رسالة
في الاتباع وحظر الغلو في الدين
بسم اللّه الرحمن الرحيم
من عبد اللّه بن عبد اللطيف إلى من يراه من الإخوان ، سلك اللّه بنا وبهم صراطه المستقيم ، وثبتنا على دينه القويم ، وأعاذنا من الأهواء والطرق المفضية بسالكها إلى طريق الجحيم ، آمين .
سلام اللّه عليكم ورحمة اللّه وبركاته
أما بعد فالباعث لهذه النصيحة إقامة الحجة على المعاند ، والبيان للجاهل ( الذي ) نيته وقصده طلب الحق ولكنه ابتلي بالوساوس والغرور .(1/1)
تعلمون وفقنا اللّه وإياكم أن اللّه بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بالهدى ودين الحق وهو ما جاء به من البرهان والنور . قال تعالى { يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } وقال تعالى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وقال تعالى { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الفتنة هي الشرك (1) وفرض اللّه علينا الإخلاص في عبادته ، واتباع سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ولا يقبل لأحد شيء من الأعمال إلا بالقيام بهذين الركنين : الإخلاص والمتابعة ، فالإخلاص أن يكون العمل للّه . والمتابعة أن يكون متّبعاً لأمر رسوله ، لأن كل عبادة حدها الشرعي ما أمر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي . ليست العبادة ما درج عليه عرف الناس وما اقتضته مقاييسهم وعقولهم ، لها حد يقف المؤمن والخائف من عقاب اللّه عنده ، وهو ما أمر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قال صَلَّى اللهُ
_________
(1) الفتنة في أصل اللغة المحنة والابتلاء بما يشق على النفس فعله أو تركه ومنه قوله تعالى ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) وقوله ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) وتفسر بما يقع به الفتون والإفتان من الشرك والكفر والشهوات . وقد فسرت في آية النور التي أوردها الشيخ هنا بالكفر أو بإظهاره لأنها نزلت في المنافقين .(1/2)
عَلَيْهِ وَسَلَّم « من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد » وقال « من أحدث شيئا ليس عليه أمرنا فهو رد » (1) .
_________
(1) أي مردود عليه لا يقبل . والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم باللفظ الأول هنا ورواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه بلفظ ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .(1/3)
وما خرج أحد عن شريعته وطريقته إلا سلك إحدى الطريقتين إما جفاء وإعراض ، وإما غلو وإفراط ، وهذه مصائد الشيطان التي يصطاد بها بني آدم ولهذا حذر سبحانه عن الغلو . قال تعالى { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } وفي الآية الأخرى { لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } فلما من اللّه سبحانه على المسلمين في آخر هذه الأزمان التي اشتدت فيها غربة الدين باجتماع المسلمين ورد لهم الكرة ، ولم شعثهم بإمام يدعوهم إلى دين اللّه وإلى طاعته بماله ونفسه ولسانه ، وهدى اللّه بسبب ذلك من هدى من البادية وعرفهم الإسلام ورغبهم فيه ودانوا به وهي من أعظم النعم عليهم وعلى المسلمين عموماً أن هداهم لدينه وعرفهم به وأخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإسلام وطاعة ربهم ، وعرفهم دينهم الذي خلقوا له وتعبدهم اللّه سبحانه وبحمده به وقد كانوا قبل ذلك في جاهلية جهلاء ، وضلالة عمياء ، أشقى الناس في الدنيا من عاش منهم عاش شقياً ، ومن مات منهم(1/4)
ردي في النار .(1/5)
فالواجب علينا وعليكم معرفة هذه النعمة والقيام بحق اللّه تعالى في ذلك وشكر نعمه عليكم ولا تكونوا كالذين { بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } وقال { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إلى قوله { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ(1/6)
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } قال ابن عباس - رضي اللّه عنه - : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والشناعة ، وقال تعالى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } وقال تعالى { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } .
والآيات في النهي عن التفرق في الدين والاختلاف كثيرة لكن القصد التنبيه على ما يلقيه الشيطان ويزينه للناس من التفرق والاختلاف . والذي قصده اللّه والدار الآخرة يرد ما صدر وما سمع إلى كتاب اللّه وسنة رسوله ، قال تعالى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ولا هنا عمل إلا بدليل وبرهان يطالب به صاحب العمل .(1/7)
وقد بلغني عن بعض من غره الغرور الطعن في العلماء ورميهم بالمداهنة وأشباه هذه الأقاويل التي صدت أكثر الخلق عن دين اللّه وزين لهم الشيطان بسبب ذلك الطعن في الولاية بأمور حقيقتها البهتان والطعن الباطل ، وقد علمتم ما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وفرضه من السمع والطاعة قال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ولم يستثن سبحانه برا من فاجر ، ونهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن إنكار المنكر إذا أفضى إلى الخروج عن طاعة ولي الأمر ، ونهى عن قتالهم لما فيه من الفساد .(1/8)
عن عبادة بن الصامت قال : « دعانا رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فبايعنا وكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في مكرهنا ومنشطنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال : ( إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من اللّه برهان » أخرجاه في الصحيحين ، وقوله ( وأن لا ننازع الأمر أهله ) دليل على المنع من قتال الأئمة إلا أن يروا كفراً بواحاً وهو الظاهر الذي قد باح به صاحبه . فطاعة ولي الأمر وترك منازعته هي فصل النزاع بين أهل السنة وبين الخوارج والرافضة .(1/9)
وعن حذيفة بن اليمان - رضي اللّه عنه - قال : إن رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال « اسمع وأطع للأمير وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك » وعن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية » وعن عبد اللّه بن عمر قال : سمعت رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول : « من خلع يداً من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » فذكر في هذا الحديث البيعة والطاعة فالخروج عليهم نقض للعهد والبيعة ، وترك طاعتهم ترك للطاعة .(1/10)
وبهذه الأحاديث وأمثالها عمل أصحاب رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بها وعرفوا أنها من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلا بها ، وشاهدوا من يزيد بن معاوية والحجاج ومن بعدهم خلا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أموراً ظاهرة ليست خفية ، ونهوا عن الخروج عليهم والطعن فيهم ، ورأوا أن الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين إلى طريقة الخوارج ، ولهذا لما حج ابن عمر - رضي اللّه عنه - مع الحجاج وطعن في رجله قيل له : أنبايعك على الخروج على الحجاج وعزله - وهو أمير من أمراء عبد الملك بن مروان - غلظ الإنكار عليهم وقال : لا أنزع يداً من طاعة واحتج عليهم بالحديث الذي تقدم ذكره .
فإذا فهمتم ذلك فاشكروا نعمة اللّه عليكم بما منَّ به من إمامة إسلام تدعوهم إليه ظاهراً أو باطناً مما سمعتم وصدقه الفعل من بذل المال والسلاح والقوة وإعانة المهاجرين لأجل دينه لا لقصد سوى ذلك ، يعرف ذلك من عرفه ، ولا يجحده إلا منافق مفارق بقلبه ونيته ما اعتقده المسلمون وقاموا به .(1/11)
وأما الطعن على العلماء فالخطأ ما يعصم منه أحد ، والحق ضالة المؤمن ، فمن كان عنده علم يقتضي الطعن فليبينه جهاراً ولا يخف في اللّه لومة لائم ، حتى يعرفوا حقيقة الطعن وموجبه ، واحذروا التمادي في الضلالة ، والخروج عن الجماعة . فالحق عيوف ، والباطل شنوف ، والشيطان متكئ على شماله ، يدب بين الأمة بالعداوة والشحناء ، عياذاً باللّه من فتنة جاهل مغرور ، أو خديعة فاجر ذي دهاء وفجور ، يميل به الهوى ، ويزين له الشيطان طريق الغواية والردى ، واللّه أسأل أن يُثبتنا وإياكم على دينه ، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب ، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .(1/12)
الرسالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق إلى من يصل إليه هذا الكتاب من إخواننا من أهل الأرطاوية والغطغط وغيرهم من عتيبة ومطير وقحطان وغيرهم من إخواننا المسلمين ، نور اللّه قلوبنا وقلوبهم بنور العلم والإيمان ، وجعلنا وإياهم من أتباع السنة والقرآن ، وأعاذنا وإياهم من زيغ القلوب ونزغات الشيطان .
السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته :(1/13)
وبعد فإن اللّه سبحانه وتعالى بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بالهدى ودين الحق ، وأنزل عليه الكتاب المبين ، وجعله هدى للمتقين ، وشفاء ورحمة للمؤمنين ، وحجة على المبطلين ، وضمن الرحمة والسعادة والفلاح والهدى والفوز بالجنة والنجاة من النار لمن اتبعه وعمل بما فيه ، وتوعد من خالفه أو أعرض عنه أنواعاً من الوعيد . قال تعالى { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقال { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وقال تعالى { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }{ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا }{ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } قال بعض السلف : تكفل اللّه لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .(1/14)
ومما أمر اللّه به في كتابه المبين ، وأوحاه إلى رسوله الأمين ، الحث على الاجتماع على الدين ، والاعتصام بحبله المتين ، واتباع سبيل المؤمنين ، واجتناب ما ذمه اللّه سبحانه من أخلاق من ذمَّهم في كتابه من أهل التفرق والاختلاف والمشاقة له ولرسوله ، ومخالفة أهل الصراط المستقيم ، قال تعالى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } وقال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وقال تعالى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(1/15)
}{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } قال بعض المفسرين : تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف ، وقد ورد في الحديث عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال « إن اللّه يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه اللّه أمركم » .(1/16)
ومن أعظم أسباب التفرق والاختلاف والعدول عن طريق الحق والإنصاف ، ما وقع من كثير من الناس من الِإفتاء في دين اللّه بغير علم ، والخوض في مسائل العلم بغير دراية ولا فهم ، فإن اللّه تعالى قد حرم القول عليه بغير علم في أسمائه وصفاته وشرعه وأحكامه ، وجعل ذلك قريناً للشرك الذي هو أعظم المحرمات (1) كما قال تعالى { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وقال تعالى { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } وقال تعالى { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
_________
(1) بل عده المحقق ابن القيم أشد من الشرك لأن الشرك كفر قاصر على صاحبه والقول على الله بغير علم كفر متعد ضرره إلى الناس « راجع تفسير الآية له في مدارج السالكين » ومن أدلة كون القول على الله تعالى بغير علم شرك قوله عز وجل ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )(1/17)
وهذا مصداق ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مما يكون في آخر الزمان من قبض العلم بذهاب أهله وظهور الجهل واتخاذ الناس الجهلة المفتين بالفتوى المضلة ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في حديث عبد اللّه بن عمرو - رضي اللّه عنه - : « إن اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا » وقد قال تعالى في هذا الصنف من الناس { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } وفي الحديث عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال « من سنَّ في الِإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن سن في الِإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا » .(1/18)
ومما انتحله بعض هؤلاء الجهلة المغرورين الاستخفاف بولاية المسلمين ، والتساهل بمخالفة إمام المسلمين والخروج عن طاعته والافتيات عليه بالغزو وغيره ، وهذا من الجهل والسعي في الأرض بالفساد بمكان ، يعرف ذلك كل ذي عقل وإيمان ، وقد علم بالضرورة الِإسلامية أنه لا دين إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمامة ، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة ، وإن الخروج عن طاعة أولي أمر المسلمين والافتيات عليه من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد ، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد ، وقد قيل :
تهدى الأمور بأهل الرأي إن رشدت ... وإن تولت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا صلاح إذا جهالهم سادوا
وفي الحديث عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال : « وأنا آمركم بخمس السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الِإسلام من عنقه » وفي الحديث « ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل للّه ، ومناصحة المسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم » .(1/19)
ومن ذلك ما وقع من غلاة هؤلاء من اتهام أهل العلم والدين ونسبتهم إلى التقصير وترك القيام بما وجب عليهم من أمر اللّه سبحانه وكتمان ما يعلمون من الحق . ولم يدر هؤلاء الجهلة أن اغتياب أهل العلم والدين والتفكه بأعراض المؤمنين ، سم قاتل وداء دفين ، وإثم واضح مبين ، قال اللّه تعالى { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } شعرا :
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكموا ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
ومن ذلك ما التزموه وألزموا به غيرهم من أعراب المسلمين من ترك سكنى البادية والتزام الحضر وإنشاء العمران والبنيان ، والتشديد في أمر العمائم والعدوان على كثير من أهل الإسلام والتوحيد ، بالضرب الشديد ، والهجر والتهديد ، إلى غير ذلك من الأمور التي خرجوا بها عن حكم العقل والعدل والإنصاف ، وانتظموا بها في سلك أهل الجهل والظلم والاعتساف ، وهم مع ذلك يحسبون أنهم مهتدون ، ويزعمون أنهم هم المفسدون { أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } .(1/20)
وهذه الأمور ونحوها يكفي في ردِّها مجرد الإشارة والتنبيه دون بسط القول فيها واستقصاء الأدلة على ردها .
فاتقوا اللّه عباد اللّه { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } ولا تكونوا كالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ونسأل اللّه تعالى أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم ، ويجنبنا موجبات غضبه وعذابه الأليم ، إنه على كل شيء قدير وصلى اللّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(1/21)
الرسالة الثالثة
من إملاء الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ عبد اللّه بن عبد العزيز العنقري .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه الذي بعث محمداً بالهدى ودين الحق على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم المناهج ، وأوضح السبل ، فشرع الشرائع وبين الأحكام ، ولم يقبضه إليه حتى تم شرعه وكمل ، فمن أراد اللّه سعادته اكتفى بهديه عن سائر الشرائع والنحل ، ومن قضى عليه بالشقاء صدف عن ذلك وعدل ، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها يوم العرض من كل كرب ووجل ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق وخاتم الرسل ، صلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه الذين حازوا قصب سبق الفضائل بالعلم والعمل .(1/22)
أما بعد فإن اللّه سبحانه وتعالى لما منَّ على بادية نجد في آخر هذا الزمان بالِإقبال على تعلم دين الِإسلام والعمل به ، وكثر ذلك فيهم وانتشر ، ورأى الشيطان منهم قوة في ذلك وحرصاً على الخير يئس منهم أن يردهم على حالهم الأولى التي انتقلوا منها ، فأخذ في فتح أبواب من أبواب الشر حسنها لهم وزينها ، وجعلها لهم في قالب القوة والصلابة في الدين ، وأن من أخذ بها فهو المتمسك بملة إبراهيم ومن تركها فقد ترك ملة إبراهيم ، وهذا هو المعهود من كيد اللعين ، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم - رحمه اللّه - في إغاثة اللهفان فإنه ذكر أن الشيطان لعنه اللّه يشم قلب العبد فإذا رأى فيه كسلًا سعى في رده عن الدين بالكلية ، وإن رآى فيه قوة سعى في حمله على مجاوزة الحد والزيادة على ما شرعه اللّه ورسوله ، وإذا أخبر بالأمر المشروع قال له الشيطان ما يكفيك هذا فإن الواجب عليك شيء غير هذا . هذا معنى كلامه - رحمه اللّه تعالى - .(1/23)
إذا علم هذا فمن الأمور التي أدخل على الأخوان - وفقهم اللّه - أنه غلظ أمر الأعراب عندهم حتى صار منهم من يعتقد كفرهم مطلقا ، ومنهم من يرى جهادهم حتى يلتزموا سكنى القرى . والجواب عن هذا أن تعلم أيها المنصف الذي مراده الحق أن الواجب علينا وعلى جميع المسلمين رد ما تنازعنا فيه إلى كتاب اللّه وسنة رسوله ولا يرد ذلك إلى محض الجهل والهوى ، أو استحسان العقل والأقيسة الفاسدة ، ونحن نطالب من قال ذلك بدليل من كتاب اللّه وسنة رسوله أو نقل عن الخلفاء الراشدين ، والصحابة المهديين ، أو من تبعهم من أئمة الدين ، فإن كان اعتمادهم فيما توهموه من إلزام البادية بالسكنى في القرى على مطلق وجوب الهجرة فنعرفك عن حقيقة الهجرة الواجبة بالشرع المطهر فنقول :
الهجرة تجب من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام على من لم يقدر على إظهار دينه ، فإن كان المحل الذي فيه الأعراب تظهر فيه شعائر الشرك وتفعل فيه المحرمات وتترك فيه الواجبات ، فإن الهجرة تجب من ذلك المحل إلى بلاد تظهر فيها شعائر الإسلام سواء كان ذلك في بادية أو حاضرة .(1/24)
وأما البادية الذين هم في ولاية إِمام المسلمين وهم مع ذلك ملتزمون شرائع الإسلام من الإتيان بأركان الإسلام الخمسة وترك الشرك والكفر ولا يظهر فيهم شيء من نواقض الِإسلام ، فلا تجب عليهم الهجرة إلى القرى ولا يجوز إلزامهم بذلك ، ومن ألزمهم بذلك ورآه دينا فقد شرع في الدين ما لم يأذن به اللّه قال تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد - وفي رواية - من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد » أي من أحدث في ديننا وشرعنا زيادة لم نشرعها ، فمن قال قولا أو عمل عملا لم يشرعه اللّه ورسوله فهو مردود عليه كائناً من كان . وقال تعالى { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } .(1/25)
ومن نسب إلزام بادية المسلمين بسكنى القرى إلى دين اللّه ورسوله فقد افترى وضل ، نعم تستحب الهجرة في حقهم والحالة هذه لما يترتب على ذلك من حضور الجمع والأعياد وغير ذلك من غير إكراه على ذلك . فافهموا حكم الهجرة ومن تجب عليه ، وقولوا بعلم ودعوا الجهل والهوى واستحسانات العقول ، وإن أردتم الدليل على ما قلناه فانظروا إلى سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وخلفائه وأصحابه وحالهم مع أعرابهم الموجودين في عصر النبوة وما بعده ، فإنهم لم يلزموهم بسكنى القرى ، فإن كان عند أحد دليل عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فليوجدناه ونقبله على الرأس والعين .(1/26)
وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في حديث بريدة الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه في أعراب المسلمين فإنه قال : كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا أمر أميراً على سرية أو جيش إلى قوله « ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم اللّه » الحديث . فدل الحديث على أنه قد كان في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أعراب ولم يلزمهم بالهجرة .
وقال ابن القيم - رحمه اللّه تعالى - في الهدي النبوي في أواخر الوفود ( فصل في قدوم وفد بني عبس ) : وقدم عليه بنو عبس فقالوا : يا رسول اللّه قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ولنا أموال ومواش وهي معايشنا ، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له فلا خير في أموالنا ومواشينا بعناها وهاجرنا عن آخرنا . فقال رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « اتقوا اللّه حيث كنتم فلن يلتكم من أعمالكم شيئا » انتهى .(1/27)
نعم يجب على ولي الأمر إلزام الأعراب بشرائع الإسلام وكفهم عن المحرمات من الشرك وغيره كغيرهم من المسلمين ، وأما إطلاق الكفر على الأعراب بالعموم فالدليل على منعه قوله تعالى { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } الآية .
فإذا علمت أنها لا تجب الهجرة على من كان في بادية المسلمين تبين لك أنه لا يجوز هجر من قدم على الحاضرة منهم إلا من عرف منهم بالمجاهرة بالمعاصي والإعلان بها ، وهذا ليس خاصا بالأعراب فإن المجاهر بالمعاصي يشرع هجره سواء كان ذلك من أهل البادية أو الحاضرة إذا كان فيه مصلحة راجحة ولم يترتب عليه مفسدة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .(1/28)
ومن الأمور التي أوقعها الشيطان أن الإنسان إذا كان قد هاجر وسكن في قرية من قرى المسلمين واتخذ ماشية من إبل أو غنم واعتاش بها هو وعائلته وخرج لرعيها ومن نيته الرجوع إلى ذلك المحل الذي خرج منه هجر عن السلام في زعم هذا الجاهل أن خروجه مع إبله وغنمه معصية ، وهذا جهل وضلال ، فإن فعله ذلك مباح فلا يجوز هجره والِإنكار عليه والحالة هذه ، وقد كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نعم من إبل وغنم يجعل فيها رعاة يرعونها ، وقال الفضل بن العباس : زارنا رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في بادية لنا ، وأما من هاجر ثم رجع إلى البادية منتقلا عن دار هجرته فإنه عاص ومرتكب كبيرة إذا لم يكن من نيته الرجوع .(1/29)
فمن كان مقصوده اتباع الحق وطلب الهدى وسعه ما وسع رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ، ومن كان مقصوده الهوى والتعمق والتكلف والتضييق على نفسه وعلى غيره من غير دليل شرعي فهو شبيه بمن انحرف عن هدي رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من أهل البدع والضلال ، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « إن قوما شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات » وذلك حين سأل نفر من أصحابه عن عبادته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فكأنهم تقالّوها فقال أحدهم : أما أنا فلا آكل اللحم ، وقال الآخر : أنا لا أتزوج النساء ، وقال : الآخر أنا أصوم ولا أفطر وأصلي ولا أنام ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : « أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام ، وآكل اللحم وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » ولما قام أبو إسرائيل في الشمس أمره أن يستظل .(1/30)
ومن المعلوم أن مقصود هؤلاء النفر الحرص على الخير وطلب الزيادة في العبادة فبين لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أن الزيادة على المشروع ضرر على صاحبها وسبب لخروجه عن الصراط المستقيم ومضاهاته للمغضوب عليهم والضالين .
ومما أدخل الشيطان على بعض المتدينين اتهام علماء المسلمين بالمداهنة وسوء الظن بهم وعدم الأخذ عنهم ، وهذا سبب لحرمان العلم النافع ، والعلماء هم ورثة الأنبياء في كل زمان ومكان فلا يتلقى العلم إلا عنهم فمن زهد في الأخذ عنهم ولم يقبل ما نقلوه فقد زهد في ميراث سيد المرسلين واعَتاض عنه بأقوال الجهلة الخابطين الذين لا دراية لهم بأحكام الشريعة ، والعلماء هم الأمناء على دين اللّه فواجب على كل مكلف أخذ الدين عن أهله كما قال بعض السلف : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم . فأما من تعلق بظواهر ألفاظ من كلام العلماء المحققين ولم يعرضها على العلماء بل يعتمد على فهمه وربما قال حجتنا مجموعة التوحيد أو كلام العالم الفلاني وهو لا يعرف مقصوده بذلك الكلام فإن هذا جهل وضلال .(1/31)
ومن المعلوم أن أعظم الكلام وأصحه كتاب الله العزيز ، فلو قال إنسان ما نقبل إلا القرآن وتعلق بظاهر لفظ لا يعرف معناه أو أوله على غير تأويله فقد ضاهى الخوارج المارقين . فإذا كان هذا حال من اكتفى بالقرآن عن السنة فكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب وهو لا يعرف معناها ولا ما يراد بألفاظها ، والكتب أيضا فيها من الأحاديث الصحيح والضعيف ، والمطلق والمقيد والعام والخاص ، والناسخ والمنسوخ ، فإذا لم يأخذ العلم عن العلماء النقاد الذين هم للحديث بمنزلة الصيارفة للذهب والفضة خبط خبط عشواء وتاه في وادي جهالة عمياء .(1/32)
وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه اللّه تعالى - في كتاب أصول الإيمان : ( باب قبض العلم ) ثم ذكر حديث زياد بن لبيد قال : ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم شيئا فقال « ذلك عند أوان ذهاب العلم ) قلت : يا رسول اللّه وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال ( ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل ولا يعملون بشيء مما فيهما ؟ » رواه أحمد وابن ماجه ، وعن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - قال : عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله ، عليكم بالعلم فإن أحدكم ما يدري متى يفتقر إليه أو يفتقر إلى ما عنده ، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب اللّه وقد نبذوه وراء ظهورهم ، عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق ، وعليكم بالعتيق ، رواه الدارمي بنحوه .(1/33)
وفي الصحيح عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - مرفوعا « إن اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا » انتهى .
إذا عرف هذا تبين أن الذي يدعي أنه يستغني بمجموعة التوحيد عن الأخذ عن علماء المسلمين مخطئ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ذكر أن سبب قبض العلم موت العلماء فإذا ذهب العلماء واتخذ الناس رءوساً جهالا وسألوهم وأخذوا بفتواهم ضلوا وأضلوا عياذاً باللّه .(1/34)
ومما أدخل الشيطان أيضا إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له فإن هذا من أعظم المعاصي وهو من دين الجاهلية الذين لا يرون السمع والطاعة دينا . بل كل منهم يستبد برأيه ، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في العسر واليسر والمنشط والمكره حتى قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك » فتحرم معصيته والاعتراض عليه في ولايته وفي معاملته وفي معاقدته ومعاهدته لأنه نائب المسلمين والناظر في مصالحهم ، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم ، لأن بولايته يستقيم نظام الدين ، وتتفق كلمة المسلمين ، لا سيما وقد منّ اللّه عليكم بإمام ولايته ولاية دينية ، وقد بذل النصح لعامة رعيته من المسلمين خصوصاً المتدينين بالإحسان إليهم ونفعهم وبناء مساجدهم وبث الدعاة فيهم والِإغضاء عن زلاتهم وجهالاتهم ، ووجود هذا في آخر هذا الزمان من أعظم ما أنعم اللّه به على أهل هذه الجزيرة فيجب عليهم شكر هذه النعمة ومراعاتها والقيام بنصرته والنصح له باطنا وظاهرا ، فلا يجوز لأحد الافتيات عليهِ ولا المضي في شيء من الأمور إلا بإذنه (1) ومن افتات عليه فقد سعى في شق عصا المسلمين وفارق
_________
(1) يعني الأمور العامة المنوطة بالإمام وعماله من سياسية وقضائية وقصاص كإقامة الحدود وسائر العقوبات التعزيرية فليس لأحد من أفراد الناس أن يعاقب أحداً على ذنب ارتكبه بضرب ولا بسب بل العقاب حق الإمام أو نائبه .(1/35)
جماعتهم ، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « من عصى الأمير فقد عصاني ومن عصاني فقد عصا اللّه » والمراد بالأمير في هذا الحديث من ولاه اللّه أمر المسلمين وهو الِإمام الأعظم (1) وقال ابن رجب - رحمه اللّه تعالى - في شرح الأربعين له : وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم ، كما قال علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - : إن الناس لا يصلحهم إلا إمام برّ أو فاجرٌ . إن كان فاجراً عبد المؤمن فيه ربه وحمل الفاجر فيها إلى أجله . وقال الحسن في الأمراء : يلون من أمورنا خمساً : الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود ، واللّه ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا ، واللّه لما يصلح اللّه بهم أكثر مما يفسدون ، مع أن طاعتهم واللّه لغيظ ، وإن فرقتهم لكفر . وخرج الخلال في كتاب الإمارة من حديث أبي أمامة قال : « أمر رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أصحابه حين صلوا العشاء ( أن احشدوا فإن لي إليكم حاجة ) فلما فرغوا من صلاة الصبح قال : ( هل حشدتم كما أمرتم ؟ ) قالوا : نعم ، قال ( اعبدوا اللّه ولا
_________
(1) ومثله نوابه وعماله .(1/36)
تشركوا به شيئا ، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثا ، قلنا : نعم ، قال ( أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثا ، قلنا : نعم ، قال ( اسمعوا وأطيعوا ، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثا ، قلنا : نعم قال : فكنا نرى أن رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم سيتكلم كلاماً طويلًا ثم نظرنا في كلامه فإذا هو قد جمع الأمر كله » ، انتهى .(1/37)
ومن الأمور التي أدخلها الشيطان في المسلمين لينال بها مقصوده من إغوائهم واختلاف كلمتهم وتفرفهم ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك . بل بمجرد الرأي المخالف لكتاب اللّه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وهذا ينافي ما عقده اللّه بين المسلمين من الإخوة الإسلامية التي توجب التواصل والتواد والتراحم والتعاطف كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد (1) الواحد » وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » (2) وقال اللّه تعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } - إلى قوله - { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } وقال { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } الآية ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم « لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد اللّه إخوانا المسلم أخو المسلم » الحديث .
_________
(1) تتمته ( إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير . وفي رواية ( المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله ، وإن اشتكى عينه اشتكى كله )
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى - رضي اللّه عنه - .(1/38)
وقد تقدم أن هجر أهل المعاصي يشرع إذا كانت المصلحة بذلك راجحة على مفسدته ، فإذا لم تكن فيه مصلحة راجحة لم يشرع لما يترتب على ذلك من المفاسد كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس اللّه روحه - والهجر إنما شرع تأديباً وتعزيراً بترك السلام عليه وعدم تكليمه حتى ينزجر عن معصيته وأما ضربه وتعنيفه فلا أصل له في الشرع ، ومن نسب إلى الشيخ الإمام عبد اللطيف - رحمه اللّه تعالى - أنه يضرب كل من سافر إلى بلاد المشركين فقد افترى والناقل لذلك يطالب بصحة ما نقل عنه وإن صح من ذلك شيء فهو محمول على بعض المنتسبين الذين يقتدي بهم ويغتر بهم الجهال .
واللّه المسئول المرجو الإجابة أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى اللّه على عبده ورسوله محمد النبي الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال ذلك وأملاه الراجيان لعفو اللّه ومغفرته محمد ابن عبد اللطيف بن عبد الرحمن وعبد اللّه بن عبد العزيز العنقري - سامحهما اللّه تعالى - .(1/39)
البر والعدل إلى المشركين
وكونه لا يدخل في النهي عن موالاة المعادين منهم والمحاربين
( مقتبس من الرسالة 33 من رسائل الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ حسن ابن الشيخ محمد عبد الوهاب - رحمهم الله أجمعين - ) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب عيسى بن إبراهيم سلك اللّه بي وبه صراطه المستقيم .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته :(1/40)
وبعد فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو على نعمه . والخط وصل فسرني نبؤه عن سلامة تلك الأحوال والذوات ، لا زالت سالمة من الآفات ، وما أشرت إليه قد علم ، وجواب مسألتك ها هو ذا قد رسم ، نسأل اللّه التوفيق والإصابة ، وحسن القصد والإثابة ، فأما قوله تعالى { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الآية ، فالذي يظهر أن هذا إخبار من اللّه جل ذكره لعباده المؤمنين بأنه لم ينههم عن البر والعدل والإنصاف في معاملة أي كافر كان من أهل الملل إذا لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من ديارهم ، إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوب محبوب شرعاً ، ولذا علل هذا الحكم بقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .(1/41)
وأما قوله { أَنْ تَبَرُّوهُمْ } فقد قال بعض المعربين أنه بدل من الموصول بدل اشتمال وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر والتقدير لا ينهاكم اللّه عن بر من لم يقاتل في الدين . ولو قال هذا البعض أنه بدل بداء (1) لكان أظهر إذ لا يظهر الاشتمال بأنواعه هنا وإلا ظهر عندي أن لا بدل مطلقاً وأن الموصول معمول للمصدر المتأخر المأخوذ من أن وما دخلت عليه ، فالموصول إذاً في محل نصب بالمصدر المسبوك وتأخر العامل لا يضر - وأما على البدلية فهو في محل جر . وقوله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال إذ المقام مظنة لغلط الأكثر ولتوهم خلاف المراد فاقتضى التأكيد والتوفية بالأداة كما يعلم من فنّ المعاني . وقوله { فِي الدِّينِ } الفاء سببية في قوله « دخلت النار امرأة في هرة » الحديث .
_________
(1) كذا في الأصل .(1/42)
وسبب النزول ما رواه الِإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عَن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أي بكر - رضي اللّه عنها - قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقلت يا رسول اللّه إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال « نعم صلي أمك » وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم . وفي بعض الطرق أنها جاءت لابنتها بهدية ضباب وأقط وسمن فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخل البيت حتى سألت رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فأنزل اللّه هذه الآية .
وأما قول ابن زيد وقتادة إنها منسوخة فلا يظهر لوجوه منها أن الجمع بينها وبين آية القتال ممكن غير متعذر ودعوى النسخ يصار إليها عند التعذر وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل ( ومنها ) أن السنة متظاهرة بطلب الإحسان والعدل مطلقاً ولا قائل بالنسخ ، لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في كلامهما بمعنى التخصيص وهو متجه على اصطلاح بعض السلف ولا شك أن القتال بالسيف وتوابعه من العقوبات والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم .(1/43)
ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي أنه لما ذكر تعالى نهيه عباده المؤمنين عن اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة ، ثم ذكر حال خليله ومن آمن معه في قولهم وبراءتهم من قومهم المشركين حتى يؤمنوا ، وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة خيف أن يتوهم أحد أو يظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى عنه من الموالاة وأمر به من البراءة فناسب أن يدفع هذا بقوله تعالى { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ } الآية .
* * * * ( فتوى في مسألة السلام على الكافر )(1/44)
( من الرسالة 18 من رسائل العلامة الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ - رحمهم الله تعالى - ) وأما البداءة بالسلام فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام بل هو تحية أهل الِإسلام ، لكن إن خاف مفسدة راجحة وفوات مصلحة كذلك فلا بأس بالبداءة لا سيما من ينتسب إلى الِإسلام ولكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه ، وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم ويدعوهم إلى توحيد اللّه وترك عبادة ما سواه ، وأن يقولوا لا إله إلا اللّه ويتلو عليهم القرآن ويبلغهم ما أمر بتبليغه مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح ، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد . والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل فإذا انتفى ذلك وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع . ومن تأمل السيرة النبوية ، والآثار السلفية ، يعرف ذلك ويتحقق . وقد أمر اللّه بالدعوة إليه على بصيرة قال تعالى { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (1) قال تعالى { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }
_________
(1) وبعده في الآية ( أنا ومن اتبعني ) فكل متبع له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يجب أن تكون دعوته إلى توحيد اللّه ودينه على بصيرة ، أي على علم وحجة .(1/45)
والجهاد بالحجة والبيان يقدم على الجهاد بالسيف والسنان . وقد مر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود وفيه عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين فسلم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ونزل عن دابته ودعاه إلى الإسلام وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منزله والقصة مشهورة .
وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس لكنه يكون مباركا أينما كان داعياً إلى اللّه مذكراً به هادياً إليه ، كما قال عن المسيحِ عليه السلامِ { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } أي داعيا إلى اللّه مذكراَ به معلماً بحقوقه . فهذه هي البركة المشار إليها ومن عدمها محقت بركة عمره وساعاته وخلطته ومجالسته .
ونسأل اللّه العظيم لنا ولكم علماً نافعاً ، ويكون لنا لديه يوم القيامة شافعاً ، أسأل اللّه العظيم أن يغفر زلتي ، ويقبل توبتي ، ويقيل عثرتي ، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم .(1/46)