بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أمات وأحيا، وحكم على خلقه بالموت والفناء، ثم البعث والنشور لفصل القضاء، لفوز المحسنين الأتقياء، وخسران المُعْرِضين الأشقياء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين وخاتم الأنبياء وعلى آله وصحبه النجباء.
وبعد:
فإنَّ الناس يتحولون من هذه الدار التي كتبت الله عليها الفناء إلى دار الجزاء والبقاء، يبدأ ذلك بيوم شاق هائل عسير، يفضي في العباد إلى ربهم، ذلك هو اليوم الآخر الذي أكثر الله من ذكره في القرآن.
والإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان مسلم بدونها، فالذي ينبغي علينا أن نعتقده ونعلمه علم اليقين أن ذلك اليوم آتٍ لا ريب فيه، وأن الله سيبعث مَنْ في القبور، فتبدأ بعد فناء المخلوقات حياة جديدة يجازى فيها كلٌ بحسب ما قدمت يداه، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
قال الله تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [آل عمران: 30]، وقال تعالى: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم: 31].
والقرآن الكريم والسنة المطهرة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود، وبأحوال هذا النبأ العظيم، فكما جاء البيان من الله تعالى بحقارة الدنيا وصغرها، فقد جاء البيان بهول الآخرة وعظمها، فحق على كل من بلغه ذلك أن يصغر في عينه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم؛ فقد قال الله تعالى عن الدنيا وهو الذي خلقها: { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } [لقمان: 33]، وقال تعالى عن الآخرة وهو أعلم بها: { أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } [المطففين: 4، 5].(1/1)
إن أعظم قضيتين يجب أن ينشغل بهما كل واحد منا هما:
أولاً: قضية تحقيق الغاية التي من أجلها وُجِدَ وهي توحيد الله تعالى وعبادته.
وثانيًا: قضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته، لأجل ذلك نجد كثيرًا ما يربط القرآن بين هاتين القضيتين كما في قوله تعالى: { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [الطلاق: 2]، وغيرها كثير جدًا، فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيءٌ مهما كان، فكل أمر دونهما هين، وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله وسعادته، فماذا يبقى بعد ذلك؟ قال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الزمر: 15].
وللبحث في هذا الموضوع والتذكير به، والنظر في غيبياته المنصوص عليها أهمية عظيمة بالغة، وله آثار حميدة مباركة.
وهذه الأهمية تتجلى في أمور منها:
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثيرٍ من الناس في هذا الزمان: وما صاحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة، تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة. فطرأ على الناس الغفلة الشديدة عن تذكر ذلك اليوم إلى درجة قد تصل إلى نسيانه. ومع ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان والتقوى، فقد كان يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم، فلا شك أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة، ويتعاهد بعضنًا بعضًا بالتذكير بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها.(1/2)
2- لما في تذكر ذلك اليوم ومشاهدة العظيمة من حثٍّ على الاستعداد له والمبادرة بالأعمال الصالحة، واتخاذ أسباب الأمن والنجاة فيه، بل ما تكاسل المتكاسلون عن عمل الصالحات سواء الواجب منها أو المسنون إلا بسبب الغفلة عن اليوم ألآخر. يقول الله تعالى في وصف عباده الصالحين: { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ } [الزمر: 9].
3- تذكر الآخرة والرجوع إلى الله يثبّت القلوب أمام فتن الدنيا وشدائدها، وله أكبر الأثر في قوة النفس وراحتها وعدم استسلامها للقلق والحزن والهم والتعاسة، قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 155، 156]، فهؤلاء هانت عليهم مصائبهم وصبروا لأنهم تذكروا أن هناك يومًا سيرجعون فيه إلى الله فيوفيهم أجرهم، وأنه مهما جاءهم من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل، فهم ينتظرون الفرج والثواب يوم الرجوع إلى الله عز وجل.(1/3)
4- المداومة على تذكر الآخرة يقوي الإحساس بثقل التبعية وعظم المسئولية، وهو الموجه الحقيقي لسلوك الإنسان إلى سبيل الخير وأداء الحقوق والأمانات، وما حصل في زماننا من كثرة المظالم واعتداء الناس بعضهم على بعض، ومن أكل الأموال بدون وجه حق، وكذلك النيل من الأعراض بالغيبة والسخرية والبهتان والحسد والكبر، كل هذا إنما حصل بسبب نسيان اليوم الآخر والوقوف بين يدي الله تعالى. ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر الآخرة واستشعار الوقوف بين يدي الله عز وجل تقويمًا لذلك السلوك وعلاجًا لتلك الأمراض. وهذا الاستشعار هو الذي جعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقف مع نفسه ويقول: «لو عثرت بغلة في العراق، لظننت أن الله سيسألني عنها: لِمَ لَمْ تُسوِّ لها الطريق يا عمر!!».
5- ثم إن هناك أيضًا أهمية أخرى نجنيها من الإيمان بالله واليوم ألآخر والإكثار من ذكره وتذكره، ألا وهي تكوين همّ الآخرة وامتلاء القلب بذلك الهم، وهذا الأمر له آثار حميدة مباركة على حياة العبد وآخرته كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من كانت الآخرة همّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأتيه من الدنيا إلا ما قدِّر له».
فهناك فرقٌ كبيرٌ وبونٌ شاسع بين سلوك وحال من كانت الدنيا همه وشغله، وبين من كانت الآخرة همه قد ملأ ذكرها قلبه.
فهو ينظر دائمًا بميزان الآخرة، الخير عنده خير الآخرة، والشر شر الآخرة، فيكون له سلوك فريد يظهر في استقامته ونزاهته وأمانته وحسن خلقه وعفوه وطهارة قلبه، كل ذلك وأكثر منه لأجل ابتغاء ثواب الآخرة وما عند الله من الجزاء الحسن فيها.(1/4)
فيكون جزاؤه أن الله يهبه الحياة الطيبة والمستقرة في دنياه، ويصلح ذات بينه، ويقوي روابط الأُلفة والود مع من حوله، ويبارك الله له في جميع أموره – وهذا من جمع شمله.
ثم إن الله يهبه القناعة بحيث لا يكترث بزهرة الدنيا، ولا يحزن على فواتها، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده، ولا تنقطع نفسه لهثًا وراء طلبها، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فإنه يعلم أن في ذلك رحمة وحكمة بالغة.
وهذا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها، بل يقول الله تعالى: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [القصص: 77]، ومع ذلك فإن الدنيا لا تفوت ذلك الإنسان الذي أشغله فكرُ الآخرة وهمُّها عن الحرص على الدنيا، ومصالحه لا تتعطل، فقد جاء الوعد بأن الله يسوق له رزقه من الدنيا سوقًا.
أما ذلك الإنسان الآخر الذي ألهته وأشغلته دنياه عن تذكر الآخرة وذكرها فهو يقيس الأمور بميزان منفعته الخاصة والعاجلة، لا يهمه إلا نفسه، ولا يراعي حقوق غيره إلا في حدود ما يحقق النفع له، فإذا هو مبعثر الهمة مشتت الأمر، قد ساءت علاقاته، وتبددت أواصر الألفة بينه وبين أقرب الناس له، وإن بقي من علاقاته شيء فهي علاقات باهتة جامدة. ومع كل ذلك الحرص والجمع فلا يزال يشعر أنه في نقص وحاجة ولو حيزت له الدنيا بما فيها.
6- ثم إن في تذكر الآخرة والنظر في أخبارها وأنبائها، تحديث بنعمة الله وفضله إذ كشف لنا من علم الغيب الذي لا سبيل لعقل إدراكه البتة. وهذا فضل الله علينا إذ ميزنا بأنباء هذا الدين العظيم من بين سائر البشر على وجه الأرض، حيث إن التطلع إلى ما يحدث في المستقبل أمر فطري، وتوجد له رغبة شديدة في النفس. لذا نجد البعض يلجأ في معرفة ذلك إلى الكهان والعرافين، أما نحن فقد جاءنا من الله ما فيه غناء وكفاية.(1/5)
وقد جاءت الأخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بما سيكون في آخر الزمان من علامات وأحداث عظام، دالة على قرب الساعة، وقد ظهر الكثير من علاماتها وتحقق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - ، فكل يوم يزداد فيه المؤمنون إيمانًا وتصديقًا وإشفاقًا من قرب وقوعها. وقد أخبر بذلك صراحة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ويشير بأصبعيه فيمدهما. متفق عليه.
وقد قال الله تعالى: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [القمر: 1].
وقال تعالى: { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا } [المعارج: 6، 7].
وقال تعالى: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا } [الأحزاب: 63].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر الساعة احمرَّت وجنتاه، وعلا صوته واشتد غضبه، كأنه نذير جيش يقول: «صبَّحكم ومساكم» رواه مسلم.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكّر أصحابه بالساعة وينذرهم قرب وقوعها، ويخبرهم بعلاماتها حتى أشفق الصحابة - رضي الله عنهم - من قيام الساعة عليهم، وقد صرح القرآن أن وقت وقوعها من خصائص علم الله، لذا فإنه لم يُطلع أحدًا على وقت وقوعها، لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } [الأعراف: 187].
والحكمة من وراء إخفاء وقتها -والله تعالى أعلم- أن المؤمن بها يظل مترقبًا لها باستمرار، ومن موعدها على حذرٍ دائمٍ وعلى استعداد دائم.
والخوض في وقتها تَقَوُّل على الله بغير علم، ومخالفة للمنهج القرآني والنبوي الذي وجَّه الناس إلى ترك البحث في هذا الموضوع، ودعاهم إلى الاستعداد لهذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح.
* * * *
أسماء اليوم الآخر(1/6)
قد أُطلق على ذلك اليوم العظيم الذي يحلُّ فيه الدمار بهذا العالم، ثم يعقبه البعث والحساب والجزاء أسماء كثيرة قد عدَّها بعض أهل العلم فبلغت خمسين اسمًا كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري.
من أشهرها:
1- يوم القيامة: لِما يقوم فيه من الأمور العظام، ولأن الناس يقومون فيه لرب العالمين.
2- يوم البعث: أي يوم إحياء الموتى.
3- القارعة: سميت بذلك لأنها تقرع القلوب.
4- يوم الدين: أي يوم الجزاء والحساب.
5- الصاخة: وذلك لِمَا يصاحبها من صوت شديد يبالغ في الإسماع حتى يكاد يصم.
6- الطامَّة الكبرى: لأنها تطم على كل أمر هائل فظيع.
7- يوم الحسرة: لشدة تحسر العباد في ذلك اليوم وندمهم.
8- الغاشية: لأنها تغشى الناس بأفزاعها وتغمُّهم.
9- يوم الآزفة: سُمي بذلك لاقترابه.
وغير ذلك من الأسماء الكثيرة، وقد تعددت أسماؤه لعظم أمره وكثرة أحواله وأوصافه.
والآن...
ماذا عن اليوم الآخر؟
يوم القيامة يوم عظيم أمره، شديد أهواله، طويل مداه، لا يلاقي العبد مثله؛ لأجل ذلك لن يكون حديثنا عنه سوى إشارات ووقفات؛ لأننا مهما اجتهدنا في ذكر وصفه وأحواله لن نصل إلا الإحاطة بكل ما ورد من خبره في كتاب وسنة، ولن نتمكن من استقصاء جميع أحواله وتتبعها ولكن فيما سنذكره ذكرى وتنبيه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
بداية ذلك اليوم تكون بالنفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل فيعيد الله الأرواح إلى أجسادها بعد أن أنبتها وأنشأها بعد الفناء كما صحَّت بذلك الأحاديث، فيعيد الله العبادَ أنفسهم الذين كانوا في الدنيا، ولكنهم بخصائص وصفات غير التي كانوا عليها في الحياة الدنيا، فمن ذلك أنهم لا يموتون مهما أصابهم: { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [إبراهيم: 17]. ومن ذلك: إبصارهم أمورًا ما كانوا يستطيعون إبصارها في الدنيا كالملائكة والجن وغير ذلك ما الله به عليم.(1/7)
ينطلق الناس من قبورهم ويقومون قومة رجل واحد متجهين اتجاهًا واحدًا ليس فيه يمنة ولا يسرة مسرعين، قال تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ } [طه: 108]، وقال تعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج: 43]، يخرجون حُفاة عُراةً غُرلاً – غير مختونين.
ولشدة هول ذلك اليوم تشخص أبصار العُصاة والظَلَمة، فلا تطرف أبدًا وتصبح أفئدتهم خالية وتعي ولا تعقل، { وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [إبراهيم: 42، 43].
بل وترتفع القلوب لدى الحناجر من شدة الخوف والهلع { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [غافر: 18] أي: ساكتين لا يتكلمون.
فيجمع الله الأولين والآخرين في ذلك اليوم في مكان واحد هو أرض المحشر، وهي أرض غير الأرض التي نحن عليها، قال تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم: 48].
وكما جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يُحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء، عفراء -أي: بيضاء إلى حُمرة- كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد».
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «تذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها، وتمد مد الأديم العكاظي».(1/8)
ويكون تبدل هذه الأرض بعد الدمار الكوني الشامل الرهيب الذي يصيب الأرض وجبالها، والسماء ونجومها وكواكبها. فقد حدثنا القرآن أن: الأرض تزلزل وتدك، والجبال تسير وتنسف، والبحار تُفجر وتُسجر، والسماء تتشقق وتمور، والشمس تُكور ويذهب ضوؤها، والقمر يخسف، والنجوم يذهب ضوؤها وينفرط عقدها وتتناثر.
والأمر هائل عظيم، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : «ليس الخبر كالمعاينة» رواه أحمد وإسناده صحيح.
والملائكة تحيط بذلك الموقف الرهيب فتنزل صفوفًا صفوفًا من أرجاء السماء المنشقة.
هذا بعض ما جاء في شأن مكان ذلك اليوم، وأما زمانه ومدته فهو خمسون ألف سنة، قال تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4].
ولطول ذلك اليوم يظن الناس أنهم لم يلبثوا في الحياة الدنيا إلا ساعةً من نهار استقصارًا لها بالنسبة لطول ذلك اليوم وهوله، وتغير مراحله، قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ } [يونس: 45]، { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } [الروم: 55].
أما السمة الظاهرة على كل الناس في ذلك اليوم أن كلاً منهم مهتم بنفسه فقط، ولا يلتفت إلى غيره مهما كان ذلك الغير عزيزًا لديه في الدنيا، بل إنه يفر من أحب الناس إليه، وأعظم من ذلك أنه يسعى لفكاك نفسه من العذاب ولو بتقديم أقرب الناس إليه فدية عنه.
قال تعالى: { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه } [عبس: 33-37].(1/9)
وقال تعالى: { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُئْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ } [المعارج: 11-14].
الطابع العام لذلك اليوم والأصل فيه أنه يوم شاق عسير طويل كما وصفه الله تعالى في القرآن: { يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } [الدهر: 10]، { يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر: 8]، والعذاب فيه واقع: { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [المعارج: 1].
إلا أنه جاءت بعد تلك الآيات ما يدل على أنه يُهون وييسر على أقوام دون آخرين كما قال تعالى: { عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [المدثر: 10]، فيُفهم أنه ييسر على المؤمنين، وكذلك جاءت نصوص السنة على أن ذلك اليوم يَقصُر على أهل الإيمان والعمل الصالح، وأن العذاب مدفوع عنهم، وهذا يفهم من قوله تعالى: { لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [المعارج: 2].
والمقصود أن الناس عندما يخرجون من قبورهم في خضم ذلك الهول العظيم المفزع تتفاوت أحوالهم، ويتميزون كلٌّ حسب إيمانه وعمله.
أما المؤمنون وأهل العمل الصالح:
فتتلقاهم الملائكة تهدئ من روعهم وتطمئنهم، قال تعالى: { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء: 103].
والسر في الأمن أن قلوبهم كانت في الدنيا عامرة بمخافة الله تعالى ومن الوقوف بين يديه كما قال عز وجل عنهم: { إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } [الدهر: 10].
{ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } [المعارج: 27، 28].
وكما أخبرنا الله عز وجل أنَّ جزاءهم من جنس عملهم فقال: { فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } [الدهر: 11].(1/10)
وفي الحديث عن شداد بن أوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي» رواه أبو نعيم بإسناد حسن.
ثم إنهم يكسون الثياب الكريمة ليتم لهم الشعور بالأمن.
وبعد ذلك تُعد لهم المراكب بحسب أعمالهم الصالحة، تحمل كلاً منهم إلى مقامه الأمين ومقاعد العز والشرف.
فمنهم المظلل تحت ظل عرش الرحمن وقاية له من الشمس وحَرِّها التي تدنو من رءوس العباد في ذلك اليوم مقدار ميل، فلا يعانون من الكربات التي يقاسي منها الآخرون، ومنهم السبعة الذين جاء الحديث المتفق عليه بذكرهم، وهؤلاء هم أصحاب الهمم العالية والعزائم الصادقة.
وممن يظلل غير السبعة ممن دلت عليهم النصوص:
* كمن أنظر مٌعسرًا أو وضع عنه، لحديث عند مسلم.
* ومن غزا مجاهدًا، لحديث عند ابن حبان وغيره بسند جيد.
* ومن أعان مجاهدًا، لحديث عند أحمد والحاكم بسند جيد.
* ومن أرفد غارمًا، ومن أعان مكاتبًا، لحديث أحمد والحاكم المشار إليه آنفًا.
* ومن كان تاجرًا صدوقًا، لحديث عند البغوي بسند جيد.
* ومنهم صاحب القرآن وبالأخص أهل سورة البقرة وآل عمران، كما جاء في الحديث أنهما تظلان صاحبهما كغمامتين أو غيايتين أو فرقين من طير.
* ومن المؤمنين في ذلك الموقف المرفوع على منابر النور، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «المقسطون عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».(1/11)
* ومنهم من تحل به كرب يوم القيامة بسبب ذنوبه ومعاصيه، فيأتيه عمله الصالح في تفريج كرب إخوانه المسلمين في الدنيا فيفرج عنه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نَفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
وحديث: «من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة».
ويمتاز المؤمنون من هذه الأمة الذين استجابوا لله وللرسول، وأقاموا الصلاة وأتوا بالوضوء كما أمرهم بعلامة شرف وكرامة وهي أنهم يأتون غرًا محجلين من أثر الوضوء، والمراد به النور الكائن في وجوههم وأطرافهم، ثم إنهم يحلون بالحلل في تلك المواضع.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».
أما صاحب القرآن، فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن: يا ربِّ حله، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه».
هذه بعض أحوال أهل الإيمان والتقى في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه الإنسان مال ولا جاه ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم من الشرك مع زاده من الإيمان والعمل الصالح.
ولا بد لنا بعد ذلك من إيراد وبيان بعض أحوال العصاة وما يلقونه نتيجة معاصيهم في ذلك اليوم، إن ماتوا على غير توبة أو أن الله عز وجل لم يغفر لهم قبل ذلك.(1/12)
وبالجملة، فإن كل من مات من أهل التوحيد، وقد اقترف ما يسخط الله، ولم تكفر ذنوبه تلك قبل موته بشيء من المكفرات، فهو تحت مشيئة الله عز وجل، إما أن يغفر له أو يعذبه، وعذابه هذا يصيبه من بعد موته.
وللعصاة عذاب في أرض المحشر كما جاء في حال مانع الزكاة، مع ما يصيبه من أهوال القيامة. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفِّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت عليه، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار».
وقد يدخل العاصي النار، ويلبث فيها حتى يطهر، ثم يخرج منها كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار، حتى يكونوا فيها حُممًا، ثم تدركهم الرحمة، فيخرجون، فيطرحون على أبواب الجنة» قال: «فيرش عليهم أهل الجنة الماء، فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة» رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح.
فالواجب على المسلم أن يسعى لما يكون سببًا في نجاته يوم القيامة، وأن يبادر بالتوبة من كل ما يغضب الله – عز وجل – ما دام في زمن الفسحة والمهلة قبل أن يندم على تفريطه وتسويفه، ويتمنى الرجعة للدنيا ليعمل الصالحات، أو يتمنى أن يُزاد له في العمر حينما يعاين ملائكة الموت، وقد نزلوا لقبض روحه، ولكن الله – عز وجل – يقول: { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون: 11].
ولقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة ببيان جزاء أعمال أتى بها أصحابها وذلك في يوم القيامة وقبل الانصراف إلى جنة أو نار ومن ذلك:
* من ترك الصلاة أو تهاون بها أو تكاسل عنها:(1/13)
فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن الصلاة: «من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبُي بن خلف» رواه أحمد وابن حبان وإسناده صحيح.
* حال المغتابين والنمامين وذي الوجهين:
وهذه أمور قد عَمَّ البلاء بها – خصوصًا بين النساء – وحصل بسببها فساد عظيم، وأولئك من أشر الناس وأكثرهم إفسادًا إذ لهم لسان متقلب يتكلم بحسب أهوائهم.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» خرجه أحمد وأبو داود وهو صحيح.
وعن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أكل لحم أخيه في الدنيا قُرِّب له يوم القيامة، فيقال له: كُلْهُ ميتًا كما أكلته حيًا، فيأكله ويكلح ويصيح» حسن الإسناد، والكلح: التكشير في عبوس.
وعن عمار بن ياسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» رواه أبو داود وغيره، وهو صحيح.
حال المتكبرين:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمَّى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال» رواه الترمذي وهو صحيح.
الذر: هو صغار النمل التي لا يعبأ بها أحد فتوطأ من غير شعور.
من لا يكلمهم الله يوم القيامة:(1/14)
قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: «أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم، إنما يكلمهم بالتوبيخ، وقيل: أراد به أن يكون عليهم غضبان، كما يقال: فلان لا يكلم فلانًا إذا كان عليه غضبان».
منهم:
المسيل إزاره: أي الذي يطيل ملابسه من الرجال ويجعلها تجاوز كعبيه نحو الأرض، والمنان، والذي يحلف كذبًا ليجعل لسلعته أو ما يبيعه رواجًا وقبولاً، فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم». قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا. مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» رواه مسلم.
ومن هؤلاء: العاق لوالديه، والمرأة التي تقلد الرجال وتتشبه بهم في لباسهم أو هيئتهم ونحو ذلك، والديوث، وهو الذي لا غيرة له على أهله أو يرى الخبث فيهم ويقره.
فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» صحيح.
حال المصورين:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صوَّر صورة في الدنيا كُلَّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ» متفق عليه.
حال المتبرجات:
لقد جاء فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حال النساء المتبرجات المجانبات للستر والحياء أنهن يوم القيامة يؤخرن ويبعدن عن دخول الجنة، وأنهن يبقين عاريات في ذلك الموقف بعد أن يكسى أهل الإيمان والعمل الصالح.(1/15)
فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «صنفان من أهل النار لم أرهما: - وذكر منهما -: نساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا».
وفي رواية للإمام أحمد: «العنوهن فإنهم ملعونات».
وفي رواية للحاكم: «سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر – أي السروج العظام – حتى يأتوا أبواب مساجدهم، نساؤهم كاسيات عاريات».
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح رواية مسلم: «تكشف عن بدنها إظهارًا لجمالها، فهن كاسيات عاريات، أو يلبسن ثيابًا رقاقًا تصف ما تحتها، كاسيات عاريات في المعنى».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أشراط الساعة.. أن تظهر ثياب تلبسها نساء كاسيات عاريات».
وفي الحديث الذي رواه البخاري قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «رُب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة».
وقد وجَّه صاحب فتح الباري الحديث بعدة وجوه منها: أن تكون المرأة كاسية بالثياب ولكنها شفافة لا تستر عورتها، فتعاقب في الآخرة بالعُري جزاء على ذلك.
أو أن تكون المرأة كاسية جسدها، ولكنها تشد خمارها من ورائها فيبدو صدرها وثنايا جسمها؛ فتصير عارية، فتعاقب في الآخرة».(1/16)
وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف هؤلاء النسوة بأنهن: «كاسيات عاريات» وأيضًا: «مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة»، وهذا إخبار عن شيء مشاهد في هذا العصر؛ كأنه - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى عصرنا هذا، ويصفه لنا، فقد أصبحت في عصرنا هذا أماكن لتصفيف شعور النساء وتجميلها وتنويع أشكالها في محلات تسمى (كوافير) يتقاضون أغلى الأجور، وليس ذلك فحسب، فكثير من النساء لا يكتفين بما وهبهن الله من شعر طبيعي، فيلجأن إلى شراء شعر صناعي، تصله المرأة بشعرها؛ ليبدو أكثر نعومة ولمعانًا وجمالاً.
فينبغي على المرأة العاقلة المؤمنة أن تتأمل هذا الموقف العظيم والوعيد الشديد الذي سيجزه عليها خروجها عن الآداب الشرعية بلبس ثياب غير ساترة، ولتقارن وتوازن بين أن تلبس تلك الثياب العارية وتوافق الموضة وأهواء السفيهات وبين اللعنة في الدنيا والعري والفضيحة والخزي يوم القيامة ثم النار والعياذ بالله وحجبها عن دخول الجنة، في الحقيقة إنها موازنة غير متكافئة البتة.
ولا شك أن المؤمنة ستؤثر السلامة في دينها وآخرتها على أي إغراء كمثل هذا اللباس العاري.
كما لا يغرنك أختي المسلمة كثرة المتمردات على الدين والحياء في هذه القضية بالذات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أراه الله تعالى النار فوجد أكثر أهلها من النساء، كما ثبت بذلك الحديث.
ومن الملاحظ في حديث مسلم السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر من أسباب دخول هؤلاء النسوة النار سوى أمر اللباس والزينة والإغواء بمعنى أنهن كن مسلمات يصلين وعندهن مطلق الإيمان. ومع ذلك عذبن بالنار بسبب هذه الذنوب خاصة.
الشفاعة
عندما يشتد البلاء بالناس في ذلك الموقف العظيم ويطول بهم الأمر، يبحث العباد عن أصحاب المنازل العالية ليشفعوا لهم عند ربهم؛ كي يأتي لفصل القضاء بينهم وتخليصهم من كربات الموقف وأهواله واشتداد حرِّه بدنو شمسه وضيقه.(1/17)
فيذهبوا أولاً إلى آدم - عليه السلام - ويطلبوا منه الشفاعة عند رب العالمين في الفصل بينهم ليستريحوا من مقامهم؛ فيأبي ويعتذر ويحيلهم إلى نوح - عليه السلام - فيأبي كذلك ويعتذر، ثم يحيلهم إلى موسى - عليه السلام - ، وهكذا يحيلهم موسى إلى عيسى عليهم السلام جميعًا، ثم يدفعهم عيسى إلى الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول: «أنا لها» فيقوم مقامًا يحمده عليه الأولون والآخرون، تظهر به منزلته العظيمة، فيستأذن ربه فيأذن له فيحمده ويمجده، فيستجاب له، فيبدأ موقف الفصل والحساب بموقف جليل مهيب.
فيأتي الرب جل وعلا وتشرق أرض المحشر بنوره جل جلاله بعد أن ذهبت الأنوار جميعها وأظلمت الأرض.
ويُجاء بكتب الأعمال، ويحضر الشهداء من الملائكة والنبيين، قال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً } [الكهف: 49].
وقال تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [الزمر: 69]، ثم يُعرض الناس على ربِّهم صفوفًا صفوفًا في خشوع وذلة. قال تعالى: { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } [الكهف: 48].
ولشدة الهول تجثوا الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب، لعظم ما يشاهدونه وما يسمعونه من الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 28].(1/18)
فتتبع كل أمة ما كانت تعبد من دون الله تعالى وتتساقط في النار هي ومعبوداتها، فلا يبقى بعد ذلك إلا من عبد الرحمن من هذه الأمة وغيرها من الأمم، فيأتيهم ربُّهم فيقول لهم: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا فيعرفونه بساقه عندما يكشفها لهم، وعند ذلك يخرُّون له سجودًا إلا المنافقين فلا يستطيعون { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } [القلم: 42].
الحساب
يبدأ الحساب فيتفاوت مقام العباد في ذلك، فمنهم من يؤمرون فينطلقون إلى الجنة بغير حساب، وهم فئة قليلة لا يجاوزون السبعين ألف، وهم الصفوة من الأمة والقمم الشامخة في الإيمان والتقى والصبر والجهاد.
ومنهم من يحاسب حسابًا يسيرًا من غير نقاش ولا تدقيق، وإنما تعرض عليهم أعمالهم عرضًا ثم يتجاوز عنهم حتى يقول له الرب جل وعلا: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».
ومنهم من يوبخ ويعاتب.
وبعض الناس يطول حسابهم ويعسر بسبب كثرة الذنوب وعظمها وإصرارهم عليها ومجاهرتهم بها. ومن نوقش الحساب واستقصى عليه فقد أُفضي إلى العذاب كما في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك» فقلت: يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [الانشقاق: 7، 8]؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا هلك».
ومن ذلك مناقشة المرائين بالأعمال الصالحة.
وأول ما يحاسب عليه العباد الصلاة، فإن صلحت أفلح ونجح، وإن فسدت خاب وخسر.(1/19)
وفي ختام مشهد الحساب يُعطى كل عبد كتابه المشتمل على سجل كامل لأعماله التي عملها في الحياة الدنيا ويقال لهم: { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 29]، وتختلف الطريقة التي يؤتى بها العباد كتبهم، فأما المؤمن فإنه يؤتى كتابه بيمينه من أمامه بعد محاسبته الحساب اليسير، وينقلب إلى أهله مسرورًا.
وأما أهل المعاصي والنفاق فإنهم يأتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، وعند ذلك يدعون بالويل والثبور.
الموازين
وفي ختام ذلك اليوم ينصب الميزان لوزن أعمال العباد، يقول القرطبي: «وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها».
وقد دلَّت النصوص على أن الميزان حقيقي وحسي ومشاهد كما قاله شارح الطحاوية، ولا يقدر قدره إلا الله تعالى: فقد روى الحاكم عن سلمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت» صحيح.
وأثقل ما يوضع في الميزان حسن الخلق كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي، وأيضًا كلمتي «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» كما في الحديث المتفق عليه، وأيضًا كلمة «الحمد لله» فإنها تملأ الميزان كما ثبت في صحيح مسلم.
الصراط
وبعد وزن الأعمال ينصب الصراط وهو الجسر الذي يُمد على متن جهنم، أحد من السيف وأدق من الشعر، طوله شهر تغشاه الظلمة، عليه حسك وكلاليب تخطف الناس.
فيقف أتباع الرسل الموحدون وفيهم أهل الذنوب والمعاصي وفيهم أهل النفاق، وتلقى عليهم الظلمة قبل الجسر، ثم توزع عليهم الأنوار كل حسب ما معه من إيمان وعمل صالح.(1/20)
وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إلى المؤمنين والاقتباس من نورهم عندما تطفأ أنوار المنافقين، وهذا موقف ثاني يتميز فيه أهل الإيمان عن المنافقين بعد الذي أشرنا إليه من عدم تمكنهم من السجود.
وقد حدثنا الحق تبارك وتعالى عن مشهد مرور المؤمنين على الصراط، فقال: { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الحديد: 12-15].
قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم في قول الله تعالى على لسان المؤمنين: { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } قالوا: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طفئ.(1/21)
ويعطي المؤمنون أنوارهم على قدر أعمالهم، ويسيرون على الصراط على قدر تلك الأنوار كما جاء في الحديث الصحيح الذي فيه: «فمنهم من يعطي نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطي نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطي نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطي دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره في إيهام قدمه، يضئ مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا أطفا قام، قال: فيمروا ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، ويقال لهم: أمضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إيهام قدمه، تخر يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا، قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد».
يقول القرطبي واعظًا بمشهد المرور على الصراط:
«فتوهم نفسك إذا صرت على الصراط ونظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة قد لظى سعيرها وعلا لهيبها وأنت تمشي أحيانًا وتزحف أخرى، والخلائق بين يديك يزلون، ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب وأنت تنظر إليهم، كيف ينكسون إلى جهة النار رءوسهم وتعلو أرجلهم، فيا له من منظر ما أفظعه ومرتقى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه».
قصاص المؤمنين بعضهم من بعض
في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا خلص المؤمنون من النار، حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذن نقوا وهذبوا أُذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا».(1/22)
ففي ذلك اليوم تكون ثروة الإنسان ورأس ماله حسناته، فإذا كانت عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر ما ظلمهم، فإن لم يكن له حسنات أو فنيت حسناته، فإنه يؤخذ من سيئاتهم فيطرح فوق ظهره حتى يرد في النار، وهذا هو المفلس كما سمَّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذت من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
والمدين الذي مات وللناس في ذمته مال يأخذ أصحاب الأموال من حسناته بمقدار ما لهم عنده، جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته، ليس ثمَّ دينار ولا درهم».
وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل فقعد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني ويخونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم فإنهم كفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لله، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل» فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي.(1/23)
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أما تقرأ قوله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47]».
ولما كان هذا شأن الظلم فحري بنا أن نخافه ونحذره ونجتنبه، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الظلم يكون ظلمات على صاحبه يوم القيامة، فقال - صلى الله عليه وسلم - : «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» رواه مسلم.
السعادة الأبدية
وبعد النجاة من النار ما ثمَّ إلا الدخول إلى الجنة دار الأبرار، وذلك هو الفلاح العظيم والفوز الكبير والنجاة العظمى { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران: 185].
ولا شك أن سعادة المؤمنين لا تعدلها سعادة عندما يساقون معززين مكرمين زمرًا إلى جنات النعيم، دار غرسها الله بيده وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص، اقرءوا إن شئتم { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17].
حتى إذا ما وصلوا إليها فتحت أبوابها، واستقبلتهم الملائكة الكرام مهنئة بسلامة الوصول بعد ما عانوه من الكربات وشاهدوه من الأهوال.
{ وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73].
فيتمتعون بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نعيم يحير العقول خبره ويذهلها؛ لأن تصوّر عظمته يعجز العقل عن إدراكه واستيعابه.(1/24)
فيا عجبًا ممن باع نعيمًا هذا وصفه بحياة فانية أشبه بأضغاث أحلام، ووا عجبًا ممن آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس، ومن باع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق ينتهي بلحد.
فاعلمي – أختي الحبيبة – على أن تلقي الله – عز وجل – وهو راضٍ عنك غير غضبان، وشمري ساعد الجد حتى تفوزي بالدرجات العليا؛ لأن سلعة الله غالية، وسلعة الله الجنة.(1/25)
ثم إن هناك في الجنة يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهة المنزَّه عن التمثيل والتشبيه كما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، فاستمعي يوم ينادي المنادي: «يا أهل الجنة.. إن ربكم – تبارك وتعالى – يستزيركم فحيَّ على الزيارة فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعدًا، وجمعوا هناك، فلم يغادر الداعي منهم أحدًا، أمر الرب – تبارك وتعالى – بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم على كثبان المسك، ما يرون أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة... سلام عليكم. فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب – تبارك وتعالى – ويضحك لهم، ويقول: يا أهل الجنة.. فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا، فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة.. إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد، فسلوني فيجتمعون على كلمة واحدة: (أرنا وجهك ننظر إليه) فيكشف الرب – جل جلاله – الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله – سبحانه وتعالى – قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا. ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه – تعالى – محاضرة حتى إنه ليقول: يا فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى: بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
فيا لذة الأسماع بتلك المخاطبة. ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة. ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة.(1/26)
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [القيامة: 22-25].
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل بطاعته، وأن ينجينا من النار بمنِّه وكرمه، وأن يدخلنا الجنة برحمته وفضله إنه سميع مجيب قريب.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * * *(1/27)