام أبعدت بينهم وبين رسالتهم الحقيقية حيث أغلقت منافذ الدعوة إلى الله . . وهذه كلها أخطاء لا أستطيع أن أنكرها ، وقعت فى العالم الإسلامى ـ للأسف ـ فإن كثيرا من العاملين فى الميدان الإسلامى تصرفوا بطريقة تستدعى التساؤل والدهشة ، فأولا : كثيرا منهم سمى نفسه أميرا ، ومبلغ علمى أن الأستاذ حسن البنا كراهية منه للرياسة ، ولما يعلمه من أن حب الرياسة وطلب الإمارة أساء إلى المسلمين فى تاريخهم الطويل ، سمى نفسه مرشدا ، وكره أن يكون رئيسا أو أميرا ، فلا أدرى ما الذى جعل أعدادا كبيرة من الجماعات الإسلامية تطلق على القائمين بالأمر فيها " أمراء " . . وصحيح أنه " إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا أحدكم " ، لكن ليس المقصود أن يكون ذا رئاسة وتعال ، إنما المقصود أن يكون مسئولا ، وقد تبع هذا أن الأمير الذى أصبح أميرا لبعض الطلبة أو لبعض العمال أو لبعض الشباب ، أصبح يرى لنفسه حقا فى إملاء الرأى على الآخرين ، بينما قضية الشورى مبهمة فى نفسه ، فأعطى لنفسه حق التوجيه الذى لا يُساءل فيه ، والذى يرفض الاعتراض حينما يوجه إليه ، وبهذا ساد الاستبداد نواحى كثيرة ، وهذا خطأ بيقين . . الشىء الثانى : إن القول بأن هؤلاء الأمراء للشباب أو للطلاب أو للعمال ، لهم حقوق أبى بكر وعمر وعثمان وعلى التى هى حقوق الخلافة العظمى وحقوق الطاعة على المسلمين لأنهم أولياء الأمر ـ والله أمر بإطاعة أولى الأمر ـ هذا كلام أيضا مرفوض ، ولا يمكن قبوله ، لأن الخروج على البيعة أو الخروج على طاعة ولى الأمر إنما كانت إبقاء لكرامة الدولة ومكانتها ، ومنعا لأن تكون الفتوق سببا فى انهيارها أمام عدوها . . ولذلك كان الخروج المسلح هو الذى عُيِّب واعتبر أشبه بالرِّدَّة ، لأنه لاشك أن الخروج المسلح على الدولة خطير يبيح الدم ، لكن الخروج العادى بمعنى رفض رأى فلان من الأمراء أو الرؤساء فليس شيئا يعاب المرء عليه ، ومن الخير أن(1/120)
يكون الإنسان مبديا ما عنده ، وما يمكن أن أقول : إن الذى خالف رئيس الجماعة يعتبر مارقا من الإسلام أو خارجا على الجماعة أو ناقضا للبيعة أو مات ميتة جاهلية ، إلى آخر التطبيقات التى ينقلونها من ميدان الدولة إلى أفقهم الضيق المحدود الذى يعيشون فيه .. العمل الإسلامى يجب أن يكون بعيدا عن هذه الكهانات وهذه الادعاءات ، فإذا اختار جمع من المسلمين رئيسا لهم ، فهو رئيس لهم ، يكون إماما لهم كإمام الصلاة ، إذا أخطأ فإنه يستفتح عليه ويوجه للصواب ، وليس له أن يلزم الآخرين ص _131(1/121)
بمتابعته على خطئه ، ومن حق الناس أن تراجعه وأن تتركه وأن تخالفه إذا رأت أن مسلكه ينبو عن تفكيرها ، ولا يعتبر إطلاقا عصيانا لله ولا خروجا على الإسلام ، أما مسألة النيات فهى إلى الله ، فمن ترك جماعة من الجماعات لأن تكاليف الجهاد بهظته أو أثقلته فهو رجل يُسأل أمام الله : لماذا استثقل تكاليف الجهاد بينما يجب عليه أن يكون مجاهدا . . أما إذا وجد خطة خطأ ، فرأى ـ بعد أن بذل النصح ورُفض سماع قوله ـ أن يترك هذا الخطأ ، فهذا من حقه ، ولا يعتبر خروجا على بيعة ولا انسلاخا عن الملة ولا عودة إلى الجاهلية ولا شيئا من هذا كله .. ومعنى ذلك أن مصطلح جماعة المسلمين الآن يحمل خطورة كبيرة ويجب أن يقال جماعة من المسلمين أما جماعة المسلمين فلا . . جماعة المسلمين إنما يتكلم عنها الخليفة الأعظم كما يُسمى وهو غير موجود الآن للأسف . . وهناك نقطة أخرى فى قضية الاجتهاد . . فمن المعروف أن باب الاجتهاد أوقف أو أغلق ، وهذا أوقع المسلمين بفوضى شديدة جدّا . . فالحق أن إيقاف باب الاجتهاد هو اجتهاد فى الأصل . . فهل هو اجتهاد ملزم ، ومن أين له صفة الإلزام، هذه قضية . والقضية الثانية : أن إيقاف باب الاجتهاد معناه توقيف للنمو الإسلامى فى مواجهة المشكلات المعاصرة والحكم عليها . النقطة الثالثة فى الموضوع : أن هذا يعنى لونا من الانفصال بين الإسلام وبين المجتمع ، أو فصل الإسلام عن المجتمع بأيد مسلمة ، ومساهمة سلبية منا بتوقيف الإسلام وهذا يتعارض مع خلود الشريعة ، فالله تعالى الذى أنزل الشريعة عالم بتقلبات الأمم والأحوال وما يُسمى بعملية فساد العصر ، التى احتج بها من اجتهدوا فى ذلك ، ودعوا إلى إيقاف باب الاجتهاد ، وكانت دعوتهم محل نظر ، وعموما ، فإن إغلاق باب الاجتهاد لم يكن يعنى إطلاقا فى عُرف من طالب به أو من فرضه على الناس ـ حبس العقل الإسلامى فى هذه الحجب التى جدّت ، فالذى حدث فيما قرأت للبغدادى ـ فى كتابه "(1/122)
تاريخ بغداد " أن الاجتهاد كان قد بلغ الفوضى ، وبلغ بالأمة الإسلامية أن بغداد كان يفتى فيها بحل دم فى حى وبحرمته فى حى آخر . . وبحل المرأة فى حى وبحرمتها فى حى آخر ، ولأضرب مثلا: ص _132
هب أن رجلا مسلما قتل ذميّا ، فإن المالكية أو الشافعية يقولون : لا يقتل فيه ، فعصموا دمه ، أما الحنفية فيقولون : يُقتل فيه ، فكان لا بد من تدخل الدولة هناك أو من تدخل اجتهاد ، لكى يرجح حكما على آخر ويغلق الباب أمام أحد الاجتهادين.. وهذا نوع من التنظيم وقد بدأ تنظيما محدودا ، ولكنه ـ للأسف ـ تحوَّل إلى فوضى وإلى إماتة وإلى تجميد للعقل الإسلامى . . كان من الممكن أن يقع طلاق البدعة أو لا يقع مثلا ، بعض الناس يقولون تطلق المرأة عندما يقال لها أنت طالق بالثلاث ـ تُطلق ثلاثا ـ وتتزوج غيره فيما بعد . . بينما يرى بعضهم أنها طلقة واحدة ولا يجوز أن تتزوج الآخر ، فكان لابد من هذا التنظيم . . إن هناك ثروة فقهية ونظرات كثيرة . . هناك شراء اسمه فقه وشىء اسمه قانون بالمصطلحات الحديثة . . والفقه هو مجموعة نظرات متفاوتة . . متفاوتة فى قدرة أصحابها ، ومتفاوتة فى الحل والحرمة . . لكن إلى جانب المدرسة التشريعية والفقهية هناك شىء اسمه قانون . . فما ينتقى من المدرسة التشريعية من الأحكام ، فى صورة تطبيقية يتم تقنينه وجعله الأمر الملتزم . وهذا لم يكن موجودا فى الأمة الإسلامية ، فقد بدأ حديثا . . لكن القاضى قديما كان يجتهد . . وكان له الحق أن يتبع أحد المذاهب المعتمدة الأربعة المعروفة ، وهو ليس كقاضى اليوم أمامه قانون ، يطبق مواده على الواقعة ويصدر الحكم ، بل هو يجتهد فى استنباط الحكم وفى التنقل بين عدة مذاهب ، أو إذا كانت الدولة تتبنى مذهبا معينا يأخذ من هذا المذهب ، ووظيفته الاجتهاد فى معرفة الحكم ، هل يطبق عليه أم لا ؟ كما لو قصر القانون الآن عن حالة معينة ، فيرجع إلى مصدر من مصادر الفقه . . ولكن على كل حال ، هذا(1/123)
الاجتهاد بإغلاق باب الاجتهاد انتهى إلى ضرر ، والضرر هو أن الأمة توقفت فعلا عند التفكير القديم الذى كان سائدا فى القرن الرابع تقريبا ، والزمن يتجدد ، وكما قيل : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من أنزعة . . فلابد من أن يترك باب الاجتهاد مفتوحا . . لكن لى ملاحظة ، وأريد أن أكون دقيقا ، فإنى وجدت ناسا يستغلون فتح باب الاجتهاد ، فجاءوا بأحكام اجتهدوا هم فيها ، كانت وبالا على الأمة ، لأن عقولهم ص _133(1/124)
قاصرة ، ولأنهم لم يستجمعوا المؤهلات العلمية والخلقية للمجتهد ، حتى كدت أقول: نعود إلى التقليد المذهبى أفضل من هذه الفوضى التى جعلت بعض الناس ينشىء مذاهب خامسة وسادسة وسابعة ، ليس وراءها من ثروة علمية تجعل لها أية حرمة.. شىء آخر حول هذه الملاحظة هو أن الاجتهاد دار فى المجال الذى يجب أن يتوقف فيه الاجتهاد ، بمعنى أننا لم نجتهد فيما نحن توقفنا فيه ، أو فيما ضمر فقهنا فيه وهو سياسة المال وسياسة الحكم . . أو ما يسمى الفقه السياسى . . سياسة العمل والعمال ، والفقه الإدارى ، علاقاتنا الخارجية بالدول . . كل هذا يحتاج إلي اجتهادات كثيرة . . وهؤلاء لا يعرفون شيئا فى هذه الميادين ، لا تقليدا ولا اجتهادا ، وإنما كل الذى بدءوا فيه وأعادوا فيه هو فقه العبادات ، هل يقرأ الفاتحة وراء الإمام أم لا ؟ هل يقنت فى الفجر أم لا ؟ هل يصلى بنعل أم لا ؟ هل يضع يديه فوق سرته أو فوق صدره ؟ هل يضعهما بعد الركوع أو لا يضعهما ؟ ! وكما قلت إن الصواب والخطأ فى هذه الأمور متساو تقريبا أو لا يُعرف بالضبط وكله مأجور . . وقد بدأ المجتهدون الجدد يعملون فى هذه الناحية . ولذلك أرى وقف هذا الاجتهاد الجديد كله ، لأنه اجتهاد فى ميدان ينبغى أن يكون عملنا فيه الانتقاء والترجيح من أقوال السابقين التى استوعبت ـ تقريبا ـ كل شىء . . لأن العبادات غير متجددة أصلا . . أما المعاملات فرأيى أن نعتمد مبدأ المصلحة المرسلة الذى اعتمده مالك وبعض الشافعية ، والاستحسان الذى اعتمده الحنفية ، والقواعد العامة فى ديننا وهى معروفة وكثيرة ـ القواعد الفقهية التى نضج بها فقه الأئمة الأربعة ـ وهو فقه محترم ، فى الحقيقة ، ومن الممكن أن ندخل بهذا فى ميدان سياسة المال والحكم والإدارة والعمل والعمال والشئون الدولية . . إلى آخره . مع فتع الباب للانتفاع بالعلم الجديد ، ومعنى ذلك أنه لا مانع من أن أعرف ما كان حسنا عند الآخرين ، أنقله ولا حرج . .(1/125)
افرض أنهم وضعوا فعلا قوانين أو مواد تبين كيف يستشير الحاكم الناس ؟ وكيف يرجع إليهم ؟ . . فما الذى يمنعنى أن أنتقى ما لا أراه مخالفا دينى فى هذه المؤسسات كلها . . أى ما وصلوا إليه فى عمليات استطلاع الرأى والشورى وما إلى ذلك . . نعم . . كل هذا أستطيع أن أنتفع به ، وهو يدخل فى باب الاجتهاد الذى ينبغى أن تفتح أبوابه ليكون داخل الإطار الإسلامى . ص _134
سقوط الفتاوى الرسمية . . وهنا نقطة أخرى حول قضية الاجتهاد . . فإذا تركت حرية الاجتهاد سيشتغل بعض الناس من المؤهلين ومن غير المؤهلين بقضايا الاجتهاد . . لكن ـ فى تقديرى ـ إذا كان هناك وعى إسلامى صحيح ، وتفاعل بقضية الاجتهاد ، ستسقط بعض الفتاوى التى جاءت من غير أهلها ، والتى لا تستحق أن تكون فتوى فى الدين ، لأن صاحبها صاحب بدعة أو غير ذى علم أو ما إلى ذلك ، كما نلمح هذه الأيام ـ فى ملامح بسيطة ـ أن بعض الفتاوى الرسمية التى تأتى لملابسات معينة ، الجماهير المسلمة لا تقبل بها ولا تغير من واقعها شينا . . بينما تكون بعض الفتاوى من أهلها الذين ليس لهم سلطان سياسى وإنما سلطان علمى ويتمتعون بمؤهلات تجعلهم أهلا للنظر والفتوى ، تكون عند الجماهير ذات أثر كبير . . وبالإضافة إلي ذلك فإن بعض الناس لقصوره الفقهى ـ ينظر إلى التاريخ الإسلامى ـ خصوصا فى الألف سنة الأخيرة ـ على أنه مصدر للتشريع ، أو ينظر إلى التقاليد الاجتماعية السائدة فى بعض البلاد على أنها مصدر للتشريع ، وهذا غير صحيح ، فإن التاريخ الإسلامى هو عمل الحاكمين لتنفيذ الإسلام ، وهذا العمل قد يكون خطأ وقد يكون صوابا ، وكما أن الفقه الإسلامى غير معصوم لأنه هو عمل العقل الإسلامى فى استنباط الأحكام من أدلتها ـ وفى الخطأ والصواب ـ فكذلك التاريخ الإسلامى . . فالتاريخ ليس مصدرا فن مصادر التشريع . . وقد يقع بعض الحكام فى أخطاء كثيرة ، يجب أن نضع فى اجتهادنا الآن كيف نتجنبها . والحقيقة أن هناك(1/126)
كلاما طويلا فى قضايا التاريخ وقضايا التراث فبعض الناس فى تعريفاتهم للتراث ـ الذى يعنى كل قديم موروث سواء أكان اجتهادا بشريّا أم وحيّا سماويّا ـ قد يصلون إلى اعتبار الكتاب والسنة من التراث ، يعنى ما ورثه اللاحقون عن السابقين . . ممكن أن يأخذوا ويدعوا ما يشاءون منه . . وبعضهم يفرِّق بينه فيقول : إن التراث هو فهوم المسلمين من الكتاب والسنة ـ القابلة للخطأ والصواب ـ أما الكتاب والسنة فهما وحى الله ، ولا يمكن أن يخضعا للمقاييس والمعايير التى يقوم فيها التراث من حيث الخطأ والصواب . ص _135(1/127)
ومن ناحية اللغة ، تحتمل كلمة الكتاب والسنَّة أن تكون تراثا من المواريث . وتراث النبوة هو ما جاء عنها (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) وحديث أبى هريرة رضى الله عنه : " أنتم هنا وتراث محمد يوزع فى المسجد " . فتراثنا الذى حملته الأمة العربية هو أساسا رسالة سماوية . . كتاب جاء من عند الله ، ونبى ملهم سدد الله خطاه فى حركاته وسكناته كلها ، فهو عن عصمة أرشد وألْهم ، ولذلك نحن نرى أن الكتاب والسنَّة مصادر رئيسية لابد منها ، ولابد من إحاطتها بهالة من التقديس ، لأنها هى حياتنا الروحية ، وكل تفريط فى الكتاب والسنَّة هو خروج الشىء عن حقيقته . . إن مصطلح التراث الذى شاع فى أذهان بعض الناس ، الذى هو ما ورثه اللاحقون عن السابقين من فهوم غير ملزم لا ينطبق على الكتاب والسنة . . هذه الفهوم ينطبق عليها مصطلح التراث الذى يمكن الاهتداء به ، أما الكتاب والسنة فقضية لا ينطبق عليها هذا المصطلح . . فهى شيء معصوم لابد من احترامه وهى فوق المساءلة والمناقشة :(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) ويقول سبحانه وتعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) فإذا قال الله تعالى أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم انتهى الأمر . . ونحن نحترم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم جزء من الرسالة ومن كيان النبوة ، وخير القرون القرن الأول وبعد هذا القرن الذى يليه . . فالرسول صلى الله عليه وسلم مات ورسالته محصورة فى الجزيرة العربية ـ مع أنها من الناحية العلمية ـ رسالة عالمية ، فمن الذى أعطاها الامتداد العالمى والطابع العالمى ؟! هؤلاء الصحابة الذين رباهم محمد صلى الله عليه وسلم وأحسن تربيتهم هم الذين نقلوا ص _136(1/128)
الإسلام من جزيرة العرب إلى أفريقيا وآسيا ، ولا ننسى أنهم كانوا أقدر وأنضج وأجدر بالحياة ، وأكثر صلابة من أتباع الأنبياء السابقين ، فأتباع عيسى عليه السلام ، عندما صدر الأمر بالقبض على عيسى أعلنوا إنكارهم لمعرفتهم به ، وأولهم بطرس ـ وقال : أنا ما رأيته ولا أعرفه ، بينما وجدنا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فى حياته وبعد مماته كانوا أشدَّ الناس وفاء له ومدا لتراثه ، فهم الذين حققوا العالمية ، وهدموا أكبر إمبراطوريتين فى التاريخ فى وقت واحد ، فلم تمض سنون عشر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كانت الإمبراطورية الفارسية قد تلاشت ، ثم لحقتها الإمبراطورية الرومانية فى آسيا الصغرى وفى الشمال الأفريقى كله ، وانحصرت تقريبا فى أوروبا وبعض آسيا . . فالذين صنعوا هذا لهم مكانتهم . ويؤسفنى أن العدوان على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصود . . وقد سمعت إذاعة من الإذاعات الأجنبية ، وُجِّه لها سؤال عن تاريخ خالد بن الوليد ، وكاد المذيع ـ وقد عرفت بعد أنه غير مسلم ـ كاد يرى خالدا رجلا فاتكا ، وأخذ يدندن بأنه قتل مالك بن نويرة وأخذ امرأته ، ثم سلبه كل عبقرياته العسكرية وكل أمجاده فى هدم أطغى إمبراطورية فى الدنيا ـ الإمبراطورية الرومانية ـ وهذا فى الحقيقة تزوير للتاريخ . . وأيضا عندما يقال : إن عمرو بن العاص كان خطَّافا أو شيئا من هذا ، فإن ذلك شيء خطير ، لأن معنى تلويث الصحابة تحت عناوين شتى ، يعنى أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يحسن التربية ، وأنه أطلق أناسا طلاب مآرب وليسوا أصحاب تقوى ، مع أن الشعوب ما تعلَّمت الإيمان والتقوى إلا من هؤلاء الفاتحين... وهناك نقطة أخرى تتعلق بقضية الدعوة وبالعاملين للإسلام من خلال الظروف المحيطة . . إن الموقع الفاعل بالنسبة للعاملين للإسلام ولقضية الدعوة فى هذا العصر ، الذى بدأت تحكم وتتحكم فيه الموازنات الدولية ، وتتركز فيه ابتكارات التكنولوجيا(1/129)
فى خدمة السلطة والسلطان أصبح ضرورة مصيرية . ولا أظن أن الأمر قد أتى بجديد فى عصرنا هذا ، على معنى أنه إذا كان التيار الإسلامى الآن عندما يتحرك يشعر بأن أمامه جنادل ، وأن أسوارا هائلة تحجبه عن الانطلاق وأداء رسالته ، فإن هذه العوائق هى ذاتها التى اعترضت صاحب الرسالة أول ما قام يدعو ، ما كان أحد يصدق أن شعبا كشعب الصحراء يشبه فى قدراته العقلية والنفسية أى شعب من شعوب العالم ص _137
المتخلف الآن ، يمكن أن يحمل رسالة كبيرة ، لكن مع عظمة الداعية ومثابرته وتلطفه ، ومضائه على أمر الله واستهدائه بنور الله وانتظاره لنجدات الله . . مع هذا كله بدأ الأمر يتغير وفق الخطة التى يضعها القدر لتنفيذ قوله جل شأنه (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون) فإذا كان التيار الإسلامى الآن تحيط به حدود غليظة من التخلف العلمى والحضارى والتخلف العسكرى والمدنى ، فإنه لا يجوز أن يكون هذا دافعا لليأس . لذلك أرى أن يبدأ الداعية المسلم بإصلاح بيئته وإعدادها إعدادا نفسيّا وعقليّا لتكون منطلقا إلى ما بعدها . . وكلما أصلح جزءا من الأرض التى يقف عليها بقدميه انتقل إلى آخر ، وضم إلى قديمه جديدا لتتسع الرقعة التى ينطلق منها إلى العالم كله، وعليه أن لا يكون مقلدا تقليدا حرفيا لحركات الإصلاح الأولى ، فإن التغيرات التى حدثت فى العالم تجعله الآن حذرا ومقدرا لأبعاد ما يقول . . إن الكلمة الآن تقال فى جزيرة العرب ، فلا تمر بها ساعات حتى تكون فى القارات الخمس منقولة هنا وهناك ، فربما تصدر الفتوى يقصد بها بيئة داخلية ، فتنتقل الفتوى إلى الخارج فتكون سببا فى تعويق مسيرة الدعوة الإسلامية . . أريد أن يعلم أيضا أن هناك الآن وسائل جدَّت ، الإعلام الآن أصبح فنّا وأصبح من الممكن عمل أشياء كثيرة لجعل كلمة الإسلام تتردد بعدة صور وبعدة أساليب ، فن الكتابة أصبح فنّا فعلا ، له رجاله الذين(1/130)
يتقنون أن يبلغوا أعماق النفوس ، والله سبحانه يقول : (وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) . كيف تقول القول فيبلغ أعماق النفس البشرية ؟ . . الآن حتى الصورة أصبح لها تأثير . . والخبر أصبح له فن ، كل هذا يجب أن يتوفر لمن يتعرضون للعمل فى الميدان الإسلامى ـ المنطلق الفاعل أنهم أصحاب إيمان بالله يعملون له ويستمدون منه ، وأنهم يعرفون ما جدَّ فى العالم من أساليب . . وما جدَّ فى العالم من أساليب ص _138
يشبه ما جدَّ فى العالم من أسلحة ، فالارتباط بالأسلحة القديمة جنون والارتباط أيضا بالخطوات القديمة جنون ، الحركة تحتاج إلى ذكاء ولباقة وفكر . من هنا فأنا محتاج إلى إنسان تكون خصائصه العقلية مرنة ، ويستطيع أن يتحرك بالإسلام فى مواطن كثيرة لأنه فى الحقائق يخشى بعجز المسلم عن إبصار الساحة التى يتعامل معها ـ أن يعلن عن قضايا كبيرة فلا يستطيع من خلال إمكاناته أن يحققها فيقع فى شىء من الإحباط ويوقع الآخرين بشىء من الانكسار ، والذى أردته أن يكون عنده فقه للصورة التى يتعامل معها من خلال إمكاناته المتوفرة ، ومن خلال الفرص المتاحة له . . إن التلميذ فى إحدى الكليات ، الذى يعتنق دعوة الإصلاح الإسلامى ، ويكون أول ما يفكر فيه ضرب الحاكم ، هذا إنسان فيه بلاهة ، لأن آخر ما يفكر فيه المصلح تغيير أجهزة الحكم . . طبعا الآن هناك إصلاح فى البيت وإصلاح فى الشارع وإصلاح للتقاليد وإصلاح للأخلاق ، وهناك أمور كثيرة جدّا قبل أن تصل إلى الديوان الذى تجلس فيه لتحكم . . لماذا نتخطَّاها كلها ولا نفكر فيها ، ولا نفكر إلا فى أن نذهب إلى الديوان لنجلس فيه ونحكم . . الذى ينسى الطريق الطويل قبل الوصول إلى ديوان الحكم ، وكل تفكيره وهو يبدأ أول الطريق أن يتجاوز المسافة الطويلة العريضة ليصل إلى الديوان ، فهذا إنسان أستطيع أن أتهمه فى نيته إن لم أستطع اتهامه فى عقله ، فكر أولا فى الدعوة الإسلامية ، الدعوة الربانية التى(1/131)
أساسها معاملة الله ، وإذا كان الناس فى أوروبا يقولون : " أنا لا صلة لى بمسلك الإنسان الشخصى ، ليكن سكيراً ، ليكن مقامرا وفاسقا ، هذا مسلك شخصى له ، وما يهمنى هو عمله للدولة وعمله للمجتمع . . " فهذا الكلام لا يمكن فهمه من الناحية الإسلامية . . الله سبحانه وتعالى أمر بأن أصلح نفسى ، وعلى ضوء إصلاحى لنفسى أصلح الناس . . يعنى مع تجاربى فى إصلاح الناس . . وقد يكون بعضهم ـ فى الحقيقة ـ صاحب نية سليمة وصحيحة ، ولكنه عاجز عن إدراك الصورة التى يتعامل معها فيندفع إلى بعض المواقف التى توقعه فى الإحباط والانكسار وضياع القضية أصلا . . وتبقى نقطة أخرى : إن بعض المسلمين فى هذه الأيام يعتقد بأن ساحة العمل الإسلامى مقتصرة على درس بالمسجد وعلى خطبة على المنبر ، وعلى زى معين يلبسه ، وأن يخرج فى يوم من أيام الأسبوع إلى قرية مجاورة أو ما إلى ذلك ، ص _139(1/132)
وأن هذا هو الإسلام وهذه أبعاده لدرجة ينفصل معها عن المجتمع وعن الدراسة وعن العلوم العصرية ، وقد يدع بعضهم الجامعات فى سن متقدمة اعتقادا منه بأن قضية الدعوة أهم ـ وأن قضية الدعوة هى قضية أخرى ـ قضية مقابلة لما هو فيه ، فهو عاجز أيضا عن أن يرى الدعوة من خلال نبوغه واختصاصه العلمى وقدرته على اعتلاء المنابر الفاعلة فى المجتمع . . وهذه مشكلة اعتورتنا فعلا ونحن ندعو للإسلام ، ووجدنا أن بعض الناس اعتنقوا فلسفات سحابية غريبة ، جعلتهم يختصرون الطرق وبدل أن يذهبوا ليتزودا بالعلم لكى يخدموا دينهم فى الميادين الرحبة ، ظنوا فعلا أن الدين هو هذه الركعات فى المسجد ، وهذه السلبيات التى يعيشون فى داخلها فى قوقعة ، هؤلاء الناس آفتهم عقلية ، وهم يعانون من قصور علمى يقينا ، ومحتاجون لمن يوسع فقههم . . وماذا أستطيع أن أقول لرجل يحب الجهاد ويحرص على أن يكون الجهاد فوق صهوة الخيل وبالسيف ؟ ماذا أقول لهذا المخلوق إذا كان طيب القلب ويريد أن يموت شهيدا وعقد العزم على أن يكون مجاهدا فى سبيل الله؟ لماذا لا يعلم أن الجهاد الآن له كليات للبر وللبحر وللجو ، وأن الجهاد أصبح علما له امتدادات علمية تكاد تشمل كل شىء فى الحياة العامة ؟ مثل هذا المخلوق يجب أن نفتق ذهنه بأى طريق حتى يعقل ، وإذا كان بعض الناس مغلقا لأنه من النوع الذى يقول فيه الرجل الصالح : " من أصحابى من أرجو دعوته وأرفض شهادته " ، يعنى تقى لكنه لا خبرة ولا عقل له ، فإنه يلزم حدَّه فلا يشتغل بالدعوة ، يكفيه بأن يأمر بالمعروف فى حدود ما يعرف من المعروف ، وينهى عن المنكر فى حدود ما يعقل من منكرات ، أما أن يعمل للدائرة الإسلامية الكبيرة التى تجعل رب العالمين ينزل كتابه هداية للعالمين فهذا دون المستوى ، ومن الخير أن يلزم كل منا مكانه . إن مواهب الناس كثيرة ودون طعن فى أحد ، فأبو ذرّ سيدنا ـ ورحم الله أبا ذر ـ ولكنه رجل لا يصلح للعمل الإدارى ،(1/133)
وعندما طلب أن يكون عاملا أو أميرا فى مكان من الأماكن صارحه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ضعيف لا يصلح للعمل الإدارى ، وقال له : " هذه أمانة وإنى أراك ضعيفا " وهذه الأمانة ستكون يوم القيامة خزيا وندامة إن لم يأخذها بحقها ويؤدى الذى عليه فيها ـ فقد تكون مواهب الإنسان فنية ص _140
فيستطيع أن يكون عالما كبيرا فى ناحية من النواحى ، ولكن لا طاقة له بالناحية الإدارية ، فالرياسة والقيادة العسكرية فن . . لقد دخل خالد بن الوليد الإسلام بعد أربع سنين فقط من النكبة التى نزلت بالمسلمين فى " أحد " ومع ذلك فإن النبى عليه الصلاة والسلام رأى إخلاصه وقدَّر مواهبه -وعرف إمكانات الرجل الكبيرة بعدما حسن إيمانه ، فقلده القيادة وجعله من سيوف الله المسلولة على أعداء الله ، بينما يوجد ناس كثيرون بقوا فى وظيفة الأذان ، وفى وظيفة العمل العادى لأن هذه مواهبهم واستعداداتهم وقدراتهم الفردية ، فكون أحدهم طيبا ، يرى - لأنه طيب - أن يكون طليعة المسلمين . . لا - هذه مواهب وزعها الله على عباده . . فقد أصلح أنا شخصيا لشىء وأجود فيه وأفشل فى شىء آخر وأكون أقل من العادى ، فلا معنى لأن أضع نفسى حيث لا أصلح . . فالعمل للإسلام يحتاج إلى رجل له بصيرة ، وقائد أيضا له بصيرة يستطيع أن يصنف الناس الذين معه ويوزعهم على الأعمال التى يحتاجون إليها . . ومن البلاء الجسيم - وقد حدث هذا فى وقعة من وقعات فتح فارس - أن رجلا محبا للشهادة ، قاد الجيش فقتله ، لأنه محب للشهادة دخل المعركة - فى وقعة الجسر أظن - وكان الانهزام شديدا للمسلمين . . لا . . الأمر غير هذا . . خالد بن الوليد لما وجد أن المعركة غير متكافئة فى " مؤتة " انسحب ، فأنا أعطى القيادة عمْرا وأعطيها خالدا . . من أصحاب الكر والفر ، من أصحاب القدرة على الانطلاق وعلى العودة لأنه لا يريد – مجرد - أن يموت ، بل يريد أن يحيا لدينه وأن يموت لدينه . . فالقصة ليست قصة موت(1/134)
وانتهى الأمر ، القصة قصة كيف أخدم الإسلام وأضع الحسابات ، فإذا جاء بعض الناس الطيبين وأحب أن يقود أو أن يكون أمير جماعة لأنه مخلص وانتهى الأمر - لا - لا يصلح هذا ، بل يجب أن يُعطى حقه الطبيعى فى مكانة التوجيه العلمى أو التوجيه الشخصى أو ما إلى ذلك ، وله أن يلزم مكانه ولغيره أن يتقدم . . ص _141
الهزيمة الأولى . . والأخيرة . . وبقيت نقطتان الآن الأولى : حول قضية فلسطين للاستفادة من درس التاريخ من خلال تجربة طويلة . . ففى الوقت الذى تدرس إسرائيل فيه الهجمة الصليبية وتنتفع من درس التاريخ فى مواجهتها ، وتدرس الهجمات المغولية والسبب فى اندحارها ، وتأخذ بذلك عبرة ودرسا لواقعها ومستقبلها ، نجد بأن الواقع الفلسطينى ـ من خلال تجربة طويلة ـ ما زاد القضية إلا إنهاكا وشتاتا ، فنحن نعجز عن الاستفادة من الدرس الإسلامى الذى يؤكد أنه ما صدَّ الغزاة عن هذه المنطقة إلا الإسلام ، بينما نرى أن الإسلام الآن لا يعتمد ولا يؤخذ بعين الاعتبار فى المواجهة . . أما النقطة الثانية : فهى كلمة نصح للعاملين فى الحقل الإسلامى بشكل عام . . والحقيقة ـ فيما رأيت ـ أن القيادة الأولى لأهل فلسطين كانت قيادة إسلامية ، وكان " عز الدين القسَّام " والذى تلاه من بعده " أمين الحسينى " ، كانوا رجالا ما يعرفون إلا الإسلام والطاقات الإسلامية ، وكان لابد من هذا ـ لا عن تعصب ضد الأقليات النصرانية التى تعيش عندنا ، بل مواجهة للموقف الذى عليه أعداؤنا ، فإن أعداءنا جاؤوا بالتوراة وبالتلمود ، ومن ورائهم نصوص العهد القديم تقول لهم: " سأقيم مظلة داود الساقطة ، سألتقط شعبى من بين الشعوب وأجيء بهم إلى هذه الأرض . . " هذه الهتافات الدينية وراء اليهود جعلتهم يحاربون حربا دينية ، بل جعلت البروتستانت ـ على شواطئ الأطلسى بين أمريكا وأوروبا ـ وهم مرتبطون بالعهد القديم ، جعلتهم يؤكدون ولاءهم للصهيونية ويؤازرونها بكل ما لديهم من طاقات(1/135)
إلى الآن عسكريا . . فتجريد المقاومة العربية فى فلسطين من الناحية الدينية ، وإبعاد الإسلام عن المعركة واعتباره غريبا فى الميدان ، هذه فى نظرى الهزيمة الأولى والأخيرة . . لقد استطاع الجزائريون أن يؤمِّنوا مستقبل ثورتهم عندما ارتبطوا بالإسلام ارتباط غيرهم بالنصرانية ، فإنهم رفضوا إلا أن تكون الصيحة صيحة الجهاد لاستنقاذ أرض الإسلام ، فكانت الصيحة الإسلامية هى التى كسبت المعركة فى ثورة الجزائر ، وهى التى ترد لها التعريب الآن ، هذا درس يجب أن يستفيد منه إخواننا فى فلسطين . . إن استبعاد الإسلام ليس معناه إلا تسجيل الهزيمة على هذه الأمة ، وإذا كان غيرنا ما استبعد دينه ، فلم نستبعد نحن ديننا ؟! هل اليهودية تُقبل عالميّا عقيدة هاجمة ويُرفض الإسلام عالميّا عقيدة مدافعة ؟! كيف هذا ؟! وإذا كان هذا مرفوضا فكيف نقبله نحن ؟! اعتقد ـ وأنا رجل مصرى الجنسية ، أقولها من باب إقرار الحقائق كما وعتها تجربتى ـ أعتقد أن الشعب الفلسطينى من أذكى الشعوب العربية وأقدرها على الكفاح ص _142
وأصلبها عودا ، وهو ـ للأسف ـ قد تعرَّض لمؤامرات عالمية خبيثة ، وتحمّل آلاما مُرَّة ، وخانه أصدقاء وخانه أعداء ، ولا يزال إلى الآن يعانى الكثير ، ولكن أريد أن ألفت نظره إلى ما لابد منه ، لكى يضمن مستقبله ويكسب معركته ..
لننظر إلى أعدائنا ، لقد نقلت فى كتابى : " الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر " كيف أن صحيفة الفاتيكان تسدى نصحا للكيان الصهيونى فى فلسطين ، وتقول للأجهزة العسكرية فى هذا الكيان : ادرسوا لماذا انهزم الصليبيون فى هذه الأرض قديما وأفلتت منهم . .(1/136)
إن فترة أربعين سنة من الشتات والتيه والتمزق وتألب الأصدقاء وتآمر الأعداء ، أصبحت كافية كتجربة للفلسطينيين للعودة ـ بعد هذه المأساة المريرة ـ إلى دينهم وقواعدهم الأولى التى انطلق منها آباؤهم ، لأن كثيرا من الأفكار فى الواقع ـ كانت عبارة عن أقنعة تختفى وراءها الطوائف والتجمعات غير الإسلامية التى فتكت بهم ..
أما عن النصح للعاملين فى الحقل الإسلامى ، فأطلب من إخوانى ـ الذين شرفهم الله بالعمل فى ميدان الدعوة الإسلامية ـ أن يصمدوا وأن يرابطوا فى أماكن الدفاع عن عقيدتهم ، وعن مقدساتهم ، حتى يحرزوا النصر ويسلموه إلى أولادهم وأحفادهم كى يتموا المشوار كما يقال ، إن المرابطين الآن فى ميادين الدفاع عن الإسلام ودعوته يتحملون الكثير من العنت والكثير من الإرهاق ، لكن لا أزال أذكر نفسى وأذكّر غيرى بقوله تعالى : (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) لتكن التضحيات كثيرة . . لتكن الآلام مترادفة ، لكن علينا أن ننطلق ونمضى ونؤدى ما علينا ونحن الكاسبون ، وكما أمر الله المجاهدين دائما أن يتوقعوا أحد أمرين والحسنى فى الأمرين معا . . قال لهم : (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون * قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون )
ومع الزمن ستنضج الزروع ، وتتحقق النتائج ، ولأمر ما نجد سورة "هود" ختمت بهذه الآيات : (وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون)(1/137)