إضاءة
«... وأنتم أيها الإخوان جزء من العالم الإسلامي، إذا كنتم تعتقدون أنه يعيش بغيركم وليس عليكم مسئوليته فأنتم مخطئون ولكن أخشى أن كثيرًا من الناس يهتمون بكل شيء غير نفوسهم وهذا هو الواقع فعلاً.
أنا أفكر في العالم ولكن أنا كذلك جزء منه فلأُصلح هذا الجزء.
ولكني أرى كثيرًا من إخواني لا يفكرون في نفوسهم ويعتقدون أن العالم الإسلامي هو كل ما يغاير نفوسهم.
علينا أن نصلح نفوسنا وليعتقد كل منا أنه مسئول فإذا صلحت هذه الأجزاء صلح العالم الإسلامي».
أبو الحسن الندوي
من كتاب «إلى الإسلام من جديد»
ص164-165
* * * *
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنَّ الحَمْدَ لله نحْمَدهُ وَنَستَعينُه ونَستَغفِره، ونَعُوذُ بالله مِنَ شُرورِ أَنفُسِنَا ومَنْ سَيئاتِ أعْمَالِنَا.
مَنْ يَهْدِه الله فلا مُضلَّ لَهُ. ومَنْ يُضْلِلَ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } .
أما بعد:
فإن من يرَ من سير ركب هذه الصحوة المباركة يزدد يقينًا وقناعة تامة بأن النصر والعزة للإسلام.(1/1)
ولا غرابة في هذا، إذْ أنّه مصداق آيات صريحة وأحاديث صحيحة تدل على أن المستقبل لهذا الدين، وأنَّ بشائر النصر تلوح في الأفق، وقد بدأت تزهو وتزهر.
وهذا ما يدعونا جميعًا إلى التفاؤل الحسن والشعور بالنصر مهما طال الزمن أو قصر؛ لأن وعد الله حق.
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } .
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } .
وهو القائل سبحانه: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
لكن ومع هذا التفاؤل ومع تلك البشائر ومع قوة اليقين مع هذا كله فإن من الخطورة بمكان أن نغض الطرف عن الجوانب السلبية على حساب الجوانب الإيجابية، فهما كفتا ميزان متى غفل عن أحدهما أضرت بالأخرى، فمتى ما اشتغلنا بالجوانب الإيجابية، وأكثرنا التفاؤل، وقصرنا الجهود على هذا الشأن كان ذلك سببًا رئيسيًا لتكاثر الأخطاء واستفحالها، ومن ثمَّ عدم المقدرة على معالجتها إلاَّ بإضاعة الأوقات والجهود الكثيرة في إصلاح ما فسد، ولو أننا استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لما أغفلنا جانب الخطأ.
وقل مثل هذا في الجانب الآخر، وهو أننا متى تقاعسنا وثبط بعضنا بعضًا بسبب كثرة الشر، ونشاط أهله، وأننا لا نملك شيئًا نستطيع به التغيير، وأخذنا نلتمس الأعذار لفتورنا، وهلم جرا من التسويف والحجج الداحضة. فهذا أيضًا كسابقه ضرره عظيم وعاقبته وخيمة.
وبعد هذا يقال إنَّ مرض الطبيب أعظم من مرض غيره؛ لأنت مرض غير الطبيب مضرته قاصرة على صاحبها لا تتعداه إلى غيره.
أما مرض الطبيب فمضرته متعدية إلى غيره؛ لأنه بمرضه هذا سيمتنع عن علاج الآخرين وقد يحصل له ولهم ما لا تحمد عقباه من مضاعفات المرض والألم.
تصف الدواء لذي السقام من الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم(1/2)
ولذا وذاك كان لزامًا علينا أن يشد بعضنا على عضد بعض في مضاعفة جهودنا ومعالجة أخطائنا، لتقوى كلمتنا ويسمع صداها القريب والبعيد.
ومن هذا المنطلق: كتبت هذه الأوراق مبينًا فيها بعض المزالق التي تُسمع وتُرى في بعض الناس قد وقعوا فيها إما لحسن نية وإما لجهل للصواب فيها، وبعضهم – وهم قلة – لعناد وإصرار.
ولا يخالجنا – جميعًا – شك أو ريب – إن شاء الله تعالى – أنهم سيكونون من المسارعين إلى تركها والاقلاع عنها متى ما علموا خطأهم فيها؛ لأنهم – نحسبهم والله حسبيهم ولا نزكي على الله أحدًا – ممن يحرصون على إصلاح ذواتهم قبل إصلاح الناس.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تبارك في هذه الصحوة، وأن تزيد أهلها تألفًا وتقربًا، وأن تجمع كلمتهم على الحق، وأن تشفي صدورهم وتذهب غيظ قلوبهم، وأن تقر أعينهم بعز الإسلام والمسلمين وبدحر الشرك والمشركين.
آمين يا رب العالمين.
1- القناعة الذاتية المسبقة وعدم التنازل عنها
وليس ظاهر اللفظ مزلقًا بحد ذاته، بل الأمر يحتاج إلى تفصيل.
فهناك أشياء لابد من التسليم بها وعدم التردد فيها بل نتقرب إلى الله بالتسليم بها.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى.
«ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان..».
وبعد هذا يقال إن المراد هو القناعة الذاتية، وعدم التنازل عنها في الأمور التي تقبل الأخذ والرد على حسب ظهور الأدلة والقرائن وقوة الشواهد، وهذا الصنف من الناس الذي لا يقبل تنازلاً عن رأيه مع وضوح الحق في القول الآخر وظهور الباطل في قوله إنما يدفعه في ذلك الهوى والتعصب المقيت الذي يعمي البصيرة قبل البصر { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } .(1/3)
ولهذا فمنهج أهل السنة أنهم يذكرون ما لهم وما عليهم، وأهل البدع يذكرون ما لهم دون ما عليهم.
فليس عند أولئك الصنف من الناس ولو حتى قيد أنملة في التنازل عن قناعته الذاتية.
وهذا الصنف من الناس ممن أصروا على فعلهم وعنادهم وهم يعلمون.. نسأل الله أن يكفيهم شر النفس والشيطان.
2- الإفراط في حب بعض الأشخاص
وقبول كلامهم بالتسليم المطلق إلا ما ندر، والتماس الأعذار لتبرير أخطائهم مهما بلغت، بل والتغاضي عن سيئاتهم وجعل محبة هذا الشخص هي الحق بعينه، وفي المقابل الإفراط في بغض بعض الأشخاص وتتبع عثراتهم وحملها على أسوأ المحامل مع تناسي حسناتهم.
وهذا الولاء والبراء عقيم ومتها، وإذ أن ميزانه الهوى لا الحق، ومن كان هذا شأنه فلن يرى توفيقًا ولا سدادًا إلا إن نزع عن تلك النزعة الشيطانية التي زينت له سوء عمله: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ... } ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية عندما شخص هذا المرض في كلام له هذا معناه «ومن الناس من إذا أحب شخصًا تغاضى عن جميع سيئاته، ومنهم من إذا أبغض شخصًا تغاضى عن جميع حسناته، وهذا من أعمال أهل البدع كخوارج والجهمية».
وقال رحمه الله تعالى أيضًا:
«فمن جعل شخصًا من الأشخاص غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحبه ووافقه كان من أهل السنَّة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدع والفرقة – كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك – كان من أهل البدع والضلال والتفرق» (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 3/347، وانظر: أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى، ص103.(1/4)
2- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا «وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته في كل ما يريد، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل هذا من جنس فعل جنكيز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقًا وليًا، ومن خالفهم عدوًا بغيًا – وقال أيضًا – والواجب عليهم أن يكونوا يدًا واحدة مع المحق على المبطل، فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله» (1) .
3- قبول الشائعات بدون ترو أو تثبت، ومن ثمَّ إصدار
الأحكام وتوزيع الاتهامات، فيرفع أناسًا
ويضع آخرين بمجرد إشاعة بلغتهُ
وهذا خلل خطير، وبيان مدى خطورة ذلك الخلل يتضح في قعر تلك الأمور السلبية التي تلوث بأوحالها، وتدنس بأرجاسها: فمن ذلك:
اتهام الأبرياء وتبرئة المتهمين، وإطلاق عنان اللسان في الغيبة، والنميمة، وعدم التثبت عند سماع الأخبار.
بل والأدهى من ذلك والأَمَر:
عدم الرجوع أو التنازل عن أقواله إذا تبين له بطلان الشائعة وسقوطها.
فعند ذلك تأخذه العزة الأثم، ويزداد عنادًا واستكبارًا وهذا قد قيده هواها وشيطانه، فأصبح أسيرًا يُقاد ولا يقود.
نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يرزقنا الإقلاع عنها.
4- تأويل الخطأ وعدم التسليم
والرجوع عنه بعد تبين الصواب
وهذا المزلق يدخل ضمنًا والتزامًا في بعض المزالق المذكورة، ولكن إفراده دليل على أهميته وخطورته في الوقت ذاته. والشاهد من ذلك:
إن بعض الناس عندما يتبين له خطأه في مسألة ما ويتضح له أن الصواب على خلاف كلامه اتضاحًا كالشمس في رابعة النهار ليس دونها سحاب.
فإنه في هذه الحالة يجد صعوبة بالغة ومرارة عظيمة في الرجوع عن كلامه وسلوك طريق الصواب الواضح.
ويظن أن التنازل عن قوله وصمةُ عارٍ، تبقى في جبينه أبد الدهر – زعم -.
__________
(1) مجموع الفتاوى الجزء الثامن عن كتاب الطريق إلى الجماعة الأم.(1/5)
فما يكون منه إلا أن يلبس لباس الباحث عن الحق الذي لم تتضح له الصورة الواضحة، بل ويبدأ في جمع الأدلة بخيله ورجله على اختلاف تنوعها وبُعدها عن محور القضية؛ كل ذلك من أجل إقناع الآخرين أن الدافع له للإصرار والبقاء على رأيه هو كثرة الأدلة –مع علمه بأنها لا تشفع لقوله بالظهور فضلاً عن أنه الحق-.
بل ويزداد تسويل الشيطان له حتى يبدأ بالحديث عن حبه للحق وظهوره، وأنه يتمنى أن يتبين له الحق ولو كان في غير رأيه، ويبدأ في تزكية نفسه وإطرائها، وأنه مستعد للزوم الحق عند تبينه. { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } .
ومن كان هذا شأنه فليعلم أنه ممن يسعى إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل، وإن صلى وصام وزعم أن قصده الحق.
وما أحسن ما قاله الإمام ابن جماعة رحمه الله تعالى – عن قوله تعالى: { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } .
قال رحمه الله تعالى: «إن إرادة إبطال الحق وتحقيق الباطل صفة إجرام، فلُيحذر منه» (1) .
وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إن قضية «الاعتذار بعدم الفهم» من مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية، وناسب ذكر كلام الشيخ محمد رحمه الله تعالى في هذا الموضع؛ لأن من تأوَّل خطأه بعد ما علم ببطلانه وسقوطه.
وتذرع بعدم الفهم للصواب فإنه في هذه الحالة متشبه ببعض صفات أهل الجاهلية.
وبعد هذا أسوق هنا شيئًا من أخبار السلف التي تدل على ورعهم وحرصهم وحبهم للخير أينما كان، والتنازل التام القناعة التامة عن أي أمر يخالف الحق، بل والتقرب إلى الله تعالى بتنازلهم ذلك.
__________
(1) تذكرة السامع ص40.(1/6)
فمن ذلك ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً استفتاه في مسألة فأفتاه فلما ولى الرجل تنبه أبو هريرة إلى أنه اخطأ فذهب ليتدارك الرجل فلم يستطع فنادي في السوق أن أبا هريرة أفتى في مسألة كذا بكذا وأنه أخطأ في ذلك.
فأنظر أيدك الله كيف ألفى أبو هريرة تلك الحواجز الوهمية التي أغلقت الأبواب على بعض الناس وصدته عن الرجوع إلى الحق.
ومثال آخر وأخير ما ورد بين مالك وبين أبي يوسف عليهما رحمة الله عندما تناظرا في مقدار الصاع فلما ظهرت حجة مالك على حجة أبي يوسف قال أبو يوسف رحمه الله تعالى.
قد رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي – يعني أبا حنيفة – رحمه الله ما رأيت لرجع كما رجعت (1) .
فرحم الله أولئك الأفذاذ الذين كانوا من أسرع الناس إلى الرجوع إلى الحق عند تبينه.
* * * *
5- التعميم في إطلاق الحكم
ومثال لذلك أن بعض الناس عندما يبلغه خبر عن أمر خاطئ – بغض النظر عن صحته أو سقمه – عن شخص ما فإن ذلك السامع يصدر حكمًا عامًا يشمل كل من انتسب إلى صاحب الخطأ من بعيد أو قريب، بل وإذا تكلم عن أصحاب ذلك المخطيء وصمهم جميعًا، وجعل تلك القضية الخاطئة قاسمًا مشتركًا بين الجميع يا سبحان الله (فهلاَّ نملة واحدة)!
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نرى صورة مباينة في حالة بلوغه خبر عن أمر حسن.
فتجده يقصر المدح والثناء على ذات الشخص.
هذا إن سَلِمَ – ولا يكاد إلا من رحم الله – من لمز الآخرين بعدم الاقتداء بذلك الشخص.
الله نسأل أن يرزقنا الإنصاف في الحكم وأن يكفينا شرور أنفسنا والشيطان.
* * * *
6- كتم بعض الحقائق بحجة المصلحة العامة
وبادئ ذي بدء يقال أولاً:
ما ضابط المصلحة العامة؟ فربما ترى أنت أن في كتم الخبر مصلحة، ويرى غيرك أن في إشاعته مصلحة، فمع من تكون؟
هذا أولاً.
__________
(1) انظر الخبر كاملاً في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 21/54.(1/7)
وثانيًا: هَبْ أنَّ أخاك كتم هذا الأمر؛ لأنه رأى المصلحة في كتمه، فَلِمَ تشنع عليه وتتهمه بأمور هو منها بريء فيما يبدو ويظهر.
ثم لو شنع عليك في إشاعتك للخبر واتهمك بأمور أنت منها بريء فيما يبدو ويظهر فكيف يكون حالك؟
فما أنت قائله هو قائله، وما أنت متعلل به هو متعلل به:
خذ أنف هرشي أو قفاها فإنما
كلا جانبي هرشي لهن طريق
فالأولى بالمسلم ألا يتخذ قرارًا ما إلا بعد البحث والتروي وسؤال أهل العلم الراسخين، ومن ثمَّ بيان ما توصل إليه إلى مخالفيه بالتي هي أحسن طالبًا منهم التأمل في كلامه، ومشيرًا عليهم بالبحث والتأني، وأنه مستعد للتنازل عما توصل إليه إلى متى ما ترجح له غيره.
وإذا لم يرجعوا إلى ما توصلت إليه، ورأوا أن الحق خلافه، ولم يتضح لك أنت صواب فيما هم عليه.
وكانت الدلائل والشواهد واسعة تحتمل القولين كل بفهمه.
فحذار حذار من التحامل على الطرف الآخر، بحجة أنه لم يرضخ لرأينا ولم يأخذ بمذهبنا. بل المطلوب هنا التماس العذر له والدعاء له في ظهر الغيب بتبصيره لطريق الحق.
لكن الذي يخشى أن تكتم الحقائق مع أن إيضاحها فيه مصلحة بل مصالح شتى للمسلمين.
لكنه كتمها لهوى وافق نفسه فهذا هو محط الركب وبيت القصيد والشاهد من الكلام.
* * * *
7- سوء الظن
وسوء الظن فيه تفصيل:
فأما سوء الظن بالله فهذا محرم بلا ريب قال تعالى: { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .
أما سوء الظن بالمخلوق فله أحوال، منها أن يسيء الظن بمن هو معروف بعدائه للإسلام وأهله كالكفرة على اختلاف مللهم، فهذا لا غبار عليه؛ إذ أن الأصل فيهم العداء للإسلام، ولذا كان سوء الظن بهم متحتمًا لازمًا.(1/8)
أما إن كان من المسلمين فإن كان هناك قرائن تدل على عدم أمانته فالواجب هو الحذر وعدم قبول كلامه جزافًا حتى يتروى ويثبت منه.
أما إن كان من المشهود لهم بالخير، المعروفين بحب الحق واتباعه فيحرم إساءة الظن به؛ لأن الأصل العدالة والبراءة.
بل ويشتد الذنب إثمًا إذا كان الظان يعرف أن المظنون به قصده الحق، وأنه لم يقل إلا خيرًا، ومع ذلك لم يطب لنفسه الأمارة بالسوء إلا أن يتأول كلام ذاك ويحمله على أسوأ المحامل { وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا } .
8- ومن المزالق الخطيرة أيضًا ذلك الشعور الخفي
وهو أن يحسنَّ أنه أرفع شأنًا، ومنزلة
من بعض الآخرين
بحكم الإقليم أو النسب، هذه خصلة من خصال الجاهلية التي أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أنها باقية في أمته إلى قيام الساعةن فعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة...».
ولذا فليعلم الذي يتعصب لنسبه أو لأهل إقليمه ويجعلهم في منزلة دونها غيرهم، فإنه بهذا وقع في أربعة محاذير.
المحذور الأول: أنه تشبه بالشيطان في اعتزازه بأصله واعتقاده أن الأصل هو الميزان الفاصل.
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } .
المحذور الثاني: أنه اتصف بصفة من صفات الجاهلية؛ حيث جعل افتخاره بنسبه مميزًا له عن غيره.
المحذور الثالث: إن هذا المزلق الذي وقع فيه إنما هو مَشْرَبٌ من مشارب الدعوة إلى القومية، رضي بذلك أم أبى.
وإلا فالقوميون العرب مثلاً هم الذين يتعصبون للعرق العربي على اختلاف دياناته، فمظلة العروبة تجمعهم، وفيهم الميتة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع.(1/9)
المحذور الرابع: أنه ربما فضل – بل قد يفضل – من كان من عرقه وإقليمه وإن كان موسومًا بالفجور على من خالف عرقه وإقليمه وإن كان موسومًا بالصلاح وهذه قاصمة الظهر.
قال الألوسي رحمه الله تعالى: «والناس اليوم – والأمر لله – قد كثرت فيهم خصال الجاهلية فتراهم يعيرون أهل البلد كلهم بما صدر عن واحد منهم، فأين من ذلك خصال الجاهلية؟» (1) .
ولشيخ الإسلام كلام مفصل حول هذه القضية أجاد فيه وأفاد وكان مما قال رحمه الله تعالى: «وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة، والروم، والترك، وغيرهم: سابقون في الإيمان والدين لا يحصون كثرة. على ما هو معروف عند العلماء. إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان والعلم باطنًا وظاهرًا.
فكل من كان فيه أمكن كان أفضل. والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة. مثل الإسلام، والإيمان، والبر، والتقوى، والعلم، والعمل الصالح، والإحسان، ونحو ذلك لا بمجرد كون الإنسان عربيًا أو عجميًا أو أسود أو أبيض ولا بكونه قرويًا أو بدويًا» (2) .
* * * *
9- العاطفة الجياشة
يقال أولاً جاء في تعريف العاطفة عند علماء النفس:
«أنها استعداد نفسي، ينزع بصاحبه إلى الشعور بانفعالات معينة، والقيام بسلوك خاص حيال فكرة أو شيء» (3) .
__________
(1) مسائل الجاهلية للشيخ محمد بن عبد الوهاب: تعليق الشيخ الألوسي ص130 رحمهما الله تعالى.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص145.
(3) المعجم الوسيط 2/608.(1/10)
وبعد هذا يقال إن ما يمر بالإنسان من العواطف تختلف باختلاف الأحوال، فتارة تجره عاطفته إلى البكاء، وتارة إلى الميل مع من تعاطف معه، بمعنى أن يترك ما كان عليه ولو كان حقًا لغلبة عاطفته عليه، وتارة يتغبط ويتوقد على شخص لم يره، ولم يسمعه لكن لأمر بلغه عنه هيج عواطفه فحكم تلك العاطفة جزافًا دون تروي أو تثبت، فيرمي مسلمًتا ببهتان هو بريء منه كبراءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
وجماع ذلك كله أن من العواطف ما هو محمود ومنه ما هو مذموم فما كان من العواطف له مسوغ في الشرع فهو محمود ومثال ذلك الغضب لله تعالى عندما تنتهك محارمه وكذا إذا غلبت الإنسان عيناه عند موت أحد ولم يقرن ذلك بنياحة أو شق جيوب، وأما تلك العواطف الهوجاء التي لا يميز صاحبها حقًا من باطل، بل ينتصر لما يوافق هواه ومشربه فهذه طامة عظيمة، غذ إنه يفسد في تلك الحال أكثر مما يصلح – أن أصلح -.
ولذا ترى بعض الناس يستشيط غيظًا، وتنتفخ أوداجه؛ وسبب ذلك أنه حكم عاطفته وجعلها الفيصل في قضاياه نعم، قد تغلب الإنسان عاطفته كما تقدم بيانه لكن عليه أن يسارع بالرجوع متى ما تبين له الحق، فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.
وأسوق مثالاً وقع في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - وبالتحديد بُعيد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك عندما قام عمر يخطب في الناس ويتوعد من قال إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات، وذلك لهول الفاجعة وشدة المصيبة التي ألمت به وبالمسلمين جميعًا.(1/11)
فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - وعمر - رضي الله عنه - يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } إلى قوله { الشَّاكِرِينَ } وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله انزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها – فقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا كر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى ألأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات» (1) .
قال ابن حجر: «وفي الحديث قوة جأش أبي بكر وكثرة علمِه» (2) .
فانظر – رعاك الله وسدد خطاك – إلى هذا الموقف العصيب الذي وصفه عروة بن الزبير بقوله: أصبح المسلمون يوم موت نبيهم كالغنم في الليلة المطيرة ليس لها راع.
ثم انظر إلى عمر وهو في قوة شخصيته وإيمانه كيف لم يتمالك نفسه لهول لموقف وخطورته!
ثم انظر إلى رباطه جأش الصديق، وقوة عزيمته وكيف تغلب على تلك الأمور كلها، ونَصر المسلمين بالقول الفصل الموثَّق بالبرهان الواضح.
وأخيرًا انظر كيف سارع عمر - رضي الله عنه - بالرجوع وتخلى عن تلك العاطفة عندما بلغه النص الشرعي الفاضل، فأين أناس تحكمت فيهم عواطفهم؟ فلله كم من عمل صالح أفسدوه، وكم من فاسد زادوه فسادًا.
أضف إلى ما سبق ما يترتب على شخصيته من اضطراب في معالجة الأمور، وفقدان الحكمة والروية، ونقد الآخرين له.
وأخيرًا وليس آخرًا الله نسأل أن يوفق الدعاة إلى كل خير وأن يكلل جهود الناصحين بالتوفيق دوعناك ربنا فأجبنا، واستهديناك فاهدنا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
__________
(1) انظر فتح الباري 8/145.
(2) فتح الباري 8/146.(1/12)
عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان
الرياض 1/5/1412(1/13)