عنوان الكتاب:
مرتكزات التضامن والوحدة
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة السادسة عشرة، العدد الواحد والستون محرم- صفر- ربيع الأول 1404هـ
ص -151- مُرْتكزَاتُ التّضامُن وَالوَحْدَة
للشيخ عطيّة محمد سالم المدرس بالمسجد النبوي والقاضي بمحكمة المدينة المنورة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم. وبعد:
إن الحديث عن التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية موفي حقيقته ومعناه حديث عن الإسلام، وعن الأمة الإسلامية.
إذ إن التضامن كما يقال على وزن تفاعل ولا يكون إلا بين أطراف متعددة تعمل متضامنة على تحصيل ما يضمن لها تحقيق سعادتها ويكفل لها متطلبات حياتها في عزة وكرامة. وحرية إرادة، وإقامة مجتمع فاضل تسوده العدالة وتظله الحرية ويعمره الأمن والرخاء.
وعليه فإن التضامن الإسلامي بهذا المعنى هو بعينه الدعوة إلى الإسلام بكل معانيه وتعاليمه ومناهجه.(1/1)
بل إن مفهوم التضامن هو نتيجة حتمية لدعوة الرسل جميعا الذين دعوا أممهم لعبادة الله وحده والالتفاف حول ما دعوهم إليه، والالتزام بما جاءوهم به من عند الله كما قال صلى الله عليه وسلم "نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد". وقوله سبحانه في دعوة إبراهيم- عليه السلام- وإسماعيل في رفع بناء البيت: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفي لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون}.
وبعد محاجة اليهود والنصارى وابطالها أمر سبحانه المؤمنين أن يعلنوها صريحة: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}.
ص -152- فالدعوة إلى التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية دعوة إلى الإسلام الذي دعت إليه جميع الرسل في جميع الأمم .
تعدد الدعوات المعاصرة:(1/2)
والدعوة إلى التضامن الإسلامي ووحدة العالم الإسلامي قد جاءت في هذا العصر الذي كثرت فيه الدعوات وتميزت فيه التكتلات، واختلفَت فيه مناهج الحياة وكل حزب بما لديهم فرحون. وقد غشيت العالم الإسلامي من هذا كله سحب معتمة حجبت عن الكثيرين أضواء الحقيقة. وغزت عقولَ المسلمين حملات فكرية مشككة أوقعت العوام في حيرة وتركتهم في متاهة. تشتت فيها الصفوف وتفرقت فيها الكلمة وضاعت فيها الشخصية الإسلامية السليمة فطمع فيهم العدو وعجز عن مساعدتهم الصديق.
فاغتصبت بلادهم، ونهبت ثرواتهم، ودنست مقدساتهم. وعجز العالم كله ماثلا في المنظمة العالمية (هيئة الأمم) أن يفعل لنا شيئا مهما كان الحق واضحا والظلم فادحا. وأصبحنا على كثرة عددنا نكاد لا يعبأ بنا فتخلفنا عن مكانتنا المرموقة وتخلينا عن مواقع قيادتنا الحكيمة.
بل أصبحنا تبعا لغيرنا وبدون اختيارنا. الأمر الذي جعل المخلصين من ولاة أمورنا يبحثون عن الشخصية الإسلامية الضائعة وعن المنهج العملي الصالح ويتطلبون أقوم السبل التي تعيدنا إلى ما كنا علَيه وترد لنا حقوقنا وتخلصنا من تبعيتنا لغيرنا ونصبح حيث وصفنا الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.
فأيقن أولئك المخلصون أن لن يصلح آخر هذه الأمة إلا الذي أصلح أولها ألا وهو العودة إلى الإسلام وليست تلك الدعوات الزائفة ولا المفلسفة فدعوا إلى التضامن الإسلامي والوَحدة الإسلامية.
وكان من فضل الله وتوفيقه أن يكون انطلاقها من مهبط الوحي ومنطلق الرسالة يقودها خادم الحرمين الشريفين وتتبناها رابطة العالم الإسلامي برحاب بيت الله تعالى.
ص -153- ثم يأتي هذا المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة فينعقد وللدورة الثانية في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي انطلق منها الغزاة والدعاة على السواء.(1/3)
وموضوعه الآن: سبيل الدعوة الإسلامية إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين وقد حددت أهداف هذا المؤتمر في أهداف نبيلة بناءة واضحة وافية وهي كالآتي:
أهداف المؤتمر:
جاءت أهدافه محددة في خمس نقاط وهي:-
1- تبصير الأمة بالطريق الذي رسمته الدعوة لتحقيق التضامن والوحدة لتعود كما كانت وكما يريد لها دينها أن تكون {واعتصموا بحبل الله}. {إن هذه أمتكم أمة واحدة}.
2- تعميق الانتماء والولاء للأمة الواحدة عقيدة وسلوكا، والتجاوب مع مقوماتها من الأخوة والولاية، والتضامن، والاعتزاز بما اختصها الله به من الخيرية {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
3- إيجاد رأي عام إسلامي قوي يعي عن إيمان وبصيرة على هدى الكتاب والسنة حقيقة التضامن والوحدة، ويربط حركته بهما في كل جوانب الحياة واتجاهاتها.
4- تحكيم شريعة الإسلام بين جميع المسلمين والتسليم بما حكم به.
5- أن يتحقق للأمة الإسلامية ما تسعى إليه من التقدم والقوة، وأن يراها العالم في مكانتها التي يجب أن تكون فيهَا لكي تعطي ذلك المكان ما هو مفتقر إليه لتصحيح أوضاعه وإصلاح حيا ته.
وهذه الأهداف كلها تلتقي مع العمل الجاد الأكيد الشامل لكل الأفراد وعلى مختلف المستويات للانضواء تحت راية الدعوة إلى التضامن الإسلامي وتطبيقه عمليا على واقع حياتنا وفي منهج سلوكنا.
وقد وضعت عناوين لمواضيع مختلفة كفيلة بتحقيق هذه الأهداف بلغ عددها الثلاثين عنوانا...
ص -154- ومنها ومن أهمها الموضوع الثاني بعنوان مرتكزات التضامن والوحدة وبما أن المرتكزات في كل شيء وهي جمع ركيزة ما تكون بمثابة القواعد والأسس التي يقوم عليها وظهرت لي أهمية العناية بهذا الموضوع أحببت الكتابة فيه آملا التوفيق والسداد ومن الله تعالى العون والتأييد...
تمهيد بين يدي الموضوع:(1/4)
إن المتأمل لتاريخ الدعوات التي ظهرت في المجتمع الإنساني أيا كان شعارها وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وبالأخص في دول المنطقة فإن لكل دعوة مرتكزات ترتكز عليها، ومنطلقات تنطلق منها. وقد تزيف أو تفلسف بما يوهم العامة ويغريهم بها.
من ذلك الدعوة إلى القومية فإنها ترتكز على الجنس والعنصر ولا تبالي بالمبادئ ولا بالعقائد، أشبه ما تكون بدعوى الجاهلية من التعصب للقبيلة ويكفي لفساد هذه الدعوة أنها كانت ولا تزال السبب في تمزيق الأمم التي تظهر فيها وأول خطر منها على العالم ضياع الدولة العثمانية إذ عمل اليهود على إثارة الأتراك ضد العرب وحرضوهم على اختصاص تركيا بالأتراك، فكانت ثورة (أتا ترك) وضياع الخلافة العثمانية وتمزيق العالم الإسلامي دويلات.
وفي أوروبا القومية الجرمانية وغير ذلك.
وآخر الويلات التي جاءت بها دعوة القومية تقسيم قبرص بين الجنسية التركية والجنسية اليونانية.
ومما يندى له الجبين ما سمعته في نجيريا في رحلة داخلية ضمن بعثة الجامعة الإسلامية مع الزعيم الراحل أحمد بلو أنه أثناء الحرب الفلسطينية جهزت سفينة حربية لتتجه إلى فلسطين لإنقاذ القدس فسمع المسؤولون التنادي بالقومية العربية وأن على العرب حماية القدس وعليهم مسؤوليتها، فقال المسؤولون هناك إذا كانت القضية الفلسطينية قضية عربية وليست إسلامية فلسنا بعرب وأمروا السفينة بالعودة.
ومن ذلك الدعوة إلى الوطنية. وكان من سوء نتائجها على الشعب البريطاني صاحب المدنية والحضارة حينما طرد عيدى أمين جميع الرعايا البريطانيين من بلده امتنع الشعب البريطاني في بريطانيا أن يقبلهم بدعوى أنهم استوطنوا غير وطنهم. إلى غير ذلك مما شهده العالم أخيرا.
ص -155- وكل تلك الدعوات مع خطورتها فإنها محدودة الأفق محصورة الموطن مهزوزة المرتكزات لم تلبث أن تنهار فتنهدم بأصحابها.(1/5)
وبعض تلك الدعوات قد تأباها فطر البشر فتفرض عليهم بقوة السلطة كالاشتراكية والتمييز العنصري، فتسلب الفرد أخص خصائص الإنسانية وهي حرية الاختيار، وتعطيل الإرادة وإهدار الكرامة.
أما دعوه التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية:
فهي دعوة تتفق تماما مع فطرة الإنسان التي فطره الله عليها وتساير طبيعته كل المسايرة وتتجاوب مع جبلته إلى أعماق نفسه.
ولهذا فلقد لمست شفاف القلوب واستجابت معها العواطف. فبرزت بين تلك الدعوات العديدة وكتب لها البقاء وقوبلت بقبول حسن لأنها ارتكزت على مرتكزات أصيلة وعميقة وعملية واقعية لم تخرج عن طبيعة الإنسان ولم تغاير عقيدته الإسلامية ولم تصطدم مع واقع حياته التي يحياها في هذا العالم. وهذا هو الإطار الكلي للفرد المسلم وللمجتمع الإسلامي.
وتتلخص تلك المرتكزات في نظري في ثلاثة أمور:-
(1) سنة الحياة وتكوين الإنسان.
(2) منهج التشريع الإسلامي جملة وتفصيلا.
(3) الواقع السياسي والوضع الاجتماعي الذي نعيشه مع العالم حولنا...
ولكل مرتكز من هذه المرتكزات معطياتها، وفعاليتها لو تأملها كل عاقل ومسلم لما حاد عنها ولبادر إلى الانتماء إليها ولعرف أنها هي السبيل الوحيد التي تحقق له كل ما يتطلع إليه من استرجاع حقوقه المسلوبة والحاقه بأمجاد أسلافه.
وسنحاول بعون الله تعالى وتوفيقه بيان كل مرتكز من هذه الثلاثة ومدى عطائه لدعوة التضامن والوحدة...
وإني لآمل أن أكون بهذا العمل المحدود وجهد الطاقة حسب ما أجتزؤه من الوقت وأزاحم به من الأعمال قد أسهمت ولو بأيسر اليسير بين الثلاثين موضوعا ومن بين العديدين من أفاضل الكتاب الذين تمكنهم ظروفهم من الاستيفاء والاستقصاء وبالله التوفيق...
ص -156- المرتكز الأول: تكوين الإنسان وسنن الحياة:
قام تكوين الإنسان على أن يكون تعاونيا متضامنا مع غيره لا انعزاليا منفردا بنفسه. ولعل معنى إنسان من الإيناس.(1/6)
ففي تاريخ هذا الإنسان لم يستطع الإنسان الأول وهو أبو البشر آدم عليه السلام أن يعيش وحده ولو كان في جَنة الفردوس. فخلقَ الله له من نفسه زوجة يسكن إليها {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها}. (الأعراف: 189).
قال ابن كثير في تفسيره (ج1 ص79) ويقال إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشا ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها من أنت؟.
قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟. قالت: لتسكن لي...
وذلك ما يشعر بأن تكوين الإنسان أساسا تكوينا جماعيا تعاونيا.
ثم بعد هبوطه إلى الأرض كانت حاجته أشد إلى من يعاونه فيها فبدأ بالإنجاب وتزاوج الأولاد وإيجاد الأجيال والحفاظ على بقاء النوع. ومن ثم تقاسم أعباء الحياة.
ثم كانت الجماعة البشرية أمام العوامل الكونية التي اضطرتها اضطرارا على التضامن والتعاون والاتحاد لتواجه مجتمعة تلك العوامل التي لا يستطيع الفرد أن يواجهها كحماية أنفسهم من المخلوقات المتوحشة وكتذليل الصعاب في الأرض لاستنبات نباتها، واستحصاد زرعها، واستخراج كنوزها، وتصنيع موادها مما يحتاجونه في حياتهم على هذه الأرض.
ثم بعد انتشار الجماعة وتكاثر الجماعات جاءت التنظيمات الجماعية التي تميزت فيها التخصصات الميدانية وتخصص لها بعض أفراد الجماعة.
1- فتميز مثلا مجال الاقتصاد من مآكل وملبس ومسكن وتخصص له رجال يعملون وينتجون ما يوفر للجماعة حاجتها الاقتصادية.
2- وتميز مجال الدفاع وحفظ الأمن، وتخصص له عسكريون ومدافعون.
3- وتميز مجال الطب والعلاج وتخصص له أطباء ومعالجون.
ص -157- 4- وتميز مجال التعليم وغير ذاك من المجالات بقدر ما تستجد حاجة الأمة.(1/7)
5- ومن وراء ذلك كله السياسة والحكم والحكام والسياسيون مما هو في حكم الضرورة للجماعات البشرية ولا يمكن أن تقوم كلها ولا بعضها إلا بتعاون الأفراد بعضهم البعض بل إن كل تلك المجالات ذات الاختصاصات لا يمكن أن تقوم واحدة منها منفردة بدون معاونة مع الآخرين.
وإنا لنلمس ونشاهد ذلك في عالمنا المعاصر في جميع مؤسساته وفي مجموعها فيما بينها. ففي جميعها نجد أن كل مؤسسة تشتمل رئيسا ومرؤوسين وجميعهم من القاعدة إلى القمة كل في موقعه يؤدي واجبه. ولا غنى لرئيس عن مرؤوس.
وكذلك فيما بين تلك المؤسسات كل منها تؤدي دورها في خدمة المجتمع مما لا تؤديه غيرها. وكل منها خادم ومخدوم في دائرة التعاون والتضامن كما قيل:
الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فسنة الحياة تلزم الأحياء أفرادا وجماعات بالتضامن معا، وقد امتد فشمل هذا المرتكز الطبيعي جميع دول العالم كله اليوم طوعا أو كرها سواء كان في السلم أوفي الحرب.
عن طريق تبادل منافعهم فيما بينهم فعند هذه سلع وإنتاج ولتلك حاجة ماسة إليها وقد قامت السوق الأوربية بين دول أوربا بتنظيم هذه العلاقة بسبب تفاوت الثروات الطبيعية والكفاءات البشرية. فالسلعة التي تفيض عند هذه تحتاجها تلك وكذلك العكس وهلمّ جرا.
ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش في معزل عن العالم حيث ارتبطت كلها بمصالح مشتركة فهي تسير في نظام تضامن إلزامي تمليه ظروف الحياة وتطورات العالم وعلى سبيل المثال ترابط العالم في تسيير الخطوط الجوية والخدمات البريدية، والأعمال المصرفية، والإصدارات المالية، والتمثيل الدبلوماسي وغير ذلك مما له الصبغة العالمية.
ولا يبعد من يقول إن هذه السنة الكونية التعاونية ليست قاصرة على الإنسان بل هي أيضا موجودة في عالم الحيوانات والحشرات ولا أدل على ذلك من عالم النحل والنمل.(1/8)
وعلى هذا فإن هذا المرتكز التضامني فطري كوني وهو إلزامي جبري ليس للإنسان فيه اختيار ولا له عنه استغناء.
ص -158- فإذا كان هذا المرتكز الفطري يقر في إطار إسلامي، وكانت دعوة التضامن من هذا المنطلق دعوة فطرية تساير الفطرة وتساندها طبيعة الحياة.
وإذا كان لابد للإنسان أن يتضامن مع غيره ولكل جماعة أن تتعاون مع غيرها على أي مبدأ كان سواء كان عنصريا بالجنس أو وطنيا بالموطن أو اقتصاديا بالإنتاج أو عسكريا بالأحلاف فلأن يكون باسم ومنهج الإسلام من باب أولى حيث أنه منهج التعاون على البر والتقوى. وأن الخلق كلهم عباد لله والأرض كلها له سبحانه...
ا لمرتكز الثاني: منهج التشريع الإسلامي:
ولكي نحدد معالم هذا المنهج نعود إلى مدلول التضامن والغرض منه وهو أن يجد الإنسان فردا كان أو جماعة ما يضمن له حياة أفضل يتوفر له فيها ما ينقصه، ويسلم فيها مما يضره ومعلوم أن هذين المطلبين جلب النفع ودفع الضر هما مطلب كل عاقل كما قيل:
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع
أي يضر عدوه أو ينفع صديقه.
ومنهج الإسلام شامل لهذين المطلبين ومعهما الحث على مكارم الأخلاق وهو مطلب إنساني كما قال أكثم بن صيفي حين بلغه أمر ظهور دعوة الإسلام فأرسل ولده ليأتيه بخبر محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فرجع إليه وقال له: إنه يأمر بصلة الرحم وصدق الكلم وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وينهى عن كذا وكذا...
فقال أكثم: إنه والله يا بني إن لم يكن دينا فهو من مكارم الأخلاق.
وقد شرع الإسلام عقود المعاملات لجلب النفع وتبادل المصالح لتوفير حاجيات الإنسان. من مطعم وملبس ومسكن في صناعة وزراعة وتجارة.
كما شرع لدفع الضر تحريم كل ضار بجواهر الحياة الخمسة- الدين- النفس- العقل- النسب والعرض. والمال. وجعل فيها حدودا رادعة وزاجرة.(1/9)
كما أرشد ووجه لمكارم الأخلاق في الروابط الاجتماعية ابتداء من حقوق الزوجين وبر الوالدين. وحسن المعاشرة من العفو عن المسيء والإحسان والإيثار على النفس وغير ذلك، وكذلك روابط الجوار وصلة الأرحام وكفالة الأيتام ومساندة الضعفاء. وعموم التعاون على البر والتقوى.
ص -159- وتظهر صور التضامن والوحدة في منهج الإسلام مفصلة ابتداء من العقيدة السليمة ثم العبادات التي هي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. فجميع المسلمين يلتقون على عبادة الله تعالى وحده وبالوجه الذي يرضاه.
وهذا المنهج قد ربط بين جميع الأمم الإسلامية كما قالي تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}. فهي وحدة دينية تربط الحق بالخلق في إطار التشريع الإسلامي.
وكما تقدم قوله تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
وعقيدة التوحيد هي المرتكز والتي يجتمع عليها العرب والعجم ويستوي فيها الغني والفقير والكبير والصغير ويلتقي عليها من بالمشرق بمن بالمغرب. وهى العقيدة التي تحرر الإنسان من استعباد الإنسان ومن طغيان المادة وعوامل الطغيان لأن الفرد بإحساسه بأن جميع الخلائق عباد لله ملتزمون بأوامر الله.
وفي العبادات تتجلى هذه الصور عمليا بصور ملموسة وذلك كالآتي:-
(1) ففي الصلاة:
أ- وحدة التوقيت مرتبطة بحركة كونية من طلوع الشمس إلى غروبها.
ب- واستجابة النداء حي على الصلاة حي على الفلاح الله أكبر: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}.
{إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.
ج- وحدة الوجهة إلى مركز العالم كله إلى البيت الحرام: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شَطره}.(1/10)
تبدأ هذه الوحدة في استدارة حول الكعبة ثم تتسع حتى تشمل أقطار العالم شرقا وغربا شمالا وجنوبا.
(2) وفي الصيام:
أ- وحدة الزمن في الصوم بشهر واحد للجميع: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.
ص -160- ب- وحدة الشعور بالتعاطف والتراحم- يبدأ بالإمساك وينتهي بالإطعام وإخراج الفطرة طعمة للمساكين وطهرة للصائمين.
(3)- أما الزكاة:
أ- فهي تضامن إلزامي يربط مختلف الطبقات بعضها ببعض ويقارب بين من باعدت بينهم المادة ويجمع بين من فرق بينهم الغنى والفقر حيث يلتزم الغني بإخراج زكاة ماله: {وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}. {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم}.
فالزكاة طهرة للنفوس من شح الأغنياء وحسد الفقراء، وزكاة للمال فلا تنقص وتصون المجتمع من حرب الطبقات وغزو الدعايات.
أما الحج وهو الركن الأعظم:
فهو عين التضامن ومظهر الوحدة في أظهر الصور وأقوى المعاني يفد الحجيج من كل فج عميق ملبين الداعي لحج بيت الله العتيق. مجددين العهد القديم مستجيبين نداء إبراهيم- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- يخرج الحاج من أهله ودياره مفارقا زوجه وصغاره حتى يأتي الميقات فيتجرد من ثيابه متخليا عن مظاهر دنياه. مُتدثرا رداءه وإزاره متهيأ لحال أخراه.
هناك يعود الحجيج على مختلف ألوانهم وتباعد أقطارهم وتعدد لغاتهم يعودون إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها. وتعود إليهم فطرتهم التي ابتعدوا عنها فطرة الوحدة والإخاء والمساواة. فيستوي غنيهم وفقيرهم وأميرهم ومأمورهم. ويستوي عربيهم وعجميهم. وقاصيهم ودانيهم وحدة في الشكل والصورة ووحدة في الهدف والغاية يهتفون لبيك اللهم لبيك.(1/11)
ب- وفي أرض عرفات في ذلك المشهد الفريد في تاريخ البشرية حاضرها وماضيها حواضرها وبواديها. مشهد يذكر بالماضي في عالم الذرة، حين أخرج الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}.
مشهد ينبههم لمستقبلهم يوم يجمع الله الخلائق ويحشرهم حفاة عراة. مشهد تذوب فيه فوارق الجنس والعنصر واللون وتتجلى فيه وحدة الأصل (كلكم لآدم وآدم من تراب). مشهد تفتح له حدود الأقاليم والأقطار والدول: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.
ص -161- مشهد تلتقي فيه الأشباح وتتعانق فيه الأرواح {ليشهدوا منافع لهم}.
جـ- وفي منى يلتقي الجميع على موائد الهدى والإخلاص فيأكلون ويطعمون {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتمر}.
أمانة الدعوة: ومن هناك يتحملون أمانة الدعوة والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حملها أصحابه لمن بعدهم: "بلغوا عني ولو آية". "رب مبلغ أوعى من سامع ". فيرجع الحجاج بمثابة السفراء إلى بلادهم الدعاة إلى ربهم وقد تعارف كل منهم على الكثيرين من إخوانهم ووثقوا عرى الأخوة والولاء، قد ينتج عنها زيارة وصلة ونحو ذلك.
الاجتماعيات:
وكما ظهر مدى التضامن والوحدة في العبادات يظهر كذلك وبقوة في مجال الاجتماعيات لأن الإسلام أقام المجتمع الإسلامي على قواعد مثالية عالية ترتفع عن مقاييس المادة والمعاوضة إلى حد البذل والإيثار.
أ- ففي أصل تكوين المجتمع توجد المساواة في المبدأ: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}. ففيها وحدة الإنسانية جمعاء.
ب- وفي تكوين الأسرة التي هي لبنة بناء المجتمع. أقامها على روابط المودة والرحمة: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}. وجعل معادلة بين الزوجين غاية في تضامنهما: {ولهن مثل الذي عليهن}.(1/12)
فإذا جاء الأولاد: قابل بين عاطفة الأبوة بإيجاب بر البنوة وجعلها وفاء بحق قد استوفاه الأولاد من قبل {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}. ثم أظهر مدى حق الوالدين حين قرنه بحقه سبحانه في قضاء مبرم. {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}. ثم إن الولد سيستوفي مثل هذا الحق من أولاده إن هو أداه لأبويه. وهكذا دواليك.
جـ- ثم هو يراعي هذا الصنف من الناس الذي حرم رعاية الأبوين وذاق بؤس القطيعة وذل العزلة ألا وهو اليتيم فكفله بالرعاية وأحاطه بالحنان وجعل صلى الله عليه وسلم لكافله أعلى المنازل في الجنة.
وهذا من أقوى دلائل التضامن الإسلامي في المجتمع الإنساني. لأنه يطيب نفس الأب على ولده إذا حضرته الوفاة بأن المجتمع كافل له ولده.
ص -162- ثم إن هذا الولد اليتيم المكفول اليوم سيصبح غدا رجلا ويكفل يتيماً غيره.
د- ثم يفسح المجال خارج نطاق الأسرة فيأتي للجوار فيقول صلى الله عليه وسلم : "الجار أحق بصقبه ". "ولا يزال جبريل- عليه السلام- يوصيه بالجار حتى ظن صلى الله عليه وسلم أنه سيورثه ".
هـ- ثم يربط العالم كله برباط النصح والإخلاص ومحبة الخير "الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله. قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
و- فتكون النتيجة ترابط العالم الإسلامي كالبناء الحصين "مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد". "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا" فأي تضامن بعد هذا وأي وحدة بعد هذا وأي وحدة تضاهي ذلك.
ومن هنا حمل الإسلام جماعةَ المسلمين مسوؤلية الحفاظ على تلك الوحدة وعلى هذا التضامن في السلم وفي الحرب أفراد أو جماعات.
(1) {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}. الآية...
(2) "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ".(1/13)
"كلكم راع وكل مسئول عن رعيته ".
{وتعاونوا على البر والتقوى}.
وفرض حقوقا عامة على كل مسلم لأخيه المسلم: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه. وإذا دعاك فأجبه. وإذا عطس فحمد فشمته. وإذا استنصحك فانصح له. وإذا مرض فعده. وإذا مات فشيعه ".
وتلك حقوق متبادلة بين الأفراد يتقاضونها فيما بينهم وقد استوعبت كامل وضع الإنسان من أول لقائه بالسلام عليه إلى آخر وداعه بالتشييع إلى مثواه الأخير.
ربط الإيمان بالمحبة والمودة والعاطفة والرحمة بينهم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه ".
وحرم الجنة عليهم حتى تسودهم المحبة: "لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا".
فالدعاة إذا ما ركزوا دعوتهم إلى التضامن الإسلامي والوحدة الإسلامية على منهج الإسلام كان تركيزا قويا ينطلق من عواطف وشعور كل مسلم حيث يحقق للجميع أفرادا وجماعات كل ما يسمو إليه دون أن تعترضه العقبات ولا تكدره الشبهات.
ص -163- وهناك مجال الحكم في سلطاته الثلاث:
السلطة التشريعية. والسلطة القضائية. والسلطة التنفيذية، وهذه السلطات الثلاث وإن كانت بصورها موجودة في كل دولة إلا أنها في الإسلام تتميز بصبغة خاصة تضفي عليها بهاء الرفق ورونق الإحسان.
فالسلطة التشريعية في كل أمة هيئة متخصصة تنظر في ظروف وملابسات حياة الأمة فتشرع لها ما تراه صالحا.
ومهما يكن من شأن هذه الهيئة وتخصصاتها فهو عمل بشري جائز عليه الخطأ والصواب وهو ما يشهده العالم من طروء التغيير والتبديل فقد يكون ما رأوه اليوم يكون غير صالح في الغد.
وإن ما يطرأ على تلك الهيئات من سياسة داخلية واتجاهات فكرية قد تؤثر عليها إلى غير ذلك.(1/14)
بينما التشريع في منهج الحكم الإسلامي مرجعه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمختصون للتشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العلماء ورثة الأنبياء فإذا ما لزم نظروا تشريع لمستجد في الحياة فإنهم لن يخرجوا عن المنهج الإسلامي في حدود ما أنزل الله من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد نوّه القرآن الكريم إلى أصل هذه السلطات وإلى تميزها عما سواها. في قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزي} فإرسال الرسل بالبينات من ربهم، وإنزال الكتاب لتشريع مناهجهم والميزان للعدالة...
والسلطة القضائية، ليقوم الناس بالقسط إذ القضاء تطبيق للمنهج التشريعي.
وأنزل الحديد إشارة إلى السلطة التنفيذية وأداة لنصرة دين الله فيكون المجتمع الإسلامي تحت سلطة حكم عادلة قوية حكيمة وأساس الحكم في البشر إنما هو لله خالقهم لا سواه، وهو أعلم بمصالحهم وما يصلحهم. فهو كالعبادة سواء في قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن كثر الناس لا يعلمون}. (يوسف:40).
ومن هذا المنطلق في الحكم كان الظلم في غيره محققا في أي حكم سوى حكم الله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}.
ص -164- وفي مقابل ذلك لا يتم إيمان العبد حتى ينزل على حكم الله راضيا مسلما تسليما:
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. (النساء: 55).(1/15)
ومن هذا المنطلق فان ارتكاز دعوة التضامن إلى منهج التشريع الإسلامي وفي ظل الحكم بما أنزل الله تكون دعوة ممتدا سببها بالله لا تلاقيها صعوبات ولا تعطلها عقبات وهي دعوة مضمون لها النصر من عند الله: {إن تنصروا الله ينصركم. ويثبت أقدامكم}. مضمونة نتيجتها للأمة سعادة في الدنيا وفلاحا في الآخرة.
المرتكز الثالث: واقع الحياة الذي نعيشه والتيارات السياسية التي حولنا:
من الواضح البين حالة العالم السياسي والسياسة التي فرضت على الجميع وألزمت العالم كله العيش ضمن تكتلات سياسية، وأحلاف عسكرية واتفاقيات اقتصادية. وليس بوسع أي دولة أن تعيش وحدها في معزل عن هذا العالم بعيدة عن تلك التكتلات لقوة ترابط الدول بعضها مع بعض شاءت أم أبت.
ولم تعد السياسة مجرد تنظيم لعلاقات الدولة في الخارج بل أصبح الداخل مرتبطا بالخارج في السلم وفي الحرب عن طريق الإنتاج والتسويق. فهي منافع مشتركة ومصالح متبادلة. توثقت باتفاقيات عالمية أو ثقافية وأحلاف عسكرية. وأهم ذلك كله الأحلاف العسكرية لأنها لحماية الدولة بكل مرافقها والداعي لكل ذلك من اتفاقيات وأحلاف هو شعور تلك الدول بالضعف وبالحاجة إلى تضامنها بعضها مع بعض وذلك منذ الحرب العالمية الأخيرة حيث كانت عصبة الأمم لدولة أوروبا ضد هتلر والنازية لعجز تلك الدول منفردة عن مقاومتها.
وبعد عصبة الأمم جاءت هيئة الأمم وضمت دول العالم على أمل الحياة في أمن وطمأنينة. ولكن هيئة الأمم لم تحقق للعالم ما أمله فيها حيث أقيمت في بادئ أمرها على التخصيص والامتياز فمنحت الدول الكبرى حق النقض (الفيتو).
ومن العجب أن يمنح هذا الحق للدول القوية التي تستطيع أن تظلم وأن تتعدى مما يصعب معه استخلاص حق المظلوم أو استرجاع حق مغصوب.
وكان الأولى لو أجيز ذلك أن يعطى للدول الضعيفة لترد به عن نفسها.
وأن أحداث التاريخ وخاصة في الدول النامية لتشهد بذلك.(1/16)
ص -165- قامت جامعة الدول العربية وكان قيامها مظهرا من مظاهر تضامن دول المنطقة مهما قيل عن أسباب قيامها.
وكل تلك الهيئات والمؤسسات العالمية لم تستطع استتباب الأمن ولا منح الطمأنينة للعالم فنشأت تكتلات وأحلاف عسكرية انطلقت في سياق التسلح النووي بما يهدد العالم كله بالدمار. وذلك في حلفي الناتو وحلف شمال الأطلسي.
وانقسم العالم إلى معسكرين اقتصاديين شيوعي في الشرق ورأسمالي في الغرب وما بقي من العالم يدعى بدول عدم الانحياز.
ولكن عدم انحيازه لم يعزله عن غيره ولم يبعده عن الخطر ومن ثم أوجد لنفسه ارتباطات فيما بينه وعقدت له عدة مؤتمرات لدراسة وضعه ووضع التدابير لصالحه.
وآخر ما يكون ما حدث في المنطقة من قيام مجلس تعاون دول الخليج دفع قيامه واقع العالم السياسي وحاجة دول المنطقة إلى التعاون الأخوي وقد شمل عدة مجالات عامة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وثقافيا وإعلاميا. فهو أصدق صورة لما نرجوه للعالم الإسلامي من التضامن والوحدة.
ومع هذا كله فان هذه المؤسسات الدولية على اختلاف مناهجها وأشكالها فهي إما إقليمية محدودة وإما عالمية غير عادلة.
أما التضامن الإسلامي فليس هو بالتضامن المادي النفعي وإنما هو تضامن أخوي عاطفي إنساني ديني دعَا إليه الإسلام والتزم المسلمون بمضمونه ولا غنى لهم عنه.
"المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه، المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وتحت هذا الشعار واستجابة لهذا النداء: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} يدعوا دعاة التضامن بكل قوة ووضوح.
وحدة الأمة:
إن الوحدة والتضامن متلازمان ويلزم من وجود كل منهما وجود الآخر لأن الأمة المتحدة المتضامنة، والأمة المتضامنة، متحدة، وهذا من خصائص الإسلام ونتائج منهجه وتشريعه.
ص -166- ووحدة الأمة في نظر الإسلام وتعاليمه ترتكز على مرتكزين رئيسين :
(2) وحدة الجنس.
(2) وحدة العقيدة.(1/17)
ومن ورائهما عناية الله وإنعامه على عباده وامتنانه.
(1) أما وحدة الجنس ففي إرجاعهم إلى أبيهم آدم عليه السلام وأمهم حواء : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} ومن وراء هذا التعارف إخاء وتراحم: {إنما المؤمنون إخوة} وقد صور الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ معنى وحدة الجنس فقال في أبيات له:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
(ب) أما وحدة العقيدة فهي الوحدة المعنوية التي تقابل الوحدة الحسية لأن العقيدة عمل القلب لا علاقة لها بالجنس ولا باللون ولا بالمكان ولا بالزمان فيرتبط فيها جميع أبناء المعتقد الإسلامي فيؤمن أنه وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وآمن بما آمن به السلف الصالح ودعا إليه الكتاب والسنة، شعر يقينا أن كل من دان بذلك أنه أخ له في دينه وملتزم معه في تكاليفه فيرتبط آخر الأمة بأولها بل صالح هذه الأمة بصلحاء الأمم واقرأ قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم}.
{آمن الرسول بنما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}.
(ج) أما عناية الله في هذه الوحدة وإنعامه على هذه الأمة فهو من تأليف هذه القلوب وتقارب هذه النفوس يلقى المسلم أخاه المسلم من أقصى الدنيا وأدناها. فإذا هو يبادله التحية ويتبادل معه التعاطف. وذلك تحقيق لقوله تعالى : {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}.
وقوله تعالى: {لو أنفقت منا في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}. فهي نعمة امتن الله تعالى بها على هذه الأمة. وبعد امتنانه بها شرع ما يحفظها.وما يديمها فبعد قوله تعالى : {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله }.(1/18)
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابوا بالألقاب}.
ص -167- كما نهى عن سوء الظن وعن التجسس والغيبة. وهي كلها عوامل فرقة وتمزيق الوحدة بينما دعا إلى تقوية هذه الوحدة بالتراحم والتعاون وحسن الجوار وكل ما فيه معاني الإنسانية من عفو وتسامح إلى حد الإحسان إلى المسيء : {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
فهذه كلها روافد تصب في أصل أوجه الوحدة الإسلامية ترويها فتنمو على أثرها.
الخاتمة:
وإذا كانت دعوة التضامن الإسلامي كدعوة ظهرت في هذا العصر متميزة من بين الدعوات التي انطلقت في العالم وخاصة بين المسلمين. من قومية وطنية ومدنية ديمقراطية وشعارات متعددة.
فإن الدعوة إلى التضامن الإسلامي في هذا الوقت بالذات وبدت هذه الدعَوات والشعارات لهي أولى وأحرى للأمة الإسلامية لتعود بها إلى صميم دينها والحفاظ على كيانها وإثبات شخصيتها وتثبيت دعائمها على تلك المرتكزات الثلاث...
وإذا كانت في ظهورها ومنطلقها من خادم الحرمين الشريفين ومن جوار القبلة المشرفة قبلة وجهتهم ومهوى أفئدتهم فإنها بلا شك قد لامست شغاف القلوب المؤمنة وأيقظت شعور الشعوب المسلمة، ولا طقت عواطف كل مسلم في العالم فلقيت بحمد الله قبولا لدى الجماعات واستقبلت بترحاب من الأفراد.
ولا نزال نسمع كل حين وآخر بنتائج عظيمة حيث تنادي بعض الدول بالعودة إلى الإسلام والتزامها بتنفيذ أحكام الشريعة بدلا من القوانين التي كانت تسير عليها.
ومن ثم يلتقي قادة تلك البلاد بشعوبها وتلتف تلك الشعوب بقادتها وتواصل الأمة سيرها على نور الله.
واليوم ومن رحاب الجامعة الإسلامية ومن أرض المدينة المنورة مهد الدعوة ومنطلق الدعاة تتجدد تلك الدعوة من المؤتمر الثاني لإعداد الدعاة تنطلق في جدتها وجديد رونقها(1/19)
ص -168- وصفاء محاسنها بريئة من كل شائبة نزيهة عن كل غرض شخصي أو مادي بعيدة عن أي اتجاه سياسي أو فكر أجنبي مصطبغة بصبغة الله: {ومن أحسن من الله صبغة وتحن له عابدون} فإنها بحمد الله لتعلوا على الشبه وتسمو عن الشكوك وتحلق في سماء الحق معلنة أنها دعوة السلف وأمانة الخلف وأنه لا يصير آخر هذه الأمة إلا ما قد أصلح أولها وسما بسلفها قمة المجد.
كما أنها بارتكازها على تلك المرتكزات الثلاث التي أسلفنا وهي مرتكز طبيعة تكوين الإنسان وسنة الحياة. ومرتكز منهج التشريع الإسلامي. ومرتكز الحالة السياسية والوضع الاجتماعي الذي نعيشه. فإنها ترتكز على عوامل قبولها وتحمل دواعي بقائها.
كما تحقق للأمة الإسلامية كل مطالبها وتمكن لها ما أراده الله منها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم}. أي دعوة التضامن الإسلامي بما تشير إليه هذه الآية في نهايتها لم يقتصر نفعها على المسلمين فحسب بل وعلى أهل الكتاب لو آمنوا بها وأيدوها.
ثم بين تعالى ما لو تم للعالم الإسلامي اتحاده وتضامنه وأخذ الأعداء يكيدون له أنهم سيندحرون كما قال: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون}.
ونحن لا نبعد إلى هذا الحد ولا نفرط في التفاؤل أو نتطلع إلى غير المسلمين وإنما ندعو إلى تضامن الأمة الإسلامية تحت شعار الوحدة والإخاء
وإن دور الدعاة إبراز أهمية التضامن وضرورة الوحدة على ضوء كتاب الله وسنة رسوله ومحاسن الإسلام وحكمة التشريع ما أمكن ذلك.
فإن العالم الغربي اليوم في متاهة الحيرة وظلمة الضلالة ولو وجد ضياء من تعاليم الإسلام لبادر إليه.
ص -169- وليس بعيدا عنا إسلام (الدكتور المسيحي) في المؤتمر الطبي. لما رأى ما في الإسلام من تعاليم وما في القرآن من إعجاز الأمر الذي جعله يعلن عن إسلامه في قاعة المؤتمر عن قناعة وإدراك ومعرفة.(1/20)
وها هي الأعداد الكثيرة التي يعلن عن إسلامها في كثير من دول العالم. وفي هذه البلاد وفي المدينة بالذات لما يشاهدون من إخاء وتعاطف وتعاون وتراحم فالله الله في الدعوة إلى الله وإلى التضامن الذي هو التطبيق العملي لدعوة الإسلام: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
كما إنا لنهيب بالجهات المختصّة أن تمد يد العون وتبذل كل الجهد لمساعدة الدعاة إلى الله في دول العالم بما يستطيعون به القيام بواجبهم وأداء عملهم على الوجه الذي يرونه وتتطلبه دعوتهم في مراكز عملهم.
كما نأمل دوام انعقاد هذا المؤتمر وعلى فترات متقاربة لمدارسة أحوال الدعاة على ضوء واقع حياتهم وما يستجد أمامهم: وتقديم المساعدة إليهم قولا وعملا وبالله التوفيق.. وصلى الله وسلم وبارك على إمام المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم...(1/21)