والجواب على ذلك : أننا إذا تأملنا فعل العبد وحركته وجدناه ناتجاً عن أمرين إرادة أي اختيار للشيء وقدرة ، ولولا هذان الأمران لم يوجد فعل . والإرادة والقدرة كلتاهما من خلق الله سبحانه ؛ لأن الإرادة من القوة العقلية والقدرة من القوة الجسمية ولو شاء الله لسلب الإنسان العقل فأصبح لا إرادة له أو سلبه القدرة ، فأصبح العمل مستحيلاً عليه .
فإذا عزم الإنسان على العمل ونفذه علمنا يقيناً أن الله قد أراده وقدره ، وإلا لصرف همته عنه أو أوجد مانعاً يحول بينه وبين القدرة على تنفيذه. وقد قيل لأعرابي: بم عرفت الله؟ فقال بنقض العزائم وصرف الهمم .
الإشكال الثاني : الذي يأتي في مسألة القدر عن بعض الناس ، أن الإنسان يعذب على فعل المعاصي ، فكيف يعذب عليها وهي مكتوبة عليه ؟ ! ولا يمكن أن يتخلص من الأمر المكتوب عليه .
والجواب على ذلك أن نقول : إذا قلت هذا فقل أيضاً : إن الإنسان يثاب على فعل الطاعات ، فكيف يثاب عليها وهي مكتوبة عليه ؟ ! ولا يمكن أن يتخلص من الأمر المكتوب عليه ، وليس من العدل أن تجعل القدر حجة في جانب المعاصي ولا تجعله حجة في جانب الطاعات .
وجواب ثان : إن الله أبطل هذه الحجة في القرآن وجعلها من القول بلا علم فقال تعالى )سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) .
فبين الله أن هؤلاء المحتجين بالقدر على شركهم كان لهم سلف كذبوا كتكذيبهم واستمروا عليه حتى ذاقوا بأس الله ، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه ، ثم أمر الله نبيه ان يتحداهم بإقامة البرهان على صحة حجتهم ، وبين انه لا حجة لهم في ذلك .(8/90)
وجواب ثالث : أن نقول : إن القدر سر مكتوم لا يعلمه إلا الله حتى يقع ، فمن أين للعاصي العلم بأن الله كتب عليه المعصية حتى يقدم عليها ؟ أفليس من الممكن أن يكون قد كتبت له الطاعة ، فلماذا لا يجعل بدل إقدامه على المعصية أن يقدم على الطاعة ويقول : إن الله قد كتب لي أن أطيع .
وجواب رابع : إن الله قد فضل الإنسان بما أعطاه من عقل وفهم وأنزل عليه الكتب وأرسل إليه الرسل وبين له النافع من الضار وأعطاه إرادة وقدرة يستطيع بهما أن يسلك إحدي الطريقين . فلماذا يختار هذا العاصي الطريق الضارة على الطريق النافعة ؟
أليس هذا العاصي لو اراد سفراً إلى بلد وكان له طريقان أحدهما سهل وآمن ، والآخر صعب ومخوف ، فإنه بالتأكيد سوف يسلك الطريق السهل الامن ، ولن يسلك الصعب المخوف بحجة أن الله كتب عليه ذلك ، بل لو سلكه واحتج بأن الله كتب عليه لعد الناس ذلك سفهاً وجنوناً ، فهكذا أيضاً طريق الخير وطريق الشرسواء بسواء ، فليسلك الإنسان طريق الخير ولا يخدعن نفسه بسلوك طريق الشر بحجة أن الله كتبه عليه . ونحن نرى كل إنسان قادر على كسب المعيشة نراه يضرب كل طريق لتحصيلها ولا يجلس في بيته ويدع الكسب احتجاجاً بالقدر .
إذن فما الفرق بين السعي للدنيا والسعي في طاعة الله ؟ لماذا تجعل القدر حجة لك على ترك الطاعة ؛ ولا تجعله حجة لك على ترك العمل للدنيا .
إن الأمر من الوضوح بمكان ولكن الهوى يعمي ويصم .
أحاديث فيها ذكر الشباب
ولما كانت هذه الكلمات تدور حول مشاكل الشباب . . . فأني أحب ان أذكر يعض الأحاديث التي فيها ذكر الشباب فمنها :
1 – يعجب ربك من الشباب ليست له صبوة (11).. رواه أحمد .
والصبوة : الهوى والميل عن طريق الحق .(8/91)
2 - سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في طاعة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه (12) .رواه البخاري .
3 – الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (13) . رواه الترمذي .
4 - يقال لأهل الجنة : إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً(14). رواه مسلم .
5 – ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قبض الله له من يكرمه عند سنه(15) . رواه الترمذي بسند ضعيف .
6 – قال أبو بكر وعنده عمر بن الخطاب لزيد بن ثابت رضي الله عنهم : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه(16) . الحديث رواه البخاري .
7 – دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في سياق الموت فقال له : كيف تجدك ؟ قال: أرجو الله يارسول الله وأخاف ذنوبي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه ما يرجوه وأمنه مما يخافه ))(17) رواه بن ماجه .
8 – قال البراء بن عازب رضي الله عنه في غزوة حنين : لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً ليس عليهم سلاح(18) . رواه البخارى
9 – وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شباب(19) رواه أحمد .
10 – وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان شباب من الأنصار سبعين رجلاً يقال لهم القراء يكونون في المسجد فإذا أمسوا انتحوا ناحية من المدينة فيتدارسون ويصلون يحسبهم أهلوهم في المسجد ويحسبهم أهل المسجد في أهليهم حتي إذا كان في وجه الصبح استعذبوا من الماء . واحتطبوا من الحطب فجاءوا به فأسندوه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم(20) . رواه أحمد .(8/92)
وكانوا يشترون بذلك طعاماً لأهل المدينة ، وأهل الصفة هم الفقراء المهاجرون إلى المدينة ليس لهم أهل فيها ولا عشيرة ، فيأوون إلى صفة في المسجد أو قريباً منه .
11 – وعن علقمة أحد أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع عبد الله بمنى فلقيه عثمان رضي الله عنه فقام يحدثه فقال له عثمان : يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك شابة لعلها تذكرك بعض ما مضي من زمانك . فقال عبد الله : لئن قلت ذلك لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء(21).رواه البخاري ومسلم .
12 – وفي حديث الدجال عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال يدعو رجلاً ممتلئا ًشبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك(22) . الحديث رواه مسلم .
13 – عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال : أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً ، فلما ظن أنا قد اشتقنا أهلنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال صلى الله عليه وسلم : أرجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء ، وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم . رواه البخاري(23) .
وإلى هنا انتهى ما أردنا تقديمه . . نسأل الله تعالى أن ينفع به والحمد الله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
محمد الصالح العثيمين
---
(11) اخرجه الإمام أحمد ( 4/ 151 ) ، والطبراني فى الكبير ( 17 / 903 رقم 853 ) ، وابو يعلى ( 1749 ) قال الهيثمي فى مجمع الزوائد ( 10/ 237 )رواه أحمد وابو يعلى والطبرانى واسناده حسن .
(12)(8/93)
(13) اخرجه البخارى ، كتاب الاذان ، باب من جلس فى المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد ( 660 ) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة ( 1031 ) .
(14) اخرجه الترمذى ، كتاب المناقب ، باب مناقب الحسن والحسن رضى الله عنهما (3768) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(4) اخرجه مسلم ، كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب فى دوام نعيم اهل الجنة . . .( 2837) .
(15) اخرجه الترمذى، كتاب البر والصله ، باب ما جاء فى إجلال الكبير (2022) ، وقال الترمذى : هذا حديث غريب ، وضعفه الالبانى فى ضعيف الجامع ( 5012) .
(16) اخرجه البخارى ، كتاب التفسير ، باب قوله : ( قد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم ) ( 4679) .
(17) اخرجه الترمذى ، كتاب الجنائز ، باب 11 (983) ، وقال : حديث حسن .
(18) اخرجه البخارى ، كتاب الجهاد والسير ، باب الغزو على الحمير ، وباب بغلة النبى صلى الله عليه وسلم البيضاء (2874) ومسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب فى غزوة حنين ( 1776) .
(19) اخرجه الامام احمد ( 1/390 ، 432) قال محقق المسند : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
(20) اخرجه الامام احمد (3/235) ، والبيهقى فى سننه الكبرى ( 2/199) وقال محققو المسند : اسناده صحيح .
(21) اخرجه البخارى ، كتاب النكاح ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : من استطاع منكم الباءة . (5065، 5066)، ومسلم ، كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت تفسه اليه ووجد مؤنه .... (1400) .
(22) اخرجه مسلم ، كتاب الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ( 2137) .
(23) اخرجه البخارى ، كتاب الأذان ، للمسافر اذا كانوا جماعة والاقامة .. (631) ، ومسلم ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب من احق بالاقامة ( 674) .
---
(5) اخرجه ابو داود الطيالسي ( 2704 ) والنسائى في عمل اليوم والليلة ( 669 ) ، والإمام احمد ( 1/ 340 ) .(8/94)
(6) اخرجه مسلم ، كتاب الايمان ، باب بيان الوسوسة في الايمان وما يقوله من وجدها ( 132 ) .
(7) اخرجه البخارى ، كتاب بدء الخلق ، باب صفة ابليس وجنوده ( 3276 ) ، ومسلم ، كتاب الايمان ، باب بيان الوسوسة في الايمان وما يقوله من وجدها ( 134 ) ( 214 ) .
(8) اخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في الجهمية والمعتزلة (4722 ) .
(9) اخرجه الترمذى ، كتاب القدر ، باب ما جاء فى التشديد فى الخوض فى القدر ( 2133 ) وقال : هذا حديث غريب .
(10) اخرجه البخارى ، كتاب الجنائز ، باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله ( 1362 ) ومسلم ، كتاب القدر ، باب كيفية الخلق الآدمى فى بطن امه . . . ( 2647 ) .
---
3 - أخرجه الترمذي ، كتاب الزهد ، باب 45 ( 2378 ) وقال : حديث حسن غريب . وحسنه الألباني فى صحيح الجامع ( 3545 ) .
4 - اخرجه بنحوه البخارى ن كتاب البيوع ، باب في العطار وبيع المسك ( 2101 ) وفى كتاب الذبائح والصيد ، باب المسك 5534
ومسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب استحباب .
مجالسة الصالحين . . . ( 2628 )
---
1 - أخرجه مسلم ‘ كتاب الإيمان ، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49).
2 – أخرجه البخارى ، كتاب الايمان باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( 13 ) ومسلم ، كتاب الايمان ، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لتفسه من الخير ( 45 ) .(8/95)