كلمة الناشر
توجهنا إلى فضيلة الإمام الشيخ محمد الغزالي بمائة سؤال عن الإسلام، وتوخَّينا أن تكون الأسئلة إثارةً وتبيانًا؛ إثارةً لشُبْهة الذين يضعون الشبُهات في طريق الإسلام والذين يَجهَلون حقائقه فهم في جهلهم يَعمَهون، وتبيانًا ونورًا للذين هم مشغوفون بأن يزدادوا بالإسلام علمًا وله فهمًا حتى يثبِّتهم الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
والشيخ الإمام من الذين لهم قَدَمُ صدق عند ربهم ودراية كاثرة بدينهم، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا.
وحين توجَّهنا بهذه الأسئلة المائة لم يُخامرنا شك في أننا سنَظفَر منه بأصدق الإجابات وأزكاها. كما لم يدخُلْنا ريب في أننا نقدم للمسلمين ـ ولغير المسلمين من الذين يبحثون عن الحقيقة في شوق عظيم ـ نورًا مبينًا ورؤية جديدة ومجيدة لطائفة من قضايا الإسلام.
فالشيخ الغزالي من عُدول هذا العصر الذين توَّجَهم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله: "يَحمِلُ هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُه؛ يَنفُونَ عنه تحريفَ الغالِين، وانتحالَ المبطِلين، وتأويلَ الجاهلين".
والشيخ الإمام من الذين إذا صمَتوا أسمَعوا، وإذا قالوا أقنَعوا. وله بالإسلام فَهْم مقتَدر وثاقب.
وقد قُوبِل الكتاب في طبعاته السابقة، بحمد من الله وفضل، بحفاوة بالغة من القُرَّاء من المسلمين، وممَّن هم في طريقهم إلى الإسلام.
وها هي ذي طبعة جديدة من الكتاب تضم الجزأين معًا لأول مرة، كتاب واحد ينتظم مائة سؤال بإجاباتها.
ونرجو أن نكون بتقديمنا لهذا العمل قد حققنا بعض أهدافنا من إصدار هذا الكتاب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(1/1)
مقدمة
قلَّبتُ بصري في عشَرات الأسئلة المعروضة عليَّ ثم قلتُ لصاحبي: إنني في كتُبي الكثيرة قد تعرَّضت لهذه الموضوعات، وأحسبني أجبتُ عنها إجابة شافية!
قال: لا تستطيع أن تُحيل الناس على ما كتبتَ في أسئلة محدَّدة تُوَجَّه إليك، أَعطِ خلاصة علمية موجزة سهلة في الموضوع المطلوب منك، حتى يرجع السائل وقد أضاء الحق لُبَّه وقلبه. وتَرَيَّثْتُ قليلاً ثم قلتُ لنفسي: إن هذا العلم خزائن، لعل الأسئلة تكون مفاتيحه! وما يدريني لعل الله يؤتيني الرشد ويُلهمني الصواب، فأكشف ظُلْمة، أو أمحو حَيْرة، أو أُطْفِئ فتنة، أو أثبتُّ حقًّا يَعصِف من حوله الباطل. وقررتُ أن أجيب بعد أن يعافيَني الله من بعض العِلَل.
ولمَّا شرعتُ أكتب، وجدت أني قلَّما أُكَرِّر نفسي، ففي هذا الكتاب حقائق جديدة، أو أداء أخصر وأيسر، أو ترتيب لأدلة كانت مشوَّشة فيما يقرأ الناس من علوم الدين، أو مزاوجة بين التراث القديم والعقل الحديث.
فإذا وقع بعد ذلك تكرار لفكر سبق فهو مغتَفَر، إن شاء الله، مع هذه الفوائد الجمة اللاحقة.
إن اللوم يتجه إلينا ـ نحن دعاةَ الإسلام ـ لأننا لا نعرف طبيعة العصر الذي نعيش فيه، والمنطق الذي يُقنع أهله، والشبهات التي جدَّت مع مَدَنِيَّته!
وبعضنا قد يحيا متخلِّفًا عن عصره ألف سنة، يخاصم فِرَقًا بادت، ويناقش قضايا نُسيَتْ ما يُحِب الناس أن يسمعوا عنها جدًّا ولا هزلاً. والإسلام لا يُخدَم بهذا الأسلوب.
وحين نظرت في الأسئلة المطروحة عليّ أدركت أنها وُضعت بحكمة وسيقت إلى هدف، وأن الإجابة الحسَنة عنها تُغني الثقافةَ الإسلامية، وتجلو غبارًا كثيرًا عن حقائق الرسالة الخالدة.
إن الإسلام دين عظيم حقًّا، بيد أن الساسة الذين حكموا باسمه من بضعة قرون لم يرتفعوا إلى مستواه، إلا مَن عصَم الله. وكان لذلك أثره في مسيرة الدعوة وإيضاح معالمها!(1/2)
ومُصابنا هنا يجب أن يجبُره نشاط علمي دءوب مخلص شجاع، يَرد التُّهم ويُقيم العِوَج وينفع العالمين برحمة الله المهداة، ويصل الناسَ بربهم عن الطريق الوحيد المحترم، طريق العقل المفتوح والمنطق السمح والجدال الحسن.
وإنها لفجيعة أن يسبق الجَادَّ أعرجُ، ويتأخر هديٌ مستقيم لا لشيء إلا لأن حملة هذا الهدي كُسَالى ومفرِّطون!
أعترف بأني لولا عون الله ما كنت لأخُطُّ حرفًا، فقد حاصرتني متاعب كثيرة، وأملي أن أكون قد وُفِّقتُ ونِلتُ ما أطمَح فيه من مغفرة الله ورضاه.
محمد الغزالي(1/3)
1ـ ما الإسلام؟ ولماذا سمي كذلك؟
الإسلام: الخضوع لله، وتسليم النفسِ والأمرِ إليه سبحانه.
أي إقامة العلاقة بين الإنسان وربه على مبدأ "السمع والطاعة".
قد يشعر امرؤ بأنه لا سلطان لأحد في الأرض والسماء عليه، وأنه يفعل ما يَهوَى دون ارتباط بتوجيه ما. وقد يُقبَل هذا الشعور في تحديد العلاقة بين إنسان وإنسان مثله، أما بين الإنسان وربه الذي خلقه بقدرته، وربَّاه بنعمته، ورسم له طريقًا مستقيمًا، وأمره أن يسير عليه ـ فلا مكان لهذا التمرد والشموخ.
إذ الواجب أن يجعل الإنسانُ نفسَه تابعًا لمراد الله، أو الشخصَ الذي يتلقَّى التعليمات من أعلى ويرى ضرورة التزامها. قال الله تعالى: (ومن يُسلِم وجهَه إلى اللهِ وهو مُحسنٌ فقد استَمسَك بالعُروةِ الوُثقَى وإلى اللهِ عاقبةُ الأمورِ) (لقمان: 22).
وماذا يمكن أن تكون العلاقة بين الخالق والمخلوق؟
بين موجود سيقضي على ظهر الأرض بضع عشرات من السنين، تقل أو تكثر، ثم يرجع بعد ذلك إلى مَن أوجده؟
أتكون علاقة تجاهل أم معرفة؟
أتكون علاقة تمرد أم خضوع؟
إنه طبيعي جدًّا أن يعرف الإنسان هذا الرب الكبير، وأن يرتبط بأمره ونهيه، وأن يتوجه وَفْقَ هَدْيه، وهذا هو معنى الإسلام وهو المعنى الذي قرره المرسَلون.
قال تعالى: (إن الدينَ عند اللهِ الإسلامُ) (آل عمران: 19).
والمرء إذ يُعلن خضوعَه لله واحترامه لوصاياه، وانقيادَه المطلَق لتوجيهه سبحانه ـ يتجاوب مع الكون كله الساجد لربه، الهاتف بمجده: (أفغيرَ دينِ اللهِ يَبغُونَ. وله أَسلَمَ مَن في السماواتِ والأرضِ طَوعًا وكَرهًا وإليه يُرجَعون) (آل عمران: 83)
ويُخطئ مَن يظن الإسلام عنوانًا خاصًّا بالدين الذي جاء به "محمد" منذ خمسة عشر قرنًا، إن الإسلام عنوان لجميع الرسالات التي هَدَت الناس من بَدْء الخليقة إلى يوم الناس هذا.(1/4)
صحيح أن حقيقة الإسلام بلَغَت تمامَها، وأخذت صورتها الأخيرة في رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيد أن هذا العنوان أطلقه القرآن الكريم على ما بلَغه أنبياء الله كلهم دون استثناء.
إن إسرائيل ـ وهو لقب التشريف ليعقوب ـ ليس إلا نبيًّا دعا إلى الإسلام وتشبََّث به ومات عليه وأوصى به أولاده: (أم كُنتُمْ شُهَداءَ إذ حضَرَ يعقوبَ الموتُ إذ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعبدون من بعدي قالوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وإلهَ آبائِكَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ إلهًا واحدًا ونحنُ له مُسلمونَ) (البقرة: 133).
والواقع أن الدولة التي تُسمَّى اليوم بـ "إسرائيل" هي اسم بلا مسمًّى، وعَلَم على وَهْم كبير؛ لأن إسلامها لله صفر أو قريب من الصفر.
وكان عيسى يعلِّم أتباعَه الانقيادَ لله وصدق عبوديته. وتأمَّل في هذه الآية: (وإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الحواريِّينَ أن آمِنوا بي وبرسولي قالوا آمنَّا واشهَد بأنَّنا مسلمونَ) (المائدة: 111).
ويشمل وصفُ الإسلام جميعَ الأنبياء الذين نفّذوا الأحكام السماوية بدءًا من عهد التوراة إلى اليوم. قال تعالى: (إنا أنزَلنا التوراةَ فيها هدًى ونورٌ يَحكمُ بها النبيون الذين أسلَموا للذين هادُوا والربانيون والأحبارُ بما استُحفِظوا من كتابِ اللهِ وكانوا عليه شهداء) (المائدة: 44).
ولا يصح الإسلام إلا باكتمال حقيقتين مهمتين؛ أولاهما حسنُ معرفة الله، وتصور الألوهية بأمجادها كلها. فلا يعَدُّ مسلمًا من أشرك بالله شيئًا، أو نسَب لله ولدًا، أو ظنَّ الذات العليا مُتَلَبِّسة بالعالَم حالّةً في الكون الذي نعيش فيه. لابد من العلم الصحيح بالله. ويجيء بعد ذلك الانقياد له وتنفيذ أوامره.
وفي القرآن الكريم فيض غامر من تنزيه الله، والثناء عليه، وإحصاءٍ لأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى، وإبرازٍ لمعالم العظمة الإلهية ـ لا مثيل له في كتاب قديم أو حديث سماوي أو أرضي.(1/5)
فأنت تُحس عند قراءة القرآن بالشهود الإلهي على كل شيء والهيمنة المطلقة (له غيبُ السماواتِ والأرضِ أَبصِرْ به وأَسمِعْ ما لهم من دونِه من وليٍّ ولا يُشرِكُ في حكمِه أحدًا) (الكهف: 26).
وكيف لا يُسلِم المرء نفسَه لمَن خلَق كل شيء ودبَّر كل أمر، وملَك السمعَ والأبصار، وقلَّب الليل والنهار، وأرسل الرياح لواقِحَ، وفرَّج الكروب، وأخرج الحَيارَى من الظلمات إلى النور؟ وفي القرآن الكريم إنكار شديد وغضب هائل على من ينسُب لله ابنًا، أو يجعل له بعباده شَبَهًا: (قالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه هو الغنيُّ له ما في السماواتِ وما في الأرضِ إنْ عندَكم من سلطانٍ بهذا أتقولون على اللهِ ما لا تعلمون. قل إن الذين يَفتَرون على الله الكذبَ لا يُفلحون) (يونس: 68،69).
وبعد إثبات هذه الحقيقة في صحة المعرفة بالله تجيء الحقيقة الأخرى. وأساسها الانقياد التام لله، والاصطباغ بطاعته.
ولا يجتمع إسلام لله وتمرُّدٌ عليه، أو خضوع له ورفض لأمره!
فهل معنى ذلك أن المسلم لا يتورط في معصية؟
الحق أن المسلم إذا عرَض له عِصيان كان ذلك طارئًا غير محسوب، أو عملاً انزلَق إليه صاحبه وهو كارهٌ له، أو غير مستبِين لشره، ومن ثَمّ فهو يتخلَّص منه آسفًا ونادمًا وخجلان.
وطبيعة النفس وظروف البيئة قد تُوقع المرءَ في سيئة ما، كالذي يقود سيارته آيِبًا إلى بيته، فتَغفو عينه إغفاءة تُفقده السيطرة على مِقْوَد السيارة، فيُصاب هو أو يُصيب غيرَه.
إن نور العقل قد ينكسف، وطاقة العزيمة قد تنفَد، وعندئذ يقترف المرء ما لا يَليق، ولا يخرج المرء بذلك عن الإسلام: (إن الذين اتَّقَوْا إذا مسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مبصِرون) (الأعراف: 201)(1/6)
ولذلك رفض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استنزال اللعنة على شارب خمرٍ أوهن الإدمانُ إرادتَه ومروءتَه. إن هذا الشارب يمثل نوعًا من العصيان أو حالة من الاضطراب، غير ما يقع في مجتمَع آخر يزرع العنب ويُعِدُّ المعاصر، ويفتح الحانات، وينظم توزيع الإثم، ويفرض ضرائبَ على المتاجرة به.
الفارق بعيد بين مستبيح لا يرَى لله حقًّا ولا يُحس في عمله جُرمًا، ومعتَلٍّ خارت قواه فسقط. الأول مجرِم لا مسلِم، والآخر مريض تُلتمَس له العافية ويُحسَب بين أهل الإسلام.
وقد استطاع نبي الإسلام تكوينَ أمة مسلمة لله، تَنهَض للصلاة له من طلوع الفجر إلى غَسَق الليل، وتتردد على المساجد في رَتابة ودقة يمكن أن تُضبَط عليهما الساعات.
كما أن هذه الأمة التزمت في شئونها المدنية والعسكرية الثقافية والسياسية أن تُرضيَ ربها، وأن تتوجه وَفْقَ مراده بحرص وإخلاص.
قدوتها الأولى والأخيرة إنسان تجرَّد للحق وأصاخ من أقاصي فؤاده إلى أمر الله له: (قل إن صلاتي ونُسُكي ومَحيايَ ومَمَاتي للهِ ربِّ العالمينَ. لا شريكَ له وبذلك أُمِرتُ وأنا أولُ المسلمين) (الأنعام: 162،163).
وكذلك وعَى أتباعُه هذا القَسَمَ المؤكَّد: (فلا وربِّك لا يُؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجَر بينهم ثم لا يَجدوا في أنفسِهم حَرَجًا مما قَضَيتَ ويُسلِّموا تسليمًا) (النساء: 65).
إن خضوع الإنسانية لبارئها الأعلى صدق وشرف، وهذا هو الإسلام.(1/7)
2ـ لماذا كان الإسلام خاتم الأديان؟
الإسلام هو العلاقة الوحيدة بين الناس وربهم منذ بدأت الخليقة وتكونت للبشر مجتمعات. ونستطيع القول: إن القرآن حوَى جملة التعاليم التي بلَّغها الأنبياء الكبار ـ أعني أولِي العزم وحملةَ الرسالات المهمة ـ فلو كان موسى أو عيسى موجودَين لاكتَفَيا بما قال القرآن في ترسيخ العقائد وتأديب الأمم. أما الشرائع الجزئية فإن التفاوت فيها ليست له قيمةٌ كبيرة.
والإسلام الذي بلَّغه محمد وأخذ الناسَ به هو الصورة الأخيرة للوحي الأعلى، وهو كذلك الصورة العامة التي تستغرق الأجناس كلها، وتتناول الأجيال التي تسكن الأرض حتى قيام الساعة.
النبوات السابقة كانت كلها محلية مؤقَّتة؛ أي محدودة الزمان والمكان.
أما النبوة العامة الخالدة فهي نبوة محمد وحده، لا يَشْرَكُه في ذلك نبي من السابقين.
وعلة ذلك أن الإسلام بعدما زوَّد الإنسان بالوصايا الأخيرة للوحي الإلهي، وَكِلَ إلى عقله أن يتحرك ويشُقَّ طريقه، ويستغلَّ قدرته على الفهم والحكم وتعرُّف الصواب والمصلحة.
فانتهاء عصر الوحي هو ابتداء عصر العقل، وقد شرحنا ذلك بتفصيل في كتابنا "فقه السيرة".
إن نبي القرآن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرسى دعائم العقيدة والعبادة والخلُق، وساق نصوصًا حاسمة تَضبِط سيرة المرء وتقاليد الجماعة، وهذه أسس وتوجيهات لا تختلف باختلاف العصور، ولا يمكن اختراق أسوارها.
أما ما وراء ذلك من شئون ـ وما أكثره ـ فموكول إلى العقل الإنساني يمحو فيه ويُثبت.
في ميدان العلوم والأنشطة الأرضية وشئون الحياة المَدَنِيَّة والأطوار الحضارية يُقَدِّر العقل على الحركة دون قَيْد يضعه الدين. وفي كل المجالات التي تتحدد فيها المبادئ وتتحرر الوسائل يستطيع العقل أن يتصرف دون عائق.
فالشورى مثلاً مبدأ ديني لمنع الاستبداد السياسي، ومنع عبادة الفرد، وتمكين الأمة من فرض رقابتها على ما يعنيها.
والعقل له أن يضع من الدساتير ما يحقق هذه الغاية.(1/8)
والعدل مبدأ ديني لمنع الافتئات والتظالم.
وللعقل أن يشرِّع من القوانين وينشئ من المحاكم ما يحقق هذه الغاية إداريًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا.
والجهاد مبدأ ديني لحماية الإيمان وكبح الفتنة، ووسائل الجهاد في البر والبحر والجو لا حصر لها، والإبداع العقلي في هذه الميادين لا حدود له. بل إن شرائع العقوبات المروية تركت أغلب الجرائم للاجتهاد العقلي؛ مثل الغش والغصب والتزوير والربا والخيانة والاختلاس وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف... الخ.
وقد تنشأ أحوال يتعيَّن على العقل أن يعالجها ويرقُب آثارها؛ لأنها لم تُعهد من قبلُ في عهود الأنبياء. لا أقول: مثل غزو الفضاء وحرب الأقمار الصناعية. بل في النشاط الإنساني العادي على ظهر الأرض. فقد جدَّت قضايا خطيرة جعلت الحكومات تَفرض سلطانها على نحو لم يُعرف في تاريخ الحياة البشرية من قبل، وما يتم هذا العلاج إلا بالعقل اليقظ، مع استصحاب هذا العقل لوحي الإيمان وتقوى الله.
إن الله لا يُعجزه أن يرسل نبيًّا آخر، لكن هذا الإرسال سيكون عبثًا إذا كان عمل النبي المرتقَب قطرةً من البحر الذي سبقه، أو ترسُّمًا لخطاه، أو تكرارًا لما قاله. ومن ثَمّ اكتفَت الأقدار بكتاب محمد وحكمته في قيادة الإنسانية إلى آخر الدهر.
ولو أن ورَثة الإسلام من أمراءَ وعلماءَ أدُّوا واجبهم بأمانة ما كان هناك داعٍ لهذا السؤال:
لماذا كان الإسلام خاتم الأديان؟
فإن هذا التساؤل تولَّد من الفراغ والقصور الملحوظَين على الحياة الإسلامية العامة، وبخاصة في العصور الأخيرة.
من المقطوع به أن الأمة الإسلامية فقدت القدرة على قيادة نفسها بسبب فسادها الثقافي والسياسي فكيف تقود العالم؟ أو كيف تقدم نموذجًا لصلاحية الإسلام الأبدية لقيادة العالم؟(1/9)
إن أصحاب العقول يرفضون أن يُشَدَّ العالم إلى وراءَ، وأن تُوضَع قيود على حِراكه الفكري والحضاري. ولو كان الإسلام مسلكًا رجعيًّا، أو توقفًا حضاريًّا لرفضناه دينًا يَرقَى بأتباعه، بل دينٌ يَرقَى بالعالَمين.
لكنّ فقهاء الإسلام الحقيقيين قالوا: حيث تكون العدالة والرحمة فثَمّ شرع الله! حيث تكون الفضيلة والحرية والمصلحة فثَمّ شرع الله!
وماذا ينشُد الناس إلى آخر الدهر غيرَ هاتِيك الغايات؟
إن اختلاف الليل والنهار لن يَقلِب حقائق الأشياء. فإذا كانت الوحدانية صفة الله فإن هذه الصفة لن تتغير ولن تزول مهما اطَّرَدت مواكب الزمان.
وإذا كانت تبَعية الإنسان لربه حقًّا لا مَعدِلَ عنه، فإن تقدم الحضارة لن يَعنيَ أبدًا أن الإنسان استغنَى عن الله والصلاة له والضراعة إليه.
وقُلْ مِثْل ذلك في ميدان الأخلاق والعلاقات الإنسانية كلها.
ويوم ظن أهل الكتاب أن الدين عنوانٌ ومراسمُ وأوهامٌ مقدسة قيل لهم: كلاّ، الدين ارتباط بالله، وإحسان للعمل، ولن يُضام أحد أخلَص له قلبه، وأصلَح له عمله، واستقام على الطريق: (وقالوا لن يدخُلَ الجنةَ إلا مَن كان هُودًا أو نصارى تلكَ أمانيُّهم قل هاتُوا بُرهانَكم إن كنتم صادقين. بلَى مَن أَسلَمَ وَجهَه للهِ وهو مُحسِنٌ فله أجرُه عند ربِّه ولا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزَنون) (البقرة: 111ـ112).
لماذا لا تكون هذه الحقائق ختام الدين كله؟
رب العالمين يقول للناس في القارات المعمورة من أرضه: اتَّجِهوا إليَّ مخلِصين، وأحسِنوا كل عمل تُكَلَّفون به تَظفَروا بالأمن وتَنجُوا من الحزن وتكسِبوا الدنيا والآخرة.
ماذا بعد هذا الكلام؟ وماذا يقوله نبي آخر بعد محمد عليه الصلاة والسلام؟
على أن هناك شرائعَ تفصيليةً ترتبط بهذا الأصل ارتباط الشجرة بجِذعها، ولا يُقبَل الإهمال لهذه الشرائع الفرعية! غير أننا نَلفِت النظر إلى أمرين مهمين:(1/10)
الأول: أن تفكير المسلمين لانَ أمام بِدَع وخرافات أُدخِلَت على دين الله وهو منها بريء، وبرزت هذه الأهواء الدخيلة في أعمال المسلمين أكثر مما برزت معالم الدين الحق، ومن مصلحة الإسلام لكي يَبقَى أن يُنقَّى من هذا الغش.
الثاني: أن الترتيب المفروض بين شُعَب الإيمان سَرَت فيه الفوضَى، فتحولت أركانٌ إلى نوافلَ، ونوافلُ إلى أركان. وامتدت خيمة الغيبيات لتشمل أمورًا عقلية لها منطقها الحر، وتَبِعَت أحكامُ الحلال والحرام تقاليدَ بعض الأجناس التي اعتنقت الإسلام.
والمعروف أن الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلِّق بأفعال المكلَّفين، فلا حكمَ حيث لا خطابَ.
إن الإسلام كان ولا يزال الدينَ الذي ارتضاه الله لعباده إلى اللقاء الأخير. ومصلحةُ الإنسانية في استمساكها بهذه العروة الوثقى.(1/11)
3ـ هل يستطيع الإنسان السويُّ الرشيد أن يعيش بلا إسلام؟
لو كان التدينُ غباوةً لآثَرتُ العيش بلا دين!
ولو كان حرَجًا على النفس، أو قبولاً للدنِيَّة، أو سطوة عنصرية لآثَرتُ العيش بلا دين!
لكن الدين ليس كذلك، بل هو مخاصمة لكل ذلك.
إن المَلاحدة خلطوا خلطًا قبيحًا بين الحق الذي نزل من عند الله، وبين الباطل الذي صنعه البعض من عند نفسه وزعم أنه دين.
ومَن عرَض باطلاً ما على أنه دين فهو كاذب، والكفرُ بما عرَضه واجب.
والناس في عصرنا هذا فُرَقاء متباينون؛ منهم من يُنكر الألوهية ويتصور العالم لا رب له. ومنهم من يعترف اعترافًا غامضًا بالألوهية، ويحسَب الأديان الكبرى متساوية المنهج والقيمة. ومنم من يعتنق اليهودية أو النصرانية، ولا يرغب عنهما أبدًا. ومنهم الوثني المغلَق. ومنهم المسلم الذي رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولاً.
وفي المسلمين غَوغاء يَحيَوْنَ وَفقَ ما وَرِثوا من سنن وبدَع وعلم وجهل وهدًى وهوًى.
وفيهم دُعاة إلى الحق الذي نفَّذه السلَف الكِبار، ثم استَوحَش قليلاً وكثيرًا مع مسيرة التاريخ، ثم أمسَى غريبًا في هذه الأيام.
ومشكلة الدعاة المسلمين تجيء من الصورة التي يظهر بها الإسلام في العالم الإسلامي، وتجعل المرء السويَّ في بلاد أخرى يَنفِر منه.
فلو أن رجلاً يعيش في بلاد حرة، يناقش فيها الحكومة دونما رهبة، ويعترض رئيسَ الدولة ويُعارضه دونما قلق، مثلما كان يفعل المسلمون قديما مع أبي بكر وعمر، لو أن هذا الإنسان قيل له: اعتنِقْ عقيدة التوحيد فهي حق، ولكن إذا قلتَ للحاكم: لا. رُميتَ في السجن، أو ضُرب عنقُك!
أتحسب هذا الإنسان يُسلم؟
كلاّ، وماذا يُغريه بالدخول في دين يَقدِر الحاكم فيه على تدمير مدينة ودفن ثلاثين ألفًا تحت أنقاضها، ويَبقَى بعد ذلك مَهيبًا مَصونًا تَوجَل وسائل الإعلام القريبة والبعيدة مِن تناوله؟(1/12)
إن هذا الإنسان يكفُر ويكفُر، ولا يَرضَى بالدخول في هذه الدائرة المزعجة.
ومَن المسئول عن محنته؟
ساسة جبابرة لا دين لهم، اشتغلوا فتَّانين عن الإسلام بأسلوبهم في الحكم.
وهناك مشتغلون بالعلم الديني يقدِّمون الإسلام على أنه حبس وتجهيل للمرأة، ويجتهدون في تقرير أحكام تُظهِر النساءَ وكأنهم جنس مهدَر الحقوق، محقور المنزلة، مغموض العقل، يُستغرَب وجوده في ميادين العلم والعبادة والجهاد، بل يُستنكَر عليه أن يقود سيارة.
لا جَرَمَ أن النساء في شرق العالم وغربه تأبَى اعتناقَ هذا الدين وترَى الحكمةَ في تجنبه، ويُؤَازِرهنّ في ذلك ألوف الرجال الشرفاء.
إن فتنة الناس عن الإسلام بهذه الطريقة هي شيء محزِن حقًّا.
وكثيرًا ما أذكر قصة البدوي الذي قالوا: إنه عرَض ناقته في السوق بدرهم واشترط أن يُباع مِقوَدُها معها بعشرة آلاف، فكان الناس يقولون: ما أرخَصَها لولا هذا المِقوَد الملعون!
أجل، وما أسهَلَ اعتناقَ الإسلام لولا هؤلاء المحمولون عليه اللاصقون به.
نسأل بعدئذ:
هل الشخص الملحِد الكافر بالله ولقائه ووحيه يمكن أن يكون سويًّا رشيدًا؟
ونجيب:
إن مثل هذا المخلوق مصاب يقينًا في بصيرته وسيرته، وإنكارُه لربه أفحشُ من عقوق الولد لأبيه البَرِّ الرحيمِ.
وقد تكون له موهبة علمية، لكنّ ذلك لا يَرفَع خسيسته. وقد حكمت الولايات المتحدة بالإعدام على عالم بالذرة أفشَى أسرارَ عمله للروس، إنه عُدَّ من كبار المجرمين لأنه خان وطنه وقومه.
وما الوطن؟
قطعة من الأرض.
وما القوم؟
قبيل من الناس.
فكيف بمَن خان ربَّ الأرض والسماء ورب البشر كلهم! ألا يُعَدُّ مجرمًا؟
إن عظَمة موهبة ما لا تَنفِي الإصابة بعلَل مهلِكة، فقد يكون المرء حادَّ البصر جدًّا، ولكنه مصاب بسرطان يوشك أن يَختَرم عمرَه ويوردَه المَهالك، فما غَنَاءُ بصره القوي مع عِلَّته الجسيمة؟(1/13)
والشخص الذي يرفض معرفةَ الله والتقيُّدَ بدينه مهما نبَغ في أمر ما فهو معتَلُّ الضمير، زائغ التفكير، مَخُوف السلوك على الأقرَبين والأبعَدين، بل هو إلى الحيوان أقرب منه إلى الإنسان.
وعبادته لهواه تجعله مشئومًا على نفسه ومن اقترب منه، وقد يعاقبه الله في العاجلة فيجعل ذكاءه ضده، فيبحث عن حَتفه بظِلْفه ويَحفِر قبره بيده.
وقد وصف الله سبحانه عبيد أهوائهم الكارهين للاستضاءة به والاستمداد منه فقال: (أرأيتَ من اتَّخَذ إلهَه هواه أفأنت تكونُ عليه وكيلاً. أم تَحسَبُ أن أكثَرَهم يَسمَعون أو يَعقِلون إن هم إلا كالأنعامِ بل هم أضلُّ سبيلاً) (الفرقان: 43ـ44).
ولقد رأيت في أرجاء البلاد العربية أناسًا ينتمون إلى "العلمانية" ويستبعدون بعنف كل أَثَارة للإسلام في مَيدان التربية أو القانون أو الثقافة أو التوجيه.
وتفرَّستُ في وجوه هؤلاء وأعمالهم، فما رأيت صحة نفسية ولا دقة عقلية.
فيهم مسلمون ـ كما يقال ـ يَكرَهون ما أنزَل الله.
وفيهم كتابيون يَنضمُّون إلى كل جبهة تخاصم الإسلامَ؛ لكي يُكثِروا السَّوادَ ويُشبِعوا الأحقادَ، ويتظاهرون مع ذلك بالحِياد!
ويستحيل وصفُ أحد من هؤلاء بأنه إنسان سويٌّ رشيد؛ لأنه لو كان ذا نزعة قومية مجرَّدة لعَلِم أن بني إسرائيل تسلَّحوا بعقيدةٍ مهاجِمة، وسياسةٍ جعلت الدين يغتصب الأرض والعِرْض، فكيف يُقبَلُ الدينُ مهاجِمًا وتُرتضَى سياستُه وتُحترَمُ سطوتُه؟ ويُرفَضُ الدينُ مدافِعًا ويُعتبَرُ إشراكُه في التربية والتقوية سياسةً رجعيةً مرفوضةً؟
ألأن الدين هنا هو الإسلام، ولأن الدين هناك هو اليهودية!
لا سياسة في الدين إذا كان إسلامًا يدافِع، وتُقام الدولُ من الهَبَاء إذا كان الدين صهيونيةً تسطو! وتُوصَف السياسة هنا بأنها حكمة وتقدُّم؟
على أنه ليس من الحصافة والرُّشد رفضُ نبوة محمد، وكراهيةُ هذا الإنسان العظيم والتحاملُ عليه.(1/14)
إننا نضحك من إنسان يرى أن الأرض كوكب مثلث أو مربع، أو أن موسى ـ عليه السلام ـ وُلد في الولايات المتحدة.
فكيف لا نضحك من شخص يرى بوذا إلهًا ومحمدًا قاطعَ طريق؟
وكيف لا نضحك من شخص يرَى الإسلامَ عبادةَ أصنام واستباحةَ أعراض، ولا يعرفه دينَ توحيد وعفاف؟
إذا لم يكن هذا الشخص مغفَّلاً فهو جاهل بلا ريب، والجاهل لا يوصف بأنه امرؤ سويٌّ ورشيد.
قد يكون الجهل عذرًا يُسقط المسئولية الأخلاقية عند مخالفة القانون، ولكنه لن يكون مَنقَبَةً تُزيِّن صاحبها.
إن هناك يهودًا يصدِّقون أن الله صارَع أباهم إسرائيلَ وكاد ينهزم أمامه!
ونصارى يصدِّقون أن الطفل يولَد وهو حاملٌ لِلَعنةِ الخطيئة التي اقترفها آدم، وإذا لم يعتقد أن عيسى صُلب فداءً له باءَ هو الآخر باللعنة الأبدية!
فليعتقد مَن شاء ما شاء، ولا يتطاول فوق مكانته، ولا يتعرض بالتكذيب للإنسان الذي جاء ينقِّي رسالات السماء مما أهانها، والذي جاء في كتابه هذا التقريعُ لكل شارد: (أم لم يُنبَّأ بما في صُحُفِ موسى. وإبراهيمَ الذي وفَّى. ألا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخرى. وأنْ ليس للإنسانِ إلا ما سَعَى. وأنّ سَعيَه سوف يُرَى. ثم يُجْزاه الجزاءَ الأوفَى) (النجم: 36ـ41)
إن جرس هذه الآيات الموجزة ينبعث دقاتٍ رهيبةَ الرنين، تثير الحذر وتوقظ الانتباه!
أو هي ومضات متقطعة تَلفِت السائر في الدرب المتشابِه كيف يعرف هدفه ولا يُثنيه عنه.
إن الجهل بالإسلام نقص شائن، وما يستطيع أحدٌ الاكتمالَ بدونه، وكيف يتزكَّى امرؤٌ استَغنَى عن توفيق الله وهدايته، وبشارته ونذارته، لم ترطِّبْ قلبَه لحظةُ خشوع، ولم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين؟(1/15)
4ـ كيف بُني الإسلام على خمس؟
وما هي؟
ولماذا خمسٌ بالذات؟
شرحنا أن الإسلام هو العنوان المعروف للدين الذي جاء به خاتم الرسل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن الأنبياء الأوائل بلَّغوا صورًا محدودة لهذا الإسلام تناسب مدارك الأمم الأولى وقدراتها. فالدين في الحقيقة واحد، يشبه إنسانًا في فترات الصبا واليفاعة، ثم اكتمَل هذا الإنسان وبلغ أشُدَّه، اكتمَل مَبنًى ومَعنًى، ذلك هو الفرق بين الرسالة الإسلامية كما بلَّغها النبي الأخير وهذه الرسالة كما بلَّغها في فجر الخليقة مرسَلون محلِّيُّون محدودون.
وبناء الرسالة على خمس يحتاج إلى إيضاح؛ فإن شعب الإيمان ومعالم الانقياد إلى الله تُقارب السبعين عنصرًا.
وهذه العناصر السبعون مبيَّنة في كتاب الله وسنة رسوله، وهي تتناول الفرد والمجتمع والدولة، وتستوعب قضايا خلُقية واجتماعية واقتصادية وسياسية كثيرة!
من أجل ذلك لم يقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الإسلام مؤلَّف من خمس أو يتكون من خمس. وإنما قال: "بُني على خمس".
فهو يُشبه الخيمة التي يُقيمها الجوالة في رحلاتهم، والخيمةُ تقوم على عمود أساسي في وسطها، وأربعة أعمدة تمُدُّ جوانبَها وتثبِّت قماشَها.
وأنت تعلم أن جسم الإنسان يتكون من أعضاء وعضلات وأربطة وأعصاب وعظام وحواس.. الخ.
ومع ذلك فهناك عدة أجهزة رئيسية هي دعائم هذا الكيان الدقيق أحصاها علم الأحياء في: (1) الجهاز العصبي (2) الجهاز الدَّوري (3) الجهاز الهضمي (4) الجهاز التنفسي (5) الجهاز التناسلي.
والتنويه بهذه الأجهزة ووظائفها لا يُلغي بقية ما يتكون الجسد الإنساني منه.
والخمس التي بُني عليه الإسلام هي: شهادة أن"لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت.
هذه دعائم البناء، ودعائمُ البيت غيرُ جدرانه وسُقُفِه وأبوابه ونوافذه ومرافقه...الخ
وشهادة التوحيد ترجمةٌ عن الإيمان القائم في القلب.(1/16)
والإيمان معرفةٌ بلَغت حدَّ اليقين، أو تصديقٌ جازم لا يَحتمل الرِّيبة، وانقيادٌ لله لا يَقبَل ذرَّة من تمرد.
عندما يشهد المرء أن "لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" فقد عالَنَ الناسَ وربَّ الناس بأنه ارتَضَى هذا الدين، ولزِم منهجه، وتبِع قائده.
ولا تُقبل هذه الشهادة من قائلها ما لم يكن لها رصيد قائم في القلب، مهيمِن على باطن النفس. ويَعني هذا أن يكون المسلم ذا ضمير يرفض الدنايا، ويأبَى مُواقَعَتَها، ويَحذَر ربه ويتقي عقوبته لأنه يَفقَه قولَه سبحانه: (واعلَموا أن اللهَ يَعلَمُ ما في أنفسِكم فاحذَروه) (البقرة: 235) (ويُحذِّرُكم اللهُ نفسَه وإلى اللهِ المصيرُ) (آل عمران: 28) (إنما هو إلهٌ واحدٌ فإيَّاي فارهَبونِ) (النحل: 51) (فلا تَخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين) (آل عمران: 175).
كما يعني هذا أن يُظاهر المرء بدينه وأتباعه وإن اشتد ساعِد الخصوم وامتد أذاهم وعظُم بأسُهم. وتلك حقيقة التوكل المعتمِد على الإيمان بالله الكبير. إنه ينفي العزيمة الحائرة والإرادة المنسحبة (وعلى اللهِ فتوكَّلوا إن كنتُم مؤمنينَ) (المائدة: 23) (إنْ يَنصُرْكُم اللهُ فلا غالبَ لكم وإن يَخذُلْكُم فمَن ذا الذي يَنصُرُكم مِن بعدِه وعلى اللهِ فليتوكل المؤمنون) (آل عمران: 160).
والإيمان مصدر ولاءٍ لإخوان العقيدة، وسخطٍ على خصوم الحق.
فالمؤمنون يُحِبون لله ويُبغِضون لله، ولا يكونون أذنابًا أبدًا ولا أشياعًا لأهل الفسوق والإلحاد: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبيِّ وما أُنزِل إليه ما اتَّخَذوهم أولياءَ..) (المائدة: 81)
إن شهادة أن "لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" رمز لمعانٍ نفسية بالغةِ الأثر في توجيه المجتمع كله.
ويجيء بعد الشهادة إقامُ الصلاة، إنه ليس أَغدَرُ من إنسان يَسمَع ويَرَى بقدرة الله، ويأكل ويشرب من خير الله، ومع ذلك يَضَنُّ على ربه بساعات قلائل يتذكره فيها.(1/17)
إننا ننفق الكثير من أوقاتنا في اللهو واللعب، ونستكثر لُحَيظات نقف خلالها أمام الله متعبدين. والمَدَنِية الحديثة مسئولة عن السُّعار المادي الذي أذهَل الناسَ عن كل شيء إلا نداءَ غرائزهم. إن المرء ينطلق وراء رزقه انطلاق الوحش في البرِّيَّة لا يهدأ حتى يظفَر بفريسته، ثم يعود فيلتهمها هو وأسرته، ثم ينطلق لمثلها في يوم جديد.
وهكذا دَوَالَيْكَ حتى ينتهيَ عمره وهو يلهثُ وراء مآربه وحدها، لا يعرف له ربًّا ولا يؤدي له حقًّا!
ما أَتفَهَ هذه الحياةَ! وما أَسوَأَ عُقْباها!
أما المسلم فهو بين الحين والحين يُصغي إلى داعي الله يَهتِف بصوت جَهِير: "الله أكبر، الله أكبر" فيُلَبِّي النداء، ويُكَرِّر التكبير، ويَسعَى للوقوف بين يَدَيْ ربه قانتًا خاشعًا.
والصلاة في الحياة الإسلامية ليست عملاً فرديًّا يهتم به صاحبه وحسب، بل هي سمة اجتماعية تسيطر على جمهور المؤمنين وتدفعهم إلى التلاقي في محراب العبادة جماعاتٍ متكررة من الفجر إلى العشاء.
ومن هنا جاء التعبير بـ "إقام الصلاة" لا أداء الصلاة، إذ المقصود إتيانها في جماعة، والتحشيد لها، والخشوع فيها، وإعلاء شعائرها؛ إعظامًا له، وإبرازًا لحقه تبارك اسمه.
ونرجئ الكلام في الزكاة والصيام والحج إلى مكان آخر، ونتحدث الآن عن الأركان الخمسة جملة.
لماذا كانت خمسة؟
تُرَى لو كانت أربعة أو ستة أكان السؤال ينتفي؟
لا، والسؤال الدائر يسقط من تلقاء نفسه، مثل: لماذا كان اسم فلان زيدًا ولم يكن عَمرًا؟
إنه سؤال يتسلل إلى ما لا نهاية فلا مَعنَى له.
ومع ذلك فهناك إجابة مقنِعة في هذه القضية قدمها الشيخ الكبير الدكتور عبد الله دراز، تدور على أن هذه العبادات خاصةً هي شارات الإسلام ومعالمه التي تميزه عن غيره، وأن غيرها قد يقوم به يهود أو نصارى أو ماديون، كمكارم الأخلاق مثلاً.
وقد تكون هناك عبادات إسلامية محضة لكنها دون هذه الأركان في الدلالة والقيمة.(1/18)
وننقل ما قاله الرجل الذكي رحمه الله، فبعد أن تحدث عن الإيمان وأنه عصب الحياة في الدين ومصدر الطاقة الكامنة في أعماله كلها، تساءل عن الصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لماذا ذُكرَت دون شُعَب الإسلام الأخرى!
فقال: لأنها أعظم المظاهر وأوضح العناوين على الإيمان بهذا الدين من حيث هو دين سماوي؛ لما فيها من الاستسلام لأمر الله لمجرد أنه أمره دون قصد إلى مصلحة عاجلة من المصالح العامة أو الخاصة، أما ما عداها من الأعمال فليست لها هذه المنزلة في الدلالة على الانتماء إلى الإسلام.
ذلك أن الفروع الدينية منها ما هو باطن لا اطِّلاعَ لنا عليه؛ كالإخلاص والتوكل والرضا ومحبة الخير للغير وسائر ما يبحث عنه علم الأخلاق. وهذا القسم لا يصلح شعارًا ولا علامة ظاهرة للمسلمين فضلاً عن أن يكون أساسًا لشتى العبادات والمعاملات.
أما الأعمال الظاهرة في الشريعة فأنواع:
منها ما يرجع إلى المصالح التي تقتضيها الفطرة؛ كوسائل الحفاظ على الشخص أو النوع ـ من النظافة، والستر، وطلب الرزق، وابتغاء النسل من طريق شريف ـ وكالجهاد دفاعًا عن النفس أو العرض أو الحق كيف كان.
ومنها ما يرجع إلى المصالح التي تدركها العقول وتَهدي إليها التجارب؛ كقوانين المعاملات، وآداب الاجتماع من الصدق والوفاء بالعهد والإقساط في الحكم، وبذل العون للمحتاجين، والدعوة إلى الخير والضرب على أيدي المفسدين.
وهذان النوعان لا يُعَدُّ الاستمساك بهما دليلاً على إسلام صاحبهما، فقد يستمسك بهما من هو على دين باطل ومن لا دين له أصلاً، استجابةً منه لدواعي الفطرة والعقل دون نظر إلى توجيه سماوي.(1/19)
بقي قسم العبادات، وأعني بها الأمور التعبيرية التي لها رسوم وأوضاع دينية خاصة لا تَهدي إليها الغرائز ولا العقول؛ كالصلاة المحدودة بأوقاتها وأعدادها وهيئاتها، وكالزكاة المحدودة بأنواعها وأنصِبَتِها ومقاديرها ومواقيتها، وكالصيام المحدود بزمانه وكيفيته، وكالحج، والأضاحي، والكفارات، ونظام التوارث، والعقوبات المقدَّرة المعروفة بالحدود، ونحو ذلك من الأمور التي لا حظَّ للاجتهاد في وضعها ولا في تبديلها وتغييرها مهما تغيرت الأحوال والعصور.
فهذه الأمور جديرة بأن تُسمَّى "رموزًا دينية وشعائر إسلامية"؛ لأنها لا يتعاون فيها مع باعث الدين باعثٌ آخر من غرائز النفس ولا هدايات العقول، ولذلك لا يشارك المسلمين فيها أهل دين آخر بصورتها المرسومة في الإسلام. لكن منها ما ليس بواجب قطعيٍّ عينًا كالضحايا.
ومنها ما لم يُقصَد وضعُه ابتداءً، بل عُلِّق على وقوع شيء من المخالفة لتعاليم الدين كالحدود والكفارات.
على أن الحدود ونظام المواريث ـ وإن كانا تَعَبُّديَّين ـ إلا أنهما من الأمور الموضوعة لإقامة مصالح الدنيا بالقصد الأول، وقد يأخذ بهما من ليس على هذا الدين لما فيهما من المناسبة للعقول.
فلم يَبقَ من فروع الدين ما يصلح أن يكون أساسًا لشعائر الدين سوى الأركان الأربعة المذكورة في الحديث ـ مع الشهادتين ـ لأنها شعائر ظاهرةٌ خاصةٌ بهذا الدين وحده، واجبةٌ وجوبًا عينيًّا، مقصودةٌ للشارع قصدًا أوليًّا، موضوعةٌ لإقامة مصالح الدين أولاً وبالذات، ومصالح الدنيا ثانيًا وبالعَرَض.
فلذلك كانت لها الصدارة على سائر الفروع، حتى نُظمَت مع الأصل الذي هو مبدأ الإسلام ـ يعني الشهادتين ـ في سلك واحد وصارت القواعد خمسًا.
وهذا الكلام للعلامة الشيخ دراز من خير ما قيل في شرح بناء الإسلام على خمس.(1/20)
5ـ ما مكان التصوف في الإسلام؟
إذا ذُكر التصوف تراءت للعين صور شائهة لرجال يتبعون طرقًا شتى، وتنتظم في المناسبات الدينية مواكب لها بُغَام مُنكَر، تخدم السلطات الغاشمة، وتُحيي البِدَع والخُرافات، وقلما ارتفعت لها راية في ميدان جهاد.
والحق أن هؤلاء الغوغاء لا علاقة لهم بالتصوف، ولا يعرفون منه قليلاً ولا كثيرًا.
التصوف ـ سواء كانت الكلمة عربية أو مترجمة ـ يعني حقائق أخرى جديرة بالدرس والتمحيص.
والتراث الصوفي يتضمن أحيانًا قضايا في ذروة الشرف والسَّناء، كما يتضمن أحيانًا أخرى شطحات لا وزن لها، بل ينبغي اطِّراحُها والنأيُ عنها.
وأول ما نحذِّر منه هو التصوف الفلسفي الذي نقَل عن الهنود واليونان الأقدمين عقائدَ الحلول ووَحْدة الوجود، ومشيًا وراء تهويمات عاطفية بعيدة عن هدايات الإسلام، ولا يمكن ربطها بالوحي الصحيح.
كما أن هناك تصوفًا ضاهَى الرهبانية البوذية والنصرانية، وأعلن حربًا على الجسد لا عقل فيها ولا جدوى منها، أو استدار للحياة الدنيا فلم ينشغل بها ولم يَكدَح فيها، وكوَّن أجيالاً من القاعدين والمنسحبين في ميادين الحياة شَقِيَ بهم الإسلام دهرًا، ولم ينجحوا لا في كسْب الدنيا ولا في كسب الآخرة.
إننا نرفض هذا اللون من التصوف، ونؤكد أن الإسلام يستنكره، وأظن أن بَداهات الفطرة والعلم والارتقاء الإنساني تعترضه.
ولكن هناك تصوفًا نبت في أكناف الإيمان والإسلام والإحسان، ونما على أغذية جيدة من العلم والعمل، واستطاع أن يُلَوِّن المشاعر الإنسانية بصدق العبودية، ودَفَعها إلى التفاني في مرضاة الله والحس الدقيق بوجوده وشهوده، وجعَل أصحابه يسعدون بمشاعرهم الباطنة وإن كانت أحوالهم نَكِدة فيما يرى الناس، حتى يقول قائلهم: حبسي خَلوة، ونَفْيي سياحة، وقتلي شهادة!(1/21)
هذا التصوف يحوِّل المعرفة النظرية المجردة إلى عاطفة قلبية مشبوبة، فالتكاليف تؤدَّى برضا واستحلاء لا بتعب ومعاناة، والمعاصي تُترَك باستغناء واستعلاء، كما قال يوسف عندما تعرض لإغراء الملكة وصُوَيحِباتها وفُرِش له طريق الغواية بالأزهار: (ربِّ السجنُ أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونني إليه وإلاّ تَصرِفْ عني كَيدَهنَّ أَصْبُ إليهنَّ وأكُنْ من الجاهلين) (يوسف: 33)
وانتقال العلم من تصورٍ ذهني جافٍّ إلى شعور قلبي عطاءٌ إلهي جليل القدر، وقد أشار إليه القرآن الكريم وهو يذكر امتنان الله على أصحاب رسوله: (واعلَموا أنّ فيكم رسولَ اللهِ لو يُطيعكم في كثيرٍ من الأمرِ لَعَنِتُّم ولكنّ اللهَ حبَّب إليكم الإيمانَ وزيَّنه في قلوبِكم وكرَّه إليكم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ أولئك هم الراشدون. فضلاً من الله ونعمةً) (الحجرات: 7،8).
كما أشار إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "ذاق حلاوةَ الإيمانِ مَن رَضِيَ باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولاً".
ويقول علماء النفس: إن للشعور ثلاثةَ مظاهر هي: الإدراك والوجدان والنزوع.
ونقول نحن: مَن أراد الله به خيرًا جعل إدراكه يقوم على الصدق، وجعل وجدانه يقوم على العُمْق، وجعل نزوعه يقوم على الشوق.
إننا عندما نرمُق عظماء المؤمنين نجدهم أُوتُوا من عمق العاطفة بقدر ما أُوتُوا من صدق المعرفة، ومن ثَمّ يكون نزوعهم حارًّا ممتدًّا.
وتدبَّرْ الآيات في وصف موسى عليه السلام: (وما أَعجَلَكَ عن قومِك يا موسى قال هم أولاءِ على أثَري وعَجِلتُ إليك ربِّ لتَرضَى) (طه: 84).
تدبَّرْ حرارة الحب ونزوع الشوق فيما رُوي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يَعرِض ثوبه لبواكير المطر، ويقول: "هذا مطر حديثُ عهدٍ بربه".
أفكذلك نرى جماهير المتدينين؟
أو هل يرتفع علماء الدين إلى هذا المستوى؟(1/22)
في قراءاتي وتجاربي رأيت أناسًا على حظ حسن من علوم الشريعة وأحكام الفقه، بيد أن قلوبهم خاوية من الإحساس اللطيف، والرغبة في التسامي، والحب للآخرين.
كما رأيت أناسًا في مشاعرهم لُطْفٌ، وفي مسالكهم إيثارٌ، لكنْ يَشينُهم قصور علمي وفقه قليل في شرائع الإسلام.
كِلا الصنفين مسيء ومقصِّر!
والواقع أن العالِم الذي لا قلب له، كالشاعر الذي لا وَعيَ له، بلاءٌ على الإسلام وعائق عن الانتفاع به. فالدين عقل وعاطفة، وعلم وأدب، ونظر صائب، وبصيرة نيرة.
ومن سوء حظ الثقافة الإسلامية فقهاء لا دراية لهم بعلم القلوب ونهج التربية، ومتصوفون صِفْر الأيدي من قوانين الشريعة وضوابطها!
والراسخون في العلم سالمون من هذه الآفات، ومن يقرأ لابن تيمية وابن القيم والغزالي وابن الجوزي والرازي وغيرهم يرى رجالاً على درجة رفيعة من جَيَشان المشاعر والاستبصار العقلي.
واسمَعْ للإمام المدقق ابن القيم وهو يحدو النفوس إلى الدار الآخرة، ويقول لكل سائر على الدرب:
فحيَّ على جناتِ عَدْنٍ فَإِنَّها منازِلُك الأولى وفيها المُخَيَّمُ
أو إلى أبي حامد الغزالي الذي أشرَف على تفكير أرسطو وأفلاطون، واستبان عثراته وكشَف ما اعوجَّ منه، ومع هذا الاستعلاء العقلي فهو يتحدث عن استدامته لذكر الله، حتى إذا سكت لسانه ظل الفؤاد على حالته يلهج ويردد ولا ينقطع له صدى!
وعندي أن تفاوت هؤلاء الأعلام في آرائهم يرجع إلى تفاوت العلل التي عالجوها، وتشخيص الأسباب التي أدت إليها، ذلك إلى جانب ما بين طبائع البشر من خلاف في الأذواق والآفاق.
والقدْر المقبول، بل المطلوب، من التصوف يكون في الميادين الآتية:
أولاً: في دراسة البواعث النفسية وفَرضِ رقابة صارمة على بواعث العمل حتى تصفوَ النية من كل كَدَر وتُخلِص لله سبحانه.
ويلاحظ أن النفس الإنسانية شديدة المكر واسعة الحيلة، وأنها قد تحقق ما تَهوَى عن طريقٍ ظاهره الطاعة، وباطنه إشباع الهوى.(1/23)
ثانيًا: التمرس بمقام الإحسان وطول البقاء في نطاق: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
ولا يتم ذلك بتألق ذهني في خَلوة بعيدة، وإنما يتم مع التقلب في البلاد والتعرض للشدة والرخاء والصحة والمرض والنصر والهزيمة. . الخ
ثالثًا: تَتبُّعُ آيات الله في الأنفس والآفاق، ومدارسة الحاضر والماضي، ومحاولة الارتقاء إلى مستوى الكتاب الكريم والسيرة الشريفة، فإن الأبواب كلها موصَدة أمام من حُرم التأسي بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو إمام الأتقياء وسيد المربِّين.
وفي هذا المجال أذكر أنني أفَدت إفادة عظيمة من ابن عطاء الله السكندري، وقد شرحت جملة من حِكَمه في كتابي"الجانب العاطفي من الإسلام".
وإذا كان سعد زغلول قد وصف أدب "الرافعي" بأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم، فإني ـ مع إكباري للرافعي وأدبه ـ أرى أن كلمة سعد أصدق ما تكون في حكم ابن عطاء الله رحمه الله.
وأعرف أن أناسًا سيقولون إنني خلطت بين تعاليم الإسلام وشمائل الأتقياء من ناحية، وتراث الصوفية وتعاليم رجالهم من ناحية أخرى.
ولو صدق هؤلاء فسيكون الخلاف على أسماء لا على مسمَّيات، ويكون سهلاً.
والمهم أن تتوقَّد روحانية الإنسان من خلال كيانه المادي، وتَشْرَئبُّ عواطفه إلى السماء بدل أن يَخلُد إلى الأرض، وأن يُطالِع أمجاد الألوهية فيما يَرَى ويَسمَع، ويَتجافَى عن دار الغرور، ويطمئن إلى دار الخلود!(1/24)
6 ـ ما موقف أهل الكتاب في الإسلام؟
إذا تحدثت ـ أنا المسلِمَ المُحرَجَ في هذا العصر ـ عن أهل الكتاب، شعرت بظلم ذوي القربى ومقدار حَزِّه في النفوس، وشعرت بالدهشة للضغائن التي أكنَّها القوم ضد محمد وكتابه ورسالته، وما كان ينبغي بتَّة أن يُقابَلَ الإسلام بكل هذه البغضاء، ولا أن يَلقَى نبيُّه كل هذا النكير.
بدأ الحديث عن أهل الكتاب مقرونًا بحسن الظن ورجاء الخير من جانبهم وانتظار عونهم، في مواجهة عبَدة الأصنام الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإذا كذب الوثنيون التوحيد وخاصموا صاحبه فإن اليهود والنصارى لن يفعلوا ذلك!
وشرحًا لهذا الموقف المرتقَب يقول الله تعالى: (ويقول الذين كفروا لستَ مُرسَلاً قل كفَى باللهِ شهيدًا بيني وبينَكم ومَن عندَه علمُ الكتابِ) (الرعد: 43)
وعندما يُوغِل المشركون في عنادهم يعتز المسلمون بأن نفرًا من أهل الكتاب أيَّدهم، وصدَّق ما لديهم، ودخل في دينهم، قال تعالى: (ولقد وصَّلنا لهم القولَ لعلهم يتذكَّرون. الذين آتيناهم الكتاب مِن قَبلِه هم به يؤمنون. وإذا يُتلَى عليهم قالوا آمنَّا به إنه الحقُّ من ربِّنا إنا كنا مِن قَبلِه مسلمين) (القصص: 51ـ53).
وربما تعصَّب بعض اليهود والنصارى ضد الإسلام، وتحاملوا على نبيه ودعوته، وتجهَّموا لما تلقاه الرسالة من رواج هنا أو هناك، فما الموقف منهم؟
يقول الله تعالى: (ولا تجادِلوا أهلَ الكتابِ إلا بالتي هي أحسنُ إلا الذين ظلَموا منهم وقولوا آمنَّا بالذي أُنزِلَ إلينا وأُنزِلَ إليكم وإلهُنا وإلهُكم واحدٌ ونحنُ له مُسلِمونَ) (العنكبوت: 46).
لكنّ جمهرة أهل الكتاب ـ خصوصًا اليهود ـ رفضوا الاعتراف بالنبي الجديد، ونافسوا المشركين في إطفاء نوره، واقتلاع جذوره، ووضع العوائق في طريقه حتى يَنفَضَّ الناس عنه.(1/25)
كان من الممكن بمقياس العقل والمصلحة تَرْكُ الإسلام يَعرِض نفسه على الناس، وهو لا يَملِك سلاحًا إلا الإقناعَ المجردَ. (إنّ هذه تذكِرةٌ فمَن شاءَ اتَّخَذ إلى ربِّه سَبِيلاً) (المزمل: 19)
ومَن لم يَشَأْ فلْيدَعْنا وشأنَنا وندَعُه وشأنَه.
وتدبَّرْ هذا التوجيه الإلهي: (استجيبوا لربِّكم مِن قبلِ أن يأتيَ يومٌ لا مَرَدَّ له من اللهِ ما لكم من مَلجَأٍ يومئذٍ وما لكم من نَكيرٍ. فإن أعرَضوا فما أرسلناكَ عليهم حفيظًا إنْ عليك إلا البلاغُ) (الشورى: 48).
فليَرفُضْ الإسلامَ مَن كَرِهه، فلن نحاول إكراهه على شيء. إن النبي مبلِّغ وحسبُ. لكن أهل الكتاب وقفوا في جبهة واحدة مع الوثنيين يعترضون الدين الجيد، ويرفضون مهادنته ولا يَأْذَنُون له بالمرور.
فإذا انشرَح بالإسلام صدرٌ ضاقت لذلك صدورُهم، وتمنَّوْا لصاحبه أن يرتد عن إيمانه الجديد إلى جاهليته القديمة: (ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردُّونكم من بعدِ إيمانِكم كفارًا حَسَدًا من عندِ أنفسِهم من بعدِ ما تبيَّن لهمُ الحقُّ فاعفُوا واصفَحُوا حتى يأتيَ اللهُ بأمرِه) (البقرة: 109).
والغريب أن أهل الكتاب ـ بعد خمسة عشر قرنًا من مطلع الرسالة الخاتمة ـ لا يزالون كما هم، لم يَثوبوا إلى رُشدهم، تُهَدِّد الفلسفات المادية وجودهم، ويزحف الإلحاد الأحمر على حضارتهم. وبدل أن يتعاونوا مع المسلمين على مقاومة الظلام المقبل يتجاهلون كل شيء إلا ضرورة القضاء على الإسلام وإبادة أهله.
سمعتُ واحدًا من أهل الكتاب يقول: من الصعب تصديقُ رجلٍ مولَع بالنساء، تزوج تسعًا منهنّ، من الصعب تصديقُ أنه نبي!
قلتُ: ومن السهل التصديقُ بنبوة رجل زنَى ببناته وهو مخمور!
ومن السهل التصديقُ بنبوة رجل زنَى بإحدى قريباته خداعًا أو اغتصابًا!
ومن السهل التصديقُ بنبوة رجل تُعجبه امرأةُ مجاهِدٍ في سبيل الله، فيستقدمها ويُضاجعها، ويضع خطة لقتل زوجها حتى ينفرد بها!(1/26)
هؤلاء في مواريثك الدينية أنبياء عظام؟
أما محمد الذي تزوج بعض الأرامل وعاهدَهنّ على ترك الدنيا وزينتها، وطلب منهنّ أن يقُمنَ الليل معه مُتَهَجِّدات، وما تزوج واحدة إلا لسبب اجتماعي، وعرض عليهنّ جميعًا مفارقتَه إن رَغِبنَ في المتاع العاجل ـ محمد بعد هذا كله ليس جديرًا بالنبوة!
إن الزُّناة ـ في منطق العُمْيان ـ أَولَى بها منه!
وتُوجَد الآن عصابات من المبشِّرين والمستشرِقين والمستعمِرين تقاتل الأمة الإسلامية، وتقترف المناكر للإتيان على رسالة محمد، وتشويه سمعته، وإطلاق الإشاعات الكاذبة حوله.
على أن هنا أناسًا من أهل الكتاب أُوتُوا سَعَةً في العلم ونزاهةً في الحكم ورغبةً إلى الله، آمنوا بموسى وعيسى ومحمد جميعًا، ورفضوا أن يَبهَتوا عباد الله الصالحين ويناصبوهم العداء.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أولئك الصنف الطيب من اليهود والنصارى منوِّهًا بسيرتهم وعدالتهم: (وإنَّ من أهلِ الكتابِ لمَن يؤمنُ باللهِ وما أُنزِل إليكم وما أُنزِل إليهم خاشعين لله لا يَشتَرون بآياتِ الله ثمنًا قليلاً أولئك لهم أجرُهم عند ربِّهم) (آل عمران: 196)
كما قال تعالى: (لكنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قبلِك والمقيمين الصلاةَ والمؤتون الزكاةَ والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا) (النساء: 162).
ويمتاز هؤلاء ببحثهم عن اليقين، وعشقهم للحق، وازدرائهم للظنون السائدة مهما غلب سلطانها، وقد التقيتُ بالدكتور "موريس بكاي" في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر وسَمِعْتُه يتحدث بإعجاب واحترام شديدين عن أسلوب القرآن في تناوله للحقائق العلمية والتاريخية، وكيف عُصِم من الأخطاء التي تورطت فيها كتب مقدسة أخرى.
وقد سأله أحد الناس: لِمَ لَمْ يُعلِنْ إسلامه؟ فأجاب: قلّما أسيرُ إلا متوضِّئًا!
وقد أسلم بعض المستشرقين ممَّن غالبوا قيود التقاليد.(1/27)
ونَلحَظ أنه إذا أسلَم عشرة آلاف نصراني فلن يسلم إلا يهودي واحد!
إن النصارى أرقُّ قلوبًا وأليَنُ عَريكة: (ذلك بأن منهم قِسِّيسينَ ورهبانًا وأنهم لا يَستكبرون. وإذا سَمِعوا ما أُنزِل إلى الرسول تَرَى أعينَهم تَفيضُ من الدمعِ مما عرَفوا من الحق) (المائدة: 82،83).
وهناك أهل الكتاب خَطَوْا إلى الأمام خطوة واحدة، فقالوا: إن محمدًا رسول حقًّا ولكنْ إلى العرب وحدهم!
وقد ظهر هذا الفريق قديمًا وحديثًا، لأنه تأمَّل في سيرة النبي، وحبه العميق لله وتفانيه في نُصرته وحرارته في دعوته، واستعداده للقائه بأمداد لا تنقطع من العبادات والجهاد، فاستيقَن أن ذلك كله يستحيل أن يصدر عن كاذب، فماذا يصنع؟ قال: إنه رسول للعرب حتمًا.
ونحن مع ترحيبنا بكل خطوة سلام من خصومنا نقول: إن هذا الموقف لا يَكفي ولا يَشفي، فمحمد يَحمِل أَشْفِية السماء إلى أهل الأرض أجمعين، والتنكر لعموم الرسالة قريب من إنكار أصلها.
والواقع أن المُطالِع للقرآن الكريم يجتذبه هذا الحماسُ الجارف في الحديث عن الله ووحدانيته وأسمائه الحسنى، وإلحاح محمد ـ باسم الله ـ على الخلق كلهم أن يعودوا إلى ربهم الأحد: (ففِرُّوا إلى اللهِ إني لكم منه نذيرٌ مبينٌ. ولا تَجعَلوا مع اللهِ إلهًا آخَرَ إني لكم منه نذيرٌ مبينٌ) (الذاريات: 50،51)
أرأيت!
إنه نذير مبين وحسب!
مَن يرفُضُ هذا الإخلاص الرائع!
وهناك أهل كتاب يَحيَوْنَ في نطاق ما وَرِثوا، لا يعرفون عن محمد شيئًا، أو يعرفون تُرَّهات من رجال الدين التائهين أو بعض السادة الموتورين.
وتبصير هؤلاء بالحقيقة كلها دَيْنٌ في أعناق الدعاة المسلمين لم ينهضوا بسداده.
تُرَى متى يَنهَضون؟
وحساب هؤلاء إلى ربهم!
والذي أراه أنهم مُكَلَّفون ـ في غياب الوحي عنهم ـ بمقدار ما أُوتُوا من ذكاء وقدرة على نقد الموروثات الرديئة واتخاذ موقف ما منها.(1/28)
ولا أظن هذا الموقف ينطبق على أهل الكتاب الذين يعيشون بين ظهرانَي المسلمين! والذين جنَّد الاستعمار العالمي نفرًا منهم ارتكبوا المذابح واقترفوا المآسي وخانوا الجوار!
على أن الإسلام وضع شرائع في معاملة أهل الكتاب والتلطف معهم، يمكن أن نذكرها في الفصل القادم عند الحديث عن الرسالات السابقة.
وهناك حديثٌ يُعطي معناه للوهلة الأولى حُكمًا لم يقُلْ به الفقهاء، ومن ثَمّ فإن قبوله مطلقًا أو رفضه مطلقًا لا يجوز! والواجب استبانةُ معناه الحقيقي كما قرره الراسخون في العلم!
والحديث من رواية البخاري: "أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإن قالوها عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقها".
مصدر الخطأ في فهم: "أقاتل الناس" فقد طارت أذهان إلى أن كلمة "الناس" تعني البشر كلهم! وهذا غلط بإجماع العلماء؛ فإنهم اتفقوا على أن الحديث لا يتناول أهل الكتاب من يهود ونصارى!
لماذا؟
لأن المهتدين من هؤلاء إذا ضَرَبت الحربُ بيننا وبينهم، ونَسَوْا منطقَ الإيمان والحلال والحرام في تَصَدِّيهم لنا، لم نقاتلهم حتى ينطقوا بالشهادتين، بل إذا كسَر الله شوكتَهم، بَقُوا على أديانهم، وجردناهم من أسلحة العدوان، وتولينا نحن الدفاع عنهم إذا هاجمهم أحد، وعليهم ـ والحالة هذه ـ أن يُسهِموا في نفقات الحرب.
وهذا ما أبانته سورة التوبة: (قاتِلوا الذين لا يؤمنون باللهِ ولا باليومِ الآخِرِ ولا يحرِّمون ما حرَّم اللهُ ورسولُه ولا يَدينون دينَ الحقِّ من الذين أُوتوا الكتابَ حتى يُعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون) (التوبة: 29).
فليست الغاية من القتال إذًا أن يقولوا: لا إله إلا الله. كما جاء في الحديث!
فإذا كان أهل الكتاب مستَثْنَيْنَ من الحديث المذكور، فهل يتناول الوثنيِّين كلَّهم؟(1/29)
والجواب: لا، ففي حديثٍ آخرَ صحيحٍ إلحاقٌ للمجوس بأهل الكتاب: "وسع سُنَّة أهلِ الكتاب" الحق أن الحديث في مشركي العرب الذين ضنُّوا على الإسلام وأهله بحق الحياة، ولم يحترموا معاهدة مُبرَمة ولا مَوثِقًا مأخوذًا.
وقد مُنح هؤلاء أربعةَ أشهر يُراجعون أنفسهم ويُصَحِّحون موقفهم، فإن أَبَوْا إلا القضاءَ على الإسلام وَجَبَ القضاءُ عليهم.
وقد فصَّلت سورة براءة هذه القضية في أوائلها: (إلا الذينَ عاهدتُم من المشركينَ ثمَّ لم يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا ولم يُظاهِرُوا عليكم أحدًا فأَتِمُّوا إليهِمْ عَهدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ) (التوبة: 4)
أما مَن نصَّبوا أنفسهم لحرب الله ورسوله وعباده إلى آخِرِ رَمَقٍ فلا يلومون إلا أنفسهم.
وقد يتساءل البعض: لماذا جاءت كلمة "الناس" عامةً في الحديث: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس"؟ والجواب: أن "ال" كما يقول علماء اللغة للعهد، تأمَّلْ قوله تعالى: (الذينَ قالَ لهم الناسُ إن الناسَ قد جمَعوا لكم فاخشَوْهم) (آل عمران: 173)
فكلمة "الناس" الأولى تعني بعض المنافقين، والثانية تعني بعض الكفار.
وهذا هو المعهود في أذهان المخاطَبين.
وتأمَّلْ قوله تعالى: (ورأيتَ الناسَ يدخُلون في دينِ اللهِ أفواجًا) (النصر: 2)
إن (الناس) هنا ليسوا البشرَ جميعًا، إنهم العرب وحسب!
رأيت فريقًا من الناس يخدعه الظاهر القريب في هذا الحديث، فيتوهم أن الرسول يشُنُّ حربًا شاملة على البشر، ولا يزال يُحرِجهم حتى ينطقوا بالشهادتين.
وهذا فَهمٌ ـ كما أسلفنا ـ لم يقُلْ به فقيه، ولا يستقيم مع مرويات أخرى في غاية الصحة والوضوح، ولم يُؤثَرْ عن تاريخ المسلمين وهم يقاتلون "الإمبراطوريات" الاستعمارية التي أظلم بها وجه الحياة قرونًا عِدّة.
ورأيتُ أناسًا آخرين يسارعون إلى تكذيب الحديث دون وعي، ويتخذون منه ذريعة إلى مهاجمة شتَّى الأحاديث الصحيحة، دون تمحيص لسنَد أو متن، ودون تقيُّدٍ بقواعد اللغة أو مقتَضَيات السياق.(1/30)
وقد رأيتُ لأولئك القاصرين أفهامًا في كتاب الله لا بد من تفنيدِها وإهالةِ التراب عليها.(1/31)
7ـ هل الإيمان بالأنبياء الأوَّلِين والكتبِ السابقة ضروريٌّ في الإسلام؟ وما حكمة ذلك؟
وجود العالَم لم يبدأ ببعثة محمد ولا بولادة عيسى.
إن قوافل البشرية تَنساب في دروب الحياة قبل ذلك بقرون طويلة.
وربُّ العباد لم يَدَعْ عباده حَيَارَى خلال هذه القرون، لقد اصطَفَى موسى من بين الناس وقال له: (وأنا اخْتَرتُك فاستَمِعْ لما يُوحَى. إنني أنا اللهُ لا إلهَ إلا أنا فاعبُدني وأقِم الصلاةَ لذِكْري) (طه: 13،14).
ومن قبل موسى بأجيالٍ اختار إبراهيمَ وألهمه أن يقول لقومه: (اعبدوا اللهَ واتقُوه ذلكم خيرٌ لكم إن كنتُم تعلمونَ. إنما تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ أوثانًا وتَخلُقونَ إفْكًا إنَّ الذينَ تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ لا يَملِكون لكُمْ رِزْقًا فابتغُوا عند اللهِ الرزقَ واعبدوه واشكُروا له إليه تُرجَعون) (العنكبوت: 16،17).
ومن قبل إبراهيم بعَث نوحًا الذي مكَث قُرابةَ عشرة قرون يُلِحُّ على قومه أن يعرفوا ربهم ويُوَحِّدوه ويستغفروه، ويسألهم موبِّخًا: (ما لكم لا تَرجُون للهِ وَقارًا. وقد خلَقكم أطوارًا. ألم تَرَوْا كيف خلَق اللهُ سبعَ سماواتٍ طِباقًا. وجعَل القمرَ فيهنّ نورًا وجعَل الشمسَ سراجًا) (نوح: 13،16).
إن المعانيَ التي ردَّدها هؤلاء النبيُّون خالدة، والحقائق التي شدُّوا الجماهير إليها يجب أن يَبقَى صَدَاها ما بَقيَت الأرض والسماء.
والنبي الخاتم أكد أنه لا يَبني على فراغ وإنما على دعائم مهَّدها السابقون. وأنه يذكِّر الأمم كلها بالأصول التي جهلتْها أو تجاهلتْها: "الله الواحد، اليوم الآخر، الطاعة المطلَقة لرب الأرض والسماء، التزام صراطه المستقيم، الاحتكام إليه فيما شرَع، التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدالة وتحقيق الخير.. "الخ.(1/32)
وفي هذا يقول الله للمسلمين: (شَرَعَ لكم من الدينِ ما وَصَّى به نوحًا والذي أوحَينا إليك وما وصَّينا به إبراهيمَ وموسى وعيسى أن أَقيموا الدينَ ولا تَتفرَّقوا فيه) (الشورى: 13).
ونحن ـ المسلمين ـ نَجزم بأن كل رُشد آتاه الله رسلَه الأوَّلين فقد أتَى القرآنُ به، ثم أَربَى عليه بعد ذلك ما تفتقر إليه الأجيال اللاحقة مما يسُدُّ كل ثغرة، ويَمحَق كل شبهة، ويرد همزات الشياطين.
إنني ـ أنا المسلمَ ـ أشعر بولائي لموسى وعيسى ومَن قبلَهما من أنبياء الله، ومحبتي لأولئك المصطَفَينَ الأخيار نَبَعَت من أن محمدًا عرَّفني بهم، وأَعلَنَ أخوَّته لهم وجهاده معهم في طريق مشترك.
وفي السورة الأولى ـ بعد فاتحة الكتاب ـ تُذكَر أصولُ التقوى كما بينها القرآن الكريم، فتُشرَح على هذا النحو (ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هدًى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقون. والذين يؤمنون بما أُنزِلَ إليك وما أُنزِلَ مِن قبلِك..) (البقرة: 2 ـ4).
ومع هذا التلقِّي البيِّن بين الإسلام والأديان الأولى، فإن تاريخ الحياة مع أتباع الأديان مُحزِن مُوجِع؛ قال اليهود: ليست النصارى على شيء. وبادَلَهُم النصارى الحكم نفسه، ثم قال الاثنان معًا: ليس المسلمون على شيء. وقال الماديون جميعًا: ليست الأديان السماوية الثلاثة إلا خرافة، وليس أتباعها على شيء.
ويظهر أن النفس الإنسانية تشدها إلى شهواتها خيوطٌ قوية، وقد يَكرَهُ المرءُ أن يَظهَرَ عبدَ غرائزه فماذا يصنع؟
يستبدل بهذه الخيوط أوامرَ سماوية، شريطةَ أن تحقق له ما يشتهي! فإذا هو ينتمي إلى أحد الأديان ظاهرًا ودينُه الباطنُ عبادةُ نفسه وبلوغُ هواه، وقد يكون التدينُ الفاسد أضرَّ بالحياة من الجهل بالدين كله!(1/33)
وعندما نطالع مسيرة الإنسانية من قديم تَفجُؤنا هذه المأساة، ولنتدبرْ قوله تعالى: (كان الناسُ أمةً واحدةً فبعَث اللهُ النبيينَ مبشِّرين ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ معهم الكتابَ بالحقِّ ليَحكُمَ بين الناسِ فيما اختلَفوا فيه وما اختلَف فيه إلا الذين أُوتُوه من بعد ما جاءتْهم البيناتُ بغيًا بينهم) (البقرة: 213).
الجملة الأخيرة أزاحت الستار عن أسباب الاختلاف والتعادي والتقاتل الذي وقع بين المتديِّنين، إنه البغي!
والإنسان يتحول إلى وحش خبيث عندما يغلِّف شهوته بالقيم الرفيعة، ويزعُم أنه يقاتل من أجلها، والواقع أنه يقاتل من أجل شيء آخر!
لنتركْ هذه التهم، فكل دين ابتُلِيَ بمستغلِّين أساءوا إلى الناس باسم رب الناس.
ولنشرحْ تحديد الإسلام لعلاقته بمَن سبق مِن رسل وبما سبق مِن كتب.
عندما شاء أهل الكتابَين السابقَين تحكيرَ الهُدَى على ما عندهم وحدهم: (وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تَهتَدوا) (البقرة: 135) قال الله لأتباع محمد: (قولوا آمنا باللهِ وما أُنزِلَ إلينا وما أُنزِلَ إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ وما أُوتِيَ موسى وعيسى وما أُوتِيَ النبِيُّون من ربِّهم لا نُفرِّقُ بين أحدٍ منهم ونحنُ له مُسلِمونَ) (البقرة: 136).
إن هناك وَحدةً دينيةً يدعو إليها النبي الخاتَم تقوم على أصول عامة جامعة، وصحيح أن هناك اختلافًا في الفروع تنوَّعت من أجله الشرائعُ على مر العصور، لكنّ الخلاف في هذه الشرائع ليس ذا بالٍ.
وعلى أية حال فإن شبكة القوانين التي رسمها القرآن وأوضحتها السنَّة هي الطريقة المُثلَى لضمان المصالح المنشودة إلى آخر الدهر.
ولم يقع التقاتل على هذه التشريعات الفرعية، إنما وقع التقاتل على أركان العقيدة وأصول الإيمان، وإن كان الشرود المبدئي قد جر إلى مخالفات أهدَرَت معالمَ الحلال والحرام، وجرَّأت على اقتراف الربا والزنى والسكر وكثير من الآثام.(1/34)
ونحن ـ المسلمين ـ المصدِّقين بنبوة موسى وعيسى وبما أنزَل الله عليهما من كتب، نرى أن اليهود والنصارى هجَروا ما أنزَل الله إليهم، وتركوا الأيامَ تجر عليه ثوب النسيان.
ومن هنا أُوحيَ إلى النبي الخاتَم أن يستمسك بما أُوتيَ، وأن يَلتزمَ الإنصافَ في معاملة أتباع أولئك النبيين: (فلذلك فادْعُ واستقِمْ كما أُمِرتَ ولا تَتبِّعْ أهواءَهم وقل آمنتُ بما أنزَل اللهُ من كتابٍ وأُمِرتُ لأعدلَ بينكم اللهُ ربُّنا وربُّكم لنا أعمالُنا ولكم أعمالُكم لا حجةَ بيننا وبينكم اللهُ يَجمَعُ بيننا وإليه المصيرُ) (الشورى: 15).
ونثبت هنا أدبًا جليل القَدْر، التزمه القرآن الكريم وهو يحكي سِيَرَ الأنبياء الأولين، وما تعرضت له هذه السِّيَر ـ بعدُ ـ من تحريف يتصل بجوهر الإيمان.
فقد ذكر سِفْر "التكوين" أن الله تنزَّل من عليائه وتناول الطعام مع نبيه إبراهيم!
وقد أبَى القرآن مناقشةَ هذه القضية الغريبة، واكتفى بذِكْر قصة ضيف إبراهيم المُكرَمين على حقيقتها دون تكذيب لأحد من الرواة!
والمعروف أن الله أنزل التوراة على موسى ـ قيل: كتبها له بيده ـ وأمره أن يأخذ بني إسرائيل بأحكامها.
والذي يقرأ التوراة اليوم يجد فيها مشهدًا مؤثِّرًا لوفاة موسى، وكيف أنه عاش مائة وعشرين سنةً فلم يَتغضَّنْ له جلد ولم يَكِلَّ له بصرٌ ثم مات، وناحت عليه نسوة إسرائيل كذا يومًا، ودفن بعَرَصات "مؤآب" ولم يُعرَف قبره!
وظاهر أن هذا الكلام لمؤرِّخ كان يسجل حياة موسى بين قومه، ولكنْ كلام المؤرخ تَسلَّل بطريقة ما إلى التوراة نفسها، التوراة التي نزلت على موسى، وأصبح جزءًا منها!
ولم يشأ القرآن الكريم أن يكشف هذا الزيف، مكتفيًا بتقرير العقائد والأخبار الصحيحة، على نحو ما ورد في عدد الفتية (أهل الكهف) ما قيمة الجدال الطويل هنا وهناك: (فلا تُمارِ فيهم إلا مِرَاءً ظاهرًا ولا تَستَفْتِ فيهم منهم أحدًا) (الكهف: 22).(1/35)
ومع ذلك الخلط فقد اعتبر الإسلام أن ما لدى القوم من مواريث يجعلهم أهل كتاب، ويجعل مكانتهم أرفع من مكانة المَلاحدة وعبَدة الأصنام، وأن ما بَقِيَ لديهم من تعاليم سماوية يُتيح مُخالطتَهم، والأكلَ من أطعِمتهم، والتزوجَ من نسائهم، وحمايةَ معابدهم وشعائرهم.
(يَسأَلُونَكَ ماذَا أُحِلَّ لَهُمْ) ويأتي الرد: (اليومَ أُحِلَّ لكمُ الطيباتُ وطعامُ الذين أُوتُوا الكتابَ حِلٌّ لكم وطعامُكم حِلٌّ لهم والمُحصَناتُ من المُؤْمناتِ والمُحصَناتُ من الذين أُوتُوا الكتابَ من قبلِكم إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أجورَهنّ مُحصِنين غيرَ مُسافِحِينَ ولا مُتَّخِذِي أخدانٍ) (المائدة: 5).
والمقصود من هذا كله تذويب الجفوة، وتمويت الفرقة، والتعرف بما لدينا في جو من السماحة والوُد.
وأحسَب أن هذه الحكمة من وراء السكوت المُتَعمَّد عن مناقشة مواضع التحريف الكثيرة في مرويات القوم، وأنها جزء من نطاق العفو الذي ورد في قوله تعالى: (يا أهلَ الكتابِ قد جاءكم رسولُنا يُبيِّنُ لكم كثيرًا مما كنتم تُخفُون من الكتابِ ويعفو عن كثيرٍ قد جاءكم من اللهِ نورٌ وكتابٌ مُبينٌ) (المائدة: 14،15).
وما أجمَلَ أن يَعرِض موسى قضيةَ اليوم الآخر في خطاب الله له: (إن الساعةَ آتيةٌ أكادُ أُخفيها لتُجزَى كُلٌّ نفسٍ بما تَسعَى. فلا يَصُدَّنَّكَ عنها مَن لا يُؤْمِنُ بها واتَّبَعَ هواه فتَرْدَى) (طه: 15،16) والتوراة القائمة ليس فيها ذكر ليوم القيامة أو الجنة والنار.
وما أجمَلَ أن يَعرِض عيسى نفسُه قضيةَ التوحيد فيقول لقومه: (إن اللهَ ربي وربُّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ) (آل عمران: 51).
هكذا عرَض القرآن النبواتِ السابقةَ لتَبقَى تعاليمها مع النبوة الخاتمة هدايةً للإنسانية حتى يومها الأخير.(1/36)
8 ـ ما مفهوم الإسلام عن الحياة والموت؟
نظرت عن كَثَب إلى الفندق الذي أنزل به ـ وكنت في أحد أسفاري ـ ثم دار في نفسي هذا السؤال:
تُرَى كم شخصًا سكن غرفتي قبل أن أسكن فيها؟
وكم شخصًا سيحُلُّ مكاني بعد ما أغادرها؟
ما أَوهَى علاقتي بهذه الغرفة!
وأحسست أن هذه الغرفة، بل أحسست أن الفندق كله شبيه بهذه الدنيا؛ نظهر بها بغتة ثم نختفي.
إن ناسًا كثيرين قرُّوا هنا ثم وَلَّوْا.
لقد رأى بعضهم بعضًا كما يرى النزلاءُ أنفسَهم حينًا في صالة الفندق، وكلٌّ مشغول بشأنه، يعيش في جوه الخاص، فما تربطه بغيره إلا نظرةٌ عابرة وبسمةٌ عارضة!
هكذا التقى أبناء كل جيل بأترابهم، ثم... ثم انتهَوْا.
وتذكرت الآية التي وصف الله بها هذه الحياة: (ويوم يَحشُرُهم كأنْ لم يَلبَثوا إلا ساعةً من النهار يَتعارفون بينهم) (يونس: 45)
وشعَرت بأن الدنيا تَظفَر من اهتمامنا بأكثرَ مما تستحق!
هل هذه حقيقة الدنيا؟
وترددت شيئًا ما في الإجابة، ثم تأتي: على أية حال لا خلودَ لنا هنا، إننا راحلون يومًا، ولكننا نُؤثِر أن نَتناسَى ذلك اليوم!
لست أسجل هذه الخاطرة تهوينًا لشأن الدنيا، إن شأنها يجب أن يَهوِي عندما تحاول احتواءنا، وعندما نفقد فيها عزيزًا فنكاد نَهلِك، أو عندما نَكسِب فيها نفيسًا فنكاد نَلقَى مصيرَ دودة القز التي تختنق داخل ما تَنسِج بريقها الناعم.
والمخدوعون في الدنيا أعدادٌ فوق الحصر، إن قتالهم رهيب للحصول على مغانمها، وتصارعهم دامي الجوانب لِلْعَبِّ منها دون وعي!
وتحت الأقدام في هذه الساحة الخسيسة أرحام مقطوعة، وحرمات منتهَكة، ومروءات ضائعة، وصداقات منسية، ومستَضعَفون دِيسُوا، وأشياء كثيرة محزنة.(1/37)
ما أَحقَرَ الدنيا يوم تُنالُ بهذا الثمن! وما أحراها بهذا الوصف الحكيم: (واضرِبْ لهم مَثَلَ الحياةِ الدنيا كماءٍ أنزَلناه من السماءِ فاختلَطَ به نباتُ الأرضِ فأصبَحَ هشيمًا تَذرُوه الرياحُ وكان اللهُ على كلِّ شيءٍ مقتدرًا) (الكهف: 45).
لكنّ للحياة الدنيا جانبًا آخر لابد من بحثه ودراسته، إننا نُوجَد فيها ونقضي فيها أمَدًا لا ندري مبدأه ولا منتهاه، والذي أوجَدَنا أخبَرَنا أننا لن نُترَكَ سُدًى وأنه لم يَخلُقنا عبثًا!
إننا أمام عمل جاد وامتحان خطير! وإن علاقتنا بالأشياء والأشخاص محكومة بقوانين دقيقة، وإننا خُلقنا للبقاء لا للفناء، وإن اليوم بَذْر وغدًا حَصاد.
وإن المكان الممهَّد والزمان المحدَّد هما ساحة سباق هائل توشك نتائجه أن تُعلِن: (تَبارَكَ الذي بيدِه الملكُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ. الذي خلَق الموتَ والحياةَ ليَبلُوَكم أيُّكم أحسنُ عملاً) (الملك: 1،2).
وإذا كانت الدنيا قنطرة لما وراءها فمن الحماقة محاولةُ الخلود فيها، أو حصرُ الاهتمام في مآربها وحسب!
إن ما يُستَصحَب منها للغد المرتَقَب هو الحق، والذي يعيش عبدَ بطنِه دابّةٌ، وقيمتُه ما يَخرج منه. والذي يَسبِيه جنونُ المال والجاه، ويُقلقِلُ كلَّ شيء لإثباتِ ذاتِه رجلٌ تائهٌ!
كان أبو الطيب المتنبي يرى أن العظمة هي مجد السلطة ونيل الحكم:
وتَرْكك في الدنيا دويًّا كأنها تَداوُلُ سمعِ المرءِ أُنمُلةَ العَشرِ
كان يرى نفسه قمة يجب أن تتوج بالأبهة والسناء وما لم يُتَحْ لأحد! أليس القائلَ:
وكلُّ ما خلَق اللهُ وما لم يَخلُقِ محتَقَرٌ في همتي كشعرة في مَفْرِقي؟
يحسَب المرء سيدًا لأنه تكوَّن في بطن معيَّن، ونشأ الناس من ماء مَهِين، أما هو فمن ماء شريف.(1/38)
إنه ـ مع احترامنا لقوانين الوراثة ـ نُقَرِّر أن الوراثة لا تُنشئ عظمة ولا تُكسب نجاحًا، فهناك أنبياء من أصلاب كافرة، وهناك فُجَّار من أصلاب أنبياء، وقد كان أبو الطيب شاعرًا مُفلِقًا، من أبٍ لا يَعرف شعرًا ولا نثرًا، وكان أبو العلاء فيلسوفًا متشائمًا، من أبٍ لا يَدري شيئًا من الفلسفة.
ثم إن روافد الوراثة غامضة المَنبَعِ والكُنْهِ في أبناء الجيل الواحد، فكيف إذا تكاثرت الأجيال؟ ونحن نعرف النكتة المروية عن امرأة جميلة أحبت عبقريًّا دميمًا، وعرضت عليه الزواج ليُنجِبا ابنًا يَرِث جمالها وذكاءه! فقال لها الرجل: أخشى أن يَرِثَ غباوتَك ودَمَامتي!
إن القول بأن جنسًا ما ذكيٌّ بأصل الخِلْقة، وجنسًا آخر غبيٌّ بأصل الخلقة قول فيه ادّعاء ظاهر. إن ظروف البيئة هي التي تصنع الأعاجيب، وهي التي تُنمي المواهب أو تقتلها، بل هي التي تُحيي الفطرة أو تُميتها.
والجنس الأبيض الذي يَعمُر غرب أوربا وشمالها، والذي يفرض وصايته على العالم كله، كان أيامًا طوالاً يشتهر بالغباوة والانحطاط، وقد نقلنا في كتابنا "مع الله" كلام المستشرق "فيليب حَتِّي" عن تأخر الأوربيين الحضاري وتفوق عرب الأندلس عليهم:
"... في الوقت الذي كانت فيه جامعة أكسفورد ترى الاستحمام عادة وثنية، كانت الأجيال من علماء قرطبة تتمتع بالاستحمام في مؤسسات فاخرة..."
ويدلنا على موقف العرب حِيالَ برابرة الشمال ـ هكذا كان آباؤنا يُسمُّون سكانَ أوروبا ـ وفكرتهم عنهم ما ورد في كلام عالم "طليطلة" صاعد القاضي المتوفَّى سنة 1070م فقد كتب عنهم:
إن إفراط بُعد الشمس عن مُسامتة رءوسهم برّد هواءهم وكشَف وجوههم، فصارت لذلك أمزجتهم باردة وأخلاطهم فِجّة! فعظُمت أبدانهم، وابيضَّت ألوانهم، وانسدلت شعورهم، وانعدمت دقة الأفهام وثقوب الخواطر، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشا فيهم العَمَى والغباوة!(1/39)
صاحبه حق قدره! والحياة الصحيحة في نظر الإسلام أن تعرف ربك من خلال آفاقها. إن المهندس الماهر يضع بصماته على الآلة المحكَمة التي يُبدعها، ورب العالمين ـ وله المثل الأعلى ـ أظهر صفاته العلى في خلقه هذا العالم الرائع.
وحياتُنا ـ نحن البشر ـ فوق ظهر الأرض فرصة لا تتكرر لمعرفة الله، وإنشاء علاقة صحيحة به تبارك اسمه.
وأنا لا أتفلسف حين أصف إعجابي بعظمة الله، ولا أذهب بعيدًا! إنني أملأ صدري بالهواء ثم أقول: سبحان مَن غلَّف كوكبنا بهذا الجو الذي تتنفس فيه ألوف مؤلَّفة من الناس والدواب والطيور. إن هذا الهواء سواء هبَّ ريحًا عاصفة أم نسيمًا عليلاً شيءٌ عجيب الخَلْق!
وهذا الماء الذي يلُفُّ أرضَنا، إن العلماء قالوا: إنه يكوِّن 80% من سطح هذه الكرة الطائرة حول أمها الشمس، ومع جريها الحثيث ما سقطت منه قطرة في الفضاء، وكان المفروض أن ينسكب في كل ناحية!
مَن يُمسكه في بحاره وأنهاره ويجتذبه ليَبقَى في قراره؟
إنه الله.
إن الملكوت الرحب الذي نسكن جانبًا ضئيلاً منه يشير إلى ربه ويسبح بحمده.
وعلينا ـ أبناءَ الحياة الدنيا ـ أن نتجاوب مع هذه الحقائق، حتى إذا غادرناها إلى ما بعدها كنا أهلاً لجوار كريم!
أما إذا عشنا نأكل ونلهو وحسب فالمصير كالح. وقد نُبِّهنا إلى هذه الحقيقة الصارمة: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخذَ إلى ربِّه سَبِيلاً) (المزمل: 19) (ذَلِكَ اليومُ الحقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخذَ إلى ربِّه مآبًا) (النبأ: 39)
وحق على أهل الإيمان أن يتمَكَّنوا في الدنيا، ويَقدِروا عليها بسَعة العلم وقوة العمل؛ لأن الله لم يخلُق عباده كي يعيشوا على هامش الحياة، أو يضطرب في أيديهم زِمامها، وهو القائل: (ولقد مكَّنَّاكم في الأرْضِ وَجَعَلْنَا لكُمْ فِيهَا مَعَايشَ) (الأعراف: 10).
ولهذا التمكُّن ثمرتان:
الأولى: حُسن ارتفاق الأرض، واستغلال خيراتها في رفاهة الإنسان ومتاعه إلى حين.(1/40)
والثمرة الثانية: تطويع ما في الأرض من قوًى لدعم الحق، وإقامة نظام محكَم لجعل الأمور تمشي وَفْقَ ما شرَع الله. وهذا ما تنصح به الآية الكريمة: (وأنزَلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ ومنافعُ للناسِ ولِيَعلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُه ورسلَه بالغيبِ) (الحديد: 25).
إن الجهَلة بالحياة ليسوا أناسًا صالحين!
وكيف يكون صالحًا مَن لم يقرأ عظَمة الله في صِحاف كونه؟
وكيف يكون صالحًا مَن ملَّكه الله الأرض وقال له ولأمثاله: (هوَ الَّذِي خلَقَ لَكُمْ ما في الأرضِ جميعًا) (البقرة: 29) فعاش مِلْكًا للأرض تافهًا فوق ثَرَاها، وملَكَته هي بَدَلَ أن يَملِكَها؟
وكيف يكون صالحًا مَن سمَح للإلحاد أن يَسبِقه في كل ميدان ويَهزِمه في كل نزاع؟(1/41)
9ـ ما فكرة الإسلام عن البعث والجزاء؟
إنكار الدار الآخرة ليس بدعة هذا العصر، فمن قديمٍ كان هناك من يكذِّب الأنبياء ويتهمهم بالجنون؛ لأنهم يؤكدون أن الموتى سوف يُبعَثون ويُحاسَبون ويُثابون أو يُعاقَبون!
كان أولئك المكذِّبون يقولون للأمم التي تسمع وعيد الرسول: (هيهاتَ هيهاتَ لِمَا تُوعَدون. إنْ هي إلا حياتُنا الدنيا نموتُ ونَحيا وما نحن بمَبعُوثين) (المؤمنون: 36،37).
لكنّ عصرنا امتاز بأنه زعَم للنزعات المادية أصلاً علميًّا، وأشاع بأن الدين بعيد عن المنطق العقلي!
ومِن ثَمّ شاع الإلحاد، وعاش الكثيرون لدنياهم وحدها، وقلما تُذكَر الآخرةُ في مؤتمر جادٍّ، أو يُنظَر إليها على أنها حقيقة مقرَّرة.
والذي أراه أن الإيمان بالآخرة فرعُ الإيمان بالله، عز وجل؛ فمن آمَن بوجوده لم يَستَبعِدْ قط قدرتَه على إيجاد العالَم بعد إفنائِه، وإقامةَ ساحة عامة لحساب دقيق يَلقَى فيه كلُّ امرئ جزاءَه: (يومَ تَجِدُ كلُّ نفسٍ ما عَمِلَتْ من خيرٍ مُحضَرًا وما عَمِلَتْ من سوءٍ تودُّ لو أن بينَها وبينَه أمَدًا بعيدًا) (آل عمران: 30)
إن الفلَّاح يستطيع أن يزرع الأرض مرة ثانية بعدما حصَدها، والمهندس يستطيع إعادة بيت تَهدَّم، فما الذي يُعجِز خالقَ هذا العالَم على إنشائه مرة أخرى بعد أن يَبلُغَ أجله الذي حدده له؟
(وقالوا أإذا كنَّا عظامًا ورُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثونَ خَلْقًا جديدًا. قُلْ كُونوا حجارةً أو حديدًا. أو خلقًا مما يكبُرُ في صدورِكم فسيقولون مَن يُعيدُنا قل الذي فطَركم أولَ مرةٍ) (الإسراء: 49ـ51).
لو كان هذا الكلام من خالق الكون وعدًا مجرَّدًا ما تأخرتُ في تصديقه، فكيف وأنا أرى في كل لحظة من دنيا الناس خلقًا جديدًا يُبرِز فيه الإبداعُ الأعلى أجلَى ما يكون؟(1/42)
في كل ساعة من ليل أو نهار تَقذِف الأرحام بعشرات ومئات من الأجِنّة السويّة الخَلْق، الدوّارة الأجهزة، المُتَجاوِبَة مع عناصر البيئة التي تَرْتَقِبُها، فهي تَسمَع وتَرَى وتَعِي وتَمضي في طريقها قُدُمًا إلى استكمال وجودها المقدور.
هل صنع الأبوان شيئًا في هذا التخلُّق الباهر؟
أعني: مَن صنع الحيوان المنوي وأودَع فيه خصائص الوراثة المادية والأدبية؟
ومَن صنع بويضة الأم ومد إليها صفات الآباء والأجداد؟
(أفرأيتم ما تُمْنُونَ. أأنتم تَخلُقونه أم نحن الخالقون) (الواقعة: 58،59)
إن إنشاء الحياة في عالَم الإنسان والحيوان والنبات يتكرر كل يوم، فلماذا نستبعد بعثًا يتم مثله بين أسماعنا وأبصارنا؟
إن ذلك سر تقريع القرآن للذاهلين عندما يقول: (ولقد عَلِمتم النشأةَ الأُولَى فلولا تَذَكَّرون). (الواقعة: 62).
إن انتشار الجهالة لا يعطيها وجاهة! وإذا كان منكرو البعث كثيرين فليسوا إلا قُطْعانًا من الغافلين أو المستَغْفَلِين!
وعلى كل عاقل أن يستمع إلى هذا النداء: (يا أيها الإنسانُ إنك كادحٌ إلى ربِّك كَدْحًا فمُلاقِيه. فأما مَن أُوتِيَ كتابَه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حسابًا يسيرًا. ويَنقَلِبُ إلى أهلِه مسرورًا. وأما من أُوتيَ كتابَه وراءَ ظهرِه. فسوف يَدعو ثُبُورًا. ويَصْلَى سعيرًا) (الانشقاق: 6ـ12).
إن العدالة لا تتحقق في هذه الدنيا، فهناك سَفِلة تَبوَّءوا القِمَم، وعباقرة توسَّدوا التراب، وقَتلَى أَزهَق المجرمون أرواحَهم وعادوا يَضحكون أو يَسكَرون.
إن اثنين وسبعين ألفًا من عرب فلسطين ومسلمي لبنان قُتلوا في الحرب الأخيرة، فلْنَفْرِضْ أن الله أدالَ للعرب وارتدَّت لهم الكرة بعد سنين طويلة أو قصيرة، سيكون الجزارون قد ماتوا، وقد يُعفَى عن أبنائهم أو أحفادهم ـ كما فعل صلاح الدين ـ وقد يُقتَصُّ ممن لم يَقترفْ جُرمًا!(1/43)
إن القوانين الكونية لها منطق فوق ما نعرف، ولها ضحايا يضيعون في حركتها الدائبة، يقول الشاعر:
وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما ذَوَى نَبْتُ جَنبَيْه وجَفَّت مَشَارعُهْ
فقلت: إلى أن يَرجِعَ النهر جاريًا ويَعشَبَ جَنْباه تموتُ ضفادعُه
من أجل ذلك كانت الآخرة حافلة بالانقلابات المثيرة: "رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة" رُبَّ مالكٍ هنا يكون مملوكًا هناك، سيهبط ناس من الأَوْج إلى القاع، ويرتفع آخرون من القاع إلى الأَوْج: (إذا وقَعَت الواقعةُ. ليس لوَقْعَتِها كاذبةٌ. خافضةٌ رافعةٌ) (الواقعة: 1ـ3).
إن الآخرة حق؛ لأنها تصحيح لأوضاع وردٌّ لاعتبار، وتحقيق لعدل اختبَر الله الناسَ بتأخيره إلى حين، هذا الحين جزء من نظام الدنيا ومن امتحاناتها الصعبة، ولابد من مراعاته، ولذلك جاء في الحديث القدسي، في إجابة دعوة المظلوم: "وعزتي وجلالي لأَنصُرَنَّكِ ولو بعدَ حينٍ" وجاء في انتصار المؤمنين على الكافرين: (فتولَّ عنهم حتى حينٍ. وأبصِرْهم فسوف يُبصِرون. أفَبِعَذابِنَا يَستَعجِلونَ. فإذا نزَل بساحَتِهِمْ فساءَ صباحُ المُنْذَرين. وتَوَلَّ عنهم حتى حينٍ) (الصافات: 174ـ179).
لقد تكرر هذا (الحين) وانتظامُه مرتين في سياق متقارب، لأن الله لا يعجِّل بعجلتنا، ولأن سنن الله الكونية فوق تفكيرنا المحدود، ولكنْ وزن الذرّة من الخير أو الشر لا يَضيع أو يُنسَى. وحديث الإسلام عن القيامة والحساب تناول مرحلتين:
الأولى: مرحلة الدمار الذي ينزل بهذا العالم، والانهيار الفلكي الذي يمحو نظامه ويُطفي نجومه. وقد جاء في السُّنّة: "مَن سَرَّهُ أن يَرَى القيامةَ رَأْيَ عينٍ فليقرأ: (إذَا الشمسُ كُوِّرَتْ. وإذا النجومُ انكدَرَتْ...) (إذا السماءُ انفَطَرَتْ. وإذا الكواكبُ انتَثَرَتْ...) (إذا السماءُ انشَقَّتْ. وأَذِنتْ لربِّها وحُقَّتْ...)".(1/44)
ويَظهَر أن الهول الذي يَصحَب هذه الاضطرابات الشاملة يَغمُر الأفئدة بالفزع والرهبة فتَرى الناسَ سُكَارى وما هم بسُكَارى.
ومجيء الساعة يكون بغتةً والناس ماضون في أعمالهم العادية، الآكِل يرفع لقمته إلى فمه، والبنّاء يُشيِّد البيت الذي يبنيه، والتاجر يناول البائع السلعة التي يطلبها، وهذا وذاك في جدالهم حول شئونهم، ومستغرقون فيما يُعنيهم! يقول تعالى: (ويَقُولُونَ متى هذا الوَعْدُ إنْ كنتُمْ صادقينَ. ما يَنظُرونَ إِلَّا صَيْحةً واحدةً تأخذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إِلَى أهلِهِمْ يَرجِعُونَ) (يس: 48ـ50).
أما المرحلة الثانية: فهي مرحلة الحساب الذي يَشمَل الأولين والآخِرين، ويُحشَد أبناء آدم منذ بدءوا حتى انتهَوْا، ويستعرض أعمالهم منذ عقَلوا حتى ماتوا!
قيل لعلي بن أبي طالب: كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم في يوم القيامة؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم.
والذي نحسبه نحن أن الزمان سوف ينعدم كما ينعدم الوزن عن رواد الفضاء، وهل الخلود إلا انعدام الزمان؟ وأن رب العالمين سيجعل الخلق في حال من الإحساس العام بكل ما أسلفوه في الدنيا، وكأن أشرطة مسجَّلة تمر بأذهانهم مَلأَى بكل ما كان منهم وحكمِ الله فيه!
ثم يستعد كل إنسان للانطلاق إلى مصيره العدل: (ذلك يوم مجموعٌ له الناسُ وذلك يوم مشهودٌ. وما نُؤَخِّرُهُ إلا لأجلٍ معدودٍ. يومَ يأتِ لا تكلَّمُ نفسٌ إلا بإذنِه فمنهم شقيٌّ وسعيدٌ) (هود: 103ـ 105).
والجزاء ماديّ وروحانيّ معًا، إنه للإنسان الذي عبَد بجسمه وعقله، أو فجَر بجسمه وعقله! ولا يستطيع أي دارس للقرآن الكريم أن يفسر آياته في وصف الجنة والنار بأنها من قبيل المجاز، وليس هناك بتَّةً ما يدعو لهذا التعسُّف في التفسير.
والنظر إلى مادية الإنسان بأنها مَعرّة، ولِذاته الحسية بأنها هبوط هو تأثر بفلسفات خيالية لا وزن لها.(1/45)
نعم، إن مع هذه اللذات ما هو أسنَى وأزكَى، معها الرضوانُ الأعلى والاستغراقُ في شهود أمجاد الألوهية: (إنَّ الأبرارَ لَفِي نعيمٍ. علَى الأرائكِ يَنظُرونَ. تَعرِفُ في وُجوههم نَضرةَ النعيمِ) (المطففين: 22ـ24) جعَلَنا الله من هؤلاء المُكرَمين.(1/46)
10ـ ما البرزخ؟ وما دلالته في الإسلام؟
المعروف عند جمهور المؤمنين أن الإنسان مخلوق من عنصرين متباينين؛ جسمه من هذه الأرض خُلق ونما، وروحه من نفخة من الله سبحانه وتعالى، فهو ليس حيوانًا وليس ملاكًا، وفي كيانه تتجاور المتناقضات، من غرائز مادية وسُبُحات عقلية وعاطفية!
وعندما يموت يرجع إلى الأرض ما نشأ منها وتغذَّى على نتاجها، يرجع هذا الجسد ليَبلَى ويَفنَى منه ما شاء الله: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرَى) (طه: 55)
أما الروح فله مستقَر آخر، لا ندري بدقةٍ مكانَه. لا ندري كذلك ما علاقته بالجسد الذي كان فيه.
هل انقطعت صلته به انقطاعًا تامًّا؟
هل عند البعث يعود إليه هو أم يعود إلى جسد شَبِيه به؟ هذه أسئلة لا نَبُتُّ في الإجابة عنها.
إنما الذي نَبُتُّ فيه أن الشخصية الإنسانية لا تَفنَى بالموت، وأنها رحَلت من عالَم إلى عالَم آخر، وأنها بَقِيَت كاملة الحِسِّ تامة الوعي، وأنها إذا فقَدت الأُذَنَ والعَينَ فلم تَفقد السمعَ والبصرَ، بل قد تكون أسمَعَ وأبصَرَ مما كانت على ظهر الأرض.
إننا قد نكون مَهَرة في المنطق المادي، أما المنطق الروحي فعِلمُنا محدود بل صفر!
وقد أخبرنا الله أن الشهداء الذين قُتِلوا في معارك الجهاد ومُزِّعت أجسادهم موتى في نظرنا نحن فقط لأنهم غابوا عنا، أما في حقيقة الأمر فهم أحياء.
وقد أسند إليهم خمس صفات تستحق التأمل:
هم أولاً: أحياء لا هَلكَى. وثانيًا: في جوار كريم لأنهم عند رب العالمين. وثالثًا: في منزل خَصِب حافل بالخير يُدِرُّ عليهم الأرزاق. ورابعًا: هم فرحون بما نالوا مغمورون بالعطاء الأعلى. وخامسًا: مطمئنون على أقاربهم وأصدقائهم الذين يخلُفونهم في الدنيا، إنهم على حق وإلى خير، وقريبًا سوف يجتمع الشمل ويَلحَق أحياء الأرض بأحياء السماء!(1/47)
هذا ما تذكره الآية الكريمة: (ولا تَحسَبنَّ الذين قُتلوا في سبيلِ اللهِ أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يُرزَقُون. فَرِحين بما آتاهم اللهُ من فضله ويَستبشرون بالذين لم يَلحَقوا بهم مِن خلِفهم ألاّ خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون) (آل عمران: 169،170) صحيح أننا لا نشعر بهذا كله ولا بعضه. وقد صرحت سورة أخرى بذلك: (ولا تقولوا لمَن يُقتلُ في سبيلِ اللهِ أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تَشعرون) (البقرة: 154).
إن عدم شعورنا لأن أجهزة الاستقبال السمعي والبصري عندنا محدودة القُدْرة، وغيرنا من الكائنات يرانا ولا نراه، وكما قال العلماء: عدم العلم ليس علمًا بالعدم.
إنه كما يسافر أحدنا من بلد إلى بلد يسافر الموتى من مكان إلى مكان، حيث تبدأ الحياة الآخرة، ويبدأ الحساب الرهيب تمهيدًا للمحاكمة الكبرى يوم النشور.
وهذه المرحلة المتوسطة هي البرزخ كما ذكرت الآيات: (حتى إذا جاءَ أحدَهم الموتُ قال ربِّ ارجِعُونِ. لعلِّي أعملُ صالحًا فيما تركتُ كلاّ إنها كلمةٌ هو قائلُها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يُبعثون) (المؤمنون: 99ـ100)
ويُشبه ما يَلْقاه الفُجَّارُ في البرزَخ ما يفعله رجال الشرطة بالمجرمين عندما يقعون في قبضتهم، هناك تحقيق ابتدائي سريع، ثم يُرمَى المتَّهمون في السجن رَيثَما يقدَّمون للقضاء في محكمة كبرى.
ويُشبه ما يلقاه الأبرارُ ما يصنعه رجالُ العلم عندما يستقبلون مؤلِّفًا تقررت مكافأته، أو عبقريًّا مُنِح جائزة سَنِيَّة، إنه يُجاء به مكرَّمًا ويستريح في إحدى الغُرَف الأنيقة ريثما يأخذ ما تقرر له.
والذين يفعلون الخير أو الشر ليسوا سواءً في مراتبهم، فمن الأشرار مَن ينفتح له شُوَاظٌ من نار يَشوِي وجهَه حتى يوم اللقاء!
ومن الأخيار مَن يتذوق النعيم من أول يوم، كما جاء في وصف الشهداء أن أرواحهم مُعَلَّقة في قناديل تحت العرش تَرِدُ أنهار الجنة وتَطعَمُ من ثمارها!(1/48)
المهم الموت رحلة من حياة أرضية محسوسة لنا إلى حياة غيبية نسمع بخبرها وحسب. وقد كان الأصحاب الكِرام يعرفون ذلك معرفة يقين، فلما حضرت "بلالاً" الوفاةُ صاحت امرأته: وا كَرْباه! وصاح المُحتضَر المشرِف على الموت: بل وا طَرَباه، غدًا ألاقي الأحِبّة، محمدًا وحزبه!
والواقع أن الموت نقلة إلى عالَم مستقِرٍّ مطَّرد النمو. إن أودية الموت من بَدْء الخليقة تستقبل الأجيال المُدبِرة، الأجداد ثم الآباء ثم الأولاد ثم الأحفاد، وهكذا من قديم، فعالَم الموتى يتسع باستمرار والنتائج تتكشف فيه، ومعادن الناس تُعرَف.
لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصُون والقبور تزيدُ
وليس القصد من زيادة القبور أن مبانيها تزيد، وإنما القصد أن اللاحقين يتبعون السابقين! مَدَدًا بعد مَدَد، وهؤلاء وأولئك في انتظار القيامة الكبرى حتى يجيء أوانها.
وتبدأ حياة البرزخ بلَونَيها من ساعة مُفارَقة الروح للجسد، وتدبَّرْ قوله تعالى: (ولو تَرَى إذ الظالمون في غَمَراتِ الموتِ والملائكةُ باسطُو أيدِيهم أَخرِجوا أنفسَكم اليومَ تُجزَونَ عذابَ الهُونِ بما كنتُم تقولونَ على اللهِ غيرَ الحقِّ وكنتُم عن آياتِه تَستَكْبِرُونَ) (الأنعام: 93).
واليوم ـ لا الغد ـ يبدأ العقاب على ما مضى من افتراء وكبرياء.
إن الإنسان طَرَقَ الدنيا عاريًا، ولقد تقلَّب فيها ثم هاهو ذا يتركها كما جاءها، لا مالَ ولا جاهَ ولا عِزوةَ ولا سلطانَ: (ولقد جئتُمونا فُرَادَى كما خلَقناكم أولَ مرةٍ وترَكتُم ما خوَّلناكم وراءَ ظُهُورِكُمْ) (الأنعام: 94)(1/49)
ويظهر أنه بقَدْر ما يكون المَرْء طاغِيَة في حياته الأولى يكون ترصُّد الزبانية له وارتقابُهم لمَقدمه كيما يُؤَدَّب على غُلُوِّه وفساده، فتكون مراحل البرزخ الأولى لطمات تتناوله من كل جهة، وإهانات تلُفُّه بالخِزْي والعار. وذلك كله أيامَ القبر الأولى، أعني أيام البرزخ، وليس يحتاج الأمر إلى مساءلة، فما مَحِلُّها إذا كان المجرم قد لَحِقَتْهُ الوفاة وهو يقاتل الحق ويخاصم حَمَلَته من المرسَلين والصالحين؟ ترى ذلك في قصة الفراعنة: (النارُ يُعرَضُونَ عليها غُدُوًّا وعَشِيًّا ويومَ تقومُ الساعةُ أَدخِلوا آلَ فرعونَ أشدَّ العذابِ) (غافر: 46)
وتراه كذلك في كُبَراء قريش الذين أدركتْهم مناياهم وهم يقاتلون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معركة بدر، قال تعالى: (ولو تَرَى إذ يَتَوفَّى الذين كفَرُوا الملائكةُ يَضرِبونَ وُجوهَهم وأدبارَهم وذُوقُوا عذابَ الحريقِِ. ذلك بما قدَّمت أيدِيكم وأن اللهَ ليس بظلَّامٍ للعبيدِ) (الأنفال: 50ـ51).
وقد رُميَت جُثَث المشركين البُغاة في بئر، ووقف النبي بعد دفنهم يقول بصوت جهير: "هل وجدتم ما وعَد ربكم حقًّا؟" وهو يُناديهم بأسمائهم! فقال له أصحابه: أتُنادي قومًا جيَّفوا؟ قال: "ما أنتم بأسمَعَ لِما أقول منهم، ولكنهم لا يُجيبون".
إننا لا نشعر بما يلقاه الراحلون عنا، بل لا نشعر بشيء من عالَم الغيب وهو عالم مديد رهيب!
ولن تتأخر نفس أبدًا عن أخذ طريقها إلى البرزخ وملاقاة الجزاء المُعَدِّ لها، مهما كان حب الأقربين والأصدقاء والأتباع! وتدبَّرْ قوله ـ تعالى ـ يصف حالة المحتَضَر وعَجْزَ مَن حوله: (فلَوْلَا إذا بلَغَتِ الْحُلقُومَ. وأنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ. ونحنُ أَقْرَبُ إليه منكُمْ ولكِنْ لا تُبصِرونَ. فلولَا إن كنتُمْ غيرَ مَدِينِينَ. تَرجِعونَها إنْ كنتُمْ صادِقِينَ) (الواقعة: 83 ـ 87).(1/50)
لا أريد تفسير الآيات ولا ذِكْرَ من عجَزنا عن إبصاره وهو أقرب إلى الميت منا ـ نحن الملتَصِقين به الحانِين عليه ـ اللهم إن البشر كلهم أصفار أمام سلطان الموت، وأمام ما يَقتَرِن الموت به من مبادئ الحساب.
إن الموت فضح الحياة، ومع ذلك فحبنا للحياة يُعمِي ويُصِمّ! وذهولنا عن الجزاء المرتقَب أدهَى وأمَر!
ذلك، وقد ورد في الآثار أن الموتى لا يَرجِعُون إلينا، بذلك سبق القول من الله، وبذلك أُجِيبَ شهداء أحد.
ومِن ثَمَّ فالزعم بأن الأرواح تُستَحضَر في مجالس خاصة وتَقُصّ ما تَلقَى على الحضور يكاد يكون رجمًا بالغيب. وقد تتَبَّعتُ بعضَ ما نُسب إلى هذه الأرواح الحاضرة من كلام فوجدته تخليطًا، وقد يكون من عبث الجن واستهزائهم بالبشر!(1/51)
100 ـ إلى أي مدًى يُمكن أن نَقتبس مِن هذه الحضارة المُعاصرة؟
كان رجال التعليم والتربية في اليابان أيقاظًا عندما اتَّصلت بلادهم بأوربا في القرن الماضي، أو قُلْ: كان حُرَّاس التقاليد المَوْروثة صاحِينَ عندما قرَّرت اليابان الاستفادة من التفوُّق الصناعيّ الغربيّ، فقد أعدُّوا لكلِّ جديدٍ يُقتَبَس مكانَه فوق أرضهم ومساحتَه الماديةَ والأدبيةَ التي لا يَعْدُوها، وهَيْمَنوا ببَصر حادٍّ على الآثار المُتوقَّعة حتى لا تَفلت من أيديهم أو تتحرك بعيدًا عن خُططهم المَرسومة.
ومع التزام هذا الخطِّ الصارم بَقِيَتِ الشخصية اليابانية مَحفوظةَ السمات ثابتة الملامح، فانتقلت الصناعات الغربية إلى اليابان، ولم يتحوَّل اليابانيون إلى أوربيين في عقائدهم أو لُغتهم أو آدابهم وأخلاقهم. إنهم فَعَلُوا ولم يَنْفعِلُوا، وقادُوا ولم يَنْقادوا.
وكانت هناك أديانٌ بينها فجوات؛ البُوذية من ناحية، والشنتوية من ناحية أخرى، والأتباع المُخلصون تتقسَّمُهم وِجهات نظر شتَّى، ومذاهب فقهية كثيرة، إن صحَّ التعبير، بيد أن لوْنًا من المُعايشة السلمية فرَض نفسه على الجميع، فإذا اليابانيون كلهم دون حساسيات دينية يتعاونون على إنهاض بلدهم ورفع لوائه، وتمَّ لهم ما أرادوا.(1/52)
إن للنجاح الحقيقيّ أساسًا لا يتغير، هو النفس الإنسانية، فإذا استقرَّ هذا المِهاد لم يبقَ شيءٌ ذو بالٍ، وقد كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعرَفَ إنسانٍ بهذه الحقيقة، فاتَّجَهَتْ جُهوده كلها قبل أي شيء إلى داخل الإنسان تَصُوغه وتَضبطه وتطمئن إلى قراره ومَساره، وهو يعرف أن هذا الإنسان سوف يَفرض نفسه على بيئته يومًا عندما تَنزاح العوائق مِن أمامه. ولم يُحاول قطُّ الاصطدام بالأسوار الخارجية قبل استكمال هذا الداخل المهم، ومن ثَمَّ ترك الأصنام منصوبةً حول الكعبة عشرينَ سنةٍ، لم يُهَشِّمْ واحدًا منها في معركة طائشة، بل الثابت في سيرته أنه طاف في عُمرةٍ في السنة السابعة حول الكعبة، والأصنامُ جاثمةٌ حولها، وفي الأوضاع التي كانت عليها من بدء الدعوة. أكان ذلك بَقِيًّا عليها أو توقيرًا لها؟ كلَّا، لقد كان يعلم أن لها أجَلًا لا ريب فيه، وأنها عن قريب أو بعيدٍ ستَتحوَّل جُذاذًا. ومَن الذي يقوم بهذا التحويل الحاسم؟ الرجال الذين استناروا مِن الداخل وتربَّوا على التوحيد الحق. لقد عرفوا أن الذباب أقوى مِن هذه الأصنام، وأنها لا تثبت في معركة معه، ألم يَتْلُوا قوله تعالى: (يا أيُّها الناسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لهُ إنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا ولوِ اجْتَمَعُوا لهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالِبُ والمَطْلُوبُ) (الحج: 73) فليتربصوا بهذه الأصنام يومًا لا ريب فيه دون استعجال، وليهتموا بداخلهم يتعهدونه، فهو الوُجود الآتي مع الغد.
ويتساءل الناس: ما هذا التعهُّد الشاغل المهم؟(1/53)
ونقول: هو تعهد الوعي ليكون صحيحًا، والباطن ليكون نظيفًا، والخُلُق ليكون عظيمًا، والإخاء ليكون وَثيقًا، والهدف ليكون واضحًا، فالأمم لا تُبنَى بالصور وإنما تُبنى بالحقائق. إن المنافقين أحسن الناس إتقانًا للمَراسم، وقُلوبُهم هواء، أما المؤمنون فإن نُضْجَ نفوسهم، وزكاة سرائرهم، هما سِرُّ عظمتهم وسر مَآلِ الأمور إليهم.
ولا يُعرف في تاريخ الهداة رجلٌ مثل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحْسَنَ صَوْغَ النفوس وإيقاظَ مَلَكاتها وإدارتها بأعظَمِ ما فيها مِن طاقة، وجعلها تَدْفع ولا تندفع، وتُؤثر ولا تتأثَّر.
فهل نحن ـ الدعاةَ المُنتَمِين إليه ـ نفهم هذا المنهج ونلتزم مَنطقه؟
إن المُوجِّهين اليابانيين كانوا أذكَى منَّا وأقدْرَ في مواجهة المشاكل وهزيمة الصعاب. نظرتُ بحسرة إلى "الخُلُق الفرديّ" في الإفادة من التقدُّم الصناعيّ العالَميّ!
ما هذا؟
هذا شابٌّ يقود سيارةً فارهة، تنهب الأرض نهْبًا، ينزل منها بأناقة وكبرياء، ويرمق الشارع بنظرةِ استعلاءٍ، يشتري بعض السلع ثم يَمتطي سيارته ويعود من حيث جاء، إنه ما زاد من الناحية الإنسانية شيئًا عن الأيام التي كان سَلَفُه يمشي فيها حافِيًا أو مُتنعلًا، وما تَشْرُفُ به أمته ولا أسرته.
وهذا عاملٌ قادم مِن وادي النيل، ماذا حمَل إلى وطنه؟ "فيديو"! إن المسكين جمَّد عرق جَبينه وإرهق أعصابه في هذا الجهاز المُسلِّي، وسيحمله مُنتصب القامة والهامة؛ لأنه أصبح به أرفعَ مُستوًى، وما درى المسكين أنه بما يحمل نقَص وما زاد!
العرب في الحضارة الحديثة شعوب مُستهلِكة تتنافس الدول الصناعية على إلهائها بالأدوات البرَّاقة والمُخترعات المُريحة. والدعاة لا يدرون كيف يَستنقذون أمتهم المَخروبة من هذه الأوضاع القاتلة؛ لأنهم لا يتَّجهون إلى داخل الإنسان المسلم، يُحركون ما توقَّف مِن أجهزته، ويُنيرون ما أظلم من مصابيحه، إنهم يتحركون نحو الظاهر القريب أو تحته بقليل.(1/54)
إن قُدرة أُمَّة ما على الصدارة في الأرض، أو توريث أمةٍ ما قيادةَ العالَم كما يُعبِّر القرآن الكريم لا يَجيء بين عشيَّة وضُحاها، ولا يَتِمُّ بخصائصَ سهلةٍ، لا، أن له صلاحياتٍ مُعينةً أومأ إليها الوحي في قوله سبحانه: (ولقدْ كَتَبْنَا في الزَّبُورِ مِن بعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105).
لا تظن المدى قريبًا بين ما قصَّه القرآن الكريم عن ذُلِّ بني إسرائيل قديمًا وبين تمكينهم في الأرض بعد ذلك، عندما توعَّد فرعونُ قومَ موسى وجاء على لسانه: (سَنُقَتِّلُ أبْنَاءَهُمْ ونَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف: 127) قال موسى لقومه: (اسْتَعِينُوا باللهِ واصْبِرُوا إنَّ الأرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ والعَاقبةُ للمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128) ومرت السنون وتغيَّرت الأوضاع (وأَوْرَثْنَا القومَ الذينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرضِ ومَغارِبَهَا التي بارَكْنَا فِيهَا) (الأعراف: 137) إن ذلك كله لم يتمَّ في أيامٍ قلائلَ، إنه استغرق عشرات السنين، حتى أمكن وَفْقَ سُنن الله الاجتماعية أن يُرزَقَ العبيدُ أخلاقَ السيادة الحقيقية.
والواقع أن العرب أيام البعثة تعهَّدَتْهم بالصَّقْل والتهذيب يدُ صَنَاعٍ، ومَضَت بهم في طريق المجد نُبوَّةٌ مُلهِمة، نبوة حوَّلت الماء والطين إلى أزهار ورياحين.(1/55)
نعم، إن الإسلام حوَّل العرب إلى ربانيِّين بعد ما كانوا شياطين، وجعلهم نماذج تُحتذَى في ميادين العبادات والمعاملات، فكانت قيادتهم خيرًا وبركة، وكانت فُتوحهم الفكرية والروحية أندَى وأجدَى من فتوحهم العسكرية الخارقة. وعندما سقطت القيادات القديمة مِن الفرس والروم لم يَبكها أحدٌ، لم يتخلَّف عن سقوطها فراغ يُحاول الآخرون ملأه، بل الذي حدث أن الشعوب تنفَّست الصُّعَداء، ورأت أن ما جَدَّ في رُبوعها أولى بالتقدير والاحترام أو أولى بالرعاية والحماية.
لكن عربَ اليوم على غِرار آخر، ودَعْكَ من التخلف الصناعيّ والحضاريّ، وَلْنَنظُرْ إلى قضايا اجتماعية وأخلاقية هي من صميم حياتنا الداخلية.
ما تقاليد الزواج عندنا؟ هناك أعراف مُتَّبَعة؛ أن قبيلة دون قبيلة، وأن أُسرة أعرق من أسرة، وأن مكانة امرئٍ ما تنبُع من نسَبه.
وقد ساند هذا السلوكَ الجائرَ تفكيرٌ فِقهيٌّ يؤكد أن المرأة من بني أمية أو بني هاشم لا يَرْقَى إلى مستواها الرجل من عرقٍ آخر!
أليست هذه هي التفرقةَ العُنصريةَ التي جاء الإسلام لمَحْوِهَا!
هل نستطيع تصدير هذا التفكير إلى العالَم!
وهل نكون صادقين مع الله عندما نزعُم أن ذلك دِينه!
وهل يقبله أهل الأرض منَّا!
وفي أقطار كثيرة رأيت الشباب يَئِنُّ من غلاء المهور، وأحسست أن العوائق هائلة دون الحلال، وأن المُغريات كثيرة نحو الحرام، فهل هذا العجز في علاجِ أهمِّ الغرائز البشرية يُعَدُّ نصرًا إسلاميًا!
وهل رسالة أمتنا الاجتماعية تصعيبُ الطيِّبات وتيسيرُ الخبائث!
وهل يَهَشُّ العالم لتقاليدنا تلك!
ولا أمضي في سرد أمثلة لتعثُّر قضايانا الاجتماعية، وإنما أمدُّ البصر لقضايانا الخُلُقية التي لن نَستورد لبحثها خبراء أجانب.(1/56)
شكَا لي شابٌّ ناشئ موهوب وُعُورةَ الطريق أمامه، فقلت له يائسًا: امْضِ بمواهبك إلى الأمام دون انتظار عون من أحد، بل توقَّعِ الكيْدَ والصدَّ؛ لأن البيئات التي نعيش فيها لا تُرحِّب بالمَوهوبين، ولا تُؤتي كل ذي فضْلٍ فضله، لا كارهة أو مَغلوبة.
أغلب الناس يعيش داخل قوقعة من نفسه ومآربِه، وقلَّما يَلتفت إلى الآخرين ليُسْديَ عونًا أو يقدمَ يدًا. والطريقة التي يَدرُسون بها الدين لا تُعين على زكاة النفس وسنائها، فالأجربُ عندما يرتدي ثوبًا غاليًا جميلًا قد يستُر علَّته حينًا، بيد أن ذلك لا يَشفي سِقامه، هكذا نرى الذين يُؤدُّون مراسم العبادات ولا يُهذبون أنفسهم.
الفارق بين الإنسان والحيوان أن الحيوان يتحرك بدوافع حاجاته الخاصة ولا يُحسُّ إلا ذاته، أما الإنسان فالمَفروض أن يحيا في مجتمع له ضوابطه وآدابه، وعلى المرء أن يُحسَّ بنفسه وبغيره معًا. والصورة الدنيا للسلوك البشريّ تظهر في أفعالِ المُجرِمين الذين لا يهتمون إلا بما يشتهون، أما صور الرُّقيِّ المنشود فتتضح كلما اختفت الأنانية، ونما الإحساس بالغير والتقدير لحقوقه.
وقد أقام الإسلام شعار "في سبيل الله" ليخلع الإنسانَ مِن أثَرَتِهِ ويدفعَه إلى ربه! فالإنفاق ينبغي أن يكون في سبيل الله، والجهاد ينبغي أن يكون في سبيل الله، والسعيُ في هذا الدنيا ينبغي أن يكون في سبيل الله، بل المَحْيا والممات جميعًا في سبيل الله.
وهذا الشعار يعني في النشاط العام أمرينِ؛ ابتغاء وجه الله وتحقيق المصلحة العامة. وفُقهاؤنا يَرَونَ أن حقَّ الجماعة داخلٌ في كلِّ ما هو لله، إذ الإسلام يَمزُج بين الدين والدولة، والعبادات والمُعاملات.
والذي حدث في هذا العصر أن المقاييس الأخلاقية في الغرب غالت في حقِّ المجتمع، وقهرت به النوازع الشخصية، وجعلت "المُواطن" يرعى وطنه ومصلحة قومه ورِفْعةَ أُمته... إلى آخره، وضبطت بذلك أنانيته الخاصة.(1/57)
أما المُنتَمُون إلى الدين فإن شعار "في سبيل الله" نُسِيَ أو تُنُوسِيَ في مجال "التربية" وتُرِك سرطان الأنانية يمتد ويتوغل، فماذا كانت النتيجة؟
فُرقة مُستغرَبة بين مُجاهدي أفغانستان، وبين مُحرِّري فلسطين، وسيطرت المآرب على أغلب الأنشطة العامة، فإذا الشخص الذي يعمل لوطنه في أوربا أيقَظُ ضميرًا من مَثيله الذي ينتمي إلى الدين ولا يُفكر في سبيل الله، وإنما يُفكر في تنمية ثروته أو دعم مكانته.
إن المبدأ الإسلاميّ الأول في التربية وهو (قدْ أفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (الشمس: 9) لا يتحقق بالدعوى ولا بالصياح، وإنما يتحقق بتطبيق عميق حاسم في شئون الحياة وبين جميع الطوائف. إن "دِيجول" وليُّ نعمة فرنسا الحديثة دُفن دون احتفالٍ في قريته، وامرأته الفاضلة تعيش بين جدران ملجأٍ يرعَى شَيخوختها، على حين نرى مَن خانُوا أمتهم أو غَشُّوها يُدفَنون وسط أحفال مائجةٍ، وتُوضَع في أفواه أُسَرهم ملاعق الذهب!
فهل هذه مِثاليات الإسلام كما نراها!
وهل تَنتصر الدعوة الإسلامية بهذا التفاوت الصارخ!
إن الطيبة أو التقوَى أو القدرة على مَيْزِ الخبيث من الطيب وإيثار الحسن على القبيح كانت المشاعرَ التي برَز بها سلفنا الأولون، بل آباؤنا الأقربون. ولقد عرَفتُ فلاحي قريتنا وأنا صغير ينامون مُبكرين بعد صلاة العشاء، ويستيقظون مع الفجر، فيذهبون صَوْبَ حقولهم، وقد تذهب إليهم زوجاتهم أو أولادهم بالغداء، فما يَعودون مِن مَزارعهم إلا مع الغروب، وكانت أَرَضُوهم تُدِرُّ السمن والعسل، وبركاتُ الله تَنهمر عليهم بالغُدو والآصال. والآن بعد السهر والسمَر على شتَّى البرامج والنوم حتى الضحى، وإضاعة الصلاة، واتِّباع الغَفلات، ماذا نَجْني؟
والسؤال نفسه مع أهل الخليج، لقد سمعتُ مُعمَّرينَ منهم يتحدثون عن الماضي بأسًى وإعزازٍ معًا! يقولون: كنا فقراءَ، ولكن الرُّجولة والاستِعفاف وتقوَى الله كانت تسود الآفاق!(1/58)
إن الغدَ مع الشهوات الوافدة مُرُّ الثَّمَرِ.
أُريدُ مِن أمتنا أن تقتبس مِن حضارة الغرب ما يُوافق أو يَتواءم مع فطرة الله في مَواريثنا.
ثم ماذا على الدعاة والمُربِّين لو درَسوا الأساليب التي اتَّبعها اليابانيون في الاستفادة مِن هذه الحضارة!
ثم إن هناك خَللًا في التركيب الإنسانيّ لأُمتنا طَرَأ عليها مع ترادُف العِلَل السياسية والاجتماعية، جعل المَنطق العلميّ يتقهقر وتَحِلُّ محلَّه الأوهام، وجعل الاكتمال النفسيّ يَضعف وتَسُدُّ فراغَه بعضُ الشعائر وسُور الطاعات.
وعلماؤنا الكبار لم تخدعهم هذه النقائض، ولذلك رفَض ابن القيِّم من الغَنِيِّ البخيل أن يُكثر الذِّكْرَ ويُطيل الصيام، فعبادتُه الأُولَى العَطاءُ! كما رفَض مِن الداعية الجَبانِ أن يُثرثر بالأَوراد ويَعتكف بعيدًا عن الناس، فعِبادته الأُولَى الأمْرُ والنهْيُ والنُّصْحُ.
وفي عصرنا هذا لا يَخفَى ما تحتاج إليه أُمَّتُنَا كي تنهض مِن عثرتها.
وما أيْسَرَ التوفيقَ بين التقدُّم الحضاريّ ومَواريثِ الدِّين والخُلُق والوفاء بحقوقِ اللهِ!(1/59)
11ـ ما طبيعة الجزاء الأخروي؟
وهل هو روحي أم مادي؟
هل خَلقُ الإنسان من روح وجسد شيءٌ يُعاب؟
كذلك يرى بعض الناس! بل كذلك قال أعداء الأنبياء لهم وهم يرفضون رسالاتهم وينكرون حديثهم عن الله، مقترحين أن يكون الرسول مَلَكًا: (وقالُوا ما لَهِذا الرسولِ يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواقِ لولا أُنزِل إليه مَلَكٌ فيكونَ معه نَذِيرًا)!
وكما استنكروا أن يكون المُرْسلون بشرًا يأكلون استنكروا عليهم الزواج والنسل، ظانِّين أن الرغبة الجنسية تَشِين الإنسان الكبير، وعليه إذا أراد الكمال أن يَكْبِتها.
وقد ردَّ القرآن هذه المزاعم، وبيَّن جلَّ شأنُه أن المُصْطَفَينَ الأخيارَ من عباده كانوا رجالاً ناضجي الغرائز: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًاً من قبلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْواجًا وذريةً).
ومع ذلك فإن بقايا من منطق الجاهلية القديمة لا تزال عالقة بأذهان الكثيرين ممَّن يَحسَبون السُّمُوَّ البشري لا يَتِمُّ إلا بإعلان حرب مجنونة على البدن تُوهي قُواه وتدوِّخ غرائزه.
بل سَرَى ذلك الفكر إلى بعض المذاهب الدينية، وانبنى عليه أن التقوى في هذه الحياة تعني الرهبانية، وأن السمُوَّ في الحياة الأخرى لا يُتَصور مع وجود هذا الجسد اللعين! وعليه بعد ذلك فلا بد أن يكون النعيم الموعود روحانيًّا محضًا وكذلك العذاب المُرصَد للأشقياء!
ولما كان الإسلام دينَ الفطرة السليمة، ولمَّا كان لُبَابه احترامَ الحقيقة المجردة، فإنه رفَض كل هاتِيك المقدمات والنتائج، وأسس تكاليفه وأَجْزِيَته الدينية على اعتبار الإنسان كائنًا متميزًا يجمع بين جُمْلة من المواهب والخِصال المتلاقِيَة في شخصيته، بها جميعًا يسمو أو يهبط، وبها جميعًا يُثاب أو يُعاقب.(1/60)
أو كما يقول الأستاذ العقاد: "ليس ما يَدِين به المسلم أن يَرتدَّ النوع الإنساني إلى ما دون طبيعته، ولكن ممَّا يُؤمِن به أن ارتفاع الإنسان وهبوطه منوطان بالتكليف، وقِوَامه الحرية والتَّبِعَة، فهو بأمانة التكليف قابل للصعود إلى قمَّة الخليقة، وهو بالتكليف قابل للهبوط إلى أسفل سافلين، وهذه الأمانة هي التي رفعتْه مقامًا فوق الملائكة، أو هبطت به إلى زُمْرة الشياطين".
ليس الهبوط أن يَشتهيَ الإنسان طعامًا أو امرأة. إنما الهبوط أن يأكل المرء من سُحْت أو يتصل بمَن لا تَحِلُّ له.
فإذا طَعِم من حلال، أو اتصل بأنثى لتكون زوجة يسكن إليها، ويَتِمُّ بها ويمتد وجوده معها فلا شيء في ذلك أبدًا.
لقد أخطأ كثير من المُنْتَسِبين إلى الدين في احتقارهم للبدن، وفهمهم أن التساميَ لا يحصل إلا بسَحْقِه، وفهمهم بعد ذلك أن الحياة الأخروية لا وجود للبدن فيها، وأن النعيم أو الجحيم معنويان وحسب!
وقد سرى هذا الخطأ ـ كُلاًّ أو جُزءًا ـ إلى بعض متصوفة المسلمين، فاعتنقوه وحَسِبوه دلالة ارتقاء وتجرُّد، فظلموا بهذا المسلك دينهم، وأوقعوا خللاً سيئًا في موازين الجزاء كما أقامها الكتاب العزيز. وقلدوا أتباع الديانات المُنحَرِفة في الجَور على الطبيعة البشرية وبذلك أفسحوا للمذاهب المادية طريق التقدُّم والسيادة.
بل بلغت المُجازَفة بهذا البعض أن حقروا عبادة الرغبة والرهبة، وأشاعوا أن من الهبوط أن تُطيعَ الله طلبًا لجنته، أو تَدَعَ عصيانَه خوفًا من ناره، حتى تُوهِم الناس أن الأمل في الجنة والخوف من النار ليس شأن العباد الصالحين!
وهذا الضرب من التفكير لا يُمكن وصفه بأنه تفكير إسلامي، إنه ضرب من الشرود والغرور تبدو تفاهتُه عندما نحتكم إلى العقل والنقل على سواء.(1/61)
ولنبدأ بالنقل: يصف لنا القرآن الكريم مشاهد الجزاء، فيذكر لنا أن رجلاً مؤمنًا بحث عن صاحب له كان ظاهر الإلحاد والفسوق، فوجده قد استقر في سواء الجحيم، فحمد الله أنْ لم يتأثر به: (... تاللهِ إن كِدْتَ لتُرْدِينِ. ولولا نعمةُ ربي لَكُنتُ من المُحْضَرِين. أفما نحنُ بميِّتينَ. إلا موتَتَنا الأولى وما نحنُ بمُعَذَّبين. إن هذا لهو الفوزُ العظيمُ. لمثلِ هذا فليَعملِ العاملون) (الصافات: 56 ـ 61).
النجاة من النار أمل ضخم لمِثْله يعمل العاملون، فكيف يجيء أحد من الناس، رجلاً أو امرأة، ليقول: بل هو أمل تافه؟
ويقول الله جل جلاله: (إن كتابَ الأبرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وما أدراكَ ما عِلِّيُّونَ. كتابٌ مرقومٌ. يَشْهَدُهُ المُقَرَّبونَ. إنَّ الأبرارَ لَفي نَعيمٍ. على الأرائكَ يَنظُرونَ. تَعرِفُ في وُجوهِهِمْ نَضرةَ النعيمِ. يُسقَونَ من رحيقٍ مختومٍ. ختامُه مِسْكٌ وفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنافِسُونَ) (المطففين: 18 ـ 26).
في الرحيق المختوم يُسقاه قوم تعرف في وجوههم نضرة النعيم، في هذا الجزاء الجزيل ينبغي أن يتنافس المتنافسون! فكيف يجيء إنسان، رجلاً كان أو امرأة، ليقول: لا أعبد الله طلبًا لشيء من ذلك.
إن هؤلاء الناس يكذبون على طبائعهم الإنسانية كما يكذبون على دين الله، ثم هم يُسيئون تصور النعيم الأعلى أو العقاب السرمدي.
إن الجنة دارٌ لنوعين من المُتَع؛ أحدهما مادي والآخر معنوي، فالمادي تكريم للإنسان بفيض من التجَلِّي الإلهي يُشعره بالرضوان ويرفعه بالرؤية.
وبَدَهيّ أن المتاع الثاني أكبر من الأول، كما قال جل شأنه: (... ومساكنَ طيبةً في جناتِ عدنٍ ورضوانٌ من اللهِ أكبرُ ذلكَ هُوَ الفوزُ العظيمُ) (الصف: 12).
ولكن هل هناك فواصل ـ في هذا الكِيان البشري ـ بين الإحساسَيْنِ، أو أن الإنسان بأجهزته المادية والمعنوية يذوق الخير والشر جميعًا؟
إن اللذة والألم قوانين إنسانية صارمة فَلِمَ الطعن فيها؟(1/62)
ولو فرضنا أن الجنة محل الكرامة الإلهية، لكفاها ذلك ولاحترمناها من أجل هذه النسبة! ولا يأبى الكرامة إلا لئيم. فكيف ـ وهي إلى جانب ما وصفناه ـ تلبيةٌ لحاجة طبيعية يحُسها كل إنسان؛ حاجة ذلك البدن الذي يَضِيره الحرمان ويُضنيه القُلُّ والذُّلُّ، حاجة ذلك البدن الذي يكره الجوع والعطش والعُرْيَ والهوان!
أمن أجل فكرة خيالية نجيء إلى مئات الآيات الصريحة الواضحة، فنحاول صرفها عن ظاهرها والتمحُّل في تأويلها وإفساد الآثار التربوية المقترنة بها: (قُلْ إِنِّي أخافُ إِنْ عَصَيْتُ ربي عَذابَ يومٍ عظيمٍ) (الأنعام: 15).
ماذا يبقى من آيات القرآن بنجاة من التأويل والإبطال إذا تمَّت هذه المحاولة؟
إن الله وجَّه إلى نبيه هذا الأمر ووصف أنبياءه الكرام بأنهم: (كانوا يُسارِعُونَ في الخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَبًا ورَهَبًا وكانوا لنا خاشعينَ) (الأنبياء: 90).
ووضع أمام أبصار البشر كلهم هذا الترهيب: (فَمَنْ زُحزِحَ عَنِ النارِ وأُدخِلَ الجنةَ فَقَدْ فَازَ) (آل عمران: 185).
فهل بعد ذلك نسمع لقول امرئ يرفض عبادة الرغبة والرهبة ويزعم أنه لا يخاف من النار ولا يحب الجنة، وأنه ـ إن عَبَدَ ـ فإنما يعبد ابتغاء وجه الله!
ما هذا اللغو؟ وهل الوجوه الناضرة بنظرها إلى الله تظفَر بذلك في قَعر جهنم، أم تظفَر بذلك في حدائق الجنة؟
قال لي أحد المتصوفين: إن من الخساسة أن تعبد الله منتظرًا أجرًا.
فقلت: من العبودية أن تستبشر بفضل الله، وأن تُوجِل من عقوبته، وأن تعرف قدرك وتلزم حدَّك؛ أين تُريد أن تضع نفسك؟
إن الله قال عن نبيه إبراهيم: (وَجَعَلْنَا في ذُرِّيتِهِ النبُوَّةَ والكتابَ وآتَيْنَاهُ أجرَه في الدنيا وإنَّهُ في الآخرةِ لَمِنَ الصالِحِينَ) (العنكبوت: 27).
فهل أنت فوق الأنبياء استغناءً عن الأجر الإلهي؟
وقال عن عباده المؤمنين الموفَّقين: (تحيتُهم يوم يَلقَونَهُ سَلَامٌ وأعَدَّ لهم أجرًا كريمًا) (الأحزاب: 44).(1/63)
ووصف عاقبة الصادقين المضحِّين بأنفسهم في سبيل ربهم فقال: (والشهداءُ عند ربِّهم لهم أجرُهم ونورُهم) (الحديد: 19).
فهل أنت في مكانة أخرى غير ما أعدَّ الله للشهداء والصالحين، مكانة الزاهد في أجر أو الرافض له؟ ما هذا الغرور؟
لقد وصف الله أولي الألباب بأنهم: (الذين يذكرون اللهَ قيامًا وقعودًا وعلى جُنوبهم ويتفكرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ ربَّنا ما خلَقتَ هذا باطلاً سبحانَك فقِنا عذابَ النارِ) (آل عمران: 191).
فهل يرفض أن يكون من أولي الألباب إلا البُلْهُ؟
ولقد أهاب الله بخلْقه أن يسارعوا إلى: (جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمتَّقين).
فهل يكره أن ينتظم في عِداد المتَّقين إلا الحَمقَى؟
إنني أطلب من إخواننا الذين يكتبون في التصوف أن يُدمنوا النظر في كتاب الله، وأن يستوحوا ما يستجيدون من معانٍ وغايات، وبذلك وحده يُنصفون أنفسهم وطريقهم. أما ترويج فكرة لرجل أو امرأة تبتعد عن هذا الضوء الكريم فأمر لا يُستساغ، ومن حقنا أن نرفضه.
لقد سمعت أشعارًا تنسب إلى رابعة العدوية، بل حكَى الرواة عنها ـ والعهدة عليهم ـ أنها لمَّا سمعت التذكير بفواكه الجنة وخيراتها، قالت: لسنا أطفالاً فنُغرَى بهذه الأشياء.
وسواء صحَّ ما نُسب إلى هذه السيدة أو بطَل، فنحن كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فاطمة بنت قيس، وهي صحابية أفضل من رابعة: "لا نَدَعُ كتابَ ربنا وسنةَ نبينا لقول امرأة لا ندري أحَفِظَت أم نَسِيَت"!
إن الجنة وعد الله لعباده فنعمَّا هي، وشكرًا لمَن أعدَّها للمتقين، وهنيئًا لمَن يصير إليها، يمرح في بحبوحتها ويسعد بربه الذي طالما صلى وصام من أجله!
إنه في هذه الجنة يشهد مَن كان يعبده بالغيب، ويتلقَّى فضله في قلبه وعلى بدنه، لذاتٍ ماديةً معنوية متشابكة لا انفصام بينها: (وإذا رأيتَ ثَمّ رأيتَ نعيمًا ومُلْكًا كبيرًا... إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيُكم مشكورًا).(1/64)
ونحن نلفت نظر المفسرين ألا ينخدعوا بما شاع في الديانات الأولى من أوهام أو بما نسب إليها من أفهام، فإننا وَرِثنا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.(1/65)
12ـ ماذا عن القضاء والقدر؟
وكيف نُوَفِّق بين الآيات التي تدل على أن الإنسان مختار، والأخرى التي تدل على أنه مُجبَر؟
يقول الله تعالى مبينًا عن حكمته في خلْق العالَم: (وهو الذي خلَق السماواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيامٍ وكانَ عرشُهُ على الماءِ لِيَبلُوَكم أيُّكُمْ أَحْسَنُ عملاً) (هود: 7) أي أن هناك اختبارًا كبيرًا مفروضًا على الناس يتحقق بعده مصيرهم!
ما هذا المصير؟
يقول جل شأنه في آية أخرى: (وللهِ ما في السماواتِ وما في الأرضِ ليَجزيَ الذين أساءوا بما عَمِلوا ويَجزيَ الذين أَحسَنوا بالحسنَى) (النجم: 31).
هناك مسيء ينتظره العقاب ومُحسن ينتظره الثواب! وتلك عدالة لا مَطعَنَ فيها!
بيد أن بعض الناس يقول: هذا الامتحان مزور، وهذه النتائج مغشوشة. والذي حدث أن الله هيأ للجنة أناسًا وأجرَى الأمورَ كما شاء، وستر مشيئته وراء فصول هذه التمثيلية الهازلة!
الله يقول: إنه أرسل للبشر رُسُلاً يدلُّونهم على الصراط المستقيم، وقبل أولئك المرسلين منَحَهم عقولاً يُحسنون بها التفكير ويستطيعون بها الاختيار، وقال لهم: إني أقطع بهذا كله أعذاركم (أنْ تقولوا يومَ القيامةِ إِنَّا كنَّا عن هذا غافِلِينَ. أو تقولوا إنَّما أشرَك آباؤُنا من قبلُ وكنا ذريةً مِن بعدِهم أفتُهلِكنا بما فعَل المُبِطلون) (الأعراف: 172 ـ 173).
لن يُقبل من أحد كلامٌ بعد هذا البيان! ومع ذلك يجيء أناس معتوهون يقولون: لا شيء إلا الله، لا عمل إلا الله، أصابعه وراء كل شيء. وبقي أن يقولوا: ما في الجبة إلا الله، لا موجود غيره، نحن وَهْم، ما نصنعه وَهْم!
وأعرف أن وراء هذا التماوت وإنكار الإرادة البشرية والقدرية البشرية من يزعُم التقوى ويدَّعي التصوف.
ولقد ظل أولئك يتماوتون حتى ماتوا أدبيًّا، وتحولوا إلى دوابَّ يمتطيها المستعمرون ويذللونها لمآربهم!(1/66)
بحثتُ عن السبب في هذا الكذب فوجدتُه أحيانًا رغبةَ البعض في أن ينحرف ثم يَرميَ بالتَّبِعة على القَدَر القاهر!
ووجدتُه أحيانًا أخرى سوءَ الفهم لآيات القرآن الكريم، وجنونَ الجدل الذي مسَّ بعض العلماء ثم نضَح على جماهير الغوغاء.
وربما نشأ هذا التعلُّل المردود عن الخلْط بين مواطن الاختيار الحق ومواطن الجبر القاهر، فإن الإنسان يحيا بين جبر واختيار في كيانه الداخلي وفي حركاته الخارجية!
إن قلوبنا تَدِق دون استئذان، وتمضي في أداء وظيفتها دون تدخُّل من إرادتنا، أفَكَذَلِكَ ألسنتُنا حين نتكلم؟
وقد يكون بعضنا أبيض الجِلْد والآخر أسوده! أيُسأل عن هذا التلوين كما يُسأل الإنسانُ عندما يحسُد ذا نعمة أو يَزدَري ذا عاهة؟
ونَدَعُ هذه النماذج للقدَر الظاهر والاختيار الحر، ونسوق أمثلة مما تشترك فيه الإرادة الإنسانية مع الإرادة الإلهية، فإن هذا الاشتراك هو غالبًا المَهرَب الذي يلجأ إليه الجبريون ويُسيئون فيه تفسير النصوص.
إننا نستغل الكهرباء في بيوتنا للإنارة والإذاعة والتبريد والتسخين، فتصوَّرْ ساكنًا جاءه المحصِّل يطلب منه ثمن ما أفاد من كهرباء، فقال له: إن التيار مرَّ في الأسلاك من عندكم، والمصباح عندي لا يُمكن أن يضيء من ذاته ولو بقي دهرًا! يقول له المُحصِّل: ماذا تقصد؟ يقول: لا أدفع ثمن شيء أنتم السبب الأول فيه! يقول المحصل: إنك تُحَرِّك المفاتيح فتسمع الإذاعة، وتنير المنزل... الخ يقول له الساكن: لولا التيار الذي أرسلتموه ما تمَّ شيء.
هكذا يقول بعض الناس لله: لولا إرادتُك ما كان شيء، فلماذا أُحاسَب؟(1/67)
وتصور فلاحًا ـ كما قلتُ في كتاب لي ـ زرع حشيشًا أو أفيونًا أو أي نبت مخدر، ثم وقف أمام القضاء يدافع عن نفسه يقول: كيف أُحاسَب على ما زرع الله؟ صحيح أني وضعت بذرة تافهة، لكن مَن الذي نمَّاها وحمَّلها ثمرها؟ إنه القائل: (أفَرأيتُمْ ما تَحرُثون. أأنتُمْ تَزرَعونه أم نحنُ الزارِعونَ) (الواقعة: 63 ـ 64)
كثير من الناس يُعالج قضاياه الدينية بهذا المنطق!
نحن نعلم أن الإنسان إذا أراد الذهاب إلى المسجد أو إلى الخمّارة بقي قلبه يدق بقدر الله، وبقي جهازه العصبي يُصدر أوامره إلى الأقدام لتتحرك بقدَر الله، وبَقِيَت الأرض دون خسف ولا زلزال باسم الله! فهل معنى ذلك أن الله هو الذي دفع هذا إلى المسجد دفعًا ودفع ذلك إلى الخمَّارة دفعًا.
كلَّا! كلا! إن للإنسان إرادة حرة، بها كُلِّف، وبها صح اختياره، وبها تم جزاؤه. وكون الله أعانَه على ما أراد لنفسه، أو أنضج له ما بذر في أرضه، أو أمدَّه بالتيار الكهربي الذي أنار بيته لا ينفي مسئوليته التامة عما فعل!
الإرادة مَيزة مُحَقَّقة مُؤَكَّدة في الكيان الإنساني، بها حمل أمانة التكليف، وبها تميز عن الجماد الأصم والحيوان الأعجم، وبها يعلو أو يَهوِي ويشكر أو يكفر!
وعندما يَتَّجه المرء ـ بمحض اختياره ـ إلى الإحسان والإساءة فإن تيار الإرادة المبعوث في أرجاء الوجود طَيِّع بين أصابعه، إن شاء أضاء فمشى في النور، أو أطفأ فخبَّط في الظلام.
وآيات القرآن تؤكد هذه الحقائق، ويجب أن نعلم أن القرآن يفسر بعضه بعضًا ويصدقه ويكمله!(1/68)
إذا قال تعالى: (كذلك يُضِلُّ اللهُ مَن يَشاءُ ويَهدي من يشاءُ وما يَعلَمُ جنودَ ربِّك إلا هو) (المدثر: 31) فلنسأل أنفسنا: مَن الذين يشاء اللهُ إضلالَهم؟ ولنسمع الإجابة من القرآن نفسه: (ويُضِلُّ اللهُ الظالمينَ ويَفعلُ الله ما يشاء) (إبراهيم: 27) (إنَّ الله لا يهدي مَن هو كاذبٌ كفارٌ) (الزمر: 3) (كذلك يُضِلُّ اللهُ مَن هو مسرفٌ مرتابٌ) (غافر: 34).
ليس الأمر إذًا لَيَّ عنان رجل صالح كي يتعرض لعذاب الله، لأن الله شاء إضلاله وتعذيبه، كلا وحاشا للبَرِّ الرحيم العدل الكريم أن يفعل ذلك.
هذا امرؤ اتجه إلى الشر فدفعتْه الأقدار في طريقه الذي اختاره، وهل يَجنِي العنبَ مَن بذَر الشوكَ؟
وكلما أوغل الشرير في الطريق زاد سمك الغِشاوة المضروبة على بصيرته، فيظلم القلب وتعجز أهل الأرض عن إنارته: (كلَّا بلْ رانَ على قُلوبِهم ما كانوا يَكسِبونَ) (المطففين: 14). وهكذا يصنع الله بالمجادلين في آياته المستكبرين على الحق: (كَذلكَ يَطبَعُ الله على كلِّ قلبِ متكبرٍ جبَّارٍ) (غافر: 35).
الأساس أن هذا الذي شاء الله إضلاله أضل نفسه أولاً، فأتم الله له مراده، كما قال: (فلما زاغُوا أزاغَ اللهُ قُلوبَهُمْ) (الصف: 5) وكما قال في موضع آخر: (ومَن يُشاقِقِ الرسولَ من بعد ما تَبيَّنَّ لهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غيرَ سبيلِ المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى..) (النساء: 115).
ومن السفاهة الظنُّ بأن الله أزاغ طالب هدًى أو أضل من اتَّبع سبيل المؤمنين!
وكما شاء الله إضلالَ هؤلاء يَهدي إلى الحق مَن ابتغاه ونشَده: (والذينَ اهتَدَوا زادَهُمْ هُدًى وآتاهُمْ تَقوَاهُمْ) (محمد: 17) وقال تبارك اسمه: (إنَّ الذينَ آمنوا وعَمِلُوا الصالحاتِ يَهدِيهم ربُّهم بإيمانِهم) (يونس: 9) وقال: (وَمَنْ يُؤمِنْ باللهِ يَهدِ قَلْبَهُ) (التغابن: 11) وقال: (يَهدي إليه مَن أنابَ. الذينَ آمنُوا وتَطْمَئِنُّ قلوبُهم بذِكْرِ الله) (الرعد: 27ـ28).(1/69)
إن المشيئة الإلهية ليست رمزًا للفوضى، وعندما يقول الله: (مَن يُضللِ اللهُ فما له من هادٍ. ومَن يَهدِ اللهُ فما له من مُضِلٍّ) (الزمر: 36،37) فالأمر كما شرحنا وكما شرحته آيات أخرى مثل (مَن كانَ في الضلالةِ فليَمدُدْ لهُ الرحمنُ مَدًّا) (مريم: 75) أي يَزِيده حيرة وعمًى فيستحيل أن يعينه أو يُنقذه أحد: (ويَزيد اللهُ الذين اهتَدَوا هدًى) (مريم: 76) فيستحيل أن يضرهم أو يَستَرِد بهم أحد بعد هذا العَوْن الأعلى! حيث يكون التكليف الإلهي تكون الإرادة الحرة، وتكون المسئولية الخلُقية والجنائية في الدنيا والآخرة!
فإذا انعدمت الإرادة لسبب ما فلا مسئولية البتَّةَ، وكيف يُكلَّف الإنسان بما لا يُطيق والله ـ سبحانه ـ يقول: (لا يُكلَّف اللهُ نفسًا إلا وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها ما اكتسَبَتْ) (البقرة: 286).
قال لي أحدهم: كيف يكون للإنسان اختيارٌ وإرادةُ الله نافذةٌ في خلقه جميعًا؟
قلت: إن الله فاوَت بين خلْقِه، فهناك فارق بين الجدار والحمار والإنسان! الجدار لا يحس، والحمار لا يعقل، والإنسان يحس ويعقل، وله مَيْزة في تكوينه تجعل له معاملة أخرى غير معاملة الجدار والحمار!
إن معاملتي لسائق السيارة غير معاملتي للسيارة نفسها، الفارق واسع بين القائد والمِقوَد والراكب والمركوب، والمساواة بينهما في التكليف حمق.
وذكر لي آخر قوله تعالى: (فمَن يُرِد اللهُ أن يَهدِيَه يَشرَحْ صدرَه للإسلامِ ومَن يُرِدْ أن يُضِلَّهُ يَجعَلْ صدرَه ضَيِّقًا حَرَجًا كأنَّما يَصعَّدُ في السماءِ كذلك يَجعلُ اللهُ الرجسَ على الذين لا يؤمنون) (الأنعام: 125).
وقال: أليست هذه الآية نصًّا في سَبْق الهداية الإلهية والإضلال الإلهي؟
قلت له: أنت واهم، تدبَّرْ ختام الآية الكريمة تجدْ مفتاح المعنى الذي غاب عنك: (يَجعلُ الله الرجسَ على الذين لا يُؤمِنُونَ).(1/70)
إن الرجس الذي خنق صدورهم نشأ عن عدم إيمانهم، فلما رفضوا الإيمان وغُصَّت به حلوقُهم جُوزوا بهذا الضيق والحرج، أما الذين رضُوا بالحق واستراحوا إليه فقد استحقوا الهداية العليا وكُوفئوا بشرح الصدر.
ذلك، والاختيار بين النهجَيْن يصحب المرء في كل يوم، بل في كل لحظة، وهذا هو السر في أننا نطلب من الله الهدى في صلواتنا اليومية نحو عشرين مرة بالليل والنهار.
إن ظروفًا هائلة تُحيط بنا لا تعرف إرادتنا ولا قُدُراتنا ما تصنع بإزائها، وما أشبه الإنسان بزورق هشِّ الصنع، يعوم في بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج من فوقه سحاب، هنا يتشبَّث الإنسان بالتوفيق الإلهي ويسأل ربه النجاة.
ومن العقل أن نُمَيِّز بين الأقدار التي تحيط بنا وتتحكم فينا، والأعمال التي طُولبنا بها ونُسأل غدًا عنها!
وأرى أن إنكار الاختيار البشري فِرار من وظائف العبودية واتهام لصفات الربوبية، وهذه جريمة. ما الذي نحاوله بهذا المسلك؟
يقول الله سبحانه: (للَّذين أحسنُوا الحُسْنَى وزِيَادةٌ) (يونس: 26) ثم يقول: (والذين كسَبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمِثْلِها) (يونس: 27) ثم يقول عن الجزاء الأخير: (هُنالِكَ تَبلُو كلُّ نفسٍ ما أسلَفَتْ ورُدُّوا إلى اللهِ مولاهم الحقِّ) (يونس: 30) فأين الظلم أو الجبر في هذا الصنيع؟(1/71)
13ـ ما دَوْر المسجد في الإسلام؟
(في بُيوت أَذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ فيها ويُذكَرَ فيها اسمُه) (سورة النور: 36).
أحيانًا أتصور أن الرفع هنا ليس للدعائم والجدران، إنما هو للساحات الطَّهور التي تخصصت للركَّع السجود، فبعد أن كانت أرضًا عادية يغشاها أي إنسان أضحت أرضًا لا يدخلها إلا متوضئ، وبعد أن كانت لأي غرض عادي أضحت همزة وصل بين الناس ورب الناس، ومهادًا للمعراج الروحي الذي ينقُل البشر من مآربهم القريبة إلى مناجاة الله وتسبيحه وتمجيده! ليس هذا ارتقاءً معنويًّا للأرض نفسها.
أحسست ذلك وأنا أطالع ما جاء في السنَّة المُطَهَّرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار ـ يقال له: أبو أمامة ـ فقال: "يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟" قال: هموم لَزِمتني وديون يا رسول الله! فقال له: "ألا أعلمُك كلمات إذا قُلْتَهنّ أذهبَ الله عنك همَّك وقضى دَيْنك؟" قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" فقلتُ ذلك فأذهب الله عني غمي وقضى دَيْني.
هذا رجل أحرجتْه الأيام، وبدل أن يذهب إلى بيت واحد من الأغنياء يستجديه، ويرقب الفرج عنده على نحو ما قيل:
يسقط الطير حيث يَنتثر الحَـ ـبُّ وتُغشَى منازل الكرماءْ
ذهب إلى بيت الله يرجو جَدَاه وينتظر نداه! فلم يَخِبْ سعيه ولم يَطُلْ همه!
لقد نفعته كلمات تعلمها من صاحب الرسالة غيرت نفسه وحياته.(1/72)
وإذا كان الرسول قد استغرب وجود الرجل في المسجد في غير وقت صلاة، فإنه عزم على المسلمين كافة أن يثوبوا إلى المسجد وقت الصلاة وقال: "إن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ" المنفرد "بسبع وعشرين درجة؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد، لم يَخطُ خطوة إلا رَفعت له بها درجة، وحَطت عنه خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصلَّاه، تقول: اللهمَّ صلِّ عليه اللهمَّ ارحَمْهُ. ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة".
والواجب أن تتوطَّد صلة المؤمن بالمسجد، وأن يكثر التردُّد عليه صباحًا ومساءً، بل ينبغي أن يتعلق به قلبه وأن يزداد له حبه.
قال عبد الله بن مسعود: لقد رأيتُنا وما يتخلَّف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض! إن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة.
وقال: إن رسول الله علمنا سنن الهُدى، وإن من سنن الهُدَى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. قال عبد الله: وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنَّة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.
وجمهور الفقهاء يرى الجماعة في المسجد سنَّة مؤكدة، ولا ريب أن التجمع نزعة أصيلة جادة في تعاليم الإسلام، وأن الجماعة من شعائره العظمى.
والإسلام يحارب بذلك المتدينَ المنهزمَ الفارَّ من الحياة العاجزَ عن مواجهتها، كما يحارب بعض المتدينين الذين يحسبون أنفسهم أزكى وأتقى، وأن مخالطة الناس تُنقصهم! فهم يؤثرون العزلة ويتهمون الغير، ويَغُطُّون كِبْرًا في صدورهم ما هم ببالغيه.
ولعل أولئك الذين عنَاهم ابن عباس لما سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يشهد الجماعة ولا الجمعة، فقال: هذا من أهل النار.
إن رسالة المسجد في الإسلام حشد المؤمنين في صعيد واحد، ليتعارفوا ويتحابوا، ويتعاونوا على البر والتقوى ويتدارسوا ما يَعنِيهم من شئون.(1/73)
وهذا التلَقِّي المنشود ليس حشر أجساد، إنما هو اندماج الفرد في المجتمع على أساس من الحب وطلب مرضاة الله، وعلى كل مسلم أن يرتفع إلى هذا المستوى، وأن يقتل نوازع الأنانية إذا حدثته بالعزلة لأمر ما، فقد جاء في الحديث: "ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلب امرئ مؤمن" أي لا يحقد أو يخون: "إخلاص العمل لله، والمُناصَحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعاءهم محيط من ورائهم".
أي أن بركة الله على الجماعة تشمل الكل وإن كان بينهم مَن هو دونَهم، كما جاء في حديث آخر: "يد الله مع الجماعة ومَن شَذَّ شذَّ في النار".
ومن رسالة المسجد خلقُ نظامِ الصف، وتعويد المسلمين عليه، والغريب أن أمتنا أبعد الأمم عن احترام نظام الصف والخضوع له، مع ما ورد في تنظيم الصفوف بالمساجد من توكيد وتشديد.
وتأمل في هذا الحديث عن أبي مسعود: كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّهَى ثم الذين يَلُونهم".
وفي رواية: "أقيموا الصفوفَ، وحاذُوا بين المناكب، وسُدُّوا الخَلَل، ولِينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرُجات للشيطان، ومَن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطعه قطعه الله".
لقد قرأت في حرب فارس أن صفًّا من المجاهدين كان يعبر نهرًا، فسقط كوز أحد المجاهدين، فتريَّث الصف كله حتى عثَر الجندي على ما سقط منه!
إنهم يتحركون برُوح الجماعة، ولا يتصرفون كأنهم عقْد انفرطت حبّاته!
وكم يشعر المسلم بالأسى وهو يرى أمتَه في زحام الحياة تتحرك بروح القطيع، لا يهتم المرء إلا بنفسه ومصلحته! هذا الشعور الهابط يقتل العشَرات في مناسك الحج، لأن نظام الصف والإحساس بالغير مفقود عندنا، فالمسجد لا يؤدي رسالته!
ومن رسالة المسجد رفع المستوى الثقافي للأمة، وذلك عن طريقين:(1/74)
الأول: تدبر ما يُتلَى من القرآن في الصلوات الجهرية وخطب الجمعة. والقرآن كتاب يتحدث في العقائد والعبادات والأخلاق والقوانين والشئون المحلية والدولية ويصف الكون ويسرد التواريخ مثلما يتحدث عن الله وصفاته وحقوقه سواء بسواء.
وقد كان ذلك المصدر الأول للمعرفة عند السلف، إذ أن سليقتهم اللغوية مكَّنتهم من الاستمداد المباشر من آيات الله، والحق أن الذين أنصتوا للرسول الكريم وهو يتلو كتابه بلغوا شَأْوًا لا يُضارَع من السمو الفكري والتربوي، فليس عجبًا أن ينطلقوا مشاعلَ هدًى في أرجاء الأرض وينقلوها من الظلمات إلى النور.
أما الطريق الثاني لتثقيف الأمة فهو الدروس التي انتظمت في ساحات المساجد، تتناول جميع العلوم، بل إن الشعر كان يُلْقَى في المسجد، وكان الصحابة يستمعون إلى حسان بن ثابت وهو ينشد قصائده السياسية!
ومعروف أن المدارس الفقهية الكبرى كانت في المساجد وأن الأئمة العظام كانوا يَلقَوْنَ تلامذتَهم فيها، والفقه الإسلامي يحتوي على كل ما يهم البشرية من المهد إلى اللحد.
ولما كنت مديرًا للمساجد وضعتُ لأيام الأسبوع الستة غير الجمعة ستة دروس في التفسير والحديث والفقه والتاريخ والعقيدة والأخلاق، أما يوم الجمعة فحسبه الخطبة، وأعددت لذلك كراسات تحضير تُراجع بعناية.
بل وضعتُ لتعمير سيناء خطة تقوم على إنشاء مستوطنات، أساسها ثلاثة رجال:
إمام مسجد، ومهندس زراعة، وضابط جيش، وتركتُ اختيار الأماكن للمتخصصين.
وكان رأيي أن تُبنَى المساجد في المدُن والقرى على أساس مسجد واحد كبير لكل ثلاثة آلاف من السكان.
إن المسجد كان القلعة الروحية التي ينطلق منها المجاهدون لمقاومة كل غزو، وقد قاوم الجامع الأزهر الفرنسيين منذ قرنين حتى احتلوه بخيلهم، وقاوم الإنجليزَ أوائل هذا القرن، وكان يستقبل الأحرار من أقباط مصر الذين يحاربون الاستعمار ويؤازرون إخوانهم المسلمين.(1/75)
وقد روى التاريخ كيف أن امرأة من المصليات سمعت الخطيب يتحدث عن الجهاد ـ أيام الحروب الصليبية ـ فقصَّت شعرها، وأرسلت الضفائر إلى الإمام مقتَرِحة أن تكون قيدَ جواد لأحد المجاهدين، مما جعل المسجد يضِج بالحماس، وأغرى الرجال بالتفاني.
وهل انهزمت أوربا في حملاتها الأولى إلا بهذه المشاعر؟
وهل تَراجَع الاستعمار الجديد إلا بالروح نفسها؟(1/76)
14ـ لماذا كانت الصلوات خمسًا في اليوم؟
وما هو شكل الصلاة المقبولة؟
كما يحتاج الجسم الناشط إلى وَجبات غنية تمُده بالحرارة، وتُجَدِّد ما بَلِيَ من خلاياه، وتحفظ عليه عافيته، تحتاج النفس الإنسانية إلى وجبات أخرى تُعِينها على التحليق، وتمنعها من الإسفاف، وتستنقذها من أمواج الفتنة والذهول، وشتى الأهواء والأقذاء!
إن الإنسان ـ بجواذب من طبعه ـ يُحب أن يذكر نفسه وينسى ربه، يحب أن يضمن مصلحته وحدها ولا عليه أن يُضيع الآخرين، يحب أن يأخذ ولا يعطي، وإذا أخذ فالشكر ثقيل عليه، وإن شكر فبكلمات خفيفة، ثم لا حقَّ بعدُ لأحد!
وقد فرض الله الصلاة على الناس طُهرًا من هذه الدنيا، وتربية على جميع الفضائل التي تصح بها إنسانيتَهم، وتكمل بها عبوديتهم، وتتم بها رسالتهم في هذه الحياة، وهل خُلِقوا إلا لعبادته سبحانه؟
وكون الصلوات عددًا معينًا ككون السعرات الحرارية التي يفتقر إليها الجسم عددًا معينًا لا تتحقق الثمرات المطلوبة إلا بهذا المقدار، ويقع الخلَل المادي والأدبي بمقدار هنا وهناك!
وننظر إلى حقيقة الصلاة التي شرعها الله للناس، يقول الفقهاء عن هذه الصلاة: إنها أقوال وأفعال مبدوءة بتكبير الله تبارك اسمه، ومختومة بالسلام على عباد الله جميعًا.
قالوا: أما الأفعال فقد استوعبت صور التحية التي كان يتقدم بها الناس إلى رؤسائهم وعظمائهم بعد تجريدها من المقاصد الرديئة؛ الوقوف الخَشِع! القعود المؤدَّب! الركوع والسجود اللذان هما نهاية الاستكانة والاستسلام!
فأفعال الصلاة أن نقوم لله قانتين، وأن نركع ونسجد له معظِّمين، وأن نقعد مُخبِتِين قائلين له: إن هذه التحيات التي أدَّيْناها، وكل عمل صالح نقوم به في حياتنا هو لك وحدك يا ربنا الكبير!
أليس ربنا أهلاً لهذه التحيات اللطيفة نقدمها له ـ سبحانه ـ صباحًا ومساء؟(1/77)
بلى! وهو أهل التقوى وأهل المغفرة. لذلك يقول الله لكل مسلم: (أقِمِ الصلاةَ طَرَفَيِ النهارِ وزُلَفًا من الليلِ إنَّ الحسَناتِ يُذْهِبْنَ السيئاتِ ذلك ذِكْرَى للذاكِرِينَ) (هود: 114).
وربما أحسَّ المرء بكلفة في أداء هذا الواجب واستثقل تكراره! ألم نقل الإنسان قليل الشكر؟ لا بأس عوِّدْ نفسك: (واصبرْ فإنَّ الله لا يُضِيعُ أجرَ المُحسِنينَ) (هود: 115).
وتكتنف أفعالَ الصلاة أو تتخللها أقوالٌ كثيرة، والمطلوب أن يكون المصلي حاضر الوعي حين يتكلم، فإذا بدأ صلاته قائلاً: الله أكبر. فمعنى ذلك أنه في موقف جدير يجمعه مع الله فلْيَنْتَبِه!
ويُسَمِّي الفقهاء هذه التكبيرة تكبيرة الإحرام، كأن الإنسان حرَّم على نفسه الانشغال بشيء آخر لأنه شرع في مناجاة الله، والالتفات إليه وحده.
والأقوال التي يُرَدِّدها المُصَلِّي كثيرة، لعل أهمها تلاوة أم الكتاب، وقراءة هذه السورة ليس اختبارًا في الحفظ! فإن كلماتها تُمَثِّل لقاءً حيًّا بين الله وعبده، العبد يتكلم والسيد يجيب!
في الحديث القدسي: "قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: (الحمدُ لله ربِّ العالمينَ) قال الله عز وجل: حمَدني عبدي. وإذا قال: (الرحمنِ الرحيمِ) قال الله: أثنى علي عبدي. وإذا قال: (مالكِ يومِ الدينِ) قال: مجَّدني عبدي. وإذا قال: (إياكَ نعبدُ وإياكَ نَستَعِين) قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. وإذا قال: (اهدِنَا الصراطَ المستقيمَ. صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالين) قال: "هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل"، أي أعطيتُه ما طلب.
وتكرار هذه المعاني حق، فإن نِعَم الله مترادفةً توجب تكرار الشكر، وذكر الله بصفاته العلا وأسمائه الحسنى ثناء صادق ومدح مُسْتَحَبٌّ، والشعور بيوم الدينونة وملكه القائم على كل نفس بما كسبت يُكَفْكِفُ الغرور بالدنيا.(1/78)
وتعهُّد المصلي أن يعبد الله وحده، ويستعين بالله وحده هو رب التوحيد، فإذا وفَّى المصلي بعهده، وسأل ربه من رِفْدِه منحه ما يطلب، وأفضل ما يطلب الإنسان هدًى يَقيه الانحرافَ، ورضا يَقيه الطردَ، ونعمة تَقَرُّ بها عينه، وسَدَادًا يَقيه الحيرة!
الظفر بذلك سعادة الدنيا والأخرى!
ومع فاتحة الكتاب يقرأ المرء ما يشاء من الكتاب نفسه.
وفي هذه الزيادة معرفة أكثر بالوحي الأعلى، وما فيه من تبصرة بشئون الحياة كلها.
ثم يركع المصلي مُسَبِّحًّا ربه العظيم، فكم من سكَّان الأرض يشرك به أو يجحد وجوده، أو يجهل ما ينبغي له من نعوت الكمال. أما المسلم فهو يُخالف أولئك جميعًا ويُنَزِّه ربه عما لا يَلِيق به من نقائص. وهو مُوقِن بأن تنزيهه هذا قد صعد إلى الله الجدير به، ولذلك يرتفع من ركوعه قائلاً: سمع الله لمَن حَمِده. أي استجاب الله لمَن أثنى عليه وحمده.
وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرفع من ركوعه أحيانًا ويقول: "اللهم ربنا لك الحمد مِلء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما من شيء بعدُ، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد".
ومعنى الجملة الأخيرة أن المرء لا ينفعه عند الله ما نال في الدنيا من حظوظ الرفعة والنعمة، فليس في ذلك دليل على الرضوان إلا على أن الله: (يبسُطُ الرزقَ لمَن يشاءُ ويَقْدِرُ وفَرِحوا بالحياةِ الدنيا وما الحياةُ الدنيا في الآخرةِ إلا متاعٌ) (الرعد: 26).
ثم يَهوِي المصلي ساجدًا يُسَبِّح اسم ربه الأعلى، ومع كل ركوع سجودان! والإنسان يكون في أزكى الأحوال وأشرفها عندما يضع جبهته على الأرض بين يدي ربه، فليَدْعُ بما شاء.
وكان النبي أحيانًا يقول في سجوده: "سجد وجهي للذي خلقَه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين" أو "سبحان ذي الملكوت والجبروت والعظمة".(1/79)
وهذه الحركات كلها يكتنفها التكبير بدءًا أو ختامًا.
وفي القعود الأول أو الأخير يذكر المرء لربه أن كل ما سبق من أفعال وأقوال تحيات لوجهه الكريم، فهو يقول: "التحيات لله، والصلوات الطيبات" ثم يلقي السلام على صاحب الرسالة العظمى لقاءَ ما علَّم وربَّى وأرشد، وكأن هذا السلام إشارة إلى أنه الأسوة الحسنة في إقام الصلاة وسائر الشرائع التي جاء بها!
ثم يرسل سلامًا آخر على نفسه وعلى عباد الله الصالحين.
ما أحلى هذه الكلماتِ كلَّها، وما أشرف الصلاة التي يُكلَّفُ المسلم بأدائها.
والمهم أمران:
أحدهما عقلي والآخر قلبي!
أما العقلي، فيجب أن يعلم ما يقول، ويعرف ما يناجي ربه به، فقد جاء في السنة أن المرء لا يكتب له من صلاته إلا ما عقَل منها!
أما أن يكون سكران بخمرة الدنيا وشواغلها، ثم يقف تائهًا لا يدري ما يتكلم به، فهذا هبوط وضياع (لا تَقرَبوا الصلاةَ وأنتم سُكارَى حتى تَعلَموا ما تَقولون) (النساء: 43).
أما القلبي، فإن الصلاة تُورِث الخشوع والأدب والخشية، وهي معراج روحي يَرقَى بصاحبه إلى الملأ الأعلى، إنها ـ إن أقيمت كما شرَع الله ـ توبة كاملة تمحو الخطايا محوًا، وتطهر النفس تطهيرًا، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "أرأيتُمْ لو أن بباب أحدِكم نهرًا يَغتَسِلُ فيه كل يوم خمس مرات، ما تقولون، أيُبقِي ذلك من دَرَنه شيئًا؟" قالوا: لا يُبقي ذلك من دَرَنه "قَذَاه" شيئًا. قال: "فذلك مَثَل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا".
والأساس أنها تعصم من الخطايا وتحول دون مواقعتها، كما قال تعالى: (إن الصلاةَ تَنهَى عن الفحشاء والمنكر) (العنكبوت: 45).
بيد أن البشر ضعاف وقد تَهِي إرادتهم أمام إغراء ما ويُزِلُّهم الشيطان، فهل ييأسون من تَسَامٍ ومَتَابٍ وعَودٍ إلى الله؟(1/80)
كلا، فليفزعوا إلى الصلاة؛ فهي تنقِّي أرواحهم وتشد عزائمهم وتردهم إلى الصراط المستقيم. المسلم لا يذهب إلى كاهن يأخذ بيده، فليس الكاهن خيرًا منه. ولو فرضنا أنه خيرٌ فما ينفع إلا نفسه، ولا مَفزَعَ إلا الله.(1/81)
15ـ ماذا يرمز إليه الوضوء؟
ولماذا لا تصح الصلاة إلا به؟
نظرت إلى بعض الأشجار القريبة منا وكان غبار الجو قد كساها وجعل أوراقها داكنة، فلم تُثِر انتباهًا وخلَّفتها دون توقف. وشاء الله أن تمطر السماء بعد قليل، وكان مطرًا غزيرًا، ومررت بالأشجار نفسها فكان منظرها عجبًا؛ كانت خضرتها تزهو، والأوراق تحت أشعة الشمس تلمع! فقلت: ما أحسن النظافة، أبرزت الخِلقةَ الطبيعية في جمالها الأصيل، وبعثت النفوسَ على الإعجاب.
كذلك جسم الإنسان، إن النظافة تجلوه وتزكِّيه، والجسم الإنساني أحوج من غيره إلى التطهير الدائم؛ لأن متاعبه لا تجيء من الغبار وحده، وإنما تجيء من إفرازات الجلد والأعضاء ونفايات الأجهزة التي لا تهدأ حركتها، ولم أَرَ نظامًا للتنقية والتطرية أدق من التشريع الإسلامي في احترام الجسم وإزالة القَذَى عنه، واستئصال ما يَشينه واستبقاء ما يَزينه.
والوضوء من شعائر الإسلام المطردة في الحياة الإسلامية، وهو من الوضاءة أي الحسن الباهر، ومعنى ذلك أنه فوق النظافة، إنه تَخْلِيَة وتَحْلِيَة، والنظافة قد تَعْنِي إزالة الأوساخ وحسْب!
كلمة الغسل في اللغة لا تعني إسالة الماء فقط، يقال: غسلت السماءُ الأرضَ. إذا كان المطر بالغ الشدة. وإذا فرض الإسلام غسل أعضاء معينة فهو يريد تدليكها بما يطهرها ولا يترك أثرًا منفِّرًا فوقها.
وقد أوجب الإسلام الوضوء، كما فرض جملة من الأغسال التي تشمل الجسد كله! ونستطيع جعل الوضوء رمزًا لفلسفة الإسلام في تكريم الجسم الإنساني وإعزازه، إذ أن هناك عقائد تعلن حربًا على هذا الجسم، وترى الارتقاء في إهماله وإنحافه والجَور عليه، وذلك في زعمها لترقية الروح.
والواقع أن الإنسان معنًى ومبنًى وقلب وقالب، وعزل المادة عن الروح صعب. والمفروض أن يكون المعنى الشريف في مبنًى نظيف، وأن يكون القلب الطيب في إهاب نفيس.(1/82)
روى مسلم عن عمرو بن عَبَسَة ـ رضي الله عنه ـ قال: سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كيف الوضوء؟ قال: "أما الوضوء فإنك إذا توضأت فغسلت كفيك، فأنقيتهما، وغسلت وجهك، ويديك إلى المرفقين، ومسحت رأسك، وغسلت رجليك إلى الكعبين ـ خرَجتَ من خطاياك كيوم ولدتك أمك".
قال أبو أمامة: يا عمرو بن عَبَسَة، انظر ما تقول! أكلَّ هذا يُعطَى في مجلس واحد؟
قال عمرو: أما والله لقد كَبِرَت سني ودنا أجلي، وما بي من فقر فأكذبَ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولقد سمِعَتْه أُذُناي ووعاه قلبي من رسول الله.
والواقع أن الجزاء المذكور ليس على مجرد الوضوء، فإن الوضوء وسيلة إلى الصلاة، وهذي وذاك مظهران لإيمان حسن ومسارعة إلى رضوان الله، فالثواب الوارد منظور فيه إلى جملة هذه الخِصال المُترابطة، وقد تأكَّد هذا المعنى من أحاديث كثيرة.
والوضوء وحده لا يصلح إذا كان الجسم بحاجة إلى تطهير تام، كما في حالة الجنب والحائض والنفساء، وقد أمر الإسلام بتتَبُّع ما يُلَوِّث البدن حتى لا يَبقَى أي أثر لنجس، وكانوا قديمًا يستعينون ببعض الأعشاب والألياف لإدراك النظافة المطلوبة، وفي عصرنا توصَّل العلماء إلى موادَّ كثيرة يمكن استخدامها لتحقيق هذا الغرض!
إن المعلم كالطبيب، كلاهما يريد الكمال للإنسان، والطبيب في كشوفه وعلاجاته يتناول الجسم كله لا يَستثني منه شيئًا، وكذلك فعل الإسلام وهو ينقِّي البدن ويجمِّله، أنه لم يَتحرَّج من ذكر شيء مهم.
وفي الحديث قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد" إزالة الشعر حول المواضع الحساسة "وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط".
أي أن من المحافظة على الفطرة السليمة ـ وهي جوهر الدين ـ أن يتعهد المرء بدنه بهذه الآداب.
ومَن أطال شعر رأسه وجب عليه أن يُنَظِّفه ويسرحه ولا مانع من تعطيره، ففي الحديث: "من كان له شعر فليُكرِمْه" (1/83)
ولابد من غسل الفم وتعهُّد الأسنان ومنع الفضَلات من التخلُّف بين الثنايا.
إن الفم المتغَيِّر الرائحة بلاءٌ على صاحبه ومصدر أذًى لأصحابه، وقد أسقط الإسلام صلاة الجماعة عن الأبخَر، كما ندب مَن أكل ثومًا أو بصلاً أو فجلاً أن يبتعد عن المجالس العامة.
وتعاليم الإسلام في استعمال السواك كثيرة، ويمكن الاستعانة بالمعاجين التي تنظف الفم، وقد تُغني مكان السواك.
والغريب أن الإسلام لم يكتف بالطهارات التي قررها، بل ضم إلى ذلك التزين الذي يُصلح الهيئة ويجلب الاحترام، وقد روى أبو داود والنسائي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: أومأت امرأة من وراء ستر، بيدها كتاب، إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقبض يده وقال: "ما أدري، أيدُ رجل أم يدُ امرأة" فقالت: بل يد امرأة! فقال: "لو كنتِ امرأة لغيرتِ أظفارك" يعني بالحنَّاء؛ أي لظهرت حمرة الخِضاب على الأظفار!
وعن عائشة ـ أيضًا ـ أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، بايعني. قال: لا أبايعك حتى تُغَيِّري كفيك، كأنهما كفَّا سبع. أي وحش!
والتجمُّل شيء غير التبرج، التبرج إهاجة الغرائز الساكنة بصورة تَميل بها نحو الإثم!
أما التجمل فهو إبراز الجمال الطبيعي في إطاره العادي المعتدل، وجمال الأنوثة غير جمال الرجولة، والإسلام يرفض تشبه أحد الجنسين بالآخر، وليس معنى نهي المرأة عن التبرج أن تكون دميمة المظهر أو كريهة الرائحة، كلاّ، فلتكن حسنةَ الهيئة مع الاحتشام، ولتكن طيبةَ الرائحة دون تعطُّر صارخ!
قلنا: إن الوضوء من الوضاءة، أي الحُسن والمَلاحة والإشراق! والحياة الإسلامية الأولى كانت آية في النظافة والارتقاء، فلما ساء معنى التدين وانحدر مستواه ظن البعض أن الهيئة الرَّثّة من الدين، وأن إهمال الجسم دليل على التقوى وطلب الآخرة!
والحق أن الشكل الفوضوي دليل موضوع مشوَّش، وأن من أهمل حق بدنه لا يؤتمن على كثير من الحقوق.(1/84)
أما نستحي ـ وقد أضاف الله الزينة إلى نفسه ـ أن نَنأَى عنها!
ألم يجئْ في الكتاب العزيز: (قل من حرَّم زينةَ اللهِ التي أخرَج لعبادِه والطيباتِ من الرزقِ) (الأعراف: 32).
إن الله يريد وضاءتنا، فلِمَ نريد نحن الدمامة والرثاثة؟!
إن الوضوء رمز إسلامي لكل أسباب النظافة والزينة، على أن يكون وراء ذلك بداهة فكر نظيف، وأدب رائق جميل، فيكمل الإنسان جوهرًا ومظهرًا وحقيقة وصورة!
والوضوء ليس شرطًا لذكر الله سبحانه وتعالى، فالمسلم يستطيع أن يذكر ربه في أوقاته كلها جنبًا أو طاهرًا، بل يستطيع أن يقرأ القرآن الكريم ـ فيما أرى ـ وتستطيع الحائض ذلك. والمؤمن لا ينجُس أبدًا، والجنابة عارض لبدنه يمكن الخلاص منه على عجَل.
أما الصلوات المكتوبة كلها فيستحيل الدخول فيها دون طُهر، والوضوء كافٍ لمَن قام به حدثٌ أصغر، أما الحدث الأكبر فلا بد من الغسل.
وإنما اشتُرط ذلك حتى لا يتجوَّز المؤمن في شئون النظافة ويتركها لأي عُذْر ينوبه، فما أسرع الناس إلى الترخص فيما لم يُلزَموا به حتمًا.
وإذا كانت الصلاة من أركان الإسلام الخمسة، فإن النظافة تُعَدُّ من الأركان لأنها تمهيد لا مَنَاصَ منه للصلاة.
ثم جاء تعبير القرآن بعد ذلك أعم وألطف، إذ أمر باتخاذ الزينة عند الوقوف بين يدي الله: (يا بني آدمَ خذُوا زينتِكم عند كلِّ مسجدٍ) (الأعراف: 31).
والنظافة خُلُق قبل أن تكون عادة تَتبَعُ الغِنَى أو الفقر، ومَن كان شديد الحس بطهارة جسمه فلن يعدم أية وسيلة تجعله تقيًّا وسيمًا، وكم من فقيرٍ نظيفٍ وغنيٍّ ممجوجٍ!(1/85)
16ـ ما حكمة الحج؟
ولماذا كان الطواف حول الكعبة، وهي بناء من حجر؟
سمعت أحد الدُّعاة يقول: إن الله كلفنا بما نعقل فأطعنا، فأراد أن يَبلُوَنا بأفعال الحج ليرى أنطيعه فيما لا نعقل أم نعصيه؟
قلتُ له: هذا كلام رديء، وأفعال الحج ترتبط بحِكَم لا ينكرها العقل، وقد شرحتُها في موضع آخر ولا بأس من إعادتها هنا.
إن الأمم تُغالي بكثير من ذِكْرياتها، وتَقرِن به مشاعر نفسية واجتماعية بعيدة المدى، وقد رُبط النصارى بقبر المسيح وطريق الآلام، كما يقولون، وربط اليهود أنفسهم بحائط المبكى، وأسسوا عليه حقوقًا ما أنزل الله بها من سلطان! فلماذا نستغرب من المسلمين أن يرتبطوا بأماكنهم المقدسة ارتباطًا يبدو عندما يُدرَس أقربَ إلى الرشد وأبعدَ عن الوهم؟
الكعبة هي البيت الحرام الذي بُني لتُقام فيه وعنده الصلوات لله وحده، وقد قيل لإبراهيم وهو يؤسسه: (لا تُشرِكْ بي شيئًا وطهِّرْ بيتيَ للطائفين والقائمين والرُّكَّعِ السجودِ) (الحج: 26).
وهذا المسجد الحرام ـ أعني الكعبة ـ هو أول مسجد بُني في الدنيا لتوحيد الله ونبذ الشركاء، وتمحيض العبادة لرب العالمين.
أليست لهذه الأولية حقوق؟
بلى، وطليعة هذه الحقوق ألاّ يُشادَ مسجد في العالم إلا اتّجه إليه وشارَكَه غايته في التوحيد الخالص!
وكذلك من هذه الحقوق المُقرَّرة أن ينبعث كل قادر ليزور هذا المسجد الذي أصبح قبلته حيًّا وميتًا!
هذه المعاني هي التي ذكرها القرآن الكريم في أثناء الحديث عن هذه الكعبة: (إن أولَ بيتٍ وُضِع للناسِ للَّذي ببَكّةَ مبارَكًا وهدًى للعالَمين) (آل عمران: 96) (وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَن استطاع إليه سبيلاً) (آل عمران: 97) (فلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبلةً تَرضاها فَوَلِّ وَجهَك شَطْرَ المسجدِ الحرامِ وحيثُما كنتُم فولُّوا وجوهَكم شَطْرَه) (البقرة: 144).(1/86)
من أجل ذلك تنبعث الوفود من المشارق والمغارب لترى البيت الذي تصلي إليه، ولتطوف حوله طواف تقدير واحترام!
ماذا يقول الحجيج وهم يطوفون بهذا البيت؟
يقولون: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" يقولون: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".
إنهم لا يعبدون البيت وإنما يعبدون رب البيت. والطواف ـ كما أجمع العلماء ـ صلاة لا بد لها من طهارة البدن ولا بد فيها من خلوص القلب لله.
ومَن زعم أن الكعبة كلها أو بعضها يضر أو ينفع فهو خارج من الإسلام.
ومن حق رب البيت أن يضع طريقًا لزيارة بيته، فإذا جعلها طوافًا من سبعة أشواط فليس في الأمر ما يستغرب، ففي طول الدنيا وعرضها توضع طرائق شتى للاستقبالات والاستعراضات!
وحكمة أخرى لا تقل جلالاً عن سابقتها، تفسر الطواف حول البيت العتيق؛ إن الأمة الإسلامية التي تبلغ الآن ألف مليون من البشر بدأت دعَوات حارَّة على ألسنة الرسولين الكريمين اللذين تَولَّيا بناء هذا البيت! دعوة مِلؤُها الاستسلام لله والرغبة في مدِّ عبادته من الآباء إلى الأبناء إلى الأحفاد إلى قيام الساعة: (ربَّنا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لكَ وَمِنْ ذُرِّيّتِنَا أُمَّةً مُسلِمَةً لكَ..) (البقرة: 128) كما أن هذين الرسولين الكريمين دَعَوَا الله أن يجعل في هذه الأمة نبيًّا يعلِّم ويربِّي ويتلو آيات الوحي الصادق، فكانت بعثة النبي الخاتم بعد قرون طوال!
أهناك ذكريات تاريخية أعزُّ من هذه الذكريات!
فإذا لم يحُج المسلمون البيت الذي بدأ عنده تاريخهم فأين يحُجُّون!
وإذا لم يقصدوا البيت الذي كان نبيهم دعوةً مخبوءةً في ضميرٍ عند بنائه استجابها الله وباركها فأين يقصدون!
إن الكعبة بناء من حجر، ما يُغليها أن تكون بناءً من ذهب ولا يُرخصها أن تكون من خشب، المهم هو المعنى الذي يَحُفُّها!(1/87)
رجل واحد هو في طاقته أمّة، أحب الله من أعماق قلبه، وأُلقيَ في النار لحرصه على توحيده، وخاصم الملوك والجماهير لإعلاء هذه الحقيقة، وتنقَّل بين أرجاءٍ رحبة من الأرض يدعو ويجادل، طوَّحت به سياحاته إلى هذا المكان النائي ليشيد على أنقاض الوثنية حصنًا للتوحيد، ويسأل ربه وهو يبني أن يجعل من عَقِبه أمة تحمي الحق وترفع رايته، أكان للناس عجبًا أن تُهرَعَ هذه الأمة بعدما تَمخَّض عنها الغيب لتزور المسجد الذي وضع أبوها، وتهتف من حوله بشعار التوحيد!
إن الأب الراحل دعا الأجيال لتزور بيت الله، وتُوَثِّق حبالها بالعقيدة التي أنشأته، ووقع في قلوب الألوف المُؤَلَّفة صدى هذا النداء، فأتت من كل فجٍّ تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك!
فهل تُتَّهم هذه الوفود الموحِّدة بأنها وثنية!
أليست هذه السفاهةَ بعينها!
إن بعض الناس لا يدري المعاني العظيمة التي تحُف مناسك الحج، وقد يكون الحُجّاج أنفسهم من هذا القبيل!
نظرتُ إلى "المَسعَى" وهو يَمُوج بحشود كثيفة تَطُوف بين الصفا والمروة، وساءلتُ نفسي: إن هذا السعي بين الجبلين الصغيرينِ شُرِع لترسيخ عقيدة التوكُّل على الله، وإن وَهَت الأسباب المادية، فهل الساعون يَعُون ذلك؟
من قرون خلَت كانت هذه البقعة يسودها صمت الوَحْشة والانقطاع، لا أنيس هنالك ولا عمران، جاءها إبراهيم ـ عليه السلام ـ بامرأته وابنه الرضيع، ثم قال للأم الضعيفة: سأتركك هنا!
وتساءلت هاجر دَهِشَةً: تتركنا هنا أنا وإسماعيل حيث لا زرع ولا ضرع، ولا دار ولا ديار؟ نعم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. إذن لا يُضيِّعَنا!
وانصرف الأب لا يدري ماذا سيقع له ولا ما سيقع لأسرته، لقد نفَّذ ما أُوحي به وحسب!
ونَفِد الزاد والماء من هاجر، وجاءت الساعة الحَرِجة، وانطلقت الأم بين الربوتين الجاثمتين على صدر الوادي تبحث عن غَوْث للرضيع الذي يُوشِك أن يَهلِك.(1/88)
وبعد أمدٍ جاء الملك وفجَّر بئر زمزم، وحامت الطير حول الماء الدافق، وأحس الناس ما جَدَّ فأقبلوا على المكان يَعمُرونه!
إن ثقة هاجر في الله أثمرت الخير، ولم يخذُلها الله بعد ما آوت إليه.
والتوكل على الله ـ مع ضعف الأسباب أو انعدامها ـ زادٌ يحتاج إليه المجاهدون والمضطهدون، يعتمدون عليه في اليوم الكالح كي يُسْلِمَهم إلى غد رابح.
وقد خسر المسلمون معارك كثيرة، كانوا جديرين بكسبها لو استندوا إلى الله، ولكنهم خاروا لضعف يقينهم ثم هانوا في أرضهم!
هل يعي ذلك الساعون بين الصفا والمروة؟
وهل عرفوا عُقْبَى التوكل عندما يُمَثِّلون الدور الذي قامت به أم إسماعيل وهي تتحرك جَيْئَة وذهابًا بين الربوتين؟
قال التاريخ: واعترض الشيطانُ إبراهيمَ لما ترك أسرته بالوادي المقفِر، يقول له: كيف تنفذ أمرًا فيه هلاك أهلِك؟ لأن الله أمرك؟
فقذفه إبراهيم بحصيات التقطها من التراب، فكانت تلك سنَّة رمي الجمار فيما بعد!
إن مناسك الحج تنمية لعواطف المسلمين نحو ربهم ودينهم وماضيهم وحاضرهم.
ويكفي أنها تجمعهم من أطراف الأرض شُعثًا غُبرًا، لا تفريق بين ملك وسُوقة، ولا بين جنس وجنس، ليقفوا في ساحة عرفة في تظاهرة هائلة، الهتاف فيها لله وحده، والرجاء في ذاته، والتكبير لاسمه، والضراعة بين يديه، فقر العبودية ظاهر! وغنى الربوبية باهر! ومن قبل الشروق إلى ما بعد الغروب لا ذكر إلا لله ولا طلب إلا منه سبحانه.
إن الحج من الناحية الروحية إذكاء مشاعر، وتجديد عاطفة. ومن الناحية الاجتماعية فرصة ثمينة للتوجيهات الجامعة التي تكفل مصلحة المسلمين العليا.
ولكي ندرك ذلك ندرس كيف حج المسلمون في السنة التاسعة والسنة العاشرة للهجرة.
في السنة التاسعة رجع الحجاج وقد تلقَّوا تعليمات بقطع علاقاتهم مع العابثين بمعاهداتهم، ومعاملتهم بالشدة بعدما فشل اللطف معهم.(1/89)
وفي السنة العاشرة وُضعَت تقاليد إنسانية وآداب عامة تضمنتها الخطبة الجليلة التي ألقاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع.
فهل يسمع المسلمون شيئًا ذا بال عندما يحُجون في هذه الأيام؟(1/90)
17ـ ما هي دار الحرب؟
وما هي دار الإسلام؟
يُقصَد بدار الإسلام جميع الأراضي التي يعمُرها المؤمنون برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ العاملون بكتابه وسنته المنفِّذون لشرائعه والمنضمُّون تحت لوائه.
ويُقصَد بدار الحرب جميع الأرضي التي يقطُنها الكافرون بهذه الرسالة، المخاصمون لها، المُعتَرِضون لدعوتها.
قد تتسع هذه الدار فتشمل كل الأوطان التي غزانا منها الصليبيون القدامى، أي أوربا كلها تقريبًا!
وقد تتسع لتشمل كل الأقطار التي أغار منها التتار علينا، فوصلوا من الصين إلى فلسطين! وقد تضم كتابيِّين ووثنيِّين وملاحدة!
وقد سُميت هذه البقاع وأهلوها دار حرب من باب المعاملة بالمثل ـ كما يتبين ذلك قريبًا ـ فإن أرض الإسلام لم تكن لها حُرْمة عند أعدائه، فلِمَ تُصَانْ أرضُ أولئك الأعداء!
على أني أشعر بالألم لهذه الجفوة القاسية وآسَى لإنسانية انقسمت على هذا النحو الدامي، وتاريخ مليء بالإحَن والحروب!
لم تكن هناك جسور تصل بين الدارين، ولا عهود تؤمِّن الأتباع من هنا ومن هناك، بل كانت هناك تيارات من الجدل والمهاترة تُشعل الأحقاد وتُورثها للأحفاد، وليس بين الفريقين إلا ما يقوله الشاعر:
لله يُعْلَنُ أنَّا لا نُحِبَّكمُ ولا نلومكمُ ألاّ تُحِبُّونا
كلٌّ له نيةٌ في بُغض صاحبِهِ بنِعْمَةِ الله نَقْلِيكُمْ وتَقلُونا!
مَن المسئول عن ذلك؟
قبل أن أذكر ما عندي أذكر ما قاله أقطاب القانون الدولي عند الأوربيين، وهي أقوال نقلتُها عن كتاب "المجتمعات الدولية الإقليمية" المقرَّر في معهد الدراسات العربية العالمية بجامعة الدول العربية.
والمؤلِّف رجل مُحايد لم يَرَه أحد يومًا في ميدان الدعوة الإسلامية، هو الدكتور محمد حافظ غانم، وزير التعليم العالي الأسبق.
كتب تحت عنوان "العائلة الدولية كانت تستبعد دار الإسلام من حظيرتها" فقال:(1/91)
"منذ نشأة القانون الدولي الحديث كان من المقطوع به اعتبارُ الإسلام خارج نِطاق العلاقات الدولية! وعدمُ الاعتراف بتمتُّع الشعوب الإسلامية بالحقوق التي يقررها هذا القانون (جميع العبارات المنقولة هنا مُؤَصَّلة بمراجعها العلمية والأجنبية وقد أثبتُّها كلها في كتابي "كفاح دين") وعلى هذا الأساس لم يكن الفقهاء الأوربيون راغبين في اعتبار الدولة العثمانية جزءًا من الجماعة الدولية، فـ"جروسيوس" أبو القانون الدولي قال بوجوب عدم معاملة الشعوب غير المسيحية على قدم المساواة مع الشعوب المسيحية! ومع أنه يرى القانون الطبيعي مُجيزًا لعقد معاهدات مع أعداء الدين المسيحي إلا أنه نادى بتكتل الأمراء المسيحيين ضد أعداء العقيدة.
و"جينتليس" هاجم "فرانسوا الأول" ملك فرنسا لعقده معاهدة مع السلطان سليمان القانوني ـ الخليفة العثماني ـ سنة 1535م مع أن هذه المعاهدة أقامت سلامًا بين الدولتين وأعفَت الرعايا الفرنسيين من دفع الجزية التي كانت مقررة على غير المسلمين إذا أقاموا في دار الإسلام ومنحتهم امتيازات دينية وقضائية. وذلك على أساس أن هذه المعاهدة تقيم تعاونًا بين ملك مسيحي وبين غير المؤمنين"!
أقول: وهو تعاون ـ في نظر رجل القانون الدولي ـ لا يجوز بل يجب أن يبقى التناكر والتعادي بين الفريقين، وأن تُهيَّأ الفرص لسفك المزيد من الدماء!
بمَ نعلق؟
(قُلْ لا تُسألون عما أجرَمنا ولا نُسأل عما تَعملون. قل يَجمَعُ بينَنا ربُّنا ثم يَفتَحُ بينَنا بالحقِّ وهو الفتاحُ العليمُ) (سبأ: 25،26).
يقول المؤلف:
"بل لقد ذهب فقهاء آخرون إلى أنه من الممكن إقامة سلام دائم في أوربا، على أساس تكتيل الدول المسيحية ضد العثمانيين ـ أي ضد المسلمين ـ وظهرت عدة مشروعات من هذا النوع".
ويستطرد المؤلف ـ بعد شرح هذه المشروعات ـ فيقول:(1/92)
"إن الدولة الأوربية في تعاملها مع الشعوب الإسلامية كانت تنظر إليها كجماعات همجية غير جديرة بالتمتُّع بقواعد الحرب! ولقد اعتُبر الاستيلاءُ على أراضي المسلمين عملاً فاضلاً يدعو إلى الفخر"!
ثم يقول المؤلف:
"ونخلُص مما تقدم إلى أنه حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر لم تكن الدولة العثمانية أو أية دولة إسلامية أخرى تتمتع بحقوق القانون الدولي"!
هكذا كانت النظرة إلينا حتى بدايات العصر الحديث! والواقع أن رجال الحرب والسياسة والقانون كانوا قبل الحروب الصليبية وبعدها ينظرون إلينا ببغضاء عميقة، وقد وَرِثوا عن آبائهم كفرًا برسالة محمد ورغبة جامحة في تشويهها والقضاء عليها!
محمد مُدَّعٍ لا صلة له بالنبوة!
وأتباعه مخدوعون لا يُقبل منهم إيمان، وليس لهذا الدين ولا لمن دخَل فيه حق مادي أو أدبي ينبغي أن يَراعَى! إنهم خارجون على القانون! فمن اغتالهم أو اجتاحهم لم يرتكب إثمًا!
ماذا يفعل المسلمون إذا رَأَوْا هذا الحَيفَ، وهم موقنون بأن الله واحد، وأن رسله كلهم ـ ومعهم محمد ـ حق؟
إذا اعتُبِرَت أرضُهم دارَ حرب اعتَبَروا أرضَ غيرِهم دارَ سلام؟
هذه بلاهة!
كان عبَّاد الأصنام يَشْمَئِزُّون من عقيدة التوحيد ويرفضون سماع شيء عنها: (وإذا ذكَرتَ ربَّكَ في القرآنِ وحدَه ولَّوا على أدبارِهم نُفورًا) (الإسراء: 46).
ليكن: (لي عملي ولكم عملُكم أنتم بريئون مما أعملُ وأنا بريءٌ مما تعملون) (يونس: 41).
لا، لن ندَعَك تدعو ولن ندَعَ الآخرين يتبعونك، والسيف هو الحاكم!
ويصور القرآن الموقف في هذه العبارة: (ولا يَزالون يُقاتلونكم حتى يَرُدُّوكم عن دينكم إن استطاعوا) (البقرة: 217).
فإذا تجاوزنا الوَثَنِيِّين إلى أهل الكتاب وجدنا الضغائن أشدَّ والأنياب أحدَّ.
إنهم لا يُطيقون سماع كلمة عن الإسلام: (وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا) (البقرة: 135)
كلا الفريقين من يهود ونصارى يريد أن ننسلخ عن ديننا ونتبعه!(1/93)
إننا يا قوم أعرفُ بموسى وعيسى، وأرعى لتراثهما الصحيح، وأسرع إلى مرضاة الله الذي أرسلهما وأرسل بعدهما محمدًا.
لا، لن نصفوَ لكم: (ولن تَرضَى عنك اليهودُ ولا النصارى حتى تَتبعَ ملَّتَهم) (البقرة: 120).
ويبذل أهل الكتاب جهود المستميت لسحق الدين الجديد، وتعويق المُصَدِّقين له وصَرْفهم ولو إلى الإلحاد أو الوثنية!
وإنك لترى تقريعَ الأسَى والغضب في تعليق القرآن على هذا الموقف الوضيع: (قل يا أهلَ الكتابِ لمَ تكفُرون بآياتِ اللهِ واللهُ شهيدٌ على ما تعملون. قل يا أهلَ الكتابِ لم تَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ مَن آمَن تَبغُونها عِوَجًا وأنتم شهداءُ وما اللهُ بغافلٍ عما تعملون) (آل عمران: 98ـ99).
ماذا يصنع المسلمون بإزاء هذه العداوات المحيطة؟
إن الذي يطلب منهم الاستكانة لها لا ذَرَّة لديه من عقل.
وها قد طلع العصر الحديث، عصر عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم ومجلس الأمن، وقيل إن للإنسان حقوقًا وللشعوب كرامات!
فهل اختفت المواريث القَذِرة في تاريخ العالم وتخلصت البشرية من طبائع الظلم والغبن؟
إن قضية فلسطين نموذج لشر ضروب التعصب، فقد طُرد شعب مسلم من داره، وحلت محله إسرائيل، وقالت الدولة الراقية: لقد خُلقَتْ إسرائيل لتَبقَى.
وستَتْبَعُ فلسطينُ أقطارًا أخرى ما دامت جزءًا من أرض الإسلام لأنها في نظر الاستعمار القديم والحديث دار حرب!
إننا لا نحب هذا التقسيم، ولكن غيرنا ألجأنا إليه، وإذا تركه تركناه.(1/94)
18ـ ما حقيقة الحرب والسلم في الإسلام؟
ألف "ابن تيمية" رسالة صغيرة عن القتال في الإسلام بدأها بهذا السؤال:
هل مُقاتلة الكفار بسبب عدوانهم أم لمجرد كفرهم؟
ثم أجاب (تصرفنا في العبارات بما يقرِّب المعاني إلى القارئ):
في ذلك قولان مشهوران للعلماء:
الأول: قول الجمهور كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم، فهؤلاء يرون أن الكفار يُقاتَلون لاعتدائهم لا لضلالهم!
والثاني: قول الشافعي وربما علَّل به بعض أصحاب أحمد، وأساس هذا القول أن الكفار يحارَبون لسوء عقيدتهم وجحدهم لله ولحقوقه!
قال ابن تيمية: وقول الجمهور هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، فإن الله سبحانه قال: (وقاتِلوا في سبيلِ اللهِ الذين يقاتلونكم ولا تَعتَدوا إن اللهَ لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثَقِفْتُموهم وأَخرِجوهم من حيثُ أخرَجوكم والفتنةُ أشدُّ من القتلِ ولا تقاتلوهم عندَ المسجدِ الحرامِ حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين. فإن انتَهَوْا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ. وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدينُ للهِ فإن انتَهَوْا فلا عدوانَ إلا على الظالمين. الشهرُ الحرامُ بالشهرِ الحرامِ والحُرُماتُ قصاصٌ فمَن اعتَدَى عليكم فاعتَدُوا عليه بمثلِ ما اعتَدَى عليكم واتَّقُوا اللهَ واعلموا أن اللهَ مع المتقين) (البقرة: 190ـ194).
فقوله: (الذين يقاتلونكم) تعليق للحكم بأنهم يقاتلوننا، فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال. ثم (ولا تعتدوا) والعدوان مجاوزة الحد، فدل على أن قتال مَن لم يقاتلنا عدوان، ويدل عليه أيضًا قوله بعد هذا: (فمن اعتَدَى عليكم فاعتَدُوا عليه بمثلِ ما اعتَدَى عليكم) فدل على أنه لا تجوز الزيادة.
ثم قال: (وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ) الفتنة تحويل المسلم عن دينه قسرًا! كما كان المشركون يفعلون بالمستضعَفين. ومقاتلتُهم حتى تنكسر قواهم ويعجزوا عن الفتنة، ولم يقل سبحانه قاتلوهم حتى يسلموا!(1/95)
(ويكونَ الدينُ لله) وهذا يحصل إذا ظهرت كلمة الإسلام وكان حكم الله ورسوله غالبًا.
ذاك ما جاء في الكتاب الكريم.
أما ما جاء في السنة فقد صح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر في بعض غزواته على امرأة مقتولة، فكأنه كره ذلك وقال: "ما كانت هذه لتقاتِل" فعلمنا أن العلة في تحريم قتلها أنها لم تكن تقاتل.
وقد كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوصي بعدم التعرض لمَن ليس من شأنه القتال، روى أبو داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُوصي الجيش الذاهب إلى المعركة: "انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً، ولا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين".
وقد ادعت طائفة أن هذه الآية منسوخة.
قال ابن تيمية: وهذا رأي ضعيف، ودعوى النسخ تحتاج إلى دليل، وليس في القرآن ما يناقض الآيات التي ذكرناها، بل فيه ما يوافقها فمن أين يجيء النسخ؟
الصحيح أنها مُحْكَمة، وأن مَن ليس مُعِدًّا نفسه للقتال كالرُّهبان والشيوخ الفُنَاة والزَّمْنَي والمكافيف والمجانين، فإن هؤلاء لا يُقاتَلون، وهذا حكمٌ باقٍ غير منسوخ، وهذا قول جمهور العلماء.
ونمضي نحن في مناقشة القائلين بالنسخ بشيء من التفصيل يزيد الحق وضوحًا:
من أعجب ما قرأت أن قوله تعالى: (وقاتِلوا في سبيلِ اللهِ الذينَ يُقاتلونكم ولا تَعْتَدُوا) منسوخ بالآية التالية مباشرة: (واقتُلُوهُمْ حيثُ ثَقِفْتُمُوهم).
وهذا ضرب من اللغو ما كان يجوز إثباته؛ لأن القائل قطع جملة من الآية عن بقيتها (وأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) وضرب بها السياق كله على نحو لا يسوغ في دماغ عاقل،
ولذلك نتجاوز هذا الرأي.
الدليل الذي يعتمد عليه القائلون بالنسخ ما يسمَّى بآية السيف، يعنون مثلاً قوله تعالى: (فإذا انسَلَخَ الأشهرُ الحُرُمُ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم..) (التوبة: 5).(1/96)
وفي هذا الكلام تلبيس خطير يجب أن ينكشف لكل ذي عينين؛ فإن كلمة (المشركين) هنا فُسرت في الآيات السابقة والآيات اللاحقة بأنهم قوم تفاحَش عدوانهم حتى بلغ حدًّا لا يُطاق، وأنهم جماعة من الفُتَّاك القادرين، تعرفهم عندما تقرأ الآية التي استثنت من تُصان دماؤهم من المشركين، وهي قوله سبحانه (إلا الذين عاهدتُم من المشركينَ ثم لم يَنقُصوكم شيئًا ولم يُظاهِروا عليكم أحدًا) (التوبة: 4).
يعني أن المشركين المُطارَدين هم قوم نقَصونا حقوقَنا وظاهروا أعداءنا، واحتقروا عهودنا.
ولكي نزداد بهم معرفة نقرأ وصفهم في الآيات الآتية: (كيف وإن يَظهَروا عليكم لا يَرقُبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّةً يُرضُونكم بأفواهِهم وتأبَى قلوبُهم وأكثرُهم فاسقون. اشتَرَوْا بآياتِ اللهِ ثمنًا قليلاً فصَدوا عن سبيلِه إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يَرقُبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمّةً وأولئك هم المعتدون) (التوبة: 8 ـ 10).
هؤلاء المعتدون هم الذين أُعلِنَت الحربُ عليهم في صدر سورة (براءة) وأُعطُوا أربعة أشهر مُهلة ليَرَوا ما يصنعون بأنفسهم! فهل هذا الحكم يطابق أم يخالف آية: (قاتِلوا في سبيلِ الله الذين يُقاتلونكم)؟
إن القول بالنسخ ـ لا قتال إلا للمعتدين ـ لا مَساغ له أبدًا، ولا يدل على فقه في القرآن الكريم.
قال لي بعض الإخوة: على رِسْلِك، إن الإطار الذي تريد وضع الجهاد الإسلامي داخله قد مَحَته آيات الجهاد المُطلَق، الجهاد الذي يُخاصم الضلال حيث كان، ويريد غسل الأرض منه، فلا داعي لهذه القيود التي تذكُر!
قلت: أين هذه الآيات؟
ألم تقرأ قوله ـ تعالى ـ يغري طلَّاب الآخرة بالجهاد: (فلْيُقاتلْ في سبيلِ اللهِ الذين يَشْرُون الحياةَ الدنيا بالآخرةِ ومَنْ يُقاتِلْ في سبيلِ اللهِ فيُقتَلْ أو يَغلِبْ فسوفَ نُؤتيهِ أجرًا عظيمًا) (النساء: 74) إن هذه الآية تحث على خَوْض الحروب، انتصر المرء فيها أو انهزم، وما دام يريد إعلاء كلمة الله فله أجره!(1/97)
قلتُ: لعلَّكَ لو قرأتَ الآية التي تَلِيها مباشرة لعلمتَ أن هذه الحرب لم تكن عدوانًا بل ردًّا للعدوان وكسرًا للطغيان!
أليس يقول الله ـ سبحانه ـ في حفز الهمم لخوض هذه الحرب: (وما لكم لا تُقاتِلون في سبيلِ اللهِ والمُستَضعَفِين من الرجالِ والنساءِ والوِلدانِ الذين يقولون ربَّنا أخرِجْنا من هذه القريةِ الظالمِ أهلُها واجعل لنا من لدُنك وليًّا واجعل لنا من لدُنك نصيرًا)؟ (النساء: 75).
إن هذا القتال مِن أشرف ما دار على سطح الأرض بالنسبة إلى جمهور المسلمين، فكيف يُوصَف بأنه قتال لم يرتبط بقيد معين؟
فصمَتَ قليلاً ثم قال: خُذْ آية أخرى، قال تعالى: (فإذا لقِيتم الذين كفروا فضَرْبَ الرقابِ حتى إذا أَثخَنتُموهم فشُدُّوا الوَثاقَ..) (محمد: 4).
قلت: هذه آية تصف ما يجب عند التحام الرجال في المعركة، ولا تتحدث عن سبب القتال، ومع ذلك فلو سلَّمنا بوجهة نظرك فإن أول السورة التي ذُكرَت فيها الآية يحدد من هو العدو الذي نحاربه!
أول هذه السورة: (الذين كفَرُوا وصَدُّوا عن سبيلِ اللهِ أضَلَّ أعمالَهم) (محمد: 1) والصد عن سبيل الله يعني تعويق الدعوة عن المضي في مسارها، وإيذاء المؤمنين الذين تنشرح صدورهم بها، وهذا عدوان حقيقي.
قال: خذ آية أخرى، والآيات كثيرة: (انفِروا خِفَافًا وثِقَالاً وجاهِدوا بأموالِكم وأنفسِكم في سبيلِ اللهِ) (التوبة: 41)
قلت: هذه الآية بين عشَرات من الآيات التي نزلت في غزوة تبوك تَسْتَنْفِر المؤمنين كي يقاتلوا الروم، ويَحُدُّوا من طغيان النصرانية شمال جزيرة العرب، ومعروف أن الرومان قتلوا بعض مَن أسلم في مدينة "معان" ونشروا الرعب في بقاع واسعة كان عملاؤهم يحكمونها.
وقد حاول المسلمون أن يُوقفوا هذا التحدِّيَ، وأرسلوا جيشًا إلى "مؤتة" هزمه الرومان، وقُتل القوادُ الثلاثة الذين حاولوا الصمود به، ولم يجد المسلمون بُدًّا من الانسحاب، فعادوا إلى المدينة وقلوبهم كسيرة.(1/98)
وازداد الطين بِلة، فإن تيار الدعوة ركَد تحت تأثير السطوة الرومانية المحذورة، ولم يَرَ النبي مَنَاصًا من إعداد أكبر جيش في تاريخ الدعوة ليُنازل الإمبراطورية العجوز ويلزمها حدودها! إن الحرب كانت واجبًا حتمًا، ولم تكن غارة عمياء، وسوف نزيد الأمر وضوحًا فيما بعد.(1/99)
19ـ لماذا حمل الرسول السيف ولم يكتف بالإقناع؟
في هذا السؤال إيماءة مرفوضة إلى أن الرسول حارب ليَحمِلَ الخصومَ على قبول الدعوة! وهذه تهمة لا أصل لها من عقل أو نقل! ماذا يدعيه المدَّعون بعد أمر الله لرسوله: (وقل الحقُّ من ربِّكم فمن شاء فليُؤمنْ ومن شاء فليَكفرْ) (الكهف: 29) وقوله سبحانه: (إن هذه تذكرةٌ فمن شاء اتخَذ إلى ربه سبيلاً) (الإنسان: 29).
إن الإسلام بنى خطته في الحياة على استحالة زوال الأديان كلها، واكتَفَى بأن يَبقَى مذكِّرًا بالحق منكِرًا للهوى، وترى ذلك في قوله سبحانه: (ولئن أَتَيتَ الذين أُوتوا الكتابَ بكلِّ آيةٍ ما تَبِعوا قبلتَك وما أنت بتابعٍ قِبْلَتَهم وما بعضُهم بتابعٍ قبلةَ بعضٍ ولئن اتبعتَ أهواءَهم من بعدِ ما جاءك من العلمِ إنَّك إذًا لَمِن الظالمين) (البقرة: 145).
حسبُنا ـ نحن المسلمين ـ أن نُقَرِّر الحق، وأن نحيا على هداه، وأن نُمَهِّد طريقه لمَن أحب سلوكه.
ولنا بلا ريب أن نرد المهاجمين، وأن نَحميَ المستَضعَفين، وأن نُسكتَ المفتَرين إذا تمادَوا في أذاهم!
ولننظر في الكتاب الذي أرسله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هِرَقْلَ يدعوه إلى الإسلام، ولنتأمل ما جاء فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هِرَقْلَ عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدِعاية الإسلام. أسلِمْ تَسلَمْ يؤتِك اللهُ أجرَك مرتين، وإن توليتَ فإن عليك إثمَ الأَرِيسِيِّين" (يا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بينَنا وبينكم ألا نَعبدَ إلا اللهَ ولا نُشركَ به شيئًا ولا يَتخذَ بعضُنا بعضًا أربابًا من دونِ اللهِ فإن تَوَلَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران: 64)
بم خُتم هذا الكتاب؟
إن رفضتم الإسلام فاعلموا أننا مسلمون باقون على إسلامنا.
لا تهديد ولا سباب! وإنما جاء التأثيم في موقف هرقل ـ إذا بقي على دينه ـ من "الأريسيين".(1/100)
ونحن نرى مع بعض المُحَقِّقين أن الأريسيين هم أتباع آريوس البِطريق الذي قاد حركة الموحِّدين في التاريخ الكَنَسي، ورفض بقوة جعل عيسى إلهًا أو ابنًا لله.
وهذا القَسّ الموحِّد لقيَ مع أتباعه اضطهادًا شديدًا، وتضافرت قُوَى الدولة الرومانية على مطاردته ومصادرة دعوته، ووَرِثت الحكومات الأخرى هذا الترويع حتى انقرضت كنيسته أو كادت!
ونستبعد أن يكون المراد بكلمة "الأريسيين" الفلاحين.
ومأساة الموحِّدين في أرجاء الإمبراطورية الرومانية ثم في أرجاء أوروبا معروفة، ومن حق نبي الإسلام أن يُنَدِّد بها، ويذكِّر هرقل بموقفه منها.
إنني ـ بعد إذ هُديتُ إلى ذلك الفهم ـ عرفتُ أن الأستاذين معروف الدواليبي وأبا الحسن النَّدْوي سبقاني إليه، وذلك ما يقويه ويؤكده.
وربما كان الرومانيون يحسَبون الإسلام امتدادًا لبدعة آريوس كما يصفونها. وأيًّا ما كان الأمر فقد حاولوا البطش بالإسلام ودعاته، وشرعوا يقتلون مَن دخل فيه!
ولولا السيف الإسلامي الصُّلْب، ولولا الرجال أولو البأس الذين حملوه، ولولا نبي الملحمة الذي انتصب دون دينه وعَرِينه لذهب الإسلام في خبر كان، وربما ضنَّ عليه الاستعماريون بدموع التماسيح بعد ما يزول!
إن المؤرخين الأوربيين غِضاب لأن الإسلام قاتل الرومان! فهل سأل أحدهم نفسه: ما الذي جاء بالرومان إلى الشام وآسيا الصغرى؟ وما الذي جاء بهم إلى مصر والشمال الأفريقي؟
أكان الإقناع طريقًا إلى إخراج أولئك المستعمِرين من أرض احتلوها أكثر من خمسة قرون؟ هل أفلح الإقناع في إنهاء استعمار البيض لجنوب أفريقيا؟
إن الحرب وحدها بكل مغارمها ومتاعبها هي الطريق الفذُّ لمحو الاستعمار الطويل!(1/101)
إن الإسلام أغنى الأديان بالأدلة وأحرصها على استثارة الأفكار ومُناشدة الضمائر، وكان يمكن أن يلام لو أنه آثر إعمال السيف على إعمال العقل، أو قابل اللطف بالعنف! أمَا أن يَعرِض حُجَّته فيَلقَى الهُزْءَ والهوان، ثم يحاول المتمرِّسون بالدهاء والجبروت أن يواروه الثَّرَى، فدون ذلك ركوبُ الأهوال.
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم.
يقول ابن تيمية في رسالته عن القتال:
كانت سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن كل مَن هادَنه من الكفار لا يقاتله! وهذه كتب الحديث والتفسير والفقه والمغازي تَنطِق بذلك، بل هو متواتر في سيرته، فلم يبدأ أحدًا من الكفار بقتال... ولو أن الله أمره بقتل أعدائه لبدأهم بالحروب ولكنه لم يفعل.
ثم قال:
أما النصارى فلم يقاتل أحدًا منهم حتى السنة السابعة من الهجرة ـ يعني إلى عشرين سنة من بَدْء الرسالة ـ فلما أرسَل بعد صلح الحديبية يدعو جميع الملوك إلى الإسلام، وكتَب إلى قيصر وكسرى والمُقَوقِس والنجاشي، وملوك العرب بالشرق والشام، دخل في الإسلام من النصارى مَن دخل، فعَمِد النصارى بالشام فقتلوا بعض مَن أسلم من كبارهم بـ"معان".
قال ابن تيمية:
فالنصارى هم الذين حاربوا الإسلام أولاً، وقتلوا مَن أسلم منهم بغيًا وظلمًا!
ورسلُه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانوا يدعون إلى الإسلام دعوة مُجَرَّدة، فمَن دخل فيه دخل طوعًا لا كرهًا، ما أكرَهوا على الإسلام أحدًا، فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل النبي جيش مؤتة ـ الذي انسحب كما ذكرنا في الفصل السابق بعد مصارع قُوَّاده الثلاثة ـ ثم كانت غزوة تبوك التي قرَّر الرومان ألا يشتبكوا مع جيشها لحظةَ رَأَوْها.(1/102)
إن القتال فُرض على المسلمين فرضًا، سواءً كان مع الوثنيين أم مع الكتابيين، واضطُّرُّوا لخوضه دفاعًا عن أنفسهم وعقيدتهم، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: (أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرِهم لَقَدِير. الذين أُخرجوا من ديارِهم بغيرِ حقٍّ إلا أن يقولوا ربُّنا اللهُ..) (الحج: 39،40).
أترى المطرود من وطنه لأنه مؤمن بربه يُعَدُّ مهاجمًا إذا قاتَل طارِديه؟
إن الدهشة تملَّكتني عندما رأيتُ كُتّابًا يصفون معركة بدر بأنها دليل على أن الحرب في الإسلام هجُومية! قريش كانت مظلومة وكان المسلمون هم الظلَمَة!
إنه المنطق نفسه الذي اتُّبِع في وصف المقاتلين الفلسطينيين الذين اغتُصِبت أرضهم ودورهم وأُلجئوا إلى العَراء! اعتُبِروا إرهابيين مُعتَدِين على اليهود الآمنين الطيبين!
وقد ربط القرآن الكريم بقاء المساجد والمعابد بقتال المؤمنين ورفضهم الاستكانة والاستسلام (ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لهُدِّمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكَرُ فيها اسمُ اللهِ كثيرًا وليَنصُرَنَّ اللهُ من يَنصُرُه) (الحج: 40)
أيَحسَب عاقل أن هذه النتائج النبيلة نشأت عن حروب عدوانية؟
تُرَى لو أن الرومان نجحوا في قَهْر المسلمين واجتياح بلادهم أكان يَبقَى مسجد يرتفع فوقه صوت مؤذن؟
ذلك سر الغضب في نظم الآية الكريمة: (ومَن أظلَمُ ممن منَع مساجدَ اللهِ أن يُذكَرَ فيها اسمُه وسعَى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يَدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ) (البقرة: 114).
والحرب مع الفرس بدأ شررها منذ مزَّق كسرى كتاب الرسول الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، لقد غضب هذا الكسرى غضبًا شديدًا وكلَّف واليَه على جنوب الجزيرة أن يأتيه بمحمد هذا!
وكان الفرس ينظرون إلى العرب بازدراء، ويحتلون أرض العراق، ومن ثَمّ أنِف كسرى أن يُحاول عربي هدايته!(1/103)
أفكان الفرس يأذنون لمسلم أن يجوس خلال ديارهم يدعو أحدًا إلى الله؟
السيف وحده هو الذي يحل تلك المشكلة، وماذا صنع السيف؟
قلَّم أظفار الطغاة، وتركهم بعد تجريدهم من السلام يفكرون في هدوء ويتدبرون ما يُعرَض عليهم بعقل!
لا إكراه على دين!
لا نعرف في تاريخ البشرية حامل سيف أعف من محمد؛ ما غضب لنفسه قط، ما غضب إلا لله وحده!
قالوا غزوتَ ورسْلُ الله ما بُعِثوا بقتلِ نفس ولا جاءوا بسفك دمِ
جهل وتضليلُ أحلامٍ وسفسطةٌ غزوتَ بالسيفِ بعدَ الغزوِ بالقلَمِ
والجهلُ إن تلقهُ بالحلمِ ضِقْتَ به ذرعًا وإن تلقهُ بالجهلِ يَنْحَسِم(1/104)
20ـ هل الجهاد مقصور على الدفاع أم يتجاوز ذلك لإكراه الناس بالقوة على الدخول في الإسلام؟
هناك ثلاثة مواطن يجب فيها على المسلم أن يقاتل في سبيل الله، ويُعَدُّ مسيئًا إذا تخلف عنها:
الموطن الأول: منع الفتنة.
فقد يتعرض المسلمون في بعض البلاد لصنوف من الترويع والأذى تنزل بهم حتى يرتدوا عن دينهم، ولا يجوز ترك حَمَلَة العقيدة تحت وطأة هذا العذاب، بل يجب كسر شوكة المعتدين وإسقاط سلطتهم حتى تتقرر حرية الضمير ويؤمن من شاء دون خوف. قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدينُ كلُّه للهِ فإن انتَهَوا فإن اللهَ بما يعملون بصيرٌ. وإن تَولَّوا فاعلموا أن اللهَ مولاكم نعم المولَى ونعم النصيرُ) (الأنفال: 39،40).
الموطن الثاني: تأمين الدعوة.
فمن حق المسلمين أن يَعرِضوا ما عندهم على غيرهم عرضًا عاديًّا لا تقترن به رغبة أو رهبة، أي رشوة أو تخويف، فإذا عُطلت إذاعتهم أو صُودرت كتبُهم أو حُبس دعاتهم جاز لهم أن يُقاتلوا حتى يَتَقَرَّر لهم هذا الحق، أي جاز لهم أن يكسِروا السِّياج الحديدي الذي تحتمي وراءه بعض الفلسفات والمذاهب الضالة.
الموطن الثالث: عند الحفاظ على الدم والمال والعِرض.
فلا يجوز لمسلم أن يُسلم حقوقه الطبيعية لقطَّاع الطرُق المحليين أو الدوليين، عليه أن يُناضل لتَبقَى له، ولا يحل له أن يقبل الدَّنيَّة في دينه أو دنياه: (والذينَ إذا أصابَهم البغيُ هم يَنتصرون. وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها) (الشورى: 39ـ40).
ويُمكن أن ينضاف إلى هذا الموطن جهادُ المجرمين الذين يَحيَون في الميدان العالمي على القرصنة والتفرقة العنصرية وإيقاع المظالم بالضعفاء أيًّا كانوا وأين كانوا.
أما القتال لنُعَرة جنسية أو لأطماع شخصية، أو لفرض الإسلام نفسه على الناس بالسلاح فمرفوض، قال تعالى: (لا إكراهَ في الدين قد تَبيَّنَ الرشدُ من الغَيِّ) (البقرة: 256).(1/105)
وقد وردت في القرآن الكريم آيات تَزِيد على مائة وعشرين آية تفيد كلها أن نشر الإسلام أساسه الإقناع الهادئ، والتعليم المجرَّد، وترك الناس أحرارًا بعد عَرْض الدعوة عليهم ليقبلوها أو يَرُدُّوها!
وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شديد الإلحاح على الناس ليفهموا ما جاء به، ويهجروا عبادة الأصنام! وكان لشدة حُنُوِّه عليهم يطيل مطالبتهم باعتناق الحق وترك الباطل فقال الله له: (ولو شاء ربُّك لآمَنَ مَن في الأرضِ كلُّهم جميعًا أفأنت تُكرِهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين) (يونس: 99).
والواقع أن الإكراه على الحق لا وجود له في الرسالات السماوية كلها، وتَدبَّرْ ما جاء في القرآن الكريم على لسان نوح: (قال يا قومِ أرأيتُم إن كنتُ على بَيِّنةٍ من ربِّي وآتاني رحمةً من عنده فعُمِّيَتْ عليكم أنُلْزِمُكُموها وأنتُم لها كارهونَ) (هود: 28).
وقد حدَّد القرآن الكريم عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نشر الإسلام، فكشف أنه ليس حاكمًا عسكريًّا يفرض على الناس ما عنده، أو مُوفَدًا من السماء لإرغام مستمعيه على قَبول ما يقول: (فذكِّرْ إِنَّما أنتَ مُذَكِّرٌ. لستَ عليهم بمسيطرٍ) (الغاشية: 21،22).
(نحنُ أعلمُ بما يقولون وما أنتَ عليهم بجبَّارٍ فذكِّرْ بالقرآنٍ مَن يخافُ وعيدِ) (ق: 45).
(فَإِنْ أَعْرَضوا فما أرْسَلْنَاكَ عليهم حفيظًا إنْ عليكَ إلا البَلاغُ) (الشورى: 48).
نعم بعد بيان شافٍ لحقائق الإيمان بالله واليوم الآخر يقال للمستمعين: (ذلكَ اليومُ الحقُّ فمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إلى ربِّه مآبًا) (النبأ: 39).
(قَدْ جاءَكُمْ بَصائرُ مِنْ ربِّكُمْ فمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (الأنعام: 104).
(إِنَّ في ذلكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق: 37).(1/106)
هذا نموذج من الآيات التي نزلت في مكة، قبل أن يشتبك المسلمون مع أعدائهم في حروب دامِيَة، كان أولئك المشركون هم مُوقِدِي نارها وحاملي عارها، فماذا حدث في المدينة بعد ما قامت الدولة الإسلامية؟
يقول تعالى: (فإن حاجُّوك) يعني خصوم الإسلام: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهيَ للهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ وقلْ للذين أُوتوا الكتابَ والأُمِّيِّين أأسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسلَموا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ) (آل عمران: 20).
وفي موضع آخر: (وَأَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرسولَ واحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا على رسولِنا البلاغُ المُبِينُ) (المائدة: 92).
ويُؤمَر صاحب الرسالة الخاتمة بهذه الآية: (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرسولَ فإن تَولَّوا فإنما عليه ما حُمِّل وعليكُمْ ما حُمِّلتم وإنْ تُطيعوه تَهتَدُوا وما علَى الرسولِ إلَّا البَلاغُ المبينُ) (النور: 54).
وقد قلنا: إن أسلوب عرْض الإسلام على الناس تحدَّد في نحو مائة وعشرين آية.
قال ابن تيمية: بعد فتح مكة ترك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهلها قائلاً لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. لم يكرههم على إسلام، ولا يَقدِر أحد أن ينقُل أنه أكره أحدًا على دخول الإسلام، لا متحصِّنًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا.
نقول: وهذا بَداهة وقَع نزولاً على قوله تعالى: (لا إكراهَ في الدينِ قد تَبيَّنَ الرُّشدُ من الغَيِّ).
ومِن أغرب الأقوال زعم بعض أن هذه الآية منسوخة!
قال ابن تيمية: وجمهور السلَف والخلَف على أن الآية لا مخصوصة ولا منسوخة، وأنَّا لا نكره أحدًا على الإسلام، وإنما نقاتل من حاربَنا.(1/107)
وآفة ثقافتنا الإسلامية أنها تُدَوِّن كل شيء، ويتجاوَرُ فيها التافهُ والثمينُ! فهذا القول الشاذ بأن آية (لا إكراهَ في الدينِ) منسوخة كُتب إلى جوار القول الذي تواتر عن السلف والخلف! وأصبح كلامًا يقال، ثم أصبح رأيًا يُذكَر!
وينضم إليه أن الرسول حارب في بدر مهاجمًا!
وبذلك وهذا يصبح الإسلام دين عدوان.
ثم يجيء دور المُبَشِّرين الذين يَصِيحون: ألم نقل لكم: إن الإسلام انتشر بالسيف؟
إن هذا المنطق اللصيق بالإسلام يُعجِب علماء البدو الذين يحبون الغارات، ويرحبون بويلاتها ويقولون:
وأحيانًا نَكُرُّ على أَخِينا إذا ما لم نَجِدْ إلا أخانا
وتسرهم الحياة على ما وصف دُريد بن الصِّمَّة:
يُغار علينا واتِرين فيشتفي بنا إن أصبنا أو نُغِير على وِتْرِ
قسَمْنَا بذاك الدهرَ شطرين بيننا فما ينقضي إلا ونحنُ على شطرِ
وما أسوأها حياة أن نُغير طلاب ثأر، أو يَغار علينا لمثل ذلك!
وهذا المنطق الدموي قد يعجب السلاطين والقادة المرضى بجنون العظمة، إنهم قد يحملون اسم الإسلام والحقيقة أنهم يعبدون أنفسهم ويسفكون في سبيلها دماء المؤمنين والكافرين جميعًا.
لماذا فتح السلطان سليم مصرَ وأجرى الدماء فيها أنهارًا؟
ولماذا لم يستعنْ بالمسلمين العرب على نشر الثقافة الإسلامية في بلاده وفي غيرها؟
ولماذا ترك مسلمي الأندلس يُبادون دون عون وتموت دولتهم أمام الزحف الصليبي؟
إننا نكرر القول بأن الإسلام يأبى الإكراه في الدين، وأن كل ما يَنشُد حياةٌ تتلاقى فيها التيارات الفكرية من كل جهة، فأما الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
قال ابن القيم في كتابه هداية الحيارَى:(1/108)
(لا إكراهَ في الدينِ قدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ من الغَيِّ) هذا نفي في معنى النهي! أي لا تُكرهوا أحدًا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهوَّدوا أو تنصَّروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم آباؤهم وأرادوا إكراه أولادهم على الدين، فنهاهم الله ـ سبحانه ـ عن ذلك، حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام!
قال: "والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر".
إن الإكراه سلاح كل فقير في براهينه، فاشل في إقناعه، أعوزه المنطق فأسعفته العصا!
وإنه لمن الجهل المُخزي أن يتحدث في الإسلام مَن لا يعرف إعجازه العقلي وقدرته الذاتية على الانتشار والانتصار.(1/109)
21 ـ هل فريضة الجهاد لا تزال قائمة؟
وما واجب المسلمين اليوم تجاهها؟
ما من أيام الجهاد فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام النَّحِسات التي يذوق فيها المسلمون هزائم في كل ميدان، ويفقدون فيها الأرض والعِرْض والدنيا والآخرة!
غير أن الجهاد المطلوب من طراز آخر غير ما ألِفَ الناس، إنه جهاد الكلمة، وجهاد البحث والدرس، وجهاد المال والقانون، وأخيرًا الجهاد بالنفس حتى لا نَفْقِد عقائدنا وكل مُقَوِّماتنا المادية والأدبية.
كان العدوان على أرض الإسلام قديمًا يَتِم بين دق الطبول وصيحات المتعصبين الوحشية، والصراخ المجنون بضرورة القضاء على دين محمد!
أما في العصر الحديث فجريمة القتل تتم بمسدس به كاتم للصوت، ووسط كلمات معسولة تُخفي وراءها الحقد الدفين.
إن الاستعمار العالمي لم ينسَ يومًا كراهيته العميقة للإسلام، ورغبته الهائلة في وَأْده!
وقبل أن أشرح خطته الجديدة أشير إلى خطة قديمة مُستَغْرَبة:
إن الغرض من كشف العالم الجديد لم يكن لأسباب اقتصادية مُجَرَّدة! بل كان لأسباب دينية أهمها القضاء على الإسلام! وأترك الكلام للمؤرخ العالمي "هربرت فيشر":(1/110)
"لا يمكن القول بأن الدافع لاكتشاف العالَم الجديد لا يتعدى الرغبة في الحصول على التوابل والذهب، إذ اختلطت المشاعر الدينية بالمطامع الاقتصادية، ففي الفاتيكان كانت المشروعات التبشيرية تتناول العالَم بأسره، وكانت مشروعات البرتغال وأسبانيا تثير أكبر قسط من الاهتمام، لا لأنها تفضي إلى تنصير الوثنيين فحسب، ولكنها أيضًا ستُفضي إلى شن هجوم على المسلمين من ناحية الشرق! كان المعروف أن نجاشيَّ الحبشة مسيحي، وكان المُعْتَقَد أن بالهند دولة مسيحية يحكمها عاهل يُلَقَّب بالخان الأكبر، وكان يُداعب أوربا الكاثوليكيةَ أملٌ كبير في أن تتلقى من هؤلاء الملوك الشرقيين مساعدة فعَّالة في حرب صليبية ضخمة أخيرة تشُنُّها على المسلمين، تلك هي خطة الهند كما رسمها نيقولا الخامس بابا روما منذ وقت مبكر يرجع إلى سنة 1454م في مرسوم بابوي إلى ملك البرتغال، وفي هذا الجو المفعَم بالآمال الكبار أقلع كولومبس ليكشف الطريق إلى الهند غربًا" (من كتاب "أصول التاريخ الأوربي الحديث" ترجمة أساتذة التاريخ بجامعة عين شمس. وقد لفتني إلى هذه الفقرات الدكتور عبد الجليل شلبي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية).
نقول: وليبدأ تنفيذ المُخَطَّط الاستعماري كما رسمه البابا نيقولا الخامس.
لكن القدر لم يَقُدْ كولمبس إلى الهند كما كان يتصور، لقد قاده إلى أمريكا!
وتأخر تنفيذ الخطة العتيد، إلى أن استولت أوربا على الشرق الإسلامي وغير الإسلامي في القرن الرابع عشر للهجرة، وشرع الحقد القديم يتنفَّس، إنه يتنفس هذه المرة بخُبْث هائل، ويعمل بدهاء وأناة داخل حجُرات ناعمة، تاركًا خصومه يَنبَحُون في العراء!
وإذا احتاج الأمر إلى البطش أخمد أنفاس الجماهير في صمت كذلك أو بأقل الضجيج!
وقد شرحنا في موضع آخر من كتبنا الأسلوب الذي اتُّخذ للقضاء على الإسلام أمته ودولته ولا بأس من الإشارة إليه هنا.(1/111)
1ـ بعد توهين دولة الخلافة وانتقاص أطرافها وُجِّهت إليها ضربة قاتلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى طوت رايتها، وقضت على الوجود الرسمي للإسلام في الميدان الدولي.
والخلافة بين المسلمين تُمَثِّل ـ كما قلنا ـ أبوَّة روحية وثقافية مهيبة، وترمز إلى ولاء المسلمين لدينهم، واستمساكهم بوَحْدتهم الكبرى وأخوَّتهم العامة.
وفي الوقت الذي محا الاستعمار فيه هذه القيادة التقليدية دعَم القيادات التقليدية لشتى الأديان الأخرى.
2ـ أكثر الاستعمار من صناعة دول لها صبغة تُريحه وليس لها كيان طبيعي، ولما كان الدين الأول في أفريقية هو الإسلام فقد أعاد رسم القارة المنكوبة جغرافيًّا وسياسيًّا، فأنشأ أكثر من خمسين دولة راعَى في تكوين كل واحدة ضمَّ كثرة إسلامية إلى قلة خلقها التبشير، وجعل الحكم في هذه القلة! وأسبغ عليها رعايته وتأييده، وترك الجمهور المسلم لا حول له ولا طَوْل يفترسه الجهل والفقر والمرض!
3ـ عمل على تنمية القوميات الصغيرة والكبيرة، واجتهد أن تحيا وَفقَ مذاهب علمانية أو شيوعية، وأوعز إلى ساستها ألا يجعلوا الإسلام دين الدولة، وأن يحذفوا هذا النص من الدستور.
4ـ في الأقطار التي يعز فيها ذلك يكون تمويت النزعة الإسلامية بإقصائها عن ميادين التعليم والتشريع، وخلق إعلام مائع وأدب ماجن وقضايا تشغل الفراغ وتُبَدِّد الطاقات وتُدَوِّخ الجماهير.
5ـ فسح الطريق أمام الحركة الدينية المخرِّفة، وتركها تنشط لجمع الأجيال التائهة على أفكار بالية وجدل عقيم. والمُتَدَيِّنون البُلْهُ عون عظيم ـ من حيث لا يشعرون ـ للاستعمار العالمي، وطريق مُخْتَصر للإزراء على الدين وأهله.
6ـ إلغاء التعليم الأصلي إن أمكن، وتنصيب رؤساء تافهين على معاهده التقليدية يدورون حول أنفسهم ولا يُغنون عن الإسلام شيئًا، ويلحق بذلك إلحاق هزائم منكرة باللغة العربية في كل ميدان.(1/112)
7ـ إبقاء التخلُّف الحضاري والصناعي والثقافي وجعل المسلمين أممًا مستهلِكة لا منتِجة، بحيث إذا حدثت صحوة إسلامية ـ رغم كل حيطة ـ لم تجد وراءها ما يمدها بالقوة أو يهيئ لها التقدم والنجاح.
من أجل ذلك قلنا: إن الجهاد الإسلامي حق، لكن الوسائل الصحيحة ليست في العنف والنَّزَق والحماس الطفولي، بل في خطوات مدروسة وغايات واضحة تلبي حاجات أمة كسيرة ودين مهزوم في أغلب الجبهات!
إن الجهاد أضحى فرض عين على كل مسلم ومسلمة في وجه غارات دائبة لَحُوح تريد اقتلاع الإسلام عن جذوره، وترفض كل الرفض أن يعيش أتباعه وفق تعاليمه.
وقد كنت أحسب أن الارتقاء الحضاري الحديث قد محا أحقاد الماضي، ويَسَّر للناس جميعًا أن يتعارفوا لا أن يتناكروا، فلما وقعت مذابح لبنان الأخيرة رأيت كأن العداوة وُلدت اليوم أو أمس فقط! ورأيت جُثَث الأطفال المشوَّهة المُبَعْثَرَة هنا وهناك تشهد بأن القوم يقتلون في هؤلاء الأطفال امتدادَ الإسلام للغد القريب أو البعيد! إنها هي مذبحة بيت المقدس أواخر القرن الرابع الهجري!
ومن المفيد أن يعرف مَن يجهل أن مذابح "صابرا وشاتيلا" كشفَتْها المُصادَفات البحتة، وأن مذابح سبقتْها بين الفلسطينيين واللبنانيين تمَّت في صمت كئيب، وخَرِس مَن شاهدها من الصحفيين الأجانب لأنهم وجدوا أنفسهم فُرادَى مُرَوَّعين.
وقد أحصت منظمة التحرير عدد القتلى باثنين وسبعين ألفًا منذ الهجوم الذي أغضت عنه المنظمات الدولية واكتفت في استنكاره ببيان شاحب خافت.
إن من حقنا أن ندفع عن ديننا وعن أرضنا، وإنها لسفالة أن يطلب منا طالب أن نرتد عن إيماننا وأن نترك لغيرنا بلادنا.
لماذا يُباح لليهودي أن ينتمي إلى توراته، وأن يهتدي بنصوصها على تحديد الأرض التي يريدها من كياننا، ولا يُباح للمسلم أن ينتمي إلى قرآنه وهو يَرُدُّ هذا الاعتداء!(1/113)
لماذا يكون الإيمان من خلال تعاليم القرآن رجعية ممقوتة، ويكون الإلحاد من خلال تعاليم الماركسية تقدمًا محترمًا؟
إن الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة حتى يَظفَر الإسلام بحق الحياة لنفسه وأتباعه دون ضغائن وعوائق، ولسنا نُوجِب الجهاد لاضطهاد أقلية أو قسر الغير على عقيدة يأباها، بيد أن حق الحياة للإسلام وأمته مطلب منكور بغيض لدى الكثيرين، والاستعمار العالمي بشُعَبه كلها يمتد في فراغ وسط أمم استهلكها اتِّباع الشهوات وحب الدنيا وكراهية الموت!
وتوجد حرب دامية الآن بين مسلمي أفغانستان والاتحاد السوفيتي، وأعرف من المجاهدين رجالاً يقاومون ببسالة ما يُراد بهم، لكن ماذا يفعلون أمام أنواع من المبيدات الكيماوية والآلات الجهنمية في البر والجو؟
إننا ندفع ضريبة تخلُّفنا العام! والجهاد المُثمِر ينبغي أن يتجه إلى أسباب هذا التخلف العلمية والخُلُقية الموروثة والمجلوبة.
وبذلك ننجح في صد الطغاة ودحر العدوان.(1/114)
22ـ ما معنى أن الله جعل المسلمين أمةً وسطًا؟
قالوا من قديم: أن الفضيلة وسط بين رذيلتين. وسواء اضطَّرد هذا القول أم لم يضطَّرد فإن الحقيقة تضيع بين الإفراط والتفريط، والناس يعانون كثيرًا من الغُلُوِّ الشديد والإهمال البارد.
وعندما ظهر الإسلام كان اليهود معروفين بالحِرْص على الحياة والحب القوي للمال، وطلبه من الربا ومن وجوه السحت الأخرى، وكان المسيحيون يَرَوْنَ التقوى في الرهبانية والزهد واحتقار المال، حتى قيل في كتُبِهم: لأن يلج الجمل في سم الخيال أقرب من أن يدخل الغني ملكوت السماوات!
وجاء الإسلام فرفض المسلَكَيْنِ، وعدَّ المال وسيلة لما بعده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا المال خَضِر حُلو! ونعم صاحب المسلم، هو لمن أعطَى منه اليتيمَ والمسكينَ وابنَ السبيل. وإن من يأخذه بغير حق كمن يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة".
وكانت الصرامة والقسوة ملحوظتين في تعاليم اليهود، كأن التقوى عقوبة مرصَدة لكل ذنب، وكأن مرضاة الله لا تَتِمُّ إلا بواجبات جافة ومظاهر محبوكة، فجاء عيسى ـ عليه السلام ـ يتحدث عن القلوب الرقيقة والبشرية الضعيفة الفقيرة إلى عفو الله.
وقالوا: إنه ترك امرأة اقتِيدَت متَّهمة بالإثم، وقال لليهود: مَن كان منكم بلا خطيئة فليتقدم ليرجمها!
وجاء الإسلام فرفض العبادة المقرونة بالصَّلَف والاستعلاء على الناس! ويسَّر التوبة لكل عاثر وأمر بستره والتجاوز عنه! وأقرَّ العقاب لمَن يتبجَّح بجُرمه ويؤذي المجتمع بالإصرار عليه!
أي أنه رفض الطاعة المُستكبِرة، ورحم المعصية النادمة، وطلب الإصلاح المتواضع الرقيق! يقول علي بن أبي طالب: الفقيه كل الفقيه مَن لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمِّنهم مكره!(1/115)
والحق أن عيسى ـ عليه السلام ـ لم يَستهِنْ بجريمة الزنى، ولكنه كما روى الإمام مالك عنه يقول: لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلًى ومعافًى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.
والإسلام دين وسط يأمر الأمة بالتزام الصراط المستقيم ويُحَذِّرها من الخطوط المنحرفة يمينًا والمنحرفة يسارًا.
سئل ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: ما الصراط المستقيم؟
فقال: تركَنا محمد في أدناه، وطرفه في الجنَّة، وعن يمينه جوادُّ، وعن يساره جوادُّ ـ يعني طرقًا شتى ـ وثَمّ رجال يدعون مَن مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت بهم إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبِعوه ولا تتَّبِعوا السُّبُلَ فتَفرَّقَ بكم عن سبيلِه) (الأنعام: 153).
والغلوُّ في الدين قد ينتُج عن خطأ في الفكر أو عِوَج في الطبع، وغالبًا ما يَزيغ عن الحق وينتهي بالانسلاخ عن الدين الصحيح، لذلك يقول الله تعالى لنبيه: (قل يا أهلَ الكتابِ لا تَغلُوا في دينِكم غيرَ الحقِّ ولا تتَّبِعوا أهواءَ قومٍ قد ضلُّوا من قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواءِ السبيلِ) (المائدة: 77).
هناك مَن يبالغ في التعبُّد فينحرف يمينًا بالابتداع والحماس الكاذب، وهناك من ينحرف يسارًا بالإهمال المنتهي بالجحود والتمرد.
يقول الشيخ محمد عبد الله دراز:(1/116)
"كأنه أشار باليمين إلى طرَف الإفراط والتعمُّق في الدين، وباليسار إلى طرَف التفريط والتقصير، وكلاهما مُنحرِف عن سواء السبيل وعن الوسط الذي لا يميل إلى أحد الجانبين. ونحن لو تتَبَّعنا أنواع البِدَع والضلالات الاعتقادية وفتن الشبهات، التي أشارت إليها أحاديث افتراق الأمة على بضع وستين شعبة، أو البدع والضلالات العملية وفنون الشهوات التي أشارت إليها أحاديثُ فَتْحِ الدنيا وبَسْطِها لهذه الأمة وتنافسِهم فيها وجَعْلِ بأسهم بينهم الخ ـ لوجدناها لا تعدو هذين الطرفين".
إن الإسلام يجعل التوسُّط فضيلة في شئون الدين والدنيا جميعًا، ففي مجال التعبُّد يرفض الإسلام الجهد المُضني ويُؤْثِر الاعتدال المستمر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن لكلِّ شيءٍ شِرَّةً" حماسًا ونشاطًا "ولكل شِرَّةٍ فَترةٌ" برودًا وعجزًا "فإن صاحبُها سدَّد وقارَب فارجُوه، وإن أُشِيرَ إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوه".
وفي شئون الدنيا يكره الإسلام التبذير والتقتير ويحب الإنفاق المعقول، وقد وصف الله عباد الرحمن فقال: (والذين إذا أنفَقُوا لم يُسرِفوا ولم يَقتُروا وكان بينَ ذلك قَوامًا) (الفرقان: 67).
في مجال العلم الديني رأيت ناسًا مُتَبَحِّرين في المنقول والمعقول، بهم فقه واسع، ومحفوظات كثيرة، لكن قلوبهم يَشينها جفاف بالغ، تولَّى أحدهم القضاء، وقَدِمت إليه امرأة متهمة بالزنى، فما زال يستدرجها ويمكُر بها حتى اعترفت له، وحكم برَجْمِها، لأنها متزوجة!
قلت: هذا منهج يهودي، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرشد المتهم ليفر من العقاب ويتراجع عن قراره، ويتحايَل عليه لينصرف آمنًا.
أما هذا القاضي فإنه احتال على المُذنِب ليقتله! ليس هذا أسلوب الإسلام.
والعلة أن جانبًا آخر من الثقافة الإسلامية لم يُصلِح قلب الرجل فبَقِيَ معتلاًّ، ولو أَلِف "علم القلوب" وذاق الجانب العاطفي من الإسلام لستر وغفر، يستره الله ويغفر له!(1/117)
والمحزِن أن هناك انفصالاً في علومنا الدينية بين الفقه والتصوُّف، مما جعل المتصوفين يجنحون أحيانًا إلى الجنون، وجعل الفقهاء أحيانًا يمثلون القانون العاتيَ الأصم.
والوسطية فضيلة تبرز في توجيهات الإسلام الاجتماعية والاقتصادية، ففي العلاقة بين الرجال والنساء مثلاً أبى أن تكون المرأة حبيسة البيت أو طريدته! وأن تكون نظرة الرجل إليها نظرة السجان أو الصياد!
البيت هو المَحضَن الذي تتولى المرأة فيه تربية الجيل الجديد وتنشئته على تعاليم الدين وتقاليده، وليس البيت سجنًا كما تفهم ذلك بعض التقاليد السائدة عندنا، وليس ملتقًى عابرًا للأبوين والأولاد كما تألف ذلك أوربا حيث الأسر شكل لا موضوع له.
وللمجتمع العام حظٌّ من حياة المرأة، فهي تتعلم وتُعلِّم وتتداوَى وتأمر وتنهَى وتبايع، وقد تشارك الجيش في بعض الخدمات الطبية، وقد تقاتل إن اقتضى الأمر الدفاعَ، وينبغي أن تكون خبيرة بشئون أمتها الدينية والمَدَنِيَّة.
وهناك مَن يأبَى على المرأة هذا كله أو بعضه، في الوقت الذي أسرفت فيه المرأة الغربية إسرافًا شائنًا في الذوبان خارج البيت، وضد رسالتها الأولى.
لو التزمنا وسَطِيَّة الإسلام لكان ذلك أرضى لله وأسعد للأمة وأزكى للجنسين معًا.
وفي الناحية الاقتصادية أقَرَّ الإسلام حق المِلْكية الفردية، بيد أنه كبَح جماحَه بقيود الحلال والحرام، وانتقَص أطرافَه بحقوق الضعاف والمتعَبين.
وبذلك ضَمِن إنتاجًا غزيرًا لأن الحوافز قائمة، وحَفِظ الجماعةَ من التفكك لأن التواصيَ بالرحمة لم يَدَعْ ثغرة إلا سدَّها، ونجت الشعوب من الشيوعية الكافرة والرأسمالية الجائرة.
والمفروض أن المسلمين يتعلمون من نبيهم هذه الحقائق ويَعُونها ويطبقونها، فإن الله سائلهم عن الهدايات التي بلغَتْهم؛ هل انتفعوا بها ونفعوا بها الناس؟(1/118)
وما من أمة إلا وهي موقوفة لتُواجه هذا الحساب يوم القيامة: (فكيفَ إذا جِئْنَا من كلِّ أمةٍ بشهيدٍ وجِئْنا بكَ على هؤلاءِ شهيدًا) (النساء: 41).
نعم، ومحمد شهيد على المسلمين أنه أخذهم بتلك التعاليم الجليلة، وسيُدلي بهذه الشهادة أمام الله.
كما أن المسلمين سيُسْأَلون؛ هل علَّموا كما تعلَّموا؟
إن الأمم كلها مُكَلَّفة أن تسمع منهم وتستفيد!
وهم شهداءُ على الأمم لأنهم حمَلَة الرسالة العامة ومُبَلِّغو "الوسطية" التي شرحناها آنفًا، وكما كان محمد أستاذًا لهم فهم أساتذة لسائر شعوب الأرض!
ذلك معنى قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمّةً وَسَطًا لتكونوا شهداءَ على الناس ويَكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا) (البقرة: 143).
والمؤسف أن الأمة المكلَّفة بذلك فرَّطت في البلاغ والتعليم!
بل فرطت في العمل والتأسي بنبيها!
بل لقد أصبحت اليوم ذيلاً لأحزاب الميمنة والميسرة في الشرق والغرب ونسيت الصراط المستقيم!(1/119)
23ـ كيف يبني الإسلام الأمة المسلمة؟
أَلِفَ الناس في عصرنا أن يكون ولاء الإنسان الأول لوطنه وقومه!
حسنًا: ما الوطن؟
قطعة من الأرض تربطنا بها حقوق وذكريات!
لكن: مَن صاحب هذه الأرض ومالكها؟
(قل لمَنِ الأرضُ ومَن فيها إن كنتُم تعلمونَ) (المؤمنون: 84).
ومن خلق الأقوام الذين يَحيَونَ فوقها وشَدَّ أَسْرَهم ودبَّر أمرهم؟
(أَلَا إِنَّ للهِ مَن في السماوات ومَن في الأرضِ) (يونس: 66).
ألا تكون العلائق أوثق وأسبق بهذا الإله الخالق المالك؟
إن الإسلام حين يبني الأمة يجعل الإيمان العميق هو الدِّعامة الأولى في هذا البناء، ويجعل الولاءَ لله له الوظيفةُ الأولى للإنسان الراشد السوي.
إن عواطف من الربانية الغامرة هي التي تحرك المسلم وتحدد له غايته ومنهاجه، وهي عواطف تَتنامَى كلما سمع الأذان للصلوات الخمس، وكلما حجَزه إيمانه عن رغبة مجنونة، أو دفعه إلى عطاء سخي، أو وقفه ليشُدَّ أَزْرَ ضعيف، أو أغراه بالصياح في وجه منكَر!
إن الربانية التي صنعها الدين أنفس مَعدِنًا وأرجى ثوابًا من المواطَنة التي صنعها الناس، ومع ذلك فالمسلم أول المدافعين عن الوطن، وأول المحامين عن العشيرة، وأول القائمين بالحقوق المطلوبة من كل إنسان كريم، لأنه يأبى الضَّيم ويردُّ العدوان.
وبَدَهي أنه يكون ذلكم الإيمانُ هو الروح الساري في كيان الأمة كلها، والمُنْتَظِم للكِبَار والصغار والأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء.
وبعد أن يرسي الإسلام أسس هذا اليقين يفرض مبدأ الأخُوَّة (إنما المؤمنون إخوةٌ) (الحجرات: 10).(1/120)
والأخوَّة ليست لفظًا أجوف، إنها رَحِم دينية موصولة تُعطي ثمارًا أشهَى وأزكَى مما تُعطي الديمقراطية والاشتراكية في الميدانين السياسي والاقتصادي، إنها خُلُق فردي ونظام اجتماعي. وقد اعتمدت الدولة الإسلامية منذ نشأتها الأولى على هذه الأخوة في مواجهة ظروف الحرب والسلام، والإقامة والهجرة، واقتسام المغارم والمغانم، وتحمُّل الأعباء والواجبات.
ومن ينبوع الأخوة يَنبَجس رافدان من روافد العزة والاستقرار هما مبدأ التناصر ومبدأ التَّحابِّ.
أساس التناصُر أن المسلم لا يدع أخاه أبدًا يُحرَج أو يُذَل، ويمضي لشأنه تاركًا إياه يواجه وحده ما يقع له، كلَّا، يجب أن يَلزَمه ويُثبِّته ويدفع عنه، يحامي معه أو دونه.
والواقع أن أشجع الشُّجعان لا يستغني عن عنصر مادي يُسعِفه في الشدائد، إن المرء قد يغضب إذا أُهين، وقد يستعد للقتال إذا قُطع عليه الطريق، ولكنه يغضب ويستعد ويهجُم على المعتدي إذا كان معه سلاحه، والمؤمن سلاح لأخيه، وعَضُدٌ لها في الشدائد، والمؤمن بين إخوانه يتحرك بقُوَاهم كلها لا بقوته وحده، وهذا الشعور الجماعي من معالم الجماعة المسلمة.
قال عليه الصلاة والسلام: "المسلم أخو المسلم لا يَظلِمُه ولا يُسلمه..." وفي رواية: "المسلم أخو المسلم لا يَخذُله ولا يَكذِبه ولا يَظلِمُه، إن أحدَكم مِرآة أخيه" وقال: "مَن ذَبَّ عن عِرض أخيه ردَّ الله النار عن وجهه يوم القيامة".
على أن لهذه النصرة الواجبة صورًا مختلفة تقتضي التبصُّر والروية، فليس الأمر عصبية عمياء، كلاّ، المهم إحقاق الحق وإبطال الباطل، فعن أنس، رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" قيل: أنصره إذا كان مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تَحجِزه عن الظلم فإن ذلك نصرُه".
والاستعمار العالمي يجتهد في قتل مبدأ التناصر وفك تضافر الأمة، وقد أعانه على ذلك الاستبداد الداخلي.(1/121)
أو قل: إن الاستعمار سخر لكم الحكم الفردي لإشاعة الفتك والسفك ونشر العار والدمار، حتى كادت بعض الشعوب الإسلامية تفقد ملكة الشجاعة وعاطفة التعاضد والتناصر، فأصبح أحد لا يلوي على أحد!
ولكي نحيا لابد من إحياء مبدأ التناصر بين المسلمين جميعًا.
أما المبدأ الثاني من آثار الأخوة الإسلامية فقوامه التحابُّ لوجه الله، وجعلُ الانتماء إليه عاطفةً شريفة تعلو كلَّ الصداقة وتَرجَح كلَّ قرابة، ولذلك جاء في الحديث القدسي: "يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أُظِلُّهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلي".
والواقع أن الحب في الله يهوِّن مشاقَّ الحياة كما يهوِّن الحُدَاء مراحل الطريق ومتاعب العمل. وعندما يستوحش المرء من الناس، بل من نفسه، تجيء هذه العاطفة المباركة فتؤنِس البعيدَ، وتمنحه قوة على مواصلة العمل لله والجهاد في سبيله.
وتقديرًا هذه الحقيقة يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: "وجَبَت محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، وللمتجالِسين فيَّ، وللمتزاوِرين فيَّ، وللمتباذلِين فيَّ"، يعني من ينفقون أموالهم بسخاء إجابةً لهذه العاطفة حين تُفرَض النفقة!
وليس حب المؤمن لإخوانه نافلةً يتطوع بها إذا أراد، كلاّ، إنها أثر اليقين الناضج. ولا يَسُوغ أن يكون المؤمن ميت الإحساس؛ يتحرك لما يَعنيه ويَبرُد لما يَعني غيره، إن هذا الانحصار الشخصي هدم للجماعة وإضاعة للأمة. والمؤمن الحق يحب غيره كما يحب نفسه، في هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحَابُّوا، ألا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشُوا السلام بينكم".
وتحية الإسلام مفتاح التعارف، أو نقطة البدء في انخلاع المرء عن عزلته واهتمامه بإخوته، وفرحه بما يُفرِحهم وحزنه لما يُحزِنهم!(1/122)
ومن اللطائف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره بأنه يحبه" وقوله: "إذا آخَى الرجلُ الرجلَ فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممن هو، فإنه أوصل للمودة".
وفي كل مجتمع بشري أغنياء وفقراء، حتى المجتمع الشيوعي فيه من يصبرون كَرهًا على طعام واحد، ومَن يُطاف عليهم بالصِّحاف المنوَّعة، إن العلاقة بين هؤلاء وأولئك جديرة بالتأمل.
أيكون ذلك التفاوت مَبعثَ حقد؟
عند المؤمنين بالدنيا وحدها لا ريب أنه يُخلِف في النفوس آثارًا سيئة!
أما المشغولون بآخرتهم ـ إلى جانب دنياهم ـ فهم لا يأبَهون لذلك كثيرًا ما دام عند كل امرئ ما يَكفيه ويُغنيه، بل لقد وجدنا التنافس اتجه إلى ناحية أخرى؛ فقد شكا الفقراء إلى رسول الله أنهم متخلفون عن الأغنياء في مجال الإحسان! قد تجمعهم الصلاة والصيام ويتساوَوْنَ في الأجور، لكن الأغنياء يُعتِقون ويتصدقون ويجاهدون بمالهم ويُمكنهم التفوق الاقتصادي من أعمال صالحة كثيرة.
أرأيتُم فيم فكّر فيه القوم؟ إنهم لم يَشكُوا عَيلة في الدنيا ولا غَبنًا نزَل بهم، إنهم يفكرون في الآخرة، وتلك خاصة يمتاز بها مجتمع رباني.
جاء في السنة أن فقراء المهاجرين أتَوْا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العُلَى والنعيم المقيم! قال: "وما ذلك؟" قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتِقون ولا نُعتِق. فقال رسول الله: "ألا أعلمكم شيئًا تُدرِكون به مَن سبَقكم وتَسبِقون به مَن بعدكم، إلاّ من صنع مثل صنيعكم؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "تُسبِّحون وتُكبِّرون وتَحمَدون ثلاثًا وثلاثين مرة دُبُرَ كل صلاة" قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ـ يعنُون أنه بَقيَ لهم تفوقهم ـ فقال رسول الله: "ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء".(1/123)
إن هِمَّة المؤمنين تَنشُد الرضوان الأعلى ومنازل الآخرة، وهذه الصبغة الربانية صانت الأمة الإسلامية في ميدانين مهمين:
الأول: في تلقِّي العلوم الدينية وصيانتها وتعليمها للآخرين ابتغاء وجه الله.
والثاني: في الجهاد المتفاني لردِّ أعداء الإسلام، واستبقاء دولته قائمة مع إلحاح الغارات الصليبية والوثنية عليها.
إن النجاح في هذين الميدانين استَبقَى أصولَ الإسلام ومعالمه وغطَّى عيوبًا كثيرة نشأت عن مفاسد الحكم وشهوات الحكام.
وأمر آخر يظهر في ثبات البناء الإسلامي على تراخي الأزمنة؛ إن الإسلام عد العمل للحياة عبادة، وعد المالَ قيامَ الحياة وسياجَها.
وكان الصحابة يَقسِمون أيامهم، فيجعلون بعضها للبقاء مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعلمون ويقتدون، والبعض الآخر للضرب في الأرض يَكدَحون ويَكسِبون، فإذا غابوا عَهِدوا إلى إخوانهم الحاضرين أن يحفظوا لهم ما يَجِدُّ من وحي وسنة، ليعرفوا بعد عودتهم ما هنالك، ثم يردون الصنيع لإخوانهم إذا غابوا.
ومن ثَمّ لم يَقَعْ قط أن كان المسلمون في الشئون المدنية أخفَّ كِفّةً أو أسوأ حظًّا، والدين لا يتم تحصينه إلا بدنيا قائمة وسناد مدني متين!(1/124)
24ـ كيف يبني الإسلامُ المسلمَ القوي في مواجهة متغيرات العصر؟
لا أظن الإنسان المعاصر يختلف عن الإنسان القديم الذي خاطبه أنبياء الله من عشرات القرون! ولا أظن إنسان هذا العصر مكلَّفًا بوظيفة أخرى غير الوظيفة التي كُلِّف بها الإنس والجن من فجر التاريخ، والتي أوضحها القرآن في هذه الكلمات الوجيزة: (وما خلَقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليَعبُدونِ) (الذاريات: 56).
إنه هو الإنسان السوي القِوَام، الخَصِب المواهب، المفضَّل على مخلوقات أخرى تملأ البر والبحر، الذي حمل وحده أمانة التكليف، وقدَر على الترفع والإسفاف والتقوى والفجور!
نعم، هناك أمور جديدة في هذا العصر؛ فقد تقدم العلم، واكتُشِفت كثير من أسرار الكون وقواه، وارتقت الصناعة، واختُرِعت آلات وأجهزة رفهت المعايش، ويسرت للإنسان في لحظات ما كان يعجز عن تحصليه في سنوات.
كما افتَنَّ الإنسان في صناعة آلات الفتك والدمار الشامل، حتى لأمست الحروب تُؤذِن بانتهاء العمران البشري.
وازدهرت العلوم الإنسانية وطَمَحت أن تقود العالم أجمع في شئونه الأدبية والاقتصادية والسياسية... الخ.
ماذا يصنع الإنسان المسلم وهو يواجه هذا الجديد كله؟
إنني لخبرتي الحسنة بالإسلام لا أشعر بقلق ما على إيماني أو منهجي في الحياة، لكني أشعر بأن الإسلام هو الدين الأوحد لمواجهة هذا العصر!
أليس عصر العلم؟
بلى، وكذلك ديني دينُ العلم الذي أهاب بالناس أن يبحثوا كل شيء: (أَوَ لَمْ يَنظُروا في ملَكوتِ السماواتِ والأرضِ وما خلَق اللهُ من شيءٍ) (الأعراف: 185).
إن العلم مؤمن لا مُلحِد، وهو يدعو إلى الإيمان لا إلى المروق! وما كفر العلم ـ في الأعم الأغلب ـ إلا بما يجب الكفر به من كَهَانات وخرافات ومتناقضات! وأنا أؤيده في ذلك كله!(1/125)
إنني أرى بَلادة الكفر ضربًا من الحيوانية، أو هي اقتراب منها! أليس يقول ربي: (إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عندَ اللهِ الصُّمُّ البُكمُ الذين لا يَعقِلون) (الأنفال: 22).
وقد تابعتُ استطلاع الآراء بين جماعات علمية في أوربا وأمريكا فرأيت الكثرة الكبرى تؤمن بالله، ووجدت قلة مُتَوَقِّفة حائرة، ووجدت نُدْرة تافهة زائغة القلب لا عقيدة لها.
فالزعم بأن جمهور العلماء لا دين لهم كذب، أو شائعة تُنشَر لغرض خسيس!
إن روحي تعشق المعرفة كما يعشق الجسم وجبة شهية، ومن محبة العلم يجيء هذا الدعاء: (وقل ربِّ زِدْني علمًا) (طه: 114)
وعلى المسلم إذا أحب مرضاة ربه أن يزداد تضلُّعًا في العلم واستكشافًا لآفاقه.
وما يُسمَّى بالعلم المادي ـ أعني العلم الباحث في ملكوت الله ـ أرجح موضوعًا وأطيب ثمرةً من الفلسفات الشَّرُود التي شاعت قديمًا وحديثًا، ولم تكسب الإنسانية منها إلا الحيرة والجدل والغرور.
أما التقدم الصناعي الذي نعَّم الإنسان وأراحه فهو خير كثير ونعمة جديرة بالشكر الجزيل، ألم تر أن الله ـ تبارك اسمه ـ كي يرغِّب آدم في الطاعة أسكنه الجنة وقال له: (إن لك ألاّ تَجوعَ فيها ولا تَعرَى. وأنك لا تَظمَأُ فيها ولا تَضحَى) (طه: 118،119) أي لا تَتكلفِ الكَدحَ في وَهَج الشمس فتَتَصببَ عرقًا ويُحوَّلَ لونُك وراء لقمة العيش.
من قال: إن الإنسان يحب الوَصَبَ والنَّصَبَ وركوبَ المشقات إذا كان هناك ما يغني عنها؟
والمرء الآن ينتقل من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، وهو جالس في كرسي وثير يتناول ما يشاء من طعام وشراب، تشق الطائرة به الجو فإذا هو بعد ساعات بين أحبته!
ماذا كان يفعل أجدادنا عندما يُغبِّرون أقدامهم وتتغير ملامحهم ويتعرضون للحتوف في هذه الأسفار المُعنِتة؟
الحق أن هذا المتاع الميسَّر لنا ما يَنقُصُه إلا شكرُ الله على ما هدَى وأسدَى!(1/126)
وعلى المسلم أن يجيد هذه الصناعات المحدَثة، وأن يَألَفَ استخدامها واستصلاحها، وأن يتفوق على جن سليمان الذين قال الله فيهم: (يَعمَلون له ما يَشاءُ من مَحَاريبَ وتَماثيلَ وجِفَانٍ كالجَوَابِ وقُدورٍ راسياتٍ اعمَلوا آلَ داودَ شُكرًا وقليلٌ من عباديَ الشَّكورُ) (سبأ: 13)
نعم، إن المهارة في تلك الصناعات المدنية مِهادٌ لابد منه لإجادة الصناعات العسكرية التي تحتاج إليها حروب البر والبحر والجو.
إنني أكره الحروب، ولا أتمنى لقاء العدو، ولكن ماذا أصنع إذا اجتاح الطغاة ديني وبلدي وأرادوا إثبات باطلهم ومَحْوَ حقي؟
ماذا أصنع إذا كان هناك مَن يحرق الثمار حتى لا يَرخُصَ سعرها ولا يَرَى أن يُطعِمَها الجياعَ؟
ماذا أصنع إذا وُجِد مَن مَلأ مِن خيرِ اللهِ فمَه، فإذا حدثته عن الله رد يدَه في فمي لأخرَسَ عن الكلام؟
لا حلَّ إلا القتال، ولا يَقدِر على القتال مَن يَعجِز عن صنع أدواته.
إن المهارة هنا دين، والصبر جهاد! وكما يقول شوقي:
الحربُ في حقٍّ لديكَ شريعةٌ ومن السموم الناقعات دواءُ!
من ناحية أخرى يجب التنويه بالشأو البعيد الذي بلغته الحضارة الحديثة في التنظيمات السياسية والاقتصادية والإدارية التي تحرك الجماهير وتوجهها إلى أهداف مرسومة.
إن من وراء هذا النجاح تقدمًا عظيمًا في دراسة العلوم الإنسانية كلها، حتى كادت هذه العلوم تكون "الشريعةَ" التي تلتزمها أوربا في أحوالها الخاصة والعامة.
وهذه العلوم ليست إلا فروعَ الفلسفة القديمة بعد إدخال المنهج العلمي عليها، أو بتعبير أصح: "على بعضها" لأن هناك نظرات في علوم التربية والاجتماع والاقتصاد بعيدة عن الدقة العلمية.
وأرى أن نستفيد ـ نحن المسلمين ـ من هذه الدراسات ومن تطبيقها في ميادين الحياة.
إن ضوابط الشورى هناك نجحت في محق الحكم الفردي وإعلاء سلطات الأمة.
لِمَ لا نستفيد من ذلك؟(1/127)
وحماية المال العام ـ من الساسة المَهَرة في اختلاسه أو الموظفين المحبِّين للسُّحت ـ بلغت منتهى الدقة.
لماذا لا نُقَلِّد القوم في تلك الوسائل الناجحة؟
لست أجهل أن لدينا من علماء الدين مَن يكره العلوم الإنسانية وما نشأ عنها؛ لأنه يَقصُر نظرته على ما بها من أخطاء، ولأنه يرى أن هذه العلوم تتحدث في النفس الإنسانية والمجتمع البشري، وقد قال الدين كلمته في هذه النواحي كلها.
ومعاذَ الله أن نُهمل كلمة الدين في قضية نفسية أو اجتماعية! إننا نقتبس من جهود البشر ما يُحَقِّق الأهداف التي يتفق عليها العقل والنقل، وإذا سبقَنا غيرُنا إلى عمل ما يحقق العدالة فنحن أولى به.
هل امتنع نبينا عن حفر الخندق؛ لأنه خطة فارسية أو حيلة لم تألفها العرب؟ كلاّ. والحضارة الحديثة ـ برغم مقابحها الكثيرة ـ تجاوبت مع العقل والفطرة في ساحات علمية ودستورية واسعة، من حقي أن أترك شرها وأقبل خيرها.
وربما يدفعني إلى هذا أن الدين أُصيب بمتحدثين عنه يجهَلون جوهره، ويكترثون للمظهر المُلصَق به، وليس غالبًا منه.
سمعت رجلاً يقول بفخر: إنه أقنع أحد الأميركيين باعتناق الإسلام، وأن الداخل في ديننا بلغ من تقواه أنه اقتنع بلبس الجلباب الأبيض!
قلت له في أسًى وسخرية: هل اقتنع بلبس العِقال؟
قال: ما تعني؟
قلت: ما دخل الملابس في ديننا؟ ولماذا لا تترك الرجل يرتدي زيه القديم، ويعرف الناس من سمته وسيرته وشرف فكره وخلُقه أنه مسلم؟
إن الإسلام لا يُؤخَذ من فقهاء البدو ولا من عسكر الترك ولا من دراويش التصوف!
لماذا ننسى فرائض ديننا وفضائله الأولى ونُعلِّق الناس بتقاليد جنس ما، أو بخصائص عصر ما؟
عرفت "إنجليزيًّا" أسلم وتصوف وانتمى إلى الطريقة النقشبندية! وأشهد أنه كان إنسانًا طيبًا، بيد أني يئست من أنه سينفع الإسلام بشيء طائل!(1/128)
إن عدد المسلمين المهاجرين إلى إنجلترا يبلغ المليونين، وهم ضِعْف اليهود الإنجليز، ولكن أثر اليهود في ميدان الثقافة والسياسة والاقتصاد بعيد المدى عميق الأثر، يكادون يوجهون إنجلترا كلها.
أما المسلمون الذين حمل أكثرهم جنسية إنجليزية فلا وزن لهم في شيء!
إنهم ـ مثل غيرهم ـ لا يحملون الإسلام النازل من السماء، وإنما تَستبد بأفكارهم وأحوالهم قضايا دخيلةٌ وإضافات تافهة.
إن الإسلام يُصفِّي القلب من الأهواء، والعقل من الأوهام، ويرُصُّ صفوف المؤمنين بعدئذ في جهاد موصول لإعلاء كلمة الله.
أما مع فساد الفطرة واعوجاج الفكر، فلا مكان لإسلام.(1/129)
25 ـ لماذا كان الحل الإسلامي لمشاكلنا هو الأفضل والأمثل والأنجع؟
الشعور عام بأن الأمة الإسلامية تعاني في العصر الأخير من عِلَل مُعَقَّدة ومعضلات اجتماعية كثيرة!
كانت الحكومة الخلافة العثمانية تُسمَّى "الرجلَ المريضَ" ثم ذهب الرجل المريض، واقتَسَمَت تَرِكتَه حكوماتٌ أخرى! فهل شُفِيَ الحُكمُ العليلُ، وصحَّت الشعوب المريضة، وأصبح الشرق الإسلامي مَوَّارًا بحركات الإصلاح ووثَبات النهوض؟
لا أظن أن الحاضر ليس خيرًا من الماضي، فالمسلمون جميعًا والعرب خاصةً يترنَّحون أمام ضربات "إسرائيل" التي أقامت سطوتها على أنقاضهم المادية والأدبية.
ولا يزعم عاقل أن هذه الحالة تدل على عافية وسلامة أوضاع!
إن الرجل المريض عاد مرة أخرى في أشخاص رجال يحكمون أممهم كَرهًا! ويعالجون عللها بجهل! ويُسكتون الناصحين بكبر! ويُفلسفون الهزائم المُخزِيَة حتى يَبقُوا في الحكم إلى أن يَقضيَ الله أمرًا كان مفعولاً!
نظرتُ يومًا في برنامجِ رجلٍ يدَّعي الإصلاح، كان شيوعيًّا يستر نفسه بعناوين مزورة، فقلت: تجربة فاشلة!
وسألني سائل: لماذا؟
فقلتُ: هل يُمكِن أن يُزرَع الشاي في الشرق الأوسط؟
لا، لا التربةُ تَقبَل البَذْر، ولا الجو يُعين على النمو، إنه جُهد ضائع!
قال: إن الجيش معه، والصحافة معه، و...
قلتُ: لو كان كل شيء معه فالتجربة فاشلة.
قد يَملِك الأجسام ولكنه لن يَملِك القلوب! قد تحُفُّه طوائف من المُرْتَزَقَة وهُواة الكسب الحرام، ولكنه عند الجِدِّ سيفقد كل شيء!
إن هذه الأمة الإسلامية لا تصلُح إلا بدينها وحده، بعد استكمال العناصر الناقصة منه ـ وهي خطيرة ـ وبعد استبعاد الخُرافات المُلْصَقة به، وهي كذلك!
إن أمتنا بطبيعتها سوف تستعصي على كل حل غير إسلامي، وسوف تُبذَل المحاولات الدامية لإكراهها على تجرُّع أدوية لا تريدها، وسوف تتبَّدد الطاقة ـ طاقة الشعب والدولة معًا ـ بين الأخذ والرد!(1/130)
وفي غضون هذا التناقض الداخلي يكسب الاستعمار العالمي معاركه ويفرض نفسه.
وهنا حقيقتان تحتاجان إلى الشرح:
الأولى: أن الإسلام صَدَى الفطرة الإنسانية، وخلاصة ما قال النبيون كلهم لكبح جماح البشر وهداية العالم إلى ربه الواحد.
إن الإسلام لم يجئ لهدم موسى أو عيسى، بل جاء لإحياء ما قالوه وضاع في غمار الماضي (ما يُقالُ لك إلا ما قد قيل للرسلِ مِن قبلِكَ إِنَّ ربَّك لَذُو مغفرةٍ وذو عقابٍ أليمٍ) (فصلت: 43)
فإذا كان الإسلام رسالة لإصلاح العالَم بوحي الله، فكيف يعجِز عن إصلاح الأمة التي حمَلته وبلَّغته؟
والحقيقة الثانية: أن العرب ما دخلوا التاريخ إلا بهذا الدين، وما عُرفَت لهم حضارة، وتمت لهم قيادة، وتحققت لهم سيادة إلا تحت راية الإسلام، فكيف تُكلَّف أمة بنسيان شخصيتها وحضارتها وتاريخها؟ إن هذا تكليف لها بالانتحار! وتلك هي المهمة القذرة التي ينفذها بعض الساسة المرتدين.
إن العرب عاشوا بلا دين أيام آبائهم؛ عاد وثمود ومَديَن، فبماذا جُوزُوا؟ رجَفت بهم الأرض ورجَمتهم السماء حتى بادوا وتطهَّرت منهم الدنيا.
ثم اختار الله محمدًا وقومه لإقامة حكم صالح مصلح، أساسه القرآن العربي، ومنهج محمد الهادي المُلهَم، وقال الله ـ سبحانه ـ للإنسان الذي ناط به إصلاح الأرض: (وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًّا ولئن اتَّبَعت أهواءَهم بعدَ ما جاءَكَ من العلمِ ما لكَ مِن اللهِ من وليٍّ ولا واقٍ) (الرعد: 37).
فكيف يُكلَّف أحدُ أتباعِ محمد بترك ما لديهم من علم، واتِّباعِ الأهواء الراسخة من شرق أو غرب تحمل الشر والشرر؟
إن العرب لا يَصلُحون إلا بالإسلام وحده! هو الذي أذهب جاهليتَهم وأخرجهم من الظلُمات إلى النور.
والمرْء قد يَعرِض له ذهول فيكبو ثم يَفيق فيُبصِر الطريق، كما قال تعالى: (إن الذين اتَّقَوا إذا مسَّهم طائفٌ من الشيطانِ تذكَّروا فإذا هم مُبصِرون) (الأعراف: 201).(1/131)
وكذلك العرب قد يَفقِدون رشدهم حينًا ويُفسدهم الترَف والبطَر، ثم تصحو ضمائرهم فيتوبون، أو تظل قلوبهم قاسية حتى تنهال عليهم سياط الغزو الخارجي، وتجوس الأعداء خلال ديارهم، وعندئذ يَكويهم الندم ويسارعون بالعودة إلى الله فيَقْبَلُهم ويرد لهم الكرة على أعدائهم.
واليوم نريد أن نَنفُض تراب الهزيمة عنا وأن نستأنف مسيرتنا كما كنا، أعني كما كان سلفنا الأوائل الكبار.
لا بد لذلك من عناصر مُعِينة لا يصنعها إلا الإسلام.
نريد العاملين الذين يرقُبون الله في الخَلَوات، فلا يَكسَلون عن واجب، ولا يَخُونون في أمانة، ولا تمتد أيديهم إلى رشوة، ولا يبحثون عما لهم ويتجاهلون ما عليهم.
نريد أساتذة وطلابًا يسعدون بالمعرفة، ويَلْتَذُّون بالبحث، ويحترمون الكتاب، ويرون الدراسةَ عبادة، والسهرَ في التحصيل تهجُّدًا، ونَفْعَ الأمة بأي نوع من العلوم قربَى إلى الله.
نريد زُرّاعًا وصُنّاعًا وتُجّارًا يُنمُّون اقتصاد أمتهم كما يُنمُّون ثرواتهم، ويُدركون أن غنى الأمة يجعلها قادرة على صون شرفها وحفظ حقوقها، وأن الجهاد المالي صِنْوُ الجهاد النفسي، وأن الأمم التي تتسوَّل الإعانات من الدول الكبرى لن تعلوَ لها رسالة ما دامت يدها السفلى.
نريد ناسًا يحافظون على المال العام، ويشعرون بحق الله فيه، وأن الآخذ منه دون وجه حقٍّ غَلول: (ومن يَغلُلْ يَأتِ بما غَلَّ يومَ القيامةِ ثم تُوَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسَبَت وهم لا يُظلَمون) (آل عمران: 161).
نريد حكَّامًا لا يعبدون أنفسهم! يبرءون من جنون العظَمَة وشهوة السلطة، ويعرفون أن كل رئيس يجيء يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عنقه، فكَّه عَدلُه أو أوبَقه جَورُه، كما جاء في الحديث الشريف.
إن حكَّام المسلمين من زمان قريب آذَوْا اللهَ ورسوله، واستهلكوا شعوبهم حتى فَنِيَت ـ أو كادت ـ خصالُ الإباءِ والأنَفَةِ لطول إذلالِهم لمن أعز الله وإعزازِهم لمن أذل الله!(1/132)
إن الإسلام وحده هو صانع هذه العناصر التي لا تَتِمُّ لنا حياة إلا بها، والأمر كما قال الله: (إن اللهَ لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسِهم) (الرعد: 11).
ربما استطاعت أمم أخرى أن تعيش قصيرًا أو طويلاً وَفْقَ فلسفات مادية أو خلُقية لا صلة لها بالسماء! لكنّ أمتنا تحوَّل مِزاجها وكِيانها إلى جهاز فريد لا يدور فيه إلا مفتاح واحد هو الإسلام، وستذهب جميع المحاولات الأخرى سُدًى لا محالة.
ثم مَن مِن أهل المِلَل والنِّحَل ترك دينه؟
لقد أقبل اليهود في موكب تُظِله صحائف التوراة والتلمود، ويتقدمه صخب من مزامير آل داود، ورأى الناس بين القطبين الشمالي والجنوبي هذا الولاء الديني العاصف فما أنكروا له صيحة مع أنها صيحات جزَّارين، ودِيسَتْ مُدنُنا وقُرانا فما رَثَى لنا أحد!
فهل كل ولاء مقبول إلا الولاء للإسلام؟ وهل كل حل حسن إلا الحل الإسلامي؟
لقد آنَ الآوان ليَختفيَ إلى الأبد أولئك الساسة العرب الذين يكرهون الإسلام، ويطلبون من أمته أن تدير ظهرها لكتاب الله وسنة رسوله.
الواقع أنهم ثرثروا أكثر مما يُطاق، وطال بقاؤهم أكثر مما ينبغي.
على أن الحل الإسلامي المنشود يُخشَى عليه من التزوير في أيام اعتُقلَت فيها الحقائق، وتجرأ المُفتُون الكَذَبة على التزوير وتصوير الإسلام دينًا لا يحترم الشورى مثلاً، أو لا يعترض استغلال النفوذ، أو لا يكترث لهضم الجماهير.
إن الحل الإسلامي لا يحتاج إلى عبقرية في تصوُّره وتصويره، لأنه سهل المأخذ من مصادر الإسلام المعصومة، والواقع أن العوائق دون تحكيم الإسلام خُلُقية لا علمية، وأن الحل الإسلامي يعرفه أهل الذكر، ولكنْ إبعادُهم مقصود مرسوم.(1/133)
إن "المراكسة" في الصين وروسيا شَكَوْا من تحكُّم الفرد، ومع أن نُظُمَهم بطبيعتها استبدادية فقد قرروا أن تدور شئونهم في وسَط جماعي، يتم فيه تبادُل الآراء والبحث عن الصواب. وأسرة الدول الأوربية تأبى أن ينتسب إليها إلا الحكَّام "الديمقراطيون".
ليس هناك إلا العالَم العربي والإسلامي الذي يعيش وحده في ضباب من الدعاوَى والتُّرَّهات، إنه وحده دون أقطار الأرض كلها هو الذي يقول فيه حاكم: أنا صانع القرار. وهو وحده الذي يُسمع فيه أن الحاكم لا يُسأل عما يفعل! إن الإسلام غريب في هذا الجو الآسِن الكَرِيه، والحل الإسلامي لا يُؤخَذ من أفواه الجهَّال والكذَبة.(1/134)
26 ـ ماذا صنع الإسلام لحفظ العقل والنفس والمال؟
ألِف الناس أن تكون العبادات أقرب إلى شئون الغيب عنها إلى دائرة المنطق، لكني أرى غير هذا؛ فأنا أنادي إلى الصلاة لا بدقات طبل ولا بزمارات إنذار وإنما صوت يشدني من عقلي! وعندما أنصرف من صلاتي لا أُجزَى إلا بما عقَلتُ منها!
والدين الذي اعتنقته قام على معجزة عقلية تعرِّفني أن الله واحد في الأرض والسماء، لأنه: (لو كانَ فيهما آلِهَةٌ إلا اللهُ لفَسَدَتَا فسبحانَ اللهِ ربِّ العرشِ عما يَصِفون) (الأنبياء: 22).
وفي القرآن مئات الآيات التي تتحدث عن العقل ووظائفه والأساليب الصحيحة لاستدلاله وبعده عن الأوهام والظنون. وقد أحصيت في مقال لي ستة عشر آية تنوِّه بأولي الألباب وترى أنهم هم الناس حقًّا! وهل الإنسانُ إلا عقلُه؟ ما أصدَقَ قولَ المتنبي:
لولا العقولُ لكان أدنَى ضَيغَمٍ أدنَى إلى شرفٍ من الإنسانِ
ومن أجل ذلك يرى الإسلام ضرورة صقل العقل وتوسيع آفاقه وزيادة إشراقه بأنواع العلوم والتجارب. إن الأعمار العقلية للناس تنقص أو تزيد وَفْقَ ما يُفيدون من تجربة ويتلقَّون من تعليم.
والحق أن الأمم تتقدم أو تتأخر بمقدار أنصبتها من العلم وقدرتها على تحويله إلى حضارة مثمرة. والعقل الصحيح هو الذي يقرأ آيات الله في الكون كما يقرؤها في المصحف.
أما التخلف العقلي فستارة تُسدَل على البصائر والعيون فلا تكشف سرًّا ولا تَدعَم حقًّا (أفلم يَسيروا في الأرضِ فتَكونَ لهم قلوبٌ يَعقِلون بها أو آذانٌ يَسمَعون بها فإنها لا تَعمَى الأبصارُ ولكنْ تَعمَى القلوبُ التي في الصدورِ) (الحج: 46).
إن الأمم المتخلفة عقليًّا كالأطفال الذين لم يبلُغوا الحلم يوضعون في وصاية الكبار حتى يَنضَجوا. وربما كَرِهت الأمم المتخَلِّفة هذه المنزلة المَهينة، بيد أن سنن الله الكونية تفرض نفسها طوعًا أو كرهًا.(1/135)
وقد رأيت عابِدِين في أفكارهم ـ لا في قاماتهم ـ قِصَرٌ فشعرت بخيبة الأمل، لأن هؤلاء العابدين كانوا بلاءً على دينهم، وربما ضرُّوه من حيث أرادوا نفعه، لأنهم كالدُّبَّة التي قتلت صاحبها!
يُصقَل العقل خلال مراحل الدراسة المُتَتابِعة، ويُصقَل العقل بالحفاظ على سلامة الحواس وعافية البدن. ويُحفَظ بازدراء المسكِرات والمخدِّرات والمفتِرات التي تنال من وعي المرء وكرامته. ويُحفَظ قبل ذلك وبعده باستلهام الرشد واستمداد النور منه سبحانه! وقد وردت في ذلك توجيهات كله من الكتاب والسنة يطول سردها.
وننتقل من صَوْن العقل إلى صون النفس.
إن احترام الإنسانية كلها يبدو في احترام فرد واحد، قال تعالى: (من أجل ذلك كتَبْنا على بني إسرائيلَ أنه من قتَل نفسًا بغيرِ نفسٍ أو فسادٍ في الأرضِ فكأنما قتَل الناسَ جميعًا ومَن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعًا) (المائدة: 32).
وجاء الإسلام فجعل النفس الإنسانية أقدس من الكعبة المشرفة ومن الأشهر الحرم؛ قال عليه الصلاة والسلام: "... ألا وإن اللهَ حرَّم عليكم دماءَكم وأموالَكم كحُرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا، ألا هل بلَّغتُ؟" قالوا: نعم. قال: "اللهم فاشهَد" ثلاثًا "ويلكم لا تَرجِعوا بعدي كفّارًا يَضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ".
ونظر عبد الله بن عمر إلى الكعبة وقال: ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. حرمة دمه وماله وعرضه!
ومقتضى الإيمان ألا يكون المؤمن مصدر إفزاع أو ترويع لغيره، ومن جوامع الكلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمانُ قَيدُ الفتكِ، لا يَفتِك مؤمن" يعني: كما تَربِط الأغلالُ يدَي الرجل فلا يَقدِر على عمل شيء، يُقيِّد الإيمانُ يدَي المؤمن فلا يعتدي على نفس، المؤمن أشرف من أن يفتك بأحد!
وفي الحديث كذلك: "قتلُ المؤمن أعظمُ عند الله من زوال الدنيا".(1/136)
"لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار".
ويرى الإسلام من المحافظة على الحياة أن يَعتنيَ المرء بصحته، ويَستكملَ أسباب عافيته، ويَهتمَّ بحواسِّه وأعضائه وسائر بدنه، فإن البدن القدير على أداء الواجبات الناهض بشتى الأعباء من أجَلِّ النِّعَم!
وقد كان من أدعية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اللهم متِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتِنا ما أحيَيْتَنا، واجْعَلْه الوارثَ منَّا" أي: استَبْقِيها ما دامت الأرواح في الأجساد، حتى إذا متنا خلَّفناها في أبداننا فوَرِثَتنا، بدل أن نَرِثَها ونحن على ظهر الأرض.
ومن المحافظة على الحياة تَوَقِّي الأمراض وتناولُ الأدوية، وقد رفض عمر السفر إلى أرض موبوءة بالطاعون! قيل له: تفِرُّ من الله؟ قال: أفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله.
وقد أصاب أمير المؤمنين السنة، وأخذ كلمته أحدُ العارفين فولَّد منها هذه الحكمة: "الرجلُ كلُّ الرجل مَن يغلِب قَدَرَ الله بقَدَرِ الله".
إن الله يُمَهِّد للإنسان السبيل، وعليه بعدئذ أن يُقدِم لا أن يَحجِم، وهذا معنى قول الله في ذي القرنين: (إنا مكّنّا له في الأرضِ وآتيناه من كلِّ شيءٍ سَببًا. فأتبَعَ سَببًا) (الكهف: 84،85).
إن النفس شيء غالٍ، وقد كرمها الإسلام فلم يُهنها، وصانها فلم يَضَعْها حتى تؤديَ في الحياة رسالتها.
ويجيء بعد النفس المالُ، وهو قِوَام الحياة الشخصية والعامة. فما من أحد يستغني عن المال، ليَطعَمَ ويَلبَسَ ويَقُوتَ عياله ويَصونَ مروءته. وما من أمةٍ تستغني عن المال، لتحميَ كيانها وتدبر مصالحها وتَستبقيَ ذاتها.
ولذلك أُمِرنا بتأثيله وتنميته، ونُهينا عن جعله بين أيدي السفهاء، فلا يُحسنوا التصرف فيه ولا الإفادة منه، قال تعالى: (ولا تُؤتوا السفهاءَ أموالَكم التي جعَل اللهُ لكم قيامًا) (النساء: 5).(1/137)
ونظرًا لِمَا للمال من آثارٍ خاصةٍ وعامةٍ طلب الإسلام من صاحبه أن يرد عنه عدوان الغاصبين، ولو بذل دونه دمه! روى النسائي عن مُخارق بن سليم الشيباني، أحد الصحابة، قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، الرجل يأتيني ليأخذ مالي! قال: "ذكِّره بالله" قال: فإن لم يَذَّكَّرْ! قال: "فاستَعِنْ عليه من حولك من المسلمين" قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: "فاستَعِنْ عليه بالسلطان" قال: فإن نأى السلطانُ عني؟ قال: "قاتِل دون مالك حتى تكونَ من شهداء الآخرة أو تَمنعَ مالَك": تحميه.
وقد روى مسلم في صحيحه حديثًا يؤكد هذا المعنى، ويحكم بالشهادة لمن قتل دون ماله!
وإنما ذكرنا ذلك ليعرف المسلمون قيمة المال وضرورة حفظه والذود عنه!
تُرى أيوصي الشارع بهذه الاستماتة في شيء تافه؟
كلا، كلا.
إنه لولا خطورة المال في الحياة الخاصة والعامة ما فُرض القتال دونه.
ومعنى إيجاد المال وتحصينه إيجادُ منابعه وتفجيرها. وهل منابع المال إلا الضربُ في الأرض، واستغلالُ ظاهرها، واستخراجُ باطنها، واستثارةُ البر والبحر ليجودا بخيرات الله المودَعة فيهما؟
والحق أن المال سلاح رهيب، والسلاح لا يُحمَد أو يُعاب لذاته! ولكن يُحمَد في يد الشجاع المدافع عن حقوقه، ويُذَم في يد الظَّلوم المعتدي على غيره!
إنه وسيلة إلى الجنة أو إلى النار، بطريقة استخدامه (فأما مَن أَعطَى واتَّقَى. وصَدَّق بالحسنَى. فسنيسرُه لليسرى. وأما مَن بَخِلَ واستَغنَى. وكذَّب بالحسنى. فسنُيَسِّرُه للعُسْرَى. وما يُغني عنه مالُه إذا تَردَّى) (الليل: 5 ـ 11)
وقد نظر بعض الجُهَّال إلى المال في أيدي الأشرار وكرهوه؛ لأنهم يستعينون به على الفجور والفساد، ثم شرعوا ينظمون قصائد طويلة في هجاء المال وحسن التخلي عنه! حتى وَهِم العوامُّ أن المال شر في كل يد، وأن البُعد عنه غنيمة!(1/138)
ومعنى البعدِ عنه البعدُ عن مصادر كسبه وأسباب اقتنائه، وشاع هذا الفكر الغوغائي بين الجماهير، فإذا المسلمون من بضعة قرون لا يحسنون استخراجَ مَعدِن من الأرض، ولا إجادةَ صناعة من صناعات السلام أو الحرب!
وإذا هم يَحسَبون الصَّعلَكة تَقوَى، والافتقارَ في الدنيا هو الاغتناء في الآخرة، وسجلوا في بعض كتب السنة والتصوف أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر!
ونشأ عن هذه الجهَالات السائدة في مصادر الثقافة الدينية انهيار شامل للعالم الإسلامي لأن مواهبه الدينية والمدَنِية تبلَّدت وفسدت.
حتى الأقطارُ التي رُزقَت سَعَةً في ثروتها تَيسَّر لها ذلك من جُهد الأجانب في تحصيل خيراتها واستخراج كنوزها!
إن العقل الإسلامي تحيط به غشاوات سميكة، ولابد من تمزيق هذه الغشاوات إن أردنا الحياة، ولابد من مطاردة الغوغاء الذين فرضوا أنفسهم على الثقافة الدينية، وهم لا يصلحون لا لدنيا ولا لدين.(1/139)
27 ـ ما دَوْر الإسلام في ترشيد الضمير الإنساني؟
نظرة الإسلام الأولى إلى القلب الإنساني ـ أو الضمير كما يقول علماء الأخلاق ـ فإن سلامة هذا القلب من العلل وثبات وجهته إلى الخير تعني الكثير من توفيق الله ورضوانه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الله لا ينظُر إلى صُوَركم وأموالكم ولكن ينظُر إلى قلوبكم وأعمالكم، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره.
نعم، فالصدر المنشرح بالحق المستقر على النهج يُؤتَمَن على الدقيق والجليل، ويَضَعُ طابعَه الطهورَ على كل شيء، وتحُفه بركاتُ الله؛ لأن صلته به قائمة دائمة.
ونحب أن نسوق أمثلة تُبَيَّن كيف يكون القلب سليمًا أو كيف يكون الضمير نقيًّا:
المرءُ في طفولته ويَفَاعته قد يحب الظهور، ويَسُره سماعُ الثناء عليه، وقد يبذل جهودًا شاقة في هذه السبيل.
إن الرياء ليس مستغرَبًا على الطبيعة البشرية، فإرضاء الناس هدف حقيقي في المراحل الأولى من العمر، ثم يَكبَر المرء وتسمو نظرته ويتجه إلى الله. إن المرائيَ لا يَرَى إلا الناس، فهو يعمل لهم. أما المخلِص فهو يَرى رب الناس، ولذلك يعمل له.
ويتعهد الدين هذا التسامح، فهو يوصي بتمحيض العمل لله؛ لان الإنسان إذا أشرك الناس مع الله في طلب الرضا رفض الله عمله!
إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له وحده، ومن ثَمّ تَرى المؤمنَ حقًّا يُجيد عمله ويؤدي واجبه، سواء رآه الناس أم لم يَرَوه، وسواء أَثنَى عليه رؤساؤه أم ضاقوا به، إنه يُحسن الصنيع على أية حال وفي أي وضع.
والإنسان بطبيعته يحب أن يُكافَأ على عمله ماديًّا أو أدبيًّا، وربما ترك العمل إذا لم يَجدْ له جزاءً عاجلاً، وقد يتراخى فيه أو لا يكترث بإجادته إذا كان الجزاء قليلاً أو مؤجَّلاً. لكنه إذا صدَق يقينُه أحسن أداء واجبه، وادَّخَر ثوابه عند ربه، وعَدَّ ما يقبضه في اليوم الآخر أضمَنَ وأبقَى!(1/140)
عملُ الضمير هنا تثبيتُ المرء على الوفاء بما عليه ولو غَمِطه الناس، وفي الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للأنصار: "إنكم ستجدون أَثَرَةً بعدي" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "أدُّوا الذي عليكم، وسلُوا اللهَ الذي لكم".
الواجب يؤدَّى على وجهه الكامل، وحسابي على الله والأمرُ له!
إن الانبعاث إلى العطاء يجب أن يكون بدوافع ذاتية، غايتها استرضاء الله وإن جحد الخلق (الذي يُؤتِي مالَه يَتزكَّى. وما لأحدٍ عندَه من نعمةٍ تُجزَى. إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأعلى. ولَسَوْفَ يَرضَى) (الليل: 18ـ21).
قال المؤرخون: لاحظ صلاح الدين وهو يقاتل الصليبيين أن النار اشتعلت مرتين في معسكرات الأعداء مخلِّفةً وراءها الدمارَ والقلق، وبينما هو يرقُب جهة العدو لاحظ أن النار بدأت تشتعل، ورمق الفاعل ـ بعد ما بدأ الحريق ـ يَتحيَّز إلى جنْد المسلمين، فأمَر فجيء به، فلما مثَل بين يديه قال له: ما اسمك؟ قال الرجل: يَعلَمه الله. قال له صلاح الدين مُطَمْئنًا: إني أريد مكافأتك. قال الرجل: لو أردتُ المال ما جئت هنا. وانصرف لشأنه!
هذا جندي باسل حضَر الوَغَى ليُقاتل في سبيل ربه، واكتَفَى وهو يناضل العدو بنظر الله إليه، فلما استدعاه السلطان كَرِه أن يَنال على جراءته ثمنًا، حسبه ما عند الله!
والحق أن انتصارَ المسلمين، وفَتْحَ بيت المقدس، وكَسْرَ حِدَّة الغارة الحاقدة، وجَمْعَ فُلُول الأمة الممزقة ـ كان مِن ورائه عدد من ذوي الضمائر الموصولة بالله الراغبة إليه، قامت بعملها في صمت وعزلة وعفة.
لعل السلطان نفسه كان يضيء الطريق لهذه القلوب الطيبة حين قرر أن يشارك في حمل الأحجار على عاتقه بكرة وأصيلاً، ولو شاء لأصدر الأوامر وراقب المنفِّذين، إنه أبَى إلا أن يسُد الثغرات ويَشيد الحصون بنفسه مع جيشه!(1/141)
ونتدبر عبارة القرآن في وصف هذه الضمائر البارئة من العلل، قال تعالى: (يومَ لا يَنفَع مالٌ ولا بنونَ. إلا مَن أتَى اللهَ بقلبٍ سليمٍ) (الشعراء: 88،89)
سليم من أوضار الغش وجنون العظمة ولفت الأنظار!
إن الشخص الذي لا يعمل أو لا يجيد عمله إلا ابتغاءَ ثناءٍ يسمعه أو مالٍ يأخذه لن يعمل شيئًا طائلاً إذا انقطع الثمن وابتعد الناس!
ومعنى هذا أن الخير عنده عَرَضٌ عابرٌ لا باعثٌ أصيل، إن قلبه في الحقيقة ناضب من حب الخير والاندفاع الذاتي إليه، إنه قلب غير سليم.
وربما خامَرَت القلبَ تطلعاتُ دنيا إلى مال أو جاه، بيد أن الإيمان يطاردها ويَبقَى الضمير متشبثًا بربه مؤثِرًا له، وهذا معنى قوله تعالى: (مَن خَشيَ الرحمنَ بالغيبِ وجاء بقلبٍ منيبٍ. ادخلوها بسلامٍ ذلك يومُ الخلودِ) (ق: 33،34) .
إنه ليس غريبًا على النفس أن تحب المال والجاه، بيد أن هذه المحبة يجب أن تنهزم أمام وجه الله وارتقابِ جَدَاه!
ولو نقَّبنا عن أسباب الزلازل التي تهُز كِيان الأمم لوجدناها تلك الضمائر الميتة، تلك القلوب التي تَيَبَّست، فهي لا تَرشَحُ بنُبلٍ، ولا تَهِشُّ لفضيلة، ولا تَشمئزُّ من قبيح.
وقد ذكرت السنَّة الشريفة أمثلة للضمير الحي عندما يتغلَّب على المُغرِيَات ويهزم الوساوس ويسبح بقوة ضد التيار وينجو:
فعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ثلاثةٌ يُحبهم اللهُ، وثلاثةٌ يُبغضهم اللهُ:
فأما الثلاثةُ الذين يُحبهم: فرجلٌ أتى قومًا فسألهم بالله، ولم يسألهم بقَرابة بينه وبينهم، فمنَعوه، فتخلَّف رجل بأعقابهم فأعطاه سرًّا، لا يَعلَم بعطيته إلا اللهُ والذي أعطاه.
وقومٌ ساروا ليلتهم، حتى إذا كان النومُ أحبَّ إليهم مما يُعدَل به فنزلوا، فقام رجل يَتملَّقني ويتلو آيات الله.
ورجلٌ كان في سَرِيّة، فلقيَ العدوَّ، فانهزَموا، فأقبَل بصدره حتى يُقتل أو يُفتح له.(1/142)
وأما الثلاثةُ الذين يُبغِضهم الله فالشيخُ الزاني، والفقيرُ المختال، والغنيُّ الظلوم".
وظاهرٌ أن الثلاثة الآخرين ماتت قلوبهم، فاستمرءوا الرذائل مع ضعف الأسباب التي تَدفَع إليها.
ومن صور الضمائر الحية ما ذكرته أحاديث أخرى، عن الرجل يَقدِر على الفاحشة، ولكنه يدوس مغرِياتها، ويستبقي نفسَه طاهرًا، وصلتَه بالله زاكية.
وصورة هذا الرجل الذي استأجر عاملاً عنده، فأدى واجبه، ثم عرَض له ما صرَفه قبل أن يأخذ أجره، وبعد سنين طِوَال رجع العامل يطلب حقه الذي تركه من زمن بعيد!
كان رب المال قد أدار الأجرة في عمله، فنمت حتى أمست ثروة، فلما جاء العامل أعطاه الأصل والنماء، والعامل مدهوش!
إن الإيمان يضع ضوابط صلبة للسلوك، ويجعل من القلب دَيدَبانًا صاحيًا يحرُس الحقوق والواجبات، فلا حَيفَ ولا فوضَى!
وبعض الأنظمة تجعل من سلطان الدولة شبحًا رهيبًا يَحمِل الناس حَملاً على العمل والإتقان!
فهل تم ذلك؟
لا، لأنه ليس في مقدور نظام ما أن يضع شرطيًّا مع كل عامل في الأرض أو في المصنع لينشط، ومع كل مقاول حتى لا يغش، ومع كل طبيب حتى لا يتهاون، ومع كل تاجر حتى لا يحتكر، ومع كل رئيس حتى لا يستبد ويَطغَى.
وإذا خان الشرطي فهل يجيء له بشرطي آخر؟
قد يقال: إن رفع المستوى الثقافي وتبصير الكبار والصغار بما ينبغي وما لا ينبغي يمكن أن يمنع هذه المحذورات.
والواقع أن الجرائم الكبرى لم يقترفها إلا مجرمون على حظ كبير من المعرفة، وأن النضج العقلي لا يستلزم الطيبة والإخلاص والشرف، وكم من أذكياء أساءوا إلى أنفسهم وأممهم (أفرأيتَ مَن اتخَذ إلهَه هواه وأضَلَّه اللهُ على علمٍ وختَم على سمعِه وقلبِه وجعَل على بصَرِه غشاوةً فمن يَهدِيه من بعدِ اللهِ أفلا تَذكَّرون) (الجاثية: 23).
إن القلب النقي، الغيورَ على الحق، الحريصَ على الشرف، القاهرَ للأَثَرة، المحِبَّ للناس ـ لا يصنعه إلا إيمان وثيق، وتعلق بالله وحده.(1/143)
والواقع أن حديث القرآن عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعن تاريخ الماضين الطويل، وعن البعث والحساب والثواب والعقاب، وما شرَعه الله سبحانه من عبادات كثيرة ـ إن ذلك كله عناصر لضمان سلامة القلب، واتجاهه الثابت إلى الحق والخير.(1/144)
28ـ ما موقف الإسلام من العنصرية السائدة في بعض الحضارات؟
ظهر خلال هذا القرن الزعيم الألماني "هتلر" يزعم أن الدم الآري أرقى من غيره، وأن الشعب الألماني بطبيعته يَرجَح غيره من الشعوب السامية ـ يعني اليهود والعرب وأشباههم ـ وتحوَّل هذا الزعم إلى عقيدة تساند مشاعر الكبرياء ونزعة السيادة عند الألمان ومن على مستواهم.
وهذا كلام خرافي لا وزن له! وإن كان راسبًا لا في نفوس الألمان وحدهم، بل في نفوس الأوربيين وأفراد الجيش الأبيض عمومًا!
إن بني آدم من ناحية الخِلقة يستوون في أنهم نفخة من روح الله الأعلى حلت في إهاب من تراب هذه الأرض، فالبشر كلهم يَنمِيهم أصل واحد، ويجمعهم نسب مشترك. قال تعالى يشرح تلك الحقائق: (الذي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خلَقه وبدَأ خَلقَ الإنسانِ من طينٍ. ثم جعَل نَسلَه من سلالةٍ من ماءٍ مَهِينٍ. ثم سوَّاه ونفَخ فيه من روحِه وجعَل لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلاً ما تَشكرون) (السجدة: 7ـ9).
لا فروق بين جلد أبيض أو أسود أو أصفر أو أحمر، إن هذه الألوان المختلفة تشابه ما تراه العيون من اختلافٍ في ألوان الأزهار والورود، ولا دلالة على عراقة أو تفاهة.
بيد أن كثيرًا من الناس يسُرُّهم أن يختلقوا من عند أنفسهم هذه الفروق، وأن يقيموا حولها عصبيات، وأن يجعلوا لها وزنًا خاصًّا في التقديم والتأخير، والقبول والرفض.
وقد رأيت البعض يتشبث بهذا الأوهام لأنها رجَّحَت كِفَّته دون جُهد! ومنَحته شرفًا جعله ـ دون حركة ـ يسبق الناشطين! إنه لشيء ظريف أن يحسَب المرءَ سيدًا لأنه تكوَّن في بطن معيَّن، ونشأ الناس من ماء مَهِين، أما هو فمن ماء شريف.(1/145)
إنه ـ مع احترامنا لقوانين الوراثة ـ نقرر أن الوراثة لا تُنشئ عظمة ولا تُكسب نجاحًا، فهناك أنبياء من أصلاب كافرة، وهناك فُجَّار من أصلاب أنبياء، وقد كان أبو الطيب شاعرًا مُفلِقًا من أب لا يعرف شعرًا ولا نثرًا، وكان أبو العلاء فيلسوفًا متشائمًا من أب لا يدري شيئًا من الفلسفة.
ثم إن روافد الوراثة غامضة المنبع والكُنْهِ في أبناء الجيل الواحد، فكيف إذا تكاثرت الأجيال؟
ونحن نعرف النكتة المروية عن امرأة جميلة أحبت عبقريًّا دميمًا وعرَضت عليه الزواج لينجبا ابنًا يرث جمالها وذكاءه! فقال لها الرجل: أخشى أن يرث غباوتك ودمامتي!
إن القول بأن جنسًا ما ذكيٌّ بأصل الخِلْقة، وجنسًا آخر غبيٌّ بأصل الخلقة قول فيه ادِّعاء ظاهر. إن ظروف البيئة هي التي تصنع الأعاجيب، وهي التي تَنمي المواهب أو تقتلها، بل هي التي تحيي الفطرة أو تميتها.
والجنس الأبيض الذي يعمُر غرب أوربا وشمالها، والذي يفرض وصايته على العالم كله، كان أيامًا طوالاً يشتهر بالغباوة والانحطاط، وقد نقلنا في كتابنا "مع الله" كلام المستشرق "فليب حتِّي" عن تأخر الأوربيين الحضاري وتفوق عرب الأندلس عليهم:
"... في الوقت الذي كانت فيه جامعة "أكسفورد" ترى الاستحمام عادة وثنية، كانت الأجيال من علماء قرطبة تتمتع بالاستحمام في مؤسسات فاخرة..."
ويدلنا على موقف العرب حيال برابرة الشمال ـ هكذا كان آباؤنا يسمون سكان أوربا ـ وفكرتهم عنهم ما ورد في كلام عالم "طليطلة" صاعد القاضي المتوفَّى سنة 1070م فقد كتب عنهم:
إن إفراط بُعد الشمس عن مُسامتة رءوسهم برَّد هواءهم وكشَف وجوههم فصارت لذلك أمزجتهم باردة وأخلاطهم فِجّة! فعظمت أبدانهم وابيضت ألوانهم وانسدلت شعورهم وانعدمت دقة الأفهام وثقوب الخواطر، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشا فيهم العمَى والغباوة.
أرأيت هذا الوصف؟(1/146)
إنه لأهل أوربا الذين يقودون العالم الآن، وليس للهنود أو الزنوج أو العرب، أو بقية العالم الثالث!
والعالَم اليوم ينظر إلى هزائم العرب أمام اليهود ويبتسم ساخرًا!
وقد كان آباء أولئك المهزومين يحتقرون الجُبن اليهودي ويبرءون منه، ويقولون لنبيهم في أول قتال له مع الوثنية: لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، إن خضت بنا هذا البحر خضناه معك، ما يتخلف منا أحد!
إن الإسلام بيَّن أن الأفراد والأجناس يصنعون يومهم وغدهم بأنفسهم، وهم في سباق مفتوح يتقدم فيه من شاء ويتأخر فيه من شاء لا مدخل للون أو عرق (إنها لإحدى الكُبَر. نذيرًا للبشر. لِمَن شاءَ مِنْكُمْ أن يَتقدم أو يَتأخر) (المدثر: 35ـ37) فقد يسبق الأسود في الدنيا والآخرة، أو يقع العكس. وقد تَرجَح كِفّة رجل من سواد الناس وتطيش كِفّة آخر من أبناء الرسل أو العكس (والوزنُ يومئذٍ الحقُّ فمن ثَقُلَت موازينُه فأولئك هم المفلحون. ومن خفَّت موازينُه فأولئك الذين خَسِروا أنفسَهم بما كانوا بآياتنا يَظلمون) (الأعراف: 8،9).
وجاء في السنة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبه قومه: "لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم". وقال: "من أبطأ به عمله لم يُسرِع به نسبُه".
وهذا مصداق الآية الشريفة: (فإذا نُفِخَ في الصورِ فلا أنسابَ بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون) (المؤمنون: 101) .
وقال تعالى: (ولكلٍّ درجاتٌ مما عَمِلوا وليُوَفِّيَهم أعمالَهم وهم لا يُظلَمون) (الأحقاف: 19).
ومع كثرة ما نبه الإسلام إلى مبدأ: (إنَّ أكرمَكم عندَ الله أتقاكم) لوحظ أن العرب يغالون مغالاة منكَرة بالأنساب والحِرَف، ويجعلونها محور تقدير جائر وعصبيات عمياء.(1/147)
الزراعة مهنة تافهة، وكلمة "فلاح" لامرئٍ نازلِ المرتبة، وقد كان الفرزدق يهجو جريرًا بأن أباه حدّاد! أما هو فإن الذي سمَك السماءَ بنى له بيتًا دعائمه أعز وأرفع!
بِمَ؟
بغير شيء!
وفَرَضت تقاليدُ البدو نفسها على المجتمع العربي، بل على جانب من الفقه الإسلامي، فإذا عدد كبير من رجال الفقه يرون أن الهاشمية لا يكافئها عربي عادي، وأن العربية لا يكافئها أعجمي.
وحكم القضاء الشرعي بتطليق فتاة من أسرة شريفة النسب تزوجت بالشيخ علي يوسف محرِّر صحيفة "المؤيَّد" المشهورة.
أما حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا أتاكم مَن تَرضَون دينَه ومروءتَه فزوِّجوه، إلا تَفعَلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير" فقد وُضع على الرف!
وكما تسللت هذه التقاليد إلى ميدان الفقه تسللت إلى ميدان الحكم والسياسة، فكانت عصبيات القبائل قديمًا وعصبيات الأسر حديثًا من وراء طلب الرياسة وبسط النفوذ.
وعندما يُبحَث سبب فساد المجتمع الإسلامي وانهيار الحضارة الإسلامية عمومًا فستكون هذه الجاهليات من أبرز العلل.
وإلى يوم الناس هذا لا تزال الكفاءة الشخصية تؤخَّر أمام مكانة العائلة وقيمة النسب!
ذلك في وقت يشيع في أرجاء العالم تنافس لا حدود له في البحث العلمي والإنتاج الغزير، وتجويد السلع، وكشف المجهول، ومراقبة الخصوم، وكسب الأصدقاء.
إنه تنافس ترتبط به مصائر أمم ومستقبل رسالات!
تُرَى ما موقفنا؟
جاء في السنة عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديًا: ألا إني جعلت نَسَبًا وجعلتم نَسَبًا؛ جعلتُ أكرمَكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان. فاليوم أرفع نَسَبي وأضع نَسَبَكم، أين المتقون"!(1/148)
وعن جابر: خطبنا رسول الله في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: "يا أيها الناسُ، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فَضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى، إن أكرمَكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغتُ؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "فليُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ".
وروى أبو هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لَيَنتَهيَنَّ أقوامٌ عن الفخرِ بآبائهم الذين ماتوا ـ إنما هم فحمُ جهنمَ ـ أو ليَكونُنَّ أهوَنَ على اللهِ من الجُعَلِ الذي يُدَحرِجُ النَّتْنَ بأنفِه. إن الله أذهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ" أي كِبرَها "وفَخرَها بالآباء، إنما هو مؤمنٌ تقيٌّ أو فاجرٌ شقيٌّ. الناسُ بنو آدمَ وآدمُ من ترابٍ".(1/149)
29 ـ ما موقف الإسلام من مظاهر الحضارة الحديثة؛ السينما والمسرح والموسيقى، والفنون جميعها؛ كالرسم والنحت والتصوير؟
الحضارة الحديثة نتاج تقدم علمي باهر، وصل إليه الإنسان بعد قرون من البحث المضني والتجارِب الغالية! ولم يكن عجبًا أن يستغل الإنسان كشوفه لأسرار الكون وقواه الخفية في تَرْقية نفسه وترقية معايشه، بل إن ذلك أقرب إلى الحكمة من استغلال هذه الكشوف في تدمير الحضارة نفسها وتيسير الانتحار الجماعي على الناس!
وأحسَب أن التقدم الصناعي العام وفَّر للجماهير مُتَعًا ما كان يحصل عليها الملوك الأقدمون!
الأطعمة أنعَمُ، والأشربة صنوف، والملابس تَفضُلُ الحريرَ نسجًا ولونًا ورِقَّةً، وأدوات النقل أغنَت عن الخيل والبغال والحمير، والقِيَانُ التي كان تغنِّي في مقاصير الأمراء انتقل صوتها إلى الأكواخ، ونام على لحنها العمال والفلاحون، والمرء في المشرق يكلم صاحبه في المغرب بثمن ميسور، وربما بلغ الناس من الرفاهة درجة أعلى وملَكوا غدًا أنصبة أكثر!
ومع هذا كله فالأعصاب مشدودة، والأطماع طاغية، والبكاء على القليل المنشود يفسد السعادة بالكثير الموجود، وتحاسد الأفراد والأقطار أشعل البغضاء هنا وهناك!
وقيل في وصف العالَم: إن عضلاته أكبر من فكره.
ولو أنصفوا لقالوا: إنه عالم يَذكُر نفسه، ويَنسَى ربه، ويَجحَد حقه، ويُماري في لقائه، ويَظن أن هذه الدنيا كل شيء، فلا امتداد لوجود آخر، ولا حياة إلا هنا!
وأنا رجل مسلم أحب الحياة وأبتهج بطيباتها!
إن الله استضافني في كونه وأطعمني خَيرَه فمن السفاهة أن أرفض الكرم المبذول، ومن السفاهة كذلك أن أَضَنَّ بشكر المُنعِم!
إن الله ـ تبارك اسمه ـ يعطي الفضل ولا يطلب إلا الاعتراف بالجميل، فهل هذا ثمن فادح!
يبدو أن ناسًا كثيرين يَعِزُّ عليهم دفع هذا الثمن (وقليلٌ من عباديَ الشَّكورُ) (سبأ: 13).
على ذلك الأساس أنظر إلى ما قدمته الحضارات قديمها وحديثها!(1/150)
إنه ـ كما علمني الإسلام ـ لي وليس لغيري، أليس يقول الله: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا)؟ (البقرة: 29)
ومن ثَمّ فالأصل في الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بنص قاطع.
والواقع أن نفرًا من سَوْدَاويِّ المزاج أُولِعوا بالتحريم، ومنهجهم في الحكم على الأشياء يخالف منهج نبي الإسلام ـ عليه الصلاة والسلام ـ الذي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه.
روى أنس بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تُشدِّدوا على أنفسكم فيُشدَّد عليكم، فإن قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشُدِّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والأديرة، رهبانيةً ابتدَعوها ما كتبناها عليهم".
وقد شاعت المدنية الحديثة "الراديو والتليفزيون" وغيرهما من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهي على سواء، ومعروف أن هذه الأجهزة أدوات غير مسئولة عما يَصدُر عنها، وأن المسئولية تقع على المؤلِّفين والمغنِّين والمخرِجين، ففي استطاعتهم أن يقدموا النافع ويَحجُبوا الضار!
لقد كان من المستطاع أن نتوسل بهذه الأجهزة لإشاعة اللغة السليمة وتذوق الآداب الرفيعة وحماية الأخلاق ودعم التقاليد الفاضلة. بل كان من الممكن أن نُدَرِّب الألوف على إتقان حِرَف نحن محتاجون إليها، وأن نرفع مستوى الأداء لأشغال كثيرة، فإن البطالة السافرة والمقنَّعة تَفتِك لدينا بأعمار الناس.
كان من الممكن أن نحارب عادات ضارة مورثة أو مستوردة انتشرت بيننا ووَقَفَت مسيرتَنا، إن وسائل الإعلام لو أحسنّا استغلالها تصنع الكثير، ولكن ذلك لا تستطيعه إلا أمة تُحِسُّ أن لها رسالة في الحياة، أما الأمة الذَّنَبُ فقد سقط عنها التكليف لأن غيرها يشدها.
قد يُفهَم من ذلك أني أحارب الغناء والموسيقى والترويح عن النفس.
لا، ولكني ألحظ أن الأمة العربية والإسلامية تريد أن تعمل قليلاً وتغنِّي كثيرًا، والاستجمام حقُّ المُرهَقين لا حق القاعدين!(1/151)
أما الغناء فكلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، ومَن غنَّى أو استمع إلى غناء شريف المعنى طيب اللحن فلا حرج عليه! وما نُحارب إلا غناءً هابطَ المعنى واللحن.
لم يَرِدْ حديث صحيح في تحريم الغناء على الإطلاق، وقد احتج البعض بقوله تعالى: (ومِن الناسِ مَن يَشتري لهوَ الحديثِ ليُضِلَّ عن سبيلِ اللهِ بغيرِ علمٍ ويَتَّخذَها هُزُوًا أولئك لهم عذابٌ مهينٌ. وإذا تُتلَى عليه آياتُنا ولَّى مُستكبِرًا كأنْ لم يَسمَعْها..) (لقمان: 6،7).
ولَعمري إن مَن يشتري جِدَّ الحديث أو لهوَه للأسباب المذكورة في الآية جديرٌ بسوء العقاب.
أما مَن يريح أعصابَه المكدودة بصوت حسن ولحن جميل فلا علاقة للآية به، وكما يقول ابن حزم: لو اشترى مُصحَفًا للإضلال فهو مجرم.
ويبدو أن اقتران الغناء ببعض المحرَّمات ـ من خمر وفُحش، وما يُشاع عن البيئة الفنية من تحلُّل ـ هو الذي جعل عددًا من العلماء يحرمه، وإلى هذه الجملة من الرذائل يشير حديث البخاري إلى من يستحلون الخِزَّ والحرير والخمر والمعازف.
بيد أنه ليس من الضروري أن تجتمع هذه العناصر كلها عند سماع أغنية.
وعلى أية حال فإذا كان الغناء مقرونًا بتلك المحرَّمات فهو مرفوض، أما إذا برئ منها فلا شيء فيه.
والموسيقى كالغناء. وقد رأيتُ في السنَّة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مدح صوت أبي موسى الأشعري وكان حلوًا، وقد سمِعَه يَتغنَّى بالقرآن، فقال له: "لقد أُوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود" ولو كان المزمار آلة رديئة ما قال له ذلك.
وقد سمع رسول الله صوت الدف والمزمار دون تحرج.
ولا أدري من أين حرَّم البعضُ الموسيقى ونفَّر من سماعها؟
على أن الألحان تختلف في تأثيرها وصداها النفسي، فإذا كان هناك مجال لاعتراض فعلى الأصوات الخَنِثة والألحان الطرية المائعة.(1/152)
ونعود إلى ما بدأنا من موضوعنا، وهو أن أمتنا بحاجة إلى الكثير من الجِدّ والقليل من اللهو، ولو رُزِقنا بفنانين ذوي شرف ومقدرة لأمكن تحويلُ الفنون إلى عواملَ للبناء لا للهدم، ولإثارة المشاعر النبيلة لا إهاجة الغرائز الدنيا.
أما الصور فيجب أن نفرق بين نوعين:
المجسَّم الذي يصنعه المثَّالون الآن لأغراض شتَّى.
والرسوم التي تُوضَع على المسطَّحات من أوراق وأقمشة وغير ذلك.
والتصوير سواء كان شمسيًّا أو فلميًّا هو جزء من الطب والأمن والعلوم الكونية والحيوية والتاريخ والشئون الاجتماعية الكثيرة، والأصل فيه الإباحة، لحديث مسلم "إلا رَقْمًا في ثوب" ولحديث رَزِين: سئل ابن عباس عن أجرة كتابة المصحف، فقال: "لا بأس إنما هم مصوِّرون، وإنهم إنما يأكلون من عمل أيديهم".
ولم يقل أحد إن صورة الوجه في المرآة محرمة، ولا يقول أحد إن إثباتها بطريقة أو بأخرى تحول المباح إلى محرم.
ولا يَحرُم من هذا النوع إلا ما حمَل طابعًا دينيًّا لعقائد يرفضها الإسلام؛ كصور بوذا، أو إبراهما، أو صُلْبان النصارى، أو أي شعار ديني يخالف التوحيد.
كما يَحرُم أي تصوير يُخِلُّ بالآداب ويحرك الغرائز إلى المعصية.
أما التماثيل المجسَّمة فإن النصوص الواردة تتظاهر على رفضها، ما لم تكن ألاعيبَ للصبية أو عرائس هَزْلية؛ كحلوى المناسبات المختلفة، فإن أحدًا لا يفكر في توقيرها أو عبادتها.
ولقد رأيت بعيني منَ يعبدون هذه الأصنام في جنوب آسيا! ورأيت في مصر من يُحيِّي بخشوعٍ تمثالاً لعبد الناصر! وذلك أثناء نقله من مكان إلى مكان.
وأعرف أن هناك من رجال الفتوى من يُحرِّم التصوير كله سواء كان مجسَّمًا أو كان رسمًا على ورق، وأخشى أن يكون سوق النصوص مقطوعةً عن ملابساتها سببًا في ضياع الدين والدنيا معًا!
ولنضرب مثلاً بالمرويات التي جاءت في قضية البناء:(1/153)
روى الشيخان عن خبّاب بن الأرَتِّ قال: "إن المسلم يُؤجَر في كل شيء يَنفعه إلا في شيء يجعله في هذا التراب".
وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "النفقة كلها في سبيل الله، إلا البناءَ فلا خيرَ فيه".
وأخرج داود عن أنس ـ أيضًا ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أما إن كل بناء وبالٌ على صاحبه إلا ما لا" إلا ما لا بد منه.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مرَّ بي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا أطيِّن حائطًا من خُصٍّ، فقال: "ما هذا يا عبد الله؟" فقلتُ: حائط أُصلحه! فقال: "الأمر أيسر من ذلك" وفي رواية: "ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك". يعني الموت أو الساعة. والحديث رواه أبو داود وصححه الترمذي.
هذه الآثار كلها لو أُخذت على ظاهرها ما بُنيَت مدينة ولا قرية! ولعاش الناس في أكواخ لا تستر العورات إلا بجَهد!
والواقع أنها واردة في المكاثرة والمفاخرة والاستطالة على الناس!
وبناء القصور جائز بلا ريب!
فهل الذين يحرمون التصوير مطلقًا يحرمون بناء القصور؟
إنهم في بعض البلاد لا يزالون يَرَون الصورة في التليفزيون محرَّمة، وأقمار الأجانب تلتقط الصور لنا في أيام السلام والحرب على سواء، ونحن ندري أو لا ندري.(1/154)
30 ـ كيف أعلن الإسلام حقوق الإنسان؟
خلق الله الإنسان ليُكرَّم لا ليُهان، ولتسجد له الملائكة لا ليعيش مع الحيوان! ومع أن الإنسان يعاني على الأرض ما يعاني فهو مع بني جنسه إذا صلَحوا واستقاموا أفضلُ عند الله من ملائكة السماء، وقد قال الله سبحانه: (ولقد كرَّمْنا بني آدَمَ وحمَلناهم في البرِّ والبحرِ ورزَقناهم من الطيباتِ وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلَقنا تفضيلاً) (الإسراء: 70).
ولكن المُتَأَمل في تاريخ البشر يجد أن جماهير كثيفة طحنها الذل والضياع! ربما أهزلها الجوع، والدوابُّ تجد ما تأكله! وربما فقدت حقوقها المادية والأدبية وعاشت كسيرة أسيرة، وغيرُها من الطير والحشرات ينطلق دون قيد!
مَن الذي أنزل بالبشر هذه الكوارث؟
لم يفعل ذلك مَلَك ولا جن، لم يفعل ذلك ماء ولا هواء!
إن الذي فعل ذلك بعض البشر، ناس لديهم فضول سلطة أو ثروة، استغلوا سلطانهم وغناهم في إيذاء الآخرين والحَيف عليهم.
ومضت قافلة البشرية من قديم تتعسف الطريق، وتكابر الوحي، وتعارض الإنصاف، وتدفن الأخلاق، وتفرض الأهواء. وأخيرًا استطاع نفر من أولي العزم وحُماة الحقيقة أن يُقلِّموا الأظفار الحادة، وأن يرِّوضوا الطبائع النَّهِمة، وأن يضعوا دساتير حسنة ترد المظالم، وتحمي الضعاف، وتصون الحقوق في أسلوب مفصَّل أوحت به سلسلة التجارب الطويلة في محاربة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والانحراف الخلقي.
وعندما ننظر إلى المواد التي تضمنتها هذه الدساتير نعرف بدقة ما هي الحقوق التي يطلبها الإنسان والتي لا يزال الكثيرون يشكون فقدها!
إن المادة الأولى في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان تنص على أن الناس يولَدون أحرارًا، يتساوُون في الحقوق والواجبات. وكون الناس يولَدون أحرارًا متساوين كلمةٌ نطق بها عمر بن الخطاب ارتجالًا لا إعدادًا ولا تكلفًا، بل انطلاقًا من الفطرة الإسلامية!
ولكن هذه الكلمة ظلت دهرًا نظرية خيالية!(1/155)
فكم من أناس وُلدوا ولهم حقوق ليست لغيرهم!
وكم من أناس وُلدوا مُثقَلين بواجبات ليست على غيرهم!
وكم من وظائف تفاوتت الفرص في شغلها، واختير لها من ليس لها بأهل!
ولا تسأل: كيف؟
فإن ناسًا قبلك تجرَّءوا على السؤال فلم يُوقَف لهم على أثر، أو عاشوا ناكسي رؤوسِهم لفرط ما حل بهم.
إن القدرة التي يملكها البعض ولا يدري كيف امتلكها فعلت مآثمَ ومناكِرَ لا حصر لها. ومع أنه الله ـ وهو المقتدر الأعلى ـ لا يظلم أحدًا في الملكوت الذي تفرد بحكمه، وقال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تَظَالموا" مع ذلك فإن مُلاّك السلطة والثروة دأَبوا على الظلم في أقطار كثيرة، وبعدَ لأْيٍ قَدَرَت الجماهير على تقييدهم بالدساتير والمواثيق التي وُضعت نصوصها على ضوء التجارِب المُستَفادة والذكريات المرة!
إن حقوق الإنسان وُلِدت في ديننا مع النطق بكلمة التوحيد، فعندما نؤمن بالله الذي لا يُعبد غيرُه ولا يَشرَع غيرُه ولا يَحكم غيرُه، عندئذ تسقط الوثنيات كلها عقائديةً كانت أو سياسيةً أو اجتماعيةً!
نعم، إن الإيمان بوحدانية الله وقيامِه على خلقه وتدبيره لكل أمر، والإحساس بأنه وحده الضار النافع الخافض الرافع المعطي المانع ـ إن ذلك يمنح الإنسان حرية واسعة تجعله لا يبالي بطواغيت الأرض كلها، لأنهم مهما فحُش سلطانهم ليسوا إلا عبيدًا لربه.
ونَلحَظ أن القرآن الكريم كرر قصة فرعون مع موسى بضع عشرة مرة، ذلك لأن الفرعنة مرض نفسي شائع بين الحكام المستبدين، وتأمل قول فرعون لقومه: (ما أُريكم إلا ما أَرَى وما أَهدِيكم إلا سبيلَ الرشادِ) (غافر: 29) وقوله للسحرة لما آمنوا بعد ما شهدوا معجزة موسى تَلقَف ما صنعوا: (آمنتُم له قبلَ أن آذَنَ لكم إنه لكَبِيرُكم الذي علَّمكم السحرَ فلأُقطِّعنَّ أيديَكم وأرجلَكم من خِلافٍ ولأُصَلِّبنَّكم في جذوعِ النخلِ ولَتعلَمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذابًا وأَبقَى) (طه: 71).(1/156)
إن ذلك الفرعون السخيف يرى ألاّ رَأْيَ إلا رأيُه! فهو وحده الذي يصنع القرار، ويرى أن من اعتنق رأيًا قبل أن يستأذنه مخطئ متمرِّد! إنه ملَكَ الضمائرَ والسرائرَ، والناسُ عبيد إحساناته!
ولكي تُوقَّى الإنسانيةُ هذه اللُّوثةَ شَدَّدَت الدساتير الحديثة في أمر الشورى وإلزام أولي الأمر بها، كما وضعت قيودًا حديدية على التصرف في المال العام ومنع العبث فيه.
وكذلك وضعت قوانين صارمة لحق كل إنسان في محاكمة عادلة، فلا يُحبس أو يُعتقل أو يُؤذَى جَورًا وطغيانًا، وإنما يَبقى إنسانًا مَصونًا حتى يُصدِر القضاء النزيه حُكمًا عليه فيُؤخَذ به وحده!
إن الرسول رأى وحشيًّا الذي قتل عمَّه حمزةَ أحبَّ الناس إليه، فما استطاع أن يسيء إليه بكلمة بعدما أسلم.
ورأى عمر بن الخطاب رجلًا كان قد قتل أخاه في الجاهلية ثم أسلم، فقال له عمر: والله لا أحبك! قال: أذلك يمنعني حقي يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: لا حَرَجَ إذن، إنما يَأسَى على الحبِّ النساءُ!
الحق أن سنَّة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقاليد الخلافة الراشدة كانت نموذجًا أعلى لاحترام الإنسان والمحافظة على حقوقه. كان النبي يدعو من له مَظلَمة عنده أن يَقتَص منه ويأخذ حقه! وكان خلفاؤه كذلك، وقد رفض عثمان أن يَستنفِر أهلَ المدينة ـ خصوصًا قبيلته ـ للدفاع عنه، حَقنًا لدماء مَن استباحوا دمه!
ولو كان في الحكم رجل آخر لأهلك نصفَ الناس للدفاع عن شخصه!
في هذه البيئة الحرة تَربَّى الرجال الذين هَدَموا القيصرية والكِسرَوية، واستمع التاريخ إلى رجل منهم يقول في أرض فارس: جئنا نُخرِج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده! جئنا نخرج الناس من ضيق الأديان إلى سعة الإسلام!
كانوا يدركون أن الوجه الآخر لكلمة التوحيد هو حقوق الإنسان، الإنسان الذي لا ينحني إلا لربه وحده!(1/157)
من هنا كانت البيئة الحرة المِهادَ الفَذَّ لتكوين الأمةِ المسلمةِ العارفةِ بربها السيدةِ في وطنها، التي لا يُجار عليها ولا يُستباح حِمَاها، وقد كره الإسلام الاستضعاف، وعزَم على المؤمن أن يكون حَميَّ الأنف عزيز الجانب!
فإن ضاقت به أرض فليرحل إلى غيرها، ولْيَبقَ كما كتب الله له قويًّا أبيًّا (قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقُوا ربَّكم لِلَّذين أحسَنوا في هذه الدنيا حسنةٌ وأرضُ اللهِ واسعةٌ) (الزمر:10).
على أن الرحيل لا يَسوغ أن يكون فِرارًا من مقاومة ممكِنة، جاء في خطبة لأبي بكر الصديق: إنا سمعنا رسول الله يقول: "إن الناسَ إذا رَأَوا الظالمَ لم يَأخذوا على يدِه أوشَكَ أن يَعُمَّهم اللهُ ـ تعالى ـ بعقاب" أو: إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ما من قومٍ يُعمَل فيهم بالمعاصي ثم يَقدِرون على أن يُغيِّروا فلم يُغيِّروا إلا يوشكُ أن يَعُمَّهم اللهُ بعقاب".
والواقع أن الظلمَة من أجبن الناس، ويوم يُحس أحدُهم أنه إذا لطَم أحدًا ارتدت اللطمة إلى خده فكر ألف مرة قبل أن يعتديَ.
إنهم لا يَزأَرون إلا في الخلاء ولا يَمتدون إلا في الفراغ، والويل للشعوب الجبانة!
للإنسان حقوق سياسية تجعله ينقُد أي خطأ من السلطات كلها عُلياها ودُنياها دون أن يلحقه أي ضرر، وله أن يتولى أي منصب تُؤَهِّله له كفايته دون أن يَقِفَه عائقٌ ما. وأساس ذلك أنه ليس لأحد بعد رسول الله عصمةٌ تعلو به على النقد، وأن المناصب أماناتٌ ينالها الجدير بها، ويُبعَد عنها مَن لا يستحقها.
وللإنسان حقوق مالية تفرضها له الأخوة العامة بين المسلمين.
وقد أشرنا من قبل إلى أن "المسلم أخو المسلم لا يَظلمه ولا يُسلمه" قال ابن حزم: ومن ترك أخاه يَجوع ويَعرَى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلَمه!(1/158)
وذكر ابن الجوزي في سيرة عمر بن الخطاب وقد أصابت الناس أزمة، أن عمر قال: "لو لم أجدْ للناسِ ما يَسَعُهم إلا أن أُدخِلَ على أهلِ كلِّ بيتٍ عدَدَهم، فيُقاسمونهم أنصافَ بطونهم حتى يأتيَ اللهُ بالمطر، فعَلتُ، فإنهم لن يَهلِكوا على أنصاف بطونهم".
وللناس حقوق ثقافية تجعل العلم بينهم مُشاعًا ميسور الأخذ، يستنير به الذكر والأنثى، والغني والفقير، فطلب العلم فريضة كما جاء في السنة الشريفة.
وما تَنضَج مَلَكات الإنسان ويَخصَب تفكيره وشعوره إلا بأمداد لا تنتهي من المعرفة!
والمستغرَب أن الإنسان المسلم من بضعة قرون يحيا بعيدًا عن دينه، ويَنبُت في غير مَغارسه، ويُحكَم بغير شرائعه.
الشعوب هنا تختار حكَّامهم وتُبعدهم إن سَئِمَتْهم! أما عندنا فالشعوب تفاجأ بحاكِمِيها كما يفاجأ المريض بعلة لا يعرف كيف الخلاص منها!
وعندما وقعت مذابح لبنان تظاهرت الألوف غضبًا في كل عاصمة إلا في العواصم الإسلامية، لأن التظاهرات ممنوعة!
من يدري! إن الشجَا يَبعَث الشجَا، فقد تتحول هذه التظاهرات ضد الحكام بفعل فاعل! فالأفضل أن تُمنع، والرؤساء المحبوبون سيؤدون الواجب!(1/159)
31 ـ هل مسؤولية المسلم تجاه المجتمع الإسلامي وحده أم تجاه المجتمع البشري كله؟ كيف؟
معرفتي بالإسلام تجعل ولائي للناس كلهم جزءًا من ولائي للدين الذي أحببته! فأنا لا أشعر بانشطار في هذه الولاء الواحد.
وقد سمعت أحد الشيوخ في أثناء الدرس يقول: نحن ـ المسلمين ـ أمة الإجابة، وغيرنا من أهل الأرض أمة الدعوة!
قلت: ما معنى هذا؟
قال: إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا العالمين إلى الله، فنحن استمعنا إلى النداء وأسلمنا وجوهنا لله وحُقَّ فينا قولُه تعالى: (ربَّنا إننا سَمِعنا مناديًا ينادي للإيمانِ أن آمِنوا بربِّكم فآمنّا ربَّنا فاغفِرْ لنا ذنوبَنا وكفِّرْ عنّا سيئاتِنا وتوفَّنا مع الأبرارِ) (آل عمران: 193) .
فنحن أمة الإجابة أما غيرنا فهو مدعوٌّ مثلنا، ولما يُجِبْ بعدُ، لعل النداء لم يصل إليه، أو لعله وصل إليهم مشوَّهًا لا يحرِّك دواعيَ القَبول. وأيًّا ما كان الأمر فهو مدعٌّو، وعليَّ أن أبلِّغه ما يجهل، وأن أُثيرَ فيه دواعيَ التصديق.
لقد عرفت الحق قبله فآمنت، ولست أولى منه بذلك الخير، وقد يكون خيرًا مني لو عرف ما أعرف، والواجب يفرض عليَّ أن أكون صورة مرغِّبة لا صورة منفِّرة وإلا كنت مسئولاً عن إضلاله أو حاملاً معه بعض أوزاره.
ومن المحزن أن عددًا من علماء المسلمين شغله الترف العقلي فخان أمانة الدعوة والبلاغ، وأن عددًا من حكام المسلمين شغله المجد السياسي فما أحسن خدمة الحق ولا جذب الانتباه إليه، ونشأ عن ذلك أن العلاقة بين أمة الإجابة وأمة الدعوة كانت مليئة بالخصام بل كانت مخضَّبة بالدم.
قد تقول: أهذا كل ولائك للإنسانية؟ وأجيب للفور: لا. لا تنسى أني حسن الظن بالفطرة الإنسانية نفسها، لأني مسلم أعلم أن الصفة الأولى لديني أنه دين الفطرة! إن الناس يُولَدون عليه ويتجاوبون من تعاليمه إذا أدركوها. ويوم تَخِف قبضة الموروثات الرديئة فإن الجماهير ستكون قريبة مني أو أكون أنا قريبًا منها.(1/160)
ولو خُلِّيَ المرءُ وفِكرَه لاتَّجه إلى إله واحد، ولشعَر بدوافع ذاتية إلى هذا الرب الوحيد. ولو خُلِّيَ المرءُ وفِكرَه لآثر الزواجَ على العُهْر، والصَّحْوَ على السُّكْر، والإخاءَ على الأَثَرَة، والنصيحةَ على الغش!
إنني حسن الظن بالفطرة البشرية، واعتقادي أنها كالثمر الذي يَنبُت جميلَ الرَّوَاء شهيَّ الطعم، بيد أن النبات قد تعدو عليه أمراض تشوِّه لونه ومذاقه، إن هذه الأمراض علل طارئة، وقد تعارَف الزُّرّاع على مقاومتها كي يحموا محاصيلهم. لكن الأجيال الناشئة بيننا لا تجد الحماية الكافية، ومِن ثَمّ قد تلتهمها الأوبئة الخلُقية والاجتماعية والسياسية، فيَشِبُّ الصغار مائلين زائفين!
وماذا يفعل أولئك الصغار إذا سَمِعوا منذ نعومة أظفارهم أنه لا إله والحياة مادة؟ أو سمعوا أن الآلهة شركة مقرُّها جبل أولمب، أو صحراء الجزيرة، أو فوق السحاب؟
إنهم يَكبَرون زائغين.
أتُراني أدافع عن ذلك الانحراف؟
كلا، وإنما أذكر الواقع المجرد!
والذي أعلمه أن الله زوَّد الفطرة بخصائص تملك بها حق الاعتراض على الباطل الذي يُعرَض أو يُفرَض عليها، وأن هذه الخصائص من القوة حيث يُعَدُّ إهمالها تقصيرًا سيئًا وأساسًا لمساءلة عادلة يوم الحساب، قال تعالى: (وإذ أخَذ ربُّك من بني آدمَ من ظهورِهم ذريتَهم وأَشهَدَهم على أنفسهم ألستُ بربِّكم قالوا بلى شَهِدنا أن تقولوا يومَ القيامةِ إنا كنّا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرَكَ آباؤنا من قبلُ وكنا ذريةً مِن بعدِهم أفتُهلِكُنا بما فعَل المُبطِلون. وكذلك نُفصِّل الآياتِ ولعلهم يَرجِعون) (الأعراف: 172ـ174).
هذا الحوار ناضح بأن الخصائص الذاتية للفطرة الإنسانية قادرة على المقاومة والرفض، يجب أن يرفض العقلُ الخرافةَ ويتشبث بالحقيقة. يجب أن يرفض الضميرُ البشري الإثمَ ويتشبث بالبر والطيبة.(1/161)
وإذا حدث أن خَفَتَ صوت الفطرة جاءت نَجدات من الخارج لمعاونته كي يؤديَ وظيفته، ويَبقَى الإنسان إنسانًا، يَعرِف ربَّه ويُؤثِر دَرْبه!
وإذا كان الوحي الإلهي غيرُ كافٍ في إيقاظ الفطرة وإعادة التائه إلى رشده، أحاطت بالأفراد والجماعات آلام تَكسِر الغرور وتَرفُق الحُجُب وتحمل البشرية على الخضوع لمولاها ومناشدته الرحمةَ: (وما أرسلنا في قريةٍ من نبيٍّ إلا أخَذنا أهلَها بالبأساءِ والضراءِ لعلهم يَضَّرَّعون) (الأعراف: 94).
ومع ذلك فالفطرة وحدها لا تخطئ في كل شيء! إنها تخطئ وتصيب، وتجور وتستقيم! ودورنا ـ نحن المسلمين ـ أن نَدعَم الصوابَ، وأن نُوهِّنَ الخطأ، وأن نذكِّرَ بما تُنُوسيَ من حق.
وفي ظلُمات الجاهلية الأولى شعَر نفر من ذوي القلوب النبيلة أن المستَضعَفين يُجار عليهم في الحَرَم وتُغصَب حقوقهم، فتجمعوا وقرروا أن يُغيثوا الملهوف ويَبقَوْا إلى جانبه حتى يَرضَى، ذلك هو حِلف الفُضول الذي تم في دار عبد الله بن جُدعان.
وبعد ظهور الإسلام ونزول الوحي ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الحِلفَ بإعزازٍ وولاءٍ وقال: "لو دُعِيتُ به في الإسلام لأجَبتُ".
نعم، إن الإسلام الذي جاء به هو الإنسانية في صورتها الوسيمة. ونحن ـ انبعاثًا من هذا المعنى ـ نرى لِزامًا علينا في الميدان الدولي أن نُحارب التفرقة العنصرية، وأن نخاصم الاستكبار بالقوة، وأن نُقِرَّ عينَنا بانتصار العدالة، وأن نَفرَحَ بشيوع الرخاء بين عباد الله.
إنني أَغبِط الرجال الذين يعملون باسم "لجنة العفو الدولية" على اليقظة الخُلُقية والغيرة الإنسانية التي تجعلهم يرقُبون الأحداث في العالم، فإذا وجدوا ظلمًا شهَّروا به، ومزَّقوا الأستار عنه، وألَّبوا الدنيا عليه.(1/162)
أشعر كأن هؤلاء الناس ينفِّذون التعاليم التي تلقيتها من رسولي المنصِف الرحيم القائل: "إذا عُملت الخطيئةُ في الأرضِ كان من شَهِدها فأنكَرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرَضِيَها كان كمن شَهِدها"!
إن الدين تحسين للحسن وتقبيح للقبيح حيث كان ومن أي الناس كان.
وأذكر أنني لم أعلم بمصارع العلماء الصوماليين العشرة الذين رفضوا قوانين الأسرة الجديدة في الصومال، إلا من استنكار لجنة العفو الدولية لما وقع، إن أغلب الإذاعات الإسلامية والعربية آثرت الصمت!
قلت: هؤلاء الساكتون أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، أما الأجانب الغاضبون للظلم فهم أقرب إلى الإيمان منهم إلى الكفر!
إن هلاك الأجيال على ظهر الأرض يجيء من شيوع الخَبَث وسُكات العارفين، قال تعالى: (فلولا كانَ من القرونِ مِن قبلِكم أولو بقيةٍ يَنهَونَ عن الفسادِ في الأرض إلا قليلًا ممَّن أَنجَينا منهم واتَّبَعَ الذين ظَلَموا ما أُترِفوا فيه وكانوا مُجرِمين. وما كانَ ربُّك ليُهلِكَ القُرَى بظلمٍ وأهلها مُصلحون) (هود: 116،117).
والانتماءات المزورة لا تخدع ذا لب، كم منتمين إلى الإسلام لو تفرستَ في أعمالهم ما وجدتَ أثرًا لفطرة سليمة أو تقوى حقيقية!
وكم تجد مسالكَ هي الإسلام بعينه ولكن العنوان مفقود!
أعجبتني نظم الشورى في الغرب، ورأيتها تطويرًا جيدًا لما حدث في سقيفة بني ساعدة قديمًا. فإذا أذنابٌ لولاةِ الجَور الذين أهانوا الإسلام وأمته يقولون في صفاقة نادرة: هذا اقتباس أجنبي، والشورى عندنا لا تُقيِّد حاكمًا!
وتأملت في أحوال القائلين فرأيت ناسًا يَخزَى بهم الحق وتَستخفي المروءة، يسترون عوراتهم العقلية بركعاتٍ ميتة وتَديُّنٍ شائه، فقلت في نفسي: الأوربيون في نظم الشورى قلدوا النبوة والخلافة الراشدة، وهؤلاء العرب قلدوا الحَجّاج والمعتصم وبقية السلاطين!
ما أكثَرَ ما ظُلمَتْ أمتنا بالمتقوِّلين الجهلة!(1/163)
على أن الإنسانية في غَيْبة الوحي تشعَّبت بها الطرُق وتفرَّقت مذاهبَ شتّى، كما زاحمت الفطرةَ غرائزُ وأهواء جامِحة، والحضارة التي تَسُود العالَم اليوم تَشُوبها نقائص ونقائض كثيرة.
وربما اختلف الناس في مفهوم العدل، بل في مفهوم الفضيلة والرذيلة، وبين الجبهتين اللتين تحكمان العالم تفاوتٌ واسع في وجهات النظر.
وذلك كله يؤكد ضرورة الرجوع إلى وحي الله والاستهداء به في متاهات الظنون ومتشعبات الهوى، إنه لابد من دينٍ لدنيا الناس.
ونحن ـ المسلمين ـ نملك الوحي الخاتم، ومن حقنا وحدنا أن نتكلم باسم موسى وعيسى ومحمد جميعًا، فإن كتابنا جمَع لُباب الدين وتضمَّن جملةَ الحقائق التي يفتقر إليها البشر، ليُوفُوا بحق الله أولًا، ثم لِيَتعايَشُوا متعاونين متراحمين في هذه الحياة.
بيد أن الناس لن يسمعوا حرفًا منّا ما بَقِينا على تخلفنا الشائن، وما بَقِينا جهلةً بقيمة التراث الذي لدينا، وما بَقِينا على غنانا نتسول من الشرق أو الغرب برامج إصلاح وضرورات حياة.
فلنستَعِدْ ثقتنا بأنفسنا، ولنُوثِّقْ إيماننا، ولنتَمَسكْ بالخصائص التي زَكَت وارتقَت بها أمتنا، وهي ما قررته الآية الكريمة: (كنتُمْ خيرَ أمَّةٍ أُخرِجَتْ للناسِ تأمُرُون بالمعروفِ وتَنهَونَ عن المُنكَرِ وتُؤمِنُونَ باللهِ) (آل عمران: 110).
إننا لسنا جبهة ثالثة في العالَم، إننا الجبهة الأولى فيه، فلما أَزرَينا بأنفسنا أَزرَى بنا الآخرون، وطريق العودة ممهَّد لا مسدود!(1/164)
32 ـ ما تأثير القرآن في الفكر الإنساني؟
يحسب كثيرون أن صلة الدين بالقلب أسبق من صلته بالعقل، أو أنه بحسب الإنسان أن يكون صافيَ الروح نبيلَ الخلُق صادق المشاعر ليَتِم دينه ويكتمل يقينه، مهما كان عقله بعد ذلك.
وذلك خطأ! فإن الإسلام يريد أولًا عقلًا سليمًا وفكرًا مستقيمًا، فما قيمة امرئ مُشَوَّش الذهن سقيم التفكير؟
إن صحة النظر إلى الأمور ودقة الحكم على الأشياء تجيء أولًا، ثم تجيء الطيبة والنية الحسنة بعد ذلك.
وعندما بدأت الدعوة إلى الإسلام أهاب القرآن بالناس أن ينفُضوا عنهم ما وَرِثوا من خرافة، وأن يعيدوا اليقظة إلى عقولهم المغيَّبة (قل إنما أَعِظُكم بواحدةٍ أن تقوموا للهِ مَثنَى وفُرَادَى) (سبأ: 46).
كان المتعصبون للتقاليد القائمة يقولون: (إنا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ وإنا على آثارِهم مُهتَدون) (الزخرف: 22).
وكان النبي المكافِح لإزالة هذه الغيبوبة العقلية يرفض هذا التقليد الأعمى: (قال أو لو جئتُكم بأهدَى مما وجدتُم عليه آباءَكم) (الزخرف: 24).
لابد من موازنة عادلة ونتيجة صحيحة تحترمونها وتصيرون إليها!
والحق أني لم أقرأ كتابًا منسوبًا إلى السماء احتَفَى بالنظر العقلي وخَطَّ على ضوئه معالمَ الإيمان مثلما فعل القرآن الكريم.
إنه يخاطب الإنسان هكذا: (ألم تَرَ أن اللهَ أَنزَل من السماءِ ماءً فتُصبحُ الأرضُ مخضَرّةً) (الحج: 63).
(ألم تَرَ أن اللهَ سخَّر لكم ما في الأرضِ والفلكَ تَجري في البحرِ بأمرِه ويُمسكُ السماءَ أن تَقَعَ على الأرضِ إلا بإذنه) (الحج: 65).
(ألم تَرَ إلى ربِّك كيف مَدَّ الظلَّ ولو شاء لجعَله ساكنًا ثم جعلنا الشمسَ عليه دليلاً) (الفرقان: 45).
(ألم تَرَ أن اللهَ يُزْجِي سحابًا ثم يؤلِّفُ بينه ثم يَجعلُه رُكامًا فتَرَى الوَدْقَ يَخرجُ من خلاله) (النور: 43).(1/165)
لَعَمري ما وجد العقلُ من بَدْء الخلق إلى يوم الناس هذا كتابًا يَعتَرِف به ويَجلو بَريقَه ويُمهِّد طريقَه مِثْلَ هذا الكتاب الجليل!
كان الدين عند كثيرين ينتظم مع أدب الخيال وأحلام الوجدان وهُيام الشعر وتهاويل الفن، حتى جاء القرآن الكريم، فإذا الدين علم يعتمد على الحقيقة، وقضايا تعتمد على البرهان، سواء اتصلت بعالم الغيب أو عالم الشهادة، أو كما يعبِّرون في عصرنا بـ (المادة وما وراء المادة).
وانضم العلماء بالدين إلى الملائكة المقربين في الشهادة بوحدانية الله وعدالته، كما جاء في الآية (شَهِدَ اللهُ أنه لا إلهَ إلا هو والملائكةُ وأولو العلمِ قائمًا بالقسطِ لا إلهَ إلا هو العزيزُ الحكيمُ) (آل عمران: 18).
وبَدَهي أن العلم هنا ليس العلم النظري الجاف، لا، إنه علم صادق مطابق للواقع، يُمهِّد لما نسميه "العاطفة العاقلة" ثم نتشبث به ونتعصب له، فلا نُرخِّص قيمته ولا نتنازل عنه. إنها خيانة أن نتخفف من الحق عند ثقل الأعباء، أو نستدير له إذا أرهقنا الأعداء!
وفي القرآن الكريم نماذج كثيرة للتعريف بالحق ولفت البصائر إليه، ولنَختَرْ هذا النموذج:
يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ معرِّفًا نفسه لعباده: (وهوَ الَّذي أنشَأ لَكُمُ السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلًا ما تَشكُرونَ. وهوَ الذي ذرَأَكُمْ في الأرضِ وإليه تُحشَرُونَ. وهو الذي يُحيي ويُميتُ وله اختلافُ الليلِ والنهارِ أفلا تَعْقِلُونَ) (المؤمنون: 78ـ80).
هذه إنارة للعقل لا يجوز أن يضل بعدها الطريقَ، ومنهج القرآن في الحديث عن الله جدير بالاحترام كله، إنه يضع أصابع الإنسان على ما حوله ثم يقول له: فكِّرْ! أتظن الشمس عقدت اتفاقًا مع الأرض لتَعاقُبِ الليل والنهار؟
أتظن كلتيهما حددت المدار الذي يخصها ووضعت عقوبة لمن يتجاوزه؟
إن هذه الأجرام السابحة في القضاء لا تعقل شيئًا، وإنما تديرها حكمة (أفلا تعقلون)؟(1/166)
وبعد استعراض للكون تَناوَلَ عَرشَه وفَرشَه جاء هذا التقرير الحاكِم: (بل أتَيناهم بالحقِّ وإنهم لَكاذِبُونَ. ما اتَّخَذ اللهُ من ولدٍ وما كانَ معَهُ من إلهٍ إذًا لذهَبَ كلُّ إلهٍ بما خلَق ولَعَلا بعضُهم على بعضٍ سبحانَ اللهِ عما يَصِفونَ. عالمِ الغَيْبِ والشهادةِ فتَعالَى عما يُشرِكونَ) (المؤمنون: 90ـ92).
هذه عقيدة التوحيد، وتلك أسانيدها العقلية، تتابعت في سياق صريح قاطع يثبت لله كل كمال وينزهه عن كل نقص، ويسند إليه المدائح التي تنبغي له وتليق بمجده!
حسنًا، فهل وقف الأمر عند هذا التقرير المدعوم ببراهينه؟
لا، لقد جاء بعده تيار عاطفي يدفع إلى البراءة من كل شرك وجهل، ويخوف من عواقب هذا الانحدار، جاء هذا التيار في صورة استعاذة من صاحب الرسالة أن يلحقه رَشَاش من الغضب الماحق الذي سينزل بالشاردين المعاندين، وغضبُ الجبارِ محذورٌ، ومن شمائل العبودية أن نتوقاه ونَنأَى عن أسبابه: (قُلْ ربِّ إمّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدون. ربِّ فلا تَجعَلْني في القومِ الظالمين. وإنّا على أن نُرِيَكَ ما نَعِدُهم لقادرون) (المؤمنون: 93ـ95).
والغريب أنه بعد تمزيق الحجب دون الحقيقة، وبعد مواجهة البشر بما يحملهم عليها حملًا يقول الله لنبيه: تَمهَّلْ، وتَذرَّعْ بالحلم، وقابلْ بإحسان من يُسِفُّ (ادفَعْ بالتي هي أحسنُ السيئةَ نحن أعلمُ بما يَصِفون. وقل رب أعوذُ بك من هَمَزاتِ الشياطينِ) (المؤمنون: 96ـ97).
هذا نموذج من عشرات تنبني عليها السور في القرآن النازل بمكة والنازل بالمدينة على سواء. والغريب أن النموذج هنا من سورة مكية، والمستشرقون يَرَون أن القرآن المكي يعتمد على العاطفة أكثر مما يعتمد على الفكر، فهل لديهم ما يوصف بأنه فكر أو عاطفة؟ إن ما لديهم فراغ!
ولا يوجد كتاب بنَى الإيمانَ على البرهان إلا هذا القرآن، إن التفكير فريضة إسلامية كما يقول الأستاذ العقاد!(1/167)
ومجال التفكير هو في العالم المادي، هنا يستطيع الإنسان أن يلاحظ ويستنتج ويتابع التجارب ويكرر الفروض، ويصل آخرَ الأمر إلى ما يُفيده في دينه ودنياه، وذلك ما نبه إليه القرآن الكريم عندما قال: (إن في خلقِ السماواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ لآياتٍ لأولي الألبابِ. الذين يذكُرون اللهَ قيامًا وقعودًا وعلى جُنوبهم ويتفكرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ ربنا ما خلَقتَ هذا باطلًا سبحانَك فقنا عذابَ النارِ) (آل عمران: 190ـ191).
أولو الألباب هنا يتفكرون في خلق العالم، ويستنتجون من قوانينه المطَّردة ونظامه المتناسق أنه مخلوق لرب حكيم، فلا عبث ولا فوضى.
وفي أول السورة نفسها ورد ذكر أولي الألباب على نحو آخر، إنهم لا يحاولون اكتناه الذات العليا، ولا يخوضون فيما يصعُب دَرَكُه من شؤونها، إنني شخصيًّا "أشعر" بأن الله مَلِكٌ مستوٍ على عرشه، لا يَنِدُّ شيء عن سلطانه، ولا يبعُد أمر عن حكمه!
لكن كيف ذلك؟ لا أدري!
أنا لا أدري علاقة روحي بجسدي، فكيف أدري استواء الله على عرشه!
الأفضل أن أتجاوز ذلك إلى غيره على نحو ما قيل:
إذا لم تَستطِعْ شيئًا فدَعْه وجاوِزْه إلى ما تستطيع
(والراسخونَ في العلمِ يقولونَ آمنَّا به كلٌّ من عندِ ربِّنا وما يَذَّكَّرُ إلا أولو الألبابِ) (آل عمران: 7).
على أن هذا التسليم ليس جواز مرور للخرافة أو قبولًا للمتناقضات!
وكما قيل: ما يَعِزُّ على العقل فهمُه شيءٌ، وما يحكُمُ العقلُ باستحالته شيء آخر!
وقد حارَب القرآن الأوهام، وكم يعيش الناس صَرعَى أوهام!
وحارب الظنون، وكم من ظنون توارثها البشر وجعلوا منها عقائد مقدسة! وما كانت يومَ وُجِدَتْ إلا شائعاتٍ لا أساسَ لها (وما يَتَّبِعُ أكثرُهم إلا ظنًّا إن الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئًا إن اللهَ عليمٌ بما يفعلون) (يونس: 36).(1/168)
ومن هنا نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نَتَّبعَ ما لا نعلم وأن نتأثر بما لا أصل له، لقد وهب لنا الفكر والحواس لنستخدمها في تبيُّن الحق، وسوف يسألنا عن طريقة استخدامنا لتلك المواهب: (ولا تَقْفُ ما ليسَ لك به علمٌ إن السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسئولاً) (الإسراء: 36).
ومن معالم الجماعة المسلمة أنها تحترم المنطق وتسلُّم باليقينيات وتخضع لسطوة العلم!
وقد مضى هذا المنهج إلى غايته وهو يُحارِب الشرك ويُؤَسِّس التوحيد، فترى الحملة على المشركين معلَّلة بأنهم يَتَّبعون ما لا دليل عليه! قال تعالى: (ومَن يَدْعُ مع اللهِ إلهًا آخَرَ لا برهانَ له به فإنما حسابُه عند ربِّه) (المؤمنون: 117).
بل إن ذلك يُراعَى عند قصصِ الأولين وذكرِ أسباب الخروج على الضالين المستبدين، فقد جاء على ألسنة الفتية أهل الكهف: (هؤلاءِ قومُنا اتَّخَذوا من دونِه آلهةً لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بَيِّنٍ) (الكهف: 15) أي بدليل واضح مقبول!
الحق أن أثر القرآن الكريم في الفكر الإنساني عميق، إنه هو الذي أقام الإيمان على المنطق ورفع راية العقل!(1/169)
33 ـ كيف ولماذا وقع النسخ في القرآن؟
للنسخ معنيان:
أحدهما: سائغ لا رِيبةَ فيه، وهو تخصيص عام، أو تقييد مطلَق، أو إظهار حكم ما بطريق التدرج.
والثاني: محو حكم سابق بآخَرَ لاحق.
وهو عند التحقيق العلمي لا وجود له في القرآن الكريم.
ونسوق الأمثلة الشارحة لما ذكرنا:
المرأة إذا فقَدت زوجَها وجَبَت عليها عدة وفاة مقدارها أربعة أشهر وعشرة أيام، كما جاء في الآية الكريمة: (والذين يُتَوفَّونَ منكم ويَذَرُونَ أزواجًا يَترَبَّصنَ بأنفسِهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا فإذا بَلَغنَ أَجلَهنَّ فلا جُناحَ عليكم فيما فَعَلنَ في أنفسِهنَّ بالمعروف) (البقرة: 234)
لكن هذا الحكم العام عَرَض له استثناء ضيَّق دائرته، فإن المتوفَّى عنها زوجُها إذا كانت حاملًا فعدَّتُها وضعُ الحمل ولو بعد يوم من الوفاة! قال تعالى: (وأُولاتُ الأحمالِ أَجلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ) (الطلاق: 4).
كلتا الآيتين لها موضعها الذي تعمل فيه، وحكمها باقٍ إلى قيام الساعة.
وحرم الإسلام أكل الدم، وجاء ذلك في الآية: (حُرِّمَت عليكم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزيرِ...) الخ (المائدة: 3).
ثم جاءت آية أخرى تكشف أن الدم المحرَّم هو السائل من الذبيحة: (قُلْ لا أجدُ فيما أُوحِيَ إلى مُحرَّمًا على طاعمٍ يَطعَمُه إلا أن يكونَ مَيتةً أو دمًا مسفوحًا) الخ (الأنعام: 145).
فعُلم من ذلك أن الشارع يُبيح أكل الكبد والطِّحال، وكان العرب يعُدُّونها من الدم، فتقيَّد الدم المحرَّم بصفته المذكورة!
أما التدرج في الكشف عن حقيقة حكمٍ ما فإنه يبدأ تلويحًا يفهمه الأذكياء، ثم تزداد الإبانة بما يكاد يوحي بالحكم، ثم يجيء الحكم حاسمًا بالمعنى المراد، وقد تم تحريم الربا والخمر بهذا الأسلوب المتأني، وليس في القرآن نص بإباحة الخمر أو الربا!(1/170)
وعندما يقول سبحانه: (وما آتيتم من رِبًا ليَربُوَ في أموالِ الناسِ فلا يَربُو عندَ اللهِ) (الروم: 39) فذلك تمهيد لقوله فيما بعد: (وأحلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الربا) (البقرة: 275).
وعندما يقول: (يسألونك عن الخمرِ والمَيسِرِ قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناسِ وإثمُهما أكبرُ مِن نفعِهما) (البقرة: 219) فذلك تمهيد لقوله فيما بعد: (إنما الخمرُ والمَيسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشيطانِ فاجتَنِبوه) (المائدة: 90).
إن هذا التدرُّج كان الطريقةَ المثلى لفطام الناس عن رذائل أَلِفُوها وأدمنوها وتعصبوا لها.
وقد حاولت الولايات المتحدة تحريم الخمر بقانون صارم مرة واحدة ففشلت فشلًا محزنًا بصورة أشنع! وتبيَّن أن الشارع الإسلامي أذكى وأحكم!
ومنفعة الميسر أن ربحه كان يُرمى للفقراء، ومنفعة الخمر ما يشعر به الشارب من نشوة وغيبوبة ينسى فيها أحزانه إلى حين، أو ما يُحسه من دفء كاذب!
وكِفّة الإضرار أرجح، والقانون الشرعي "للأكثر حُكمُ الكل، وما قارب الشيءَ يُعطَى حُكمَه"!
وبعض المفسرين رأى أن الآيات الأخيرة في الخمر والربا ناسخة لما نزل قبلها من آيات، متوهمًا أن بينها تعارضًا، وهذا خطأ، فلا تعارض ولا نسخ.
بيد أن حمَّى النسخ أصابت قومًا من الفقهاء والمفسرين فجعلتهم يقولون كلامًا غريبًا.
أذكر أني كنت أقرأ شرح "الخازن" لسورة الأنعام بدءًا من قوله تعالى: (قد جاءكم بصائرُ من ربِّكم فمَن أبصَرَ فلنفسِه ومن عَمِيَ فعليها وما أنا عليكم بحفيظٍ) (الأنعام: 104) فإذا الرجل يقول: الآية منسوخة.
وبعدها قال تعالى: (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إليك من ربِّك لا إلهَ إلا هو وأَعرِضْ عن المشركين) (الأنعام: 106) فإذا هو يقول: الآية منسوخة.
ولا أدري بدقة كم آية نسخها في صفحة واحدة!(1/171)
وقد وصل بعضهم بالآيات المنسوخة إلى بضع مئات، وهذا كلام مُنْكَر، وقد رفضه الراسخون في العلم، والشبهة التي قامت في ذهن الخازن ـ غفر الله له ـ أنه ظن آيات الجهاد تُعارِض الآيات التي ذكرها، وهو ظن مستبعد!
بل إن البعض يرى قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن: 16) ناسخًا لقوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته) (آل عمران: 102) كأن بين الآيتين تناقضًا، ولا تناقض إلا في دماغه هو!
لقد رأيت القائلين بالنسخ يتورَّطون في مهازل، وعلة هذا أنهم بعيدون عن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، سواء كان هذا التفسير يتبع قضية واحدة في طول القرآن وعرضه، أو كان استكشافًا للوَحْدة التي تشمل أجزاء السورة، والتي تجعل آياتها معالم لصورة بينة التقسيم، مُتَعانِقة المعاني والأهداف.
وعلى أية حال، فما من آية في كتاب الله قيل بنسخها إلا كان هناك قول آخر بإحكامها، حتى ما كان ظاهره النسخ مثلُ قوله تعالى: (الآن خفَّف اللهُ عنكم وعَلِم أن فيكم ضعفًا فإن يكنْ منكم مائةٌ صابرةٌ يَغلِبوا مائتين) (الأنفال: 66).
قال كثيرون: كان الحكم الشرعي أن يَثبُتَ الواحد لعشرة من الأعداء ثم خُفِّف بالثبات أمام اثنين!
وقال المحققون: الحكم الثابت والعزيمة الماضية أن يقف الواحد أمام عشرة ما دام قادرًا صابرًا آملًا في النصر أو راغبًا في الشهادة، على أن له رخصةً أخرى إن عجَز، وهي أن يقف أمام اثنين ولا يؤذَن له بترك العدو أبدًا دون ذلك.
قالوا: والرخصة هنا كقصر الصلاة في السفر، فالقصر في السفر لا يَنسَخ الإتمام في الإقامة.
ومادام لم يَرِدْ قولٌ بنسخ إلا ورد معه قول بإحكام فلنستبعِدْ إبطالَ الآيات، ولنقرِّرْ أنه لا نسخ في القرآن الكريم أبدًا، إلا ما كان بمعنى تخصيص العام أو التدرجِ في التشريع.
قد يُقال: أليس يقول الله تعالى: (ما نَنسَخْ من آيةٍ أو نُنسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلِها)؟ (البقرة: 106)(1/172)
لقد ذكر صاحب "المنار" الوجه الحق في تفسير هذه الآية، ونقلت رأيه مع تعليقات لي في كتابي "نظرات في القرآن الكريم".
وخلاصته أن الآيات نوعان تكليفية وتكوينية، والمقصودُ بالآيات التكوينية خوارقُ العادات التي يُجريها الله لتأييد أنبيائه ودعم رسالتهم. ومن هذا القبيل قوله تعالى: (وأقسَموا باللهِ جَهدَ أيمانِهم لئن جاءتهم آيةٌ لَيُؤمِنُنَّ بها) (الأنعام: 109) وقوله: (وما منَعَنا أن نُرسِلَ بالآياتِ إلا أن كذَّب بها الأولون) (الإسراء: 59).
أما الآيات التكليفية فهي كلمات الله المتضمِّنةُ هداه لعباده. وذلك مثل قوله تعالى: (ويلٌ لكلِّ أفّاكٍ أثيمٍ. يَسمَعُ آياتِ اللهِ تُتلَى عليه ثم يُصِرُّ مستكبِرًا كأن لم يَسمَعْها..) (الجاثية: 7،8) وقوله: (تلك آياتُ الكتابِ المبينِ) (يوسف: 1).
والنسخ يقع في الأولى ولا يقع في الأخرى، فإن المعجزة التي تصلح لأمة لا تصلح لأخرى، ولا شك أن المعجزة الأخرى التي أيَّد الله بها خاتم أنبيائه تُغاير الخوارق الحسية التي أيَّد بها الأنبياء السابقين.
وقد طلب كفار قريش وغيرهم خوارقَ حسية محددة، وجاء بعد قوله تعالى: (ما نَنسَخْ من آيةٍ أو نُنسِها..) الخ، مقترَح عجيب من هؤلاء الكفرة: (وقال الذين لا يَعلَمون لولا يُكلِّمنا اللهُ أو تأتيَنا آيةٌ) (البقرة: 118)
بل إن آية (ما ننسخْ من آيةٍ...) اتصل بها قوله تعالى: (أمْ تُرِيدون أن تَسأَلُوا رَسُولَكم كما سُئِلَ موسَى من قبلُ) (البقرة: 108)
وهو تساؤل يجعلنا نقطع بأن النسخ ليس في آيات تكليفية أو أحكام شرعية، وإنما هو في حقيقة المعجزة التي تصحب رسالات المرسلين وتشد أزرهم أمام أعدائهم. وقد كان مشركو العرب ضائقين بالمعجزة الإنسانية التي ميز الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم. يريدون معجزة تُسيِّر الجبال لا معجزة تصنع الرجال!(1/173)
ومن الشائعات التي انطلقت في ميدان النسخ أن هناك قرآنًا أُنزِل ثم سُحب! والمعروف في ديننا أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر الذي يفيد اليقين، وأن خبر الواحد لا يُثبِت قرآنًا أبدًا، فالزعم بأن قرآنًا كان ثم رُفع كلامٌ لا يُلتفَت إليه.
والقرآن الكريم قد يَنسَخ أحكامًا جاءت في السنة الشريفة، وذلك مثل نسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة باستقبال المسجد الحرام، قال تعالى: (قد نَرَى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ فلَنُوَلِيَنَّكَ قبلةً تَرضاها فَوَلِّ وَجهَك شَطرَ المسجدِ الحرامِ وحيثما كنتم فولُّوا وجوهَكم شَطرَه..) (البقرة: 144).
واستقبال بيت المقدس لم يكن بنص قرآني، وإنما كان بإلهام إلهي عن طريق السنة التي يَهدي إليها قلبَ الرسول الكريم، ولم يكن ذلك اجتهادًا شخصيًّا، قال تعالى: (وما جعَلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنَعلَمَ مَن يَتَّبعُ الرسولَ ممن يَنقلبُ على عَقِبَيه) (البقرة: 143).
ومن قبيل نسخ السنة بالقرآن الكريم منعُ تسليم النساء المؤمنات إلى قريش، وقد كان عهد الحديبية ينص على رد كل مَن آمن إلى مكة، حتى نزل قوله تعالى: (إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتَحِنوهنَّ الله أَعلَم بإيمانِهنَّ فإن عَلِمتموهنَّ مؤمناتٍ فلا تَرجِعوهنَّ إلى الكفارِ) (الممتحنة: 10).(1/174)
34 ـ هل الاستدلال القرآني في قضية الألوهية على الوجود أم على التوحيد؟
إن الطفل الذي يُودَع في أحد الملاجئ قد يفكر في أبيه عندما يَكبَر، وقد يبحث عنه، ولكن لا يجري في خاطره أبدًا أنه جاء الدنيا من عدم، أو ظهر على الأرض من غير أب.
والبشرية في أغلب العصور بحثت عن ربها وفكرت فيه، وربما أخطأت الطريق إليه، فقد تعبُد اسمًا لا حقيقة له، وقد تعبُد حجرًا موهومَ الضر والنفع، وقد تعبُد عجلًا، أو تقدِّس بقرة، أو تؤلِّه نهرًا، وقد يجيء مَن يرفض هذه الآلهة المزعومة كلها وينكر أن يكون للوجود سيدٌ!
إن قضية الألوهية في التاريخ الإنساني يكتنفها قدر من الغموض، وجمهرة الأمم رَنَت إلى إله كبير، ثم رَمَزت إليه أو تَعَرفت عليه عن طريق التماثيل، أو الكائنات التي تنتمي إليه على نحو ما.
ويُخيَّل إليَّ أن رفض عقيدة الألوهية من الأساس لم ينجُم إلا بعد شيوعِ التدين الخرافي ورفضِ العقل السجودَ لحجر أو حيوان أو إنسان.
وكان هذا الرفض المطلَق يقع على نُدرة، ثم شاع في عصرنا الحديث مع التقدمِ العلمي، وانتشارِ تديُّن مغشوش، وخيانةِ المسلمين لرسالتهم فما بلَّغوها ولا أنصفوها.
وحديث القرآن الكريم عن الألوهية يتسم بالوضوح الشديد، فهو ينفي الشركاء بحدة وحسم، وينفي أن يكون هناك أحد فوق مستوى العبودية لأن له بالله صلةً خاصةً، لا، هو إله واحد وكل ما عداه عبد له: (إنْ كلُّ مَن في السماواتِ والأرضِ إلا آتِي الرحمنِ عبدًا. لقد أحصاهم وعدَّهم عدًّا. وكلُّهم آتيه يومَ القيامةِ فردًا) (مريم: 93ـ95).
وخلال الحديث عن الوَحدة، وكشف الحجب عن أمجاد الإله الحق وأسمائه الحسنى وأوصافه العلى، تتشعَّب الدلائل لتسحق كل تفكير قد يَعرِض عن استغناء العالم عن ربه وقيامه بنفسه.
أي إن شرح حقيقة التوحيد في الأسلوب القرآني يمحو آثار الإلحاد، وينفي شبهات الملحدين، وبذلك تتعانَق أدلة الوجود الأعلى وأدلة التوحيد المطلق في نسق فذٍّ!(1/175)
وهاك أمثلةً من الكتاب العزيز:
يقول الله ـ سبحانه ـ عن المشركين: (ولئن سألتَهم مَن خلَق السماواتِ والأرضَ ليقولُنَّ خلَقهنَّ العزيزُ العليمُ) (الزخرف: 9) (ولئن سألتَهم مَن خلَقَهم ليقولُنَّ اللهُ فأنَّى يُؤفَكون) (الزخرف: 87).
إن وصف الله سبحانه (الخالق) يعني أنه أوجد العالم من عدم، فهو بارئه ومبدعه ومصوره ومبدئه ومعيده.. الخ.
ومعنى أن العالم مخلوق أنه برَز من العدم إلى الوجود بقدرة قادر وحكمة حكيم وعلم عالم...الخ.
إن الصفر لا يصنع شيئًا، والعدَم لا ينشئ وجودًا، ومَن ظن أن العالم كان معدومًا ثم عَرَاه الوجود من غير شيء فهو أحمق!
والخلق من لا شيء ليس عملًا تافهًا يقدر عليه أي تافه، ومن يتصور ذلك فهو مغفل!
إن الخلق عمل هائل.
وإذا كان صُنْع مطبعة أو سيارة أو راديو يحتاج إلى متخصصين مهرة ـ وهذا عمل دون الخلق بمراحل ـ فكيف بالخلق نفسه؟
إنني لا أجنح إلى خيال بعيد، ولكنني أسأل:
إن العلماء مَشدُوهون أمام سعة الكون التي لم تُعرَف لها إلى اليوم نهائيات، أفلا يكون رب الكون أكبر من الكون نفسه؟
بلى، والله أكبر!
الأمر هنا ليس نفيًا للشركاء! فإن الشركاء تساقطوا من أول الطريق! والوثنيون لم يزعموا لأحجارهم شيئًا، والمصابون بجنون العظمة كفرعون وأضرابه لم يزعموا أنهم خلقوا شيئًا: (اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ وهو على كلِّ شيءٍ وكيلٌ) (الزمر: 62).
ولا يَسُوغ لأحد أن ينتظر من القرآن الكريم أن يجعل من الوجود الأعلى قضية هي موضع الأخذ والرد والقبول والإنكار!
الله أعلى وأجل!
أقصى ما يَنتَظِر أن يَتَناول أوهامَ الجهَّال بما يَدمَغُها، وأن يدوس التعطيل وهو يمحو الشرك!(1/176)
وتدبُّر الآيات: (قُلْ مَن يَرزقُكم من السماءِ والأرضِ أم مَن يَملِكُ السمعَ والأبصارَ ومَن يُخرجُ الحيَّ من الميتِ ويُخرجُ الميتَ من الحيِّ ومَن يُدبِّرُ الأمرَ فسَيَقُولون اللهُ فقل أفلا تتقونَ. فذلكم اللهُ ربُّكم الحقُّ فماذا بعد الحقِّ إلا الضلالُ فأنَّى تُصرَفون) (يونس: 31،32).
ظاهرٌ من السياق أنه لنفي الشركاء، وأظهر منه أنه لنفي الإلحاد والتعطيل.
ذلك أن صور الموت والحياة تترادف تحت حواسِّنا، ومن حقنا أن نسأل:
مصانعُ مَن التي اختَفَت تحت التراب تُبرز الحبوبَ والفواكه؟
ومع مَن اتفقت لتحوُّل المياه الكَدِرة وفَضَلات المجاري إلى ورود وأزهار وطعوم جيدة وألوان بهيجة؟
مَن رب هذه وتلك؟
إنه الله!
وفي كل لحظة من ليل أو نهار تخرج من بطون الأمهات أطفال سوية المشاعر، نابضة بالحياة، صالحة للنماء، مستعدة للاكتمال العقلي والعاطفي، متهيئة لشتى التكاليف.
مَن جعلها كذلك؟
هل الأب هو الذي اختار خصائص الوراثة في الحيوان المنوي الذي أنزله؟
إنه لا يدري كيف تكوَّن ولا متى ولا من أين جاء!
هل الأم اختارت بويضتَها وساعةَ نزولها؟
إنها ليست أقل جهلًا من رجلها.
مَن المسئول عن هذا الإيجاد الذي لا يمكن إنكاره؟
إن رد الإيجاد إلى "الصفر" أو إلى "س" أو إلى مُبهَمٍ سَخَفٌ لا يُطيقه إلا فكر ساقط سخيف!
المسئولُ عن هذا القائلُ: (اللهُ يَعلَمُ ما تَحمِلُ كلُّ أنثى وما تَغِيضُ الأرحامُ وما تَزدادُ وكلُّ شيءٍ عنده بمقدارٍ) (الرعد: 8).
و(كل أنثى) هنا تعميم يستوعب الإناث في عالم الأحياء؛ من طير ودابة وحشرة وزاحفة، في البر أو البحر، بل من الإنس والجن! ولذلك جاء عقب هذه الكلية المحيطة المستوعِبة قولُه: (عالمُ الغيبِ والشهادةِ الكبيرُ المتعالِ) (الرعد: 9).
إن الفرار من الحقائق ليس ذكاء ولا شرفًا، وإذا كان بعض الملحدين يحسب نفسه مفكِّرًا، فليَعلَمْ واقعَه المر!(1/177)
إنه امرؤ معتلُّ الفكر، مصاب بداء عقلي منفِّر لا يَقِلُّ عن الجُذام! بل ربما كان المجذوم أشرف خُلُقًا وأصح فكرًا.
قلنا: إن منهج القرآن هو الجمع في سياق واحد بين دلائل الوجود الأعلى وأدلة الوحدانية المطلقة، ليس القرآن كتابًا فنيًّا يفرد فصلًا لهذه القضية وفصلًا لتلك القضية، إنه يبني العلائق بالله على نحو يربط الناس بخالقهم، مَلِكِ الأسماع والأبصار والأفئدة، مدبرَ الأمور كلها، الذي لا راد لحكمه، ولا مهرب من قضائه، ولا منتهى لعلمه، ولا مجير عليه.
ومن رحمة الله بخلقه أنه يفتح عيونهم على آياته ليعرفوه من خلال نظرهم في هذا العالم الذي يعيشون فيه، يقول تعالى: (وإلهُكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلا هو الرحمنُ الرحيمُ) (البقرة: 163).
الجملة الأولى فيها تأسيس لعقيدة التوحيد، والجملة الثانية فيها نفي لحكاية الشركاء، والآية كلها تمهيد للحديث عن مجال الوجود الإلهي في آفاق العالم.
(إن في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ والفُلكِ التي تَجري في البحرِ بما يَنفَعُ الناسَ وما أَنزَلَ اللهُ من السماءِ من ماءٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِها وبثَّ فيها من كلِّ دابّةٍ وتصريفِ الرياحِ والسحابِ المسخَّرِ بين السماءِ والأرضِ لآياتٍ لقومٍ يَعقلون) (البقرة: 164).
في هذه الآية تنبيه للعقلاء إلى أن كل شيء في الكون يشير إلى سيده، ويدل على الخالق الكبير، وقد جاء الكلام على أسلوب السرد المُجمَل، لكننا نرى التفصيل في مواضع أخرى، تدبر قوله تعالى: (اللهُ الذي يُرسِلُ الرياحَ فتُثيرُ سحابًا فيَبسُطُه في السماءِ كيف يشاءُ ويَجعلُه كِسَفًا فتَرَى الوَدْقَ يَخرجُ من خِلالِه فإذا أصاب به من يشاءُ من عبادِه إذا هم يَستبشرون. وإن كانوا مِن قبلِ أن يُنزَّلَ عليهم مِن قبلِه لَمُبلِسِين) (الروم: 48،49).(1/178)
بعد هذا التفصيل لنزول الغيث إلى مترقِّبيه بلهفة بالغة تسمع رب العالمين يقول للإنسان: (فانظُرْ إلى آثارِ رحمةِ اللهِ كيف يُحيي الأرضَ بعد موتِها) (الروم: 50).
كأنه يقود المَرْء إلى النتيجة البَدَهِية بعد تجربة معملية تمت بين سمعه وبصره! هذه آثار الرحمة، وهذه آثار القُدْرة، وهذه مظاهر العلم، وهذه.. الخ، كل شيء يشهد لله ويُوَجِّه إليه!
وكما قال للإنسان انظر قال للناس: (انظُروا إلى ثَمَرِه إذا أَثمَرَ ويَنْعِه إن في ذلكم لآياتٍ لقومٍ يؤمنون) (الأنعام: 99).
ومما يُعين على فهم الأسلوب القرآني أن نتذكر حقيقة فلسفية معروفة؛ هي أن العالم ليس له من ذاته وجود! إن وجوده طارئ عليه من الخارج!
أترى المصباح الكهربائي عندما تغمز "الزر" فيضيء، إنه لا يضيء أبدًا من ذاته، لابد من تيار خارجي يَسري فيه ليتوهج! إنه مُعَدٌّ فقط للاستقبال، وإشعاعٌ ما يجيئه من جهة أخرى.
كذلك الكون، إن وجوده ذاتًا وصفاتٍ مُفَاضٌ عليه من أعلى، وإذا انقطع التيار الذي يمده تلاشى واستخفى فلا أثر له، وهذا معنى قوله تعالى: (إن اللهَ يُمسِكُ السماواتِ والأرضَ أن تَزولا ولئن زالَتا إن أَمسَكَهما مِن أحدٍ مِن بعدِه إنه كان حليمًا غفورًا) (فاطر: 41).
وعندما يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى آيات الله في الأرض والسماء وما بينهما، فهو يعطينا فكرة عن الإيجاد والإمداد معًا، ولا بأس أن يضم إلى ذلك إشعارًا بأنه الله الواحد، وأن ما عداه من آلهةٍ مزعومةٍ إفكٌ مبينٌ (اللهُ الذي جعَل لكم الأرضَ قَرَارًا والسماءَ بناءً وصوَّركم فأَحسَنَ صُوَرَكم ورَزَقكم من الطيباتِ ذلكم اللهُ ربُّكم فتَبارَكَ اللهُ ربُّ العالمينَ. هو الحيُّ لا إلهَ إلا هو فادعوه مُخلِصينَ له الدينَ..) (غافر: 64،65).(1/179)
هكذا اشتمل القرآن على دلائل الوجود الأعلى في ثنايا توحيد الله وتمجيده، فالله أعظم وأعز من أن يكون إثبات وجوده أمرًا يُفرَدُ له عنوانٌ، وكأنه موضع يفتقر إلى البرهان.(1/180)
35 ـ ما أهمية القصص في القرآن؟
وهل لها أصل تاريخي؟
وما الحكمة في تكرارها؟
لابد من دراسة الماضي والتفرُّس في أحداثه، فإن هذه الأحداث ليست مِلْكًا لأصحابها، وإنما هي مِلْك الإنسانية جميعًا، يدرُسها الخَلَف ليستفيدوا منها العِبَر، ويستخلصوا منها النتائج، ويضعوها نُصْبَ أعينهم وهم يُخَطِّطون للحاضر والمستقبل على سواء.
وظاهرٌ أن سِيَر الأفراد والأمم يخضع لسُنَن دقيقة، وأن ازدهار الحضارات وانطفاءها وبقاء الدول أو فناءها لا يتم خَبطَ عشواء! وإنما يقع وَفْقَ قوانين صارمة! بل إن القوانين الاجتماعية لا تقل عن القوانين العلمية دقّةً واطِّرادًا، ومن ثَمّ كان تجاهل هذه القوانين وخيمَ الآثار.
وقصص القرآن الكريم جزء من التاريخ المهم، ومعرفتها حصانة للباحثين لا يستغني عنها ذو لُبٍّ، قال تعالى: (كذلك نقُصُّ عليكَ من أنباءِ ما قد سبَق وقد آتيناكَ مِنْ لَدُنّا ذِكْرًا) (طه: 99).
وقد لام ـ سبحانه ـ الغافلين عن هذا التاريخ وما وَعَى من مصارع الظلَمَة وهلاك المفسدين (أفَلَمْ يَهدِ لهم كم أهلَكنا قبلَهم من القرونِ يَمشون في مساكنِهم إن في ذلك لآياتٍ لأُولي النُّهَى) (طه: 128).
وقال: (تلكَ القُرَى نقُصُّ عليكَ من أنبائِهَا ولقدْ جاءَتْهم رسلُهم بالبيناتِ فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّبوا من قبلُ كذلك يَطبَعُ اللهُ على قلوبِ الكافرينَ) (الأعراف: 101).
وتتشابَه القوانين الاجتماعية والقوانين الكونية في عمومها وانطباقها على شتى الأمكنة والأزمنة، فقانون الأجسام الطافية مثلًا يشمل جميع الأنهار والبحار. وانهيار الأمم لشيوع الفوضى والفساد يتناول شتى الأجناس والعصور. وقد هدَّد الله العرب بالمصير الكالح إذا بقُوا على عنادهم ومكرهم: (ولا يَحيقُ المكرُ السيئُ إلا بأهلِه فهل يَنظُرون إلا سُنةَ الأولين فلن تَجدَ لسنةِ اللهِ تبديلًا ولن تَجدَ لسنةِ اللهِ تحويلًا) (فاطر: 43).(1/181)
وسنن الله الكونية لا تُحابي أحدًا، وكذلك سُنَنُه التاريخية والحضارية، وهي مُنْطَبِقَة على المؤمنين والكافرين دون استثناء، وقد وقعت محنة (أحد) لأن المسلمين لم يلتزموا النصر، بيد أن الهزيمة الطارئة لن تُغَيِّر مستقبل الضلال وإن واتتْه مؤقتًا ظروف مساعدة، قال تعالى: (قد خَلَت من قبلِكم سُننٌ فسِيروا في الأرضِ فانظروا كيف كان عاقبةُ المكذِّبين. هذا بيانٌ للناسِ وهدًى وموعظةٌ للمتَّقين. ولا تَهِنوا ولا تَحزَنوا وأنتم الأَعلَونَ إن كنتم مؤمنين. إن يَمسَسْكم قَرْحٌ فقد مَسَّ القومَ قَرْحٌ مِثْلُه وتلك الأيامُ نداولُها بين الناسِ) (آل عمران: 137ـ140).
وقد تضمَّن القرآن الكريم عدَّة قوانين اجتماعية وعمرانية حاسمة ساقها في تضاعيف القصص التي ذكرها أو في خواتيمها، مثل قوله سبحانه: (تلك الدارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يريدون علوًّا في الأرضِ ولا فسادًا والعاقبةُ للمتقين) (القصص: 83) وقوله: (إنه من يَتَّقِ ويَصبرْ فإن اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المحسِنينَ) (يوسف: 90) وقوله: (كذلك يَضربُ اللهُ الحقَّ والباطلَ فأما الزَّبَدُ فيَذهَبُ جُفَاءً وأما ما يَنفَعُ الناسَ فيَمكُثُ في الأرضِ) (الرعد: 17) الخ.
إن القصص القرآني سردٌ واعٍ مُوَجِّهٌ للتاريخ الإنساني، ليس الغرض منه الإلهاء والتشويق، بل الغرض منه التربية والتوعية، وتجديد المعاني بعد انتهاء أهلها لتكون عظة دائمة!
وقد شاع أدب القصة في عصرنا شيوعًا يستحق الدهشة، وامتلأت الأيدي بروايات يقرؤها حاملوها ليقطعوا الوقت أو يلتذوا بحسن العرض! وجملة هذه الروايات من نسج الخيال، وقد تكون ذات مَغزًى جيد، وقد تكون إثارة وَضِيعة.
والبَونُ شاسع بين هذه الأقاصيص وبين التاريخ الذي يجسده القرآن الكريم ويغزو به الألباب والبصائر ليمحوَ الغفلة ويرفعَ المستوى ويضيءَ السبل، البَونُ بعيدٌ بعيد.(1/182)
عندما يقول الله لنبيه: (وكلًّا نقُصُّ عليك من أنباءِ الرسلِ ما نُثبِّتُ به فؤادَك وجاءك في هذه الحقُّ وموعظةٌ وذكرى للمؤمنين) (هود: 120).
فهو يقول ذلك في أعقاب سرد لواقع لا ريب فيه، فقد ذكر في هذه السورة قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى مع أممهم التي ظهرت في عصور متعاقبة، وانتظمتها أدواء التكذيب والمكابرة حتى أهلكتهم أمة بعد أخرى.
وهو يحكي ذلك إرهابًا للعرب المستكبرين وتسليةً للنبي وتسريةً له!
وفي موضع آخر يقول له: (ولقد كُذِّبَت رسلٌ من قبلِك فصبروا على ما كُذِّبوا وأُوذُوا حتى أتاهم نصرُنا ولا مُبدِّلَ لكلماتِ اللهِ) (الأنعام: 34).
فأين موضع الخيال في هذا الوقائع؟
وبعد أن قص الله سبحانه قصة يوسف، وشرح أطوار حياته منذ اختُطف إلى أن صار ملك مصر، قال عنه وعن غيره من المرسلين: (لقد كان في قَصَصهم عِبرةٌ لأولي الألبابِ ما كان حديثًا يُفتَرَى ولكنْ تَصديقَ الذي بين يَدَيه وتفصيلَ كلِّ شيءٍ) (يوسف: 111).
فأين موضع الخيال هنا؟
إن اتهام القرآن بأنه يعرض خيالات فنية أو يمزج في سياقه بين الواقع والخيال اتهام لا مساغ له، وهو في نظرنا بلاهة نشأت عن اتباع المستشرقين!
والمستشرقون يَحْسُون ما في كتبهم من غثاثة وعِوَج وبُعد عن الحق، ويريدون الإيهام بأن القرآن لا يَزِيد على غيره، وهذا كذب لا يَرُوج عند عاقل!
ومعلوم أن القصة واحدة قد تتكرر في عدة سور، غير أن هذا التكرار صوري، فإن كل قصة تختلف عن الأخرى، إما في العناصر الجوهرية التي تتألف منها، أو في طريقة العرض الذي يُناسب مقتضيات الأحوال.
فقصة موسى وبني إسرائيل في سورة "غافر" انفردت بالحوار الطويل للرجل المؤمن الذي يَكتُم إيمانه، بل هو العنصر البارز فيها.
والقصة نفسها في سورة "القصص" انفردت بتفصيل السبب في خروج موسى إلى أرض مدين وزواجه هناك.
والقصة في سورة "الكهف" انفردت بلقاء موسى مع الخضر هذا اللقاء المثير المستغرَب.(1/183)
والقصة في سورة "طه" انفردت بالحديث عن العصا التي كان موسى يَهُشُّ بها على غنمه ثم تحولت إلى قوة هائلة في يده، كما انفردت بأدعية موسى وإجابة الله له..الخ.
وقد استطال الحديث في سورتي "البقرة والأعراف" عن قصة بني إسرائيل، ومع ذلك فإن المنهج غير المنهج، والنتائج غير النتائج، وما اتفقت فيه السورتان جاءت صياغته على نحو يلائم البيئة المتغايرة، فالسورة الأولى مدنية والأخرى مكية.
وشرح النواحي الفنية والموضوعية في هذه القصة وحدها يحتاج إلى كتاب عن "اليهود في القرآن الكريم" مع ملاحظة أن القرآن ليس كتابًا فنيًّا في الجغرافيا أو التاريخ، إنه يهتم بالجانب الإنساني والاجتماعي وحسب!
والحوار المبثوث في أرجاء كل قصة يُساق بحكمة إلى غاية محددة!
خذ مثلًا قصة شعيب مع مدين في سورة "الأعراف" لقد جاء فيها هذا الخطاب يناشد فيه شعيب قومَه ألاّ يَستبِدَّ بهم اللَّدَدُ في الخصومة، وألاّ يَحمِلَهم النَّزَقُ على ارتكاب ما لا يَليق: (وإن كان طائفةٌ منكم آمَنوا بالذي أُرسِلتُ به وطائفةٌ لم يؤمنوا فاصبروا حتى يَحكُمَ اللهُ بيننا وهو خيرُ الحاكِمين) (الأعراف: 87) أي: دعُوا الأمر للزمن ولا تتعجلوا العواقب.
فماذا كان الجواب؟
(قال الملأُ الذين استَكْبَروا من قومِه لَنُخرِجَنَّك يا شعيبُ والذين آمَنوا معك من قريتِنا أو لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا..) (الأعراف: 88).
وظاهر أن هذا السياق من قبيل "إياك أعني واسمعي يا جارة" وكأن النبي يقول للعرب المناوئين له: احذروا مثل هذا المسلك في مصادرة الإيمان ومخاصمة أهله، فعُقباه صيحةٌ من المساء تَذَرُكم في دياركم هَلكَى كما حدث لقوم شعيب: (فأخَذَتهم الرجفةُ فأصبَحوا في دارِهم جاثِمين. الذين كذَّبوا شعيبًا كأن لم يَغنَوْا فيها الذين كذَّبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين) (الأعراف: 91ـ92).(1/184)
ويلفت نظرنا في تكرار أي قصة أن القرآن الكريم يُقَلِّب النفس الإنسانية على شتى جوانبها، ويعالجها طورًا بالهدوء وطورًا بالصرامة، طورًا بالشد وطورًا بالرخاء، والغرضُ أن تَترُك باطلها وتُقبل على هدايات الله.
انظر مثلًا إلى قصة هود مع عاد، إنك ترى هودًا في سورة الأعراف بدأ هادئًا طويل الأناة مع ناس أشبه بالثيران الهائجة: (وإلى عادٍ أخاهم هودًا قال يا قومِ اعبدوا اللهَ ما لكم من إلهٍ غيرُه أفلا تتقون. قال الملأُ الذين كفروا من قومِه إنَّا لَنَراكَ في سفاهةٍ وإِنَّا لَنَظنُّك من الكاذبين) (الأعراف: 65،66).
فإذا تأملت في القصة نفسها عندما تعرضها سورة "هود" وجدت النبي الحليم يبدأ منددًا بوثنية قومه وحاسمًا في كشف كذبهم على الله ومنذرًا بسوء المآل إن هم بقُوا على جبروتهم: (وإلى عادٍ أخاهم هودًا قال يا قومِ اعبدوا اللهَ ما لكم من إلهٍ غيرُه إن أنتم إلا مُفتَرون... ويا قومِ استغفِروا ربَّكم ثم توبوا إليه يُرسلِ السماءَ عليكم مِدْرارًا ويَزِدْكم قوةً إلى قوَّتِكم ولا تَتولَّوا مُجرِمين) (هود: 50،52).
وتفسير هذا أن لقاء أي نبي مع قومه لا يقع مرة واحدة، إنه لقاء يبقى عشرات السنين، وما يدور بينهم وبينه من حديث لا يأخذ صورة واحدة، بل يأخذ صورًا كثيرة!
وحتى لو وقع لقاء واحد ـ كما حدث لموسى مع السحرة ـ فإن كل ما دار من حوار لا يُثبَتُ في عَرْض واحد، بل تُوزَّع أجزاء الحوار على ما تقتضيه المناسبات المتفاوتة.
ومِن ثَمَّ كان القصص القرآني مجالًا رحبًا لمعالجة النفوس والجماعات من عِلَلِها المُنَوَّعة بما يلائمها من الدواء الناجع، فسَبكُ القصة ملحوظٌ فيه نقلُ ما يفيد الناس من بدء الوحي حتى قيام الساعة!(1/185)
ليس المهم تحديد مولد أو وفاة، ليس المهم تحديد موقع أو حتى تحديد الشخص، فما يعنينا أن نعرف هوية ذي القرنين أو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، المهم تقديم الشفاء النفساني والاجتماعي من خلال تاريخ صادق وقصص حق.(1/186)
36 ـ ما تفسير الآيات التي قد تصف الله سبحانه وتعالى وصفًا ماديًّا، مثل "وجاء ربُّك والمَلَكُ صفًّا صفًّا"؟
جلستُ يومًا أفكر: ما أنا بين الناس؟
قلتُ: واحد من ألوف مؤلفة تسكن هذه الأرض!
سألت مرة ثانية: ما أنا بين مَن سكنوها منذ الأزل ومن يسكنونها آخر الدهر؟
فشعرت بأني أتضاءل، وأن وجودي يصغر!
سألت مرة ثالثة: ما أنا بين شتى العوالم؟
إن أرضنا التي نحُس ضخامتها ذرةٌ محقورة بين أسراب لا تُحصَى من الكواكب الثابتة والدوارة، وما يقدر العلماء أبدًا على معرفة حدود هذا الكون، ولا أن يعرفوا ما يَزخَر به من أحياء!
وشعرت بأني أزداد تضاؤلًا، وقلت: يجب أن أعرف قدري، وألاّ أعدُوَ حَدِّي، إن الغرور جريمة علمية قبل أن تكون جريمة خلقية.
وراقبت بعض الحشرات السارحة في عالمها الخاص بها وقلت: أتَدري عن عالم الإنسان شيئًا! أتَعرف ما يجول في فكره! أتَعرف ما يَبحث من قضايا وما يَقرأ من كتب!
كلاّ، كلاّ، أنَّى لها هذا!
قلت: إن علمي بحقائق الألوهية كعلم هذه الحشرات بحقيقتي! ينبغي أن أعرف قَدْري وألا أَعدوَ حدِّي! إنني نقطة مغموسة في مساحات رهيبة من الزمان والمكان، كيف تحاول قطرة في تُرعة أن تستوعب البحار والمحيطات وتشرف على اللُّجَج والأنواء!
ورحت مع أبي القاسم القُشيري أناجي ربي بهذه الأبيات:
يا مَن تقاصَرَ شكري عن أياديهِ وكَلَّ كلُّ لسانٍ عن معاليهِ
وُجُودُه لم يَزَلْ فردًا بلا شَبَهٍ علَا عن الوقت ماضيهِ وآتيهِ
لا دهرَ يُخلُقُهُ، لا قهرَ يَلحَقهُ لا كشفَ يُظهرُهُ، لا سرَّ يُخفيهِ
لا عَدَّ يجمعهُ، لا ضدَّ يمنعهُ لا حدَّ يقطعُهُ، لا قُطرَ يَحويهِ
لا كونَ يحصُرُهُ، لا عونَ ينصُرُهُ وليسَ في الوهمِ معلومٌ يُضاهيهِ
جلالُهُ أزليُّ لا زوالَ لهُ ومُلْكُهُ دائمٌ لا شيءَ يُفنيهِ(1/187)
إن القرآن الكريم حسم طيش الخيال عندما قال في التنزيه والتجريد: (ليس كمِثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ) ونحن من بعيد قد نَشِيمُ لَمَعانَ البرق، وقد يمر بعقلنا طيف عن أمجاد الألوهية لا ندري مأتاه، ومع ذلك فإن هذه الخطوات العابرة لا تغني شيئًا، بل هي كما قال أبو الفتح البُستي:
كَلَّ مَن يرتقي بوهمٍ من جلال وقدرة وسناءِ
فالذي أبدع البرية أعلى منه، سبحانَه مُبدِعُ الأشياءِ
إنني أعُدُّ الباحثين في ذات الله مرضى! فنحن على تفاهتنا لا نعرف من نحن فكيف نعرف الذات العليا؟
والأفهام البشرية في ذات الله تفاوتت تفاوتًا بعيدًا بين التجسيد والتجريد، فكُتّاب "العهد القديم" صوَّروا الله يبكي ويندم ويمشي ويقعد ويأكل ويشرب ويضرب إلى جانب ما له من صفات رفيعة.
من أغرب الصور أنه جلس مستلقيًا على قفاه متمددًا على الأرض واضعًا قدمًا فوق أخرى!
وفلاسفة اليونان المؤلِّهون ـ في مقدِّمتهم أرسطو ـ صوَّروا الله منزَّهًا عن كل شيء، حتى عن الصفات التي يَعلَم بها ويَقدِر بها، فهو عالم بذاته قادر بذاته. وبالغوا في التجريد حتى كأن الله معنًى لا ذات!
فإذا تجاوزنا الأفهام البشرية إلى الوحي الأعلى، واستمعنا إلى القرآن الكريم وجدنا أوصافًا تقرِّب معنى الألوهية إلى الحس الإنساني من غير تجسيد، وتبلغ بها كمالًا لا يتناهى من غير تجريد.
المسلم يقرأ قوله تعالى: (ولقد خلَقنا الإنسانَ ونَعلَمُ ما تُوسوِسُ به نفسُه ونحن أقرَبُ إليه من حَبلِ الوَريدِ) (ق: 16) فيشعر بأن الله قريب منه مُطَّلِع على دخيلته، ومع ذلك فهو يعلم أن الله مستوٍ على عرشه محيط من وراء خلقه.
إنه يُحس بالله دون أن يُجسده، ويُنزِّه الله دون أن يَفقِده.
والإيمان الحقيقي أن تشعر بأن أصابع القدرة هي التي تحرك قلبك فيدق ومعدتك فتهضم!
ماذا قلت؟ أصابع القدرة؟ هل للقدرة أصابع؟(1/188)
هنا ندخل في مبحث قديم، قتله المتقدمون تقعرًا وجدلًا وانقسموا فيه فرقًا. أما أنا فأمرُّ به مرَّ الكرام! وقد قلت في كتابي "مشكلات": أنا مع السلف من غير تجسيم ومع الخلف من غير تعطيل.
لقد كان طبيعيًّا أن تجيء في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة جملٌ يتهيب العقل الغوص في معناها مثل: (فأينما تُولُّوا فثَمَّ وجهُ اللهِ) (البقرة: 115) (ما منَعَك أن تَسجُدَ لما خلَقتُ بيدَيّ) (ص: 75) (واصبِرْ لحُكمِ ربِّك فإنك بأعينِنا) (الطور: 48).
وقد نبَّه القرآن منذ أُنزِل إلى أن هناك آياتٍ ينبغي التسليم بها، لأن حقيقتها فوق الفكر العادي، ومن الزيغ إكثارُ اللَّجاجة حولها. لكن العناد والفراغ خلَقا طوائفَ لا شغل لها إلا هذا اللغو، فكانت بلاء على الأمة ولا تزال!
إن اللغات على كثرتها من وضع البشر، وقد ألَّفوها ليعبروا بها عما يريدون من معانٍ وما يستخدمون من أدوات، وشئون الألوهية فوق اللغات وفوق واضعيها، فإذا أفهمنا الله بلغاتنا شيئًا يتصل بذاته العليا فعلى أسلوب التنزيل والتقريب.
وإذا كان عبد الله بن عباس يقول: إنه ليس في الدنيا من أوصاف الجنة إلا الأسماء. يعني أن الحقائق لم ترها عين ولم تسمعها أذن، فكيف بالحديث عن رب العالم وخالق الجنة والنار!
إن الرغبة في فهم حقيقة العرش وحملته، أو كيف يجيء الله في ظُلَل من الغمام، وكيف يجيء والملائكة صفًّا صفًّا ـ هذا كله نَهَمٌ مردود، ومجازفةٌ الذاهبُ فيها مفقود، ومن الخير أن يعرف العقل أين يُنتِج فيتحرك، وإلا سكن!
وقد كنا ونحن طلاب ندرس مذهبَي السلف والخلف بهدوء، وبغتةً لاحظت في أيامنا تحاقدًا بين ناس يتبعون السلف وناس يتبعون الخلف، والأمة الإسلامية تكاد تسقط من الإعياء ومن ضربات الأعداء، فعجبت لانفجار الخصومة في هذا الوقت العصيب!
وقد رأيت أن أُثبت كلامًا للدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز في الموضوع لعله يخفف من هذا البلاء قال:(1/189)
إن كلمة "اليد" في قوله تعالى: (يدُ اللهِ فوق أيديهم) (الفتح: 10) أو كلمة "اليمين" في قوله: (والسماواتُ مطوياتٌ بيمينه) (الزمر: 67) فسرها العلماء المتأخرون بأنها تعني القدرة، وهو استعمال مجازي مشهور، يقال: لا يد لي بكذا. أي لا قدرة لي عليه.
أما السلف الصالح فقد اشتُهر عنهم أنهم لا يُؤولون هذه الظواهر بل يأخذونها على الحقيقة. والواقع أنهم لا يمنعون أصل التأويل، ولكنهم يسلكون في تأويلها مسلكًا علميًّا متينًا يدل على عُلُوِّ كعبهم في الفهم، وأنا أحب أن أفسره لكم لأنه ينفعكم في مواضع كثيرة.
قال:
إنه لما دلت الأدلة القاطعة على مخالفته تعالى للحوادث كان هذا قرينة مانعة من إرداة المعنى الحقيقي المعروف لنا، فإذن هي مصروفة عن هذا الظاهر، وكأنه يراد بها معنًى مجازي، لكننا لم تقم لنا قرينة معينة على تحديد هذا المعنى في أغلب الآيات، هل المراد به القدرة أم الإرادة أم صفة لا نعرفها؟ أم ليس هناك مجازٌ في المفرَد يشار به إلى صفة معينة وإنما هو كلام تمثيلي لتربية المهابة في النفوس؟
كل ذلك سائغ في النظر، وليس ثَمّ دليل يُعيِّن واحدًا بخصوصه، لذلك وجب أن نقف حيث وقف بنا الدليل، فلنُثبِتْ له تعالى ما أراده من كلامه على الوجه الذي أراده مع تنزيهه عن المعنى الذي نألفه من صفات المخلوقين.
قال:(1/190)
تَرَونَ من هذا أن السلف يجوِّزون المعنى الذي ذهب إليه المتأخرون، على أنه احتمال يحتمله الكلام، ولكنهم لا يلتزمونه التزامًا، لأن القول بالالتزام قول بغير دليل، من أجل ذلك سكتوا عن الخوض في تحديد معاني هذه الظواهر، واكتَفَوْا بمعناها الإجمالي المصروف عن الظاهر. أما طريق الخلف وهو الخوض في تحديد التأويلات، فإنما ألجأهم إليه ـ والله أعلم ـ ظهور بِدَعِ المشبِّهة والمجسِّمة وغيرهم، فأرادوا سد باب الإبهام ودفع الوساوس عن العوام، لكيلا يخرجوا عن دائرة التنزيه، ولا يحوموا حول التشبيه. جزاهم الله خيرًا بما قصدوا، وغفر لهم تحديد ما حددوا.
قال:
وجملة القول أن طريق السلف هو الأليق بالعلماء، وطريق الخلف أصلح للعوامِّ وأنصاف العوامِّ.
وأرى أن كلام الشيخ الجليل فيه خير كثير، إنني في دروسي وعظاتي أتَّبِع مذهب السلف، وعندما أجادل أهل الكتاب والماديين أنتفع بمباحث الخلف!
وفي كل الأحوال أرفض تجريد الفلاسفة، وتجسيم اليهود والنصارى، ومَن تأثر بهؤلاء وأولئك من ضِعاف التفكير.(1/191)
37 ـ كيف تفسر ما ذكره القرآن؛ من أن السماوات سبع والأَرَضين سبع، مع حقائق العلم التي تَرَى أن الأرض واحدة والسماء فضاء؟
ذكرتُ في أكثر من كتاب أنه يستحيل أن يقع تناقض بين الدين والعلم، فإن العلم الصحيح وصف دقيق لجزء من ملكوت الله، والدين الحق توجيه آتٍ من عند الله خالق هذا الملكوت، فكيف يحدث بينهما تكاذب؟
ما أثار التساؤل يرجع إلى أن الناس سمَّت شيئًا ما دينًا وليس بدين، أو سمَّت شيئًا ما علمًا وليس بعلم!
وقد يكون مثارُ التساؤل خطأً شخصيًّا من أحد المتكلمين في الدين أو أحد المتكلمين في العلم، وما أكثر أخطاءَ الفريقين!
قال لي أحد الناس: ثبت أنه لا حياة إلا في أرضنا، وأن الكواكب الأخرى ميتة لا حياة فيها! قلتُ: هذا التعميم خطأ، يمكن أن يقال: لا حياة بشرية، أو لا حياة نباتية، أو لا حياة لكائنات تعتمد على النفَس وتَعجِز عن الوجود في درجات حرارة معينة!
ومَن قال: إن المخلوقات كلها على غِرارنا؟
(ما أشهَدتُهم خَلقَ السماواتِ والأرضِ ولا خَلقَ أنفسِهم وما كنتُ متَّخِذَ المُضلِّين عَضُدًا) (الكهف: 51).
إنها جراءة أن يتحدث بعض الناس باسم العلم فينطق بالجهل، ويبدو أن الأمر كما يقول العقاد: هناك مقلدون في كراهية التقليد!
قال: تعني أن هناك حياة في الكواكب والنجوم؟
قلت: لا أمنع أن هناك حيواتٍ أخرى، وأستبعد أن تكون الأفلاك حجارة صمّاء موحِشة تسبح في الفضاء، ليس على أديمها إلا الخراب!
إن علماء الفلك متفقون ـ تقريبًا ـ على أن أرضنا تشبه حبة رمل في صحراء مترامية الأطراف! فهل هذه الحبة وحدها التي سَعِدت بالعقل أو شَقِيت، وأما بقية الحبات فلا حِراك ولا فكر ولا قيمة! هذا بعيد.(1/192)
الذي أشعر به من كتابي أن هذه الأفلاك مشحونة بكائنات راشدة، تُسَبِّح بحمد الله، وتَرثِي لسكان الأرض، وتأسَى لمآسيهم ومعاصيهم، وتسأل الله لهم المغفرة، قال تعالى: (تكادُ السماواتُ يَتفَطَّرنَ من فوقِهنَّ والملائكةُ يُسبِّحون بحمدِ ربِّهم ويَستغفرون لمن في الأرضِ) (الشورى: 5).
قال: تعني أن السماواتِ السبعَ هذا الأفلاكُ؟
قلت: لا أجزم بشيء في هذا، ولا العلم يجزم هو الآخر بشيء عن حقيقة الفضاء وطبقاته الذاهبة مع الغيوب، إن موضوع العلم هو المادة وما تولد منها، فإذا اتصل الأمر بشيء وراء المادة توقف بحثه، وبالتالي لا يذكر العلم شيئًا يُوصَف بأنه يناقض الدين.
الذي أراه أو أُحس به أننا نتحرك في إطار معين، إذا تجاوزناه إلى أعلى أو إلى أدنى لم نصلْ إلى نهاية. في عالم العدد نحن نتحرك داخل مجموعة من الأرقام، فهل هناك نهاية للعد التصاعدي، وهل هناك نهاية للعد التنازلي؟
لا حدود هنا أو هنا، لا نهاية لمضاعفات الأرقام من فوق ولا لأجزائها من تحت! وقد عشنا داخل ما أتيح لنا وتركنا الفكر فيما وراء ذلك!
إن اللانهاية يعرفها من لا أولَ له ولا آخرَ، يعرفها الله وحده، ونحن نُلقي إليه السَّلَمَ فيما نَعجِز عنه ونستريح!
لا ريب أن العلم المادي تقدم في عصرنا تقدمًا عظيمًا ووصل إلى كشوف باهرة، وأريد أن أقرر أنني استفدت من هذا العلم في دعم إيماني، وأنه زادني إجلالًا لربي!
إن ظلال الأشياء تمتد وتنكمش في أثناء النهار تبعًا لدوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، هكذا قرر العلماء. معنى هذا أن ظلي أنا، وظل داري، وظل عمود الهاتف أمامها، هذه الظلال تتبع حركة طولها في الفضاء مائة وخمسون مليون كيلومتر هي مسافة ما بين الأرض والشمس!(1/193)
قلت: ما أعظم الترابط ـ على بعد الشُّقَّة ـ بين الأرض وأمها، وما أدل طول الظلال وقصرها على عظمة مُثبِتها وماحِيها! وتلوت الآية الكريمة: (أولم يَرَوْا إلى ما خلَق اللهُ من شيءٍ يَتَفَيَّؤُ ظلالُه عن اليمين والشمائل سُجَّدًا للهِ وهم داخرون) (النحل: 48) ثم تلوت ما بعدها: (وللهِ يسجُدُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ من دابّةٍ والملائكةُ وهم لا يَستكبرون. يخافون ربَّهم مِن فوقِهم ويَفعَلون ما يُؤمَرون) (النحل: 49ـ50).
إن الأسرة الشمسية التي تضم أرضنا تحتوي على نوع من الحياة فيه صلاحيةُ معرفة الله والاستقامة على هداه. ونحن ـ البشرَ ـ نقدر على ملاحظة آثار القدرة العليا فوق أرضنا المحدودة. إن ظلال الأشجار المهتزة مع الريح تقصُر حينًا وتطول حينًا، هو أثر إشعاع قادم من مسافة 150 مليون كيلومتر ضبَطَته بالشبر والإصبع حكمة دقيقة، بَدَهي أن تكون هذه الأشياء كلها ساجدة لمن أقامها وأدامها، فهي طوعًا أو كرهًا تسير وَفْقَ مشيئته.
هل يمكن أن تتلاقى هذه الكائنات وأن يعرف بعضها بعضًا؟ من يدري! قد يقع ذلك (ومن آياتِه خَلقُ السماواتِ والأرضِ وما بَثّ فيهما من دابّةٍ وهو على جمعِهم إذا يشاءُ قديرٌ) (الشورى: 29).
هناك أمر مستيقَن؛ أن بني آدم مجموعون ليوم لا ريب فيه، وأن هناك جنًّا سوف يُحاسَبون مثلنا لأنهم داخل دائرة التكليف، أما ما وراء ذلك فلا ندريه ولعله لا يعنينا.
المهم أن هناك سماواتٍ معمورةً بخلائق أخرى، وفي الحديث "أَطَّت السماءُ وحُقَّ لها أن تَئطَّ" أي ضجت من ازدحامها.
إن السماوات حق ولا نعرف كُنْهها، والملائكة حق ولا نعرف كُنْهها، ولم نكلَّف بذلك، وليس في العلم ما ينافي ذلك، بل إن الملائكة ـ كما أفاد الدين ـ موجودة بين الناس، وهي تؤدي وظائف مَنُوطة بها في الإحياء والإماتة والمراقبة والتسجيل والإلهام والتخذيل!(1/194)
العلم المادي لا يدري ذلك وليس في حقائقه ما يناقضه، وآفة بعض المنتمين إلى هذا العلم أنهم يريدون بالمنطق المادي أن يفهموا ما وراء المادة وإلا أنكروه، وتلك الحماقة لا يُقرها العقلاء!
أما الكلام عن الأرض والأرَضين فالسؤال يشير إلى قوله تعالى: (اللهُ الذي خلَق سبعَ سماواتٍ ومن الأرضِ مثلَهنَّ يَتنزَّلُ الأمرُ بينهنَّ لتعلَموا أن اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ وأن اللهَ قد أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا) (الطلاق: 12).
وقد تساءل المفسرون: هل المراد مثلهن في العدد، أم مثلهن في الإيجاد؟
والعلماء الكونيون يَرَوْن أن الأرض ولِدَاتَها من المجموعة الشمسية كانت سَديمًا ثم انفصلت أجزاؤه على النحو المعروف الآن، أي أن أصل الخلق واحد.
وأرجح هذا، فإن الأرض لم تجئ في القرآن الكريم إلا مُفرَدة، أما السماء فقد جُمعَت كثيرًا جدًّا. وقد يكون المقصود من تعدد الأرَضين كثرةُ طبقات الأرض، أو ما طرأ على وجه الأرض من تغيرات.
والمعنى الأخير ساورني وأنا أقرأ في علم "الجيولوجيا" هذه العبارات:
"لعل أحدث فروع هذا العلم وأخطرها أثرًا "جيولوجية" الألواح المتحركة! وهي التي أسفرت عنها دراسة انتقال موجات الزلازل! فقد بيَّنت إلى حد بعيد أن القشرة الأرضية التي يتراوح سمكها بين 40 و60 ميلًا والتي كنا نظنها ثابتة، تتكون من مجموعة من الألواح أو الدروع تغطي مسطح الأرض، بما فيه قاع المحيط، وهي في حركة دائمة بطيئة لا تَتعدَّى نصف بوصة في العام الواحد!(1/195)
وهي إما متباعدة أو متقاربة أو متحاكّة جنبًا إلى جنب، مما نتج عنه خلال الأحقاب الماضية، أن ما يعرف بالقطب كان صحراء، وما كان جنوبًا صار شمالًا، وإن الوضع الحاليَ للقارات والمحيطات غير مستمر! بل إن الصخور السطحية تَغرِق في باطن الأرض على خط التقاء الألواح المتقاربة، لتُصهَر مرة أخرى ـ مع شدة الضغط وارتفاع الحرارة ـ ثم تعود إلى سطح الأرض مع مقذوفات البراكين" (الجيولوجيا والإنسان للأستاذ درويش مصطفى الفار مدير متحف قطر).
وما دمنا نتحدث عن العلاقة بين الدين والعلم فلنفرق بين نوعين من المعرفة الدينية، هناك أحكام مقطوع بها في الدين؛ كالإيمان بالله الواحد، والصلاة له، وانتظار لقائه للحساب، فهذه أحكام يستحيل ـ كما قلنا آنفًا ـ أن يوجد في العلم ما يكذبها.
أما وجهات نظر الفقهاء في قضيةٍ ما وتفاوت تفسيرهم لنص من النصوص، فتلك أحكام ظنية يكتنفها الخطأ والصواب، ولا يُعتبَر أحدُها الرأي الرسمي للإسلام، إنه رأي صاحبه، وافَق العلم المادي أم خالفَه.
ومن هذا القبيل مرويات الآحاد التي لم تبلغ حد التواتر، فهي ظنية الثبوت، يُعمَل بها في الفروع ولا تَنبني عليها عقائد.
والأمر في ميدان العلم كذلك، فهناك مقرَّرات علمية مستيقَنة لم يوجد في الإسلام قط ما يخالفها. وهناك نظريات تشبه الاجتهاد الفقهي عندنا لا يمكن التعويل عليها أو التسليم المطلَق بها، وعسى أن يَنقُض البحث فيها اليوم ما أَبرَم بالأمس، وأن يَهدِم الغدَ ما بناه اليوم.
هذه النظريات العائمة لا نترك من أجلها رأيًا لفقيه ولا حديث آحاد!
ولِمَ وافتراض الصواب والخطأ واحد في الطرفين؟
إننا سنستبقي ما لدينا على حاله حتى يُقطَع الشك باليقين!
ويؤسفنا أن الكُهّان في ميدان العلم أكثر من الكُهّان في ميدان الدين، وأنهم يحاولون بجراءة ترويج نظريات مهتزّة وإكسابها أمام القاصرين طابع اليقين.(1/196)
38 ـ هل تم جمع القرآن بطريقة تَدحَض كل شك؟ وكيف تم جمعه؟
يوجد فارق ضخم بين تاريخ الإسلام ـ في نشأته الأولى ـ وتاريخ الدينَين السابقَين عليه، أعني اليهودية والنصرانية. إن الإسلام تَحوَّل على عَجَل إلى دولة قائمة لها سلطات وطيدة، أما النصرانية فلم تقم لها دولة إلا خلال القرن الرابع لوجودها، وإذا كانت اليهودية قد صار لها جيش ووجود سياسي على عهد مبكر، فإن كيانها قد تلاشى كل التلاشي بعد قليل، وضاعت مقدساتها كلها.
إن هذا الفارق الكبير بين الإسلام وغيره يفسر كيف بَقِيَ كتاب الإسلام مصونًا! وكيف تعرضت كتب أخرى للعوادي الماحقة.
ظل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتلقى القرآن الكريم في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة، كان كل حرف ينزل يَعِيه الحَفَظة في قلوبهم ويسجله الكَتَبة في صحفهم، وكان هذا القرآن معروفًا للعدو والصديق!
أما المؤمنون فهم يستمدون منه النور الذي يمشون به، وأما الكافرون فقد شد انتباهَهم كتابٌ يهاجم آلهتهم وينقُض مواريثهم ويُثير دهشتهم!
حاولوا أولًا التهوين من شأنه وقالوا: (لو نشاءُ لقُلنا مِثلَ هذا إنْ هذا إلا أساطيرُ الأوَّلين) (الأنفال: 31).
ثم تواصلوا بافتعال الضجيج لدى سماعه: (وقال الذين كفَروا لا تَسمَعوا لهذا القرآنِ والْغَوْا فيه لعلكم تَغلِبون) (فصلت: 26).
ولعمري إن هذه لهي الهزيمة النفسية الموجِعة؛ أن تَخافَ سماعَ كلامٍ مَعيَّن لأنه يَغلبك!
ثم جاء التحدي البالغ لهم: (قل لئن اجتمَعت الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتون بمثلِه) (الإسراء: 88).
إن التحديَ يتوجه إلى قوم سَمعوا القرآن وعرَفوه عن خبرة، وأدركوا أثر عجزهم عن مضاهاته!
المهم أن القرآن خلال فترة الضعف في تاريخ الإسلام كان متميزًا معروفًا لا يلتبس بغيره ولا يلحقه نقص أو ازدياد.(1/197)
وانتقل نبي القرآن إلى المدينة، وهناك باشر سلطاتِ رئيس الدولة؛ من حكمٍ بين الناس، وعقدٍ للمعاهدات، وتوجيهٍ للمصالح العامة، وقيادةٍ أو بعثٍ للجيوش هنا وهناك!
وظل القرآن ينزل عشر سنين أخرى، الكَتَبة يسجلون بإشراف الرسول عليهم، والحَفَظة يَختزنون العلم في صدورهم، وما يُكتب ويُحفظ تُعاد تلاوته في الصلوات الخمس، في قيام الليل، في مجالس التلاوة، في خُطب الجمعة، الأفراد والجماعات مُقبلة على قراءة الكتاب العزيز!
وكانت مكانة المرء تعظُم بمقدار إقباله على القرآن، وكان النبي يرعى هذه المكانة حتى عند دفن الشهداء، فهو يُقدِّم في اللحد أكثرهم أخذًا للقرآن!
حكومة قائمة ترى القرآن دستورها ومنارها، فهي تحفظه وتحافظ عليه، وترسل الوفود به إلى الآفاق، من أين يتطرق الريب إلى كتاب هذه بيئته الأولى!
أمة تعبد ربها بفقه كتابه وتجويد حروفه، ودولة بكل أجهزتها تَصون وتَحمي، ما عرَفت الدنيا من بدء الخليقة مثل هذا الصَّون لكتاب من الكتب!
ومضت دولة النبوة، ثم جاءت دولة الخلافة الراشدة، ورجالها هم السابقون الأولون في اعتناق الإسلام وحفظ آياته وكتابة مصاحفه!
وظلت هذه الدولة ثلاثين عامًا شرَّق فيها الإسلام وغرَّب، وأُثِر عن جيوشها أنها كانت لا ينتهي له هَدير بالتلاوة آناء الليل وأطراف النهار!
ومضت دولة الخلافة، وجاءت دول أخرى كثيرة فماذا حدث خلالها للقرآن؟
كان تواتره يمتد ليشمل أجيالًا أخرى، وكانت مصاحفه تملأ المساجد والعواصم والدور والقصور، وصدق الله العظيم: (إنا نحن نزَّلنا الذكرَ وإنا له لحافظون) (الحجر: 9).
سأضرب مثلًا لشرح ما أقصد وإن كنت على وَجَلٍ من ضربه واستحياءٍ:
لقد وضعت الولايات المتحدة لها دستورًا بعد حرب الاستقلال، تضافر الأمريكيون حكومة وشعبًا على دراسته وتنفيذه، فهل يمكن القول بأن هذا الدستور حُرِّف وشُوِّه؟(1/198)
وكذلك فعل الاتحاد السوفيتي، فهل يمكن القول بأن ما وضعه الثوار الحمر تَغيَّر وتَبدَّل؟
إنني لا أشبه القرآن الكريم بهذه الوثائق ـ معاذَ الله ـ فإن القرآن لم يجئ من مصدر واحد هو الكتابة، بل المصدر الأول لتلَقِّيه قبل أن يُكتب هو الحفظُ في الصدور، وقراءتُه عن ظهر قلب! وإما لفت النظر إلى أن الدولة حين تقوم على دِعامة ما فإنها سوف تحمي دِعامتها وتفرضها على الزمن.
وتحول الإسلام في عهد مؤسِّسه إلى دولة مكينة السلطان، جعل الكتابَ المُعجِز يَحظَى بالحياطة الشعبية والرسمية جميعًا، وجعل كلَّ حرف منه بين العيون!
أكذلك كانت الكتب السابقة؟ لا.
إننا نؤمن بالتوراة النازلة على موسى كما علمنا الله (إنا أنزَلنا التوراةَ فيها هدًى ونورٌ) (المائدة: 44).
ونؤمن بالإنجيل النازل على عيسى كما علمنا الله (وقفَّينا على آثارهم بعيسى بنِ مريمَ مصِّدقًا لما بينَ يدَيه من التوراةِ وآتيناه الإنجيلَ فيه هدًى ونورٌ) (المائدة: 46).
فماذا حدث للوحي السابق؟
أغار أعداء بني إسرائيل عليه، وهدموا الهيكل، ومزقوا صحائف التوراة ولم يُبقوا لهم أثرًا يتمسكون به. فلما تحرروا من أسرهم، بعد أمد طويل، تقدم لكتابة التوراة مِن ذاكرته مَن تقدم، فإذا الصحائف الجديدة مَلأَى بالغرائب!
من بضع سنين تقدم للقضاء الإسرائيلي جندي يشكو الضابط الذي يرأسه بأنه اغتصب زوجته، وتحدث محامي الضابط فقال: إن موكِّله مشهور بالإقدام والشجاعة، ومثله ينبغي التجاوز عنه كما تجاوز الله عن داود الذي اغتصب امرأة "أوربا" ولم يَكتفِ بالزنى، بل أوصى بقتل الزوج المفجوع، فقُتل في الميدان بحيلة مرسومة!
إن هذا الدفاع كان مفاجأة للناس، لكنه لم يكن مفاجأة للقضاة، فهم يعرفون القصة في كتابهم، ولا أذكر بما حكموا في هذه القضية! وإنما غاظني أن نبيًّا كريمًا يُتَّهم بالزنى والقتل، ويُراد جَعلُ مَسلكِه أسوةً!(1/199)
وداود رجل بريء، والصحائف التي لوَّثت سمعته وسمعة غيره من المرسلين هي التي يجب أن تحاكم، فما أكثر ما بها من افتراء على الله والمرسلين!
أما الإنجيل الذي نؤمن بنزوله على عيسى فإنه لا يوقَف له على أثر! والقصة كما يراها أتباعه أن عيسى ومَن معه اعتُبروا خارجين على القانون، فقتَل الحاكمُ الروماني عيسى بطلب من الشعب اليهودي وانتهت المأساة!
وقد ألف تلامذة عيسى ـ هكذا قالوا ـ سيرًا تضمنت ما يعلمون من عظاته، وما يقال عن مصرعه!
وسُمِّيت هذه السيرُ أناجيلَ! وكانت أول الأمر تبلغ العشرات، ولكن تم اختيار أربعة منها هي التي أقرت قصة الصلب واعترفت بألوهية المسيح.
وقامت للمسيحيةِ القائلةِ بربوبية عيسى وصلبِه دولةٌ رومانية في القرن الرابع لميلاده.
ونحن ـ المسلمين ـ نعتقد أن التثليث لم يجئ به دين ولا نزل به وحي، وأن الأنبياء من عهد آدم إلى محمد وفيهم عيسى نفسه دَعَوْا إلى إله واحد، هو سيد العالمين وربهم الفرد، وما عداه عبد مخلوق له.
والواقع أن القرآن الكريم هو السجل الجامع للعقيدة التي بلَّغها المرسلون، وتَواصَوْا كابرًا عن كابر بأخذ الناس بها وتنشئتهم عليها.
وقد حصَّنه القدَر من التحريف والتغيير، فتعدَّت القداسةُ الموضوعَ إلى الشكل، والمعنى إلى الحروف، فأصبح ضبط الألفاظ نفسها دينًا، وقراءتها عبادة، وذلك حتى لا يَعتريَ الكتابَ الخاتم ما اعتَرَى الكتبَ من قبل!
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو رئيس الدولة، يجعل خطب الجمعة تلاوة لسور القرآن في أغلب الأحيان، وكذلك كان الخلفاء الراشدون، ومن الطرائف أن عمر خطب بسورة النحل يومًا، فلما بلغ آية السجدة نزل من المنبر فسجد وسجد الناس معه، ثم خطب في الجمعة التي بعدها بالسورة نفسها دون أن ينزل ويسجد، فلما سئل في ذلك قال: أُمرنا أن نسجد إذا نشاء. يعني أن سجدة التلاوة ليست فريضة.(1/200)
وهاجم المشركون يومًا رسول الله وهو يدعو إلى الله الواحد، وتدخل أبو بكر يذودهم عنه وهو يقول: (أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربيَ اللهُ وقد جاءكم بالبيناتِ من ربِّكم) (غافر: 28) وهذا بعض آية من سور غافر!
وصلى عمر الفجر بالناس يقرأ سورة يوسف، فلما بلغ قوله تعالى على لسان يعقوب: (يا أسَفَى على يوسفَ وابيضَّت عيناه من الحزنِ فهو كَظيمٌ) (يوسف: 84) سُمع نشيجُه بالبكاء.
لقد كان القرآن وما زال شغل الأمة الشاغل واهتمامها الدائم، وهي تسمع نبيها يقول: "خيرُكم من تَعلَّم القرآنَ وعلَّمه" ويقول: "لا حَسَدَ إلا في اثنتَين: رجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ، ورجلٌ آتاه اللهُ مالًا وسلَّطه على هَلَكَته في الحقِّ".
إن الناس يقرءون القرآن الآن كما نزَل به أمين الوحي على خاتم الرسل، لا تغيير في حرف ولا في شكل.
ومنذ أربعة عشر قرنًا لم يتغير شيء من هذه الثلاثة، الشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، والقرآن هو القرآن!(1/201)
39 ـ ما الفارق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي؟
القرآن الكريم هو كلام الله تبارك وتعالى، المسجل بين دَفَّتَيْ المصحف الشريف، وهو المعجزة التي أيد الله بها نبيه محمًدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحدَّى مكذِّبيه! وهو منقول بالتواتر، ومتعبَّد بتلاوته، ومعصوم إلى آخر الدهر من أي تحريف.
وكان العرب يوَدُّون لو جاءتهم خوارق حسية بدل تحديهم بكتاب يخاطب الألباب والأفئدة، وجاء على ألسنتهم: (ولو أن قرآنًا سُيِّرَت به الجبالُ أو قُطِّعَت به الأرضُ أو كُلِّم به الموتى..) (الرعد: 31)
لا، هذا القرآن تُسيَّر به الجبال، وتُقطَّع به الخرافات، ويُكلَّم به الأحياء!
وقد وقعت الخوارق التي يطلبون فما آمن منهم أحد لأن العناد أعماهم.
ولعل أفضل ما يوصف به القرآن ما جاء عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا النساء يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي، رضي الله عنه، فأخبرته فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "أما إنها ستكون فتنة" قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله تعالى؛ فيه نبأُ ما قبلَكم وخبرُ ما بعدكم، وحكمُ ما بينكم، هو الفصلُ ليس بالهزلِ، من ترَكه من جبارٍ قصَمه اللهُ تعالى، ومن ابتغَى الهُدَى من غيرِه أضله اللهُ تعالى، وهو حبلُ اللهِ المتينُ، وهو الذكرُ الحكيمُ، وهو الصراطُ المستقيمُ، وهو الذي لا تَزيغُ به الأهواءُ، ولا تُلَبِّسُ به الألسنةُ، ولا يَشبعُ منه العلماءُ، ولا يَخلَقُ على كثرةِ الردِّ، ولا تَنقضي عجائبُه، وهو الذي لم تَنتَهِ الجنُّ إذ سَمِعَتْه حتى قالوا: (إنا سَمِعنا قرآنًا عَجَبًا يَهدي إلى الرشدِ فآمنَّا به) (الجن: 1،2) من قال به صدَق، ومن عَمل به أُجر، ومن حكَم به عدَل، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراطٍ مستقيمٍ".(1/202)
والحديث يفيد أن دراسة القرآن تسبق دراسة السنة، أو بتعبير آخر: لن يكون فقيهًا في السُّنَّة قصير الباع في فقه القرآن الكريم، والكتاب والسنة معًا دِعامتا الدين.
أما الحديث القدسي فهو كلام الله تعالى ولكنه لا يحتوي الخصائص القرآنية، فليس معجِزًا في عبارته ولا وقع به التحدي، ثم إنه لا يُتعبَّد بتلاوته، فلا تصحُّ به صلاة. وأخيرًا لم يصل إلينا بطريق التواتر القطعي، فالأحاديث القدسية قد يكون فيها الصحيح والحسن والضعيف، بل قد يكون فيها الموضوع؛ كحديث: (عبدي أطِعْني أجعلْك ربانيًّا تقولُ للشيء كن فيكون). فإنه لا أصل له!
ويرى البعض أن الحديث القدسي من كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبر فيه الرسول عن مراد الله تعالى، وكأن لسان الحال يقول كذا.
والجمهور على الرأي الأول، وأنه يشبه الوحي النازل في صحف إبراهيم وموسى، أي كلامٌ إلهي غيرُ معجِز، ولم نُكلَّف بتلاوة ألفاظه والتعبد بها كما تقرَّر ذلك للقرآن الكريم.
من نماذج الحديث القدسي الصحيح ما رواه مسلم عن أبي إدريس الخَوْلاني عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله فيما يروي عن ربه ـ عز وجل ـ أنه قال:(1/203)
"يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا فلا تَظالموا. يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه فاستهدوني أَهدِكم. يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستَطعِموني أُطعِمْكم. يا عبادي، كلُّكم عارٍ إلا من كسوتُه فاستَكْسُوني أَكْسُكم. يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلُغوا ضُرِّي فتَضرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتنفَعوني. يا عبادي، لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ ما نقَص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صَعيدٍ واحدٍ وسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألتَه ما نقَص ذلك عندي إلا كما ينقُص المِخيَطُ إذا أُدخِلَ في البحر. يا عبادي إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم ثم أُوفِّيكم إياها، فمن وجَد خيرًا فليَحمَدِ اللهَ، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يَلومَنَّ إلا نفسَه".
ومن نماذج الحديث القدسي الحسن السند ما رواه أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يا بنَ آدمَ، إنك ما دعَوتَني ورجَوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا بنَ آدمَ، لو بلَغَت ذنوبُك عَنَانَ السماء ثم استغفرتَني غفَرتُ لك ولا أبالي. يا ابن آدم لو أتيتَني بقُرَابِ الأرضِ خطايا ثم لَقِيتَني لا تُشرِكْ بي شيئًا لأتيتُك بقُرَابها مغفرةً".(1/204)
في هذا الحديث جرعة منعشة للإرادة التي غلبها اليأس من طول ما انهزمت في الحرب السجال بين الخير والشر أو بين العصمة والسقوط، والمراد أن تَفيق لتستأنف سيرها إلى الله وتلزم الصراط المستقيم، فالحديث هنا يشبه قوله تعالى: (يا عباديَ الذين أسرَفوا على أنفسِهم لا تَقنَطوا من رحمةِ اللهِ إن اللهَ يَغفرُ الذنوبَ جميعًا إنه هو الغفورُ الرحيمُ. وأنِيبوا إلى ربِّكم وأَسلِموا له) (الزمر: 53 ، 54) وليس الحديث تهوينًا من مَغَبّة الانحراف كما يتصور الجهال.
وشيء آخر نلفت البصائر إليه؛ أن آفة الكثيرين من العصاة هي عبادة النفس! أعني أنهم يعبدون أنفسهم من دون الله، أو يشركون أنفسهم مع الله، ويقدمون هواهم على دينه.
ومن برئ من هذه الأَثَرة الغبية ووقف أمام الله، أو لقيَه هاضمًا نفسَه، باديَ الفاقة إليه وحده ـ فهو أهل لأن يَحظَى بمغفرته.
وذلك في نظري السر في رفض الله سبحانه لأي شيء يُعتبَر شريكًا له، إن أي شيء يعكر حقيقة التوحيد، مهما كان أمره، بشرًا أو حجرًا أو مالًا أو جاهًا، هو صَدْع هائل في الإيمان!
أما الحديث النبوي فهو ما ينسب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل أو حكم أو تقرير. فإن الرسول الكريم إمام الأمة وأسوتها الحسنة وله عليها حق الطاعة، كما بين الله ذلك في كتابه (وأطيعوا الرسولَ لعلكم تُرحَمون) (النور: 56) (من يُطِعِ الرسولَ فقد أطاع اللهَ) (النساء: 80).
وبعض الناس لا يفقه معنى الرسالة ولا مكانة الرسول، ويحسب أن القرآن وحده كافٍ في هداية الناس دون بيانٍ من صاحبه، ودون تطبيقٍ عملي يوضح مراد الله من عباده، وهذا خطأ بالغ، فإن القرآن ليس نقطةً عثَرنا عليها في فلاة، ولا كتابًا نظريًّا يستطيع كل امرئ أن يفسره على هواه ضاربًا عَرضَ الحائط بتوجيهات من نزَل عليه وكُلِّف بتبليغه!
والحق أن تجاهل السنة النبوية جهل فاضح بقدر أعظم رجل في تاريخ الإنسانية الطويل.(1/205)
إن محمدًا لو لم يكن رسولًا لكان لنفاسة مَعدِنه، وطُهْر سريرته، ومَجَادَة نفسه ـ أهلًا لأن يُسمَعَ نصحه! فكيف وهو بالرسالة التي اختير لها قد اتَّصِل بالملأ الأعلى، وأَضحَى معصومًا في كل ما يَصدُر عنه (وما يَنطِقُ عن الهَوَى) (النجم: 3).
إنه عندما يتكلم يبلِّغ عن الله ويصدُر عن فؤاد موصول بنور السموات والأرض، وكما قال الله له: (وكذلك أوحينا إليك رُوحًا من أمرِنا ما كنتَ تَدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناه نورًا نَهدي به من نشاءُ من عبادِنا وإنك لتَهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ) (الشورى: 52).
ونختار من الحكمة النبوية هذا الحديث الشريف:
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ لا يكلِّمُهم اللهُ تعالى يوم القيامة، ولا يَنظرُ إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌٌ:
رجلٌ على فضلِ ماءٍ بفلاةٍ يَمنَعه ابنَ السبيل، يقول اللهُ له يوم القيامة: اليومَ أمنعُك فضلي كما منَعتَ فَضلَ ما لم تَعمَلْ يداك.
ورجلٌ بايع رجلًا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله تعالى؛ لقد أخذها بكذا وكذا، فصدقه وأخذها، وهو على غير ذلك.
ورجلٌ بايع إمامًا لا يبايعُه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها ما يريد وفَّى له، وإن لم يُعطِه لم يَفِ له".
وجمهور المسلمين على أن طاعة الرسول من طاعة الله سبحانه، وأن من قرر عصيان رسول الله ورفض ما أمر به أو نهَى عنه فقد خلَع رِبْقة الإسلام من عنقه.
والواقع أن من يترك حديثًا ما من المرويات التي بلغَتنا لا يفعل ذلك تمردًا على صاحب الرسالة، وإنما شَكًّا منه في صدق ما نسب إليه، أو في المعنى المراد منه.
بيد أن السنة الشريفة ليست ـ كما يتصور البُلْهُ ـ كلامًا جُمع بطريق الجُزاف أو سُجل دون وعي!
لا، إن جميع الضوابط التي يمكن حشدها لضمان الصدق والدقة قد اتخذها علماء المسلمين.(1/206)
ثم إن السنة العملية وصلت إلينا بطريق التواتر الذي وصل به القرآن نفسه، فلا مجال لإنكار صلاة أو زكاة من الصلوات المكتوبة أو الزكوات المحسوبة.(1/207)
40 ـ ماذا لو تعارض الحديث مع القرآن الكريم؟
لا يتعارض حديث مع كتاب الله أبدًا! وما يبدو حينًا من تعارض هو من سوء الفهم لا من طبيعة الواقع، وذلك مثل حديثِ "لن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله" وقولِه تعالى: (ادخلوا الجنةَ بما كنتم تعملون) (النحل: 32).
الفهم الصحيح للموضوع كله أنه لابد من عمل يَنال به المرءُ رضا ربه ويستحق رحمته، فالجنة ليست للكُسالى والأراذل، بيد أن العمل المقبول هو المقرون بالتواضع لله، وإنكار الذات، والقلق من أن يرفض رب العالمين العملَ المتقرَّب به؛ لأن عيوبه لا تَخفَى عليه، أو لأنه دون حقه، أو لأي سبب آخر.
فمَن تقدم بعمل وهو شامخ الأنف، ليس في حسابه إلا أنه قدَّم العمل المطلوب للجنة، وعلى الله أن يسلم له المفاتيح ليدخلها بعد ما امتلكها بعمله! هذا المغرور لا يقبل منه شيء، ولا مكان له في الجنة.
أما من جاء خاشعًا خفيض الجناح، شاعرًا بالانكسار لأنه لم يقدم ما اللهُ أهلٌ له، فإنه يدخل الجنة بعمله!
والدلائل على هذا المعنى كثيرة، وما يعقلها إلا العالِمون!
إن السنة بحر متلاطم الأمواج، وما يستطيع فهمها على وجهها إلا فقيهٌ يدرك ملابسات كل قول والمراد الحق منه! فإن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ظل يكلم الناس ثلاثًا وعشرين سنة، اختلفت فيها الأحوال وتباين الأفراد وتشعبت القضايا.
ووضعُ كل حديث بإزاء المقصود منه أو معرفةُ النطاق الذي يصح فيه هو عملُ الفقهاء، وهو عمل لا مَناصَ منه وإلا حرَّفنا الكلم عن مواضعه!
والمحزِن أن ناسًا لا فقه لهم تكلفوا ما لا يُحسنون؛ من قراءة للسنة وإفتاء بها، فأساءوا ولم يحسنوا، وهم الآن حَجَر عَثرة في طريق الدعوة الإسلامية!
بعضهم فهم أن الإسلام يشن حرب العدوان ويأخذ الناس على غِرَّة دون دعوة إلى دين!
وبعضهم فهم أن مستقبل الأمة إلى ضياع لأنه لا يجيء يوم إلا والذي يليه شر منه!
وبعضهم فهم أن الغنى مضاد للتقوى، وأن الفقر أخو اليقين وطريق الآخرة!(1/208)
وبعضهم فهم أن القَدَر تحويل قَسري للمرء من طريق النجاة إلى طريق الهلاك أو العكس، لأن العلم الإلهي سبق بذلك!
وسبب هذا الخبط اشتغالُ الدَّهْماء بالسنَّة دون أن يكون لديهم رصيد من الحكمة القرآنية، ودون أن يكون لديهم ذوق أدبي بأساليب الأدب العربي، ودون أن يكون لديهم بصر بأغوار النفس الإنسانية وأحوال المجتمعات البشرية، ودون دراسة عميقة للسيرة الشريفة وما حَفَل به ربع قرن من أحداث جسام وشئون وشجون! ودون تفريق بين ما هو عادي وما هو عبادي.
فالسنةُ عندهم الأكلُ على الأرض لا على مائدة، وتنظيفُ الفم بالسواك لا بالفرشاة، والاستنجاءُ بالأحجار لا بالأوراق، وإرخاءُ ذيل العمامة على الأقفية، وإيثارُ الأبيض من الملابس الفضفاضة، وضربُ النقاب على الوجه حتمًا، وذاك بالنسبة إلى النساء!
والواقع أن العادات البدوية غَدَت سنة نبوية، ولما كان العرب يؤخرون المرأة في المكانة فقد مُنعت باسم الإسلام من التردد على المساجد، ومن تلقِّي العلم في المدارس، ومن جهاد الكلمة ـ أي جهاد الأمر والنهي ـ ومن أي مشاركة في جهاد عسكري... الخ.
والعارفون بالسنة المطهرة يدركون بطلان هذه التقاليد ومنافاتها للكتاب والسنة، ومع ذلك فإن الدَّهْماء المتحدثين في الإسلام يقاومون الحق بعصبية، ويرمون غيرهم بالانطلاق مع المدنية الحديثة.
والذي أراه أن السنة ركن الإسلام بعد القرآن الكريم، ولكن لا يشتغل بتفاصيلها إلا الفقهاء ومن يعنيهم الأمر من الولاة والقضاء والدعاة والمتخصصين في أي مجال يحتاج إلى الإلمام بهذه التفاصيل.
أما رجل الشارع أو الشخص العادي فإن أربعين حديثًا تكفيه وتُغنيه.
وعلى أية حال ما يجوز لجاهل القرآن أن يُحدِّث الناس أو يتصدر للفتوى في شئونهم!(1/209)
لقد رأيت أُغَيلمة تشتغل بالسنة، انتهى أمرها بالهجرة إلى اليمن لعلها تبدأ من هناك نهضة إسلامية! نهضة بعيدة عن فقه الحياة والاستمكان من الدنيا! لعل صالحي الجن سوف يمُدونهم بالمتفجرات في ميادين الحرب، أو بالغذاء والكساء والدواء في ميادين السلام. والجنون فنون!
نحن نستمد معاقد الإيمان وأركان الإسلام وأعمدة الأخلاق والمعاملات من الكتاب والسنة معًا، والسنة العملية التي وردت بطريق القطع تفسير مستيقَن للقرآن نفسه، وعلى ضوء هذا نصلي الخمس، ونحج البيت، ونعرف الكيفيات لهذه الفروض من السنة العملية، وهناك أحكام كثيرة في الفروع أجمع عليها الفقهاء، ولا يخرج على هذا الإجماع مؤمن.
أما ما كان موضع خلاف، فالأمر فيه على الاتساع، يعتنق أي مسلم ما شاء من وجهات النظر العلمية دون حرج.
قال الفقهاء: والسنة المشهورة تخصص عموم القرآن، فالأولاد مثلًا يَرِثون أباهم بنص الآية (يوصِيكم اللهُ في أولادِكم للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيَين..) (النساء: 11) وقد جاءت السنة بأن القاتل لا يرث أباه الذي قتله، كما جاءت السنة بأن الكافر لا يرث أباه المؤمن.
وقد تقيِّد السنة نصًّا جاء في القرآن الكريم مطلقًا، فالآية تجعل الأم من الرَّضاع محرَّمة كالأم نفسها، وكذلك الأخوات، قال تعالى: (... وأمهاتُكم اللاتي أَرضَعنَكم وأخواتُكم من الرَّضاعة) (النساء: 23) وجاء في السنة أن ذلك ليس على إطلاقه، فلا تحرِّم رضعةٌ ولا رضعتان، ويرى عدد من الأئمة أن أقل من خمس رضعات لا يفيد التحريم.
وبَقيَ أبو حنيفة ومالك على القول بالتحريم المطلق!
والذي أميل إليه أن الأمومة لا تتكون من رضاع كثير، فإذا ورد في السنة أن الحد الأدنى لذلك خمس رضعات أو عشر كما يرى البعض فهو قيد جدير بالرعاية!(1/210)
وقال تعالى: (ولكم في القِصاصِ حياةٌ) (البقرة: 179) ولكن السنة بينت أنه لا يُقتَصُّ للفرع من الأصل؛ فإذا قتَل أبٌ ابنَه عوقب بغير القتل! والسبب أن هذا القتل شذوذ عن سَنَن الآباء الذين قد يَفتَدون أبناءهم بحياتهم، ويَحيَونَ كادحين ليوفروا لهم السعادة!
لابد أن هذا القتل لا تَصحَبه نية الإجرام، وأنه وقع تحت ضغط جنوني طارئ!
ويرى مالك أنه لا قصاص إلا إذا كشفت التحقيقات أن الأب رجل متوحش مجرد من مشاعر الحُنُوّ، فكَّر ودبَّر لغرض خسيس! ويرى غيره إلغاء القصاص مطلقًا إمضاء للسنة!
وهذا التخصيص أو التقييد هو تفسير ممن تلقّى الوحي للمراد الإلهي، ومن أحقُّ من نبي القرآن بتفسيره! ولا يسمَّى معارضةً للقرآن الكريم، بل هو بيان وتوضيح.
وتستقل السنة بإنشاء أحكام إلى جوار ما شُرع في القرآن، وأي ضير في هذا!
قالوا: مثل المسح على الخفين بدل شريعة الغسل! ومثل تحريم الذهب والحرير على الرجال.. الخ
والتحقيق أن تشريعات السنة كلها داخلة في نطاق القرآن الكريم ودلالاته القريبة والبعيدة، وعندي أن المسح على الخفين ليس من إنشاء السنة بل هو معنى القراءة الثابتة (فامسَحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (المائدة: 6) بكسر اللام عطفًا على ما قبلها، والتعبير مجازي كما يقول علماء البلاغة، أطلق الحال وأراد المحل!
أما تحريم الذهب والفضة فسدًّا لأبواب الترف!
وأظن ما ورد من تحريم استعمال الجرس فلحماية شعيرة الأذان، وإلا فلا مانع من استعمال الجرس للإنذار أو في الساعات المنبهة، أو في الهاتف أو في أعناق الدواب مثلًا.
ولفقهاء الحنفية كلام في هذا الموضوع أُورِده هنا لأني ميال إليه، إنهم يرون أن الفرض والمحرَّم لابد في إثباتها من نص قاطع، ومعنى هذا أن خبر الواحد لا ينهض على إثبات حرمة أو إثبات فرضية. ويعني هذا أن الأحكام الشرعية تزيد اثنين فوق ما قرره الأئمة الآخرون!(1/211)
الأئمة يقولون: الواجب ما يُثاب على فعله ويُعاقَب على تركه. والمحرم بالعكس ما يُعاقَب على فعله ويُثاب على تركه. والمندوب ما يُثاب على فعله ولا يُعاقَب على تركه. والمكروه ما يُثاب على تركه ولا يُعاقَب على فعله. والمباح ما استوى فيه طرفا الفعل والترك.
ويرى فقهاء الحنفية أن ما أمَر به حديثُ آحادٍ لا يرتفع إلى درجة الفرض، ويسمَّى لديهم واجبًا يُؤمَر بفعله ويلام على تركه. وما نهَى عنه حديثُ آحادٍ لا يرتفع إلى درجة المحرَّم بل يؤمر بتركه ويلام على فعله، ويأخذ حكم الكراهة التحريمية. وهم يطلقون هذا الحكم على ما انفردت السنة بحظره كلبس الحرير والذهب للرجال مثلًا.
لا فريضة عندهم إلا بنص قطعي ولا تحريم إلا بنص قطعي. وأخبار الآحاد عند الجمهور لا تفيد إلا الظن العلمي. وشذ بعض الحنابلة فروَى عن إمامه أنها تفيد القطع، وهذا فهم مردود!(1/212)
41 ـ هل الصورة التي رسمها القرآن لخلق آدم حقيقية أم رمزية؟
وما معنى الحديث "خلق الله آدم على صورته"؟
ظاهرٌ أن الذي أوحَى بهذا السؤال ما كتبه "داروين" عن أصل الأنواع، وما أعلنه من رأي في قضية النشوء والارتقاء.
ومع أن النظرية منقوضة من جوانب كثيرة، ومع أن هناك من علماء الأحياء من رفضها جملةً وتفصيلًا، فإن أعدادًا من الناس لا تزال تروِّج لها، بل إن هذه النظرية لا تزال تدرَّس في بلادنا وكأنها حقيقة علمية!
والسبب في ذلك أن سَدَنة المذاهب وسماسرة الإلحاد الزاحف من الشرق والغرب يريدون إقناعنا بأننا من الأرض وحدها تخلَّقنا، وأن الروح الذي نسمو به ونسود بقية الأحياء لم يجئ من الله! فهم لا يعترفون به! إنه ظاهرة أرضية بحتة!
وأنا رجل مسلم، أشعر بأن نسَبي السماوي أزكَى من نسَبي الأرضي وأحق بالتقديم، وأنني ابن آدم الذي خلقه الله من تراب الأرض، ولو استبقاه على هذا الطور من الإيجاد ما كان له شأن يُذكَر!
إن آدم اكتسب مكانته وكرامته بعد أن نفخ الله فيه من روحه، بهذه النفخة العلوية أضحى كائنًا جديرًا بأن تسجد له الملائكة وتحيي في وضعه الجديد الإبداعَ الإلهي وحسنَ التقويم وعبقرية العقل وسناء المواهب (وإذ قال ربُّك للملائكةِ إني خالقٌ بَشَرًا من صلصالٍ من حمأٍ مسنونٍ. فإذا سوَّيته ونفَخت فيه من روحي فقَعُوا له ساجدين) (الحجر: 29).
لولا هذه النفخة لكنت نوعًا من الأنواع التي تحدث "داروين" عنها، ولكنت من أسرة متفاوتة الأفراد من زواحف وسباع ومن طيور وأنعام!
إنني أومن بأن الله خلقني ونفخ فيَّ من روحه، وإذا كان أبي آدمُ صُوِّر من طين مباشرة فأنا من سلالته على طول المدى، وقد قال الله فيَّ وفي إخوتي من أبناء آدم: (الذي أَحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه وبدأ خَلقَ الإنسانِ من طينٍ. ثم جعَل نَسلَه من سلالةٍ من ماءٍ مَهينٍ. ثم سوَّاه ونفَخ فيه من رُوحه) (السجدة: 7ـ9).(1/213)
والنفخة التي سَرَت في أوصالي وجعلتني خَلقًا آخر تستحق التأمل العميق، إنني الآن واحد من خمسة آلاف مليون بشر، هل نحن خمسة آلاف مليون نسخة من كتاب واحد؟
كلا، إنه كما تختلف بصمات أصابعنا وملامح وجوهنا تختلف مواهبنا الفكرية ومشاعرنا النفسية. لكل قلب همومه وأشواقه، ولكل عقل مجرى تفكير وقدرة استنباط، أي أن النفخة هاهنا!
فإذا كان ذلك في عصر واحد فماذا عن نهر الحياة الدافق من بدء الخليقة؟
وماذا عن أجيال البشر الذي يتوارثون عمارة هذه الأرض ما شاء الله؟
إن الله العظيم الذي أشرف على كل جنين وتابع أطواره حتى اكتمل وزحَم القرونَ بيَّن أن هذه الحياة الإنسانية المذهلة شيء صغير بالنسبة إلى ما خلَق من عوالمَ لا نَدريها! أليس القائل: (لخَلقُ السماواتِ والأرضِ أكبرُ من خَلقِ الناسِ ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يَعلمون)! (غافر: 57).
إن الشبه واحد بين أسماع الناس وأبصارهم؛ أي بين مظاهر الحياة الإنسانية العادية، ولعل ذلك ما جعل شوقي يقول:
يا نفسُ مثلُ الشمس أنت أشعة في عامر وأشعة في بلقع
فإذا طوى الله النهار تراجعت شتى الأشعة والتقت في المرجع
إن الغروب الذي يطوي الأشعة في رأي العين فيبدأ الليل، كالموت الذي يسترد السر الإلهي فتنتهي الحياة.
لكن الشمس تغرب من ناحية لتطلع في أخرى، والنفس تموت بيننا أو تَخفَى بيننا لتستأنف وجودها في عالم آخر!
وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشير إلى هذا المعنى عندما يقول في كل صباح: "أصبحنا وأصبح الملك والحمد لله، لا شريك له، لا إله إلا هو وإليه النشور" وعندما يقول في كل مساء: "أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا شريك، له لا إله إلا هو وإليه المصير".(1/214)
ومع البعث تبدأ الخصائص الإلهية في كل نفخة تقدم حسابها الخاص بها، وكل امرئ حسابه على قدر ما أُعطيَ من مواهب وإمكانات (لا يُكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا ما آتاها) (الطلاق: 7) (فلا تُزكُّوا أنفسَكم هو أعلمُ بمن اتَّقَى) (النجم: 32).
وعلى أية حال فإني قد أدري أن جسمي يتكون من تراب هذه الأرض، لكني لن أصدق أبدًا أن الحب والبغض والرجاء واليأس والذكاء والغباء والذكر والنسيان معانٍ نبتت مع العشب والكلأ وجاءتني من تراب هذه الأرض!
ثم شيء آخر يجعلني أحُس بأبي آدم وبأنه حقيقة لا يَبليها تطاول العصور، ذاك هو وحدة الشعور والفكر بيني وبينه، إن الله أسكنه دارًا حسنة وسط حديقة يانعة، فيها ما يُغني ويَكفي وقال له: (اسكُنْ أنت وزوجُك الجنةَ وكُلاَ منها رَغَدًا حيث شئتُما ولا تَقْربَا هذه الشجرةَ) (البقرة: 35 ) بيد أن الإنسان يريد اكتشاف المجهول ولو كان تافهًا، يريد الحصول على الممنوع وإن كان مؤذيًا. في الحلال الطيب سَعَة، أو في دائرة المباح مَقنَع! لكنّ آدم أبَى إلا الجريَ وراء الوهم.
وكانت له آمال باطلة يود لو تحققت، إنه يحب الخلود ويحب أن يكون ملاكًا! يا أبانا ما تبغي! إن الله أسجد لك ملائكته فكيف تنزل دون مكانتك! وجعل إلى مشيئتك البقاء في الجنة والتقلب في رياضها فماذا تخاف!
وعرف الشيطان مكان الضعف من نفس أبينا الطامع فحلف له بالله أن أمانيَّه سوف تتحقق إن هو أكل من الشجرة المحرمة. وكان صوت النهي قد بدأ يَخفِت، ومضى زمن على الحظر المفروض، كانت الأماني الباطلة خلاله لا تزال على شدتها، ولم ييأس الشيطان من مهمته فظل يوسوس ويُغَرِّر بالأب الذاهل، حتى دحرجه من مكانته وأخرجه من جنته.
تذكرت قول المتنبي:
وفي الناس من يَرضَى بميسور عيشه ومركوبُه رجلاه والثوبُ جلدُهُ
ولكن قلبًا بين جنبيَ مالَهُ مدًى ينتهي بي في مُرادٍ أُحِدُّه(1/215)
يُخَيَّرُ أن يُكسَى شفوفًا تَرُبُّهُ فيَختارُ أن يُكسَى دروعًا تهُدُّهُ
لقد مضى المتنبي مع طمعه في الإمارة والجاه، وأثار الغبار وراء ركضه! مدح وهجا، وخاصم وسالم، واشتبك مع الأقيال والأنذال، وفي ليلة ليلاء لقي مصرعه على أيدي جماعة من الموتورين، فمُرِّغت الحكمة والشعر في الثرى! وأجهز الموت على تطلعات الرجل الذي لم يرضه شيء!
إننا أبناء أبينا، غفر الله له، ما أشبهنا به وما أشبهه بنا!
لكنّ أغلى وأعلى ما في قصته لم يُذكَر بعد! لقد تذكَّر الناسي أو صحا الذاهل، وعرف آدم أنه ضل الطريق، وأضاع قواه وراء وهم، وأغضب ولي نعمته! فوقف مع امرأته يَجْأَران بهذا الدعاء: (ربنا ظلَمْنا أنفسَنا وإن لم تَغفرْ لنا وتَرحَمْنا لنَكونَنَّ من الخاسرين) (الأعراف: 23).
وهبطا إلى الأرض، وأرسل الله سبحانه من يتلو علينا خبرهما لنتعظ! إن قصة الإنسانية في حياة آدم هي قصة الإنسانية في حياة نبيه، خطيئةٌ ومتابٌ!
فما هي قصة الإنسانية عند الملاحدة!
جراثيم وُجدت من غير مُوجِد، ظلت تتعارك ليبقى الأقوى، وظل الأقوياء يتعاركون حتى استطاع الإنسان التغلب على غيره من الدواب وأن يسودها، فبلغ الإنسان بجدارةٍ قمةَ المملكة الحيوانية! وأمسى سيدًا للفيَلة والحمير والأرانب والسباع! لقد ساد إخوانه في سباق شريف!
إن القصة بهذا السياق أكذوبة حقيرة!
ومع أن "داروين" قال إنه لا ينكر الألوهية! فإن كلامه مضطرب متهافت، وهو مُنتَهٍ آخر الأمر إلى قطع الصلة بين الإنسان ورب الأرض والسماء.
أما حديث: "إن الله خلق آدم على صورته" فقد قبله أغلب المحدِّثين وفسروا الصورة بالصفة! يعنون أن الله لما نفخ من روحه في الكيان المادي لآدم أصبح آدم بهذه النفخة حيًّا، قادرًا، مُريدًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا.. الخ.(1/216)
وظاهرٌ من تكوين آدم أن العقل الذي أضاء في دماغه علَّمه الكثير مما يعمِّر الكون، وبصَّره بما تَعجِز الملائكة عن إدراكه: (وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها ثم عَرَضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني بأسماءِ هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علمَ لنا إلا ما علَّمتَنا) (البقرة: 31،32).
وقد انطلق بنو آدم في الأرض بمواهبهم العليا وغرائزهم الدنيا، وتعرضوا لامتحانات هائلة، ولا يزالون في ضوضاء المعركة وبأسائها إلى يوم الفصل!
ومن العلماء من يقول: خُلق آدم على صورته. أي صورة آدم نفسها فلم يَعرِض لها تغيير عن الأصل، ولن يَعرِض في المستقبل. أي لا تطور!
ورأيت لبعض الكتاب طعنًا في الحديث؛ يقول: إن أبا هريرة نقل هذه الجملة عن كعب الأحبار، وهو يهودي الأصل، والجملة موجودة في سفر "التكوين" أول أسفار التوراة، فانخدع بها أبو هريرة ورواها حديثًا!
والذي أراه أن وجود الجملة في التوراة لا يعني أنها موضع ريبة، وأن المعنى الصحيح لها قائم ومقبول، وليس للاتهام دليل.(1/217)
42 ـ هل يُؤخَذ القرآن بنصه أم على أساس الظروف التي نزلت فيها آياته؟
يندُر أن يكون المرء شريرًا من جميع نواحيه، أندر من ذلك أن يكون مع غلبة الشر عليه شريرًا في جميع الأوقات.
السمة الغالبة أن يخلط الإنسان عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وأن تمر به فترات صحو تبدد غيومه بين الحين والحين.
والخوف من الإنسان الذي يصحو ويَغيم ويكبو ويقوم أن يفلسف انحرافه الذي يَعرُوه ليجعله مسلكًا عاديًّا أو أمرًا لا يجوز التنديد به والتوبيخ عليه، وإن جاز لضرورةٍ فلتكن الكلمات خفيفة الوقع وتوطئة للعُتبَى!
استمعت إلى اللص البدوي الذي يسوِّغ سرقته قائلًا:
ولا أسأل الجِبسَ اللئيم بعيرَه وبُعران ربي في البلاد كثيرُ
وقلت: هذا رجل يكره أن يقبل البعير صدقة، ويكره أن يأخذه عاريّة لأنه يكره أعطية اللئام، لماذا تكون يده السفلى! فليذهب إلى الصحراء أو إلى البيوت وليسرق أي بعير، ولا جميل لأحد! إن السرقة في منطقه استجابة لرغبة نفسية طبيعية!
قلت: لو حمل هذا الرجل إجازة علمية في القانون فلن يعاقب سارقًا، ولو حُدِّث عن حد السرقة لأرعَد وأزبَد وهاج وماج وقال: عَودٌ إلى الوراء! لا نريد وحشية!
ولو أن إنسانًا عاش في بيئة اعتادت السطو على الأعراض أو تسلل إليها الشذوذ، فأصاب وأصيب منه، واعتَدَى واعتُديَ عليه، فإنه سينظر إلى الحياة من خلال جوانبها الأخرى التي لم يتدنس فيها، ويحاول تضخيمها والتعويل عليها وحدها، والنظر إلى المباذل التي تلوِّثه على أنها هَنَات ينبغي التجاوز عنها وعدم الوقوف عندها.
وهذا ومثله لو ملَكوا سلطة التشريع لجعلوا العلاقات الجنسية كلًّا مباحًا، في حدود التراضي طبعًا، كما هو الشأن في القوانين الأوربية!
إنني أفهم أن يقع الخطأ لكني لا أفهم أن يتحول إلى قانون!
وقد يستكبر إنسان! لكن ما معنى أن يعتذر عن إبليس ويفلسف تطاوله على الله تبارك وتعالى!(1/218)
وقد ينزلق امرؤ في الوحل! المفروض أن ينهض ويصلح شأنه ويغسل دَرَنه! أما أن يتغزل في الطين ويرمي به وجوه السائرين فهذه دناءة غليظة!
يؤسفني أن ناسًا كثيرين بدل أن يُصلحوا أنفسهم يريدون إفساد القانون، وذلك هو السر وراء المحاولات المجنونة لتعطيل الشرائع السماوية، وهي محاولات نجحت بين أهل الكتاب الذين سبقونا، فأمسى الوحي حبرًا على ورق.
ويُراد في كبوة الإسلام المعاصر أن يفعل المسلمون مثلما يفعل غيرهم، فتُوضع شرائع الإسلام على الرف، أو يُحكَم على بعضها بالإعدام تمهيدًا لإنفاذ الحكم فيها كلها.
والأمر لا يحتاج إلى الحيلة، فلنقل: إننا نتجاوز النص إلى روح النص. أو لنقل: إن الظروف التي نزل فيها النص قد طرأ عليها تغيير، فليتغير النص تبعًا لذلك!
ما أسهل تطويق الإسلام بهذه الطريقة! وجَعْلَه اسمًا لا حقيقة له، أو جَعْلَه شكلًا لا موضوع له!
وقد بدأ سماسرة الاستعمار تنفيذ الخطة، فسمعنا من يقول: إن الضرائب تغني عن الزكاة! ومن يقول: إن الصلاة والصيام يعطلان الإنتاج، فلا حرج من التنازل عنهما! ومن يقول: إنما حرم لحم الخنزير لقذارة مَراَعيه قديمًا وقد زالت الآن هذه العلة! ومن يقول: إن العربدة في الطريق هي سر تحريم الخمر، فمن يتناول منها قليلًا في بيته فلا حرج.. الخ.
وهكذا تَنهَدُّ أركان الدين وتَضيع معالم الحلال والحرام باسم "روح النص وتغير الظروف" ويُمنَع انتفاع الناس بالإسلام بل يُمنَع دخولها فيه! وينفسح المجال بعد ذلك للإلحاد أو للأديان الخرافية!
ومعروف أن تعطيل شرائع الحدود والقصاص كان تمهيدًا للقضاء على العبادات والعقائد والتاريخ والتراث والأدب واللغة، وسائر مقومات الأمة!
ونحن إذ نوصد الباب في وجه الاستعمار الثقافي نفتح الباب على مصراعَيه أما أولي الألباب ليحسنوا فقه الإسلام وعرضه.(1/219)
ونذكر بَدْءًا أننا لسنا من المتعصبين للفقه الظاهري، بل على العكس نحن مع الجمهور على أن القياس من أدلة الشريعة، ومع أغلب الفقهاء في رعاية المصلحة المرسلة، واحترام جملة القواعد التي تحكم الفكر التشريعي عندنا.
والحق أن علم أصول الفقه علم جليل القدر، وهو كما قال الشيخ مصطفى عبد الرازق: أدل على خصائصنا من الفلسفة الإسلامية.
لكن علم الأصول مجمَّد في كتبه، والمسيرة في القرون المتأخرة تكاد تكون متخلِّية عنه! والعالم الإسلامي تحكمه بعض الآراء الاجتهادية التي لقيت حظوة عند فريق من الناس، ثم قامت عليها تقاليد راسخة، ثم اعتُبرَت هذه التقاليد هي الإسلام بعينه، واعتُبر تركُها خروجًا عن الدين، وربما وصف تاركوها بالارتداد!
إذا كان ذلك ما دعا إلى الكلام عن النص وروح النص، والظروف وتغاير الظروف، فللموضوع وجه آخر، وإن لم يحسن أصحابه الكلام فيه أو تصوير شَكَاتهم كما يجب!
أعرف مجتمعات حُبست فيها ألوف الفتيات لأن الكفء لم يتقدم!
من الكفء المرتقَب؟ أستاذ في العلوم! محامٍ قدير! أديب رائع! تاجر ناجح! شاب تَزِينه التقوى وخدمة المُثُل!
لا، لا كفاءة وراء هذه الخلال كلها! المهم النسب الفارع والمكانة المدعومة بالمال الكثير!
وقضية الكفاءة يسندها فقه معين. لكنّ هناك فقهًا إسلاميًّا آخر يقول: إن الزنجي المسلم كفء لبنت الخليفة الهاشمي.
لا، هذا فقه مُهمَل! لماذا لا يكون الإهمال نصيب الاجتهاد الأول؟ هذا ما حدث!
فهل الدين من حيث هو عقيدة وشريعة يُزدَرَى بسبب هذا الذي حدث؟
إنه لا شَكاةَ من نص معيَّن، لا شَكاةَ من أمر أو نهي عن محرَّم، الشَّكَاة من فهم ضيق لأحد النصوص، أو من واجب لم يَرِدْ به أمر، أو من تحريم لا يسنده نهي!
وعلاج هذا الخلل ميسور، بل هو عمل المجددين والمصلحين والدعاة الفاقهين.(1/220)
قال لي أحد الناس: إن إعطاء الأنثى نصفَ نصيب الذكر موضع ضيق من المثقفين في الغرب! وهم يرون المساواة بين الجنسين وإهمال هذا النص!
قلت: إن هذا النص جزء من خطة اجتماعية كبرى تجعل نفقة الفتاة مسئولية الأسرة لا مسئوليتها الشخصية، وقد ساوى الغرب بين الذكر والأنثى في طلب الرزق، وخرجت الفتاة للكدح من سن السادسة عشرة، فماذا حدث؟
إن الغربيين يجب أن يخجلوا من الأدران الجنسية التي تلُف بلادهم وتلطِّخها بالعار لتكليف المرأة بالتكسب منذ صباها الباكر، والزعم بأن الجنسين سواء في الغُنم والغُرم.
وأنا لا أزال حائرًا في تعليل هذا الرضا العام بانتهاك الأعراض، وإشباع الرغبات، وتقديم الأجساد في المراقص والحدائق!
وعلى أية حال الرجل ملزَم بالإنفاق على زوجته إن كان زوجًا، وعلى ابنته إن كان أبًا، ولا تكلَّف الفتاة بالتعرض للارتزاق كي تعيش، فإنها ستفقد نفسها في مآزق كثيرة!
ولها يقينًا أن تعمل وتكسب في أوضاع متخيرة مضبوطة، لها وليس عليها! ومع ذلك فما ناله الرجل من زيادة في ميراثه سيرجع لها بصورة أو بأخرى.
وسوف يجني الغرب نتائج فسوقه! ولولا أتباعُ الرسالة الخاتمة فقَدوا القدرة على التصدي لقيادة الإنسانية لما بَقيَ الغرب في مكانته تلك مع بغيه وبغائه! إنه باقٍ لعدم وجود البديل وحسب!
القرآن الكريم قد أحكم الله آياته ويسر فهمها وذكراها، وما تشابه من آيات القرآن فلا علاقة له بالأحكام العملية والمسالك الفردية والاجتماعية.
وليست هناك آية قط يمكن الحكم عليها بوقف التنفيذ أو تعطيل عملها تصريحًا أو تلميحًا.
وإذا كنا نعيب على بعض الماجنين تبرُّمَهم بأحكام الحدود والقصاص، فهناك عيب أشد على نفر من المنتمين إلى الدين؛ أنهم أطاعوا ما استَسهَلوا وترَكوا ما استَوعَروا.(1/221)
إنهم صلُّوا لأن الصلاة عمل لا يجر وراءه المتاعب، أما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين للهِ شهداءَ بالقسطِ ولا يَجرِمَنَّكم شنآنُ قومٍ على ألا تَعدِلوا..) (المائدة: 8) فأمرٌ فوق طاقة الجبناء الحريصين على منافعهم ومناصبهم، هنا يمكن اللجوء إلى تأويل النصوص وتغاير الظروف، وجعلُ العجزِ عقلًا والجبنِ حكمةً.
والبعد عن الصراط المستقيم يستوي أن يكون الانحراف فيه ذات اليمين أو ذات اليسار.(1/222)
43 ـ ما حاجة الإنسان إلى الإيمان باليوم الآخر؟
وما أثر إنكاره على السلوك الإنساني؟
إذا طال الكلام عن الدار الآخرة فلا يأمن أحد! فإن توارث الذهول عنها أمات الشعور بها، حتى قال الحسن البصري عن الموت وهو أول مراحلها: ما رأيت حقًّا أشبه بباطل من الموت.
وكل حقيقة يجب أن نعترف بها خصوصًا عندما تتصل هذه الحقيقة بمستقبلنا، وعندما يكون الشاطئ عميقًا ثم تترك غِرًّا لا يُحسن السباحة ينزل فيه، فإنك قاتله!
قد نستغني عن بعض الحقائق وإن كان الجهل بها عيبًا ما دامت لا تمسنا، أما إذا ارتبط كياننا المادي والأدبي بشيء ثم غفَلنا عنه فهنا الطامّة!
إنني أتخيل فجيعة الجاحد عندما يحُس فجأة أنه مكتمل الحواس أمام غيب تحول إلى شهادة! أمام أمر كان يَهزَأ منه فإذا هو جدار يَصدَع دماغه! لقد وقف وجهًا لوجه أمام ما كان ينكره بقوة (وجاء ربُّك والمَلَكُ صفًّا صفًّا. وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكَّر الإنسانُ وأنَّى له الذكرى. يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي) (الفجر: 22 ـ 24).
ليت! وهل ينفع شيئًا ليت؟
إنه أضاع ماضيه في الحياة الأولى سُدَى، وها هو ذا يَحصُد ما زرع! ما فكَّر قط في هذا اليوم ولا أعدَّ له عدَّة، ومع التأوه والندامة (يقول يا ليتني قدمت لحياتي) وهيهات.
وهناك شخص آخر كان في دنيا الناس يذكر الله ويغالب النسيان، ويستعد لمواجهة عاصفة، فهو يترك فراشه منطلقًا إلى المسجد، يُغمِض عينيه عن المفاتن المبذولة، يَستعِف عن المحرمات وإن كثرت حولها المغريات.
إنه ـ يوم الحساب ـ يَتلقَّى نبأ نجاحه فيصيح جَذْلان مسمِّعًا كل إنسان: (هاؤُمُ اقرءوا كتابيَهْ. إني ظننتُ أني مُلاقٍ حسابيهْ. فهو في عيشةٍ راضية. في جنةٍ عالية. قطوفُها دانية. كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية) (الحاقة: 19ـ24).
إنها فرصة العمر، بل فرصة الخلود! شتان بين مصير ومصير!(1/223)
وأثر الإيمان باليوم الآخر عميق في التربية النفسية والاجتماعية، إنه يتحمل حينًا ليظفر بالراحة بعد حين!
كما قيل لأعرابي: تصوم في هذا اليوم الحار؟ قال: أصومه ليوم أحرَّ منه!
وتعليل النفس بالآمال عون على الرضا بالمتاعب، وحبسها على ما تكره لتنال ما تحب! وكما قال الشاعر:
مُنًى إن تكنْ حقًّا تكنْ أسعدَ المُنَى وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدًا
وهذا الاستثناء بالنسبة إلى الآخرة مرفوض، فإن الدار الآخرة أحق وأثبت من الدار الأولى، على نحو ما ذكر العارفون: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
ومن هنا صح وصفها بما يدل على زيادة الحس في قوله تعالى: (وإن الدارَ الآخرةَ لهي الحيوانُ لو كانوا يعلمون) (العنكبوت: 64) والحيوان كالفيضان مصدر على سعة المعنى.
وقد كثرت في القرآن الكريم المواطن التي تُذكر فيها الآخرة لتصحيح السلوك في هذه الدنيا أو تزكيته وترقيته، فعندما ضاقت زوجات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمعيشته الخشنة قيل لهن: الأمر على غير ما أَلِفتُنَّ قديمًا، لقد جِئتُنَّ من بيوت حافلة بالسعة والمتاع إلى بيت لا سرف فيه ولا ترف! إنه بيت الكفاح والخشونة! بيت التلاوة والتهجد! لا بد لرب هذا البيت أن يكون قدوة للمضطهَدين والمحاصَرين، ومن صُودِرَت ثرواتهم وفقَدوا طُمَأنينتهم لنصرة الإسلام!
من طلب متعة الحياة فلا مكان له هنا، ومن رنا إلى الآخرة وسعى لها سعيها فليَبقَ موطِّنًا نفسه على حياة ناشفة: (يا أيها النبيُّ قل لأزواجِك إن كنتنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها فتَعالَينَ أُمتِّعْكنَّ وأُسرِّحْكنَّ سَرَاحًا جميلًا. وإن كنتنَّ تُرِدْنَ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ فإن اللهَ أعَدَّ للمحسِناتِ منكنَّ أجرًا عظيمًا) (الأحزاب: 28،29).
وجمهور الناس قد يحُس غُصَّة وهو يرى المرتشين والمفسدين أو الملحدين المجرمين في طول البلاد وعرضها، عليهم شارة النعمة وأمارة القوة.(1/224)
وقد يكون ذلك مبعث فتنة لأهل التقى والعفاف، لكن الله سبحانه يمحو ذلك محوًا عندما يقول: (لا يغرَّنَّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد. متاعٌ قليلٌ ثم مأواهم جهنمُ وبئس المهادُ. لكنِ الذين اتَّقَوا ربَّهم لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها نزلًا مِن عندِ اللهِ وما عندَ اللهِ خيرٌ للأبرارِ) (آل عمران: 196ـ 198).
ومن مشاهد القيامة مشهد يتكرر في القرآن كثيرًا ليحارب ظاهرة مؤذية تسود الأمة العربية والإسلامية من زمان غير قريب؛ حكام الجَور الذين يتهافت حولهم الأتباع ليؤازروهم على ظلمهم ويشاركوهم في منافعهم الحرام.
إن التَّبِعة في الفساد والإفساد مقسَّمة على الفريقين قسمة عادلة، لأن هؤلاء يُوحُون وأولئك يُنفِّذون، الرءوس والأذناب شركاء في اقتراف الجرائم وفتنة المستضعفين وإثارة الفتن، ومن هنا جمعهم مصير واحد.
وتَدبَّرْ قوله تعالى يصف هذا المصير ويذكر ما يقع فيه من حوار: (هذا وإن للطاغين لشَرَّ مآبٍ. جهنمَ يَصلَونها فبئسَ المهادُ. هذا فليَذُوقوه حميمٌ وغَسّاقٌ. وآخَرُ مِن شكلِه أزواجٌ. هذا فوجٌ مقتَحِمٌ معكم لا مرحبًا بهم إنهم صالو النارِ. قالوا بل أنتم لا مرحبًا بكم أنتم قدَّمتموه لنا فبئس القرارُ. قالوا ربنا مَن قدَّم لنا هذا فزِدْه عذابًا ضِعفًا في النار) (ص: 55ـ61)
إن الكبراء عندما يرون الأذناب يلحقون بهم في دار الجحيم تسوؤهم اللُّقْيَا ويصيحون مستنكرين مرآهم! لطالما هشُّوا لهم في الدنيا وسارعوا إلى لقائهم، أما اليوم فإن الفريقين يتبادلان السخط والتشاؤم وعدم الترحيب!
ويتذكر الفريقان أنهم كانوا يتفقون على إهانة المؤمنين ونعتهم بأقبح النعوت، ويتظاهرون على اضطهادهم وأذاهم، أين هم الآن؟
وقالوا: (ما لنا لا نَرى رجالًا كنا نعُدُّهم من الأشرار. أتَّخذناهم سِخريًا أم زاغت عنهم الأبصارُ. إن ذلك لحقٌّ تخاصمُ أهلِ النار) (ص: 62ـ64).(1/225)
تسجيل هذا المنظر الذي سيقع حتمًا والتعجيل بعرضه الآن فيه طمأنة لجمهور المؤمنين الذي أرهقه الاستضعاف والاستهزاء! أما الكافرون فإنهم لا يَعُونه ولا يصدقونه!
ومنظر آخر جدير بالتأمل؛ يقوم بعض أهل الجنة بسياحة قصيرة يستكشفون فيها مصاير من كانوا يعرفونهم قديمًا من أهل الضلال والكفران: (قال قائلٌ منهم إني كان لي قرينٌ. يقول أإنك لمن المصدِّقين. أإذا مِتنا وكنا ترابًا وعظامًا أإنا لمَدِينُون) (الصافات: 51ـ53).
هذا القرين يظن المؤمنين رجعيِّين يصدقون الخرافات ويتبعون التُّرَّهات، فهو يقول لصاحبه: أتصدق أننا بعد فنائنا نُبعَث ونُجزَى؟
ويشرف الرجل المؤمن على قرينه القديم ليراه وسط أهوال: (قال هل أنتم مطَّلِعون. فاطَّلَع فرآه في سَواء الجحيم. قال تاللهِ إن كدتَ لَتُرْدِينِ. ولولا نعمةُ ربي لكنتُ من المحضَرين) (الصافات: 54ـ57).
وعبارة: (إن كدتَ لَتُرْدِينِ) تشعر المؤمنين في يوم الناس هذا بضرورة الثبات على الحق، لأن التهوين فيه طريق السقوط والضياع، كما تشعرهم بقية الكلام بفضل الله عليهم، إذ شرح صدورهم لهذا الحق واستدامَهم عليه!
وفي دنيانا الحاضرة يَنفِر المنافقون من أهل الإخلاص واليقين، ويهجرون مجالسهم، ويبعدون عنهم إذا جمعتهم المصادفات في الطريق، ذلك لأن قلوبهم مع الكفر وأحزابه، ما يأنسون إلا بهم.
بيد أن الحال تتغير تغيرًا عميقًا في الدار الآخرة: (يوم يقولُ المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظُرونا نَقتَبسْ من نورِكم قيل ارجِعوا وراءكم فالتَمِسوا نورًا فضُربَ بينهم بسورٍ له بابٌ باطنُه فيه الرحمةُ وظاهرُه من قِبَلِه العذابُ) (الحديد: 13).
إن القرآن الكريم يربي الناس بيوم الحساب حين يذكره وحين يكرره، ويعالج عللهم بما يسوق من صوره!
إنه يذكره لإصلاح الدنيا لا لهدمها، ولتعليق الهمم بالأبقى والأجدى لا بالسراب الخادع.(1/226)
أما الماديون الدين يَزحَمون الآن مشارق الأرض ومغاربها، فما يعرفون إلا هذا التراب، وما يعوِّلون إلا على أيامهم فوقه، وما يَرمُقون السماء بنظرة رجاء، وما يَعطِفهم على ربهم ولاء ولا عرفان.
مررت يومًا بأحد شوارع القاهرة، فرأيت عربة قد نفَق الحمار الذي يجرها، وتجاوزت صاحبها الحريص على صحبته، ونظرت إلى الدابة الميتة عند أقدامه وقلت في نفسي: انتهى أمرها، إن كثيرًا من القادة والساسة لا يَرقَوْن بحياتهم فوق هذا المستوى الحيواني، يظنون أمرهم انتهى عندما يَنفُقون كهذه الدابة! ألا ما أحقَرَ الكفرَ وأسوَأَ تصورَه للوجود!(1/227)
44 ـ ما أثر الإيمان على الأخلاق والسلوك والضمير، على ضوء ما يحدث في الدول المتقدمة التي تأخذ بالعقل ونتائج العلوم فقط؟
لا نستطيع إنكار المدى الكبير الذي بلغته الحضارة الحديثة في اكتشاف أسرار الكون! إنها حضارة ذكية العقل واسعة المعرفة، وقد طوَّعت ما بلغته إلى تقدم صناعي باهر طَفَر بالإنسانية طفرة رحيبة ورهيبة، في جميع المجالات المدنية والعسكرية.
ولكنّ هناك إحساسًا عامًّا بأن هذا التقدم المادي لم يواكبه تقدم روحي، وأن إنسان العصر الحديث لا يختلف كثيرًا عن إنسان العصر الأول في غرائزه وشهواته!
وإذا كانت ثمة فروق ففي الوسائل لا في البواعث والغايات، بل لقد قيل في إنسان العصر الحاضر: إن عضلاته أكبر من عقله.
والواقع أن الإنسان يتضاعف شره عندما يكون حاد الذكاء حقير الخُلُق، وطالما ردَّدنا أن الإسلام عقل يرفض الخرافة، وقلب يكره الرذيلة!
إن الكمال الحقيقي امتداد ونضج في جميع المَلَكات الإنسانية، وهذا التوازن أساس لابد منه لقيام مجتمع رشيد، وحضارة يانعة الثمار مديدة الظلال، فهل الحضارة الحديثة بعد تلك المقررات جديرة بالخلود؟ أو هي أرجح من غيرها في موازنة منصفة؟
الحق، لا؛ فالرجل الأبيض قائد هذه الحضارة ورائدها إنسانٌ طافح الأنانية، يشده إلى منافعه ألف رباط، وقبل أن نشرح شَرَهه المسعور واستعلاءه على غيره نذكر أحد مظاهر الحضارة الإسلامية القديمة:
فالعرب الفاتحون قدموا الإسلام للأعاجم، ونقلوهم به من الظلمة إلى النور، وبعد رَدْح من الزمان كان هؤلاء يُصلُّون وراء الأتقياء من شتى الأجناس، ويَتلقَّوْن عنهم العلوم الدينية دون غضاضة أو كبرياء.
فالبخاري هو المحدث الأول، وأبو حنيفة الفقيه الأول، والحسن البصري المربي الأول، وسيبويه اللغوي الأول... الخ
ولم يشعر المصريون بأي ضيق من أن يقودهم "قطز" في معركته الهائلة ضد التتار بعين جالوت، وما خامرهم حرج في أن يقودهم صلاح الدين ضد الصليبيين في حطين.(1/228)
إن الإسلام محا النُّعَرات الجنسية في أغلب الميادين، وربط الناس بمُثُلِهم العالية وحدها!
أما الجنس الأبيض وطلائعه الغازية والمكتشفة فقد كانوا يعبدون أنفسهم، ويقدسون مصالحهم ولا تحكمهم إلا شِرْعة الغاب!
اكتشف الإنجليز أستراليا، فماذا فعلوا بسكانها؟
شرعوا يطاردونهم من مكان إلى آخر حتى حصدوا جمهرتهم، وأخبرني صديق قادم من أستراليا أن البيض ييسرون أردأ الخمور لهؤلاء السكان الأصليين حتى يقضوا عليهم القضاء الأخير، وتبقى استراليا للمُغِيرين المسلحين بالتقدم العلمي والصناعي، المجرَّدين من كل رحمة وإيثار.
أكان سكان أمريكا الأصليون أسعد حظًّا من أستراليا؟
لقد تتبَّعَتهم حربُ الإبادة من بلد إلى بلد، وكان المكتشف الذي يسيل ريقه للذهب ينظر، فإذا وجد هنديًّا أحمر على رأسه تاج من ذهب، قطع الرأس وعاد بالتاج!
قد يقال: كان ذلك في الأيام الأولى لاكتشاف العالم الجديد، وقد ارتقت اليوم البشرية، وضاقت بما كان يفعله المستعمرون الأولون واستنكرته.
ونجيب أن الاستهانة بالأجناس الأخرى كانت وما زالت دَيدَن الرجل الأبيض، وعندما أعوزه الانتصار السريع ضد اليابان ألقى قنبلتين مبيدتين على هيروشيما وناجازاكي فقتل نصف مليون إنسان بين طفل وامرأة وشيخ وشاب، ولا ريب أن عشر هؤلاء الهَلكَى فقط هو الذي كان يمكن أن يُجَنَّد في الحرب!
المأساة أن هؤلاء "المتحضرين" ارتَقَوْا علميًّا وهبطوا خُلُقيًّا، وأنهم عبيد لذاتهم العاجلة، وأن الفكرة عن يوم الدينونة غامضة أو معدومة لديهم.
إنهم لم يسمعوا يومًا من يقول لهم: (ولا تَحسَبنَّ اللهَ غافلًا عما يَعمَلُ الظالمون إنما يُؤخِّرُهم ليومٍ تَشخَصُ فيه الأبصارُ. مُهطِعِين مُقنِعي رءوسِهم لا يَرتَدُّ إليهم طَرْفُهم وأفئدتُهم هواءٌ. وأَنذِرِ الناسَ يوم يأتيهم العذابُ فيقولُ الذين ظلَموا ربنا أخِّرنا إلى أجلٍ قريبٍ نُجِبْ دعوتَك ونَتَّبعِ الرسلَ) (إبراهيم: 42ـ44).(1/229)
إن الإنسان يتحول إلى وحش كاسر عندما ينسى الله واليوم الآخر، لاسيما إذا كان هو واضع القانون ومطبقه! إن القانون يومئذ يحرس الأقوياء ويجتاح الضعفاء، وقد رأينا كيف يُباد الشعب الفلسطيني ويُمحق فوق أرضه، ويُجاء بألوف مؤلفة من اليهود لتحيا فوق أنقاضه، والقانون الدولي مكمَّم الفم، لأن مُلاَّك القوة يريدون ذلك، وأجهزة الدعاية قديرة على إبطال الحق وإحقاق الباطل!
إن الغزائز المهتاجة، والعادات السيئة، والموروثات الرديئة تهزم الحق في دنيا الناس.
وقد نظرت إلى جموع المستشرقين، وهم قوم ذوو ثقافة واسعة، لَفَّتهم ضغائن غبية ضد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأذاعوا عنه أنه كبني جنسه محب للنساء.
إن هؤلاء المستشرقين قرءوا في العهد القديم أن سليمان جمع في عصمته ألفًا من النساء؛ سبعمائة من الحرائر وثلاثمائة من الإماء، فهل كان لدى محمد عُشر ما عنده؟
لا!
نصف العشر؟
لا!
ربع العشر؟
لا!
ومع ذلك فسليمان نبي حكيم، ومحمد دون ذلك!
ونشيد الأنشاد الذي لسليمان تسمع فيه صيحات الباحث عن الحبيب المجهول أو المعلوم، أما قرآن محمد فليس في طوله وعرضه إلا جُؤَارٌ يَدفَع البشر إلى ربهم ويذكر بيوم لقائه، ومع ذلك فمحمد لا يُوحَى إليه، والأشواق وراء الحبيب المنشود هي الوحي المعصوم!
ما قيمة العلم إذا لم يكن معه إنصاف ولا عدالة؟
إنني أمقت الذكاء الخبيث والثقافة المُسِفّة، وعندي أن امرأة حَصَانًا غافلة أشرف من مُومِس عبقرية، وأن رجلًا ساذجًا يعرف ربه أشرف من خبير في الذرة يعبد نفسه!
وقد أفهم ما يعنيه الرسول الكريم فيما رُوي عنه: "النار أسرع إلى فَسَقة القراء منها إلى عَبَدة الأصنام! فيقولون: يُبدأ بنا قبل عَبَدة الوثن؟ فيقال لهم: ليس من يَعلَم كمن يَجهَل" (الحديث رواه المنذري في الترغيب والترهيب وقال: هو على غرابته له شاهد من الصحيح).(1/230)
والحضارة الغربية، كما قلنا آنفًا، اتسع علمها وضاق أدبها، أو طالت ثقافتها وقصُرت تربيتها، فهي الآن تصنع أجيالًا لا تعرف إلا الحياة ليومها فوق هذا التراب، وتؤمن أنها لن تحيا مرة أخرى أبدًا، ومن هنا غلب عليها هذا السُّعار في اقتناص الموجود، والركض وراء المفقود، والحقد على من وجَد، والازدراء على من فقَد!
إنها لا تؤمن بالله واليوم الآخر! ورجال الدين مشغولون بسخائمهم القديمة! إن كانوا هودًا فهَمُّهم الأكبر امتلاك أرض الميعاد كما يحلُمون، وإن كانوا نصارى فهمهم الأكبر استعادة قبر المسيح والثأر ممن أخذوه في العصور الوسطى.
وما يدور في ذهنهم تعاون عام لإبقاء الأرض موصولةً بالسماء، فهل هذا تقدم علمي أم نجاح للغرائز الهابطة والأغراض الدنيا!
على أن القرون الأولى لم تَخلُ من علم أثارت به الأرض وزُيِّنت به الحياة!
والمنكور هو انعدام التوازن في أية حضارة بين جوانبها المادية والأدبية، لقد بنى المصريون الأهرام، والبناء في ذاته ليس عيبًا، وإنما العيب أن تهلك أسرة في سبيل بناء مقبرة الملك. وبنت عاد قصورًا شامخة وأبراجًا عالية، فإذا اصطدم برغبتها أحد سحقته، وأغراها جبروتها بحرب الإبادة، فكان من قصص القرآن عنهم: (أتَبنُون بكلِّ رِيعٍ آيةً تَعبَثون. وتَتَّخذون مصانعَ لعلكم تخلُدون. وإذا بطَشتُم بطَشتم جبّارين. فاتقوا اللهَ وأطيعونِ) (الشعراء: 128ـ131).
ورفض هؤلاء وأولئك تقوى الله وسماع الناصح الأمين فماذا كانت العقبى؟
(ألم تَرَ كيف فعَل ربُّك بعادٍ. إرَمَ ذاتِ العِمادِ. التي لم يُخلَقْ مثلُها في البلادِ. وثمودَ الذين جابوا الصخرَ بالوادِ. وفرعونَ ذي الأوتادِ. الذين طَغَوا في البلادِ. فأكثَروا فيها الفسادَ. فصَبَّ عليهم ربُّك سَوطَ عذابٍ. إن ربَّك لبالمرصادِ) (الفجر: 6ـ14).(1/231)
إن هذه المدنيات البائدة قامت على علم له بحاجات الناس يومئذ وفاءٌ، ولقد اغتَرُّوا بهذا العلم وحسبوا أنهم يَسبِق بهم ولو أثقلهم الهوى، وهيهات: (فلما جاءتهم رسلُهم بالبيناتِ فَرِحوا بما عندَهم من العلمِ وحاق بهم ما كانوا يَستهزئون) (غافر: 83).
إن العلم مهما تقدم لا يغني عن الإيمان، والإيمان الذين نحترمه هو الذي يعانق العقل وتَزدان به الحياة.(1/232)
45 ـ لماذا كانت المذاهب الفقهية المعمول بها أربعة؟ وما ضرورتها؟
أئمة الفقه الإسلامي المشهورون أربعة، وقد كانوا قديمًا ضعف ذلك مرة أو مرتين، بيد أن الذين رسَخت مكانتهم وخلَد ذكرهم أولئك الأربعة الكبار، أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل!
أكان ذلك لمصادفات عارضة أم تمَّ وَفْقَ سنة البقاء للأصلح؟
لا تَعنيني الإجابة، وإنما يَعنيني القول بأن أولئك الرجال الأربعة كانوا قممًا في التقوى والمعرفة والنصح للأمة، وإقصاء مشاعر الرغبة والرهبة مع كل حاكم مهما امتدت دولته وعَظُمت سلطته.
والخلاف الفقهي أول أمره كان علامة صحة، ولا ضير من بقائه إلى آخر الدهر ما دام لا يعدو حدوده! وحدوده هي دائرة الأعمال الفرعية.
أما ركن الدين، ومعالم الإيمان، ودعائم الأخلاق، ومعاقد الشريعة، فهي موضع اتفاق بين خاصة المسلمين وعامتهم.
والذي ضخم الخلاف الفقهي وشغل الناس به على نحو مستَهجَن أمران:
أولهما: جهل الغوغاء، وفرح الواحد منهم بحكمٍ عرَفه، ومغالاته به. كما يقول الناس في مصر "الكعكة في يد اليتيم عجب" ولذلك ترى هؤلاء يقدمون فقه المضمضة والاستنشاق على رعاية العهود والأمانات! وهذا ضلال مبين.
والأمر الثاني: طول أجل الفساد السياسي في تاريخنا. فقد أخرس الألسنةَ عن الكلام في الفقه الإداري والدستوري والدولي وضمانات الشورى والمال العام، وأغرى أهل البطالة بالثرثرة المُمِلَّة فيما وراء ذلك، حتى جعل جماهير تهتاج لقضية "وضع اليدين" في أثناء الصلاة ولا تتحرك بقوة لضربِ الاستعمار المغِير ومحوِ الأسباب التي جلبته.
ولو تعاون المسلمون على تنفيذ ما اتفقوا عليه ـ وهو لب الدين وجمهرة تعاليمه ـ لكان الخلاف فيما وراءه شيئًا لطيفًا وطريفًا، ومصدرَ تراحم لا خصام.
والأئمة الأربعة كما أسلفنا القول رجال كبار، لكنهم ليسوا معصومين، ولا فرض أحدهم نفسه على الأئمة، ولا كُلِّفنا شرعًا باتباع واحد بعينه منهم.(1/233)
وإنما نحترمهم لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ليس منّا من لم يوقِّرْ كبيرَنا ويَرحَمْ صغيرَنا ويَعرِفْ لعالِمنا حقَّه".
وأحب أن أعرض نماذج متناثرة للخلاف الفقهي تومئ إلى طبيعته وعلته، أما التأصيل العلمي لأسباب الخلاف فقد شُرح في أماكن أخرى.
هل القاذف الكذاب تُقبل شهادته بعدما تتم توبته؟
من الأئمة من يرفض شهادته أبدًا وإن تاب، ومنهم من يقبلها بعد توبته.
وأصل المسألة تفسير قوله تعالى: (والذين يَرمُون المُحصَناتِ ثم لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تَقبَلوا لهم شهادةً أبدًا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلَحوا) (النور: 4،5).
قال البعض: الاستثناء وقع من الوصف بالفسق، وبَقيَ الحرمان من الشهادة على التأبيد.
وقال آخرون: بل الاستثناء يلحق الجملتين معًا، وتُقبل شهادته.
ليكن هذا أو ذاك، فلا حَجرَ على فَهم!
والتائبون من جريمة قطع الطريق إذا استسلموا قبل إلقاء القبض عليهم تُقبل توبتهم وتسقط عقوبتهم لقوله تعالى: (إلا الذين تابوا مِن قبلِ أن تقدِروا عليهم فاعلموا أن اللهَ غفورٌ رحيمٌ) (المائدة: 34).
فهل يسقط الحد عمن ارتكب جريمة السرقة أو الزنى إذا تاب؟
من الفقهاء مَن أعمل القياس واستشهد بالسنة وأوقف الحد.
جاء عن أنس بن مالك: كنت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا فأقِمْه عليّ. قال: ولم يسأل عنه، فحضرت الصلاة، فصلى مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما قضى النبي الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا فأقِمْ فيّ كتابَ الله. قال: "أليس قد صليتَ معنا؟" قال: نعم. قال: "فإن الله، عز وجل، قد غفر لك ذنبك".
وهناك فقهاء آخرون يَرَون إقامة الحد رافضين القياس ومؤوِّلين الحديث الوارد.
لكلٍّ رأيُه ولا تثريب على أحد.(1/234)
وفي فقه الأسرة نقرأ شريعة الخُلع. ولا أدري لماذا أُهملَت! ولماذا كان القضاء يأمر رجال الشرطة باقتياد الزوجة الكارهة إلى بيت زوجها لتسلمه جسدها!
وهل الخُلع طلاق أو فسخ لعقد الزوجية؟
خلاف بين الفقهاء، وظاهر القرآن أن الخُلع فسخ، لأن الله سبحانه يقول: (الطلاقُ مرتان) (البقرة: 229) ثم يقول: (فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ) (البقرة: 229) وفسر التسريح بعد ذلك بقوله: (.. فإن طلَّقها فلا تَحِلُّ له من بعدُ حتى تَنكِحَ زوجًا غيرَه) (البقرة: 229).
وقد توسط الخُلع أحكام الطلاق بقوله سبحانه: (فإن خفتم ألاّ يُقيما حدودَ اللهِ فلا جناحَ عليهما فيما افتدَت به) (البقرة: 230).
فالظاهر أن رد المرأة للمهر الذي قبَضته عَودٌ في العقد، ويحكم القضاء بالفسخ.
ويرى آخرون أن الخلع طلاق بائن للحديث الوارد للإشهاد عليه.
والحق أني حائر في ذلك مع قوله تعالى: (فأمسِكوهنَّ بمعروفٍ أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ وأَشهِدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم وأقيموا الشهادةَ للهِ ذلكم يُوعَظُ به من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ) (الطلاق: 2) كيف يكون الإشهاد نافلة مع هذه التوكيدات!
ويغلب على ظني أن التقاليد التي ضامت المرأة من قديم لها دخل كبير في هذا الاضطراب.
إن التحقيق العلمي يوجب احترام شريعة الخُلع التي أُهملت، كما يوجب ضرورة الإشهاد على الطلاق.
ونترك فقه الأسرة إلى طَرَف من فقه العبادات.
إنني قضيت رَدْحًا من الزمان أعمل في المساجد، ورأيت مظاهر الخلاف بين الأئمة الأربعة، هذا يقنُت في الفجر وذاك يصمُت! هذا يصلي نافلة قبل المغرب وذاك يأبَى! هذا يُحيّي المسجد في أثناء الخطبة وذاك يجلس! هذا يقرأ فاتحة الكتاب وراء الإمام وهذا يُنصِت! هذا يَقبِض يديه إلى سُرَّته وهذا يَقبِضهما إلى صدره وهذا يَسدِلهما إلى جنبيه!
قال لي صديق: أيسرك هذا التفاوت؟(1/235)
قلت: كنت أوثر وَحدة الصورة، لكني أدَعُ الوضع كما ترى لأن عنايتي بالموضوع أكثر من عنايتي بالشكل، ولأن هناك وجهات نظر فقهية محترَمة وراء هذا التفاوت، أكره الاصطدام بها!
المشكلة ليست في هذا الخلاف الفقهي، إنها فيما وراءه من غلو وتعصب، فالذي يمنع القنوت في الفجر وبعض جماعة القانتين يظن أنه استنقذ القدس من براثن اليهود، ومنع بدعة تقود إلى النار!
المشكلة في الضحالة الفكرية والضغائن النفسية التي تُغلِّف أولئك الناس، وهي آفات تُفسد الطاعات ولا أحسب أن صلاة تُقبَل معها!
إن هؤلاء المتعصبين يعيشون داخل حُجُب سميكة، كما يعيش الكتكوت داخل قشر البيضة قبل الفقس، لا يرى أرضه ولا سماءه إلا هذه الدائرة الضيقة.
والدين بَداهةً غير هذا، الدين الذي لا خلاف في عناصره قلب خاشع، وفكر فاضل، وأمانات مرعية في تقلب المرء على ظهر الأرض منذ رشَد إلى أن يَلقَى ربه!
ليختلف المسلمون في الفروع العملية وراء أئمة أربعة أو ثمانية، فالخطورة لا تنشأ من الخلاف الفرعي، إنما تنشأ من فساد الأفئدة والألباب!
على أن الخلاف يُحسَم ويُختار رأي واحد حتمًا عندما يتعلق الأمر بالدولة وشئونها الإدارية، وقوانينها الحاكمة في الدماء والأموال والأعراض!
لنفرض أن فقيهًا يرى أن طلاق البدعة يقع، وفقيهًا آخر يرى أن طلاق البدعة لغو، فهل تقف أجهزة الدولة في انتظار غلبة أحد الاجتهادين؟ إنها لن تدور أبدًا والحالة هذه!
وإثبات الطلاق لابد من تدوينه في سجلات ومن رعايته في النسب والتوارث! ومن حق الدولة أن تختار مذهبًا فقهيًّا لتدير الأمور على أساسه وتحفظ الحقوق وَفْقَ نصوصه.
هل المخدرات خمر يعاقب على تناولها أم لا؟
من حق الدولة أن تختار مذهبًا فقهيًّا تُجرِّم به تناول المسكِرات والمخدِّرات جميعًا، وتهمل المذاهب الأخرى.(1/236)
ويُمكن أن يتغير القانون وأن تترك الحكومة مذهبًا وتُؤثِر عليه آخر، وذلك وَفْقَ نشاط الاجتهاد الفقهي ووزن الناس لمصالحهم المتجددة، وذاك ما نشرحه في فصل آخر إن شاء الله.(1/237)
46 ـ ما مدى حرية الفكر في الإسلام؟ وكيف نوفق بينه وبين قتل المرتد؟
هناك فرق بين حرية القول وحرية الشتم! وحرية العمل وحرية الإيذاء! أنا أقول ما أشاء وأفعل ما أشاء، ولكن تقف مشيئتي عندما تبدأ حرية غيري وحقوقه.
وقد اقتنعت بأن كمال الإنسانية وارتقاءها منوطان بوفرة الحريات الصحيحة، واستطاعة كل إنسان أن يتمتع بها دون مشاكسة أو افتِيات.
وقد قلنا في فصل مضى: إن حرية المرء هي الوجه الآخر لعبودية الله وحده، فالمؤمن حقًّا رجل تختفي من حياته رهبة الطواغيت، ويقول ويعمل غير مكتَرِث إلا برضا الله وحده.
وحرية الفكر هي المِهَاد الأول أو المهاد الأوحد لمعرفة الله، واستكشاف عظمته، وتقرير حقوقه، وإدراك هداياته.
عندما أسرح بعيني في الزروع والثمار استجابة لأمر الله (انظُروا إلى ثَمَره إذا أَثمَرَ ويَنْعِه) (الأنعام: 99) فأنا أسبح الله وأحمده وإن لم يتحرك لساني بكلمة!
قد يكون هذا التسبيح الصامت معادلًا لركعتين من النوافل، وربما نما وأضحى معادلًا لركعتين من الفرائض، وذلك حسب قيمة هذا الفكر.
قد يكون تحيةَ إعزاز لمن أبرَزَ الحياةَ من الموات، وأخرَجَ ألوانًا وطعومًا شتى من أرض داكنة هامدة!
وقد يكون ـ إلى جانب ذلك ـ عنايةً بالحصائل الناتجة، وتكثيرًا لها، ودفعًا للآفات عنها، ونفعًا لعباد الله بها، ودراسةً ذكية للتربة وطبيعة العمل فيها وإمكانات الإفادة منها!
المهم في الجو الديني الصحيح ألا أُثقِل العقل بما يَؤُوده عن الفكر المثمر أو هذا التسبيح الصامت.
والتدين المختَرَع والفاسد شديد المهارة في صرف المؤمنين عن العمل العقلي والقلبي، وتعليقهم بأشكال ورسوم وأوراد ما أنزل الله بها من سلطان.
مع أن هذه الأعمال ركن في الإيمان، وغيرها إما بدع وإما نوافل لا تُقبَل إلا بعد اكتمال الفروض!(1/238)
ليس هذا استطرادًا، وإنما هو بيان لقيمة الحرية الفكرية التي اطَّردت الآيات في القرآن الكريم لتقريرها وتقديرها، ولكننا للأسف لم نحسن فهمها ولا البناء عليها.
وقد ظَفِر أسلافنا بأنصبة كبيرة من تلك الحرية الغالية كانت وراء تفوقهم الحضاري وسيادتهم العالم زمانًا طويلًا.
ورأيي أن هذه الحرية خرجت على نفسها أو تحولت إلى فوضى خُلُقية في بعض الميادين، فليس من حرية الفكر أن يُنشِد أبو نُواس خَمرياته ويَفرض شذوذه على الأدب العربي.
وليس من حرية الفكر أن ينشغل العقل الإسلامي بالبحث في ذات الله ـ متأثرًا بالفلسفة الإغريقية ـ ويترك البحث في المادة وخصائصها.
وعندي أن الجانب الطبي في ثقافة ابن سينا ألمع وأضوأ من الجانب الفلسفي.
وأن الحرية الفكرية عندنا انكمشت حيث يجب أن تمتد، وامتدت حيث يجب أن تنكمش، على أنها اعتلت في العهود المتأخرة وكادت تموت، وذلك تبعًا لاضمحلال الحرية السياسية في حياتنا العامة وغلبة الحكم الفردي.
والحريات كالفضائل يقوِّي بعضها بعضًا وينمِّيه، ومع ما أصاب الحريات إجمالًا من علل فإن الحرية الدينية بقيت قوية وعاشت في ظلالها طوائف اليهود والنصارى والباطنية دون حرج، وما أحسب دارًا أخرى غير دار الإسلام يقع فيها هذا التسامح!
لقد كانت الحرية الدينية أعصى الحريات على النقض، كان عرب اليمن يتقاتلون ويُرخِص بعضهم دم بعض، وكان يهود اليمن مَرْعِيِّي الذِّمام مَصُوني الحقوق وبقُوا وافرِين حتى التحقوا بإسرائيل!(1/239)
ومن الطرائف التي يحكيها الأدباء أن الخوارج اعترضوا نفرًا من الناس، وأحبوا أن يتعرفوا هويتهم، وكان فيهم أبو حنيفة، فأسرع يجيب الخوارج: نحن مشركون مستجيرون! فلما تركهم الخوارج يمضون لشأنهم قال الإمام الفقيه: إن القرآن يقول: (وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأَجِرْه حتى يَسمَعَ كلامَ اللهِ ثم أَبلِغْه مَأمَنَه) (التوبة: 6) فأسمِعونا كلام الله وأبلِغونا مأمننا. وفعل الخوارج ذلك، ونجا أبو حنيفة ومَن معه من الفتك!
والقصة تستدعي التأمل! ولئن كانت مثار رِيبة عند البعض.
إن التاريخ الإسلامي يصدق دلالتها، ويكشف عن العلة في بقاء الطوائف الكافرة بالإسلام وسط بحر مائج من الأمم الإسلامية، مما لا نظير له في القارات كلها!
ونتساءل بعد ذلك الاستعراض:
هل من حرية الفكر أن يُسلم رجل ليتزوج امرأة مسلمة، فإذا نال مبتغاه منها وتحولت عاطفته عنها رجع إلى دينه الأول؟
أو من حرية الفكر أن يتصل شخص بأعداء أمته وينقُل إليهم أسرارها ويتآمر معهم على مستقبلها؟
إنه لابد من التفريق بين العبث بالأديان أو خيانة الأوطان وبين حرية الفكر! فالمسافة شاسعة بين المعنَيَين!
وقد ذكرنا في موضع آخر كيف أراد اليهود استغلال هذه الحرية المتاحة لضرب الإسلام وصرف الناس عنه: (وقالت طائفةٌ من أهلِ الكتابِ آمِنوا بالذي أُنزِل على الذين آمَنوا وَجهَ النهارِ واكفروا آخرَه لعلهم يَرجعون) (آل عمران: 72).
فهل تَرضَى جماعة تحترم دينها أن يقع هذا العبث أو ينجح هذا التلاعب؟
إننا نريد أن نشرح حقيقة الارتداد وسر الموقف الحاسم منه.
معروف أن الإسلام عقيدة وشريعة، أو بتعبير عصرنا "دين ودولة" والدولة التي تقيمها الجماعة المؤمنة مكلَّفة بما تُكلَّف به الدول في أرجاء الأرض، فهي تنشر الأمان وتحميه وَفْقَ شرائعها المُوحَى بها من الله تبارك وتعالى.(1/240)
وهي تدفع المُغِيرين وترد المعتدين مستثيرةً الهمم ببواعث اليقين وحب الاستشهاد وسائر خصائصها الذاتية الأخرى.
والسؤال الذي نورده:
هل يُطلب من هذه الدولة أن تُوهيَ خطوط الدفاع في الداخل والخارج، وأن تَدَعَ من شاء حرًّا في نشر الفتن وتمزيق الصف ومساعدة العدو وخذلان الصديق؟ أم لها أن تضرب على أيدي الخونة حتى يبقى كيانها سليمًا؟
إذا كانت الدولة الشيوعية تقيم التعليم العام على الإلحاد، وتنفي أو تغتال من يريدون بناءه على الإيمان، فهل الدولة الإسلامية وحدها هي التي تُطالَب باحترام الإلحاد والإسراع في إجابة مطالبه باسم الحرية؟
أنَّى يتماسك لها بعد ذلك كيان؟
قد ينحرف امرؤ فيشرب خمرًا أو حشيشًا، هذه معصية نرجو لصاحبها المَتَابَ ثم نؤدبه بما رسم الإسلام! هل يستوي هذا المسيء مع رجل يدعو إلى ترك تجارة الحشيش حرة وإلى فتح الحانات دون عائق؟
قد يواقع امرؤ منكَرًا في بيته من وراء جدار! هل يستوي هذا مع آخر يجاهر بإباحة البِغَاء وترك الغرائز تتنفس كيف تشاء، ويرى أن الشذوذ لا حرج فيه وعلى المجتمع الاعتراف بعقد بين شخصين من جنس واحد؟
قد يتكاسل امرؤ عن الصلاة، فهل التارِك المتهاوِن يستوي مع آخر يهاجم فرائض الصلاة والصيام ويقول: إنها تعطل الإنتاج؟
إن الارتداد نقض متعمَّد متبجِّح للأسس التي يقوم عليها المجتمع، وللدستور الذي تقوم عليه الدولة، والزعم بأن هذا المسلك سائغ زعم سخيف.
وتزداد خطورة الردة على كيان الدولة إذا علمنا أن الغزو الثقافي ظهيرًا وتمهيدًا للغزو العسكري! وإن أعداء الإسلام يَرَونَ محو شخصيته في الداخل بفنون من الحيل، وأن الاستسلام لذلك هو استسلام للذبح.
نحن نرفض كل عائق أمام حرية الفكر، ونضع كل عائق أمام حرية الهدم، أي أمام تقويض الإسلام شريعة وعقيدة.(1/241)
وعندما ننظر إلى تاريخنا الإسلامي الطويل نجد أن قتال المرتدين إلى آخر رَمَق تَمّ دفاعًا عن الدين والدولة معًا، وما سمعنا برجل قُتل مرتدًّا لأنه ترك الصلاة مثلًا، بل على العكس رأينا أبا نُوَاس يرفض من يلومه في شرب الخمر ويقول في وقاحه:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
فهل قُتل أبو نواس أو غيره بتهمة الردة؟
واضطُّرَّ صلاح الدين الأيوبي إلى قتل صوفي يدعو إلى مبدأ وَحدة الوجود! وذلك لأن عصابات الباطنية التي اعتنقت المبدأ تعاونت مع الصليبيين المهاجمين على ضرب الدولة، وكانت حصون الحشّاشين شوكة في ظهور المجاهدين الذين يقاومون الغزو الأوربي المُميت، فلم يجد القائد الإسلامي بُدًّا من تطهير الجبهة الداخلية وإزاحة كل من يُعرِّض مستقبل الإسلام للضياع في حرب حياة أو موت.
وإلا فإن كتب كثير من رجال التصوف مَلأَى بفكرة الوَحدة، وقد تُرك للعلماء أن يناقشوها بالبرهان وحده!
وقد لاحظت أن كثيرًا من أهل الشغف بتكفير مخالفيهم يتخيرون من آراء الفقهاء ما يحلو لهم ويُهيلون التراب على غيره، فلما ثار كلام في عقاب تارك الصلاة كسلًا لم يذكروا إلا أنه يُقتل حدًّا أو مرتدًّا، ومعلوم من الفقه الحنفي الذي حكم الدولة الإسلامية قرونًا طويلة أنه لا يُقتل لا حدًّا ولا مرتدًّا، بل يُؤاخَذ بأساليب أخرى إذا جحَد الحكمَ المعلوم من الدين بالضرورة.
إن الارتداد، كما شرحنا، خروج على دولة الإسلام بُغيةَ النيل منها ومنه، والإتيان عليها وعليه، ومقاتلة المرتدين ـ والحالة هذه ـ دين.(1/242)
47 ـ ما الاجتهاد؟ وهل هناك ضرورة لفتح بابه؟ ولماذا؟
يعلم المسلمون أن دينهم باقٍ ما بَقيَت السماوات والأرض، وأن به تبيانَ كل شيء يحتاج الناس إليه! أي أن كتاب الله وسنة رسوله هما النور المبدِّد لكل ظلمة، الكاشف لكل حيرة، وهما الدواءُ الشافي من كل عَيلة والسادُّ لكل خَلّة.
والاجتهاد هو بذل الجُهد في استخراج الحكم الشرعي من هذه الأصول وفي ضبط مسيرة المجتمع بها، وهو عمل لا يقدر عليه بَدَاهةً كل إنسان، بل لابد من أهلية علمية عالية له.
فالقرآن الكريم هو خلاصة الوحي الإلهي من أَزَلِ الدنيا إلى أبدها، صِيغَ في أسلوب يُعجِز الإنس والجن، والسنة المطهرة هي توجيهات إنسان مُلهَم استَدرَج النبوات الأولى كلها بين جنبيه، وشرَع يَصوغ العالم كله باسم الله في قالب جديد، وقد أدرك أولو الألباب أن التغيير الذي أحدثه برسالته الخاتمة كان حاسمًا في سير الفكر والضمير، وأنه فتح صفحة جديدة في تاريخ الحياة الإنسانية، ومن ثَمّ فإن فقه الكتاب والسنة لا يُرشَّح له إلا أهل النباهة والتقوى!
وفقهاء الإسلام يَرَون أن مصدر التشريع، كما يقول الشيخ الكبير محمود شلتوت:
"هو القرآن الكريم نَصُّه ومُحْتَمِلُه. ثم السنة وهي أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته، بشرط صحة النقل. ثم الرأي العلمي المستَمَدّ من النظر في الكتاب والسنة وإلحاقُ ما لم يُنَصَّ على حكمه بما جاء فيه نص" ويعني بذلك القياس "ثم في تطبيق القواعد العامة المفهومة من النصوص والقضايا الخاصة".
وهذه القواعد مثل: "الأصل في الأشياء الإباحة، منع الضرر، دفع الحرج، سد ذرائع الفساد، الضرورات تبيح المحظورات، ارتكاب أخف الضررين، دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، تحمُّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، ما أدى إلى الحرام فهو حرام، ما قارب الشيءَ يُعطَى حكمَه...الخ(1/243)
وهناك بعد ذلك ما يُسمَّى بـ "المصالح المرسلة" وهو نهج فقهي غايته حماية النفس والمال والعرض والعقل والدين.
والواقع أن الفقه في الكتاب والسنة الذي يعيش في جوهما يقدر على استبانة مبادئ تنطلق الحياة منها، ورسم مسار تشريعي يضمن الرشد والخير للناس كافة، كما يستطيع أن يوجه القضايا المتجددة بأحكام إسلامية سديدة.
والفقه الإسلامي الذي وَرِثناه مع مطالع القرن الخامس عشر للهجرة يُعَدُّ أغنى فقه في العالم، والمهاد الذي يتحرك فوقه لا نظير له في دنيا الناس.
قال الفقيه الكبير الشيخ محمود شلتوت:
"استقبل أصحاب رسول الله بعد موته حياة أوسع، إذ عَرَضت لهم شئون احتاجوا إلى تعرف أحكامها، فكانوا يرجعون إلى القرآن، فإن لم يجدوا فيه ما يدل على حكمها بحثوا عنه فيما يحفظه العدول الثقات من بيان الرسول واجتهاده، فإن لم يجدوا الحكم نظروا وبحثوا مستلهِمِين روح الشريعة وما عرفوه من هدفها وما تُرشد إليه قواعدها العامة التي أضحت لها مكانة النصوص البينة".
وكان الشأن العام في عهد أبي بكر وعمر التحرِّيَ الشديدَ فيما يُروَى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والنزوع في الشئون العامة إلى استشارة كبار الصحابة المقيمين معهما في دار الخلافة، والمعروفين بدقة الرأي وعمق النظر في إدراك المصالح وحسن الفهم لروح الشريعة وجودة التطبيق على القواعد العامة.
وكانوا إذا أجمعوا على رأي وجب تنفيذه، وبذلك كان أخذ الرأي بطريق الشورى مصدرًا جديدًا ظهر العمل به بعد وفاة الرسول فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة، أو فيما فيه نص محتَمِل.
وترجع حتمية الرأي في التشريع إلى أمور:
أولًا: تقرير القرآن مبدأ الشورى (وأمرُهم شورى بينهم) (الشورى: 38).
ثانيًا: أمر القرآن الكريم برد المتنازَع فيه إلى أولي الأمر، وهم الذين أوتوا الفهم والحكمة وطرق الاستنباط (ولو ردُّوه إلى الرسولِ وإلى أولي الأمرِ منهم لعَلِمه الذين يَستَنبطونه منهم) (النساء: 83).(1/244)
ثالثًا: ثبوت إقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه الذين كان يبعثهم إلى الأقاليم النائية على الاجتهادِ والأخذِ بالرأي فيما لم يجدوا حكمه في الكتاب أو السنة.
وظاهر من مطالعة تاريخنا الثقافي أن الاجتهاد التشريعي بدأ رسميًّا جماعيًّا، ذلك أن رئيس الدولة كان يختار من أهل الدراية والفقه، وكان بقدرته العلمية يجمع حوله أمثاله في النظر والاستنباط، فإذا انتَهَوَا إلى حكم عملت به الدولة والأمة جميعًا.
والدول العظمى الآن تقوم على هذا الاجتهاد الجماعي في دعم مبادئها ومصالحها، ويَغلِب أن يقودها أكفأ بَنِيها، وأن يعاونه في المشكلات المتجددة مجلسُ شورى ذكيٌّ نزيهٌ حافلٌ بشتى الكفايات.
مع ملاحظة أن الاجتهاد عندنا رحب الدائرة، يشمل العبادات والمعاملات والشئون الشخصية والدولية، وقد رأينا عمر يجتهد في تحديد نفقة المطلقة ثلاثًا وسُكناها، كما يجتهد في أنصبة المجاهدين من غنائم الأرض المفتوحة!
ووَدِدت لو بَقيَ الاجتهاد رسميًّا جماعيًّا كما بدأ، إذًا لوَقيَ المسلمين اختلافًا كثيرًا، لكنْ سيطرة الأسَر الكبيرة على منصب الخلافة مكَّن رجالًا جهَلة من الظَّفَر به، والرؤساء القاصرون لا فقه لهم في كتاب أو سنة ولا علاقة لهم بشورى أو استنباط.
وإنه لمن المحزِن أن يقود العباقرةُ شتى الملل والنحل، وأن يقود المهازيلُ أمةَ الرسالة الخاتمة!
وليست الأمة عقيمة، بل إن أهل الذكر فيها كُثْرٌ، وقد تحركت الشعوب لمّا وقفت الحكومات وبدأ الاجتهاد الفقهي يزدهر ورجاله يلمعون، ولكنه كان نشاط أفراد عظماء أسسوا مدارسهم العلمية بقوة وتَجمَّع الأتباع حولهم بحماس.
ومع أن الأئمة الفقهاء كانت بينهم وبين رجال السلطة وحشة وأكثرهم مسَّه الضُّرُّ، إلا أنهم نجحوا في نشر علومهم وتنمية مدارسهم حتى ملأت أرجاء العالم الإسلامي.(1/245)
ولم تَخْلُ عاصمة إسلامية قديمًا من فقيه كبير وإمام مرموق، على أن الفقهاء الأربعة المتبوعين كانوا أسعد حظًّا؛ فرُزِقوا مَن حَفِظ اجتهادهم وضَبَط تراثهم واستَنقَذه من الضياع. وفقهُ أولئك الأربعة على عظمته يمثل الاجتهاد الفردي ويحمل خصائصه، وما يُغني قط عن الاجتهاد الجماعي الذي تلتزم الحكومة والجماهير بثماره!
ولا ريب أن اجتهاد مَحفِل من العلماء أدنى إلى الصواب والنفع من اجتهاد إمام فرد.
والأربعة المشهورون يتفقون على استقاء الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع، إلا أن الأحناف يرجحون ظواهر القرآن وعموماته على أخبار الآحاد، وربما ردوا الحديث بالقياس الجَليِّ، وهم بهذا المسلك وغيره طليعة فقهاء الرأي!
ويليهم المالكيون الذين اعتمدوا في كثير من القضايا على بيئة الوحي وتقاليد أهل المدينة، ويرونهم أعرف الناس بالسنة الثابتة، وقد جعلهم هذا الفهم يردون أخبار آحاد أكثر مما رد الأحناف!
أما الحنابلة ومعهم الشافعية فارتباطهم بأخبار الآحاد أقوى، وهم يردون بها القياس.
ولكل إمام منهجٌ في الفهم والاستنباط وتقرير الأحكام عُرف به وقلده فيه آخرون.
ويظهر أن انفتاح باب الاجتهاد الفردي أغرى كثيرين باستقلال النظر وتقرير الأحكام، حتى تحولت الحرية الفقهية إلى فوضى، فتداعى أولو الغيرة لوقف هذا التيار، ودون أن ينعقد مَجمَع أو يتفق مؤتمر تراجَعَ الناس رويدًا رويدًا إلى فقه الأربعة المشهورين وأُهمل غيرهم.
وقد كنت أول الأمر ناقمًا على إغلاق باب الاجتهاد، ولكن لما انكسر الباب وتحدث في الإسلام من يعقل ومن لا يعقل، بل كان صوت المرتزَقة أعلى من صوت المخلصين! عَذَرت الذين أغلَقوا الباب وأطفَأوا الفتن.
أيعني ذلك أني لا أريد فتح هذا الباب؟
كلا! إن الاجتهاد التشريعي خصوصًا فيما يَمَسُّ المعاملات الداخلية والخارجية ضرورة دينية واجتماعية!(1/246)
والذي أدعو إليه أن تقوم مجامع كبيرة من علماء راسخين لا يخافون في الله لومة لائم، يُحيُون الاجتهاد الجماعي القديم ويقومون بعملَين مهمَّين:
الأول، إنعاشُ أو إحياءُ الفقه الدولي لتحديد أوضاعنا العالمية، وإعادةُ النظر في أنظمة الحكم الداخلية لإنقاذ المسلمين من مساوئ الحكم الفردي ومظالم المستبدِّين، وإنشاءُ شرائع إدارية تضبط شئون العمال وتوزيع الأموال وتصون الحقوق الخاصة والعامة. إننا متخلفون بضعة قرون في هذا المجال، ولا يجوز ترك الإسلام يفترسه هذا الموت الأدبي!
أما العمل الثاني، فهو مراجعة المذاهب الفقهية السائدة وغربلة أحكامها. فمن الغرور القول بأن مذهبًا ما انفَرَد بالصواب كله، ومذهبًا آخر يَغلِب عليه التخليط.
إن المذاهب المشهورة وغيرها تحتوي على تراث نفيس من الأفكار وجُهد عقلي ونقلي قد يَقصُر أغلبنا عن بلوغ مستواه، بيد أن القول المشهور شيء والتحقيق العلمي شيء آخر.
وقد نبهت في مكان آخر إلى أن ابن تيمية رد فقه الأربعة في إيقاع الطلاق البدعي، والحق معه عند التأمل، وأن ابن حزم هدَى إلى أحكام فقهية أولَى بالحياة من غيرها.
ووجود مَجمَع فقهي إسلامي عالمي يجتهد فيما جد من قضايا وفيما عانينا من فرقة وضعف أمرٌ لابد منه.(1/247)
48 ـ ماذا عن تجديد الفكر الديني في الإسلام؟
جرت على الألسنة كلمة "تجديد الإسلام" وظن البعض أن المقصود منها ترقيع ثوب لَحِقه البِلَى أو تحريك آلة أدركها العطب! وقد يتطلب ذلك إهمال شعبة من شعب الإيمان، أو التجاوز عن حد من حدود الله، أو إرخاص الماضي غرورًا بالحاضر وتمشيًا مع المدنية الحديثة!
وهذا كله لا يَخطِر ببال مسلم، ولا يفكر فيه إلا لَصيق بديننا لا يدري عنه شيئًا!
إن التجديد المنشود حماية الأصل مما عرَاه وتنقيته مما شابه وعكَّر رونقه، إنه غسل الثوب حتى يزول عنه القذى، أو إزالة الغبار عن صورة غطى الإهمال ملامحها.
قلت في أول كتاب الفقه من نحو أربعين عامًا:
"... إن حقائق الدين من منابعه الفريدة ما إن أخَذَت تسير في مجراها من هذه الحياة حتى عَلِق بها من رواسب البيئات، ومُخَلَّفات القرون، وجهالات العامة، وشهوات الخاصة، ونزوات الحكام ما ذهب بالكثير من نقائها وصفائها، حتى لتُشبه ماء النيل في مجراه الأدنى؛ لا يصلح للشراب إلا بعد مجهودات متعاقبة من التنقية والتصفية ترده سماويًّا كما كان"!
هل إمداد الناس بالمياه النقية يضيف شيئًا إلى جوهرها الأصلي؟
لا، الأمل كله أن يعود الماء كما نزل من السماء. وأملنا في تجديد الإسلام قريب من عملنا في تنقية مياه الشرب.
وقد نبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جلال هذا العمل عندما قال: "يَحملُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، يَنفُون عنه تَحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطِلين، وتأويلَ الجاهلين".
والكلمات الثلاث فيها من إعجاز النبوة المحمدية ما يَبهَر ويَسحَر!
قديمًا رأينا عبّادًا غُلاة يكرهون الحياة، ويقررون عدم الزواج، وصيام الأبد، وقيام الليل، وهجر النوم، ثم رأينا كيف تعلموا الاعتدال وتركوا الغلو.(1/248)
وقديمًا رأينا من يضع الحديث في فضائل السور، فإذا قيل له: كيف تفعل هذا والرسول يقول: "من كذَب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأْ مقعدَه من النار"؟ فيقول: كذَبت له ولم أكذب عليه!
هذا لون مفضوح من انتحال المبطلين، ومثله كل ابتداعٍ في الدين وخُلُقٍ لتقاليد رديئة كبلت الأمة وأقعدتها في عالم يجري كالريح المرسلة.
أما تأويلات الجهلة فما أكثرها في تاريخنا القريب والبعيد! وآخر ما وقع في يدي كتاب لمؤلف من الجزيرة العربية زعم أن به نيِّفًا وأربعين دليلًا على أن الأرض واقفة والشمس هي التي من حولها تدور.
ونظرت في هذه الأدلة فإذا هي تفاسير خاطئة لأكثر من أربعين آية قرآنية، مال بها الكاتب المسكين عن وجهتها ليُشعِر الناسَ بأن الإسلام والعلم الحديث خصمان لا يتفقان!
والواقع أن حركات التجديد والإصلاح تخبو أو تضيء وتكبو أو تمضي بمقدار موقفها من هذه الآفات؛ تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين!
ولما كان تجديد الإسلام عودًا إلى الأصل النازل من السماء، فإن المثل الأعلى والقدوة الصالحة لا يؤخذان إلا من سيرة محمد وصحبه.
إن محمدًا ـ عليه الصلاة والسلام ـ والرجال الذين جمعهم حوله ورباهم على يده هم وحدهم الذين يمثلون الإسلام الحق، وهم أفضل القرون وأجدرها بالاتباع.
وقد وقع انحراف عن خطهم، وبدأت زاوية الانحراف تتسع أضلاعها بمر الزمان.
فإذا جاء اليوم من يريد العودة إلى القرن الماضي والقرن الذي سبقه، فهو لا يزيد الأمة إلا خبالًا، ولن يصنع شيئًا أكثر من مد زاوية الانحراف، وتوسيع الشقة بين الصراط المستقيم ومواريث العِوَج التي نشكو منها، والتي انتهت بنا إلى أن صرنا في مؤخرة العالم.
إن سوءات الحكم الفردي في مطالع القرن الخامس عشر هي هي سوءات الحكم الفردي خلال القرن الثالث عشر، وقرون كثيرة قبله.(1/249)
والمنار الذي نمشي على سناه هو جو الشورى أيام الرسول ودولة الخلافة، عندما كان الحاكم تأسِّيًا برسول الله يُوجِل من الكبير، ويستكين للحق، ويستشير أهل الذكر، ويرى أنه أجير للأمة يكدح لمصلحتها، ولا حق له في أكثر من مرتبه المفروض له، ويشعر بالرهبة عندما يقال له: اتق الله. ويرى أسرته بعض الرعية الذين لا حول لهم ولا طَول، ويقتص من نفسه إذا أخطأ، أو يترك لأمناء الأمة ومشيريها أن يقتصوا منه، كما قال عمر بن الخطاب، وهو يؤدب كبار الموظفين: لقد رأيت رسول الله يقتص من نفسه!
هذه التقاليد السلفية في فن الحكم لها نظائر في شئون المال والقضاء وشتى الأوضاع الاجتماعية، بل لها نظائر في شئون العبادة.
ثم شرع المسلمون يتزحزحون عنها قليلًا حتى أمسَوْا سواد العالم الثالث، أو حثالة البشرية التي تملأ الأرض!
وذلك لأنهم ذُهلوا كل الذهول عن سنة نبيهم وتقاليد سلفهم، ولم يَعُوا من دينهم شيئًا ذا بال.
وبَدَهي أن ما حدث قديمًا يتضمن مبادئ ويرسم اتجاهات، وأن صور التنفيذ قد تتجدد على اختلاف الليل والنهار داخل النطاق الذي يصون المبدأ والوجهة.
فالجهاد حق، وندب الناس إليه قد يكون بإعلان عادي أو بصيحة "الصلاة جامعة" فهل ذلك الإعلان أو تلك الصيحة هما الآن وسيلة إعداد الجيوش وحشد المقاتلين؟ إن الوسائل تتغير والمبدأ ثابت.
والشورى حق، وكان تنفيذها قديمًا يعتمد على وسائل قليلة الكُلْفة، أو على طلب الرأي من الحاضرين، لكن الأمر الآن يتطلب أنظمة دقيقة وتراتيب واسعة.
والمشغولون بتجديد الفكر الإسلامي ينبغي أن ينظروا في هدف الوسائل المطلوبة، وأن يتخيروا منها أفضل ما يحقق الهدف ويبرز محاسن الإسلام، ولا عليهم أن يقتبسوا من هنا ومن هناك.
قال لي أحد الناس: أليس عيبًا عليك وأنت من دعاة الإسلام أن تعجب بالديمقراطية وتدعو لها؟ قلت له: الحق معك! ينبغي أن أدع الكلمات الأجنبية وأستخدم الكلمات العربية!(1/250)
قال: الأمر أكبر من أن يكون اعتراضًا على كلمة، إننا نرفض تنويهك بنظام!
قلت له: إنني مسرور بحبك للإسلام، وأؤكد لك أنني لست أقل حبًّا له منك! فاسمع ما عندي:
عندما وقعت مجزرة "بيروت" الشهيرة وعندما وقعت مجازر قبلها تحركت الجماهير في عواصم كثيرة تتظاهر ضد الجزارين وتندد بجرائمهم! كان ذلك كله بعيدًا عن أرض العروبة والإسلام التي لم تنطلق فيها مظاهرة احتجاج واحدة!
ما السبب؟ إن الناس فقدوا ـ أو كادوا ـ مَلَكة الشجاعة تحت ضغط النظم الاستبدادية. لقد علموا أنهم لو خرجوا إلى الشوارع لتعرضوا للموت! فإن الحكومات القائمة لا تريد تجريئهم على الخروج، إنهم لو خرجوا اليوم ضد اليهود فسيخرجون غدًا ضدها، فلتغلق الباب ابتداء! أرأيت ما انتهى إليه الحكم الفردي وضياع الشورى الصحيحة؟
وانظر إلى حركة المال العام والخاص في دار الإسلام وبعيدًا عن دار الإسلام! إن استغلال النفوذ لكسب درهم من طريق قريب يقتل صاحبه أدبيًّا في أقطار الأرض كلها.
أما لدينا وحدنا فإن امتلاك القناطير المقنطَرة من الذهب والفضة والمساحات الشاسعة من أراضي الزراعة والبناء يتم بلا ضبط أو حساب، وتسعة أعشار الأغنياء من هذا القبيل!
هل لهذا العِوَج الرهيب صلة بالإسلام؟
إن ديننا أول من أعلن الحرب عليه! فماذا صنعتم لاتقاء هذا البلاء؟
هناك من خوَّف بالله وذكَّر الدار الآخرة في وعظ بليغ أو غير بليغ!
وهناك من سكت وآثر السلامة!
هناك من تحدث عن بدع المساجد وسَخِط لزيارة النساء للمقابر!
هناك من تحدث عن أن الحلف بغير الله شرك، ونسي أن الرياء شرك وممالأة الظلمة كفر! هناك وهناك...
فإذا عمدنا إلى أصل الداء واستفدنا من أدوية اصطنعها غيرنا لاتقاء مضاعفاته اعترضتم طريقنا واتهمتم سيرتنا!
الحق أن موكب المتحدثين في الإسلام مليء بالهازلين، وهؤلاء يميتون الإسلام ولا يجددونه.(1/251)
ثم سل نفسك أيها الأخ المعترض: لو كان السلف الأولون يعتمدون في غذائهم وكسائهم ودوائهم على ما يَرِدُ إليهم من الفرس والروم أكان ينجح لهم جهاد، أو يقدرون على تحرير مستضعَف وحماية حقيقة؟
إنهم سيموتون في أماكنهم هُزالًا! فإذا شرعنا نتحدث عن الموات المادي والضياع الإنساني لأمتنا، وبدأنا تحريكها لتخدم نفسها ورسالتها جاء صوفي أو سلفي ليطعن في كفاحنا.
إن تجديد الفكر الديني يتطلب عقلًا أنضج وقلبًا أزكى! يتطلب بصرًا بأخطاء التاريخ ومزالق الأجيال، يتطلب علماء بالكتاب لا مجرد قراء، وخبراء بالسنة لا مجرد رواة، وفقهاء في الشرع لا مجرد مقلِّدين، وبصراء بالتربية والتثقيف لا عبيد تقاليد سائدة وأصحاب دراسات عفنة.(1/252)
49 ـ ما مكانة الفقه الإسلامي في الإسلام كله؟
عندما أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعو لابن عمه عبد الله بن عباس دعوة ترفع شأنه وتُعلي رتبته قال: "اللهم فقِّهْه في الدين وعلِّمه التأويل".
وثبت أن الله إذا حَبَا أحدًا فضلًا وآتاه من لدنه خيرًا رزَقه الفقهَ "من يُرِدْ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْه في الدين".
وكلمة "الفقه" في ثقافتنا التقليدية تشبه كلمة "الفكر" في عصرنا الحاضر، فإذا وُصف أحد الناس بأنه "مفكر" فمعنى ذلك أن في ذكائه حدة، وفي بحثه عمقًا، وفي نظره بُعدًا.
وقد تميز الفقهاء في تاريخنا العلمي بأنهم الأعرف بأسرار الدين، ووجوه الحكمة، وعلل الحُكم، وأهداف الشريعة، ومن ثَمّ ألقَت الجماهير إليهم بالزمام ومشَت وراءهم في أغلب شئونها.
ويوجد ناس صالحون قليلو الفقه، لعلهم المعنيون بقول القائل: من أصحابي من أرجو دعوته وأرفض شهادته.
والواقع أن هناك متديِّنين لا تُقبل فتاواهم ولا أحكامهم، كبعض الخوارج وبعض الصوفية وبعض المحدِّثين، فإنهم مع نقاء سرائرهم لم يُرزَقوا الحكمة والوعي، ولم يُحسنوا العمل بما يعملون؛ لأنهم حُرِموا الفقه!
والحاجة إلى الفقهاء ماسّة، لأن الفقه الإسلامي تناول شئون الحياة كلها، فهو مع المرء في يقظته وفي فراشه، في خَلوته وجَلوته، في سفره وإقامته، في أدق شئون جسده، وفي علاقته بالدولة، بل في علاقته بشتى الملل والأجناس.
واستيعاب الفقه لنواحي الحياة الخاصة والعامة على هذا النحو يجعله المسئول الأول عن حاضر الأمة ومستقبلها، ويجعل الفقهاء القادة الحقيقيين للجماهير.
ومعلوم أن الفقه يستمد أحكامه من الكتاب العزيز، ثم من ألوف السنن التي نقلت عن صاحب الرسالة خلال ربع قرن، ثم من القياس والاستصلاح والاستحسان والاستصحاب والقواعد المستفادة من أصول الإسلام الأولى!(1/253)
والخبرة بهذا البحر المتلاطِم من المعارف تحتاج إلى عبقرية فذة. ثم ينضم إلى ذلك ما قرره المسلمون بإجماع أن العلم النظري وحده لا يكفي في إعطاء قيمة أبيّة لإنسان! لابد معه من تجرد لله، وصلابة في الخلق، ونزاهة في السلوك، واستعلاء على إغراء الحكم والمال!
إن الفقه والفقهاء أسس شامخة في حضارتنا، ولا يَضير البحرَ أحيانًا أن يَحمل موجُه بعضَ الغُثاء!
والمسلمون الآن يعانون هزائم فقهية وسياسية أليمة! ومع تسلط الغزو الفكري على أقطارهم حسِب البعض أن الدين صلة خاصة بالله، وأن الصلات الإنسانية بعد ذلك موكولة إلى الفكر الإنساني العادي، وبذلك يسقط الفقه عن مكانته ويتحرك الناس وَفْقَ ما يضعون من قوانين!
وهذا الكلام جهالة فاضحة بالإسلام، بل هو ارتداد حقيقي عنه، فإن القرآن الكريم كما تحدث عن العقائد والأخلاق تحدث عن العلاقات الاجتماعية والدولية، ورسم للأسرة وللدولة جميعًا ما شاء الله من شرائع وتوجيهات.
وسيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن سيرة رجل يعيش في صومعة، بل كانت سيرة عابد مجاهد يُشرِف على استقامة الأخلاق، كما يُشرِف في الوقت نفسه على توزيع المال في المجتمع، والإمساك بدفة الحكم، وشئون الحرب والسلام، أي أن صومعته كانت الدنيا كلها.
وموضوع الفقه الإسلامي بعد العقائد والأخلاق يتناول أعمال المكلَّفين دون استثناء، ويَبِتُّ فيها وَفْقَ توجيهات الكتاب والسنة وما يعتمد عليها من دلائل! ألا ما أرحب هذه الدائرة وأغناها!
وأرى أن اختلاف وجهات النظر بين الفقهاء يعطي الساسة والقضاة فرصًا كثيرة للتصرف في نطاق الشريعة على هدًى من مبادئها.
ولنضرب مثلًا مما يقع في عصرنا هذا الذي تقاربت فيه الأزمنة والأمكنة والشعوب والملل.
يقول الشيخ محمود شلتوت:(1/254)
"من مسائل الخلاف أن أبا حنيفة يَرَى مسئوليةَ المسلم وتغريمَه إذا أتلَف مالاً لذِمِّيٍّ، إذا كان هذا المال مما يُحرمه الإسلام كالخمر والخنزير، ولو كان المسلم قاصدًا بإتلافه وجهَ الله وثوابَ الآخرة".
وخالف الشافعي في ذلك وقال: لا مسئولية ولا غرامة عليه إذا أتلَف ما حرَّمه الشارع!
ويعتمد أبو حنيفة في تقرير الضمان على المتلِف، بأن الإسلام أمرنا بترك أهل الكتاب وما يَدينون، وقد رُوي أن عمر بن الخطاب سأل عماله: ماذا تصنعون بما يمر به أهل الذمة من الخمور؟ قالوا: نُعشِّرها. فقال: لا تفعلوا، وولُّوهم بيعَها وخذوا العشر من أثمانها.
قال أبو حنيفة: لولا أنها متقوَّمة ـ أي لها قيمة ـ وأن بيعها جائز بينهم لما أمرهم بذلك!
ومن المعلوم أن التقوم أصل الضمان والمسئولية، أما إهدار تقومها فإنما هو بالنسبة إلى المسلمين وحدهم".
ومن مسائل الخلاف كذلك أن أبا حنيفة يرى الاقتصاص من المسلم إذا قتل كافرًا من أهل الذمة ويحكم بقتله، ويخالف في ذلك الفقهاءَ الآخرين.
وكلام الأحناف هو الذي يمكن إمضاؤه في عصرنا، وتستطيع الدولة الإسلامية به أن تتعايش مع الأسرة الدولية، وتستطيع من خلال هذه المعايشة أن تبلغ رسالتها وتعرف شعوب الأرض بما عندها.
وكل ما يتطلبه الأمر إذا اختارت الحكومة مذهب الأحناف أن يتقبل الشافعية والحنابلة الموقف بغير اكتراث، وألاّ يفكر بعضهم في اللجوء إلى عصيان مسلح!
إن ضيق الخُلُق والأفُق يجر على المسلمين البلايا، وما كان الفقهاء قديمًا يرون الخلاف مَثَار فتنة، بل وجدنا الشافعي يقول: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة" مع رفضه لكثير من آرائه!
كنت أسمع برنامجًا فقهيًّا في إحدى الإذاعات العربية، فعجبت لإجابات المفتي على الأسئلة التي تُوجَّه إليه، وقلت: هذا كلام أقرب إلى الهدم منه البناء.(1/255)
سئل ـ عفا الله عنه ـ عمن أخرج زكاة رمضان نقدًا، فقال: لا تُقبَل، إلا أن تكون شعيرًا أو تمرًا أو شيئًا من غالب قوت البلد. ثم استطرد يصف إخراجها نقدًا بأنه مخالف للسنة، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ"!
وبدا من حديث المفتي أن إعطاء الفقير مالًا ـ ريالات أو جنيهات ـ بدعة، وأن الأحناف بهذا المسلك أصحاب بدعة!
وقد رفضت كلام الرجل جملة وتفصيلًا، فإن مصلحة الفقراء هي التي تُرعَى، وأخذ المال أجدى عليهم وأطيب لأنفسهم، وجمهرة المسلمين تُخرج زكاة رمضان نقدًا تبعًا لمذهب أبي حنيفة، وهو أقرب إلى العقل ولا يصادم نقلًا.
وسئل ـ هو أو زميل له ـ من طلبة إحدى المدارس عن الكتب التي بين أيديهم وما تحتويه من صور كثيرة، فأجاب بعدما شكا عموم البلوى بأن رءوس هذه الصور تقطع! وبذلك يحِلُّ تداول هذه الكتب!
ولماذا تقطع تلك الرءوس؟ لأن المصوِّر يكلَّف يوم القيامة بنفخ الحياة في هذه الصور، إذا كانت تامة!
وتساءلت دَهِشًا: كيف تحيا صور على الورق، أو على شاشة تلفاز، أو على سطح مرآة، سواء بَقِيَ الجسم برأسه أو بَقِيَ بلا رأس؟
ظاهرٌ أن المفتي يريد نقل حكم التماثيل إلى الرسوم المسطحة، وهو نقل مرفوض. والأجيال تَشِبُّ بهذه العقلية تفقد الحس الاجتماعي السليم.
ونعود إلى فقهنا الإسلامي الذي يتسع طولًا وعرضًا ليشمل كل شيء، إنه يتحدث في شئون العبادة من صلاة وصوم وزكاة وحج، ويتحدث في شئون الأسرة من زواج وطلاق وحضانة ومواريث، ويتحدث في الشئون التجارية من بيع وإيجار وشركات وكفالات وحوالات... الخ. ويتحدث في الجنح والجنايات المتعلقة بالعرض والدم والمال، ويُشرِّع أنواع الحدود والقصاص، ويتحدث في الشئون الدولية وما قد يقع من حرب، أو يعقد من صلح أو هدنة أو أمان... الخ.(1/256)
وهناك ميدان ندَر الكلام فيه أو انعدم؛ وهو الفقه السياسي الضابط لعلاقات الأمة بحاكمها وكيف يحاسب ويختار. وميدان آخر لشئون العمل والعمال يؤسفني أن أكثر قوانينه يُنقَل الآن من الخارج لعجز فقهائنا عن تلبية مطالبه!
والذي أقترحه لخدمة الفقه الإسلامي أن تُطوَى مسافة الخلاف بين رجاله، وأن يتعاونوا على سد الثغرات واستدراك ما فات، ويواجهوا ببصيرة نيرة قضايا اليوم والغد.
وأخيرًا هناك موضوع جدير بالدراسة الجادة؛ موضوع تقنين الفقه الإسلامي وصب أحكامه في مواد محدودة يتصرف القاضي على ضوئها وفي نطاقها.
إن ذلك أبعد عن المجازفات وأدنى إلى العدالة، وما زلنا نذكر أن فوضى الإفتاء والتقاضي قديمًا هي التي انتهت بإغلاق باب الاجتهاد وتجميد الفقه كله، وما تبع ذلك من ركود وتراجع.(1/257)
50 ـ لماذا يجب أن يكون الفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع؟
وظيفة القانون في أي مجتمع أن يحرس عقائده وقيمه، وأن يحميَ أفراده ويصون حقوقهم المادية والأدبية وَفْقَ ما استقر بينهم من مبادئ ومثل.
وبَدَهي أن تختلف القوانين باختلاف المجتمعات التي تسودها! ففي العالم مجتمعات وثنية وملحدة ومجتمعات تنتمي إلى اليهودية أو إلى النصرانية. ووظيفة القانون في بلد يرى الدين خرافة غيرُ وظيفته في بلد يحترم الدين على نحو ما.
وفي الأقطار التي بقيت للأديان فيها قيمة اسمية قد يُمنَح الدين قدرًا من الحركة بقدر استكانته إلى الأنظمة الغالبة وهروبه من مواجهتها، فإذا ظهرت عليه أعراض المقاومة لاحقه النظر الشَّزْر ليسكُن، أو ليذهب حقه في الحياة!
وخلال القرنين الأخيرين سقطت مساحات هائلة من العالم الإسلامي في أيدي أعداء الإسلام، فاستولى الاستعمار الشيوعي على أقطار رحبة في آسيا وأوربا وأفريقيا، كما استولى الاستعمار الغربي على أقطار أكبر وأخطر.
وشرع كلا الاستعمارَين يفرض قوانينه على الأراضي التي احتلها، ويعمل بدأب وإصرار على سلخ الأمة من عقائدها وشرائعها، وقسرها على قبول نظم أخرى لا تمت بصلة ما إلى كيانها الروحي والعقلي.
كان المسلمون كجسد انتُزِع قلبه ثم جيء له بقلب ثور أو ذئب ليحل محل القلب المقتَطَع!
إن معنى ذلك الموتَ البطيءَ أو السريعَ! ليكُنْ، فذلك هو المطلوب!
في اليمن أو في التركستان يكلَّف المسلم أن يحيا وَفْقَ معتقد جديد يضع الوحي الأعلى في المتاحف ويجعل الولاء لسماسرة الفكر الأحمر، لا لله وأنبيائه!
وينهض القانون بدور التنفيذ الصارم لمتطلبات الوضع الجديد.
وفي أغلب عواصم العالم العربي يكلَّف المسلم أن يَصُمَّ أذنيه عن نداء الكتاب والسنة، يكفي أن يكون للإسلام وجود رمزي لا يتخطى حدوده، أما زمام الحياة الخاصة والعامة ففي يد أخرى تمحو وتثبت كيف تشاء.(1/258)
وعلى القانون أن يلويَ عنق المجتمع وتقاليده ومواريثه نحو هذا الهدف الجديد.
نعم، على القانون الذي وضعه الاستعمار أن يصرف البصائر والأبصار عن شرع الله وهداه حتى يعمل الزمن عمله في تمويت الإسلام كله بعدما مات تشريعه في كل ميدان!
إن للقوانين الوضعية التي جلبها الاستعمار معه وظيفةً مقرَّرة، وظيفة أهم من اقتياد أمة مهزومة عسكريًّا وسياسيًّا وفرض إرادة الغالب عليها! إن القوانين الوضعية هنا تشويه متعمَّد لوجه الأمة الإسلامية، أو مسخ حقيقي لكيانها الروحي والعقلي، والهدف الأخير الإتيان على الإسلام من القواعد!
وعندما نقيس المسافة بين الدين ومطالبه وبين القوانين المجلوبة وآثارها، تبدو الشقة بعيدة بعيدة!
خذ مثلًا قضية الخمر ـ وهي نموذج للتقاليد الغربية الوافدة ـ إن المسلم يراها رجسًا من عمل الشيطان، ويراها تصدٍّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ويرى شاربها ساقط المروءة واجب العقوبة، ولكنه ينظر إلى أرجاء المجتمع فيرى مصانعها تُقام، وحوانيتها تُفتَح، وأسعارها تُقدَّر، وأحفالها تُبرَز، وإعلاناتها تَكثُر، وشاربيها يُكرَمون ولا يُهانون! فأي تحدٍّ لإيمانه أبلغ من هذا التحدي؟
إن ولاءه لله ولأحكامه يُصدَم، ومبدأ السمع والطاعة يهان، والانزلاق عن سائر التعاليم الدينية الأخرى يمهَّد!
ومن حق المسلمين في كل شبر من أرضهم أن يرفضوا القوانين الوضعية وأن يعلنوا عليها حربًا قائمة، فهي الوجه الرسمي لغلبة الجاهلية على دولتهم، وهي الأساس الموضوع لضرب بقايا الإسلام الخلقية والاجتماعية، بل هي الجرثومة المتحركة لمحو الإيمان من القلب وجعل الولاء لله ورسوله صفرًا.
ومن حق المسلم الذي ولد في عصر الهزيمة الإسلامية وانتصار الجاهلية الحديثة أن يشعر بالدهشة والتساؤل:
لماذا كُتب على آيات المصحف أن تموت وأن يُرفَض انطلاقها إلى الحياة؟
ولماذا تُركت آيات أخرى يستطيع من شاء أن ينفذها وأن يهملها؟(1/259)
وهل هذه الاستطاعة باقية أم إلى حين ثم تَلحَق بالآيات المعطَّلة؛ أي الميتة؟
إن تطلُّع أي مسلم إلى طاعة ربه في كل ما أمَر به أو نهَى عنه شيء عادي أو هو الشيء المرتَقَب الذي لا يُرتَقَب غيره. ولذلك فمن السماجة التي لا قرار لها أن يستغرب أحدٌ المطالبةَ بحكم الله، وأن يعرقل سير القوافل المؤمنة وهي تنتصر لشرائع السماء.
ولكنه الغزو العسكري تحول إلى غزو ثقافي خبيث، وسَّخ مُخَّ الجيل الجديد وضلَّل سعيه، وخلق عصابات من الأدباء والمترجمين والإعلاميين والمؤلِّفين والفنانين، هجموا على تراثنا يبتغون محوه ليُحلوا محله أردأ ما في الحضارة الغربية.
بذلك ينتهي وجودنا الأدبي باسم "التجديد" وتتحول هزيمتنا السياسية إلى فناء باسم "التقدم".
بيد أن الله أحبط كيد الخائنين، ونشأت في العالم الإسلامي شرقه وغربه نهضة عارمة تَنشُد العودة إلى دينها وتزدري ما أدخله الاستعمار علينا من قوانين ما أنزل الله بها من سلطان!
ومع المطالبة بعودة الشريعة الإسلامية إلى المجتمع الإسلامي نحب أن نُلقيَ نظرة فاحصة إلى هذه القوانين الوافدة.
إن المستعمرين الأوائل الذين فرضوها كانوا نصارى، فهل هذه القوانين نصرانية؟
الواقع أن الأناجيل ليست كتب تشريع، وأن عيسى ـ عليه السلام ـ بيَّن أنه منفِّذ لتعاليم التوراة في الجملة. ومعنى هذا أن شرائع العهد القديم هي التي يجب تطبيقها.
فهل طبق النصارى هذه الشرائع؟
كلا! لأن اليهود أنفسهم أهملوا أغلبها فكيف يجيء غيرهم ليرد إليها الحياة؟
بل إن "بولس" داعية النصرانية الأكبر وسَّع دائرة التعطيل، فألغَى الختان وهو مقرَّر من عهد إبراهيم الخليل، وأباح أكل الخنزير، ونصوص التوراة تأبى ذلك.
وأتباع النصرانية في العصور الأخيرة ينظرون إلى شرائع التوراة نظرة ريبة وتهمة، فبعضها يستحيل علميًّا قَبوله لقسوته وشناعته؛ كتهديم بيوت بعض المرضى ونقضها من أسسها، وبعضها حف به ما وَقَف تنفيذَه كشريعة الرجم!(1/260)
وعلى أية حال فإن اليهود والنصارى جميعًا أماتوا أغلب الأحكام السماوية وشرَعوا لأنفسهم قوانين أرضية تحكم شئون الأموال والدماء والأعراض.
وظاهرٌ أن عددًا من القوانين والنظرات الرومانية ساد المجتمعات الأوربية وساقها إلى وجهته، والقوانين الرومانية وثنية الأصل أرضية النزعة لا علاقة لها بالسماء، وإنما تستمد وجاهتها من تقاليد ينبغي ـ لأمر ما ـ أن يحتكم الناس إليها!
وعند التأمل نشعر بأن واضع القانون كان يتخيل نفسه مكان المنحرف ثم يُنشئ العقوبة المناسبة فتجيء وكأنها اعتذار عن المجرم، أو تقدير لوجهة نظرة، أو إتاحة لفرص النجاة أمامه!
أعني أن ينظر في حال القاتل، فإن كان الدافع إلى القتل شعورًا مفاجئًا تملَّكه أَبعَدَ عنه القصاصَ ومهد أمامه طريق الحياة!
إن واضع القانون في الحقيقة كان ينقذ نفسه من القتل لأنه يتصور نفسه مكان المجرم، أما الآثار الاجتماعية لمنع القصاص فهو يتجاهلها.
وقد مضى هذا الشعور المعتَلُّ في طريقه حتى أبطَل ـ أو كاد ـ عقوبةَ الإعدام لجماهير القتلة. وأمسى من العدالة أن يغتصب رجل ذئب بضع عشرة فتاة، ثم يقتلهنَّ جميعًا، ثم يقضي بقية حياته في سجن مهذب!
وفي نظر القانون الوضعي أن الجسد ملك صاحبه ليس لله حق فيه! فإذا زنى إنسان بملء إرادته فلا حرج ولا جريمة، وإذا كان هناك حق لزوجٍ كانت المؤاخذة محدودة، تذهب بتنازل الزوج!
والمال أخطر من العِرْض، فسنُّ الرشد المالي إحدى وعشرون سنة، أما سنُّ الرشد عندما يتصرف امرؤ في عرضه فثماني عشرة سنة.
والقضاء في شئون المال ملزِم بما كُتب، فلا تُسمَع الدعوى في دَين شفوي زاد عن عشرين جنيهًا، ولا مكان لضمير القاضي هنا في محو أو إثبات.(1/261)
أما في شئون الدم والعرض فللقاضي أن يتصرف بما يراه أدنى إلى الصواب، والصواب هنا وَفْقَ مقررات البيئة، وفي قضية الثري المصري على فهمي الذي قتلته زوجته الفرنسية، رأت المحكمة أن القاتلة لا تستحق عقوبة ما تقديرًا لظروفها النفسية!
وانقطاع الصلة بين التوجيه الإلهي وعلاج الانحراف انتقل من القضايا الخاصة إلى القضايا الدولية؛ فإذا قُتل يهودي في روسيا قامت الدنيا وقعدت، وإذا قُتل ألف مسلم في بلد آخر لم يتحرك أحد!
ومظالم الزنوج في جنوب أفريقيا قد تثير قليلًا من التعليق، ولكن هذا التعليق يختفي عندما تبلغ القضية مجلس الأمن ويُقترَح توقيع عقوبات على جنوب أفريقيا! إن الدول العظمى كلها تستغل حقها في الاعتراض لتبقى جنوب أفريقيا ملكًا خاصًّا للرجل الأبيض؛ يقترف ما يشاء دون حرج ويجتاح حقوق السود بلا وجل.
وكان هلاك الأمم السابقة أنهم إذا سرَق الضعيف قطَعوه وإذا سرَق الشريف ترَكوه، أي أن العدالة تتلون مع القوة والضعف، وذاك ما يحدث الآن مع التقدم الحضاري الكبير.
إنه تقدم علمي حقًّا، ولكنه مثقَل بأوزار الهوى وأوحال الشهوات، لأنه لا يؤمن بالله ولا يخضع لحكمه ولا يتبع هداه.
ولا نزعم أن القوانين الوضعية شر كلها، فهي من صنع الإنسان الذي يصيب ويخطئ ويَضل ويَهتدي، وربما تضمنت أمورًا جديرة بالقبول خصوصًا عندما تعمل في الميدان الإداري أو الدستوري. لكن ذلك لا ينسينا أمرين:
أولهما: أنها جعلت إقصاء الإسلام وإزهاق روحه هدفها الكبير.
والآخر: أنها تنقل إلينا قِيَم وأعراف أقطار جرفتها فلسفات مادية لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر!
ومِن ثَمَّ كان الخندق عميقًا بين هذه القوانين الغازية المفروضة كَرهًا وبين جماهير لم تَنسَ ولاءها لله ورسوله ولم تتنكر لماضيها الإسلامي الثابت.
والصراع القائم الآن هو بين سماسرة الغزو الجديد ومروجي عقائده وأنظمته وبين حراس الإسلام والأوفياء لتراثه وتاريخه وأمته.(1/262)
ولما كان الإسلام دينًا متعدد الشعب له في كل ميدان توجيهات ومعالم، فإن رَحَى المعركة تتسع يومًا بعد يوم تتناول السياسة والاقتصاد كما تتناول الزواج والحضانة، وقد رفضت الجماهير أن تقسم ولاءها بين ما تريد وما يراد لها.
وكل يوم يمر يزداد صوتها علوًّا بضرورة تحكيم الإسلام في كل شيء، وإنزال العبادات والمعاملات جميعًا على شرائعه المقررة في الكتاب والسنة.
وأعداء الإسلام أيقاظ لموقف أمته من شريعته المهدَرة، وهم يضعون العوائق علنًا وسرًّا أمام عودة الشريعة الإسلامية.
وأمل الفريقين لا يَخفَى؛ فأعداء الإسلام يريدون بقاء القوانين الوضعية تمهيدًا لإزالة الإسلام كله، حتى من مجال الأخلاق، فالأخلاق المدنية لديهم أفضل من الأخلاق الدينية.
وأنصار الإسلام يبغون من عودة التشريع الإسلامي حماية الإيمان ذاته وحراسة آثاره في شئون الحياة كلها، ورد ما انتقص منها، وإرغام المغيرين على الانسحاب بكل مقوماتهم المضادة لتعاليم الإسلام المناوئة لشعائره وشرائعه.
بيد أننا بعد ما كشفنا جبهة العدو لا نريد أن ندافع عن أنفسنا بالباطل، فقد ظلمنا رسالتنا عندما جمَّدنا فقهنا ألف عام وأخذنا نطحن في الماء خلال تلك القرون، ما نزيد ولا ننقص، وكأنما أثبتنا الفلك وأغمضنا عين الزمان.
وعندما أُرغِمنا على الحركة شرَع لفيف منا يبدأ العمل من حيث وقف الآباء غير مُعترِف بأن شيئًا ما قد حدث في طول العالم وعرضه.
إنه لا بأس أن نغاليَ بما عندنا، على شريطة ألا نبخس ما حققه الآخرون في فترة غيابنا عن قيادة العالم.
وشيء آخر لابد أن نراجع أنفسنا فيه؛ إن الشمال الأفريقي لا يعرف إلا فقه الإمام مالك، وأغلب الأتراك والهنود وجمهور من العرب لا يعرف إلا فقه الإمام أبي حنيفة، وكل أمام كبير أتباعه متحمسون.(1/263)
وهؤلاء الأئمة الأعلام صنعهم الإسلام ولم يصنعوه، وما أتردد في اعتبارهم قممًا مرموقة. لكنّ مسلمي العصر الحاضر لا يجوز أن يَلقَوْا حضارةَ العصر وفكرَه المَوَّار بوجهة نظر واحدة لإمام لا يعرفون غيره، الإسلام أكبر من ذلك.
الفقيه المسلم في هذا العصر يجب أن يستوعب ما قاله رجالات الإسلام في تفسير نصوصه، وأن يواجه بهذه الحصيلة الفنية ما طلع به العصر من نظرات ومبادئ!
إن التعصب المذهبي منكور بين العامة، وأرى أنه بين الفقهاء جريمة غليظة. فإذا شرعنا نرد القوانين كلها إلى فقهنا الإسلامي فسنجد أنفسنا أمام ينابيع دفاقة وثروات طائلة ورجال مهدوا الطريق واستحقوا التقدير. وما علينا إلا أن نُحسِن التأسيَ ونُسرِع المسير.(1/264)
51 ـ ما معنى الإجماع؟ وما مكانته في الإسلام؟
للإجماع معنيان نحب أن نوضحهما:
فهناك إجماع على حكم شرعي مستفاد بطريق القطع من كتاب الله تعالى أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن هذا الإجماع يعتمد على نص هو الذي أثبت الحكم الشرعي، ويستوي في هذا النص أن يكون من الكتاب أو السنة ما دامت دلالته قاطعة! والمُجمِعون هنا هم الأمة كلها من عامة وخاصة.
الأمة الإسلامية إذا اتفقت كلمتها على حكم شرعي من هذا القبيل فقد زادت الحكم قوة ومنعت للأبد أي شغب عليه، ولما كانت الأمة لا تجتمع على ضلالة فإن الخروج على هذا الحكم يعد انفلاتًا من الإسلام وخروجًا عن الدين.
أما الإجماع الآخر فهو اتفاق أهل النظر أو أرباب الاجتهاد على حكم ثبت بطريق القياس أو رعاية المصلحة أو تطبيقًا للقواعد الفقهية المعتَبَرة، أو ما أشبه ذلك من أدلة.
ويجب احترام هذا الإجماع والتزام الأفراد به، وإذا حدث ما يستوجب إعادةَ النظر فيه فهو يُنسَخ بإجماع آخر من أهل الذكر وأصحاب الحَلِّ والعَقد. وليس لأحد أن يتصرف متجاهلًا هذا الإجماع.
والأمة التي تحترم نفسها والأفراد الذين يحترمون أمتهم لابد أن يتقيدوا بهذا الإجماع؛ لأن الخروج عليه قد يكون فسوقًا أو عصيانًا، وربما لابسه ما يؤدي إلى الكفر.
ونعود إلى شرح الإجماع بمعنييه وضرب الأمثال التي تكشف حقيقته!
أمر الله بالصلاة فقال: (حافظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطى وقوموا لله قانتين) (البقرة: 238).
ثم علم الرسول الأمة كيف تصلي وبين عمليًّا أن الصلوات المفروضة تحتوي على سبع عشرة ركعة موزعة على الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأن كل ركعة بها ركوع واحد وسجودان.. الخ.
وأجمع المسلمون إجماعًا مؤكَّدًا منذ القرن الأول على هذه الحقائق، ما شذ أحد!
فإذا جاء اليوم من ينكر فريضة الصلاة، أو من ينكر أداءها على النحو السابق فليس بمسلم!(1/265)
وقد التقيت بأناس ينكرون السنة، وسألت أحدهم: كيف تصلي؟ فقال كلامًا استغربته!
ومن عجب أنه لما مثَّل لي السجود وضع ذقنه على الأرض، وقال: هكذا أمرنا الله في كتابه. وتلا الآية (ويَخِرُّون للأذقانِ سُجَّدًا) (الإسراء: 107) وأيقنت أني أمام جنون كافر وكفر مجنون!
وقد بلغني عن أحد الحكام العرب الكافرين بالسنة أنه اخترع طريقة أخرى في الصلاة، لا يخرج بها عن الوصف الذي ذكرنا.
وحدث أن أحد الزنوج الأمريكيين المقدَّمين في قومهم رأى ألاّ يكونَ الصيام في شهر رمضان، فكان يُصدر قرارًا بالشهر الذي يختاره كل عام، قد يكون يناير أو فبراير على حسب ما يَهوَى!
وما دام في الرؤساء العرب من يغير الصلاة فلم لا يكون في غيرهم من يغير الصيام؟
ويقول الله تعالى: (يوصيكم اللهُ في أولادِكم للذكرِ مثلُ حظِّ الأُنثَيَين) (النساء: 11).
فإذا أتى مَن يقول: هذا حكم مؤقت، كان يصلح قديمًا ولا صلاحية له الآن. أو أتَى نص قرآني آخر تَلَته الأمة جمعاء بفهم موحد وقبول مطلق، فرفض هو قبوله وإمضاءه ـ فهو بهذا الرفض ينسلخ عن جماعة المسلمين! وخروجه على جماعتهم أمارة الكفر بدينهم.
والفقهاء من قديم يُسَوُّون بين جحد العقيدة وبين إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
ونحن لا نَشِذُّ عنهم. ولا نحب أن يكون الدين مَرتَعًا للعبث والمجون، إن الإجماع والحالة هذه سياج لحفظ الحرمات ومنع الفتن، وتوجيه الجهود إلى البناء المجدي.
أما الإجماع بالمعنى الثاني، فقد شرحه الإمام محمد عبده وهو يفسر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم) (النساء: 59)(1/266)
قال رحمه الله إنه فكر في هذه المسألة من زمن بعيد، فانتهى به الفكر إلى أن المراد بـ (أولي الأمر) جماعة أهل الحَلِّ والعَقد من المسلمين، وهم الأمراء ـ يعني الرؤساء والحكام ـ والعلماء وقادة الجيش وغيرهم ممن يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة. فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا منّا، وألاّ يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي عُرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحوثهم لما عُرض عليهم ومتفقين عليها، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة، وهو ما لأولي الأمر سلطة فيه ووقوف عليه. وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحَل والعَقد، بل هو مأخوذ من الله ورسوله وحسب، وليس لأحد رأي فيه، إلا ما يكون في فهمه. فأهل الحَل والعَقد من المؤمنين إذا اجتمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع، مختارين في ذلك غير مكرَهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه، فطاعتهم واجبة، ويصح أن يقال: هم معصومون في هذا الإجماع. ولذلك أُطلِق الأمر بطاعتهم".
نقلنا ذلك عن (المنار) بتصرف.
ويضيف الشيخ محمود شلتوت إلى ذلك حقيقة أخرى:
أن الإجماع الذي يُعتبر دينًا من مصادر التشريع فيما لا نص فيه، هو اتفاق أهل النظر في المصالح، وهم رجال الشورى الذين تُعرَض عليهم الأحداث ويتناولونها بالبحث وتتفق آراؤهم فيها، وبما أن هذا الاتفاق لا يكون إلا أثرًا للبحث والنظر كان خاصًّا بأهل البحث والنظر، ولا عبرة فيه بموافقة من ليس أهلًا للنظر ولا بمخالفته.
ثم يقول:(1/267)
ويجوز للمجتهدين أنفسهم أو لمن أتى بعدهم إذا تغيرت ظروف الإجماع الأول أن يعيدوا النظر في المسألة على ضوء الظروف الجديدة، وأن يقرروا ما يحقق المصلحة التي تقتضيها تلك الظروف، ويكون الاتفاق الثاني إجماعًا مُنهيًّا لأثر الإجماع الأول، ويصير هو الحجة التي ينبغي اتباعها، وإذا وُجدت المصلحة فثَمّ شرعُ الله.
إن الإجماع بمعنَيَيه معقول! فأما بالنسبة إلى ما يستند إلى النصوص القاطعة فظاهر، وما يحب الفِكاك منه إلا الذي في قلبه مرض.
ونتوقف قليلًا عند الإجماع بالمعنى الثاني، إنه لا يوجد مجتمع بشري يحب أن يُعرِّض مقرراته للعبث ما دام أولو الألباب قد انتهوا إليها. فإذا لاحظ أحد أن هناك تغيرًا في معنى المصلحة وفد به الزمان المتجدد دعا إلى النظر في الأمر، وشرح ما لديه من دوافع إلى مراجعة الإجماع السائد، فإن وافقه الآخرون فيها حَلَّ إجماع مكان إجماع، وإلا فلا يحل له أن يتصرف وحده ويَشِذ عن الجماعة.
إنني أوَد لو كُتب المصحف بالإملاء المعهود لا بالرسم العثماني، ولكني لا أبيح لنفسي نشر مصحف بهذا الإملاء شاقًّا الإجماع السائد.
إذا اجتمع أهل الذكر في الأمة على ترك الرسم القديم وإثبات الإملاء الجديد فبها، وإلا فكتابة المصحف باقية على ما هي عليه.
وقد أنكرتُ على أحد الحكام تغييرَه للتاريخ بالهجرة وجَعلَه التاريخ بدءًا من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. إن هذا التصرف عابث، وخروج على إجماع محترم دون سبب واضح أو غامض!
وقد يتخيل البعض أن هناك إجماعًا على أمر ما، وليس لخياله حظ من الواقع.
فإجماع الأئمة الأربعة على حكم ما أو على فهم ما لا يُسمَّى إجماعًا إذا كانت ثَمّ مذاهبُ لصاحبه أو تابعين أو مجتهدين آخرين.
وقد رأيت من يحتقر الفقه الظاهري ويرى الإجماع يتم بدونه، وهذا تصرف مستَهجَن، وقد رأيت لابن حزم آراء كان فيها أولى بالحق من غيره وأقوَمَ قيلًا، كما رأيت لابن تيمية فقهًا ناضجًا بالذكاء والتألق.(1/268)
وألفت النظر إلى أن الخلاف العلمي يترجح بقوة الدليل لا بكثرة الأتباع، وإن مقلِّدي الأئمة لا تُحسَب لهم أصوات مستقلة عند المناقشة وإحصاء الآراء، إن آراء المجتهدين هي التي تُوزَن ويُكتَرث بها. ثم إن التحقيق العلمي غير الشهرة، فقد يذيع رأي يكون التحقيق ضده.
وأرى أن مواريث كثيرة في الفروع القائمة على الاستصلاح أو القياس أو ما يشبههما يمكن أن تُراجَع وتُصدَر فيها أحكام جديدة.
ولْنَضَعْ نُصْبَ أعيننا أن سطوة الحكام القدامى كانت وراء شيوع آراء ضعيفة واستحيائها، مع أنه كان يجب أن تدفن مكانها.
ألا ترى أن الشورى ـ وهي أساس النظام السياسي في الإسلام ـ عدَّها البعض من النوافل، وعدَّها آخرون تفضلًا من الحاكم يعطيها بصوت شامخ وتقبلها الأمة بصوت خفيض، ومن سماسرة الفقه من لا يزال ينشر هذا السخف!(1/269)
52 ـ ما نظام الحكم في الإسلام؟ وهل الأمة مصدر السلطة فيه؟
عندما ظهر الإسلام في العالم كانت هناك دول صغرى وكبرى، وأديان سماوية وأرضية، وفلسفات مزدهرة أو مُدبِرة، وشهوات فردية وجماعية، وهذه طبيعة المجتمع البشري من بداية التاريخ إلى عصرنا هذا مع تفاوت يسير.
وصاحب الوحي الخاتم كان يدري ما يفعل لما بدأ تبليغ الرسالة وبناء الأمة التي تحملها!
كان يدري أنه رحمة للعالمين، وأنه مكلَّف بإسعاد الإنسانية كلها وإخراجها من الظلمات إلى النور.
وكان يدري أن الكتاب الذي يتلوه والسنة التي يُنشئها يَتضمَّنا الأشفية التي تُنقذ الأمم من أمراضها المزمنة!
وأمراض العالم كثيرة، بيد أن الوثنية السياسية هي علة العلل؛ لأنها هي التي تحمي الوثنية الدينية، وتستبقي الخرافات والمظالم، وتمُد حقها المزعوم على حساب ما لله من حقوق.
وإلى يوم الناس هذا رأيت حكامًا يغتفرون العدوان على اسم الله وتعاليمه، ولا يغتفرون العدوان أبدًا على سلطانهم ومراسمهم!
كنت أقرأ قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أنْ أَخرِجْ قومَك من الظلماتِ إلى النورِ وذَكِّرْهم بأيامِ اللهِ) (إبراهيم: 5).
قلت: كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر ذات السماء المشرقة والأرض الضاحية، فما الظلام الذي يخرجون منه؟
إنه ظلام الاستبداد السياسي والفرعونية الحاكمة والاستضعاف الأثيم.
وفي صدر السورة يقول الله لنبيه محمد: (كتابٌ أنزَلناه إليك لتُخرِجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النورِ بإذنِ ربِّهم إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ) (إبراهيم:1).
إن الكتاب الجديد الذي يحمله النبي العربي العظيم يُخرج الناس من الظلمات التي عاناها بنو إسرائيل من قبل، كما يُخرجهم من ظلمات الجاهلية المخيِّمة على كل قطر، إنه يمحو الوثنيات الدينية والسياسية على سواء.
الناس يسجدون لإله واحد لا يسجدون لغيره. ومشاعر الخوف والرجاء والرغبة والرهبة ترتبط قبل كل شيء وبعده بالخافض الرافع الضار النافع.(1/270)
وكل تقليد سياسي أو اقتصادي يربط المشاعر السابقة ببشر ما فهي ذرائع شرك وأسباب فساد، ومحوها من الإصلاحات الأساسية للنظام الإسلامي.
ومعروف أن شبكة التشريعات الإسلامية تتناول الفرد من المهد إلى اللحد، وتتناول الدولة من تنظيف الطرق إلى عقد المعاهدات، والأمة الإسلامية بهذا المنهاج أمة رسالة تعمل بها وتدعو إليها، وقد قال الله لنبيها: (ونزَّلنا عليك الكتابَ تِبيانًا لكلِّ شيءٍ وهدًى ورحمةً وبُشرَى للمسلمين) (النحل: 89).
ومعنى هذا أن الحكم الإسلامي ليس دعوةً إلى سيادة جنس من الأجناس، ولا هو محاولة لنشر فلسفة أرضية، ولا تعاون بين أفراد شعب ما كي يعيشوا في مستوى معين من الغذاء والكساء!
إنه دولة تَحمي عقيدة وتُقيم شريعة، وكما يصلي الناس وراء إمامهم في المسجد يعبدون الله ولا يعبدون هذا الإمام، يمضي الناس وراء حاكمهم لإرضاء الله وإقامة دينه لا لإعلاءِ الحاكم وإشباعِ نَهَمِه في السلطة، أو تَملُّقِه طلبًا لدنيا وارتقابًا لمَغنَم.
تلك هي السمة العامة لنظام الحكم الإسلامي، وللتفاصيل مكان يجيء بعد.
والأمة الإسلامية ـ وقد بينّا وظيفتها ـ مصدر السلطات التي تنشأ بين ظَهرانَيها، أعني أنها وحدها صاحبة الحق في اختيار الرجال الذين يَلُون أمرها، وفي محاسبتهم على ما يقومون به من أعمال، وفي ذمهم أو الثناء عليهم، وفي معاقبتهم إن أساءوا وفي عزلهم إذا شاءت.
وكلمة "مصدر السلطة" من مصطلحات العصر الحاضر، ونحن لا نهتم بالاسم وإنما نهتم بالحقيقة والمدلول، كما أننا نرفض التلاعب بالألفاظ.
إن المسلمين أثبتوا حقهم في اختيار الخليفة ـ أو رئيس الدولة ـ بعد وفاة الرسول مباشرة، وتبيَّن من مسلكهم أنه لا خلافة بالاغتصاب أو الانقلاب العسكري، ولا خلافة بالوراثة، ولا خلافة بعصبيةٍ ما تَفرِض نفسها بأي لون من ألوان الإكراه المادي أو الأدبي.(1/271)
إنها بَيعة حرة تَعمِد إلى أكفأ رجل فتقدمه وتراقبه، فإن صدق ظنها في خدمتها وخدمة رسالتها كانت طاعته دينًا وتوقيره تقوى، وإن صدَّق عليه إبليس ظنَّه فلا طاعة له ولا كرامة.
ولأي مسلم يأنَس من نفسه القدرةَ على هذه الرياسة أن يرشح نفسه، وإذا أنس القدرة في شخص آخر رشحه وعرض على الناس اسمه.
إن يوسف الصديق رشح نفسه لشئون المال، وقال للمَلِك: (اجعَلْني على خزائنِ الأرضِ إني حفيظٌ عليمٌ) (يوسف: 55)
ورشح خالد بن الوليد نفسه لقيادة المسلمين أولَ الاصطدام بالروم في معركة اليرموك، لأنه رأى نفسه أبصر بأسباب النصر.
ورشح عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح الصحابيَّ الكبير أبا بكر الصديق لرياسة الأمة وتمت مبايعته.
وما رُوي مخالفًا لما قلنا فله ملابساته الصحيحة.
إن أبا ذر، رضي الله عنه، رغِب في الإمارة ورشح نفسه لها بيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفهمه أنه ضعيف وأنه مع تقواه لا يقدر على أعبائها.
كما أن النبي رفض ناسًا من عشاق الإمارة، طلبوا منه أن يُعيِّنهم في بعض المناصب.
إن المتطلعين إلى المناصب الكبيرة كثيرون، وكذلك الذين يحسنون الظن بمواهبهم!
والأمة وحدها هي التي تنتخب من تتوسم الخير على يديه، وتراه أقدر على مقاليد الحكم وأجمع لخلال القوة والأمانة.
ومن السفه تصور أن الإسلام يُكرِه الجماهير على قبول حاكم لا يَرضَوْنه لأنه منحدر من عائلة كذا!
واتفق المسلمون على تسمية الدولة الإسلامية الأولى بـ "دولة الخلافة الراشدة" كما اتفقوا على سلب صفة الرُّشد عن حكومات الأُسَر القوية أو العائلات الكبيرة التي هيمنت على التاريخ الإسلامي فيما بعد.
لقد جاء في السنة النبوية أن الله لا يقبل صلاة رجل أمَّ قومًا وهم له كارهون! والصلاة عبادة ميسورة الأداء، يقدر عليها الصالح والماجن.(1/272)
أما الرياسة العظمى للأمة الإسلامية أو ما قاربها من مناصب حساسة فهي عبء هائل، واستيلاء التافهين عليها بوسائل ملتوية سمجة بلاء ساحق، ولعله السبب الأول أو السبب الأوحد في طي ألوية الإسلام شرقًا وغربًا.
الخلافة نظام بعيد عن الفرعونية والكِسروية والقيصرية. والخليفة رجل تختاره الأمة ـ أي أنه برضاها جاء ـ وتنظر في مبلغ وفائه لرسالتها ودينها، فتستبقيه ما وفَّى وتستبعده إن عجَز.
أو كما عبر ابن حزم: "إنه الإمام الذي تجب طاعته ما قادنا بكتاب الله وسنة رسوله، فإن زاغ عن شيء منهما مُنع من ذلك وأُقيم عليه الحد والحق، فإن لم يُؤمَن أذاه إلا بخلعه خُلِع ووُلِّيَ غيره".
وهذا هو ما نقصده بكلمة "الأمة مصدر السلطة" ولا يجرؤ أحد على إنكار ما نقرره هنا، وما نقرره هو ما تزعُمه ـ إنْ صدقًا وإنْ كذبًا ـ شتى الأنظمة الإنسانية الحديثة.
وقد رأيت بعض المتديِّنين قلقًا من هذه الكلمة وربما أنكرها. لماذا؟
أحسن هؤلاء المنكرين حالًا من يقول: إن الكلمة تعطي الناس حق التحريم والتحليل وهو لله وحده!
وما ينكر مسلم أن هذا الحق لله وحده، ولكن ما علاقة هذا الحق المقرَّر لرب العالمين بمبدأ اختيار الأمة لحاكمها وإخضاعهم لسيطرتها؟ لا علاقة!
فالأمة الإسلامية المؤمنة بكتاب ربها وسنة نبيها لن تخرج عنهما أبدًا، بل إنها هي التي تُحاسِب من يخرجون!
وهناك متديِّنون محصورون فيما وَرِثوا من ضروب الافتئات والتجاوز، للكلمات في آذانهم طنين غامض، وهم على استعداد لاتِّباع أي حاكم جاء من أي طريق، ولو كان عن طريق المستعمرين، ما دام يُقدِّم لهم الكلأ! هؤلاء لا دين ولا دنيا!
وننظر في أول خطبة ألقاها أبو بكر بعد انتخابه أميرًا للأمة كلها:
"أيها الناس، إني وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيرِكم! فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني.(1/273)
الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله! والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله.
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
تَدبَّرْ هذه الكلمات، الخليفةُ المختار من الأمة يقول إنه منها، ويطلب عونَها إن أحسن وتقويمَها إذا أساء.
ويتعهد بإعزاز الضعفاء حتى يَبقَى لهم حقهم وقَمعِ الأقوياء حتى لا يَمرَحوا في حقوق غيرهم.
ويختم كلماته بأن طاعة الناس له مرهونة بطاعته لله ورسوله، أي بإقامته للكتاب والسنة، وإلا سقطت طاعته.
أهناك اعتراف بسلطان الأمة ورقابتها أصرح من هذا الاعتراف؟
إنه ليس سلطانًا ينظر إلى الناس من أعلى ويرتقب منهم أن يسارعوا إليه زُلفى!
إنه رجل يطلب من الأمة أن تمنحه راتبًا يَطعَمُ منه هو وأهله! وليس لصًّا كبيرًا جدًّا يضع يده على مال الله ويومئ إلى الخدامين والمداحين فيُهرَعون إلى ساحته.
إن على المسلمين أن يعرفوا دينهم ومكانتهم، وإلا هلكوا بالأوضاع التي وَرِثوها وأَلِفوها!(1/274)
53 ـ ما المعالم للدولة الإسلامية؟
الناس ترهب الحكم الديني لأمرين:
الأول: أنه قد يُخرج مخالفيه في العقيدة، ويُضيِّق عليهم الخِناق، ويَعُدُّهم بلغة العصر مواطنين من الدرجة الثانية.
وهذا التصرف منفيٌّ نفيًا تامًّا في الدولة الإسلامية، إذ أن الإسلام يجعل المواطنين المخالفين في المعتَقَد في ذمته وعهده وشرفه! ويوفر لهم الحماية المادية والأدبية على نحو لم تعرفه ولن تعرفه دولة أخرى.
وهذا سر بقاء الطوائف الدينية المخالفة بين ظهرانَي المسلمين دون حرج أو عنت، على حين فَنِيَت القلة الإسلامية أو اعتلَّت تحت سلطان العقائد الأخرى.
والمحذور الثاني من الحكم الديني: أن الخليفة أو الرئيس يُمنَح مَيزات روحية وغيبية غامضة، وكأنه ممثل لله على ظهر الأرض، فله ما يشبه القداسة أو العصمة!
وهذا المعنى منكور ومرفوض في الدولة الإسلامية، فالحاكم واحد من الناس، غير أنه أثقلهم حملًا وأشدهم مسئولية، وهو يخطئ ويَنتظر التصويبَ من غيره، ويَضعُف وحده إلا أن يَقوَى بمُظاهِرِيه من أولي الألباب وذوي الغيرة.
وقد رأينا في الخلافة الراشدة كيف يقترب الخليفة من الناس ويلتمس النصح والعون، وكيف يَنفِر من مظاهر العظمة الفارغة ويرى الخُيلاء جريمة والتواضع تقوى.
وأول معالم الدولة الإسلامية الشورى، وطلبُ الصواب عند أهله، والانصياعُ للحق إذا ظهر، وتوفيرُ الجو الذي يُحِق الحق ويُبطِل الباطل.
والشورى خلق إنساني رفيع، محمود في المجتمعات قديمًا وحديثًا، ومعروف في نظم الحكم من قديم، وإن خرج عليه كثيرون وتمرد عليه مستَبِدون.
يقول الحسن: الناس ثلاثة: رجُل رجُل، ورجُل نصف رجُل، ورجُل لا رجُل؛ فالرجُل الرجُل من له رأي ومشورة، والرجُل نصف الرجُل من له رأي ولا مشورة له، والثالث من لا رأي له ولا مشورة!
روى البغوي عن عائشة قالت: ما رأيت رجلًا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/275)
وهو بَدَاهة إنما يستشيرهم في شئون الدنيا والمصالح العامة، مما لم ينزل فيه وحي.
وقد استشار المسلمين في معارك بدر وأحد والخندق، ونزل على رأيهم.
وروى أحمد بن حنبل في مسنده أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما".
وروى ابن مَرْدَوَيْهِ عن علي بن أبي طالب: سئل رسول الله عن العَزْم ـ يعني قوله تعالى (فإذا عَزَمتَ فتَوكَّلْ على الله) (آل عمران: 159) ـ فقال: "مشاورةُ أهل الرأي ثم اتِّباعُهم". والغريب أن أحد المفسرين شرح الآية فقال: تَستشير ثم تَمضي على الأرشد لا على الشورى. أي تخالف الشورى وتتبع رأيك أنت.
ويخيَّل إليَّ أن عصا حاكم مستَبِدٍّ كانت فوق رأس هذا المفسِّر المضطَّرب، فقال لإرضاء الحاكم ما قال!
إن الله تبارك وتعالى وصف المسلمين بهذه الكلمة (وأمرهم شورى بينهم) وهو قول فصل ليس بالهزل، فكيف يجيء أحد بعد ذلك ليقول: يمضي الحاكم على رأيه متجاهلًا ثمرة الشورى. فلم كان طَلَبَها من قبلُ؟
ثم إن تنفيذ المبادئ المقرَّرة يَتَّخذ على امتداد الزمان شتى الصور، فالعلم فريضة، وتطوع الناس بطلبه في بعض المساجد أو المدارس كان الصورة المألوفة في مجتمع ساذج. أما اليوم فقد جُنِّدت الأجيال له ونُسِّقت مراحله ومعاهده، ويستحيل ترك التعليم للتطوع الفردي!
والجهاد فريضة، وكانت صيحة شجاعة تجمع الشبانَ والشِّيبَ للانطلاق إلى ميادينه وخوض معاركه. فهل تفعل الأمم ذلك الآن، أم تجعل للجيش كيانًا خاصًّا دائمًا، وتجعل للالتحاق به سنًّا معيَّنة، وتَرصُد لتدريبه وتموينه وتسليحه الألوفَ المؤلفة؟
كذلك الشورى إنها مبدأ مقرَّر وفريضة محكَمة، ولابد من إنشاء أجهزتها، وإمدادها بأنواع الخبرة، وتنظيم إشرافها على شئون الدولة، وتمكينها من تقليم أظفار الاستبداد الفردي، وضمان مصالح الجماهير!(1/276)
ومحاولةُ استبقاءِ الشورى فكرةً ساذجةً أو جعلُها نافلةً عارضةً كذبٌ على الدين وخيانةٌ له، ورغبةٌ في إرضاء حاكم متسلط على حساب الإسلام وأمته. ولم يَخْلُ جيل من أناس يبيعون دينهم بعَرَض من الدنيا، وقديمًا قال شاعر دجال لحاكم مستبد:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار فاحكُمْ فأنت الواحدُ القهار
كيف يقال هذا مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أميرِ عشيرةٍ إلا يُؤتَى به مغلولًا يوم القيامة حتى يَفُكَّه العدلُ أو يُوبِقَه الجَورُ، وإن كان مُسيئًا زِيدَ غَلًّا إلى غَلِّه".
إن واحدًا من الخلفاء الراشدين لا يُمدَح بهذه الكلمات الحمقاء، فكيف بغيرهم من حكام الجَور!
ومن الذي أعطَى الحاكمَ مهما علا شأنه حقَّ الاعتراض على رأي الجماعة أو رأي الكثرة، فإذا رفع يده رافضًا سكت الناطق وحُمَّ القضاءُ؟
وما قيمة (أمرهم شورى بينهم) مع هذا الحق؟
إن أجهزة الشورى المنظَّمة المحترَمة الملزِمة هي التي تحفظ حدود الله، وهي التي تأخذ على أيدي الظلمة وتقي الأمة شرهم، وتنفذ قول الرسول الكريم: "إن الناسَ إذا رَأَوا الظالمَ فلم يأخذوا على يدَيه أوشَكَ يَعُمُّهم اللهُ بعقابٍ منه".
وقد حكم التاريخَ الإسلامي قريبٌ من مائة خليفة من بضع أُسَر تُعَد على أصابع اليد، أكدت سيرتهم حاجةَ المسلمين الماسة إلى أدق أجهزة الشورى وأشدها محاسبة لولاة الأمور.
ومن معالم الدولة في الإسلام حفاظُها الشديد على حقوق الإنسان المادية والأدبية، وتوفيرُ الأمن للأفراد والجماعات، والترهيبُ من إيذاء أحد أو ترويعه، وجعلُ الدماء والأموال والأعراض في مثل حرمة البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام أو أشد، وإقرارُ العدل مع المؤيِّد والمعارِض والقريب والغريب والغني والفقير، وتهديدُ الأمة جمعاء بالهلاك إن هي تَبعَت الهوى واستَمرَأت الفساد (وما كان ربُّك ليُهلِكَ القرَى بظلمٍ وأهلُها مُصلِحون) (هود: 117)(1/277)
ولما كانت للسلطة ضَرَاوة كضَرَاوة الخمر، فإن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حذر الحكام من الميل مع الهوى فقال: "صِنفان من أمتي لن تنالَهما شفاعتي: إمام ظَلُوم غَشُوم، وكلُّ غالٍّ مارقٍ". والغُلول الاختلاس من المال العام.
والغريب أن الفساد السياسي والاستغلال الشخصي لا يفترقان، فقلما تجد مستبدًّا إلا سارقًا لمال الأمة، متخوضًا فيه بغير حق، هو وأقاربه وأتباعه.
ومن هنا نفهم ما رواه ابن عباس أن رسول الله بعث معاذًا إلى اليمن أميرًا عليها وقال له: "اتَّقِ دعوةَ المظلومِ، فإنه ليس بينها وبين اللهِ حجابٌ".
ويستوي أن يكون المظلوم مسلمًا أو غير مسلم، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في روايات أخرى.
ولممالأة الحاكم إغراء. وكما يتساقط الذباب على الحلوى يتهاوى الطامعون عند أصحاب السلطة، ولا يحتاج ذلك إلى دليل. وقد نبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عواقب هذه المسالك، فقال: "ستكون أمراءُ فتَعرِفون وتُنكِرون، فمن عرَف فقد برِئَ، ومن أنكَر فقد سَلِم، ولكنْ من رَضِيَ وتابَع". ولم يذكر النبي جزاءه لأنه معروف.
ثم رأى أن يذكر جزاء مؤيِّدي الباطل وأذناب المفسدين، فقال: "يكون أمراءُ تَغشاهم غَواشٍ أو حَواشٍ من الناس، يَكذبون ويَظلمون، فمن دخَل عليهم فصدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه. ومن لم يدخل عليهم ولم يصدِّقهم بكذبهم ولم يُعِنْهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه" وفي رواية أخرى: "فمن صدَّقهم بكذبهم فأعانهم على ظلمهم فأنا منه بريء وهو مني بريء". والراويات كثيرة في هذا الموضوع الحساس في حياتنا وتاريخنا.
ولعل ذلك سرُّ الخصومة الممتدة بين أئمة الفقه الإسلامي وبين جمهرة الحكام الذين تَسَمَّوْا خلفاءَ، وهم ملوك من شرار الملوك!
وقد كانت جماهير الأمة تعرف عدالة الفقيه بقدر قربه أو بعده من باب السلطان، وما ذلك إلا لشعورها العميق بأن هؤلاء السلاطين قطاع طريق لا خلفاء راشدون!(1/278)
أما رئيس الدولة ـ أو الخليفة ـ الصالح الوفي للأمة ورسالتها فإن محبته عبادة، وتوقيره دين، وتأييده واجب على جمهور المؤمنين!
أليس الساهر على مصالحهم الناهض بأعبائهم؟
أليس الحامل للراية القائد للجهاد؟
لقد جاء في السنن أنه أول السبعة الذين يُظلُّهم اللهُ يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه. كما جاء عن عمر بن الخطاب أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أفضلُ الناسِ عندَ اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ إمامٌ عادلٌ رفيقٌ، وشرُّ عبادِ اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ إمامٌ جائرٌ أخرق" أحمق.(1/279)
54 ـ ما مدى تقبل الإسلام لأسس الدولة الحديثة؟
أجدني بحاجة إلى توكيد أنه لا فرق بين مقتَضيَات الفطرة السليمة وتعاليم الدين الحنيف!
إنني أحيانًا أصحح بعض الأفكار الدينية المائلة على ضوء سلامة الفطرة، كما أصحح بعض المسالك التي يزعم الإنسانيون سلامتها على ضوء الوحي المعصوم.
وقد بحثت عن المقصود بأسس الدولة الحديثة ـ بعد ما ذكرت أن الحكم عندنا يقوم على الاختيار الحر وإن الشورى تَلزَم الحاكمَ ـ ماذا بَقيَ؟
قالوا: بقيت أمور نعرضها واحدًا واحدًا.
هل يقبل الإسلام أن يُختار الخليفةُ لأجل محدود؟
قلت: ليس هناك نص يمنع، فإذا وجَدت الأمة أن ذلك أحفظ لمصالحها، وأَصوَن لحرياتها، وأبعَد عن إساءة السلطة، وأدعَى إلى تواضع الحاكم فلا حرَجَ عليها في تقريره!
قد تقول: إن ذلك لم يُعرَف في تاريخ المسلمين الطويل!
ونجيب بأن تاريخ الخلافة غير الراشدة ليس أسوة، بل قد يكون مثار لوم ومؤاخذة لذويه!
أما تاريخ الخلافة الراشدة فإن اختيار الخليفة فيه لم يَتَّخذْ نهجًا واحدًا، فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ انتخبه أهل الحَل والعَقد انتخابًا مباشرًا. وعمر عَهِد إليه الخليفة القائم بعد مشورة عامة، وذلك للظروف التي كانت تمر بالدولة، فهي مشتبكة في قتال ضار مع الروم والفرس جميعًا. وعثمان اختِير من بين ستة عيَّنهم عمر، ثم أقبل الناس يبايعونه حتى تم استخلافه. وعليٌّ بايعته الجماهير بعد مقتل عثمان مبايعة حرة لا ثغرة فيها!
وهذا الأسلوب المُتَجَدِّد يشير إلى جواز كل ما يمنع الاستبداد الفردي مهما اختلفت صوره، ولا يجرؤ مسلم على تحريم تصرف لم يجئ في تحريمه نص من الكتاب أو السنة أو القياس الجلي، أو الفوائد المحرمة، بل الذي يقال هنا: إذا وُجدَت المصلحةُ فثَمّ شرعُ اللهِ!
وعندما نراجع تاريخ الخلافة غير الراشدة وجنايتها الشديدة على الإسلام نميل إلى توقيت زمن الخليفة، وتعريضه لانتخابٍ عامٍّ بين الحين والحين.(1/280)
ولا يَخدِش هذا الحكم أن الأجانب سبَقونا إليه في معالجة الاستبداد السياسي الذي أُصيبوا به، ونَجَوْا من عَقَابِيلِه وما نَجَونا!
وأعرف أن هناك قومًا لم يَنطِقوا بحرف في التعقيب على ظلم قديم أو حديث، يَضيقون بتقييد المدة التي يبقاها الحاكم في الحكم.
لماذا؟
لعلهم لم يقرءوه في متن أو شرح! وهؤلاء لا يجوز أن يُوزَن لهم رأي!
قال صاحبي: يمكن القول بأن تقييد زمن الخليفة مسألة لا يأمر الإسلام بها ولا يَنهَى عنها! فما رأي الإسلام في وجود أحزاب سياسية تسعى للحكم وتستعمل له أُهْبَته وهي بعيدة عنه، وتقوم بقيادة المعارضة الشعبية إذا جد ما يستدعي ذلك؟
قلت: هي كسابقتها، لا يوجبها الدين ولا يحرمها. أن تكون المذاهب الكثيرة واختلاف وجهات النظر أثر طبيعي للحرية الفكرية التي وفرها الإسلام لأتباعه، وعرفها الناس بعد صراع مرير مع الجبابرة والأدعياء.
وإيغال الحكم الفردي في الاستئثار بكل شيء هو الذي حظَر على الناس حقًّا طبيعيًّا لهم كان يمكن أن يمارسوه في سلام وسماحة!
قال: كيف يسمح الإسلام بمعارضة لولي الأمر؟
قلت: إن المعارضةَ في نطاق الشورى وطلبَ الحقيقة واحترامَ حق الكثرة، لا شيء فيها.
وهذه المعارضة تقع في تفصيلات تشريعية واجتماعية ليس لأحد أن يفرض رأيه فيها بالعنف، سواء كان حاكمًا أو محكومًا، ولنضرب لك الأمثال:
هب أن جماعة من الناس تخيرت من مذاهب الفقه الإسلامي أن تؤخذ الزكاة من جميع الزروع والثمار، وأن تبقَى المناجم ملكًا لأصحابها على أن يُؤخذ منها الخمس، وأن يُسوَّى بين دية الرجل والمرأة، وأن تباشر المرأةُ عقدَ زواجها، وأن تُقبَل شهادتُها في الدماء والأعراض كما تُقبَل في الأموال، وأن يُقبَل التفاضل فيما وراء الأصناف الستة.. إلخ
ثم وَضَعَت هذه الجماعة منهاجها هذا وعَرَضته على الأمة، وذَكَرت أنه أساس حكمها إذا مُنحَت التأييدَ من الجمهور، أيكون هذا التصرف ارتدادًا عن الإسلام؟(1/281)
أيكون عصيانًا مسلحًا للحاكم الموجود؟
لا هذا ولا ذاك.
نعم، إنه خروج على المألوف من تقاليد الحكم الفردي عندنا.
ألا لعنة الله على هذه التقاليد التي أذلت الدين وأمته، وجعلت دار الإسلام نهبًا للذئاب والكلاب!
لقد ذكرت طوفان الخلاف الفقهي الذي يختبئ وراءه الغوغاء.
وهناك ما يساويه في الخطورة؛ هب أن جماعة من الناس رأت أن تضع منهجًا لتصنيع البلاد في بيئة زراعية، أو لاتحادها مع غيرها في أقاليم منفصلة، أو لإنشاء سوق إسلامية مشتركة، أو لتطوير أساليب عرض الإسلام، مستغلة في ذلك إمكانات الحكم، فما الذي يمنع من إنشاء حزب ما لتحقيق ذلك، سواء ضاق به الخليفة أو رَضيَ؟
أيكون ذلك نقضًا للبيعة وخروجًا على الجماعة؟
لا هذا ولا ذاك، لأن الأمة ستقول كلمتها، وسترفض ما تراه خطأ وتُقِرُّ ما تراه صوابًا، ومن فاز بثقتها اليوم يمكن أن يُحرَم منها غدًا مع نجاح المعارضين في كسب الرأي العام.
أليس هذا أفضل من الاغتيال والكبت والاحتيال، وإلصاق التهم بالأبرياء، وتمكين الجهال من الإمساك بدفة الأمور زمنًا أطول مما ينبغي؟
قال صاحبي: كأنك معجَب بالنظام الانتخابي السائد في الغرب!
قلت: إنه نظام أفاد أصحابه كثيرًا أو قليلًا، بيد أنه فسَد عندئذ لأن الاستبداد السياسي زوره ومال به عن فحواه. وأنا ـ باسم الإسلام ـ أحارب الاستبداد بكل ما لديّ من طاقة. إن الكفايات العلمية والعسكرية أُهينَت طويلًا في أمتنا، وبَطَشَ الحكم الفردي بها دون رحمة. أحيانًا أسائل نفسي: لماذا يُقتَل فاتح السند محمدُ بن القاسم بقلة اكتراث؟ لماذا يَقضي فاتح الأندلس بقية عمره مُهانًا منبوذًا، ويُجلَد ابن حنبل، ويموت ابن تيمية محبوسًا؟
لماذا يُغتال حسن البنا؟
لماذا يُشنق أصحابه من بعده؟
لماذا يُضرب رئيس مجلس الدولة عبد الرازق السنهوري بالنعال ليموت من بعدُ مشلولًا؟ لماذا... لماذا؟(1/282)
إنني أستطيع البقاء ساعات أتساءل وأتساءل، فإذا فكرنا في تغيير هذا البلاء ورسَمنا أوضاعًا تُطيح به جاء نفر من الغوغاء الذين يَلبَسون زي الفقهاء ليقولوا باسم الإسلام: لا. وهم من الناحية العلمية أشد الناس جهلًا بالدين وخبرة بمآربهم ودناياهم!
قلت وما زلت أقول: إن مبادئ الإسلام معصومة، أما الذين حكموا باسم الإسلام ـ وهم عشرات الخلفاء من ثلاث أو أربع عائلات ـ فأمرهم فُرُطٌ، ونريد إنصاف الإسلام منهم وحماية حاضره ومستقبله من لَوْثَتهم.
لقد سقطت هذه الخلافة على أيدي التتار في القرن السابع الهجري، ثم سقطت الخلافة مرة أخرى على أيدي الصليبيين في القرن الرابع عشر الهجري.
الأولى كانت حِكرًا على أولاد العباس! والثانية كانت حِكرًا على أولاد عثمان ـ وهو من وجهاء الأناضول في القرن الثامن ـ هل هذا الوضع هو الذي يستبقيه الإسلام ومن أجله يرفض تقييد مدة الحاكم ويرفض وجود الأحزاب السياسية!(1/283)
55 ـ كيف يُقيم المسلمون دولة إسلامية واحدة؟
(إن هذه أمتُكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدونِ) (الأنبياء: 92).
هذه الآية أول شيء على صفة أمتنا وفحوى رسالتها. إنها أمة أورثها الله كتابه وأوصاها أن تعمل به وتدعوَ إليه، وأن تجعل وجودها المادي والأدبي مربوطًا بحقائق الوحي الأعلى وترجمةً عملية لمراد الله من خلقه (الذين إن مكّنّاهم في الأرضِ أقاموا الصلاةَ وآتَوا الزكاةَ وأمَروا بالمعروفِ ونَهَوْا عن المنكَرِ) (الحج: 41).
وقد بقيت علاقة الأمة المصطفاة قائمة برسالتها تلك على تفاوت مثير، أحيانًا تَقوَى فلا يُعجزها شيء وأحيانًا تَهِي فيَغلبُها الذَّرُّ!
ومع التأمل في التاريخ الإسلامي أستطيع القول: إن بقاء المسلمين إلى يوم الناس هذا يرجع قبل كل شيء إلى حفظ الله تبارك اسمه، ثم إلى وفاء الجماهير العميق لدينها، ثم إلى جهاد الفقهاء والدعاة والمُرَبِّين!
أما التاريخ السياسي فرُكام من الأقذاء نما على مر الأيام وبلغ ذروته في هذه السنين العجاف! وإن كان يظهر بين الحين والحين خليفة أو ملك يمسح القَذَى ويمهد الطريق ويَكبِت العدو!
لقد شقت الأمة طريقها بقوة على عهد الخلافة الراشدة، وكانت الجماهير والحكام جسدًا وروحًا لا فِكَاك بينها.
ثم اضطربت أجهزة الحكم العليا ودخلها خلَل مزعج، أيام الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ومع ذلك رأى جمهرة العلماء والدعاة أن يُبقُوا الأمة موحدة الصف والهدف وراء أولئك الحكام، فكان المسلمون أمة واحدة وخلافة واحدة تقريبًا.
ثم نبتت إلى جوار الجذع الغليظ سيقانٌ أخرى ما لَبِثت أن اشتدت وتحولت إلى جذوع قوية، ومن هنا قامت دول إسلامية شتى، فشاعت الفرقة والضعف!
والحق أن مأساة الإسلام الأولى لم تجئ من كثرة حكوماته قَدْرَ ما جاءت من تفاهة الحاكمين ونُدرة مواهبهم، وسقوط منصب الخلافة بين أناس لا يَصلُحون لإدارة قرية صغيرة أو شركة محدودة!(1/284)
ولا بد من كيان سياسي وثقافي موحِّد للمسلمين حتى يستطيعوا أداء رسالتهم والقيام بحق الله عليهم، إلى جانب ما هو معروف من أن الإخاء الديني بين المسلمين يسبق أخوة النسب، وأن الولاء للمعتَقَد فوق الولاء للنزعات العِرْقية والأرضية!
وقد يظن ظانٌّ أن هذا ضرب من الغلو! لكني بعد ما درست التاريخ الدولي للعلاقات بين المسلمين وغيرهم شعرت بأن هذا الترابط الإسلامي ضرورةُ حياة، ونداءُ البقاء بين مِلَل ونِحَل تنظر إلى المسلمين بكُرْهٍ وتَوَدُّ لهم العنتَ، بل الضياعَ!
وما تزال الضغائن الأولى تتوارثها الأجيال وتزيد جذوتها وَهَجًا، حتى مطالع هذا القرن الخامس عشر، فمع عمق الفجوة بين الهندوكية الشيوعية والصليبية واليهودية رأيت الكل يعالجون الوجود الإسلامي بالقتل.
المذابح الطائفية في الهند، والحرب الكيماوية في أفغانستان، ومجازر صبرا وشاتيلا في لبنان، ودير ياسين في فلسطين المحتلة، إنها النقمة على الإسلام وأمته حيث كانت، قاسِم مشترِك يجمع بين الأضداد على اختلاف الزمان والمكان، ويغريهم بانتهاز فرصة الضعف السائد للإجهاز على هذا الدين إلى الأبد!
فهل يُلام المسلمون إذا فكروا في وحدتهم وخلافتهم بعد ما فشِلت النزعات العالمية والصيحات الإنسانية في حقن دمائهم وحفظ حقوقهم؟
وسؤال آخر: مَن مِن الوثنيين وأهل الكتاب نَسيَ عقيدته أو أصَمَّ أذنه عن ندائها حتى يقال للمسلمين: انسُوا ما لديكم!
إن التحالف المكتوب وغير المكتوب ضد الإسلام يجعل الإنسان يهتف بين الحين والحين بالبيت المشهور:
كلَّ يوم تُبدي صُروف الليالي خُلقًا من أبي سعيد عجيبًا
فلنُقِمْ للإسلام دولته الجامعة، ولتَعُدْ إليه خلافته الضائعة، وليتعلم المسلمون من أخطائهم الماضية كيف يحترمون الصواب ويلتزمونه.
سمعت من يقول: كيف يمكن حشد المسلمين في دولة واحدة وتحت راية واحدة وهم ألوف مؤلَّفة موزَّعون على أقطار فَيْحاء؟(1/285)
قلتُ: إن المسلمين يبلغون ألف مليون نسمة، وقد قامت للصين دولة وهي مثل ذلك العدد.
فإن قلتَ: إن الصينيين على أرض واحدة ومساحة مشتركة!
قلتُ: إن الاتحاد السوفيتي قَدَر على بناء دولة واحدة فوق أرض تأخذ نصف أوربا، ومثل ذلك من آسيا مع تعدد الأجناس واللغات!
إنه لا توجد عوائق مادية تمنع قيام دولة واحدة للمسلمين، بل إن هذه الدولة ظلت قائمة أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، ما يخرج عن نطاقها إلا عدد محدود يرنو إليها يستظل من بعيد بحمايتها.
إن العوائق دون هذه الدولة نفسية ومعنوية واستعمارية، وهي ترجع إلى المسلمين قبل أن ترجع إلى خصومهم.
إن البعد عن الإسلام والموت الأدبي الرهيب الذي حاق بشعوبه كانا من وراء سقوط الخلافة واقتسام الأقوياء لتراثها.
بل إن المستعمرين في أقطار شتى من أفريقيا وآسيا خرجوا من الأرض التي احتلوها طوعًا لا كَرهًا، دون أن تُسفَك قطرةُ دم! وترَكوا في هذه الأرض حكامًا محليِّين يحرسون مصالحهم، ونستحي أن نقول: تركوا حكامًا حَزِنوا لانسحابهم!
ومن هنا نؤكد أن عودة الدولة الإسلامية الواحدة تحتاج إلى تمهيد واسع، يُعيد المسلمين أولًا إلى دينهم الحق، ويملأ أفئدتهم وألبابهم برسالته وعقائده وشرائعه وفضائله. كما تحتاج إلى بصرٍ حادٍّ بأخطاء الماضي وأسباب الانهيار حتى يمكن تجنبها بلباقة ومقدرة، فتُبنَى الدولة الجديدة على قواعد لا تنال منها الأيام.
وغني عن البيان أن هذه الدولة الجديدة ليست مركزية، إنها مجموعة من الأقطار أو الولايات لها حكوماتها المحلية، ومجالس شوراها، وضرائبها، وشخصيتها المعنوية، يتكون منها بعد ذلك كيان الدولة الكبرى، ويوجد بعاصمتها الخليفة بسلطاته العامة.
ويستطيع الأخصائيون وضع القالب القانوني لهذا البنيان السياسي، ولا حرج عليهم أن يقتبسوا من الأنظمة المطبَّقة في دولةٍ مشابِهَهُ بعد إشرابها روح الإسلام.(1/286)
إن العصر الحاضر ليس عصر الدُّوَيلات المنثورة، إنه عصر التكتلات الكبيرة القديرة على الحياة والمقاومة الذاتية!
إن العالم الإسلامي ضم أجناسًا كثيرة ـ من عرب وفرس وترك وهنود وزنوج.. الخ ـ وهي أجناس سعدت بهذا الدين، وأرضت به ربها، وحققت به وجودها.
ولكنا نقول بصراحة وصرامة: الإسلام استفاد سياسيًّا وثقافيًّا من فضائل هذه الأجناس، كما نَكَب ثقافيًّا وسياسيًّا من معايبها الأخرى!
ولما كنت عربيًّا مسلمًا فإني سوف أتحدث عن بني قومي وأتحدث إليهم:
ما هذه العروبة التي اخترعوها، وكابروا بها الإسلام، وحسموا الولاء لها، وجعلوا قوميتها فوق الدين، وبَعْثَها بعيدًا عن هداه؟
هل العرب بلا إسلام يصلُحون لشيء أو يقدمون للإنسانية أي شيء؟
تفرستُ في وجوه العروبيين الجُدَد، ورابني منهم ضِغْنٌ على محمد، وهو أعلى قمة في التاريخ، واستهانةٌ بصحبه وبما حملوا للعالم من وحي!
أكان مطلوبًا من هؤلاء الأصحاب ألا يبلِّغوا القرآن، وأن يتلوا على مسامع الناس هُرَاء عمرو ابن كلثوم:
إذا بلَغ الرضيعُ لنا فطامًا تَخِرُّ له الجبابرُ ساجدينا؟
لماذا أيها الأبله؟
لا حياة للعرب ولا شرف إلا بالعودة إلى سيرة أجدادهم الأقدمين، والإخلاص للإسلام عقيدة وشريعة، واستبطان أدبه، والتزام هدفه، والاستقامة على صراطه المستقيم.
أمّا أن يعود البعض إلى قبر مُسَيلِمة يناشده العودة إلى الحياة، ويطلب منه قيادة صحوة عربية جديدة، فهو لا يَألو أمتَه إلا خَبالًا ولن يَزيدَ العالَمَ إلا سخريةً بها!
ولمّا ترك العرب تقاليد الإسلام السياسية وتقوى الخلافة الراشدة وسلوك الفقهاء الكبار، ماذا صنعوا؟
استحيوا تقاليد المفاخرة والمنافرة والذهاب بالآباء واسترخاص الدماء، فإذا الشعوب في أرجاء الدنيا تتنفس بحرية وتعترض حكامها في طمأنينة وثقة وتهتف ضدهم إذا شاءت.(1/287)
أما العرب فإن حاكمًا واحدًا يقدر على سحق عشرات الألوف لتكون العزة لغير الله! ومع هذه الفتكات الرهيبة يتواصى بقية العرب بالسكوت المطلق!
أظن العرب في جاهليتهم الأولى لم يبلغوا هذا الدَّرْك من النذالة!
إنه لن تقوم دولة الإسلام الكبرى إلا إذا اعتنق العرب الإسلام من جديد، وكرروا ما صنع سلفهم الأول، وإلا ذهب الله بهم وأتى بخير منهم.(1/288)
56 ـ يَوجَل الناس من الحكم الديني وعودة الخلافة، فهل هناك ما يدفع هذا الوَجَل؟
عندما يَتَّخذ التعصب الديني قناعًا له من الحرية الفكرية فإن الأمر يستحق كل ازدراء، ومن حق المسلمين أن يسألوا: لماذا نالت "إسرائيل" الرضا التام بوجودها وهي تقوم على أساس يهودي صِرْف وترسم حدودها وفق مخططات التوراة؟
إن الشرق والغرب كليهما اعترفا بحقها في الحياة، بل لم يعترفا بحق العرب في بقاء "جزئي" إلا بعد الاعتراف بهذه الدولة الدينية!
لماذا قامت "للفاتيكان" دولة توجِّه أغلب نصارى العالم وتملك القوة الاقتصادية الثالثة ـ بعد أمريكا وروسيا ـ وتضع سياستها الرتيبة لتنصير الشعوب الأخرى، وفي طليعتها المسلمون؟
إن الحرب الصليبية التي شنها قياصرة "روسيا" لم تدع الشيوعية ثمراتها، بل ضمت إلى الأقطار الإسلامية المفتوحة "أفغانستان"!
والحرب الصليبية التي شنتها الدول الغربية تركت في الكيان الإسلامي نزيفًا طائفيًّا وثقافيًّا يوشك أن يَقضيَ عليه!
فإذا تحرك المسلمون ليحموا كيانهم ويجددوا دولتهم قيل لهم: يجب أن يبتعد الإسلام عن السياسة، فنحن نَوجَل من الحكم الديني ومن عودة الخلافة الإسلامية!
الحق أن هذه صفاقة مستَغرَبة!
إن الذي نَوجَل منه ويَوجَل منه كل عاقل هو عودة الاستبداد السياسي! أو تولِّي رجلٍ الحكمَ وهو يزعم أنه ذو صلة خاصة بالله! أو أن الروح القدس حل فيه ويتعاون معه!
والخلافة الراشدة بريئة من هذا الجنون المقدس، وتصريحات رجالها واحدًا واحدًا يتمنى لو يقولها اليوم أعظم رجال "الديمقراطية" المعاصرين.
ألم يقل أبو بكر: إن أحسنت فأعينوني وإن زِغْتُ فقوِّموني؟
وعندما يلي الأمر يقول: أيها الناس كنت أحترف لعيالي (أكتسب قوتهم) فأنا اليوم أحترف لكم، فافرِضوا لي من بيت مالكم!(1/289)
ويجيء بعد أبي بكرٍ عمرُ ليقول للناس في المسجد الجامع: إذا وجدتم فيَّ اعوجاجًا فقوِّموه. فيُسمَع من بين الصفوف صوت يقول: لو وجَدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا! فيكون جواب عمر: الحمد لله الذي أوجد في المسلمين من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه!
وفي رواية أن عمر خطب فقال: يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو مِلتُ برأسي إلى الدنيا هكذا؟ فشق الصفوف رجل يقول، وهو يلوِّح بذراعيه كأنهما حسام ممشوق: إذن نقولَ بالسيف هكذا. فسأله عمر: إياي تعني؟ فيجيب الرجل: نعم إياك أعني بقولي. فيرد عمر: رحمك الله، الحمد لله الذي جعل فيكم من يقوِّم عِوَجي.
ويجيء دور عثمان، الخليقة النبيل المظلوم، الذي يقول للناس: إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيود فضعوهما.
وقد كان عثمان قديرًا على استصراخ عشيرته وإعمال السيف في محاصريه، لكن الرجل الحَيِيَّ الرقيق قَبِلَ أن يموت دون أن يستبيح قطرة دم لمسلم!
ويتولى عليٌّ الخلافة فيقول: إنما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعليَّ ما عليكم!
ويقول: ليس لي أمرٌ دونكم.
ويقول لصاحبه: إياك والاستئثارَ بما الناس فيه أسوةٌ."سواء".
ولما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، ميراثًا من أجداده بني أمية، كره الرجل الكبير هذا الوضع الذي يرفضه الإسلام، وخرج إلى المسجد الجامع يقول للناس: لقد ابتُلِيتُ بهذا الأمر على غير رأي مني، وعلى غير مشورة من المسلمين، وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم! فردت الجماهير بصوت واحد: بل إياك نختار يا أمير المؤمنين.
هذه هي الخلافة الراشدة التي أُمِرنا أن نستمسك بسنتها.
أتُرى واحدًا من رجالها يعرف الحق الإلهي للملوك؟
أو يظن نفسه فوق الأمة قِيدَ إصبع، ويحتسب الحكم بقرة حلوبًا تَدُرُّ عليه وعلى أسرته وأتباعه؟
أتُرى واحدًا منهم نكَّل بمعارض أو ضيَّق عليه الخِناق أو حرَمه حقًّا له؟(1/290)
والداهية الدهياء في عصرنا هذا متحدثون عن الإسلام؛ لا فقه في الدين ولا بصر بتاريخ المسلمين، يصورون الحكم الإسلامي تصويرًا منكَرًا، ويقررون أحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان، يقولون: الحَكَم المسلم لا تُقيده الشورى، ولا يَسمَح بأحزاب معارضة، ولا يَعترف بمبدأ الانتخاب وحق الكثرة في فرض نفسها!
إنهم يدافعون عن الفِرْعَونية والهِرَقْلِية ويؤيدون الحَجّاج والسَّفّاح وكل مُفتَاتٍ على الأمة.
إنهم ناس يستمدون فقههم كله من تاريخ الخلافة غير الراشدة والملوك الذين حكموا الإسلام ولم يحكمهم الإسلام.
وهم بفكرهم وسلوكهم امتداد لزاوية الانحراف الثقافي والسياسي في التاريخ القريب والبعيد، وبعضهم له إخلاص الدبة التي قتلت صاحبها، وللبعض الآخر باع طويل في الارتزاق والأكل على موائد الحاكمين!
علماء الدين عندنا يقولون في الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الراويَ الثقة إذا خالَف من هو أوثَقُ منه عُدَّ حديثه شاذًّا ورُفِض. وإذا كان الراوي ضعيفًا ونقل ما يخالف الصحاح عُدَّ حديثه منكَرًا أو متروكًا ورُفِض!
فما نقول في ناس يَرسِمون صورة الإسلام من أحاديث شاذة أو منكرة أو متروكة؟
وفي أي مجال؟ في ميدان الحكم أو لمظاهرة فرد مستبد!
روى المحدثون عندنا هذا الحديث الضعيف، نذكر نصه ثم نعلق عليه، رَوَوْا بصيغة التمريض أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "السلطانُ ظلُّ اللهِ في الأرضِ، يأوي إليه كلُّ مظلومٍ من عباده، فإن عَدَلَ كان له الأجرُ وكان على الرعيةِ الشكرُ، وإن جار أو حاف أو ظلَم كان عليه الوِزرُ وعلى الرعيةِ الصبرُ".
هذا الحديث ضعيف مخالف لسنن صحيحة كثيرة:
منها "لتأخذُنَّ على يدِ الظالمِ، ولتأطُرُنَّه على الحقِّ أطْرًا، ولتَقصُرُنَّه على الحق قَصرًا، أو ليَضرِبَنَّ اللهُ بقلوب بعضكم على بعض ثم لَيَلعنُكم كما لعنهم".(1/291)
ومنها: "إن الناس إذا رأَوا الظالمَ فلم يأخذوا على يديه أوشَكَ اللهُ أن يَعُمَّهم بعقاب منه".
ومنها أحاديث تغيير المنكَر بمراتبه الثلاث.
وظاهر الحديث الضعيف مرفوض من ناحيتَي الشكل والموضوع، وهو إما منكَر أو متروك! ومع ذلك فقد نقله وروج له بعض المرتزِقة من المتحدثين عن الإسلام.
ونسارع إلى القول بأن الأخذ على يد الظالم ليس باغتياله بعد محاكمة فردية له من بعض الناس.
التصرف الإسلامي الوحيد مَدُّ رُواق الحكم الشوريّ والمعارضة الحرة، فمن رأى من الحاكم عِوَجًا حدَّث الناسَ عنه وشرح للرأي العام موقفه، فإن أيَّده الناس أسقَطوه في انتخاب صحيح وجاءوا بخير منه.
قال لي غلام ساذج: إنك تعترف بالنظام الانتخابي، وتقرر رأي الكثرة مع أن القرآن ذم الكثير في مواضع كثيرة!
قلت: أي كثرة تلك التي ذمها القرآن؟
إذا قال الله تعالى: (إنَّ الساعةَ لآتيةٌ لا رَيبَ فيها ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون) (غافر: 59). أو قال في آية أخرى: (ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون) (غافر: 57).
كأن معنى النظم القرآني الكريم أن أغلب المسلمين منافقون وجهال!
قبَّح الله فهمكم! إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرى في معركة أحد استدراج المشركين إلى داخل المدينة والقضاء عليهم في حرب شوارع! بيد أن الكثرة من أصحابه أبت إلا الخروج إليهم في العَرَاء، فنزل على رأيهم وهو كاره، فلما رأوا أنهم أَكرَهوه على الخروج عرَضوا عليه أن ينفذوا خطته فأبى!
فهل كانت كثرة الأصحاب جاهلة أو غير مؤمنة؟
كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ كثيرًا ما يقول: "أشيروا عليَّ أيها الناس"!
فهل حاكِمُكم الذي تَرَونَ ألاّ تُقيِّدَه الشورى وألاّ يَلتفتَ إلى الكثرة أرشدُ من صاحب الرسالة العظمى وأعقل؟
إن غباءكم في فهم القرآن والسنة لا يستفيد منه إلا أعداء الإسلام وعشاق الفرعنة من الحكام!(1/292)
عندما نطلب عودة الخلافة الإسلامية وقيام حكم للكتاب والسنة فنحن نرنو إلى المبادئ الشريفة التي وعاها عهد الخلافة الراشدة، ونريد تجنب أخطاء السلاطين والانتفاع بكل جهد إنساني للخلاص من الاستبداد والمستبدِّين.(1/293)
57 ـ متى تقام الحدود؟ وهل هي صالحة لكل عصر؟
الإنسان ليس ملاكًا معصومًا، ومن ثَمّ لا نَستغرب وقوع الخطأ منه، وإذا أخطأ فلا ينبغي أن نبادر إلى قمعه بوحشية وإظلام حاضره ومستقبله.
والشارع الأعظم يعلم هذه الطبيعة البشرية، ويمهد له طريق التوبة والتسامي (واللهُ يريدُ أن يتوبَ عليكم ويريدُ الذين يَتَّبعون الشهواتِ أن تَميلوا ميلًا عظيمًا. يريدُ اللهُ أن يُخفِّفَ عنكم وخُلِق الإنسانُ ضعيفًا) (النساء: 27،28) هذه حقيقة لا ريب فيها.
وهناك حقيقة أخرى لا ننساها؛ إن كل امرئ يحب أن يعيش آمنًا في سِرْبه، وافرًا في دمه وماله وعرضه، وإن انحرافات المخطئين لا يجوز أن تتحول إلى وباء يعصف بالأمن ويجتاح الحرُمات!
والإسلام عندما يضع عقوبة لخطيئة ينظر إلى هاتين الحقيقتين.
قد يَعذِر العاصيَ ويَلتمس له الدواء! ولكنه لا يَأذَن أبدًا للجريمة أن تعكر الصفو وتنشر الخوف.
ومن أجل ذلك وضع الحدود، ودرأها بالشبهات، ووقَفها بالتوبة إذا رأى القاضي (نحن نتابع ابن تيمية في هذا الكلام ونرى الحق معه).
إن من تورط فيها ثائر على نفسه، نادم على سقطته، وإن عودته إليها مُسْتَبْعَدة، وإن مستقبله هو الصلاح والاستقامة.
إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاول أن يُثنيَ ماعِزًا، غفر الله لنا وله، عن اعترافه ورأى أن توبته تطهِّره، ولكن الرجل كان مهتاج الأعصاب لِمَا بدَر منه، وأراد أن يطهر نفسه بالرجم فتركه النبي الكريم وما يريد!
على حين أَذِن لمن صلى معه أن ينصرف بما اقترف، فقد طهَّرته صلاته أو اعتُبِرَت توبةً له.
لكن إذا اضطرب حبل الأمن، أو رأى القاضي أن المذنب قاسٍ مَخُوف الغدر فإن الحفاظ على المجتمع ومؤاخذة المجرم الجسور توجبان الضرب على يده وحماية الناس من شره.(1/294)
إن الحدود حق، وإقامتها بصورتها الشرعية مطلوبة إلى آخر الدهر، وما يقال عن قسوتها ضرب من الهُرَاء، ونحن نستبين ذلك كل الاستبانة عندما نتوسم أحوال المجتمعات التي أنكرتها أو تركتها.
يقول الصحفي أنيس منصور: إذا سرت في شوارع أمريكا فلا تحمل فلوسًا كثيرة، فقد يستوقفك أحد الزنوج وفي يده سكين. وإذا ذهبت إلى محل لشراء شيء فلا تُخرِجْ من جيبك مالًا كثيرًا للسبب نفسه. إن الأمريكيين يتعاملون بالبطاقات المالية ودفاتر الشيكات ولا يحملون مالًا. وفي الفنادق يطلبون منك أن تضع فلوسك عندهم وإلا فأنت المسئول إذا سُرقت أموالك أو أشياؤك الثمينة!
وقد تجد مكتوبًا على باب الحمام: أَغلِق عليك الحمام من الداخل، وإذا هاجمك أحد فاطلب رقم كذا بسرعة!
وهم ينصحونك ألاّ تمشيَ وحدك في الشوارع فإذا اضطُّرِرت إلى ذلك فكن متجهِّمًا باديَ القوة، حتى لا يُظَنَّ بك الخوف!
قال: ونزلت أتمشى وحدي قريبًا من البيت الأبيض، وكان الشارع خاليًا تمامًا من المارِّين، وفجأة وجدت رجلًا يتوكأ على عصاه استوقفني وسألني: كم الساعة؟ فتوقفت أنظر في ساعتي، فإذا هو يخرج سكينًا من بين ملابسه، فأعطيته الساعة! ونظرت فإذا هو يُزيح القناع عن وجهه ويبدو شابًّا صغيرًا! لم يكن شيخًا ولا زنجيًّا، وضحك وضحكت.
وبينما أنا أنظر إلى الشاب إذ قفز إلى جواري شاب آخر، فرفعت يدي إلى أعلى مُظهِرًا أنه ليس معي شيء، فأشار إليه اللص الأول من بعيد فتركني! وعرفت أن الزنوج ليسوا وحدهم قطاع الطرق في أمريكا!
لقد فقد هذا السائح المصري ساعته لأنه سَرَى وحده، فالأمن مفقود في العاصمة الكبيرة، لا أرتاب أن الساريَ لو كان أنثى لفقَدَت مالها وعرضها جميعًا، وإذا قاوَمت مغتصِبَها فقَدت حياتها!
وقد يكون القتيل رب أسرة لا يعود إليها!(1/295)
والحديث عن قلبٍ يخشى الله أو يهاب لقاءه حديث خُرافة! فقد انقطع التيار الكهربائي في المدينة مدة طويلة، فنُهبت أغلب المتاجر والمعارض في الظلام العارض، إن وجود الضمير مرتبط برجل الشرطة وحده! ما أشرف هذه الحضارة!
وعجبت لِعَمَى القانون عندما قرأت أن لصًّا أطلق النار على جندي كان يطارده، ثم قُبض بعد لأْيٍ على اللص، وأُودِعَ السجن، وقُضيَ الأمر!
ماذا حدث؟
إن عقوبة الإعدام مُلغاة لأن القصاص وحشية!
إنه لا يقر الأمان ويمنع الإجرام في هذه البلاد إلا إقامة الحدود، الحدود وحدها هي الدواء. قد تكون نجد والحجاز أقل حضارة من الولايات المتحدة، بيد أن ظلام الإرهاب والإجرام والتوجس والفزع لا وجود لها في هذه الأرجاء الفيحاء، ما السبب؟ إقامة الحدود.
لو أن عربة محملة بالذهب مشَت من شمال اليمن إلى أول الشام ما فكر أحد في اعتراضها، إذ الناس رجلان؛ إما خائف من الله فهو يَعَاف أكل السحت، وإما خائف من شريعته فهو واقف عند حده، لا يتعرض لقطع اليد ولا لقطع العنق!
أرى أنه لا يَحنو على المجرم ولا يُعطل القصاص إلا خائف منه على نفسه!
لقد قلت في مكان آخر: إن رب الحياة الخبير بدروبها ومتاهاتها وضع رسمًا لمعالم الطريق إذا التزمه الأحياء لم يضلوا. فما معنى الإعراض عنه؟
إن المصنع الذي أخرج الآلة وضَع تعليمات بطريقة استخدامها، فلماذا نرفض هذه التعليمات؟
إن خالق البشر أنزل أحكامًا محدَّدة، وقال لنا ونحن نسمعها: (يُبيِّنُ اللهُ لكم أن تَضلُّوا واللهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ) (النساء: 176).
فماذا نبغي؟ (أفحُكمَ الجاهليةِ يَبغون ومن أحسنُ من اللهِ حُكمًا لقومٍ يُوقنون) (المائدة: 50).
يظن بعض الجهَّال أن الحدود نقطة ضعف في الشرائع السماوية، ونَسُوا أنهم سوف يعانون القلق والترويع ما داموا يأبُون إقامتها، ولن يستريحوا إلا بعد إعلان السمع والطاعة.(1/296)
ولْأَشرَحْ ما أعني: إن الله يعلم ضعفنا ويتجاوز كثيرًا عن هفواتنا، ولو أخَذ المرءَ بأول عثراته ما نجا أحد من عقابه (ولو يؤاخِذُ اللهُ الناسَ بظلمِهم ما ترَك عليها من دابّةٍ) (النحل: 61).
إنه يمهل ويمهل، حتى إذا فاض الإناء فضَح وآلَم! وذلك ما أشار إليه عمر عندما استغاثته امرأة: يا أمير المؤمنين، ابني سرَق، وهذه أول مرة. فقال لها: كذَبتِ، إن الله لا يَفضَح عبدَه لأول مرة!
نعم، إن الله يستر كثيرًا، حتى إذا توقَّح المرء وتبجَّح جرَّه سوء أدبه إلى مصيره.
ومع ذلك، فإن الذي شرع الحدود ندب المؤمنين إلى الستر على المنحرفين، ومنحهم فرصة متاب لعلهم يَرعَوُون! فعن سعيد بن المسيب أن رجلًا من قبيلة أسلم اسمه "هَزَّال" شكا رجلًا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ متَّهِمًا إياه بالزنى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا هَزَّال، لو ستَرته بردائك لكان خيرًا لك".
وكانت هذه الشكوى قبل نزول آية القذف، وإلا لجلده النبي ثمانين جلدة.
والغريب أن الرجل المشكُوَّ الذي أمر الرسول بستره هو "ماعز" المؤمن التائب الذي أبى إلا أن يموت مطهَّرًا، كأن الرسول الكريم أُلهِم الدفاعَ عن رجل صالح يكره الإثم ويضيق باقترافه، وإن وقع فيه!
وفي إقامة الحدود جاء عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرَءُوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مَخرَجٌ فخَلُّوا عن سبيله، فإن الإمامَ أن يُخطئَ في العفو خيرٌ من أن يُخطئَ في العقوبة".
وقد كان حد السكر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضربًا مُهينًا يُوقع بالعِرْبيد الذي قُبض عليه، ثم رأى الصحابة بعدُ أن يُجلَد السكير أربعين أو ثمانين جلدة.
أما حد السرقة فهو قطع اليد، ولم يقل أحد: إن الجائع تُقطَع يده إذا سرَق ما يَقُوته. إنما تُقطَع يدُ البطال المعتدي على كسب الآخرين وكدحهم، والذي يبني سلوكه على الظلم والإفساد.(1/297)
ولا أرى سببًا لاحترام هذه اليد وتركها تؤذي وتَفجَع الناس في حقوقهم.
أما المسلحون المتظاهرون على النهب والسلب المتعاونون على الإثم والعدوان وقطع الطريق وإشاعة الفوضى، فإن قتلهم حق.
بَقيَ أن نقول: إن عقوبة الزنى صعبة التنفيذ، فإن المجيء بأربعة شهداء يَرَونَ وقوعها يكاد يستحيل، إلا إذا كان المجرمان في طريق عام عاريَيْن مفضوحَيْن لا يُباليان بأحد!
وعندما يتحول امرؤ إلى حيوان متجرد على هذا النحو الخسيس فلا مكان للدفاع عنه أو احترام إنسانيته.(1/298)
58 ـ ما الضرائب في الإسلام؟ وما نظامها؟
سمعت كلمة من صديق عاش في أوربا رَدْحًا من الزمن عجبت لها ولم أنسها، قال: إن يوم إقرار الموازنة العامة للدولة يكاد يكون يوم عيد! الفرحة عامة، والبِشر بادٍ على الوجوه!
قال: وفي بعض البلاد يقال لدافعي الضرائب: ادرُسوا تفاصيل الإنفاق، انظُروا أين وضعنا ما أخذنا منكم من مال!
لقد رُوعِيَت المصلحة العامة بأمانة وسُدَّت الثغرات، وكُفِلَت مدارس ومستشفيات، وفَرِحت طوائف، وتحققت آمال.. الخ.
نعم، أُخذ المال بحق، وأُعطيَ ببصر، ووُزِّع بعدل، فهناك لا تُفرَض ضريبة إلا بموافقة نواب الأمة، ولا تُصرَف إلا بهذه الموافقة.
تذكرت أنين "سديف" الشاعر الذي انضم إلى ثورة (النفس الذكية) وهو يقول:
اللهم قد صار فَيؤُنا دُولةً بعد القسمة ـ أي استأثر الأغنياء به فهو دُولةٌ بينهم ـ وإمارتنا غَلَبة بعد المشورة ـ يشكو الاستبداد السياسي ـ واشتُريَت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة ـ سوء التصرف في المال العام ـ وحُكِّم في أبشار المسلمين أهلُ الذمة ـ فهم نعم العون للأمير الجائر ـ وتولَّى القيام بأمورهم فاسقُ كل مَحِلّة ـ هكذا تقع الطيور على أشكالها ـ اللهم قد استَحصَد زرعُ الباطل وبلغ نهايته واستَجمَع طريده، اللهم فافتح له من الحق يدًا حاصدة تبدد شمله وتفرق أمره، ليظهر الحق في أحسن صوره وأتم نوره.
ما لي وهذا الأنين القديم؟
إن الشجا يبعث الشجا، كأن الزمان أو كأن الحاضر صورة الماضي في عالمنا الإسلامي المَهيض!
يُقصد بالضرائب المالُ الذي تأخذه الدولة من الجمهور في صور شتى ليعود ذلك المال مرة أخرى إلى الناس في صورة خدمات عامة وضمانات لوجود الأمة ورخائها، وصون مصالحها ودعم القائمين عليها.
ومن هنا كان أداء الضريبة لابد منه، وكان التهرب منه أشبه بالخيانة الوطنية.(1/299)
وفي البلاد الراشدة يَندُر كل النُّدرة أن تذهب حصيلة الضرائب في إجابة شهوة خاصة، من أجل ذلك ينظرون إلى المتهرب من الضرائب على أنه ارتكب ما يَحرِمه من المناصب الكبرى وما يَصِمُه بأردأ التهم!
وقد فرقنا في كتاب آخر بين الضريبة والزكاة، فإن الله فرض الصدقة تطهيرًا للنفس من رذيلة الشح، ومساعدةً للفقراء على رد الضوائق والأزمات، وإسهامًا في الدفاع عن العقيدة.. الخ.
وحدد القرآن الكريم مصاريف الزكاة في ثمانية أصناف لا يجوز أن تَعدُوَها إلى غيرها.
أما دائرة الضريبة فهي أوسع مصادرَ ومصارفَ، ومن حصيلة الضرائب يَنهَض الكيان السياسي والعسكري والحضاري للأمة، ومنها يُنفق الجهاز الإداري.
وقد تكثر الضرائب وترتفع نسبها خصوصًا أيام الحروب حتى تصل إلى 90% من الدخل العام.
أما الزكاة فموكولٌ إليها ابتداءً القضاءُ على البأساء والضراء، ومن مصارفها الثمانية سهمٌ قد يوجَّه للجهاد العسكري! لكنْ مغارم الجهاد قد تمتد لتشمل المال كله، والنفس معه.
ولعلك ترى من هذا أن ثَمّة تشابكًا بين دائرتَي الضريبة والزكاة، مع انفراد كل منهما بمجال تَختص به!
والأمم الكبرى ـ خصوصًا من لها نشاط عالمي ـ تَفتَنُّ في وضع الضرائب وتعديد أوعيتها وتَقرِن ذلك بأهداف قومية مباشرة وغير مباشرة.
والإسلام حدد نسب الزكاة ومستحقيها، لكن النشاط الإسلامي العالمي الممتد يفرض على المسلمين بذلًا لا يقف عند حد كي يبلِّغوا رسالات الله، ويُحسنوا الدفاع عنها.
وقد تأملت في مطالب التربية والتعليم، ومطالب الدعوة والثقافة، ومطالب الأسطول البحري والجوي، ومطالب الجيش وأسلحته الكثيرة، ومطالب الصناعات المدنية والعسكرية.. الخ فوجدت أن ذلك يتطلب أموالًا لا تَغيض منابعها، فأدركت معنى قوله تعالى: (إن اللهَ اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم) (التوبة: 111) وقولَه: (انفِروا خِفافًا وثِقالًا وجاهِدوا بأموالِكم وأنفسِكم في سبيلِ اللهِ) (التوبة: 41).(1/300)
ويظهر أن كلمة "النفقة" تشمل الصدقات المفروضة والنافلة، وتشمل أنواع البذل التي يَفرضها العملُ لله في شتى الميادين.
وربما تمر بالمسلمين أيام يُكلَّفون فيها بإنفاق ما يزيد عن حاجاتهم الخاصة، لا يستبقون شيئًا، استجابةً للآية الكريمة: (وَيَسْأَلُونَكُ ماذَا يُنفِقون قلِ العَفوَ) (البقرة: 219).
وهذا ما يقوم به الجهاز الضرائبي.
وقد تكون كلمة "ضريبة" بغيضة إلى الناس، وعلةُ ذلك ـ فيما بَلَوتُ ـ فسادُ الحكم في أغلب الأقطار الإسلامية، والتبذيرُ الشيطاني في المال العام، وقدرةُ الخائنين على العَبِّ منه دون حساب.
وقد رأينا أن الدول الأخرى معافاةٌ من هذا البلاء، وأن ما يؤخَذ من دافعي الضرائب يُنفَق في أرشد مواضعه ويُراقَب بعيون نافذة حادة.
وهكذا نرى المكثِرِين والمنتِجِين يَرعَوْنَ مصالح أممهم ويُعطُون دون مَنٍّ (وما يَفعَلوا من خيرٍ فلن يُكفَروه واللهُ عليمٌ بالمتقين) (آل عمران: 115).
وقد كنت فيما كتبت صدر حياتي أرى ذلك من مقتَضَيات الفطرة، وأفهمه من ظواهر الرأي، ثم وجدت أن فقهاءنا استنبطوه من القواعد المقررة في الشريعة!
قال الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي:
إنه يمكن إذا قَضَت ظروف الحرب فَرْضَ ضرائبَ على القادرين وأهل اليسار لتمويل الجهاد، وإمداد الجيوش وإعداد الحصون، وما إلى ذلك من احتياجات الحروب! إن الشرع يؤيد ذلك ويوجبه، كما نص على ذلك الفقهاء، وإن كان كثير منهم في الأحوال المعتادة لا يطالب الناس بحق في المال غير الزكاة.
واستدل الغزالي على ذلك بقوله:
لأنّا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران، وقصَد الشرعُ إلى دفع أسدِّ الضررين وأعظم الشرَّيْن، وما يؤديه كل واحد منهم ـ يعني المكلَّفين بهذه الضرائب ـ قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلَت بلاد الإسلام عن ذي شوكة يَحفَظ نظام الأمور ويَقطَع مادة الشرور.
قال الدكتور القرضاوي:(1/301)
مثلُ ذلك فكُّ أسرى المسلمين وتخليصُهم من قيود الكافرين وإذلالِهم، مهما كلَّف من أموال! قال الإمام مالك: يجب على كافة المسلمين فداءُ أسراهم وإن استغرَقَ ذلك أموالَهم. ذلك لأن كرامة هؤلاء الأسرى من كرامة الأمة الإسلامية، وكرامة الأمة فوق الحُرمة الخاصة لأموال الأفراد.
وهذا منطق سديد هُديَ إليه الفقهاء والدعاة والموجِّهون في تاريخنا العلمي، وسارت عليه الأمم الآن شرقًا وغربًا، فالحكومات الواعية قد تجعل من الضرائب شريان حياة كما تجعل منها أحيانًا جراحة شفاء وتجميل.
رأينا الضرائب تُزاد على أسباب الترف وأدوات الزينة، ولا بأس في ذلك، فالحصيلة ستكون سِنادًا للفقراء والمُعوِزِين.
ورأينا الضرائب تُفرَض على المصنوعات الأجنبية حماية للصناعة الوطنية، وهذا حسن، وقد نهضت في الهند صناعات توشك أن تحقق الاكتفاء الذاتي للهنود بسبب الضرائب الصارمة التي أوجبتها الدولة.
وإذا أُكرِه الجمهور على استخدامِ أدوات أو سِلعٍ غيرِ جيدة، فإن سنة الارتقاء ستصل بها إلى المستوى المنشود يومًا ما.
على أية حال لابد أن نذكر أن الدولة الإسلامية مربوطة بمبادئ وآداب وأهداف لا يمكن تجاهلها، في الداخل والخارج على سواء!
وربما بلغت الدولة بعض غاياتها بوسائل قريبة، كما حدث مِن تآخٍ بين المهاجرين والأنصار على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو على نحو ما فكر عمر بن الخطاب عندما قال: لو لم أجد للناس ما يَسَعُهم إلا أن أُدخِلَ على أهلِ كلِّ بيتٍ عدَدَهم فيقاسموهم أنصافَ بطونهم، حتى يأتيَ الله بالحيا لفعلتُ، فإنهم لن يَهلِكوا على أنصاف بطونهم!
لكنْ هذه الوسائل قد تصعُب الآن، والبديل المحتوم عنها هو الضريبة التي تمكِّن الحكومة من مباشرة الإطعام والإيواء، وإمداد المحتاجين بما يسعفهم ويصونهم ماديًّا وأدبيًّا.(1/302)
وما يقال في مطالب السلام يقال مثله في مطالب الحروب، لاسيما وقد أحاطت بنا الذئاب من كل فّجٍّ، وسُمِع لعُوائها طنين رهيب! ولن يأسَى مؤمن على مال يذهب في هدف شريف.(1/303)
59 ـ كيف يحقق الإسلام التوازن الاقتصادي في المجتمع؟
لا يرتاب عاقل في أن الإسلام منح الفرد حق التملك ما دام السبب مشروعًا، قال الله تعالى: (أو لم يَرَوْا أنا خلَقنا لهم مما عَمِلَت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون. وذلَّلناها لهم فمنها رَكوبُهم ومنها يأكلون. ولهم فيها منافعُ ومشاربُ أفلا يَشكرون) (يس: 71ـ73).
وقد رغَّب الواجدين أولي السَّعة أن يُؤتوا غيرَهم ويَشرَكوهم في نعمة الله لديهم (وآتُوهم من مالِ اللهِ الذي آتاكم) (النور: 33).
ورهب ـ سبحانه ـ من تسليط اليد السفيهة على المال تُرِيقه في العبث، وتهدد المصالح المرتبطة به القائمة عليه (ولا تُؤتوا السفهاءَ أموالَكم التي جعَل اللهُ لكم قِيامًا) (النساء: 5).
ونادى ـ تبارك اسمه ـ جماهير المؤمنين أن يَستَعِفُّوا عن المحارم، وألا تكون معاملاتهم انتهابًا وشَرَهًا، بل يجب أن تكون عن طيب نفس وعن رضًا قلبي (يا أيها الذين آمَنوا لا تأكلوا أموالَكم بينكم بالباطلِ إلا أن تكونَ تجارةً عن تراضٍ منكم).
والواقع أن ازدهار العمران وتوقُّد المَلَكات وتضاعف الإنتاج إنما يجيء مع سباق الحوافز الخاصة، ورغبة البشر في الكسب والمزيد من الكسب لأنفسهم وأولادهم.
وقد أقر الإسلام حرية التملك، وإن كان قد أثقلها بالقيود التي تمنع سطوة الأنانية وطغيان الاستغناء.
والشيوعية تلعن الملكية الخاصة، وتجعلها مسئولة عن المظالم الاجتماعية قديمها وحديثها!
وقد تكونت للشيوعية بشِقَّيها الاقتصادي والفلسفي الإلحادي دولٌ كبيرة، والذي يعنيني ـ أنا المسلم المؤمن بالله وكتبه ورسله ـ أمران، أحدهما أهم وأخطر من الآخر:
الأول: إثبات معالم الإيمان جملةً وتفصيلًا. فلا هوادة في جحد الألوهية وإنكار الوحي الأعلى.
الثاني: احترام الملكية الصحيحة ورفض ما عداها من تملُّكٍ أساسُه السحتُ والاغتصابُ وضروبُ الاستغلال السيئ.(1/304)
وإنما أقرر ذلك لأن هناك ناسًا يزعمون الإسلام ـ ويعلم الله ما في قلوبهم ـ ثم يتخوَّضون في مال الله تخوُّضًا رهيبًا، فلا يتركون منه إلا ما عجزوا عن حمله! ولا يبالون من أين اكتسبوا! ولا يَرِقُّون لضعيفٍ داسُوه وهم يجمعون، ولا يكترثون لمحتاج يرنو إليهم ابتغاء معونة!
يقول أولئك: إنهم يحاربون الشيوعية لأنها ضد الدين!
وهم الطريق المُوصِّل إليها والمُغرِي بها! والدين الذي يذكرونه بعيد عن أخلاقهم وأعمالهم!
على أية حال نحن نحامي عن الإسلام الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد، ونأبى أن تبقى رسالته العظمى في وصاية نفر من المُترَفين والمَتْخُومِين: (ونريدُ أن نَمُنَّ على الذين استُضعِفوا في الأرضِ ونَجعلَهم أئمةً ونَجعلَهم الوارثينَ. ونُمَكِّنَ لهم في الأرضِ) (القصص: 5،6).
ومن الصعب فصل الاقتصاد عن السياسية، ومن هنا فإنك حيث تجد الخلل السياسي تجد الإثراء الحرام، واستغلال السلطة إلى أبعد الآماد، وسَوْقَ المغانم إلى الأقارب والأتباع والحواشي.
وأرى أن طهارة الربح أصل عظيم لصلاح المجتمع، وأن مصادرة الأملاك التي سُرقت من حقوق الآخرين تُعيد إلى النفوس والأوضاع قدرًا كبيرًا من الاستقرار والتوازن!
إن رأي الأجانب في أساليب الربح والخسارة والغنى والفقر في بلادنا يُنكِّس رؤوس الدعاة ويُلصِق بالإسلام تهمًا هو منها بَرَاء.
وقد سردنا النصوص في تحريم النهب والغش والاحتكار والاستغلال في أماكن من كتبنا.
والمال المكسوب من حلال تجب فيه حقوق شتى أولها الزكاة، ومكانتها في الإسلام كبيرة، والغاية منها قطع دابر البأساء والضراء، وإبداء العون الذي يحقق للفقراء الاكتفاء الذاتي.
وتدبر قول الرسول الكريم: "ألا رجلٌ يَمنَحُ أهلَ بيتٍ ناقةً تَغدو بعُسٍّ" قدح كبير "وتَروحُ بعُسٍّ! إن أجرَها لعظيمٌ".(1/305)
أي: توفر لأهل البيت مقدارًا سخيًّا من اللبن في الصباح والمساء، وبذلك تتم تغذيتهم!
إن الصورة المعروفة للزكاة يدٌ تمتد ذليلة سائلة لتتلقى فُتاتًا يسد حاجه اليوم، ثم تكرر الضراعة والطلب لتسد حاجة الغد، وهكذا دَوالَيكَ!
وتلك ـ لعَمرُ الله ـ صورة مستَكرَهة، إن الإسلام أول دين قاتل لاستخراج حق الله في المال، ثم تولت الدولة إعطاء من ترى بهم حاجة.
لكن كيف تعطي؟ وكم؟
يجيب الدكتور يوسف القرضاوي على ذلك في تفصيل نقتبس منه هذه السطور (نعُدُّ نحن كتاب "فقه الزكاة" أعظم ما أُلِّف في موضوعه في تاريخنا العلمي):
"فهناك المذهب الذي رجحه الغزالي ـ وهو مذهب المالكية وجمهور الحنابلة وبعض الشافعية ـ وهو أن يأخذ المحتاج ما يتمم كفايته من وقت الأخذ إلى سنة مستَقبَلة. أي نفقة عام كامل. قال الغزالي: فهذا أقصى ما يُرخَّص فيه من حيث إن السنة إذا تكررت تكررت أسباب الدخل، ومن حيث إن الرسول الكريم ادخر لعياله قوت سنة. والقائلون بهذا الرأي يذكرون أن كفاية السنة ليس لها حد معين تقف عنده؛ فإن كانت لا تتم إلا بإعطاء الفقير الواحد أكثر من نصاب، من نقود أو حرث أو ماشية، أخذ من الزكاة ذلك القدر وإن صار به غنيًّا، لأنه حين الدفع إليه كان فقيرًا مستَحِقًّا".
من الطرائف التي ذكرها صاحب الكتاب الجليل "فقه الزكاة" أن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أمر من ينادي في الناس كل يوم: أين المساكين؟ أين الغارمون؟ أين الناكحون؟
يعني طالبي الزواج الذين لا مهر معهم، فإن بيت مال المسلمين يساعد على الزواج وإيتاء المهر!
ثم ذكر الأستاذ رأيًا آخر للفقهاء في القدر الذي يُمنَح من الزكاة، هذا القدر ليس كفايةَ عامٍ كما ذكرنا، إنه كفاية العمر، قال: "وهذا الرأي هو الذي نص عليه الشافعي في "الأم" واختاره جم غفير من أصحابه".(1/306)
إن الإسلام دين طبيعي يحارب السرقة بتموين الناس! ويحارب الزنى بتزويج الراغبين في العفاف! ويسخِّر تعاليمه المالية لتحقيق أهدافه الخلُقية وضبط المسار الاجتماعي حتى لا يَعوَجَّ أو يَزِيغ.
على أن دائرة الزكاة مهما اتسعت فينبغي أن ألا نَعدوَ بها حدودها، قد تكون الزكاة عونًا للعاجزين، ولكنها مساعدة مؤقتة للعاطلين إلى أن يجدوا العمل!
وقد جاء في الحديث: "لا تجوز الزكاة على ذي مِرَّةٍ سَوِىٍّ" أي أن الرجلَ السليمَ الخِلْقةُ السَّوِيَّ الحواسُّ والأعضاءُ يَتجهُ إلى العمل ليَتكسبَ منه ويَقوتَ أهلَه!
ولا ننسى أن الزكاة نفسها هي فضولُ مَن عَمِلوا وكَسَبوا وادَّخَروا، فالعمل هو المصدر الأساسي للثروة، وعلى الدولة أن تمهد ميادينه لكل قادر، وأن تحارب البِطَالة بكل ما لديها من قوة.
وأجدني مكلَّفًا بمصارحة قومي، وإن ساءتهم هذه المصارحة:
إن غيرهم من الناس كان أجلَدَ منهم على العمل، وأبصَرَ بأسبابه، وأَحيَلَ على معالجته والنجاح فيه ونيل الغني الباذخ منه!
وقد تساءلت عن سر ذلك فوجدت أن تقاليد البدو تسللت إلى تعاليم الإسلام وتقاليد المسلمين فوقفت بأمتنا، على حين تحرك غيرها وسبق سبقًا بعيدًا.
والبدو يحتقرون الفلاحة ويَزدَرون الحِرَف، ومجالس الأعراب ملأى بالمفاخرات والمنافرات والتطاول بالرياسة والتنزه عن عدد من الصناعات!
فالفرزدق يهجو جريرًا لأن أباه حداد! أما مُجاشِع جد الفرزدق فلا تدري مم يأكل!
وإلى أمد قريب كان ابن عمدة القرية آصَلَ من ابن طبيب القرية أو ابن شرطيِّها!
واليد الملوَّثة بالنِّفط والقارِ مؤخَّرة عن اليد التي تَقبِض النقود حصيلة كدح هذا وذلك!
وربما وصل هذا التفاوت إلى عقود الزواج فعُدَّ ابنُ هذا ليس كُفئًا لبنت ذاك، ونُسب ذلك كله إلى الإسلام!(1/307)
إن المجتمع الإسلامي يجب أن يعاد تشكيله وَفْقَ القانون الإلهي الفذ (اعمَلوا فسيرى اللهُ عملَكم...) (التوبة: 105) أما عوائد المترَفين والقاعدين فَلْتُطوَّحْ معهم إلى الجحيم.(1/308)
60 ـ ما موقف الإسلام من نظام المصارف الحالي؟ وما البديل الذي يقدمه؟
المتأمل في أعمال هذه البنوك يجد بعضها حلالًا محضًا والآخر حرامًا لا ريب فيه، وهناك أعمال يمكن بتعديلات يسيرة أن تأخذ الصورة المشروعة.
ومن هنا شرَع الاقتصاديون المسلمون يرفعون قواعد المصارف على أسس من الفقه الإسلامي، ففي هذا الفقه عقدُ المضاربة الذي يتم بين الخبرة من ناحية ورأس المال من ناحية أخرى. كما أن في هذا الفقه قواعدَ ممهِّدة للصَّرف والحَوالات والضمان والوَكالة وغير ذلك.
ثم إن جماهير المسلمين راغبة كلَّ الرغبة في أن تُبعد طُعْمتها عن الشبهة فضلًا عن الحرام، لذلك ما كادوا يسمعون عن مَصرِف إسلامي حتى سارعوا إلى الإسهام فيه!
وقد نهضت الآن عدة مصارف في وجه مقاومةٍ منظَّمةٍ من البنوك العالمية التي لا يسرها ما حدث!
وقد قرأت كلمات لرؤساء المصارف الإسلامية تشرح وظائفها وعلائقها بالمؤسسات الاقتصادية الأخرى، أرى أنها تُلقي أضواء على الموضوع كله، فالأستاذ "سعيد لوتاه" رئيس المصرف الإسلامي "بدبي" يقول (بتلخيص قريب من الأصل):
إن أنشطة هذه المصارف هي الترجمة العملية للنظام الاقتصادي الإسلامي في أيسر صوره، نحن نقوم بدور الوسيط بين المال ورجل الأعمال في كل المجالات، وذلك في نطاق محكَم من تعاليم الشريعة، وتقدير عملي لحاجات الأفراد، أي أننا نربط الفكر النظري بالواقع.
وفي العلاقة مع البنوك الربوية يقول:
هناك فاصل لا يمكن تخطيه، فنحن لا نأخذ فائدة، والربا عندنا محرم في كل قرض سواء للاستهلاك أو الإنتاج.
ويمكن أن نتعامل مع البنوك الأخرى في الحسابات الجارية، وتحويل العملات، وصرف الصكوك "الشيكات" وخطابات الضمان، وأنواع الكفالات، فهذه كلها أعمال مصرفية جائزة شرعًا.(1/309)
ويقول الأستاذ أحمد أمين فؤاد رئيس المصرف الإسلامي الدولي للتنمية والاستثمار السابق: إن المال والكون كله ملك لله سبحانه، وقد استخلفنا الله في هذا المال ليرى كيف نكتسبه وكيف ننفقه، فما يجوز أن نتملكه من وجه محرم ولا أن ننفقه على نحو سيئ، كما لا يجوز أن يكون تداول المال في المجتمع على نحو يزلزل قواعد الأخلاق ويهدد كرامة البشر، فالمال أداة لخدمة الإنسان وليس الإنسان عبدَ المال.
والمفروض أن يَكدَح المرء ويخاطر لينجح لا أن يحاول الربح دون جهد يذكر. والمصارف الإسلامية وهي تعطي المال لطالبه تشارك في رسم الخطة وتقدير الظروف وتحمل المسئولية، أما البنوك الربوية فهي تتنصل من هذا كله وتحتمي وراء ضمان الفائدة وحسب! وقد كان نتاج الأسلوب الربوي مريرًا، وانطبق عليه قوله تعالى: (يَمحَق اللهُ الربا).
كيف كان هذا المحق؟
ننظر إلى الدول المدينة والدول الدائنة على مدى أربعة أجيال من القروض الدولية!
إن الدول النامية ـ المقتَرِضة ـ تتدحرج من سيئ إلى أسوأ، وها هي ذي قد أوقفت برامج التنمية، وعجزت عن سداد الأقساط والفوائد المقررة، ويوشك أغلبها أن يعلن إفلاسه.
أما الدول الدائنة فقد كانت فرحة بقدرتها على الإقراض وفرصتها في أكل الربا، ثم ذاقت وبال أمرها بعد تدهور أحوال المَدِين وظهور عجزه.
حتى إعادة جدولة الديون لا تحقق خيرًا، فإن هذه الإعادة تؤدي إلى خسارة 80% من القيمة الأصلية للدين.
ولو طُبِّقت الأنظمة المحاسَبية على هذه المؤسسات لأعلنت إفلاسها.
أليس هذا هو المحق الذي توعَّد القرآن به المُرَابين!(1/310)
61 ـ ما هي حدود الكسب الحلال في التجارة؟ وكيف يضع الشارع حدًّا لأرباح التجار؟
التجارة باب عظيم من أبواب الثراء في الدنيا، كما هي ميدان فسيح للنشاط العمراني وتنقيل الخيرات بين أرجاء الأرض.
والعجيب أنها كذلك باب عظيم إلى الثراء في الآخرة ورِفعة المكانة عند الله، وحسبنا في ذلك قول الرسول الكريم: "التاجرُ الأمينُ الصَّدوقُ مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين".
وقد وقفت مليًّا أمام حديث آخر يُشيد بخلق السماحة والرحمة في معاملة التاجر لغيره، وبهَرني ما ذكَر من مثوبةٍ لهذه الخلال، فعن حذيفة وأبي مسعود البدري أنهما سمعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن رجلًا ممن كان قبلكم أتاه الملَكُ ليَقبضَ روحَه، فقال له: هل فعلت من خير؟ قال: ما أعلم. قيل له: انظُر. قال: ما أعلم شيئًا، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا فأُنظِرُ المُوسِر وأتجاوَزُ عن المُعسِر. فأدخله الله الجنة".
والمعروف أن قوم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانوا يشتغلون بالتجارة، بل لعلها كانت مصدر رزقهم وعماد معايشهم، وكانت حركتهم ناشطة بين اليمن والشام، وبين فارس والروم.
وقد شارك النبي نفسه في بعض الرحلات التجارية، وعاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العمل في هذا المجال عمره الأول، وكذلك كان صَحْبُه!
ولما كان العرب يُمسون ويُصبحون في هذا الجو التجاري المشغول بالأرباح والمغامرات فإن لغة الوحي اتجهت إليهم من هذه الزاوية: (هل أدلُّكم على تجارةٍ تُنْجيكم من عذابٍ أليمٍ. تؤمنون باللهِ ورسولِه وتجاهدون في سبيلِ اللهِ بأموالِكم وأنفسِكم) (الصف: 10،11).
وفي وصف المنافقين وعبيد الدنيا وطلاب المآرب الخاصة يقول سبحانه: (أولئك الذين اشتَرَوا الضلالةَ بالهُدَى فما رَبِحَت تجارتُهم وما كانوا مُهتَدين) (البقرة: 16).(1/311)
والتجارة على كل حال ينبغي أن تكون شريفة الوسائل نبيلة المسالك، وفي صيحة تحذير من الغش والخداع والجشع يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن التجَّار يُبعَثون فُجَّارًا يوم القيامة، إلا مَن اتَّقَى اللهَ وبَرَّ وصدَق".
ومعروف أن التاجر يشتري السلعة بثمنٍ ما، ولكنه عندما يضع لها سعرًا للبيع يضيف إلى ثمنها الأصلي نفقاتِ النقل والتخزين، ثم الربحَ الذي يقيم عليه حياته، وقد يضيف إلى ذلك زيادةً ما لضمان غَدِه!
إن التاجر ليس موظفًا حكوميًّا له أجره الرتيب، وله مدخرات تكفُل معاشه بعد ترك الوظيفة، كلا، إن الميدان الذي يعمل فيه يقوم على المخاطرة، وبَدَهي أن يحتال التاجر ليحفظ حاضره ومستقبله جميعًا.
والناس تعلم ذلك وترضى به في نطاق الاعتدال، وإن كان هناك من يغالي في تقدير أجره على تعبه أو يغالي في مستوى العيش الذي ينشده!
وفي ربح التجارة يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا لا تأكلوا أموالَكم بينَكم بالباطلِ إلا أن تكونَ تجارةً عن تَرَاضٍ منكم) (النساء: 29).
وللشيخ محمد عبده تفسير غريب لهذه الآية، فهو يقول:
إنما استثنى الله التجارة من عموم الأموال التي يجري فيها الأكل بالباطل ـ أي بدون مقابل ـ لأن معظم أنواعها يدخل فيه الأكل بالباطل! فإن تحديدَ قيمة الشيء وجَعلَ ثمنه على قدره بقسطاسٍ مستقيمٍ عزيزٌ عسيرٌ إن لم يكن مُحالًا! فالمرادُ من الاستثناءِ التسامحُ بما يكون فيه أحد العِوَضين أكبر من الآخر، وما يكون سببُ التعارض فيه براعةَ التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع ولا تغرير. فإن المرء قد يشتري الشيء من غير حاجة مُلِحَّة إليه، وقد يشتريه بثمن يعلم أنه أكبر مما يباع به في مكان آخر، ولا يكون لذلك سبب إلا أن البائع أمهر وأقدر، مع بعده عن الغش ومحافظته على الصدق!
قال الشيخ:(1/312)
فيكون هذا الكسب من باطل التجارة التي تمت بالتراضي، وهو ما استثنته الآية الكريمة! والحكمةُ في إباحته الترغيبُ في التجارة لشدة الحاجة إليها، وتنبيه الناس إلى استعمال ما أوتوا من ذكاء في اختيار الأشياء، وضبط المعاملات، وحفظ أموالهم التي جعلها الله لهم قيامًا أن يذهب شيء منها بالباطل.
ثم قال:
فعلى هذا يكون الاستثناء متصلًا خرَج به الربح الكبير الذي يحصل عليه التاجر من غير غش ولا تغرير، بل تم بتراضٍ لم تنخدع فيه إرادة المغبون.
ولو لم يُبِحِ الشارع مثل هذا لما رَغِب في التجارة ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين.. الخ.
وقد ناقش الدكتور محمد زكي عبد البر هذا الكلام ورفضه، وفسر التراضيَ بأنه ركن التجارة المباحة، ويعني طِيبَ النفس بالأخذ والإعطاء، فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ مسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه".
قال الدكتور:
لا نذهب إلى ما ذهب إليه الأستاذ الإمام من مشروعية التجارة عن تراضٍ ولو كان بها شيء من الباطل ترغيبًا في التجارة لشدة الحاجة إليها؛ لأن القول بالمشروعية يتنافى مع الباطل، ولأن الأمر إذا شُرِع لا يُعَدُّ باطلًا، وإذا كان باطلًا لا يكون مشروعًا.. الخ.
ويبقى بعد ذلك كله السؤال الوارد:
أليس لأرباح التجار حدٌّ تقف عنده وتَحرُم بعده؟
ربما لا نجد نصًّا صريحًا في تحديد الربح، والذي نراه أن الظروف الطبيعية تقف بالمكاسب عادة عند حدود الاعتدال!
لكنّ نفرًا من التجار يحاول السيطرة على هذه الظروف والتلاعب بقانون العرض والطلب، ويصل إلى غايته بالاحتكار المتعمَّد للسلع حتى يبيعها بأضعاف سعرها.
والاحتكار جريمة خلُقية واجتماعية، وهو أقصر طريق لأكل أموال الناس بالباطل وإشباع النَّهَم الفردي من حاجة ذوي الحاجات.(1/313)
ولعل من أدهى العلل التي وَفَدت بها الحضارة الحديثة حَرْقَ بعض المحاصيل الزراعية حتى لا يَرخُصَ السعر الذي حدده الباعة! والكفرُ كالجنون، فنونٌ!
بعد ما تبينت ضخامة الأرباح التي تَجنيها الشركات المحتَكِرة فهمت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ" وما رُوي عنه: "يُحشَر الحاكرون وقَتَلَةُ الأنفس في درجة. ومن دخل في شيء من سعر المسلمين يُغليه عليهم كان حقًّا على الله تعالى أن يعذبه في معظم النار يوم القيامة". وكذلك ما جاء عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من رواية معاذ بن جبل: "بئس العبدُ المحتَكِرُ؛ إن أرخَص اللهُ تعالى الأسعارَ حَزِن، وإن أغلاها فَرِح".
وقد رأى الشيوعيون إلغاء التجارة لِمَا رأَوه من جشع أغلب التجار، وعيَّنوا من يوزع السلع بعد نقلها من مواطن إنتاجها إلى مواطن استهلاكها.
وهذا الحل لا يُجدي في تلبية الرغبات العامة، ولا يتجاوب مع الحريات الطبيعية، وهو جزء من خطة في العيش لم تَحْظَ برضا الجمهور، فبقيت في حراسة السلاح!
والذي نراه إبقاءُ سوق العرض والطلب، وإطلاقُ المنافسة الحرة بين الأفراد والشركات، وتدخُّلُ الدولة بالتسعير الجبري إذا أحست سوء الاستغلال!
ويبقى أمر له وزنه الكبير وإن مارَى فيه البعض، أعني وازع الدين وقانون الأخلاق! فإن زكاة النفوس في جو التربية السليمة والحريات المكفولة يمنع أنواعًا من البلاء، ويجعل التجارة في إطار الحديث الشريف: "رَحِم اللهُ رجلًا سَمْحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضى".
ومن لطائف عمر بن الخطاب أنه قال: لا بيعَ في سوقِنا إلا لمن قد تَفَقَّه في الدين!(1/314)
62 ـ ما دام الدين واحدًا فلماذا تتعدد حركات التجديد وتكثر مناهج المصلِحين؟
شرائع الإسلام لا يُغني بعضها عن بعض، ومعالمه الكاملة تؤخذ من نصوصه وقواعده وفروضه ونوافله في صورة متسقة على حسب الوضع الإلهي الذي أتت به.
غير أن المسلمين قد يسيئون إلى الموضوع أو الشكل، وقد ينحرفون عن الأصل أو الفرع! والعلل التي تصيبهم شتى.
وهناك عينان حَمِئتان تَسيلان بالشرور في واقع المسلمين المعاصر:
إحداهما من الاضطراب الداخلي في ثقافتنا وسياستنا، وهو اضطراب قديم مضت على جراثيمه قرون.
والأخرى من الاستعمار الخارجي الدائب على محو شخصيتنا وهدم قواعدنا وحَيْكِ المؤامرات في كل ميدان ضدنا.
ومن ثَمّ تتغاير الأدواء التي يحاصرها المصلحون ويبغون شفاء الأمة منها، واهتمام أحدهم بوضعٍ ما وجده في بيئته لا يعني قلة اكتراثه بالأوضاع الأخرى.
إن الظروف التي يواجهها هي التي تحكم عليه بمنهج معين يتخصص فيه ويُعرَف به.
رفع محمد بن عبد الوهاب شعار التوحيد، وحُقَّ له أن يفعل؛ فقد وجد نفسه في بيئة تعبد القبور، وتطلب من موتاها ما لا يُطلَب إلا من الله سبحانه.
وقد رأيت بعيني من يقبِّلون الأعتاب، ويتمسحون بالأبواب، ويجأرون بدعاء فلان أو فلان كي يفعل لهم كذا وكذا!
ما هذا الزيغ؟
ما الذي أنسَى هؤلاء ربَّهم وصرفهم عن النطق باسمه والتعلق به؟
وماذا يرجو العبيد من عبد مثلهم لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؟
إنه لو كان حيًّا ما مَلَكَ لهم شيئًا، فكيف وهو ميت؟
وتذكرت قوله تعالى: (ومن أَضَلُّ ممن يَدعو مِن دونِ اللهِ مَن لا يَستجيبُ له إلى يومِ القيامةِ وهم عن دعائهم غافلون) (الأحقاف: 5) وقوله: (أم اتَّخَذوا من دونه أولياءَ فاللهُ هو الوليُّ وهو يُحيي الموتى وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ) (الشورى: 9).
إن هذا المسلك ينافي جملة وتفصيلًا عقيدة التوحيد! وإنكارُه واجبُ كل مؤمن غيور.(1/315)
بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا فأقول: كل إنسان له بشخص ما أو بشيء ما صلةٌ تشبه من كل ناحية صلةَ المشرِك القديم باللات والعزى فهو مثله وحكمه حكمه.
لقد رأيت من يَهاب بشرًا أكثرَ مما يَهاب اللهَ، ومن يرجوه أكثر مما يرجو الله، فكيف أعُدُّ هذا مؤمنًا وليس في قلبه اتجاه إلى الله! إن قلبه خالٍ من ربه مليءٌ بغيره، فلماذا يكون خيرًا ممن عبَد اللاتِ أو عبَد العُزَّى!
الذي أراه أن عبادة القبور وعبادة القصور ـ أعني عبادة الأموات وعبادة الأحياء ـ آثار متشابهة وخواتيمها سوء!
إن رفع شعار التوحيد هنا إصلاح عظيم لعِوَجٍ هائل، فهل معنى ذلك أن الإصلاح كله يقف عند رفع هذا الشعار؟
كلا، هناك إصلاحات خلقية واجتماعية واقتصادية وسياسية لا يتم الدين إلا بها!
وقد توفَّر رجال آخرون على هذه الإصلاحات وبذلوا فيها جهودًا مشكورة، وفي مقدمة أولئك الرجال مقاومو الفساد السياسي، ورافضو الفرعونية والهِرَقْلية في تاريخنا المديد.
لقد قُتل من هؤلاء المجاهدين من قُتل وعُذب من عُذب، وبقيت حياتهم أسوة حسنة لرواد الخير وحماة الحق.
وفي عصرنا هذا أئمة استُشهدوا وهم يحاربون الاستبداد السياسي، ويستنقذون حقوق الإنسان من براثن الجبابرة.
وَلْأَشْرَحْ هنا موقفًا اضطرَب فيه المتكلمون باسم الإسلام:
إن الإسلام يرفض الانحراف عن الحاكم إذا كان لغرض خسيس!
نعم، هناك قوم ينظرون إلى مغانم الحكم باشتهاء (فإن أُعطُوا منها رَضُوا وإن لم يُعطَوا منها إذا هم يَسخَطون).
ومعارضة هؤلاء للحاكم محقورة منكورة، لا نكترث بها، بل قد نشجبها.
وهناك معارضون أغبياء، يهدمون من أجل شيء تافه بنيانًا قائمًا، ولا يَدرُون شيئًا عن عواقب الأمور.
تأملت في ثورة الخوارج على عليِّ بن أبي طالب، إن قرار التحكيم الذي قبله لم يعجبهم، فقاتلوه حتى قتلوه، وانتهى تمردهم بقيام نظام ملكي أجهز عليهم دون رحمة!(1/316)
ماذا عليهم لو قبلوا القرار وبقُوا مع أمير المؤمنين حتى استقر له الأمر؟
أليس ذلك خيرًا مما حدث؟
وهناك معارضة تُضعِف الدولة أمام خصومها، وقد تهدد وجودها ورسالتها، إن هذه معارضة سيئة بلا ريب.
وقد رفض الإسلام كل معارضة من هذا القبيل، فهل معنى هذا إعطاءُ الحكم الفردي الأعمى ضماناتٍ أبدية لبقائه والدفاع عنه؟
هل معنى ذلك أن الإسلام يسكت عن حكمٍ يغتال الحقوق، ويُذِلُّ النفس، ويعطل الحدود، ويستَحلُّ الحرمات؟
كلا.
وأمامي الآن فتوى جبانة مضلِّلة، تُلبِس الحق بالباطل، وتحرِّف الكلم عن مواضعه.
فتحت عنوان: هل تجوز منازعة الإمام الجائر؟ جاءت هذه الكلمات:
ذهبت طائفة من المعتزلة وعامة الخوارج إلى منازعة الجائر، وأما أهل الحق ـ وهم أهل السنة والأثر ـ فقالوا: الصبر على طاعة الجائر أولَى، والأصول تشهد أن أعظم المكروهَيْن أولاهما بالترك. فقال عياض: وأحاديث مسلم كلها حجة على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "أطِعهم وإن أخَذوا مالَك وضرَبوا ظَهرَك" وقال الطَّرطوشي في سراجه: حديث أبي داود عظيم الموقع في هذا الباب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطلُبون منكم ما لا يجب عليكم، فإذا سألوا ذلك فأعطوهم ولا تسبُّوهم" أي ندفع لهم ما طلبوا من الظلم ولا ننازعهم، ونكف ألسنتنا عنهم. وقال ابن العربي: السلطان نائب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجب له ما يجب لرسول الله من التعظيم والحرمة والطاعة! ويزيد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا بحرمة زائدة، لكن لعلة حادثة بأوجه، منها الصبر على أذاه، ويُدعَى له عند فساده بصلاحه.
وقيل لمالك: الرجل عنده علم بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: يخبر بالسنة، فإن سُمع منه وإلا سكت. قيل: فينصح السلطان؟ قال: إن رجا أن يسمعه، وإلا فهو في سعة.
والواقع أن الجبن وحب الحياة ومهادنة الضلال تَقطُر من كلمات هذه الفتوى، وما تربِّي إلا أذنابًا للحاكمين وحواشيَ للمستبدين.(1/317)
وما سقتُها إلا لأنها تصور الفكر السائد عند جمهور من المتديِّنين، وهو الفكر الذي حاربه زعماء الإصلاح وأئمة العلم وبيَّنوا بُعده السحيق عن دين الله.
وما أدري كيف يكتب هذه الكلمات من يعرف أن الدين النصيحةُ ومقاومةُ المنكر! وأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر! وأن الأمة إذا هابت أن تقول للظالم: "يا ظالم" فقد ماتت موتًا ماديًّا وأدبيًّا!
هل قرأ مصدر هذه الفتوى قوله تعالى: (ولا تَركَنوا إلى الذين ظلَموا فتَمَسَّكم النارُ وما لكم من دونِ اللهِ أولياءُ ثم لا تُنصَرون)؟ (هود: 113).
إننا لم ننصره من عدة قرون لشيوع الظلم بين المسلمين، وكثرة من يداهنون الجائرين ويأكلون على موائدهم!
في بني إسرائيل ـ وهم من هم ـ دعا القاضي "كاهان" رئيسَ الحكومة فمثَل بين يديه، ثم دعاه مرة أخرى وأنذره إن تأخر، فجاء رئيس الحكومة طائعًا، ثم صدر الحكم ضده وضد من معه.
وقال الناس: يستحيل أن يقع هذا في بلد عربي! وأردفوا ساخرين: الماء لا يجري إلى أعلى! قلت: وبركات السماء لا تنزل على الأدنى.
إن الاستبداد السياسي أعمى المسلمين عن حقائق الكتاب والسنة، فغَشِيَهم من الضياع ما غشيهم.
والإصلاح في الميدان السياسي كالإصلاح في الميدان العقائدي، له رجاله المرموقون.
وهناك الإصلاح في الميدان الثقافي، وغايته ـ كما أرى ـ إعادة الرشد إلى العقل الإسلامي الذي كاد يفقد وعيه بعد غيبوبة طالت وتراكمت آثارها، وأمسى المسلمون معها لا يعرفون رأسًا من ذَنَب في أفق المعرفة الدينية، وأمسَوْا عالةً على غيرهم في علوم الكون والحياة.
إن الله يبعث رسله من أنفَس السلالات البشرية مَعدِنًا وأحدِّها ذكاءً وفطنةً، والغريب في الأمة الإسلامية أنها كادت تَحصُر علوم الدين بين الغوغاء والهَمَل، وتكاد تلاوة القرآن الكريم تكون حرفة لأشباه المتسولين! فهل نجني من ذلك إلا المر!(1/318)
ولما كنت جنديًّا في جيش الدعاة الإسلاميين فإني مضاعَف الحس بما يعاني الإسلاميُّ من بلبلة وغموض في قضايا شديدة الوضوح، ففي ميدان التربية فوضى أثارها متصوفون، وفي ميدان التشريع فوضى أثارها مُتَفقِّهون، وفي ميدان التعليم فوضى أثارها قاصرون، حتى لأكاد أقول: ما يبدأ الإصلاح إلا من هنا!
وسواء بدأ الإصلاح ثقافيًّا أو سياسيًّا، فإن المسار واحد لابد أن يَلتقيَ على صعيده المخلِصون وإن تباينت نقط الابتداء، وستجني الأمة منه أطيب الثمر!(1/319)
63 ـ ماذا عن أحاديث آخر الزمان؟ وهل لها دلالات معينة؟
قبل أن ينتهي أجل الدنيا وتتلاشى الحياة فوق هذا الكوكب ستقع أشياء كثيرة مثيرة، بعضها يتصل بالأمة الإسلامية التي كُلِّفت بهداية العالمين وفرَّطت في هذا التكليف! وبعضها يمس الناس كلهم الذين خلقهم الله لعبادته فآثروا عبادة أنفسهم، وجعلوا إلههم هواهم!
يظهر أن التقدم المادي سيبلغ الذروة، وأن الغِنَى سيملأ كل يد، وأن الأرض قبل أن تُسلم النزع الأخير ستتخلى عما في بطنها!
لمَن تدخره؟
يُوشِك أن تصغُر جنَباتها!
فَلْتَرْمِ بذهبها وفضتها لمن على ظهرها الآن، ومن هنا سيتطاول الرعاع في البنيان، ويسكنون ناطحات السحاب، وينعم العبيد بمستوى المعيشة التي عرفت للملوك!
ذلك ما نفهمه من قوله تعالى: (حتى إذا أخَذَت الأرضُ زُخْرُفَها وازَّيَنَتْ وظَنَّ أهلُها أنهم قادرون عليها أتاها أمرُنا ليلًا أو نهارًا فجَعَلناها حَصيدًا كأن لم تَغْنَ بالأمسِ) (يونس: 24) وقوله: (وإذا الأرضُ مُدَّت. وأَلقَتْ ما فيها وتَخَلَّتْ. وأَذِنَتْ لربِّها وحُقَّتْ) (الانشقاق: 3ـ5) أي استمعت لأمره، وحُقَّ عليها أن تسمع!
وذلك ما أشار إليه الحديث الشريف في علامات الساعة "... ويَفيضُ المالُ حتى لا يَقبلَه أحدٌ" وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذه الأمارات: ".. أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها، وأن تَرَى الحُفَاةَ العُراةَ العالةَ رِعَاءَ الشاءِ يَتطاولون في البنيانِ" وفي رواية ".. إذا كان الحُفاةُ العُراةُ رءوسَ الناسِ".
وقد وَهِل البعض في فهم هذه الكلمات، وظنوا الإسلام يكره رياسة الفقراء!
وهذا خطأ فاحش، وهل كان العرب حَمَلة الحضارة الإسلامية إلا فقراء يَرعَونَ الغنم!(1/320)
إن المقصود تقدُّم السَّفِلة بالوسائل الهابطة، ووصول من لا كفاية له إلى مناصب لا يستحقها، وهذا ما نفهمه من الأحاديث الأخرى مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقومُ الساعةُ حتى يكونَ أسعدُ الناس بالدنيا لُكَعَ بنَ لُكَعَ" أي اللئام الأقذار. وفي رواية: "لا تقوم الساعةُ حتى يَرِثَ الدنيا شِرارُكم" وفي أخرى: "لا تقومُ الساعةُ على أحدٍ يقولُ: اللهُ اللهُ".
والواقع أن فساد الحكم شر أنواع الفساد كلها، فإنه يتيح للأوغاد أن يدمروا الأخلاق والأمجاد وأن يرخصوا الدماء والأعراض.
ويبدو أن الأمة الإسلامية سيَشيع فيها هذا البلاء أكثر من غيرها، فقد صح عن الرسول الكريم أنه بينما كان يحدث القوم جاءه رجل فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثه حتى إذا قضاه قال: "أين السائل؟" قال: ها أنا ذا يا رسول الله. قال: "إذا ضُيِّعَت الأمانةُ فانتظِرْ الساعةَ" قال: وكيف إضاعتُها؟ قال: "إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِه فانتظِرْ الساعةَ".
ومع أن الخيانات الاجتماعية والسياسية ضاربة الجذور في تاريخنا إلا أنها ستزداد فُشُوًّا وعتوًّا في الأعصار الأخيرة.
هناك حاكم مات أبوه وهو يشتهي ركوب الحمار! مكَّن له القدر فأصبح ينتقل بالطائرة، ولم يكتف بذلك حتى جعل الطائرة تنقُل الحلوى لأولاده وأحفاده، من مال الشعب! ما أتعَسَ الإسلامَ بأولئك الحكام!
وقد وردت أحداث بين يَدَي الساعة نحب أن نشرح بعضها! من ذلك نزول عيسى بن مريم وعيسى بشر كريم، ونحن ـ المسلمين ـ نرفض أن يكون إلهًا أو ابن إله، وكتابنا يقول فيه: (إن هو إلا عبدٌ أنعَمْنا عليه وجعَلناه مَثَلًا لبني إسرائيلَ) (الزخرف: 59) ثم يقول: (وإنه لعِلمٌ للساعةِ فلا تَمتَرُنَّ بها واتَّبِعونِ هذا صراطٌ مستقيمٌ) (الزخرف: 61).(1/321)
وهذا تلميح إلى نزول عيسى قُبيل الساعة، بيد أن السنة جاء بها تصريح واضح؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليُوشِكنَّ أن يَنزِلَ فيكم ابنُ مريمَ حَكَمًا مُقسِطًا، فيَكسِرُ الصليبَ ويقتلُ الخنزيرَ ويضعُ الجزيةَ".
ولماذا ينزل؟
ينزل ليكذِّب بنفسه من زعموه إلهًا، وهم جماهير غفيرة!
وفي حديث آخر أنه سينزل بين المسلمين ـ وهم أتباعه الحقيقيون ـ فيقاتل معهم الصليبيين، حتى يهزمهم ويسقط دولتهم؛ عن جابر بن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَزالُ طائفةٌ من أمتي يقاتِلون على الحقِّ ظاهرِين إلى يومِ القيامةِ، فيَنزِلُ عيسى بنُ مريمَ، فيقولُ له أميرُهم: تَعَالَ صَلِّ بنا" يَعرضُ عليه إمامةَ المسلمين "فيقولُ عيسى: لا، إن بعضَكم على بعضٍ أمراءُ، تَكرِمةَ اللهِ تعالى لهذه الأمةِ".
والحديث يشير إلى أن الإسلام خاتم الرسالات، وأن عيسى لن يجيء بجديد!
وظاهر القرآن أن عيسى مات، والقول بأنه حيٌّ في مكانٍ ما أو في السماء لا دليل له، ولا يَمنع ذلك من أن يُحييَه الله مرة أخرى كما أحيا عبيدًا آخرين ليقوموا بعمل له خَطَرُه!
وهذا رأي أهل الظاهر عندنا، وهو عندي أرجح من القول بأنه حي الآن.
ومن الأحاديث المروية بين يَدَي الساعة ظهورُ الدجال الأكبر الذي يختم طائفة من الدجالين الكذبة أدعياء النبوة، والمهديةُ الذين يزعمون أن لهم بالله علاقة وأنهم يتحدثون بوحي منه! وفي الحديث: "لا تقومُ الساعةُ حتى يُبعَثَ دجالون كذابون، قريبًا من ثلاثين، كلُّهم يزعُمُ أنه رسولُ اللهِ".(1/322)
والدجال الأخير رجل من اليهود أُوتيَ علمًا وقدرة، وربما ادَّعى الألوهية، وليس ذلك غريبًا فإن المدعُوَّ بـ "البهاء" زعم أن الله حل فيه، وأنه مَجْلَى الألوهية الهادية، وأن إنكار ذلك نوع من الكفر الذي حذر منه القرآن في الآية الكريمة: (... ويريدون أن يفرِّقوا بين اللهِ ورسلِه) (النساء: 150) فالتفريق عدم الإيمان بالحلول.
وفي السنة تحذير من الدجال ومَخرَفَته، وتخويف من اتباعه، ولفت إلى أنه سيكون شخصًا أعور مقبوح الهيئة.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فتنة هذا الدجال تحتاج إلى بحث خاص، والذي يهمني هنا حديث: "إنما أخاف على أمتي الأئمةَ المضلِّين" وفيه "أنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابًا، كلُّهم يدَّعي أنه نبي، وأنا خاتمُ النبيين، لا نبيَّ بعدي".
العدد للتكثير، والذين ادَّعَوْا أنهم أصحاب وحيٍ كي يقودوا الناس باسم الدين جمٌّ غفير، وليس بعد خاتم المرسلين وحي!
إن المحتالين باسم الدين أكثر من المحتالين طلبًا للدنيا، ويَغلب أن يَلتَفَّ بهم أتباع واهمون مسحورون ينسُبون لهم خوارق عادات، ويطلبون لهم طاعة عمياء، وديننا قِوامه العقل ومعجزته إنسانية خالدة.
والأئمة المضِلُّون هم الخلفاء الظلمة والملوك المستبِدُّون، وهؤلاء منذ ظهروا بدأ خط الانحراف في تاريخنا، فانفصل العلم عن الحكم أو انفصلت السياسة عن الثقافة.
ثم انشعبت المعرفة الدينية شعبتين بعد ما توحدت زمانًا، فإذا متصوفون لا فقه لهم وفقهاء لا قلوب لهم!
ثم مضى الانحراف إلى مداه فإذا المتصوفة يَفقِدون الإخلاص والتجرد ويُمسون أصحاب مراسم وشيوخ طرق، وإذا الفقهاء يُخلِّفون بعدهم مقلِّدين لا يذوقون حكمة نص ولا يحسنون الاجتهاد لنازلة!
وصَحِبَ هؤلاء وأولئك قصورٌ شائن في علوم الحياة وشئون الدنيا، فكان لابد أن تركع الأمة أمام أعدائها بعد ما انهارت ماديًّا وأدبيًّا!(1/323)
وأذكر أن صديقًا قال لي: إن الأوربيين والأمريكيين يكرهون اليهود، ولكنهم يحتقرون العرب! وماذا لدينا يستدعي الاحترام!
في تلك الحال يُذكَر حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشِكُ أن تَداعَى عليكم الأممُ كما تَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصعَتها" فقال قائل: مِن قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: "لا، بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السيلِ، ولَيَنزِعَنَّ اللهُ من صدورِ أعدائكم المَهابةَ منكم، ولَيَقذِفَنَّ في قلوبكم الوَهْنَ" قيل: وما الوَهْنُ؟ قال: "حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت".
ومن علامات الساعة طلوع الشمس من مغربها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتى تَطلُعَ الشمسُ من مغربها، فإذا طلَعت ورآها الناسُ آمَنوا أجمعون، وذلك حينَ لا يَنفعُ نفسًا إيمانُها إن لم تكنْ آمنَت من قبلُ أو كسَبت في إيمانها خيرًا".
إن الرتابة التي يتسم بها النظام الكوني خدعت البُلْهَ فلم يُبصروا الرب المدبِّر والسيد المشرِف، فأخذوا يقولون: هذه طبيعة الأمور! وكان ينبغي أن تكون لهم قلوب يفقهون بها.
فلما زالت الرتابة المألوفة صاحوا دَهِشين: عرَفنا صاحب هذا النظام المحكَم! وهيهات وهيهات! إنه لا قيمة للامتحان بعد ما انكشفت الأسئلة! بعد هذا الانقلاب الفلكي لا يقبل من كافر إيمان ولا من فاسد صلاح.
وطلوعُ الشمس من مغربها أو من مشرقها سواءٌ لدى القدرة العليا، فإن الكواكب المتهادية في فضائها تتحرك وَفْقَ مشيئة خالقها ومسخرها، بإذنه تنطلق، وبمشيئته تنطفئ يوم يسلُبها نورها وحرارتها.
متى ذلك؟
عند قيام الساعة (إذا الشمسُ كُوِّرَتْ. وإذا النجومُ انكَدرَتْ...) (التكوير: 1،2).(1/324)
64 ـ هل ينبغي في عصر تفجير الذرة وغزو الفضاء أن نقدم الولاء للإنسانية ونؤخر الولاء للدين؟
يظن كثير من الناس أن هذا العصر ليس عصر الأديان، بما توحي به كلمة "دين" من تعصب خاص، وأفق محدود، ورباط بالماضي، وتجهُّم لمَا لم نألَف. ويقولون: هذا عصر الإنسانية العامة ذات المعالم المطلقة والانفتاح على الآخرين.
إنه عصر هيئة الأمم والميثاق العالمي لحقوق الإنسان. والدعوات تتسامى على الأجناس والألوان والقوميات والأديان!
والواقع أن التفكير السائد هو أن القرن الخامس عشر للهجرة أو العشرين للميلاد هو القرن الذي انسحبت فيه الأديان وتركت الزمام لمبادئ أخرى تقود العالم، وعلى المتدينين الاكتفاء باللقاء العاطفي في معابدهم وعدم شغل الناس بقضاياهم القديمة.
هذا الكلام خدعة كبرى لا أصل لها، بل هو زيف من أَلِفِه إلى يائه، وأستطيع أن أكرر ما قلته في مناسبات شتى: إن هذا العصر هو العصر الذهبي للأديان كلها، ماعدا الإسلام!
وأخشى أن يكون ترديده من مكر الطوائف الأخرى بنا، حتى تَبنيَ وجودها على رُفاتنا، وتستطيع أن تملأ الفراغ الحادث بعد ذهابنا.
إن هذه الأيام العديدة تشهد انطلاق أديان كانت مقيدة وعقائد كانت جامدة، بل لقد تحرك مزهوًّا من أمله أن يدفع العار عن نفسه، وحسبُه أن يَظفَر بحق الحياة المجردة!
لننظر إلى اليهودية التي سَلَخت من عمر الزمان فوق ثلاثين قرنًا، هل وجدت أَزهَى من هذا العصر؟ إن العالم أجمع يستمع إليها، وينصت لأسلوبها في عرض الأمور!
هل استطاعت اليهودية خلال عشرة قرون أو عشرين قرنًا أن تجمع فلولها من أقطار الأرض، وأن تقيم لها دولة على أنقاضنا، وأن ترفض بصَلَف رجاء الراجين أن تسمح للعرب بإقامة دُويلة إلى جوارها؟
لقد انتهت قصة اليهودي التائه وبدأت قصة العربي التائه.(1/325)
بدأت مأساة لاجئين، جمهرتهم الكبرى من المسلمين، يُطارَدون من قُطر إلى قُطر؛ لأن "هويتهم" سُرقت منهم تحت الشمس، ومنحتها هيئة الأمم لأبناء التوراة، ورأت ذلك هو الإنسانية الصحيحة.
أفذلك ما نُكلَّف بقَبوله وإلا صرنا مسلمين متعصبين نعمل ضد الإنسانية! ألا قُبحًا لهذا المنطق!
وكانت النصرانية حتى مطالع هذا العصر تجر وراءها تَرِكة مُثقَلة من الخصام الدامي بين العلم والدين. لقد قتلت العلماء، وعوَّقت التقدم العلمي، ومشت على أشلاء الضحايا من طلائع الفكر الإنساني. ورأت دول الغرب نفسها أن تقلم أظفارها، وتسمح لها بالعيش بعيدًا عن كل نشاط ذي بال!
وبغتةً تغير الوضع كله، وأصبحت النصرانية سيدة الموقف، وانعقد صلح وارف الظلال بينها وبين شتى الحكومات في أوربا وأمريكا.
ورأينا "بابا روما" ينطلق من قلعته في "الفاتيكان" إلى مشارق الأرض ومغاربها، ليجد الألوف المحشودة تنتظره، ورؤساء الدول في شرف استقباله، ومن مرت بهم طائرته أرسلوا إليه في الجو تحيات عطرة!
فإذا خطب في "نيجيريا" ـ وأكثر من تسعة أعشارها مسلم ـ تناول بالضيق قضية تعدد الزوجات، وأومأ إلى منافاتها للأخلاق. وهو يعرف أن العالم الغربي غارق في الخَنَا إلى أذنيه. إن مهاجمة الإسلام هدف إنساني، وفي سبيل ذلك رأينا تعاونًا وثيقًا منظَّمًا بين "الكاثوليك" الإنجيليين و"الأرثوذكس".
علام يتعاونون؟
على إخماد الصحوة الإسلامية التي لاحت في أقطار كثيرة!
وفي سبيل تلك الغاية الإنسانية اتسع نطاق التعاون ليشمل اليهود! وتذكرت قول "تشرشل" لما حالف الروس الشيوعيين ضد الألمان المسيحيين: إنني مستعد للتحالف مع الشيطان ضد عدوي!
ورجَعتُ إلى تاريخ البعثات التنصيرية فقرأت هذه المقتطَفات للمطران "نيل" وهو يتحدث عن جهود الصليبيين في العصور الوسطى للتعاون مع المغول على ضرب الإسلام قال:(1/326)
عندما سمع العالم الغربي للمرة الأولى عن غزو التتار للعالم الإسلامي، استقبل هذه الأنباء بانشراح، لأنه إذا استطاع النصارى التحالف مع القوى المغولية على ضرب الإسلام من الخلف أمكن الخلاص بصورة نهائية من خطر المسلمين، وقد يكون من الأفضل أن يدمر هذان العدوان بعضهما الآخر، فستصبح الكنيسة بعدئذ الخيار الأفضل.
وذلك ما جعل المطران "وينشتر" يقول للملك هنري الثالث ملك إنجلترا ما نصه:
ليدمِّرْ هؤلاء الكلاب بعضهم بعضًا وليُصَفِّ كلاهما الآخر! وعندها سنرى الكنيسة الكاثوليكية العالمية تتأسس على أطلالهم.
يقول محرر مجلة "الأمة" تعليقًا على هذه النصوص:
إن بعض السُّذَّج من المسلمين يعجبون للتواطؤ القائم بين الشيوعية والصليبية على ضرب الإسلام، والذي ظهرت آثاره في زنجبار وتنجانيقا والسودان والحبشة وأوغندا وفلسطين.. الخ. لا مكان للعجب، فالتاريخ يعيد نفسه، وأحداث العصر تماثل كل المماثلة ما نقلناه آنفًا على لسان المطران نيل. لم يتغير إلا الوقت، أما الحق الكامن والجهل المتعصب والنفوس الملتوية والميول العدوانية فهي هي ما زالت في القرن العشرين كما كانت في القرن العاشر، وما قبله وما بعده.
ولنترُكْ جيراننا أهل الكتاب ولننظُرْ بعيدًا إلى ديار البوذية والهندوكية، إن الديانتين الوثنيتين في عصرهما الذهبي الآن ما بلغتا هذه الذروة يومًا ما!
يعرف دارسو الملل والنحل أن "بوذا" لم يرفع بصره يومًا إلى السماء لا داعيًا ولا خاشيًا، لأنه لا يؤمن إلا بالأرض وما عليها، وقد وضع لأتباعه تعاليم حسنة ليعيشوا بها!
فلما مات جعله هؤلاء الأتباع إلهًا، وجعلوا تعاليمه توراة وإنجيلًا وقرآنًا، وأصبحت البوذية دينًا! ما أغرب نقائض البشر!
ورأيت القِباب الذاهبة في الفضاء تحتها تماثيل لـ "بوذا" جالسًا يفكر! والألوف من العابدين يَزدَلِفون حوله.(1/327)
إن الدول الغربية أعانت هؤلاء على مطاردة الإسلام وطيِّ راياته عن أقطار كثيرة، فالوثنية من الناحية الإنسانية أفضل من الإسلام!
أما الهنادك فهوايتهم المفضلة مطاردة المسلمين حيث كانوا! إنهم يقدسون الأبقار والقردة، بل الجراثيم! الشيء الذي يستحق الموت هم المسلمون.
وأقرأ الآن ـ وأنا أكتب هذه السطور ـ كيف قُتل أكثر من خمسة آلاف طفل وامرأة، رميًا بالسهام أو ضربًا بالفئوس أو حرقًا بالنيران، مما جعل مئات الألوف تفر حَذَرَ الموت إلى جبال "الهيملايا" ذلك كله في ولاية واحدة، ولاية "آسام".
تلك هي "الإنسانية" في عصرنا الحديث! إن رنين الكلمة المزيفة يقرع الأذان ويثير الغَثَيان!
إنني باسم الإسلام وأمته على استعداد كامل للحفاوة بهذه الكلمة يوم تكون عنوانًا له موضوع، وعندما أفعل ذلك فأنا أوفِّي لديني ولا أخرج عليه، بل أعُدُّ من الولاء لديني أن أحسِّنَ الحسن، وأقبِّحَ القبيح، وأدفعَ عن المظلوم،وأنشرَ الرحمة، وأقيمَ العدل، وأرِقَّ للحيوان ـ بَلْهَ الإنسانَ ـ أيًّا كان لونه ودينه!
إنني أعرف من ديني أن الله يقبل دعوة المظلوم ولو كانت من كافر. وأعرف من ديني أن حِلفًا شريفًا تم في الجاهلية الأولى قال النبي الكريم عنه: "لو دُعِيتُ به في إسلام لأجبتُ" إنه حلف الفُضُول، للحفاظ على الحقوق ونجدة المستَضعَفين.
وعلى ضوء ذلك أُعلن احترامي الشديد للجنة العفو الدولية التي تقف بجهدها ضد العدوان، وتكشف أصحابه، وتؤلب عليهم ذوي الضمائر الحية في هذه الدنيا.
وأؤيد من أعماقي حسن معاملة الأسرى، وأُعلن الحرب على الرق الفردي والجماعي وعلى التفرقة العنصرية بجميع صورها.(1/328)
معنى أنني مسلم أنني أعتنق دينًا طبيعيًّا، يحترم الفطرة البشرية ونوازعها الطيبة، ويحترم العقل الإنساني وأحكامه المنطقية، ويتوقع الخطأ ولا يحكم على مُقتَرِفه بالموت، بل يمهد له طريق التوبة ويفتح أمامه أبواب الرجاء. ويَلحَظ حكم القدر في اختلاف الأديان، فيدعو إلى رأيه بالحكمة والموعظة الحسنة ويرفض الفتنة والقسوة.
تلك هي الإنسانية التي نحبها ونراها امتدادًا لرسالة الله، ومرادفًا للإسلام.(1/329)
65 ـ أصحيح أن الفتوح الإسلامية تعود إلى عوامل قومية أكثر مما تعود إلى عوامل اقتصادية أو دينية؟
لا ريب أن الفتوح الإسلامية كانت شيئًا خارقًا للعادات، ولو أنك سألت أعرابيًّا قبل بعثة محمد أو إبّانها: هل تفكرون في غزو فارس أو الروم؟ لظنَّ بك مسًّا.
إن هذا لا يريد أحلام النيام! إنه كالهبوط إلى القمر بغير وسائل علمية!
لكن الواقع الذي لا يمكن إنكاره أن العرب ـ بعد ما أسلموا ـ هزموا الفرس والروم معًا في جبهتين متعاصرتين، واحتلوا بلادهم في وقت واحد!
إن القبائل الهائمة على وجهها في صحراء الجزيرة قامت لها فجأة دولة تحت عَلَم التوحيد، لم تَسلُخ من عمرها بضع سنين بعد وفاة صاحب الرسالة حتى شرَعت تصارع الدولتين العملاقتين، وتُلحق بهما هزائم أبدية!
ماذا حدث في دنيا الناس؟
إنها معجزة ما عرف خبرها إلا محمد وحده، الذي أقسم بربه أن تُنفَق كنوزهما في سبيل الله؛ قال عليه الصلاة والسلام: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصرَ بعده، فو الذي نفسي بيده لتُنفِقُنَّ كنوزَهما في سبيل الله تعالى".
إن الإنسان الملهَم العابد المجاهد هو صاحب هذا التغيير الحاسم في تاريخ البشر، لقد جعل القمم سفوحًا والسفوح قممًا، وبين أن الهَمَل يستطيعون الوصول إلى أعلى السلم بالعلم والتربية، وأن الملوك يتحولون إلى عبيد بالترَف والمعصية.
ولقد ثبت لكل ذي بصيرة أن محمدًا وحده هو الإنسان الأول أو القيمة الأولى في تاريخ الحياة من أزلها إلى أبدها.
غير أن أغلب المستشرقين أبى الاعتراف بهذه الحقيقة ورأى أن يلتمس تفسيرًا لما حدث فقال: إن جفافًا سيئًا حل بجزيرة العرب على عهد البعثة المحمدية وعقبها جعل العرب يتحولون إلى جيرانهم زُرَافاتٍ ووُحْدانًا يطلبون القوت، ويفرون من المجاعة إلى أرض الهلال الخصيب في سوريا والعراق.
ويبدو أن خبر هذه المجاعة العربية نمَى إلى المستشرقين وحدهم فلم يذكره أحد من الناس!(1/330)
ولنفرضْ جدلًا أن مجاعةً وقعت! هل إذا حل قحط بسويسرا أغارت عسكريًّا على روسيا والولايات المتحدة ابتغاء القوت؟
لماذا قلتُ: سويسرا؟
هل إذا حل قحط بالكونغو ناوش الدولتين العظميين في العالم، واحتل أرضهما سعيًا وراء الرزق؟
هذا تفكير سُكَارى!
ثم تذكرت أن في كتبنا القديمة كلامًا قد يكون من وراء هذا الهَذَيان، قرأت في وصف إحدى المعارك بفارس أن المسلمين بعد انتصارهم استَولَوْا على غنائم كثيرة من بينها فطائر ورقائق، فقال أحد الجنود: لو لم نقاتلهم على هذا الدين لقاتلناهم على هذا الرقاق.
قلت ساعتها: هذه نكتة، مثل ما يصدر عنا ـ نحن المصريين ـ من دعابات، ولم أكن أدري أن الأب "لامانس" سيتخذ من هذا الكلام دليلًا على أن للفتح العربي أسبابًا اقتصادية!
ومثل ذلك ما قاله "رستم" للمغيرة بن شعبة في أثناء المفاوضات بين الفرس والعرب:
قد علمت أنه لم يحملكم على ما أنتم فيه إلا ضيق المعاش وشدة الجَهد، ونحن نعطيكم ما تتشبعون به ونصرفكم ببعض ما تحبون.
وهذا كلام هزل! فإن رستم يعلم أن كتابًا جاء سيدَه كسرى من بضع سنين يدعوه إلى الإسلام، مُرسِلُه هو محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأن أتباع هذا النبي جاءوا اليوم بالدعوة ذاتها، وهم مستعدون للعودة إلى بلادهم إذا ما اقتنع الفرس بها.
فما مكان هذا الطعام المعروض؟ ومن الذي طلبه؟ ومن الذي يقبله؟ إنه كلام هزل!
وكتب التاريخ لدينا تروي الغث والسمين، وقد نبه الطبري قرَّاءه إلى ذلك حتى لا يُخْدَعوا بكل ما يرويه.
ولو صدقنا جدلًا ما حكاه الطبري ـ بسند تافه ـ أن خالد بن الوليد قال لرجاله: ألا ترون إلى الطعام كرفع التراب؟ بالله لو لم يَلزَمْنا الجهادُ في الله والدعاءُ إلى الله ـ عز وجل ـ ولو لم يكن إلا المعاشُ لكان الرأيُ أن نُقارع على هذا الريف حتى نكونَ أولَى به ونولِّيَ الجوع والإقلال من تولاه ممن اثَّاقل عما أنتم فيه!(1/331)
إن هذا الكلام ـ لو صح ـ لكان ضربًا من المُزاح أو لفت النظر إلى ما في أيدي الكافرين من نعماء ليسوا أهلًا لها؛ لأنهم لم يشكروا الله عليها ولم يؤدوا حقه فيها.
ويستحيل أخذ العبارة على ظاهرها القريب؛ لأن الأدلة قائمة أمام عيون المؤمنين على أن القتال طلبًا للغنيمة جريمة، وأن المجرمين لا يُفتح لهم ولا يُفتح عليهم، فعن أبي هريرة أن رجلًا قال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من الدنيا! فقال: "لا أجر له" فأعاد عليه ثلاثًا، كل ذلك يقول: "لا أجر له".
وروى مسلم في صحيحه خبر أول ثلاثة يدخلون النار يوم القيامة، وبعد أن ذكر القارئ المرائي والمتصدق قال: "ثم يؤتَى بالذي قُتل في سبيل الله، فيقول اللهُ له: في ماذا قُتِلتَ؟ فيقول: أمَرتَ بالجهاد في سبيلك فقاتلتُ حتى قُتِلتُ. فيقول الله تعالى له: كذبتَ. وتقول له الملائكة: كذبتَ. يقول الله له: بل أردتَ أن يقال: فلان جريء. وقد قيل ذلك" ثم ضرب رسول الله على ركبة أبي هريرة فقال: "يا أبا هريرة أولئك الثلاثةُ أولُ خلقِ اللهِ تُسعَّر بهم النارُ يوم القيامة".
قال شُفيٌّ الأصبحي: فأخبرتُ بهذا الحديث معاويةَ فبكى بكاء شديدًا حتى ظُنَّ أنه هالك، وقال: قد فُعل بهؤلاء ذلك فكيف بمن بقي من الناس! وتلا قوله تعالى: (من كان يريدُ الحياةَ الدنيا وزينَتَها نُوَفِّ إليهم أعمالَهم فيها وهم فيها لا يُبخَسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرةِ إلا النارُ وحَبِط ما صنَعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون) (هود: 15،16).
إن الصحابة جميعًا والتابعين معهم يعلمون أن القتال طلبًا لمغنم دنيوي مَهلَكة للدين، ومن ثَمّ خرجوا للجهاد ونفوسهم خالية من طلب الدنيا مقبلة على طلب الآخرة، وذاك سر فلاحهم ونصرهم على عدوهم!(1/332)
هناك عقد فادح الثمن بين المؤمنين وربهم ولكنه جليل العِوَض، يقدمون حياتهم له ويمنحهم الجنة في مقابله، ومن طلب عظيمًا خاطر بعظيمته (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأن لهم الجنةَ يقاتِلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتَلون..) (التوبة: 111).
إن الإيمان حوَّل أصحابه إلى زلازل وبراكين أتت على الشرك من القواعد! فإذا قيل: يا خيل الله اركبي، وإلى الله ارغبي. رأيت الرجال يتسابقون إلى الموت موقنين بأن بعده الجنة.
وقد يكون أحدهم شيخًا كبيرًا أثقلت جسمه السنون، فإذا سمع النداء تحامل على نفسه ليؤديَ واجبه، فيقول له بنوه: إن الله عذَرك ونحن نجاهد عنك! فيقول: كيف عذَرني وهو القائل: (انفِروا خِفافًا وثِقالًا وجاهِدوا بأموالِكم وأنفسِكم في سبيلِ اللهِ) (التوبة: 41).
إن الشاب والشيخ، المثقَل والمخفَّف، سواء في ضرورة الجهاد!
الحق أن الوثنيات الدينية والسياسية والاقتصادية لم تجد فؤادًا أشجع ولا ذراعًا أشد من فؤاد محمد وذراعه. لقد حشد ضدها الجموع ورمى طواغيتها بالأبطال، وأخذ يقول لهم: "من قاتل في سبيل الله فَوَاقَ ناقةٍ وجبَت له الجنةُ".
"رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل".
"ما من مكلوم "جريح" يُكلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكَلْمُه "جُرحه" يَدْمَى، اللون لون الدم والريح ريح المسك".
"لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدًا. لا يجتمع في جوف عبد غُبارٌ في سبيل الله وفَيحُ جهنم. ولا يجتمع في قلب عبدٍ الإيمانُ والحسدُ".
"سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله".
"ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس؟ إن من خير الناس رجلًا عمل في سبيل الله، على ظهر فرسه أو ظهر بعيره، حتى يأتيه الموت. وإن من شر الناس رجلًا يَقرأ كتابَ الله لا يَرعَوي بشيء منه".(1/333)
يقول المغيرة بن شعبة للفرس: أخبرنا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة، فنحن أحب في الموت منكم في الحياة!
بهذه التوجيهات وتلك المشاعر بدأ الهجوم على قوى الكفر والعدوان، فإذا الدول الكبرى التي غالبت الزمن وطاولت التاريخ تترنح وتتراجع ثم تَهوِي!
وجماعة المستشرقين دون مستوى الوعي بهذه الحقائق، فهم ما عرفوا في ظل الاستعمار إلا حروب النهب والسلب والأحقاد والأطماع، ولذلك يتحدثون عن محمد وصحبه حديث السُّكارى عن الملأ الأعلى.
ثم ظهر بِدْعٌ مضحك يقول للناس: إن العروبة من وراء الفتوح العظيمة في فارس والروم!
أي عروبة؟
كان العرب غربي فارس أذنابًا لكسرى ـ واسمهم المناذرة ـ وكانوا جنوبي الروم أذنابًا لقيصر ـ واسمهم الغساسنة ـ وكانوا في قلب الجزيرة يسمعون عن الروم والفرس كما يسمع الحمالون عن ركاب الدرجة الممتازة في السكك الحديدية!
إن العرب قبل الإسلام ومن غير الإسلام ما كانوا شيئًا، ولن يكونوا شيئًا. وسنزيد ذلك بيانًا في الإجابة التالية.(1/334)
66 ـ يُدرَّس الآن في بعض الجامعات أن القومية العربية هي العامل الأول في نجاح الفتح الإسلامي وهزيمة الفرس والروم فما مدى الصحة في هذا القول؟
هذا الكلام أقرب إلى الهزل منه إلى الجد، بل يمكن وصفه بأنه جريمة علمية ومحاولة لتزوير التاريخ وقلب حقائقه.
وقد استمعنا إلى أوصاف محدودة توجه النفوس إلى هذا الغرض وتجاوزناها لتفاهتها، ثم تبين لنا أن هناك خطة مرسومة متعمَّدة للنيل من الإسلام وتاريخه!
من ذلك وصف السلطان المظفر قاهر التتار قطز بأنه بطل القومية العربية.
والرجل ما عرف قط هذه الكلمة، لا خطرت له ببال، فهو ـ باسم الإسلام وحده ـ قاد المسلمين من عرب وترك لمواجهة التتار، ووَقَفَ تقدمهم إلى مصر، وكان حماسه لدينه وحبه له بارزين في سيرته، فلما رأى الجيش المصري يضطرب عند الاصطدام بالعدو صرخ صرخته المشهورة ـ وا إسلاماه ـ فكانت مفتاح النصر، وسر انكسار التتار للمرة الأولى في تاريخهم العسكري.
ومعروف أنه من تركستان لا من جزيرة العرب، ومع ذلك فقد كُتب على مسجده أنه بطل القومية العربية!
ومثل ذلك الكذب وصف صلاح الدين الأيوبي بأنه بطل العروبة!
والرجل مسلم كردي الأصل، دعاه دينه وإخلاصه لله ورسوله إلى محاربة الصليبيين حتى أجلاهم عن بيت المقدس وأعاده للعرب المطرودين منه، وذلك باسم الإسلام الذي لا يَعرِف غيره!
والواقع أن فكرة القومية عرفتها أوربا في القرنين الأخيرين فقط، ثم نقلها الاستعمار الثقافي إلى بلادنا ليطيح بوحدتها الكبرى، فالقول بأن العرب عرفوها وقاتلوا باسمها الروم والفرس ضرب من الهُرَاء الموغِل في السخف.
ونذكر هنا بعض الحقائق التاريخية؛ إن العرب المنتصرين سواء من كان منهم تابعًا للروم أو الفرس أو قاطنًا شمالي جزيرة العرب ـ هؤلاء كانوا من أسوأ الناس معاملة للمسلمين وتحاملًا عليهم.(1/335)
فرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والأمراء عادوا جميعًا إلى المدينة سالمين، فلم يُقتل إلا الرجل الذي بُعث إلى الأمير الغساني المنتَظَر شرحبيل بن عمرو! وهناك أمير عربي نصراني آخر شرَع يعد العدة لمهاجمة المسلمين في المدينة مما عجّل بمعركة مؤتة.
ويذكر التاريخ أنه عندما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمقاطعة كعب بن مالك، أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا في معركة تبوك، أرسل إليه الأمير النصراني يستضيفه ويغريه بترك المدينة ونبذ الإسلام!
وقد ارتد إلى النصرانية جَبَلة بن الأَيْهَم وأبَى قَبولَ الاقتصاص منه في مخالفة ارتكبها، وآثر ترك العرب والمسلمين واللحاق بالروم.
فأين منطق القومية في هذه الأحداث كلها؟
إن العرب النصارى لم يدخروا جُهدًا في النيل من الإسلام ووقف تقدمه مؤيدين في ذلك الروم والفرس جميعًا!
ونسأل: أكان الروم أو الفرس يكِنُّون للعرب احترامًا؟
كلا. لما جاء كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام غضب غضبًا شديدًا وقال: يكتب إليَّ هذا وهو عبدي؟
الكلمة نفسها التي قالها فرعون لما عرض عليه موسى وهارون عبادة الله الواحد (أنؤمنُ لبشَرَينِ مثِلنا وقومُهما لنا عابدون) (المؤمنون: 47).
كان الفرس يحتقرون العرب كما كان المصريون يحتقرون اليهود. إن الإسلام وحده هو الذي رفع العرب إلى مستوى آخر، جعلهم أساتذة يعلمون الفرس والروم، ويحاولون نقلهم من الظلمة إلى النور، فأين هذه القومية التي يفخر بها العرب ويردون إليها انتصارهم على الدولتين العظمَيَيْن؟
كان عرب العراق يقاومون الفتح الإسلامي مع الفرس، فلما هزمهم خالد بن الوليد كان يسائلهم: أعرب! فما تَنقِمون من العرب؟ أم عجم! فما تَنقِمون من العدل والإنصاف؟
فأين هذه القومية المزعومة؟
لقد غلبتني الدهشة وأنا أقرأ لأستاذ جامعي يكتب لطلابه:(1/336)
".. إن العامل الرئيسي للفتوحات الإسلامية هو عامل قومي أساسه نضج قومية العرب! وارتفاع روحهم المعنوية بعد استرجاع وحدتهم التي هددتها حركة الردة" (كتاب تاريخ الدولة العربية للدكتور السيد عبد العزيز).
هل حركة الردة كانت تهديدًا للقومية العربية والوحدة العربية، أم كانت انتفاضًا على الإسلام وتكذيبًا للوحي وعودًا إلى الجاهلية؟
أجدني مضطَّرًّا لمصارحة العرب ـ وهم قومي التائهون ـ بجملة حقائق ثقيلة:
إنني ألمح مظاهر ردة أَنكَى من الردة الأولى تَبغي الولاءَ للجنس وتأبَى الولاء للإسلام!
ليكن، فحاجة العرب للإسلام أشد من حاجة الإسلام للعرب (والكافرون هم الظالمون) (البقرة: 254).
وعندما يقع هذا فسينتصب لمساندة الدين قومٌ أولَى بالله منهم وأحق بالكرامة (وإن تَتَولَّوْا يَستبدِلْ قومًا غيرَكم ثم لا يكونوا أمثالَكم) (محمد: 38) (...من يَرتدَّ منكم عن دينِه فسوف يأتي اللهُ بقومٍ يحبُّهم ويحبُّونه أذلَّةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يَخافون لومةَ لائمٍ) (المائدة: 54).
إنني مصري عربي الإسلام، ولولا لغة الوحي ما كانت لي صلة بالعرب، اللغة وحدها لا الدم أو العِرق تنميني إلى هذا الجنس! وما يسرني أن أكون هاشميًّا، إذ الشرف عندي هو الإسلام وحسب! وكما قيل:
ليس الأعاريب عند الله من أحد!
والجيل الذي رباه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خير القرون وشرف الإنسانية كلها، لأنه الجيل الذي اعتز بالإسلام وحمل لواءه وبلغ رسالته، والذي رفض أن يقدم على العقيدة أي شيء آخر ولو كان الآباء والأبناء، لقد كان الوحي الإلهي برنامجه الملتَزَم وثقته الوحيدة. ثم خلَفت خُلُوف تَقبل الوحي على إغماض وتكلف، وتكره الانتماء إلى الدين وتحب الانتماء إلى العروبة، وعند وزن البشر بإنتاجهم المادي والمعنوي تَطيش كِفة هؤلاء، وتوَدُّ الأرض لو صغُرت منهم، فما يصلُحون إلا عَلَفًا لمدافع الغزاة!(1/337)
لما كان الإسلام دينًا عالميًّا دخلت فيه أجناس كثيرة استفادت منه وأفادته! ووسَّعت رقعته على ظهر الأرض وعمَّقت ثقافته، وحَفِظتها وورَّثتها الأجيالَ المقبلة، وبذلت المال والدم في سبيل عقائدها، ولا تزال تجاهد دونها إلى يوم الناس هذا.
وصحابة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ هم أزكى أتباعه وأطهرهم، وأجدرهم بالتكرم والتأسي.
بيد أننا نَلحَظ أن العرب ـ حاشا الصحابةَ وتابعيهم بإحسان ـ كانوا كالوارث المعتمِد على جُهد أبيه ومدخراته، أخذوا أكثر مما أعطَوْا، وتشبعوا من الدنيا باسم الدين، وطلبوا من الناس أن يَحملوهم ويقبلوهم مع الإسلام نفسه، ففرضوا خصائصَهم العِرقية على هدايات الله، وتقاليدَهم الجاهلية والقَبَلية على حقائق الفطرة.
فكان المُلكُ العَضُوض أيام الأمويين! وكانت الخلافةُ الكاهنة أيام العباسيين والفاطميين! وكان احتقارُ الحرف والصناعات، وكان الافتخارُ بالأصل والعِزوة! وكان احتقارُ النساء بعد وَأْدِهم في الجاهلية.
ومضى الانحراف إلى العصر السابق؛ فخان العربَ التركُ حتى جعلوهم يرمون الخلافة في البحر، ثم كانت الطامة الكبرى إذ ظهرت العروبة متخففة من الإسلام أو مستنكِرة له، يقودها من لا علاقة له بالله أبدًا.
ويوم تقول: إن القومية العربية هي السبب الأعظم في نجاح الفتح الإسلامي الأول. فمعنى ذلك أن عقائد الإسلام وفضائله وحاجة العالم إليه أمور ثانوية أو وهمية!
ومن ثَمّ يفقد الإسلام أمجاده التاريخية كما فقد وجوده التشريعي والتربوي في الحاضر المهزوم!
لا يجوز للجنس العربي أن يَعدُوَ قدْرَه ويَفتاتَ على غيره، وينسى أن الإسلام وليَّ نعمته ومقيم دولته، وحافظ كيانه وداعم أركانه!(1/338)
إن شعوب العالم فتحت أحضانها لحملة التوحيدِ النقي والأخوةِ الجامعة ومبدأِ "المسلمون تَتكافأُ دماؤُهم ويَسعَى بذمَّتِهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم" ولم تفتح أحضانها لنُعَرة جنسية، أو عِزوة أموية أو عباسية، أو أعراف بَدْوية وأوهام صحراوية.
كانت "قادسية" سعد بن أبي وقاص معبرًا لأركان الإيمان وحقوق الإنسان، ونظام الشورى، وإقامة العدل، بعد إطفاء المجوسية الخَرِبة ومحو الاستعباد السياسي وإخراج الناس من ضيق الأديان إلى سعة الإسلام!
لا كرامة للعرب بدون إسلام.
ونعود ـ بتفصيل قليل ـ إلى تاريخ العرب إبان الفتوح، ونسأل:
هل انتقض العرب الخاضعون للروم، أو الخاضعون للفرس، على الفرس حين وجدوا عرب الجزيرة يشتبكون مع أعدائهم؟
إن هذا أول ما يُرتقَب منهم تلبية لنداء العروبة! لكن شيئًا من هذا لم يحدث قط!
ونسأل ثانية:
هل استقبل أولئك الخاضعون إخوانَهم القادمين بشيء من الترحاب، وذاك أيسر ما يبذلون لو كان للعروبة قومية ملحوظة؟
لم يقع شيء من ذلك!
الذي وقع أن العرب المستَذَلِّين قاوموا العرب الفاتحين بكل ما لديهم من وسع!
ولنُلقِ نظرة على الجبهة الرومانية في موقعة اليرموك التي أجهزت على الوجود الأجنبي بالشام، فنرى جَبَلَة بن الأَيهَم يقود الألوف من النصارى العرب، مقاتلًا مع الرومان أنفسهم ورابطًا مصيرَه بمصيرهم!
إن كُرْهَه لعمر بن الخطاب رسَب في أعماقه لأن عمر رفض الاعتراف له بامتيازات الإمارة، ورأى أن يُسوِّيَ بينه وبين أعرابي من عامة الناس، فارتدَّ إلى النصرانية وتألَّب مع القبائل التي على دينه ضد عقيدة التوحيد للخالق والمساواة بين الناس.
فأين هي القومية العربية التي حاربت الروم؟(1/339)
وقبل ذلك بسنين كانت معركة مؤتة التي حاول فيها مائة ألف من النصارى العرب ومعهم مثلهم من الرومان أن يَفتِكوا بالجيش الإسلامي القليل العدد، الجيش الذي حركه الغضب لأن هؤلاء العرب أذناب الرومان قتلوا بطريقة سافلة رسولًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسله إلى أحد أمرائهم.
كاد هذا الجيش يذوب لولا انسحاب خالد بن الوليد!
وسبب المعركة ما ذكرناه آنفًا؛ قال الأمير الغساني للحارثِ بن عمرو، رسولِ النبي لتبليغ الدعوة: لعلك من رُسُل محمد؟ قال: نعم. فشَدَّ وِثاقه، ثم ضرَب عنقه بالسيف!
فأين هي آصرة القومية التي تجمع بين المسلمين والعرب الخاضعين للروم؟
إن الأمر بلغ حدًّا من الهزل يستحق الدهشة.
أي قومية يَعنُون؟
ونذهب إلى جبهة الفرس، فماذا نرى؟
نرى عرب العراق ينضمون إلى مجوس فارس في مقاومة الصحابة والتابعين، مع أن آخر مَلِك لهؤلاء العرب مات في سجن كسرى! ولكنه الذل وقبول الدَّنِيَّة.
كانت موقعة الولجة وأُلِّيس على نهر الفرات من أقسى المعارك التي خاضها العرب المنتصرون مع سادتهم المجوس ضد زحف خالد ورجاله! حتى بلغ الغيظ من خالد مبلغه وهو يرى بني جنسه يكسوهم هذا الصَّغَار! فكان إذا ظَفِر بهم يقول: أعرب! فما تنقمون من العرب؟ أم عجم! فما تَنقِمون من العدل والإنصاف؟
فكيف يجيء بعد هذه الحقائق الدامغة من يزعم زُورًا أن هذه الحروب كانت تحررًا وطنيًّا، أو ثورة قومية تَعاوَنَ فيها عرب الشام وعرب العراق مع زملائهم عرب الجزيرة ضد الروم والفرس!
إن الصحابة والتابعين الذين خرجوا من المدينة المنورة كانوا يحملون حقًّا رسالة تحرير، لكنها للشعوب كافة، لجماهير الفرس والروم والعرب الذين طحنهم الحكم الفردي، وكبَّل ضمائرهم وحرمهم الحقوق الطبيعية للإنسان.(1/340)
إن الإسلام لم يكن فَورة جنسية، ولا نزعة استقلالية عن التدخل الأجنبي، كما يريد نشر ذلك المستشرقون والمبشرون والعروبيون! إنه حركة إنسانية عامة تعلو على الأقوام والأوطان، تربط الناس بربهم ليستهدوا به وحده، ويَستلهموا منه وحده، وليكونوا في القارات كلها سواسية في الكرامة والولاء، فلا سجود إلا لله ولا حكم إلا لله.
فإن عقَل ذلك العرب أفلَحوا، وإلا بادوا وأتى الله بخير منهم في التأسي بمحمد ورفع لوائه!(1/341)
67 ـ ألا يمكن ردم الفجوة بين السلف والخلف حتى تستطيع الأمة رد الغارات المتتابعة عليها؟
لا يوجد مسلم يَحجُب ولاءه عن السلف أو يرفض الاستقامة على نهجهم! كيف وهم دِعامة الدين وحرسه الشديد وحاملوه إلينا نقيًّا قويًّا!
إن التفاوت نشأ من القصور العقلي لدى الدَّهْماء ومَن إليهم، ومن ضعف الخُلُق أو ضعف التقدير عند بعض المشتغلين بالمعرفة الدينية، ولا يوجد قضايا جسمية تقسم الأمة اليوم إلى سلف وخلف وتتيح لأعدائها فرصة القضاء عليها.
وَلْأَستَعرِضْ صورًا من الخلاف الناشئ، وانظر: أين هي الفجوة المزعومة!
هل أتباع أحمد بن حنبل هم السلف وغيرهم هم الخلف؟ ما أظن عاقلًا يزعم هذا.
قد يكون التفرق المذهبي والتعصب الأعمى لإمام بعينه بدعة لم يعرفها السلف! وهذا حق.
والعلاج أن تَشيع في هدوء دراسةُ الفقه المقارن، وأن تُبحث القضايا من خلال مراجعة واعية لكتاب الله وسنة رسوله، وأن يتم ذلك في بيئات متخصصة بعيدة عن هوس الدهماء، ثم تقدم خلاصات عملية للجماهير، مع ملاحظة:
( أ ) أن فقه الفروع ثانوي في رسم السلوك الإسلامي.
(ب) أن شغل العامة به لون من الثرثرة الدينية المعطلة للإنتاج، والمضعفة للطاقة على الجهاد.
(جـ) أن اتباع أي رأي لإمام ثقةٍ ـ خطأ أم صوابًا في نظر الغير ـ لا حرج فيه ولا يَلِدُ عداوة لأحد.
إن أولي الألباب أخذوا على عوام المسلمين قديمًا وحديثًا مغالاتهم الغريبة في فقه الفروع وإهمالهم لسلامة الأخلاق والقلوب، وتكاسلهم عن التفوق في شئون الدنيا وأسباب الحضارة، وهذا مسلك يُودي بالدين كله.
وأمر آخر يثير البلبلة والفتنة؛ زيارة القبور والاستشفاع بأصحابها عند الله.
والحق أن الخاصّة الأولى في الإسلام تعليق القلوب بالله وحده، وإسلام الوجوه إليه، والنظر إلى الأحياء والموتى على أنهم عبيد وحسب.
ولم يطلب الله مني وأنا أدعوه أن أستظهر معي بأحد أو أستشفع إليه بمخلوق.(1/342)
ولست أحب أن أعكر صفو التوحيد بمسلك سخيف. وقد رأيت من زوار الأضرحة ما يثير التقزز ويوجب الإنكار.
والذي أراه أن تعليم هؤلاء قد يفتقر إلى جُهد شديد، ولكنه واجب، بل هو متعيِّن، وهو أولى وأجدى من تكفيرهم واستباحتهم واعتبار دارهم دارَ حرب!
أنهم يكرهون التجسيد اليهودي، والتعديد النصراني، وأنواع الوثنيات البوذية والهندوكية والعربية القديمة، ويحرصون كل الحرص على انتمائهم الإسلامي، بل يقاتلون دونه بكل ما أوتوا!
فلماذا يحرِّض البعض على تكفيرهم ويَعجِز عن إرشادهم إلى المسلك؟
أكاد أقول: إن الحرص على تكفيرهم مرض نفسي لا يقل عن المرض الذي يعاني منه هؤلاء!
نظرت إلى اختلاف الفقهاء في حكم الصلاة بالمقبرة، وتحيرت بادئ ذي بَدء؛ إن جمهرة الأئمة الأربعة بين كاره أو مبيح!
ثم جاء ابن تيمية ـ وللرجل وزنه العلمي ـ فحرَّم وشدَّد وذكَّر المسلمين بحديث نبيهم "لا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن هذا".
وخُيِّل إلي أن تغيُّر الناس هو السبب في اختلاف الحكم، فما كان المسلمون الأوائل يذهبون إلى مقبور يلتمسون منه شيئًا، ومن ثَمَّ لم يشعر الفقهاء المُفتون قديمًا بأن الأمر يستحق الحظر والوعيد.
أما في القرن السابع ـ عصر ابن تيمية ـ فإن أعدادًا من العامة كانت تستجير من التتار الغازين بقبر أحد الصالحين!
كيف يقع هذا؟
وما يغني المسكين عن هؤلاء اللائذين به؟
إنه لو كان حيًّا ما أفادهم!
وهل يُفيد في الحرب إلا من استَكمَل عُدَّتَها؟
(وَدَّ الذين كفَروا لو تَغفُلون عن أسلحتِكم وأمتعتِكم فيَميلون عليكم مَيلةً واحدةً) (النساء: 102) إن ذلك ما جعل الرجل يتشدد في إنفاذ كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا يُبنَى على القبر مسجد وألا يُصلَّى في مقبرة؛ سدًّا للذريعة.
الواقع أن حركة ابن عبد الوهاب من الناحية العلمية سليمة، وقد تكون الوسائل الرديئة هي التي هزمتها، يذكر الأستاذ أحمد أمين:(1/343)
أنه قام في الهند زعيم وهابي ـ اسمه السيد أحمد ـ حج سنة 1822م وهناك آمن بالمذهب الوهابي، وعاد إلى بلاده فنشر الدعوة في "البنجاب" وأقام شبه دولة وهابية، وأخذ سلطانه يمتد حتى هدد شمال الهند! وأعلن حربًا عَوَانًا على البدع والخرافات! وهاجم الوعاظ ورجال الدين الرسميين! ثم دعا إلى الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ويقبل دعوته، وقرر أن الهند دار حرب! وقد لقيت الحكومة الإنكليزية متاعب كثيرة من أتباعه حتى استطاعت إخضاعهم.
ألا نستفيد من ذلك كله أن الوسائل ينبغي أن يُعاد النظر فيها على ضوء التجارب الفاشلة؟
إن الإقناع أهم من التخويف، والدليل أجدى من السيف، وأنا أريد هداية الناس لا أَسْرَهم!
ومن نظَر إلى الدنيا على أنها مَغنَم له إذا انتصر فهو قاطع طريق وليس داعيًا إلى الله، وهو أجهل الناس بسيرة محمد وشريعته!
وإذا كان القتال الغبي لا مَساغ له من أجل العقيدة، فكيف إذا كان في سبيل نقاب يوضع على وجه امرأة، أو غطاء يوضع على قافية الرأس، أو صورة تُرسَم على ورقة!
إن البعض مستعد لحرب أشد من حرب داحس والغبراء من أجل هذه القضايا المحقورة!
وعلى أية حال فمن الخير أن يَنأَى عن ميدان الدعوة الدينية أصحابُ الأمزِجة السوداوية والطِّباعِ الغَضُوب والمتلمسون للبُرَآءِ العَيبَ!
وشيء أخير نثبته هنا؛ لقد درسنا في الأزهر، ونحن طلاب، مذهبَيْ السلف والخلف في آيات الصفات، أعني التفويض والتأويل، وتم ذلك دون تشنج أو توتر أعصاب، وتُرك لمن شاء أن يختار ما شاء من أقوال!
وقد اخترت رأي السلف لأنه في نظري أعرف بوظيفة العقل الإنساني وقدراته، ولأنه يسُد الأبواب أمام مجالس الثرثرة الدينية التي تُضيع الوقت سُدًى! ولأنه احترم مصادره الأصلية وازدَرَى فكر اليونان!(1/344)
ومع ذلك فقد تعمقتُ في فهم أفكار الخلف، وأستطيع القول بأن جمهرتهم حِرَاص على توحيد الله وتوقيره، وأن دراستهم لابد منها في فهم الملل والنحل ومقارنة المذاهب، وأن الأفضل الآن تحنيط هذه الدراسات ووضعها في المخازن للذكرى والتاريخ.
فالنزعة العقلية المعاصرة لا تحب أن تسمع بحثًا عن:
هل الله عالم بذاته أو بصفة زائدة على الذات؟
إن هذا اللون من الفكر أمسى لغوًا! وعلى معتنقي فكر السلف أن يتجردوا لنصرة دينهم، فالمدى فسيح.
أما أن يَعتبروا اعتناقَ الفكر السلفي هو نصرة الدين، وأن إلحاق هزائم بالأشاعرة قُربَى إلى الله فذاك الآن نوع من البَطالة!
قال لي صديق من نجد: نطاق العقائد أوسع مما ذكرت، والذين يقفون به عند هذه الحدود هم الذين لا يؤمنون بالوحيَين معًا.
قلت دَهِشًا: ما تعني بالوحيَين؟
قال: الكتاب والسنة.
قلت: هذه تثنية مثيرة، فإن القرآن معجِز تحدَّى الله به الإنس والجِنّة، وهو مقطوع بثبوته كلمة كلمة.
ولا كذلك السنة؛ أكثر السنة أحاديث آحاد يعمل بها في الفروع، أما العقيدة فتحتاج إلى نص مستَيقَن ثابت بالتواتر. والقرآن أصل الإسلام، والسنة فرع يجيء بعده بيانًا وتفسيرًا.
قال: السنة مثل الكتاب في أنها مصدر للعقائد ما دام السند صحيحًا.
قلت: ما هي العقيدة التي ترى أنها ثبتت بحديث آحاد وكُلِّفت الأمة جمعاءَ باعتناقها؟
فتروَّى قليلًا ثم قال: ثبت في الصحاح أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تمتلئُ النارُ حتى يَضَعَ اللهُ تبارك وتعالى فيها رِجلَه فتقولَ: قط قط. فهناك تمتلئُ ويَزوي بعضُها إلى بعض، ولا يَظلمُ اللهُ تعالى من خلقه أحدًا" فالحديث أثبت صفة القدم.(1/345)
قلت: هذا كلام باطل، إنك مع بعض السطحيين فهمتم أن "الرِّجْل" كلمة تعني العضو المعروف، وقد قال المفسرون: إن القدم ما يقدَّم للنار من الأشخاص الأراذل الذين يستحقونها. وارجع مثلًا إلى تفسير القرطبي لترى أن القدم وكذلك الرجل مفرد أرجال الجراد، وأرجال يعني الأرتال، والمعنى معروف لدى العلماء.
فلا دلالة الحديث قطعية ولا ثبوته قطعي، فكيف تنشئ عقيدة من ظن حائر؟
وما طولب عربي ولا رومي ولا عجمي باعتقاد أن لله قدمًا، فهل نأخذ الدين من سلفنا الأول أم نأخذه من عقولهم؟
راجعوا أنفسكم ليلتقيَ المؤمنون على كلمة سواء.(1/346)
68 ـ ما حقيقة الملائكة والجن؟ وما علاقتهما بالإنسان؟
هذا مَيدان شائك! لأنه يتصل بعالم الغيب ودرايتنا به قليلة، وسأنقل خطواتي بحذر مستهديًا بما أملك من طاقة عقلية، وبما تيسر من تعاليم سماوية.
أؤكد أولًا أن الوجود أكبر من الإنسان، وأن تصور الإنسان نفسه على أنه الكائن المحتكِر للحياة ينطوي على غرور وجهالة، فالكون أكبر منا، وساكنوه أكثر عددًا وأشد قوة.
وقد فهمت من القرآن الكريم أن الجن عالم برز إلى الحياة قبل الإنسان، وربما كُلِّف قبله، قال تعالى: (ولقد خلَقنا الإنسانَ من صَلْصالٍ من حَمَأٍ مَسنونٍ. والجانَّ خلَقناه من قبلُ من نارِ السَّمومِ) (الحجر: 26،27).
ويبدو أن إبليس أبا الجن ضايقه هذا الكائن الجديد، وظنه منافسًا على مكانة استقرت له، فكره آدم وبنيه، وساءل الخالق معترضًا: لم خلَقتَ هذا الإنسان ذا الطبيعة الهَشة؟ ولم أمَرتَ بالسجود له؟ إنني أَقدَر منه وأصلَب! ولو أُطلِقنا في سباق لألحقت به وبأولاده شر هزيمة (أرأيتَك هذا الذي كَرَّمتَ عليَّ لئنْ أخَّرتَنِ إلى يومِ القيامةِ لأَحتَنِكَنَّ) لأستأصِلَنَّ (ذريتَه إلا قليلًا) (الإسراء: 62).
وإبليس بهذا التصرف أحمق! فليس له ـ وهو أحد العبيد المخلوقين لرب الأرض والسماء ـ أن يقف هذا الموقف، فلله أن يخلق ما يشاء، ولله أن يفضِّل ضعيفًا متواضعًا على متكبر!
وما أدرى إبليس أن من أبناء منافسه من يَبهَرُ بحسن الطاعة وصدق العبودية، وحطَّم ما يتعرضه من عقبات حتى يُرضيَ ربَّه بجدارة؟
على أن عالم الجن لم يمض كله في طريق إبليس، فقد بقي منه نفر كثير يعلن ولاءه لله، ويثابر على طاعته، ويؤدي التكاليف المطلوبة منه.(1/347)
نعم، في الجن ناس طيبون، يسبحون بحمد ربهم، وينكرون أن يكون له ولد، ويهتدون إلى الرشد، وينفذون وصايا المرسلين. وهناك أيضًا من واصلوا الحملات ضد آدم وبنيه، واحتالوا طويلًا لإشقائهم وإفنائهم (وأنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك كنّا طرائقَ قِدَدًا. وأنا ظننّا أن لن نُعجِزَ اللهَ في الأرضِ ولن نُعجِزَه هَرَبًا. وأنّا لما سَمِعنا الهدى آمنّا به فمن يؤمنْ بربِّه فلا يخافُ بَخْسًا ولا رَهَقًا. وأنّا منّا المسلمون ومنّا القاسطون فمن أسلَمَ فأولئك تَحَرَّوا رَشَدًا. وأما القاسطون فكانوا لجهنمَ حطبًا) (الجن: 11ـ15).
والاحتكاك دائم بين ذرية إبليس وذرية آدم، فما طبيعة هذا الاحتكاك؟
الظاهر أن الشياطين ـ أعني الجن العصاة ـ ليس لهم أكثر من الوسوسة والاستغفال! ومع ضخامة قُواهم المادية فهم مكفوفون عن استخدامها ضد بني آدم! إنهم يجيئون لمتردد فيُغرونه بالجبن، ولمتوقِّح فيُغرونه بالكبر، ولمتهافت على الشهوات فيُغرونه بالفسق، وهكذا.
وعندما يُوقَف الكل للحساب يقول الشيطان لمن أغراهم: (إن اللهَ وعَدَكم وَعْدَ الحقِّ ووَعَدتُّكم فأخلَفتُكم وما كان ليَ عليكم من سلطانٍ إلا أن دَعَوتُكم فاستجَبتُم لي فلا تَلوموني ولوموا أنفسَكم) (إبراهيم: 22).
والقانون ـ كما قيل ـ لا يحمي المغفل، فإذا زاغ بشر فهو المسئول عن نفسه، وما يملك أحد إرغامه على عوج، ولو استخدم مواهبه ما قَدِر أحد على الضحك منه.
قد تكون قصتنا على ظهر الأرض هي قصة أبينا آدم أيام الجنة! إنه لو ظل ذاكرًا فلم يَنْسَ، قادرًا فلم يَضعُفْ لارتد سهم إبليس إلى نَحره! ولكنه لم يكن عند حسن الظن (ولقد عَهِدنا إلى آدَمَ من قبلُ فنَسيَ ولم نَجِدْ له عَزمًا) (طه: 115).(1/348)
والذين ينزلقون في دنيانا وقع لهم ما وقع لخللٍ داخلي فيهم جعلهم يتجاوبون مع كيد الشيطان وينخدعون بكذبه (ولقد صدَّق عليهم إبليسُ ظنَّه فاتَّبَعوه إلا فريقًا من المؤمنين. وما كان له عليهم من سلطانٍ إلا لنَعلَمَ من يؤمنُ بالآخرةِ ممن هو منها في شكٍّ وربُّك على كلِّ شيءٍ حفيظٌ) (سبأ: 20ـ21).
وعندما تقع رذيلةٌ فلَذّةُ الشيطان منها الأَزُّ عليها وتزيينُها، ذلك كل ما يشتهي!
أما الإنسان المجرم فلذته أكل حرام أو سرقة عِرْض أو ظلم ضعيف، وما يَحُسُّ مؤقتًا بحلاوته لا يَحُسُّ الشيطان شيئًا منه ولا يرى لذة فيه.
فرحة الشيطان أن يرى الإنسان ساقطًا ذليلًا مغاضبًا لربه، ولذلك يقول الله لبني آدم موبِّخًا: (أفتَّتَخذونه وذريَّتَه أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌّ بئس للظالمين بدلاً) (الكهف: 50).
ويظهر أن للشياطين تخصصاتٍ شتى! كما يظهر أن بعضهم يلازم أنواعًا من البشر ويَقِف نفسَه على إغوائهم (ومن يَعْشُ عن ذكرِ الرحمنِ نُقيِّضْ له شيطانًا فهو له قرينٌ) (الزخرف: 36).
وإذا كان للعصاة قرناؤهم ومضلِّلوهم فإن الأقوياء ييأس الشيطان منهم (إن عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ) (الحجر: 42).
ونترك عالم الجن وعلاقته بالإنسان إلى عالم آخر أنقى وأطيب.
إن الإنس والجن جنسان مكلَّفان ممتَحَنان، قادران على الخير والشر والذكر والنسيان، من أجل ذلك يُحصي الله عليهما نِعَمه ثم يقول: (فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبان).
لكن هناك عالَمًا آخر إرادته من إرادة الله، وحياته وقف على إنفاذ مشيئته، هو عالم الملائكة الذين يَرْنُون دائمًا إلى أنوار الألوهية ويستغرقون في أمجادها، قال تعالى: (ومَن عنده لا يَستكبرون عن عبادته ولا يَستحسرون. يُسبحون الليل والنهار لا يَفتُرون) (الأنبياء: 19ـ20).
ووظائف الملائكة كثيرة، وهم مع أبناء آدم من بدء تخلُّقه حتى يُوارَى في التراب.(1/349)
ففي الحديث عن ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خَلْقَ أحدِكم يُجمَعُ في بطنِ أمِّه أربعين يومًا، ثم يكونُ علَقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يَبعَثُ اللهُ مَلَكًا بأربعِ كلماتٍ؛ بكَتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أم سعيدٌ، ثم يُنفَخُ فيه الروحُ".
وإذا صح أن نسمِّيَ هؤلاء الموكَّلين بالأرحام ملائكةَ الحياة، فهناك آخرون للوفاة (قل يَتوفَّاكم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّل بكم ثم إلى ربِّكم تُرجَعون) (السجدة: 11).
والمحيي المميت هو الله جل شأنه، وهو الذي يُلهم ملائكته ويُقْدِرُهم على فعل ما يريد.
وقدرات الملائكة أعظم كثيرًا من قدرات الجن، وإذا كان العفريت يستطيع أن يلمس السماء، أو ينقل شيئًا من اليمن إلى فلسطين في ساعة، فإن الملائكة أوسع طاقة، وفيهم من يستطيع تطويقَ أعتى المَرَدة والهُوِيَّ به إلى أسفل سافلين.
والملائكة يتابعون حياة البشر ويسجلونها، سواء كانت نية في القلوب أو كسبًا للجوارح، ويعني هذا بلا ريب رؤية عجيبة وصَحوًا تامًّا (إذ يَتلقَّى المتلقِّيان عن اليمين وعن الشمال قَعيدٌ. ما يَلفِظُ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ) (ق: 17،18).
وما يحتاج ربنا ـ جل جلاله ـ إلى من يعلِّمه أو يذكِّره! ولكن النظام الذي وضعه لكونه أحصى فيه كل شيء من المخلوقات والأعمال (وما يَعزُبُ عن ربِّك من مثقالِ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتابٍ مبينٍ) (يونس: 61).
والملائكة الكرام الكاتبون لا ينتهي لهم تسجيل، ولا يقف لهم إحصاء (كلَّ يومٍ هو في شأنٍ. فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبان) (الرحمن: 29،30).
والملائكة صديقة للمرء المؤمن؛ تفرح بعبادته وتَهِشُّ له، وإذا دخل المسجد للصلاة حفَّت به، وإذا جلس في طاعة الله شرَعت تدعو له: "اللهم ارحمه، اللهم اغفر له".(1/350)
وثبت أن لها نوباتٍ في صلاتي الفجر والعصر، ثم تصعد إلى ربها تذكر له ما ترى، وهو أعلم به، ولكنه النظام الذي وضعه سبحانه.
في المحافل الجادة وفي مجالس الخير تكون الملائكة بلطفها ودعائها مع المؤمنين؛ فربما قال أحدهم الكلمة يُعينه عليها ملك كريم، وربما صاغ القصيدة في الدفاع عن الله ورسوله يؤيده فيها الروح القُدُس كبير الملائكة.
وفي الوقعات التي يَصطرع فيها الحق والباطل ويَبيع جند الله أنفسَهم لنصرة دينه، تتنزل الملائكة لتشجع وتُلهِم (إذ يوحي ربُّك إلى الملائكةِ أني معكم فثبِّتوا الذين آمنوا سأُلقي في قلوبِ الذين كفروا الرعبَ فاضرِبوا فوقَ الأعناقِ واضرِبوا منهم كلَّ بَنَانٍ) (الأنفال: 12)
في هذا الحين تكون ملائكة أخرى لنزع أرواح الكفرة، تتناولها باللطمات ظهرًا لبطن (ولو تَرَى إذ يَتوفَّى الذين كفروا الملائكةُ يَضرِبون وجوهَهم وأدبارَهم وذوقوا عذابَ الحريقِ) (الأنفال: 50).
وهذا الكلام يحتاج إلى تفسير شامل؛ فإن الملائكة لم تَعمِد إلى سِكِّير في حانٍ لتدعوَ له وتلتمس له المغفرة، بل دعت لامرئ يريد أن يتزكى، سعى إلى المسجد ليؤديَ حق الله، وغالَبَ أشغالَ العيش وأوقات اللهو، ورجَّح عليها ذكر ربه، فهو أهل لأن يصليَ عليه الكرام الكاتبون.
كذلك لم تَعمِد الملائكة إلى جبان فارٍّ من الميدان لتسأل له التثبيت والرضا، وإنما دعت لرجل مؤمن هزم حب الحياة وآثر نصرة الله، فهو جدير بالإيناس والبشرى.
والأصل في هذا التفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثم استقاموا تَتنزَّلُ عليهم الملائكةُ ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشِروا بالجنةِ التي كنتم تُوعَدون) (فصلت: 29).
إن تَنَزُّلَ الملائكة ـ كما يُفيد ظاهر الآية ـ في أحوال الحياة كلها لا في الرمق الأخير وحده كما يروي البعض.(1/351)
ويتضح ذلك عندما نعلم أن هذه الآية في مقابلة ما نزل في الغافلين المُعوَجِّين، قبل ذلك مباشرة، وهو قوله تعالى: (وقيَّضنا لهم قُرَناءَ فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلَفهم وحَقَّ عليهم القولُ في أممٍ قد خلَت من قبلِهم من الإنسِ والجنِّ إنهم كانوا خاسرين) (فصلت: 25).
فالأشرار تؤُزُّهم الشياطين، والأخيار تؤيدهم الملائكة، والفريقان مسؤولون برءوسهم عن نفوسهم، فهم ذوو عقول، ولهم إرادة حرة يُحاسَبون بها قبل أي شيء.(1/352)
69 ـ ما معنى أن لله تسعةً وتسعين اسمًا؟ وما مغزاها؟
في القرآن الكريم (اللهُ لا إلهَ إلا هو له الأسماءُ الحسنى) (طه: 8). وفيه كذلك (وللهِ الأسماءُ الحسنى فادعوه بها وذَرُوا الذين يُلحِدون في أسمائه سيُجزَون ما كانوا يَعملون) (الأعراف: 180).
المتأمل في هذه الأسماء يجدها صفاتِ عُلا ونعوتَ كمال وجلال وجمال. والصفة تسمَّى اسمًا إذا دامت لصاحبها ولازمته فلم تنفك عنه، كأنها أشبهت العلَم الذي أُطلِق عليه وعُرِف به.
والأسماء الحسنى بهذا المعنى كثيرة، لأن معالم العظمة الإلهية ليست لها نهاية، وهي مبثوثة في القرآن كما تُبَثُّ النجوم في آفاق السماء، ولله المثل الأعلى. ويغلب أن تختم بها آيات، ويختار الاسم أو الأسماء الخاتمة من السياق الذي جاءت به الآيات. وسنشرح ذلك بعد حين.
وجاء في الحديث الصحيح "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، من حَفِظها دخل الجنة، إن اللهَ وترٌ يحب الوتر" وفي رواية: "من أحصاها دخل الجنة".
والمراد بالإحصاء ألا يَقتصِرَ في معرفة الله ودعائه على بعض دون بعض، بل يَعِيَها كلها ويَتعرفَ على الكمال الأعلى والعبودية الصحيحة من خلال مدارستها وإشرابِ القلبِ حقيقتَها.
وليس المقصود أن الأسماء الحسنى محصورة في هذا التسعة والتسعين، فهي أكثر من ذلك.
والإسلام جاء لتصحيح أخطاء البشر في فهم الذات الأقدس، وتنزيهه عن أوهام القاصرين والجاهلين، فإن الأديان الأرضية أثبتت للألوهية صورة مشوهة منكورة يرفضها أولو الألباب، ويُدركون أن مُبدع هذا الملكوت أعلى منها وأجل.
ثم جاء أهل الكتاب يتحدثون عن إله يتمدد واضعًا يده تحت قفاه وواضعًا قدمًا على أخرى! إله يَنسَى ويندم ولا يدري خطورة تصرفاته!
وقد أُمر المسلمون أن يتركوا أولئك الملحدين في أسماء الله، وأن يعبدوا الله بأسمائه الحسنى وحدها.(1/353)
وقارئ هذه الأسماء لا يفهمها إلا إذا عرف الكون والحياة، عرف هذه السماء المبنية والأرض المفروشة، عرف قوافل الأحياء وهي تعبر عصرًا بعد عصر في طريقها إلى الدار الآخرة.
لا يمكن أن تتم معرفةُ الله بمَعزِل عن ملكوته الكبير، ومتابعةٍ لقَدَره المُحكَم وهو يَهزِم ويَنصُر ويُضحك ويُبكي ويَخفِض ويَرفَع (يدبِّرُ الأمرَ يفصِّلُ الآياتِ لعلكم بلقاءِ ربِّكم تُوقنون) (الرعد: 2).
والعارف بالله من خلال إحصائه للأسماء الحسنى يعرف أن العالم كبير، ولكن خالقه أكبر منه! وأن عقل الإنسان جهاز رائع، ولكنّ مُبدِع الألوف المؤلفة من العقول المنتشرة في القارات الموجودة من أزل الدنيا إلى أبدها أروع وأوسع!
وماذا نقول؟
إن الحشرة المتحركة على الثرى لا تدري ما الإنسان وما ذكاؤه، وما الكون وما أبعاده.
إن الكلمة لا تدري ما كاتبها. فكيف نعرف ـ نحن التافهين ـ كُنْهَ الذات العليا وآماد عظمتها؟
إننا في نطاق العبودية العاجزة نسبِّح بحمد الله ونتحدث عن مجده، ونعلن بصدقٍ ولاءَنا له وفقرنا إليه.
ولعلمائنا بعضُ التعليقات على الحديث الذي ذكر الأسماء التسعة والتسعين؛ قالوا: الأسماء المتقابلة لا ينبغي أن نذكرها مفرَدة واقفين عند المعنى الذي لا نحب، كالضار النافع، والمذل المعز، والقابض الباسط.
فإن هذه الأسماء ذُكرت بمعانيها المتضادة حتى يعلم البشر أن ما ينوبهم من خير وشر ليس بمَعزِل عن علم الله وتقديره! وله جل شأنه أن يختبر عباده بما يسوء ويَسُرّ.
وعلى العبد أن يطلب كشف الضر ممن أرسله، ويغلب أن يكون مُصَاب المرء من عند نفسه، وأنه حُرِم اللطفَ بسبب ما اقترفه، ومن ثَمّ يطلب العفو والتجاوز.
ومن الأدب لذلك أن ينسُبَ الخير لله وينسُبَ الشر لنفسه، وتأمل في دعاء الخليل: (الذي خلَقني فهو يَهدِينِ. والذي هو يُطعِمني ويَسقِينِ. وإذا مَرِضتُ فهو يَشفِينِ) (الشعراء: 79) ولم يقل: أمرضني.(1/354)
وتوقف بعض العلماء عند اسم "المنتقِم" ورده قائلًا: لم يَرِدْ في الكتاب أو السنن الصحاح، الذي ورد في آيةٍ (إن الذين كفروا بآياتِ اللهِ لهم عذابٌ شديدٌ واللهُ عزيزٌ ذو انتقامٍ) (آل عمران: 4).
والفارق كبير بين العبارتين؛ إن الله لم يصف مكة بأنها قرية ظالمة عندما آذت المؤمنين قديمًا، وإنما جاء في الآية (الذين يقولون ربنا أَخرِجنا من هذه القريةِ الظالمِ أهلُها) (النساء: 75) وبين الوصفين تفاوت.
والأسماء الحسنى تقريب للعظمة الإلهية من العقل الإنساني الكليل، ومن مشاعر البشر المأنوسة، وإلا فلا يَعرِفُ اللهَ إلا اللهُ، أو كما وصف رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم: "سبحانك لا نُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك".
ومن الحقائق التاريخية أنه لا يوجد إنسان أحسن تمجيد الله وإجلاله مثل محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وكأنما عقد مسابقة بين أصحابه ليتنافسوا في الثناء على الله ومدحه والتزلف إليه واللَّهَج بمحامده!
عن بُريدة، رضي الله عنه، سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلًا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُوًا أحد. فقال: "والذي نفسي بيده، لقد سأل اللهَ باسمِه الأعظمِ الذي إذا دُعيَ به أجاب وإذا سُئل به أعطَى".
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: دعا رجل فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال النبي: "أتدرون بما دعا؟" قالوا: الله ورسول أعلم. قال: "والذي نفسي بيده، لقد دعا اللهَ باسمِه الأعظمِ الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئل به أعطَى".
واسم الله الأعظم يبلغه العبد الذي ينبعث عن إخلاص عميق ودعاء حار، والذي يجتهد في الثناء على الله بما يحفظ من صفاته وأمجاده.(1/355)
وعن أنس: بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي إذ جاءه رجل قد حفَزه النفَس ـ أي يلهث وتتتابع أنفاسه ـ فقال: الله أكبر، الحمد لله كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه. فلما قضى الرسولُ الصلاةَ قال: "أيُّكم المتكلمُ بالكلمات؟" فأَرِمَ القومُ ـ أطرَقوا سكوتًا ـ فقال الرسول: "إنه لم يَقُلْ بأسًا" فقال الرجل: أنا يا رسول الله. فقال: "لقد رأيتُ اثنَيْ عشرَ مَلَكًا يَبتَدرونها، أيُّهم يرفعُها إلى الله".
وظاهر أن الصحابي القائل أنشأ الكلمة من بيانه ولم يُسبَق إليها. إنها نَضْحُ الإيمان الذي تعلمه من نبيه فأطلق لسانه بهذا الثناء والتكبير.
ومعرفة الأسماء الحسنى ليس تصورًا نظريًّا للكمال الذي تومئ إليه، إنها في إحساس المؤمن، لابد أن تختلط بشئون الحياة التي يحياها وتُمليَ عليه السلوك الذي يلائمها.
لاحظتُ أنه في أوائل سورة الحديد قُرَابة خمسة وعشرين اسمًا ووصفًا لله تعالى، تَتابَعَ سردها على نحو يُثير الفؤاد.
ثم لاحظت كأن هذا كله كان تمهيدًا لتكاليف محددة من الإيمان والإنفاق والجهاد والهجرة بدأت بقوله تعالى: (آمِنوا باللهِ ورسولِه وأَنفِقوا مما جعَلكم مستَخلَفِين فيه فالذين آمَنوا منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبيرٌ) (الحديد: 7).
إن إحصاء الأسماء الحسنى كما جاء في الحديث الشريف هو إقامةُ الخُلُقِ والسلوكِ عليها.
من أولَى من الله أن نؤمن به؟
إنه الأول والآخر والظاهر والباطن!
من أولَى من الله أن نَرفَع الصوتَ بتسبيحه وتكبيره؟
إنه الله الذي سبح له ما في السماوات والأرض.
من أولَى من الله أن نُنفق في سبيله؟
إنه مانح المال في الحياة ووارثه مع فناء الكون كله.
من الذي يَلجأ إليه الحائر ويَستهدي به التائه؟
إنه النور، الهادي.
من الذي يُنقَّى له القلب وتُخلَص له النية؟
إنه العليم بذات الصدور.(1/356)
والبشر يتفاوتون في هذه المعاني وآثارها، ولذلك يقول الله للمؤمنين في هذه السورة: (لا يَستوي منكم من أنفَقَ من قبلِ الفتحِ وقاتَلَ أولئك أعظَمُ درجةً من الذين أنفَقوا من بعدُ وقاتَلوا وكُلًّا وعَدَ اللهُ الحسنى واللهُ بما تعملون خبيرٌ) (الحديد: 10).
ولما كان المسلمون قد جاءوا بعد اتِّباع أديان لم تُحسن معرفة الله ولم تَعِ أسماءه الحسنى، فقد نُبِّهوا إلى اليقظة ونَبذِ الغيبوبة التي طوَت الأولين (ألم يَأنِ للذين آمَنوا أن تَخشَعَ قلوبُهم لذكرِ اللهُ وما نزَل من الحقِّ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتابَ من قبلُ فطال عليهم الأمَدُ فقَسَتْ قلوبُهم) (الحديد: 16).
والخشوعُ لذكر الله في السياق الذي يَملأ السورة كلها يقوم على أن الأسماء الحسنى لا يمكن عزلُها عن الكون والحياة، فالإيمانُ بالله لا يتم داخل صومعة مُعتِمة لا ضوء بها ولا حِراك ولا جهاد.
وربما لا يتحقق هذا الخشوع إلا في ميدان عِرَاك مع الملحِدين في أسماء الله، الجاهلين بحقوق الخالق الكبير، الذين يريدون أن تمضيَ الحياة بعيدة عن هداه، محرومة من بركته وجَدَاه.(1/357)
70ـ هل مِن شَرْح وجيز لأسماء الله الحسنى؟
الله اسم الذات، المُختَصُّ به جَلَّ شأنه، لا يَتَسَمَّى به غيره، فهو عَلَم على المعبود بحق، الذي تَعْنُو له السموات والأرض وما بَيْنها، ونحن نرفض إطلاق اسم "وجود" أو "دييه" على الذات الأقدس، فلفظ "الله" وحده هو العَلَم الحقيقي.
"الرحمن" و"الرحيم" من أسماء الله الحسنى، ومعنى الرحمة معروف، والاسم الأول مختص كذلك بالله ـ سبحانه ـ فلا يُوصَف به غيره (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) (الإسراء: 110) وهذه الصيغة في اللغة تَعنِي بُلُوغَ الصفة تَمَامَها. أمَّا الرحيم فالصيغة تعني فيضان الوصف ليشمل الآخرين، فالذات العليا ممتلئة بالرحمة، وهذه الرحمة تَعُمُّ الغير وتَشْمَل كل شيء.
"المَلِك" (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (مريم: 93) (وللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا) (الرعد: 15).
"القدوس": المُطَهَّر مِن كل عيب، المُنَزَّه عن كل نَقْصٍ. ومِحْوَر التسبيح يدور على هذا المعنى، سبحانه وتعالى.
السلام: الذي لا يَجِيءُ من قِبَلِه عدوان، بل يُرْتَقبُ الخير والرضا.
"المؤمن": الذي يُذْهِب القلق والخوف ويمنح الطمأنينة والأمان (الذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش: 4).
"المهيمِن": الذي لا يَغيب عن سُلْطَتِه شيء، فهو يَرْقُب مَلَكُوته كله رِقَابَةَ استيعابٍ وشهود.
"العزيز": الغالب فلا يُغلَب، والذي يُجِير ولا يُجارُ عليه (مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلهِ العِزَّةُ جَمِيعًا) (فاطر: 10).
"الجبار": العالي فوق الخلائق كلها، وفارضُ قضائه وقَدَرِه على كل شيء (أَلَا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ) (الأعراف: 54)(1/358)
"المتكبِّر": المتعالي على صفات الخلق لا يَتَنَزَّل إليها. والتاء في هذه الصيغة للانفراد والتخصص لا للتكلف، من الكبرياء، بمعنى العظمة التي هي حق الله، ومَن نازعه هذا الحق من جبابرة الأرض قَصَمَه.
"البارئ": الخالق. ويَغْلِب أنْ تُستَعمل الكلمة في إيجاد الأحياء فيقال: بارئ النَّسَم. أي الأرواح.
"المصوِّر": مُنشئ الخَلْق على صور شتّى (هُوَ الذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) (آل عمران: 6) وقَلَّمَا تتَّفق ملامح الوجوه، مع كثرة الناس، ويكاد يَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُ بَصَمَات الأصابع، وهو ـ سبحانه ـ مُصَوِّر خطوطها.
"الخالق": مُوجِد الكون من عدم، ولا يَقْدِر أحد على الإيجاد من عدم (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) (النحل: 17).
"الغفار": الذي يَتَجَدَّد غفرانه لعباده مع تَجَدُّد عصيانهم له. وأصل الغَفْرِ الستر والتغطية ثم العفو.
"القهار": الذي تَنْفُذ إرادته دون اعتراض، فيستحيل أن يَرُدَّها بَشَر أو مَلَك، وهو مُعْطِي الكواكبِ أحجامَها ومعطي الرسلِ أقدارَها ومكانتَها، وإذا مَنَح أو مَنَع لم يجرؤْ على رَدِّ مشيئته أحد (وإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام: 17ـ18).
"الوَهَّاب": صاحب العطايا الجزيلة، تَفَضُّلًا منه على مَن شاء (،.إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 73).
"الرزاق": الذي يُطْعِم ولا يُطعَم، ويسوق لكل حي ما يَفْتَقِر إليه، ويفعل ذلك عن سَعَة واقتدار (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ) (الذاريات: 58).(1/359)
"الفَتَّاح": الذي يفتح أبواب الخير الماديّ والأدبيّ؛ من رِزْق أو عِلْم (مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (فاطر: 2).
"القابض الباسط": هذه الصفات المتقابلة تشير إلى أفعال الله بين الناس حسَب حكمته وإرادته (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (العنكبوت: 62) وليس هناك مَن يَقْتَرِح أو يَتَدَخَّل أو يَعْتَرِض أو يُعَقِّب، بل الله هو القابض الباسط وَفْقَ ما يعلم من خلقه ويشاء لهم.
ومثل ذلك "الخافض الرافع" و"المعِزّ المذِلّ" وآثار هذه الأسماء بين الناس تحتاج إلى إيضاح: إن المرء بفطرته يَكْرَه الذل والخَفْضَ ويحب العز والرفع، فإذا اشتهى ما يحب فعلى باب الله يجب أن يقف داعيًا، وإذا استعاذ مما يَكْرَه فعلى باب الله يجب أن يَقِفَ لاجئًا مستعيذًا. وهو ـ سبحانه ـ يُعِزُّ مَن يَشاء ويُذِلُّ من يشاء، بيده الخير، ما يَسْتَعِير شيئًا من أحد! وهل معه أحد!
لكن الكثيرين من الناس لا يعرفون ما العز وما الذل، إن ملوك الآخرة عاشوا سُوقَة في الدنيا ما يَأبَهُ بهم أحد، وإنهم حَطَبُ جهنم، ربما عاشوا في الدنيا فراعنةً يستعرضون الجيوش ويُسَيِّرُون المواكب، حتى تجيء الآخرة فتصحح الأوضاع المقلوبة (إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) (الواقعة: 1ـ3) وفي الحديث "رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ يوم القيامة" وفي الحديث كذلك "رُبَّ أَشْعَثَ أغبرَ ذي طِمْرَيْن لو أَقْسَم على الله لَأَبَرَّه". فإذا ذُكِرَت هذه الأسماء الحسنى وما شابهها ففي ضوء هذه المعاني ينبغي أن تُفهَم.(1/360)
وثَمَّ ضَمِيمَةٌ أخرى؛ إن الله إذا أَعَزَّ فلا ذُلَّ أبدًا، وإذا أَذَلَّ فلا عِزَّ أبدًا (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) (آل عمران: 160).
وكل صوت تَهْمِس به في أُذُن صاحبك فالله سامعه! وكل حركة فوق الثرى فالله رائيها! وعندما شَعَر موسى بالخوف لَمَّا بُعِثَ هو وأخوه إلى فرعون وقالا: (رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى. قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 45ـ46).
فالله هو السميع البصير. ومن أسمائه الحسنى "الحَكَم، العدل" إنه المُشَرِّع الأعظم، فلا حاكمَ غيرُه ولا مُعَقِّبَ لحكمه، ولا يَلْتَمِس العدلَ عند غيره إلا أحمق (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) (الأنعام: 114).
وهو يحكم بين عباده بما يشاء في الدنيا والآخرة، وقد يُؤَخِّر حُكْمَه في أمور تَقَعُ بين الناس الآن ليَبُتَّ فيها يوم الفصل، والدنيا دار اختبار، وقد يكون من لوازم الاختيار أن يترك الناس على نظامهم إلى حين (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الحَقِّ أَلَا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ) (الأنعام: 62).
ومِن أَسْمَائه الحسنى "اللطيف" إنه يَبْلُغ أمرُه بخطة رائعة وحكمة بالغة، وقد شَعَرَ بذلك يوسف في نهاية قصته فقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ) (يوسف: 100) كما أنه في سُنَنِه الكونية يُقْدِرُ بلطافته على استخراج الحبوب والرياحين من بين الماء والطين (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (الحج: 63).
"الخبير": العارف بالبواطن والأسرار.(1/361)
"الحليم": بَعِيد الأنَاة في معاملة المخطئين، فلا يُعَاجِلُهُم بالعقوبة (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) (النحل: 61).
"العظيم": إنَّ علماء الكون يَشْعُرُون بضآلةٍ أمام أبعاده وأَغْوَارِه! فَكَيْف يكون الشعور أَمَام من أَبْرَزَه من عدم وبنَى فأوسَعَ!
"الغفور" للمسيء "الشكور" للمُحْسِن "العَلِيُّ" فوق الخلائق كافةً، سُبْحَانَ رَبِّنا الأعلى.
"الكبير": المُتَّصِف بِجَلال الشأن وعَظَمَة الذات. والكلمة مأخوذة مِنَ الكِبَر، ومنها الهُتاف المتكرر في الآذان بالغدو والآصال: الله أكبر. فما عدا الله موصوف بالصغر، وملوك الأرض وجبابرتها موصوفون أمامه بالصَّغَار.
"الحفيظ": الذي لا تَضِيع عنده الودائع.
"المُقيت": القَيِّم على الأحياء؛ يوفر لهم أقواتهم فيغذيهم صغارًا وكبارًا.
"الحسيب": الذي يَكفي مَن أَوَى إليه وتَوكَّلَ عليه (أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر: 26) ومن ذلك التعبير المحفوظ: حَسْبُنا الله.
"الجليل": من الجلال أو الجلالة؛ وهو العُلُوّ المَقْرُون بالمَهَابَة.
"الكريم": يدُه تَسُحُّ بالعطاء ليلًا ونهارًا من بدء الخلق وما دام الخلق.
"الرقيب": من الرقابة؛ وهي النظر إلى الأشياء بدقة وإحاطة.
"المُجيب": قابلُ الدعاء والرجاء ممن قَصَدَه (ويَسْتَجِيبُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (الشورى: 26).
"الواسع": الذي وَسِعَت رحمته كل شيء، ووَسِعَ غناه كل فقير.
"الحكيم": الذي لا يقع في فعله عبث ولا في وحيه عِوَج ولا في خلقه تفاوت.
"الودود" الذي يتقرب إلى عباده بالنعمة والتجاوز، مع غناه عنهم وحاجتهم إليه.
"المجيد": المجدُ تمام الشرف، واللهُ أهلُ الثناء والمجد، وأمجاد الألوهية تَعْنُو لها الخلائق كافة. "الباعث": محيي الموتى ليوم النشور.(1/362)
"الشهيد": الذي لا يغيب عنه شيء (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (الأعراف: 7) (الذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (البروج: 9).
"الحق": الوجودُ الإلهي واقع لا يَزول ولا يَحُول، وكل كائن يأخذ وجودَه من الله عاريّةً تُسْتَرَدُّ يومًا "أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ".
"الوكيل": الذي نُفَوِّض إليه أُمُورَنا فيقوم بها عَنَّا، وله القدرة على كَفَالَة أَرْزَاقِنَا وإنجاح سَعْيِنَا، ومن ثم يجب التوكل عليه.
"القوي" (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) (فاطر: 44).
"المتين": الذي لا يَلْحَقُ قدرتَه إعياءٌ.
"الوليّ" الذي يتولَّى أمور الكون ويقوم بها، كما يقوم وليُّ اليتيمِ القاصرِ بشؤونه كلها، ولله المثل الأعلى.
"الحميد": كل أَفْعَالِه جديرة بالحمد. والحمد معنًى يَمتزج فيه المدح والشكر والتمجيد. "المُحصي": في سِجِلَّاته إحصاءٌ لكل شيء (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر: 53).
"المُبدئ": خالق الأشياء لأول مرة. و"المُعِيد": الذي يَرُدُّ إليها وجودها بعد إفنائها (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءِ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 104).
"المحيي المميت": الذي خَلَقَ الموت والحياة وأَخْضَع لهما الكائنات، أَمَّا هو فإنه "الحي" بذاته. وهو "القيوم": لا تَقُومُ الأشياء إلا به، ولو سَلَبَها وجودَها لَتَلاَشَت، فتيار الوجود يجيئها مَدَدًا بعد مَدَد من الحي القيوم، فمنه الإيجاد والإمداد جميعًا.(1/363)
"الواجد": مِن الجِدَة وهي الثروة، وأَمْلَاك الله لا تُعَدُّ؛ لأن كل شيء مِلكُه. "الماجد" كالمجيد. "الواحد": المنقطع القَرِين، لا شريك له ولا نِدَّ ولا ضد. "الأحد" مثله، وأساسه الانفراد والوحدة عن الأصحاب.
"الصمد" هو السيد المقصود عند كل سؤال.
"القادر" و"المقتدر": المعنى واضح، والتكرار زيادة في نفي العجز، فإنَّ جَهَلَة البشر تَتَعَاظَمُ أُمُورًا هي عند الله بَيْنَ الكاف والنون.
"المُقدِّم والمؤخِّر": الله ـ تبارك اسمه ـ يرتب الأشخاص والأشياء وَفْقَ مشيئته وحكمته، وهو يَتَفَضَّل دون مساءلة! ولكنه مُنَزَّه عن الظلم، وفي الحديث "أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت".
"الأول": السابق فَلَيس قَبْله شيء.
"الآخِر" الباقي، فليس بعده شيء.
"الظاهر" المستعلِي، فليس فوقه شيء.
"الباطن" المُحْتَجِب عن الأبصار، فليس دونه شيء.
"الوَلِيُّ": المتصرف في ملكوته لا يُنَازِعُهُ أحد.
"المتعالي" المُنَزَّه عن أوصاف الخلق وعما لا يليق بكماله (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) (الجن: 3) (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) (الإسراء: 43).
"البَرُّ": مصدر البِرِّ والحنان وكل ما يتعاطف له الناس.
"التواب" مُلْهِمُ عبادِه تَرْكَ الإثمِ والندمَ عليه والاعتذارَ إلى ربهم عنه.
"المنتقم": المقصود أنه بالمرصاد للمجرمين؛ يقمع غرورهم ويؤدبهم على طغواهم.
"العَفُوُّ": يصفح عمن أساء، والعفو أحب إليه من القِصَاص (وَهُوَ الذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ويَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى: 25).(1/364)
"الرؤوف": الرأفة رِقَّة تجعل المرء يخفف في التكليف ويُؤثِرُ التجاوز عند الخطأ، ولله المثل الأعلى، وهو يكلف في حدود الطاقة ويُقَدِّم الصفح على المؤاخذة (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28) (ويُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحج: 65).
"ذو الجلال والإكرام": صفات الجلال تُورِث الخَشية والرَّهْبة، وصفات الجمال ـ وأساسها الإكرام ـ تُورِث الحب والرغبة، وجاء في الحديث "أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام" أي أَلِحُّوا على الله بهذا الاسم.
"مالك المُلْك": كل شيء خلقُه وعبدُه، لا شريك له.
"المُقْسِط": العَادِل.
"الجامع": الذي يَحْشُر الخلائق للحساب (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) (آل عمران: 9).
"المانع": يَحْمِي أولياءه ويَدْفَع عنهم وينصرهم.
"الغني" المعنى واضح.
"المُغْنِي" واهب الغِنَى النفسيّ والماديّ.
"الضار النافع": ما تراه من سرور وحزن، ونعمة ونقمة، ونصر وهزيمة فمن الله وحده (وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) (النجم: 43،44) يختبر الله عباده بالأضداد.
"النور": الذي يُبْصِر بنوره ذوُو العَمَاية، ويرشُد بهداه ذوُو الغواية، وهو فالق الإصباح ومضيءُ الآفاق.
"الهادي": المُنقذ من الحيرة، ومُثَبِّت المؤمنين على الحق.
"البديع": الإبداع اختراع ما ليس له مثال، والكون صنع الله الذي لم يُصْنَع من قبل مثلُه. "الباقي" (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (القصص: 88).
"الوارث": الذي يَؤُول الوجود إليه.
"الراشد": مرشد الناس إلى مصالحهم في معاشهم ومعادهم.(1/365)
"الصبور": الذي يرى من عباده القبيح فلا يسارع بالفضيحة، ويسمع منهم السوء فلا يُعَاجِل بالعقوبة، فهذا الاسم كاسمه "الحليم" غير أَنه قد يَطُول لطفه ويُرْجَى صفحه، أمَّا "الصبور" فينبغي القلق من إمهاله.
ويمكن أن يُطالِع القارئ في شرح الأسماء الحسنى بتوسع وبصيرة كتاب أبي حامد الغزاليّ "المَقصِد الأسني" ففيه إن شاء الله ما ينفع.(1/366)
71 ـ طائفة من العبّاد يجتمعون على ذكر الله بأسمائه الحسنى كلها أو بعضها، وقد يَتَمَايَلُون أو يهتزون، فما حكم هذه العبادة؟
هذه بدعة قديمة استحدثها بعض أصحاب المشاعر المضطربة، وقد سماها بعض الصحافيين الأجانب "الرقص الدينيّ" وهي تسمية يُحِسُّ المسلم بالخزي إذا سمعها؛ لأنها تجعل الإسلام أشبه بالعبادات التي يُمَارِسُهَا الزُّنُوج في أَفريقيا، وهذه فتنة مُزْعِجَة وإهانة شديدة للإسلام.
والغريب هو ظهورها مِن قديم! فَقَد سئل الحسن البصريّ عن هذه المجالس فنهى عنها أشد النهي وقال: لم يكن ذلك من عَمَل الصحابة ولا التابعين، وكل ما لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين فليس من الدين ـ يَقْصِد في شؤون العبادات ـ وقد كان السلف حِرَاصًا على الخير وَقَّافِينَ عند حدود الله، وكانوا أَحْرَصَ على الخير من هؤلاء، فنعلم أن ما تركوه ليس من الدين، وقد قال تعالى: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).
قال مالك بن أنس تعقيبًا على كلام الحسن: فما لم يكن يومئذ دينًا لن يكون اليوم دينًا، وإنما يُعْبَد الله بما شَرَعَ، وهذا التجمع بالذكر والتمايل فيه لم يُشرَع قَطُّ، فلا يَصِح أن يُعبَد الله به.
وحكى عياض عن التِّنِّيسِيِّ قال: كنا عند مالك وأصحابُه حوله، فجاء رجل من أهل "نَصِيبِينَ" يقول: يا أبا عبد الله، عندنا قوم من الصوفية يأكلون كثيرًا، ثم يأخذون في إنشاد القصائد، ثم يقومون فيرقصون! فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا! قال: أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ يذكرون الله! قال مالك: ما سمعت أحدًا من أهل الإسلام يفعل هذا.(1/367)
وقال أبو إسحاق الشاطبيّ: إن الاجتماع على ذكر الله بصوت واحد من البدع المحدَثة التي لم تكن في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في عصر السلف، ولا عُرفَت قط في شريعة محمد، وفي الحديث الصحيح "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدَثاتها، وكل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
الواقع أن هذا المسلك انحراف دينيّ مرفوض، ونحن هنا نتساءل: ما الذي حَمَل عليه ودفع جماعة من العابدين إليه؟
لابد من تحديد السبب لإمكان الدواء، إن الفقير قد يلزم طعامًا واحدًا لأنه لا يجد غيره، ولو كان مُوَسِّعًا لَنَوَّعَ وكَثَّرَ، وخطيب الأرياف الذي لا يَحْفظ إلا خطبة واحدة لا يَجِد بُدًّا من تكرارها ماذا يصنع؟ ذلك مبلغه من العلم، وهكذا.
والأمة الإسلامية حَبَسَت نفسها، أو حبستها ظروف سيئة في جملة من العبادات لا تتجاوزها، فإذا اتسع وقتها وشاقتها الطاعة كررت ما تعرف، فضمت إلى صلاة الفريضة مثلًا صلاة نافلة، فإذا اتَّسَع الوقت أكثَرَ تَنَفَّلَت أكثَرَ!
وربما عَنَّ للبعض أن يَخْتَرِع من عند نفسه عبادات لا أَصْلَ لها؛ ليزداد بها قُرْبَى إلى الله.
ونسأل مرة أخرى: لماذا انفتح باب الاختراع في الدين وهو شر، ولم ينفتح باب الاختراع في الدنيا وهو خير؟
ولماذا كَرَّرَ الأتقياء الصلوات والصيام والذكر والاستغفار، وزادوا أرصدتهم من النوافل هنا، على حين قلَّت أو صغُرت الأرصدة في ميادين الأمر والنهي والجهاد المدنيّ والعسكريّ، والاحتراف والتَّطْوَاف بالبر والبحر، ومسابقة الأمم في تنمية النشاط العمرانيّ وتطويعه لِدَعْم الحق ومساندة الخير؟(1/368)
الحق المر أنَّ الفساد السياسيّ من وراء هذه البلبلة الفكرية، فإن الرجل التَقِيَّ قد يُحاوِل مَرْضَاة الله بكلمة صادقة صريحة، فإذا هو يَدْفَعُ رأسَه ثَمَنَها! وقد يُؤَثِّلُ لنفسه وبَنِيه مالًا فإذا مصادرة جائرة تَجْتَاح كل ما جَمَعَ! وقد يبرُز في ميدان ثقافيّ أو أدبيّ أو صناعيّ فإذا هو يساوَم؛ أَيعطِي ولاءَه للحاكم الفَذِّ أم يختفي؟ أمَّا الحِيَاد فلا!
الفرار من هذا البلاء أَوْلَى ولو إلى مجالس ذِكْر تُبْتَدَع! أو خَلْوَات قَصِيَّة تُقْصَد ويُعْتَزَل بها المجتمع!
لقد كان المهندس "سِنِمَّار" ماهرًا في فن البناء، فلَما أبدع قصرًا لأحد شيوخ القبائل كي يتطاول فيه، رأى الشيخ الكبير أن سنمار قد يبني مثله لغيره يشاركه العظمة، فماذا يصنع؟ ألقى بسنمار من سطح القصر، ليبقى القصر وحيدًا للرجل الوحيد!
إن جنون العظمة لا يقف عند حد، وهو قَمِنٌ إذا استبَدّ أن يُهلِك الدين والدنيا معًا. واعتقادي أن الفساد السياسيّ مِن وراء انهيار الأمة الإسلامية وضياعها دُنيَا ودِينًا.
لقد بَقِيَت صور العبادات الشخصية، بل زاد حَجم هذه العبادات بالبِدَع التي اخترعها أهل البطالة وأَقْبَل عليها الرِّعَاع، يتمايلون ويتراقصون. أما العبادات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسائر الأنشطة الحضارية، فقد اعْتَلَّت ثم تَوَقَّفَت، فلَمَّا جاء العصر الأخير كنا في ذيل العالم نَتَرَنَّح، أما الحكام الأكارم ففي ظلٍّ ممدود وماء مسكوب.
وهَمَسَ في أذني رجل صالح، قال: دَعْنِي من سخريتك هذه! وسأقرأ عليك صفحة فيها خير كثير!
قلت: اقرأ، فأنا إلى خير الله فقير!
قال: كتب محمد المَوّاق وفّقه الله:(1/369)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، قال الله سبحانه وتعالى لسيد خلقه: (ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) وأنا ـ أيها الإنسان ـ قد ضاق صدري بما يقول الناس، لكن قال تاج الدين: متى تَوَجَّهَ الناس بالذم إليك فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يُقْنِعُكَ عِلمه فعدمُ قناعتك بعلم الله أَعْظَمُ من وجود الأذى منهم.
وأنا ـ أيها الإنسان ـ بالنسبة إلى ما بَيْنِي وبين ربِّي غيرُ رَاضٍ واللهِ عن نفسي! والله ما أرى حياتي لِمَمَاتي! ولا نفسي لرَبِّي! فلا صواب لي أن أعَتِبَ عَلَى الناس!
وأما بالنسبة إلى ما يَنقِم الناس مني، فما نَدِمْتُ على ما كَتَبْتُ، ولا أستغفر اللهَ منه! ولا أُقَدِّم اعتذارًا للناس على قَول أَرْضَيْتُ به ربي!
اللهم أغنِني بِرَحْمَتِك عن بركاتهم. اللهم إني أَعُوذ برضاك من سَخَطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحْصِي ثناء عليك، أنت كما أثنَيتَ على نفسك. اللهم احرسني بعينك التي لا تَنَامُ، واكْنُفْنِي بِرُكْنِكَ الذي لا يُرَامُ، وارحمني بِقُدْرَتِك عليّ، أنت ثقتي ورجائي!
فكم من نعمة أنعَمْتَ بها عليّ قل لك بها شكري!
وكم من بَلِيّة ابتلَيتَني بها قَلَّ لك عندها صبري!
فيا مَنْ قَلَّ عند نعمتِه شكري فلم يَحْرِمْني، ويا من قَلَّ عند ابتلائه صبري فلم يَخْذُلْنِي، ويا من رآني على المعاصي فلم يَفْضَحْنِي! أسألك اللهم أن تصليَ على محمد وآله، وأن تعينَني على ديني بدنياي وعلى آخرتي بالتقوى.
واحفظني فيما غِبْتُ عنه، ولا تَكِلْنِي إلى نفسي فيما حضرته.
يا من لا تَضُرُّه الذنوب، ولا تَنْقُصُه المغفرة، هَبْ لي ما لا يَنْقُصك، واغفر لي ما لا يضرك!
يا إلهي، أسألك فرجًا قريبًا وصبرًا جميلًا، وأسألك العافية من كل بَلِيَّة، وأسألك الشكر على العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الغنى عن الناس، ولا حَوْل ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.(1/370)
إن هذا الدعاء نَقَلَنِي من حال إلى حال، وشَعَرْتُ بأن الرجل ينطق بلساني ويترجم عن جَنَاني، وغالَبتُ أنينًا دار في فؤادي وفاضت به عيناي!
إن الذكر ليس صِيَاحَ فَمٍ، وإنما هو خشوع قلب، واستكانة عبد إلى سيده، وعمله له دون مَنٍّ أو خُيَلَاء (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17).
وعُدْتُ إلى نفسي أُفَكِّر في الطُّرُق الصوفية، ما أَشُكُّ أنَّ للعَوَامّ حَمَاقَاتٍ مَرْفُوضَةً، وأن حلقات الذكر التي تجمعهم بِدَعٌ سيئة، بل إنَّ لِخَوَاصِّهم كلماتٍ يُعَاقَب عليها، ولا يُصَدِّقها عقل أو نَقْل، لكن أيضًا لبعض العلماء الرسميين قلوبٌ مغلقة ودنيا مؤثَرةٌ وطباعٌ تنبعث منها روائحُ منكَرة، فهل يضيع الدين بين هذه المتناقضات؟
لماذا تكون لبعض المخلِصين جَهَالاتٌ مردودة ولبعض المتفقهين مقاصدُ مغشوشة؟
لماذا لا يصطلح العقل والقلب، أو العلم والتربية، أو الذكاء والإخلاص، فيصلُح الإنسان بجوانبه كلها؟
عندما أقرأ في بعض كتب الصوفية يتملكني الشعور بأن مسافرَا ترك عمله ومصدر رزقه إلى بلدٍ ناءٍ يستجم فيه ويتخلص من قيود الواجبات وعناء التكاليف، هل هذه النشوة العاطفية هي الصورة الكاملة أو الصحيحة للحياة كلها؟
بل السؤال الأول: هل هذا الانقسام موجود في مفهوم الدين عندما تقرأ القرآن الكريم أو عندما تطالع السيرة وكتب السنة؟
لا، لا انقسام ولا تفاوت، فالنية شرط لكل عمل مقبول، وذكر الله إطار لابد منه حتى يستحق العمل الاحترام والثواب!
ويخالط هذا الذكر كل شؤون الحياة، بدءًا من عمل الفلاح في حقله إلى عمل الحاكم في ديوانه.
وتسأل: ما هذا الذكر؟(1/371)
وأجيب: ما صنَعه عمر بن الخطاب عندما خطب الناس يومًا، فذكر لهم تفاهة حِرْفَتِه صَدْرَ حياته وكيف كان أجيرًا لا يُؤْبَهُ له، فَلَمَّا نَزَل من المنبر قال له عبد الرحمن بن عوف: ما زِدْتَ على أنْ هَجَوْتَ نَفْسَك! فقال عمر: ذاك ما قَصَدْتُ؛ إن نفسي تَطَاوَلَت فأَحْبَبْتُ أن أَقْمَعَها.
هذا حاكم يفهم بعمق معنى قوله سبحانه: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) (القصص: 83) إنه سياسيّ كبير يحمل فؤاد عابد كسير، إنه لن يَتَفَرْعَنَ يومًا وهو يَحْمِل بين حَنَايَاه هذا القلب!(1/372)
72 ـ لماذا وَصَّى الإسلام بصلاة الجماعة وفَرَض صلاةَ الجمعة؟
الصلاة جزء من النشاط الإسلاميّ فوق كل أرض يَعْمُرُها الإسلام، والمسجد هو السِّمَة الأُولَى للحضارة الإسلامية في كل قرية أو مدينة. وعندما يَنْجَح المؤمنون في إقامة مجتمعهم بعيدًا عن إذلال الفَتَّانِينَ وعَمَايَة الكافرين، فإن أول عمل يُفَكِّرُونَ فيه ويُبَادِرُونَ إليه هو إقام الصلاة، استجابة للآية الكريمة: (الذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ) (الحج: 41) وقد حاول البعض أن يَدخُل في الإسلام متخفِّفًا من الصلاة فأبَى الرسول إباءً حازمًا وهو يقول: "لا خير في دين بلا صلاة".
ونَبَّهَ القرآن الكريم إلى أنَّ المَدَنِيَّات التي تَفَسَّخَت وبادت هي تلك المدنيات التي جَفَّت فيها ينابيع الروحانية، وهَيْمَنَت عليها الشهوات المادية، وانْقَطَعَت بالله صلتُها، فقطع عنها بركته! قال ـ تعالى ـ في وصف هذه الأجيال المُنْحَلَّة: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59).
إنَّ ارتباط العِفَّة والاعتدال بالصلاة مَفهوم، واشتداد السُّعَار الحيواني مع البعد عن الله واقع، ولنْ تَكْسِب الحضارات المُغْرِقة في المادة إلا الصراعَ على الوهم، والهلاكَ وراء سراب يَلْمَع ولا غَوْثَ فيه!
وقد أَوْصَى الإسلام بالانطلاق إلى المسجد خَمْس مرات كل يوم، وحافَظَ المسلمون على ذلك حتى قال ابن مسعود: لقد رَأَيْتُنَا وما يَتَخَلَّف عن الصلاة إلا منافق قد عُلِمَ نِفَاقُه أو مريض. وقال: إن رسول الله عَلَّمَنَا سُنَن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاةَ في المسجد الذي يُؤَذَّن فيه.(1/373)
ويَظْهَر أنَّ أعداء الإسلام عَلَى عهد الوحي غاظَهم هذا المنظر المَهِيب المتكرر بالغُدُوِّ والآصال؛ منظر المسلمين وهم يجيئون من أطراف المدينة ليصلُّوا وراء نبيهم، ما تَنْفَضُّ لهم جماعة حتى تَقُومَ أخرى (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النساء: 103) فماذا يَصْنَعُون؟ أَخَذُوا يُنَفِّسُونَ عن ضغائنهم بالغمز واللمز، وربما تضاحكوا، وعقدوا المجالس عند سماع الأذان وقيام الجماعات لِيُرْسُوا التعليقات الساخرة! وهذا مسلك شرير يمكن تركه. ونزل الوحي يطالب المؤمنين أن يُقَاطِعوا هؤلاء العابثين، وأن يتجهموا لهم، وهذا أقل ما يمكن عمله (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةَ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) (المائدة: 57،58).
ما الذي جَمَعَ اليهود وعَبَدَة الأصنام والمنافقين على التندر بالدين الجديد والنَّيْل من شعائره؟ إنه الإِيغَال في الكفر والتحدي!(1/374)
وكَرِهَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنْ يُقابَل الإسلام بهذا المُجُون، وأن تُنَالَ شَعَائِره بهذا العبث، وأن يَجِد المنافقون ظهيرًا لهم من بين الكفار يساعدهم على النَّيل من المسلمين بهذا الأسلوب الدنيء، فأرسل هذا التحذير الذي بلغ صداه القوم فأَقَضَّ مضاجعهم، قال: "لَقَدْ هَمَمْت أن آمرَ بالصلاة فتقام، ثم آمرَ رجلًا يصلي بالناس، ثم أنْطَلِقَ معي برجال معهم حُزَمٌ من حطب إلى قوم لا يَشْهَدُون الصلاة، فأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهم". وكانت أَثْقَلَ صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر! ولا ريب أنهم المَعْنِيُّون بالتهديد السابق؛ فإن اليهود والنصارى لا يُكَلَّفون بصلاة.
وليس معنى الحديث أن تجميع الناس للصلاة يتم بالتهديد، فذلك مستحيل؛ لأن جمهرة المؤمنين كانوا ابتغاء وجه الله يُهْرَعُون إلى المسجد كلَّما سَمِعوا النداء، وكان أَمَلُهم ادِّخَارَ الأَجْر العظيم عند الله. قال ابن مسعود: إنَّ كان المريض لِيَمْشي بين الرجلين ـ يَحْمِلانه لِمَرَضه ـ حتى يأتيَ الصلاة، وكان أَبْعَدَ الناس مَمْشًى يَحْتَسب خُطَاه عند الله ويحرص على الانتظام في الصفوف.
لكن من حق المؤمنين عند إقام الصلاة في الجماعات العامة ألاّ تَنْتَظمَ جماعات أخرى للعبث، وألاّ تَنْعَقدَ مجالسُ لِجِدٍّ أو هَزْل، وألاّ تُقَام أسواق للشغب.
وقد لاحظ الناس عند عَقْد اجتماعات الهُدْنة بين المصريين واليهود أن اليهود كانوا يَتَحَرَّوْن أيام الجمعة للمفاوضات، وكأنهم يريدون عمدًا انتهاك وقت الجمعة وإضاعة شعائرها!
وتهديد الساخرين والماجنين بالتحريق عليهم تَرَكَ أَثَرَه، ولم يُؤْثَر قَطُّ عن النبي الكريم أو أيام الخلافة الراشدة أنْ وَقَع شيء من ذلك، وقد شَرَحْنا ملابسات هذا التهديد كما جاءت في الكتاب العزيز، فلا مَجال للاستخفاف والقول بأنَّ الإسلام يَأْمُر بإحراق المُتَخَلِّفِينَ عن الصلاة.(1/375)
عن أمِّ الدرداء قالت: دَخَل عليَّ أبو الدرداء وهو مُغْضَب فقلت: ما أَغْضَبَك؟ قال: والله ما أعرف من أمر أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا إلا أنهم يُصَلُّون جميعًا.
وعن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأَسْمَعُ بكاء الصبي فأَتَجَوَّز في صلاتي أُخَفِّفُها لِمَا أعلم من وَجْد أمِّه من بكائه".
وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سلم من صلاته يمكث في مكانه يسيرًا، فنُرَى ـ والله أعلم ـ أن مُكْثَه لكي ينصرف النساء قبل أنْ يُدْرِكَهُنَّ الرجال.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أَوَّلُها وشَرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرُّها أَوَّلُها". وظاهرٌ أن الوصف بالشر لمن يحاول من الجنسين أن يَقْتَرب من الآخر! أما من لا يَجُول بخاطره شيء يَرِيب فلا يَلْحَقه إثم، والمراد توفير جو الطُّهر والتقوى في المسجد.
وهذه الآثار المتتابعة قليل من كثير من السنن الدالة على أن المسجد كان يستقبل الأمة كلها، وإن إقصاء النساء عنه لم يُعرف في سلف الأمة، بل كانت روحانية المسجد وثقافته تَسْرِيَان على امتداد الشوارع وداخل البيوت.
وإذا كانت الجماعة للصلوات الخمس سنة مؤكدة، فإن حضور الجمعة فرض عَيْن على كل مسلم قادر. قال تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة: 9).(1/376)
وعن عبد الله بن عمرو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَحضُر الجمعة ثلاثة نَفَر: فَرَجل حضرها يَلْغُو، وهو حظه منها. ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دَعَا الله إن شاء أعطاه وإنْ شَاءَ منعه. ورجل حَضَرَها بإنصات وسكوت ولم يَتَخَطَّ رقبة مسلم ولو يُؤْذِ أحدًا، فهي كفارة له إلى الجمعة التي تَلِيهَا وزيادة ثلاثة أيام، إن الله ـ تعالى ـ يقول: (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (الأنعام: 160).
وقال عليّ بن أبي طالب وهو يَخْطُب على مِنبر الكوفة: "إذا كان يوم الجمعة غَدَت الشياطين براياتها إلى الأسواق، فيَرْمُونَ الناس بالرَّبَائِث الربيثة: ما يَعُوقُ المرءَ عن عمله ويصرفه عن واجبه ويُثَبِّطُونَهم عن الجمعة، وتَغْدُو الملائكة فيجلسون على أبواب المسجد يَكْتُبُون الرجل من ساعة والرجل من ساعتين، حتى يَخْرُج الإمام، فإذا جلس الرجل مجلسًا يَسْتَمْكِن فيه من الاستماع والنظر، فأَنْصَتَ ولم يَلْغُ كان له كِفْلَانِ مِن الأجر، فإِنْ نَأَى وجلس حيث لا يسمع، فأنصَتَ ولم يَلْغُ كان له كِفْل من أجره، وإن جلس مجلسًا يستمكن فيه من الاستماع والنظر، فلَغَا ولم ينصت كان عليه كفلان من وزر، فإن جلس مجلسًا لا يستمكن فيه من الاستماع والنظر، فَلَغَا ولم يَنْصِت كان عليه كفل من وِزْر، ومن قال لصاحبه يوم الجمعة: صَهٍ. فَقَدْ لَغَا، ومن لغا فليس له في جمعته تلك شيء". ثم قال في آخره: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول ذلك.
والجمعة شعيرة تَرجَح أعظَمَ أجهزة الدعاية التي وصل إليها العالم، وإذا كان المسلمون الآن ألف مليون نَسَمَة فمفروض أن تُلْقَى بينهم خُطَب بين المليون والمليونين كل أسبوع! يقوم رجل مُوَجِّه فيَتَحَدَّث باسم الله إلى عباده، يقول ما لَدَيْه، والمصلُّون صامتون يُصْغُون لِمَا يقال، لا يتشاغل عنه أحد، ولا يَنْصَرِف من مكانه حتى يَسْمَع الخطبة كلها ويُؤَدِّيَ الصلاة.(1/377)
إن أمة هذه نُظُمُها ينبغي أن تَتَوَحَّد صبغتها ووجهتها، وأن يرقى مستواها الفكريّ والعاطفيّ، وأن تُغَالِب أسباب التفكك والفرقة.
وأكره أن تكون الخطبة تحرشًا شخصيًّا، أو تهجمًا سياسيًّا، أو تعليقًا مَقْصُورًا على الأحداث العابرة، فإنَّ المساجد لم تُبْنَ لشيء من هذا، وتشريع الخطبة كما جاء في القرآن الكريم: (اسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ) والذكرُ المقصودُ ربطُ الناس بربهم من خلال النظر في آفاق الكون وشؤون الناس على نحو ما وضح القرآن الكريم: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ) (فصلت: 53).
وتطويل الخطبة غير سائغ ولا مشروع، فعن أبي وائل قال: خَطَبَنَا عمار بن ياسر فأوجز وأبلغ، فلَمَّا نَزَلَ قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أَبْلَغْتَ وأَوْجَزْتَ، فلو كنت تَنَفَسَّتَ! أَطَلْتَ فقال: إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن طول صلاة الرجل وقِصَرَ خطبته مَئِنَّةٌ مِن فِقهه علامة فأَقْصِروا الخطبة وأطيلوا الصلاة".
وكانت أكثرَ خطَب رسول الله من القرآن الكريم؛ ولذلك لم تُحْفَظْ عنه خطَب من كلامه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلا على نُدْرَة، وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذتُ (ق والقرآن المجيد) حَفِظْتُها إلا من لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الجمعة. يقرأ بها على المِنبر في كل جمعة كانت قَدْ شَهِدَتْها، والمفروض أن خطبة الجمعة كانت نحو خمسمائة مرة بعد هجرته عليه الصلاة والسلام.(1/378)
73 ـ ماذا تقترحون لرفع مستوى الخطبة ودَعْم رسالة المسجد؟
المسجد قلب المجتمع الإسلاميّ، ومُلتَقَى المؤمنين بالغدوِّ والآصال لأداء حقوق الله، واستلهام الرشد، واستمداد العَون منه جل شأنه. وهو مصدر طاقة عاطفية وفكرية بعيدة المدى، خصوصًا أيامَ الجمع عندما تُنْصِت جماهير المُصَلِّينَ في سَكِينَة وخشوع "للإمام" وهو يَشْرَح لهم تعاليم الإسلام ويُبَيِّنُ لهم حدود الله، ويُفَقِّهُهُم على ما في الكتاب والسنة من عِظَات وآداب.
إن خطبة الجُمُعة من شعائر الإسلام الكبرى، ومَعَانِيها تَنْسَاب إلى النفوس من لحظات انعطافٍ إلى الله وتَقَبُّلٍ لوصاياه، ومِن ثَمَّ كان موضوعها جليلَ الأثر كبيرَ الخطر.
والإمام الذي يدرُس موضوعه ويُجِيدُ عَرْضَه، يقوم بنصيب ضخم في تثقيف الأمة، وترشيد نهضتها، ودعم كِيَانها الماديّ والأدبيّ، ووَصْلِ غَدِها المأمول بماضيها المجيد.
لَمَّا كُنَّا نريد الوصول بمستوى الخطابة في المسجد إلى مكانته اللائقة به، ونريد جعل المنبر مرآةً لِمَا حَوَى الإسلام من معرفة صالحة وتربية واعية، فقد أَثْبَتُّ هذه التوجيهات الموجَزة لِمَا ينبغي أن يتوافر في خطبة الجمعة من زاد روحي وثقافي منظم:
1ـ يَحْسُن أن يكون لخطبة الجمعة موضوع واحد واضح غير مُتَشَعِّب الأطراف ولا متعدد القضايا، فإن الخطيب الذي يخوض في أحاديثَ كثيرةٍ يُشَتِّت الأذهان وينتقل بالسامعين في أودية تتخللها فَجْوَات نفسية وفكرية بعيدة، ومهما كانت عبارته بليغة، ومهما كان مسترسِلًا متدفقًا فإنه لن ينجح في تكوين صورة عقلية واضحة الملامح لتعاليم الإسلام، والوضوح أساس لابد منه في التربية، والتعميمُ والغموض لا ينتهيان بشيء طائل، وخطبةُ الجمعة ليست درسًا نظريًّا بقدر ما هي حقيقة تُشرَح وتُغرَس.(1/379)
2ـ عناصر الخطبة يجب أن يُسْلِمَ أحدُها إلى الآخر في تسلسل منطقيّ مقبول، كما تسلِّم درجةُ السُّلَّم إلى ما بعدها دون عناء، بحيث إذا انتهى الخطيب من إلقاء كلمته كان السامعون قد وصلوا معه إلى النتيجة التي يريد بلوغَها. وعليه أن ينتقيَ من النصوص والآثار ما يمهد إلى هذه الغاية.
3ـ ولَمَّا كانت الخطبة الدينية تُنْسَجُ من المعاني الإسلامية المستَمَدة من "الكتاب والسنة" وآثار السلف الصالح فإن لُحْمَتَها وسَدَاهَا يجب أن يكونا من الحقائق المقبولة. وفي آيات القرآن الكريم ومعالم السنة المطهرة مُتَّسَع يُغني في الوعظ والإرشاد؛ ولذلك لا يليق ألبتة أن تتضمن الخطبةُ الأخبارَ الواهية، بَلْهَ الموضوعةَ.
وإذا كان العلماء قد تَجَوَّزُوا في الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال فقد اشترطوا لذلك ألاّ تُخالِفَ قواعدَ الإسلام الكلية ولا أصولَه العامة. وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة مجال رَحْب للخطيب الفَاقِهِ. وفي سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدين والأئمة المتبوعين ما يُغني عن الأساطير والأوهام.
4ـ لا يجوز أن تتعرض الخطبة للأمور الخلافية، ولا أن تكون تعصبًا لوجهة نظر إسلامية محدودة؛ فإن المسجد يجمع ولا يُفَرِّق، ويَلُمُّ شَمْل الأمة بِشُعَب الإيمان التي يَلْتَقي عندها الكل دون خَوْض في المسائل التي يتفاوت تقديرها. وما أكثَرَ العزائمَ والفضائلَ التي تَصْلُح موضوعًا لنصائحَ جديدةٍ وخطب موفقة. وقد شَقِيَ المسلمون بالفُرقة أيامًا طويلة، وجدير بهم أن يجدوا في المساجد ما يُوَحِّد الصفوف ويطفئ الخصومات.(1/380)
5ـ بين الخطبة والأحداث العابرة والملابسات المحيطة والجماهير السامعة علاقةٌ لا يمكن تجاهلها، ومما يُزْرِي بالخطيب ويُضيع موعظته أن يكون في وادٍ والناسُ والزمانُ والمكانُ في وادٍ آخر. ولأمرٍ ما نَزَلَ القرآن مُنَجَّمًا على ثلاث وعشرين سنة، فقد تَجَاوَبَ مع الأحداث وأصاب مَوَاقِع التوجيه إصابة رائعة.
ولَمَّا كان القرآن شفاءً للعلل الاجتماعية الشائعة، فإن الخطيب يجب عليه أن يُشَخِّص الداء الذي يواجهه، وأن يتعرف على حقيقته بدقة، فإذا عرفه واستبان أعراضَه وأخطارَه رجع إلى الكتاب والسنة فنقل الدواء إلى موضع المرض، وذلك يحتاج إلى بصيرة وحِذْق، فإن الواعظ القاصر قد يجيء بدواء غير مناسب فلا يُوَفَّق في علاج، وربما أخطأ ابتداءً في تحديد العلة فجاءت خطبته لَغوًا، وإن كانت تتضمن مختلَف النصوص الصحيحة.
6ـ هناك طائفة من الأحاديث تسوق الأجزية الكبيرة على الأعمال الصغيرة، وقد قَرَّرَ العلماء المحققون أن هذه الأحاديث ليست على ما يُفْهَم منها لأول وَهْلَة، وأن ما فيها من أجزية ضخمة إنما هو لأهل الشرف في العبادة وأهل الصدق في الإقبال على الله، وليس ذلك للأعمال الصغيرة التي اقترنت بها. ومن هنا لا يجوز للخطيب أن يُضَمِّنَ خطبتَه هذه الأحاديثَ سردًا مجردًا، فَيُحْدِثَ فَوْضَى في ميدان التكاليف الشرعية، ولكن إذا قَضَى ظَرْفٌ ذِكرَ هذه الأحاديث ذَكَرَها مع شروحها الصحيحة.
7ـ تقوم التربية الدينية على بيان الجوانب الخُلُقية والاجتماعية في الإسلام، وشرح ما يَقترن بالخير والشر من مَعَانٍ حسنة أو سيئة، ومن عواقبَ حميدةٍ أو ذميمة، ولا بأس من التعريج على الأجزية الأخروية وعَرْضِ ما أَعَدَّه الله في الآخرة للأبرار والفجار، بَيْدَ أن الإسهاب والتفصيل في ذكر الأجزية المُغَيَّبَة لا لزوم له، ويُكتفَى بالإلماح إلى ما جاء في القرآن والسنة عن ذلك دون تطويل وتعمق.(1/381)
8ـ من الخير أن تتضمن خطبةُ الجمعة أحيانًا شيئًا من أمجاد المسلمين الأَوَّلِين الثقافية والسياسية، وتَنْوِيهًا بالحضارة اليَانِعَة التي أقامها الإسلام في العالم، مع الإشارة إلى أن ينابيع هذه الحضارة تَفَجَّرت من الحركةِ العقلية التي أَحْدَثَها القرآن الكريم واليقظةِ الإنسانية التي صنعها الرسول صلى الله عليه وسلم. ويكون الغرض من هذه الخُطب ـ على اختلاف موضوعاتها ـ أن تُرجع إلى المسلمين ثقتَهم بأنفسِهم ورسالتِهم العالمية.
9ـ معروف أن هناك فلسفاتٍ أجنبيةً ونزعاتٍ إلحاديةً تَسَرَّبت إلى الأمة الإسلامية في كَبْوَتها التاريخية الماضية، وطبيعيٌّ أن تتعرض الخطبة لِذَوْدِ هذه المفاسد النفسية عن أبناء الأمة، ووظيفةُ الخطبة في الإسلام عندئذٍ أن تتجنب الأخذ والرد والجدال السيئ، ولكن تَعْرِض الحقائق الإيجابية في الإسلام بقوة وتَرُدّ على الشبهات، دون عناية بذكر مصدرها؛ لأن المهم هو حماية التراث الروحيّ والعلميّ، وليس المهم تجريحَ الآخرين وإلحاقَ الهزائم بهم.
10ـ قبل أن يُواجِه الخطيبُ الجمهورَ ينبغي أن تكون في ذهنه صورة بَيِّنَة لِمَا يريد أن يقوله، بل يجب أن يراجع نفسه قبل الكلام ليطمئن اطمئنانًا كاملًا إلى صحة القضايا التي سوف يعرضها، وإلى سلامة آثارها النفسية والاجتماعية.
وعليه أن يتثبت من الأدلة والشواهد التي يَسُوقُها في مَعرِض الحديث، فإن كان قرآنًا حَفِظه جيدًا، وإن كان سُنّةً رواها بدقة، وإن كان أثرًا أدبيًّا أو خبرًا تاريخيًّا فإن توفيقه يكون بحسن مطابقته أو اقترانه من الأصل المنقول عنه.(1/382)
إن التحضير المُتقَن دلالةُ احترام المرء لنفسه ولسامعيه، وقد تَفْجَأُ الإنسانَ مواقفُ يَرتجل فيها ما يَلْقَى به الناسَ ويصور ما بنفسه، والواقع أن القدرة على الارتجال تجيء بعد أوقات طويلة من الدُّرْبَة على التحضير الجيد، وعلى تكوين حصيلة علمية مُواتِيَة لكل موقف، ومع ذلك فإن المهارة في الارتجال لا تُغني عن حسن التحضير للعالِم الذي يريد أداء واجبه بأمانة وصدق، والذي يقدِّر إنصاتَ الناس له واحتفاءَهم بما يقول.
11ـ الإيجاز أَعْوَنُ على تثبيت الحقائق وجَمْعِ المشاعر والأفكار حول ما يراد بَثُّه من تعاليم،
فإن الكلام الكثير يُنسي بعضُه بعضًا، وقد تضيع أهم أهدافه في زحام الإطناب والإفاضة، ألا ترى الأرض تحتاج إلى قَدْرٍ مُحَدَّد من البذور كَيْمَا تنبُت، فإذا كثُر النبات بها تَخَلَّلَها الفلاح باجتثاث الزائد حتى يُعطيَ البقيةَ فرصةَ النماء والإثمار! كذلك النفس البشرية لا تَزْكُو فيها المعاني إلا إذا أَمْكَن تحديدها وتقويمها، أما مع كثرة الكلام وبعثرة الحقائق فإن السامع يتحول إلى إناء مُغلَق تسيل من حوله الكلمات مهما بلغت نَفَاسَتُها.
وللإطنابِ المُمِلِّ أسبابٌ معروفة منها سوءُ التحضير، فإن الخطيب الذي يَلقَى الناسَ بالجُزَاف من الأحكام والتوجيهات لا يَدْرِي بالضبط أين بلغ قوله، وهل وصل إلى حَدِّ الإقناع أم لا، فيحمله ذلك على التكرار والإطالة، وما يزداد من الجمهور إلا بُعدًا.
وقد تنشأ الإطالة عن سوء التقدير للوقت والمواقف، فيظن الخطيب أن بحسَبه أن يقول ما عنده وعلى الناس أن ينصتوا طَوعًا أو كَرْهًا، وهذا خطأ.
مما يُحكَى في قيمة الإيجاز أن أحد الرؤساء طُلب منه إلقاءُ خطبة في بضع دقائق، فقال: أَمهِلوني أسبوعًا. فقيل له: نريدها في ربع ساعة. قال: أستطيع بعد يومين. قيل له: فإذا طلبناها في ساعة؟ قال: فأنا مُسْتَعِدٌّ الآن.(1/383)
إن الإيجاز يَتَطَلَّب الموازنةَ والاختيارَ والمَحْوَ والإثباتَ، أما الكلام المرسَل فالجُهد العقليّ فيه أقلّ. والحقيقة أن خمس دقائق تستوعب علمًا كثيرًا، وعشر دقائق وخمس عشرة دقيقة تستوعب خطبة أو محاضرة جيدة.(1/384)
74 ـ ما الحكمة في قيام الليل؟ وكيف يكون؟
لابد من تمهيد لهذا الموضوع، وللموضوع الذي يجيء بعده، نتحدث فيه عن الأَوْجِ الذي رفع محمدٌ صحبَه إليه وثبتهم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في رُبَاه. لقد اتَّفَق الدارسون لشخصية محمدٍ على أن قدراته الروحية خارقةً للعادة، وأنه يخطف البصائر بطيب نفسه وعظمة خُلُقه ووَهْج مشاعره، وأنه استطاع بالقرآن الكريم أن يشرح صدورًا ويوسع آفاقًا وينقل جيلًا من البشرية الضيقة إلى الربانية الرَّحْبة المشرقة!
إن الجيل الذي رَبَّاه محمد كان جيلًا مُحْسِنًا يعبد الله كأنه يراه، شجاعًا يَرْكُل الدنيا بقدمه ويمضي ثابت الخُطَا إلى ربه، كريمًا لا يَحرِص على مال، بل ما يعطيه اللهُ أحبُّ لديه مما يستبقيه لنفسه، مقيمًا للصلاة ينتظم في صفوفها برغبة وخشوع، ويحافظ على أوقاتها في الصحة والمرض والسلم والحرب.
هذا الجيل تَلَقَّى الحق وصانه وسَلَّمَه إلى مَن بعده في وفاء وفداء لم تعرف الدنيا لهما نظيرًا في تاريخها الطويل!
إن الملائكة لتنظر بإعجاب إلى هؤلاء الأصحاب! بل إنها لَتَحُفُّهُم وهم يجاهدون، تتنزل عليهم وهم يتهجدون! ما أحسبها وهي ترقُب الأرض من قديم رأت خيرًا منهم، حاشا أنبياءَ الله السابقين! من أجل ذلك لم أُحِسَّ باستغراب عندما قرأت في الصحاح هذا الخبر:
عن أُسيد بن حُضير ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما هو يقرأ من الليل، وفرسه مربوطة عنده، إذ جَالَت الفرس، فسكت، فسكَنَت، فاستأنف القراءة فجالت، فسكت فسكَنَت الفرس، ثم قرأ فجالت، وكان ابنه يحيى قريبًا منها فانصرف فأَخَّرَه أبعَدَه عن قوائمها ثم رفع رأسه إلى السماء، فإذا مِثْلُ الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح، فلَمَّا أصبح حَدَّث النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما رأى، فقال له: "أَوَ تَدْري ما ذاك؟" قال: لا. قال: "تلك الملائكة دَنَت لصوتك، ولو قرأتَ تابَعْتَ التلاوةَ لأصبَحَتْ ينظر إليها الناس ما تتوارى منهم".(1/385)
قلت: ما الغرابة؟ ملائكة السماء اقتربت من ملائكة الأرض الذي يقومون الليل بالقرآن.
وقد تكررت هذه القصة لغير أُسيد، وسواء استبعَدَها المادّيّون أو قَبِلُوها فإن مَن يناجي الله بكتابه والناسُ نيامٌ له مكانةٌ خاصة، وقد جاء في الحديث "ما أَذِنَ اللهُ لشيء أي ما أنصَتَ أِذْنَه أي إنصاتَه لعبد يقرأ القرآن في جَوْف الليل، وإن البِرَّ ليُذَرُّ على رأس العبد ما دام في مُصَلَّاه، وما تقرب العباد إلى الله ـ تعالى ـ بمثل ما خرَج منه" قال أبو النضر: يعني القرآن. منه بدأ الأمر به، وإليه يَرجع الحكم فيه.
والناس عادة يَنْطَرِحون في فُرُشِهِم يَحْسَبُون النوم غَيْبُوبة تَتَخَلَّلُها أضغاث الأحلام وغرائز الأجهزة الدنيا أو وَسَاوِسُهَا! لكن هناك ناسًا آخرين رَسَب في أعماقهم إجلال الله والتوجه إليه، يشبه نومُهم نومَ المَشُوقِ إلى غائب أو الباحث عن حقيقة! فإذا نابتهم يقظة خلال الرقاد اتجهوا إلى الغائب المَشُوق أو الصواب المنشود!
صوَّر الحديث الشريف حال هؤلاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن تَعَارَّ من الليل أي استيقظ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: اللهم اغفر لي. أو دعا استُجِيب له، فإن توضأ وصلَّى قُبِلَت صلاته".
شَتَّان بين نائم مُغْمًى عليه ما يحركه إلى ربه شيء، وبين آخر يَسْتَجِمُّ بنومه ويسبح بحمد ربه كلما عاد إليه وعيه! الصنفان موجودان في الدنيا، والفارق بينهما شاسع (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليْلِ سَاجدًا وَقَائمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر: 9).(1/386)
وقيام الليل فريضة على النبي وحْدَه، إن الإحساس بالله نَهْرٌ جارٍ في شعوره لا يتوقف أبدًا! في وضَحِ النهار أو في جُنْحِ الليل لا يُرَى محمدٌ إلا موصولَ القلب بالله! وهو بهذا الذكر الدافق في حِسِّه المستولِّي على نفسه يَنضَح على من حوله، ويصل الأرضَ بالسماء طُهرًا وضَوْءًا، مستجيبًا لقول الله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الليْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء: 78،79).
وقد حاول نَفَر من أصحابه أنْ يُتَابِعُوه في هذا النهج، لشدة حبهم له ورغبتهم في تقليده، غير أن الله ـ سبحانه ـ رَحِم ضعفهم وحَطَّ عنهم ما جَشَّمُوا به أنفسهم (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ الليْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ الليْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ) (المزمل: 20).
ذلك بالنسبة إلى الأصحاب، أمَّا الرسول نفسه فبَقيَ قيام الليل كله من خصائصه، وقد كان ينبعث إلى هذا القيام عن حب ورغبة لا عن تَكَلُّف وعَنَت، كان عميق الشعور بنعمة الله عنده واصطفائه له، وإلى ذلك يشير عبد الله بن رواحة بقوله:
وفينا رسولُ اللهِ يتلو كتابَه إذا انْشَقَّ مَكْنُونٌ من الفجر ساطعُ
أرانا الهُدَى بعد العَمَى فَقُلُوبُنَا به مُوقِنَاتٌ أَنَّ ما قَالَ وَاقعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَه عن فِرَاشِه إذا اسْتَثْقَلَتْ بالمشركين المَضَاجِعُ(1/387)
في الأيام الأولى للبعثة قيل له: (قُمِ الليلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا) (المزمل: 2ـ4) وقد استجاب لأمر الله حتى لَحِقَ بالرفيق الأعلى!
أما جمهور الأمة فلم يُكَلَّف بذلك، فليس القيام في حقه فريضةً لازمة ولا سنةً مؤكدة، وهو نافلة مقبولة ممن يؤثَر عنهم السَّهَرُ ولا يُعجزهم عن أداء واجباتهم طول النهار! حسبُهم ما يستطيعون قراءته بالليل، وأمامهم سَبْحٌ طويل بالنهار (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (المزمل: 20).
والواقع أن الجهاد العسكري والاقتصادي يحتاج إلى يَقَظَة ونشاط، والتفريط في هذا أو ذاك مَضْيَعة للأمة.
ورأيت ناسًا يقومون الليل أحيانًا، ثم يَجِيؤون إلى مكاتبهم ثِقالًا يَتَرَنَّحون، فَزَجَرْتُهم عن هذا المَسْلَك وشَرَحْت لهم الحكم! ومع ذلك فما كانوا يَسْمَعون!(1/388)
وقد رُوِيَت في الأمر بالقيام أحاديثُ ضعيفة، مثلُ ما جاء عن بلال أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه دَأَبُ الصالحين قبلكم، وقُرْبَةٌ إلى ربكم، ومَنْهَاةٌ عن الآثام، وتكفيرٌ للسيئات، ومَطْرَدَةٌ للداء عن الجسد". ومع ما في سند الحديث من ضعف، فإننا نحمله على ما ورد في الصحاح، مثل حديث عثمان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله". ذلك أن النهوض للفجر فيه مقاومةٌ للنوم، ومشيٌ في الظلمة، واستفتاحُ النهار بالخير قبل أن تَطْلُع الشمس بوقت، وكذلك الانتظامُ في جماعة العشاء، وكانت قديمًا تتأخر حتى تغمض عيون البعض في انتظارها. وسُئلَت عائشة رضي الله عنها: أيَّ حين كان يقوم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الليل؟ فقالت: إذا سَمِعَ الصارخ. تعني الديك!
وما فهمناه وافَقَ ـ ولله الحمد ـ ما رواه أبو داود عن أنس في تفسير قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ) (السجدة: 16) قال: نَزَلَت في انتظار الصلاة التي تُدْعَى العَتَمَة يعني العشاء كانوا يَتَنَفَّلون بين المغرب والعشاء.
وزيادة في إيضاح الموضوع نذكر أن الجسد البشريّ يحتاج إلى ساعات مُعَيَّنة ينام فيها ويستعيد قُوَاه، ويستحيل أن يَسْتَغْنيَ عن هذه الساعات التي قدرها الأطباء بثماني ساعات أو أكثر أو أقل حسب الأعمار المختلفة. والقرآن الكريم يُقِرُّ هذه الحاجة الطبيعية، ويَلْفِت الأنظار إلى أنها من آثار اختلاف الليل والنهار (هُوَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) (يونس: 67) (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا. وَجَعَلْنَا الليْلَ لباسًا. وَجَعَلْنَا النهارَ مَعَاشًا) (النبأ: 9ـ11).(1/389)
وقد تنشأ أحوال يجب فيها العمل بالليل في ظروف السلم والحرب جميعًا، فعلى المرء أن يقوم بواجبه، وسيطاوعه جسمه مع تعويضٍ يَرُدُّ إليه ما بَذَل.
وهناك ناس لهم طاقة على العمل الكثير مع الاكتفاء بنوم قليل، كما أن هناك من في أعصابه مُدَّخَرٌ من النشاط يستطيع به أن يَضُمَّ إلى عمل النهار جزءًا من الليل.
وهناك نؤكد أمورًا؛ إن اليوم الإسلاميّ يَبْدَأ مع الفَجْر، فكل سَهَر يضيع صلاة الفجر مرفوض! وهناك قِلَّة من الرجال تستطيع الجمع بين طول التهجد بالليل وطول الكدح بالنهار، وهذه قلة لا يقاس عليها، وقد يستطيع البعض أن يقرأ نصف القرآن في ليلة ثم يستقبل نهاره باسترخاء لا يساعده على أداء واجب، هذه مَعْصِية! لقد تلا ألفاظًا لم يَتَدَبَّرْهَا، وأهمل واجبات ترتبط بها حياته وحياة أمته. وأَوْغَلُ في المخالفة مَن يَبِيت يُرَدِّد بعض أسماء الله الحسنى، ثم يصبح كَلِيلَ التفكير لا يُحسن شأنًا في دنيا أو دين!
إن عمر بن عبد العزيز سَرَحَ فكره في آية واحدة ظل يُرَدِّدُها طوال الليل (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات: 24) لأن دقة إحساسه جعلته يتصور ـ وهو أمير المؤمنين ـ أنه الموقوف المسؤول، فطار النوم من عينه!
ولو أن قاضيًا سَهِرَ في قضية يَتَحَرَّى الحكم العادل، أو مجتهدًا سَهِرَ في موضوع يبحث فيه عن الصواب، لكان أَوْلَى بالله من قارئ لا يَعِي، أو قائمٍ نائمِ الضمير والتفكير.(1/390)
75 ـ كيف ولماذا اخْتِير الأذان نداءً للصلاة؟ ولماذا لم يَأْتِ عن طريق الوحي مباشرة؟
لا أرى كلمات أحق بالسماع وأَوْلَى بالتأمل من كلمات الأذان، ولا أرى داعيًا إلى الرشد من المؤذن، إن الكلمات الجهيرة المُدَوِّية في الآفاق تذكير بالله وحقوقه، تذكير بالعمل الذي خُلِقْنَا من أجله، إنها مناشدة لأبناء آدم أن يعرفوا الصراط المستقيم ويثبُتوا عليه، وأن يَحذَروا السُّبُلَ المُعْوَجَّة ويَنْأَوْا عنها.
عندما يقول المؤذن: "الله أكبر الله أكبر" ويؤكدها، فكأنه يقول للإنسان: لا تَدُرْ حول نفسك واذكُرْ من رَبَّاكَ وسَوَّاكَ، واجعله غايتك من مَسْعَاكَ، يبارِكْ لك في وقتك وجهدك (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) (الشورى: 20).
وعندما يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله" ويُكَرِّرُهَا مرة أخرى، فكأنه يقول للإنسان: لا تَخْشَ آلهة أُخْرَى في الأرض، الأمور كلها صائرة إليه وَحْدَه، يَبُتُّ فيها ولا رَادَّ لحكمه، لا مانع لِمَا أعطى ولا معطيَ لِمَا مَنَع، فانتصِبْ عزيزَ النفس رفيعَ الرأس، واذهَب لِتَسْجُدَ لله، فإنك لن تَذِلَّ بعده لأحد!
وعندما يقول: "أشهد أن محمدًا رسول الله" ويُكَرِّرُهَا مرة أخرى، فهو يرسم أَمَام بصيرتك صورة الكمال الإنسانيّ لتقتديَ به وتقتفيَ آثاره، محمد وَحْدَه الأسوةُ الحسنة في الإيمان والتقوى والخلق والاستقامة.
وعندما يقول: "حيّ على الصلاة" ويُكَرِّرُهَا مرة أخرى، فهو يدعوك لتتشرف بالمُثُول بين يَدَيْ ربك كي تسبحَ بحمده وتستزيدَ من رِفْدِه، وتشتركَ مع إخوان العقيدة في التجمع عليه والتَّحَابِّ فيه.
وعندما يقول: "حيّ على الفلاح" ويؤكدها مرة أخرى، فهو يدلك على الجهد المثمِر والسعي الناجح، فما أكثَرَ الذين يزرعون ولا يحصدون، أو يمشون ولا يَصِلُون! أما أهل الصلاة فلا يَضِيعون (وَإِنَّ اللهَ لَهَادِي الذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الحج: 54).(1/391)
وعندما يقول مرة ثالثة: "الله أكبر الله أكبر" فهو يؤكد الغاية الصحية من الحياة والكدح طول العمر، إن المرء يَخْرُج من بَيْتِه لِعَمَلِه، ولِيُحصِّلَ ما يَقدِر عليه من نَفْعٍ لنفسه وأهله، وصيحة التكبير التي يَسْمَعُها تُهِيبُ به أن يَقْصِدَ ربَّه، ويجعلَ له عمله، وعندما يُقَدِّم نفسه لربه فسَيَجِدُهَا موفورة مقدورة، أما من آثَرَ نفسَه فسَيَفْقِدها (لَا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُم) (الحشر: 19).
ويُخْتَم الأذان بصيحة التوحيد؛ لإسقاط الوثنيات كلها، إن العالم الآن لا ينحني لصنم من حجر، ولكنه يتفانى في أصنام حَيَّة قامت شَوَاخِصَ مَهِيبَةً في دنيا الحكم والمال، وخافها الناس أكبر مما يخافون رب الأرباب.
إن كلمات الأذان منهج كامل، ودعوة تامة، ما يمكن أن يغنيَ عنها بريق نار، ولا رنين جرس، ولا صفير بُوق، أنها هُتَافٌ من الملأ الأعلى، يُهِيبُ بالبشر أن يرجعوا إلى أصلهم السماويّ العريق.
هذه الكلمات نزلت من السماء ولم تَخْرُج من الأرض، استمَعَ إليها نَفَر من الصحابة في رُؤًى متقاربة، وأحد الملائكة الكرام يَهْتِف بها، في أعقاب مؤتمرٍ تَبَاحَثَ فيه الصحابة مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حول أَمْثَل الطرق للدعوة إلى الصلاة! والحديث هنا يعود بنا إلى الإجابة السابقة، وكيف كانت الملائكة تَدْنُو من الأرض تستمع الذكر من تَالِيه وهو يناجي به ربه، وتَعُودُ بنا إلى الأثر الروحيّ لمحمد في أصحابه!(1/392)
إنَّ صحابيًّا أنكَرَ نفسَه لَمَّا أَحَسَّ الفرق الشاسع بين حالته مع رسول الله وحالته بعد أن يخالط الأهل ويكابد هموم الرزق، وظن أنه نَافَقَ بهذا التفاوت؛ إنه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكون مُنِيرَ القلب، يتقلب في مقام الإحسان وكأنه يشهد ربه ويحس جلاله! حتى إذا رجع إلى البيت والشارع والأهل والناس هَبَط واعْتَكَر! قال له الرسول: "لو بقيتم على حالتكم معي لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة".
وكثير من الصحابة كان يستديم ساعات الإشراق التي تجمعه بصاحب الرسالة العظمى، ويغالب إلى أَمَد طويل كثافة الطبع، ومشاغل العيش، وظلال الخلق! جاء في السّنّة عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: اهتم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصلاة؛ كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انْصِبْ راية عند حضور الصلاة، فإذا رَأَوْها آذَنَ بعضُهم بعضًا. فلم يُعْجِبْهُ ذلك، فَذُكِرَ له شَبُّور اليهود ـ البُوق الذي يَنْفُخُون فيه للإعلام بصلاتهم ـ فلم يُعْجبه ذلك وقال: "هذا من أمر اليهود" فذكر له الناقوس فقال: "هذا من أمر النصارى" فانصرف عبد الله بن زيد الأنصاريّ وهو مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأُرِيَ الأذانَ في منامه.(1/393)
وفي تفصيل آخر يذكر الراوي أن رجلًا من الأنصار جاء فقال: يا رسول الله، إني لَمَّا رَجَعْت إلى بيتي لَمَّا رأيت من اهتمامك رأيت رجلًا كأن عليه ثوبين أخضرين، فقام على المسجد فأذَّنَ، ثم قَعَد قَعْدَة، ثم قام فقال مثلها، إِلَّا أنه يقول: قد قامت الصلاة. ولولا أن يقول الناس لقلت: إني كنت يَقْظَان غير نائم. فقال رسول الله: "لقد أراك الله خيرًا، فمُرْ بِلالًا فَلْيُؤَذِّنْ" فقال عمر بن الخطاب: أمَا أني قد رأيت مثل الذي رأى، ولكني لَمَّا سُبِقْتُ اسْتَحْيَيْتُ. وقال فيه: فاستقبَلَ ـ المَلَكُ الذي رآه عمر ـ استقبَلَ القبلة وقال: "الله أكبر الله أكبر" مرتين "أشهد أن لا إله إلا الله" مرتين "أشهد أن محمدًا رسول الله" مرتين "حيّ على الصلاة" مرتين "حيّ على الفلاح" مرتين "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله" ثم أَمْهَلَ هُنَيْهَة، ثم قام فقال مثلها، إلا أنه زاد بعد ما قال "حيّ على الفلاح: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنْهَا بلالًا" فأَذَّنَ بها بلال، وكان بلال نَدِيَّ الصوت عَذْبَ الأداء.
وتتفاوت الروايات تفاوتًا قليلًا في عدد الألفاظ، مع اتفاقها جميعًا في أصل القصة ومَصْدَر التلقِّي.(1/394)
وعندما أَتَجَرَّد من التأثر بكل ما يُرْوَى أراني أميل إلى سماع الأذان ومتابعة كلماته الهادية، فإني أحب أن أُقَادَ من عقلي لا من أذني! إن الأذان يوقظ فؤادي ويعرفني بربي على نحو ينسجم مع الفطرة السليمة، ومن ثَمَّ استَحَبّ الشارع لسامعي الأذان أن يُرَدِّدوا كلماته ويغرسوها في مشاعرهم، عن أبي هريرة: كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقام بلال ينادي للصلاة، فَلَمَّا سكت قال رسول الله: "مَن قال مِثل هذا يَقِينًا دَخَلَ الجنة". وعن سعد ابن أبي وقاص أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَنْ قال حين يَسْمَع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وَحْدَه لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، رَضِيتُ بالله ربًّا، وبمحمدٍ رسولًا، وبالإسلام دينًا. غفر الله ذنبه". وعن جابر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من قال حين سمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوةِ التامةِ والصلاةِ القائمةِ آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلة، وابعَثْه الله مقامًا محمودًا الذي وعدته. إلا حَلَّت له شفاعتي".
والمرء عندما يتأمل في كلمات الأذان يَجِدُهَا خُلَاصَات للرسالة الإسلامية، ووَصْفًا لله قائمًا على الحق المطلق، الحق الذي لا يَتَغَيَّر بين مشرق ومغرب!
ماذا وراء تكبير الله وتوحيده والنداء الدائب لعبادته؟
إن هذا لَنداءٌ يتنقل على سطح الأرض، عابرًا خطوط الطول فوق البر والبحر، مصاحبًا الأرضَ في دورانها حول أمها الشمس، ووظيفةُ محمدٍ العظمى تلبيةُ الأمر الصادر إليه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ الليْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه: 130).(1/395)
إن الكون كله، لا الأرضَ وَحْدَها، يَتَجَاوَب مع أصوات المؤذنين وهي تُهِيبُ بالبشر أن يُهْرَعوا لمَرْضاة الله! وليس بغريب أن يُطْلَب من سامعي الأذان ـ وَصَدَاه لا يزال يَرِنُّ في آذانهم ـ أن يَدْعُوا للإنسان العظيم الذي يقودهم إلى الله ويؤمُّهم على الصراط المستقيم! إنه واللهِ جديرٌ بالدعاء المستديم أن يرفع الله درجته، ويجزيَه عن المسلمين خيرًا.
على أن رُؤَى البشر مهما صَلَحَت حالهم لا تكون مصدرَ وحي ولا دليلًا، ولولا أن رؤيا الأذان أَقَرَّهَا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووافق على العمل بها ما التزم العمل بها أحد! ولعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أراد طَمْأَنَة نَبِيِّه إلى أن رسالته قد نَجَحَت في تكوين جيل نقيّ الصفحة زكيّ السريرة، يَلْتَقِي بالملأ الأعلى فيَسْمَع منهم ويَنْقُل عنهم، وقد قلنا في إجابة سابقة إن الملائكة تتنزل على المؤمنين المستقيمين فتُلْهِمُهُمْ الرشد، وتساند على الحق، وتقذف في قلوبهم بالبُشْرَيَات (إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا) (فصلت: 30).
لكن باب الأوهام والمزاعم لابد من سَدِّه، فَمَا يُقْبَل كلام من عالَم الغيب إلا من المعصوم وَحْدَه! والمسلمون مُجْمِعُون على أن الشريعة لا مَنْبَعَ لها إلا الكتاب والسنة. وقد ظهر في عصرنا هذا فلاحون اقتحموا ميدان التدين وزعموا أن وحيًا يجيئهم، وخير علاج لهم أن يُقادُوا إلى تبليغه في مستشفيات الأمراض العقلية!(1/396)
76 ـ ما حقيقة الصوم؟ وما حكمته؟
الصيام عبادة مستغرَبة أو منكورة في جو الحضارة المادية التي تَسُودُ العالم، إنها حضارة تؤمن بالجسد ولا تؤمن بالروح، وتؤمن بالحياة العاجلة ولا تكترث باليوم الآخر، ومِنْ ثَمَّ فهي تَكْرَه عبادةً تُقَيِّدُ الشهوات ولو إلى حين، وتُؤَدِّب هذا البدن المُدَلَّل وتُلزِمُه مثلًا أعلى.
إن الأفراد والجماعات في العالم المعاصر تسعى لا غيرُ لتكثير الدخل ورفع مستوى المعيشة، ولا يعنيها أن تجعل من ذلك وسيلة لحياة أزكى!
ونسارع إلى تبرئة الدين من حب الفقر وخصومة الجسم، فالغِنَي سر العافية، والجسم القويّ نعم العونُ على أداء الواجب والنهوض بالأعباء، وإنما نتساءل: هل يَتَعَامَل الناس مع أجسامهم على أسلوب مَعْقُول يَحْتَرِم الحقائق وَحْدَها؟
يقول علماء التغذية: إن للطعام وظيفتين:
الأُولَى: إمداد الجسم بالحرارة التي تُعِينُه على الحركة والتقلب على ظهر الأرض.
والأخرى: تجديدُ ما يُسْتَهْلَك من خلاياه وإقدارُه على النمو في مراحل الطفولة والشباب.
حسنًا، هل نأكل لسد هاتين الحاجتين وحَسْبُ؟
إن أولئك العلماء يقولون: يحتاج الجسم إلى مقدار كذا من "السعر الحراريّ" كي يعيش. الطعام وقود لابد منه للآلة البشرية، والفرق بين الآلات المصنوعة والإنسان الحيّ واضح، فخَزّان السيارة مصنوع من الصلب لِيَسَعَ مقدارًا مُعَيَّنًا من النفط يَسْتَحِيلُ أنْ يَزِيدَ عليه، أمَّا المَعِدَة فمصنوعة من نسيج قابل للامتداد والانتفاخ يَسَعُ أضعاف ما يحتاج المرء إليه!(1/397)
وخزان السيارة يَمُدُّهَا بالوقود إلى آخر قطرة فيه إلى أن يَجِيء مَدَدٌ آخر، أمَّا المَعِدَة فهي تَسُدُّ الحاجة ثم يتحول الزائد إلى شحوم تُبَطِّن الجوف وتضاعف الوزن، وذاك ما تَعجِز السيارة عنه، إنها لا تَقْدِر على أخذ "فائض" ولو افترضنا فإنها لا تقدر على تحويله إلى لَدَائِنَ تُضَاف إلى الهيكل النحيف فيَكبَرَ أو إلى الإطارات الأربعة فتَسْمَنَ!
الإنسان كائن عجيب، يَتَطَلَّع أبدًا إلى أكثر مما يكفي، وقد يقاتل من أجل هذه الزيادة الضارة، ولا يرى حرجًا أن تكون بدانةً في جسمه، فذاك عنده أفضل من أن تكون نماءً في جسد طفل فقير، أو وقودًا في جسد عامل يجب أن يتحرك ويَعرَق!
كان لي صديق يُكثر من التدخين، نظرت له يومًا في أسف، ثم سمعني وأنا أدعو الله له أن يعافيه من هذا البلاء، فقال، رحمه الله فقد أدرَكَتْه الوفاة: اللهم لا تَسْتَجِبْ ولا تَحْرِمْني من لَذَّةِ السيجارة. ولم أكن أعرف أنَّ للتدخين عند أصحابه هذه اللذةَ، فَسَكَتُّ وقد عَقَدَتْ لساني دهشةٌ.
إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعرف ما يَضُرُّه ويُقْبِل عليه برغبة، إنها الرغبة القاتلة!
على أن النفس التي تَشْتَهي ما يُؤْذِي يمكن أن تتأدب وتَقِف عند حدود معقولة، كما قال الشاعر قديمًا:
والنفسُ راغِبَةٌ إذا رَغَّبْتَها وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ
وهنا يجيء أدب الصيام، إنه يَرُدُّ النفس إلى القليل الكافي ويصدها عن الكثير المؤذي، ذاك يوم نصوم حقًّا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلةً إلى التهامِ مقاديرَ أكبَرَ كما يفعل سواد الناس!(1/398)
لعل أهم ثمرات الصوم إيتاءُ القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما. كنت أَرْمُقُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يَسْأَل أَهْل بيته في الصباح: "أَثَمَّ ما يُفْطَر به؟" فيقال: لا. فَيَنْوِي الصيام ويستقبل يومه كأن شيئًا لم يحدث، ويذهب فيَلقَى الوفدَ ببشاشة، ويَبُتُّ في القضايا، وليس في صفاء نفسه غَيْمَة واحدة! وينتظر بثقة تامة رزقَ ربه دونَما رِيبة، ولسانُ حاله (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا). قلت: لو جاءني فطوري دون شاي لَسَخِطْتُ، ولَرَفَضَت إمضاءَ ورقة على مكتبي، بَلْهَ كتابةَ مَقَال!
إنها لَعظمةٌ نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرءُ البأساءَ والضراءَ مكتملَ الرشد بَاسِمَ الثغر، والأفرادُ والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت!
وأعتقد أن أسباب غَلَبِ العرب في الفتوح الأولى قلةُ الشهوات التي يَخضعون لها، أو قلة العربات التي تَعجِز عن العمل إن لم تتوافر، يَضَع الواحد منهم تَمَرَات في جَيْبِه وينطلق إلى الميدان، أمَّا جنود فارس والروم فإنَّ العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلا تَوَقَّفوا.
وقد اعتمد غاندي على هذا السلاح عندما حارَب "بريطانيا" العُظْمى، كان الإنتاج البريطانيّ يعتمد على الاستهلاك الهنديّ، وقرَّر غاندي أن يَنْتَصر بتدريب قومه على الاستغناء، نَلْبَس الخيش ولا نَلْبَس منسوجات "مانشيستر" نأكل الطعام بدون الملح ما دامت الدولة تحتكره، نركب أرجلنا ولا نركب سياراتهم، وقاد حركة المقاطعة رجل نصف عارٍ جائع، ينتقل بين المدن والقرى مكتفيًا بكوب من اللبن، واستجابت الجماهير الكثيفة للرجل الزاهد، وشَرَعَت تسير وراءه، فإذا الإنتاج الإنجليزي يتوقف، والمصانع تَتَعَطَّل، وأُلُوفٌ مُؤَلَّفة من العمال الإنجليز يَشْكُون البطالة، واضطُّرَّت الحكومة إلى أن تطلب من "غاندي" المجيء إلى لندن كي يتفاوض معها أو يُمْلِيَ شروطه عليها!(1/399)
وحَيَّاهُ أحمد شوقي وهو ذاهب إلى لندن بقصيدته التي يقول فيها محذِّرًا من ألاعيب الساسة:
وَقُلْ هاتُوا أَفَاعِيَكُمْ أَتَى "الحَاوِي" مِنَ الهِنْدِ
إن الإنسان الذي يَملِك شَهَوَاتِه قوةٌ خطيرة، والشعب الذي يَملِك شهواته قوةٌ أخطر، فهل نعقل!
في صيامِ غاندي وأثرِ سياسته على إنجلترا وظَفَرِه باستقلال الهند يقول الشاعر القرويّ سليم خوري:
لَقَدْ صَامَ هِنْدِيٌّ فَجَوَّعَ دَوْلَةً ... وَمَا ضَارَ عِلْجًا صَوْمُ مِلْيُونَ مُسْلِمِ
تَجَشَّمَ عَنْ أَوْطَانِهِ صَوْمَ عَامِدٍ ... ... مُجَشِّمَ أوطانِ العِدَا صومَ مُرْغَمِ
وَخَلَّى بلادَ الظالمين بَلاَدةً ... ... تَضِيق بجيش العاطلين العَرَمْرَمِ
وَأَلْقَى على "مانشيسترٍ" ظِلَّ رهبة ... تَضِجُّ بأشباح الشقاء المخيِّمِ
أهابَ بآلات الحديد فعُطِّلَت ... ... مصانعُ كانت جَنَّةَ المُتَنَعِّمِ
وَشَلَّ دَوَالِيبَ الرَّخَاءِ بِصَرْخَةٍ ... ... أَدَارَتْ دَوَالِيبَ القَضَاءِ المُحَتَّمِ
كَسَاهَا نسيجَ العنكبوت وكَمْ كَسَت ... جُسُومَ البَرَايَا بالقَشيبِ المُنَمْنَمِ
تُهَدِّمُها أسرارُ نفسٍ عجيبةٍ ... ... تَجُولُ بذاك الهيكل المتهدِّمِ
فيالك من عَارٍ لديه تَصَاغَرَت ... ... جبابرُ أَبْدَانٍ وعَقْلٍ ودرهمِ
وراحت مُلُوك المال تشكو ببابِه ... ... مِن الظلم يا لَلظالمِ المتَظَلِّمِ
وفي عيد الفطر يقول رشيد سليم خوري أيضًا:
أُكَرِّمُ هذا العيدَ تكريم شاعر يَتِيهُ بآيات النبيّ المعظَّمِ
ولكنني أَصْبُو إلى عبدِ أمةٍ مُحَرَّرةِ الأعناق من رِقِّ أعجمِ
أحفظ للشيخ الكبير "محمد الخضر حسين" شيخ الأزهر الأسبق كلمة عظيمة:
لست أنا الذي يُهَدَّد، إنَّ كوبًا من اللبن يكفيني أربعًا وعشرين ساعة!
ومن قبله قال الشيخ عبد المجيد سليم وقد حَذَّرُوه من غضب جهات عالية:(1/400)
أيمنعني ذاك من التَّرَدُّد بين بَيْتِي والمسجد؟ قالوا: لا. قال: لا خَطَرَ إذًا! ليس هناك ما يُخِيف.
من أركان العظمة أن يجعل الرجل مآربَه من الدنيا في أضيق نطاق مستطاع، إنه يُعني عدوه بذلك الاستعفاف أو الاستغناء. وذلك نَهْج الشرف الذي خَطَّه عليّ بن أبي طالب عندما قال: "اسْتَغْنِ عمن شئتَ تكُنْ نظيرَه، واحْتَجْ إلى مَن شئتَ تكُنْ أَسِيرَه". وما يستقيم على هذا النهج إلا امرؤٌ يُحْسِن الصيام.
أعجبتني هذه الوصيةُ لأبي عثمانَ النوريِّ لابنه، وأثبتها الجاحظ، وليس لي في كتابتها إلا فضلُ النقل:
"يا بُنَيَّ، كُلْ ممَّا يَلِيكَ، واعلَمْ أنه إذا كان في الطعام لقمةٌ كريمة أو شيء مُستطرَف فإنما ذلك للشيخ المُعَظَّم أو الصبيِّ المُدَلَّل، ولَسْتَ واحدًا منهما.
يا بنيَّ، عَوِّدْ نفسك مجاهدةَ الهوى والشهوة، ولا تَنْهَشْ نَهْشَ السباع، ولا تَخْضِمْ خَضْمَ البِغَال، ولا تَلْقَمَ لَقْمَ الجِمَال، الله جعلك إنسانًا فلا تجعلْ نفسك بهيمة، واعلَمْ أن الشِّبَعَ داعية البَشَم، والبَشَم داعية السَّقَم، والسَّقَم داعية الموت. ومن مات هذه المِيتَة فقد مات مِيتَة لئيمة؛ لأنه قاتِلُ نفسِه، وقاتلُ نفسِه أَلأَمُ من قاتلِ غيره.
يا بنيَّ، واللهِ ما أَدَّي حقَّ الركوع والسجود ممتلئٌ قَطُّ، ولا خَشَعَ لله ذو بِطْنَةٍ، والصومُ مَصَحَّة، والوجبات عيش الصالحين.
يا بنيَّ، قد بَلَغْتُ تسعين عامًا، ما نَقَصَ لي سِنٌّ ولا انتشَر لي عصَب، ولا عَرَفْتُ ذَنِينَ أنْفٍ، ولا سَيَلَان عَيْن، ولا سَلَسَ بَوْل، وما لذلك علةٌ إلا التخففَ من الزاد، فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فتلك سبيل الموت، ولا أبعَدَ اللهُ غيرَك".(1/401)
هذه وصية رجل لا يعرف عبادة الجسد التي تَهَاوَى فيها أبناء هذا العصر، والتي جاء فيها قوله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر: 3) وقوله: (وَالذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد: 12) وتَجْتَاح الناسَ بين الحِينِ والحِينِ أزماتٌ حادَّة تَقْشَعِرُّ منها البلاد، ويَجِفُّ الزرع والضَّرع، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مُرغَمين، أو يصومون كارهين، وملءَ أفئدتهم السُّخْطُ والضيقُ، وشريعةُ الصوم شيء فوق هذا، إنها حِرْمان الواجد ابتغاءَ ما عند الله، إنها تحمل للمرء منه مندوحة لو شاء، ولكنه يُخْرِس صِياحَ بَطْنِهِ ويُرْجِئُ إجابةَ رغبته مُدَّخِرًا صَبْرَه عند ربه كَيْمَا يَلْقَاه راحة ورضا في يوم عَصيب (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (هود: 103).
ورَبْطُ التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذنبه". إن كلمتَي "إيمانًا واحتسابًا" تَعنيان جُهدًا لا يُستعجَل أَجْرُه ولا يُطلَب اليومَ ثمنُه؛ لأن باذِلَه قرَّر حين بَذَلَه أن يجعله ضمن مدخراته عند ربه، نازلًا عند قوله: (ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) (النبأ: 39).
وسوف يَجِدُ الصائم مُفْطِرِين لا يَعْرِفون لرمضان حُرْمَة ولا لصيامه حِكمة، إذا اشتَهَوا طعامًا أَكَلُوا وإذا شَاقَهُم شراب أَكْرَعُوا، ماذا يَجِدُونَ يوم اللقاء؟(1/402)
إنَّهم يَجِدُون أصحاب المُدَّخَرات في أُفُق آخرَ مُفْعَمٍ بالنعمة والمتاع، ويُحَدِّثُنَا القرآن الكريم عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرِينَ. الذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا) (الأعراف: 50،51).
إن الصيام عبادة مضادّة لتيار الحياة الآن؛ لأن الفلسفات المادّيّة المُسَيْطِرَة في الشرق والغرب تَعْرِف الأرض ولا تعرف السماء، تَعْرِف الجسم ولا تَعْرِف الرُّوحَ، تعرف الدنيا ولا تعرف الآخرة. ليكُنْ للقوم ما أَرَادُوا، ذلك مَبْلَغُهُم مِنَ العلم، بَيْدَ أنَّنا ـ نحن المسلمين ـ يَجِب أنْ نَعْرفَ ربنا، وأن نلزمَ صراطه، وأن نصومَ له، وأن نَدَّخِرَ عنده!
على أن هناك حقيقةً مؤسفةً؛ هي أن الصُّوَّامَ قِلَّةٌ ولو امتنَع عن الطعام كثيرون!(1/403)
77 ـ في المجالات الاجتماعية والسياسية نرى للإسلاميِّين مقالاتٍ مُتَبَاعِدَة أو متناقضة! فَلِمَ هذا؟
أعترف بأن الملاحظة صادقة، وأشعر بأن بقاء هذا الوضع يَعُوقُ الدعوة ويُحْرِج الدعاة! وسأذكر هاهنا ما أراه باعثًا على هذا الاضطراب حتى يمكن تجاوزه.
إنَّ الإسلام صِرَاط مستقيم، وقد خَرَجَتْ من هذا الصراط طرقٌ شتّى تميل يَمْنةً أو يَسْرةً! وكان اعوجاجها بارزًا كذلك في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكان بارزًا كذلك في النواحي المدنية والحضارية، وقد خُيِّلَ إليَّ أَنْ الصراط المستقيم خَلَا من أهله في العصر الأخير، وتزاحمت القوافل الشاردة في مَسالِكِها التي انْطَلَقَت فيها، ومن هنا استوحش الحقُّ، وأصابه ضُرٌّ شديد.
وسأختار نَمُوذَجين لهذا الشرود ولنتائجه في عالم المعرفة والتوجيه:
يُعَرِّف الإسلام أميرَ المؤمنين على أنه وليدُ بيعةٍ حُرَّةٍ أو اختيارٍ صحيحٍ يَتَّجِه فيه الناس إلى انتخاب أكفأ إنسان لقيادتهم، ويعرف القائد المُنْتَخَب أنَّ الحُكْم أمانة ومسؤولية جَسِيمَة، وأنه تكليف لا مَغْنَم، وأنَّ عليه الاستعانةَ بأهل الشورى في تَعَرُّف الصَّوَاب وتحديد الأرشد، وأنه ليس بمعصوم ولا مُسْتَغْنٍ بنفسه بل يَحْتَاج إلى مظاهرة الأقوياء والانتفاع بشتى الآراء، وأنه إذا أخطأ وجب تقويمه، وإذا عجز تَرَكَ للأمة أن تختار غيرَه، فليست الرياسة حقًّا شخصيًّا له أو لغيره.
هذه مُسَلَّمَات في أصول الحكم كما يَعْرِفها الإسلام، وهذا هو الصراط المستقيم، لكن خَطَّ الانحراف الذي بدأ من عهد مبكر جعل الخلافة اغتصابًا وميراثًا، وجعل الحصول عليها مغنمًا لا مغرمًا، وتُنُوسِيَت أجهزةُ الشورى حتى لكأنها وهمٌ أو أسطورة، واقترَب من الحاكم أهلُ المَلَق وابْتَعَد رجالُ الحق أو أُبْعِدُوا، واعْتَبَرُوا النقد الصحيح فتنة أو خروجًا، واعتُبرَت المداهنة طاعة وولاء!(1/404)
من حقي أن أصف الثقافة التي تنظر إلى الصراط المستقيم وهي تتحدث عن الإسلام بأنها الثقافة الأصلية، كما أن من حقي أن أصف الثقافة التي قَبِلَت الواقع وبنَت عليه وافتَنَّت به ثقافةَ خط الانحراف!
التوجيهات القرآنية والنبوية وتطبيقات سلفنا الصالح هي الثقافة الأصلية، أما الواقع الذي رسمه الملوك ونضَحَت به طبيعة جنس من الأجناس فهو علم متأثر بخط الانحراف.
وهذا العلم لا يفرضه على الإسلام عاقل مهما حاول أهله إعطاءه الصيغة الإسلامية، فالقول بأن الشورى لا تَلزَم الحاكمَ، والقول بأن الانتخاب بدعة، والزعم بأن نقد الحاكم نقضٌ للبيعة، وأن على الجمهور أن يصبر على غصب المال وضرب السياط... إلخ ـ كل ذلك من وحي خط الانحراف وليس من معالم الصراط المستقيم.
والعرب جنس له محامده ومعايبه، ومن معايب العربِ العصبيةُ للأسرة، والتعالي بالنَّسَب، وحبُّ السلطة والحرصُ على الإمارة! وقد جعلوا منصب الخلافة يحمل معالم شيخ القبيلة الذي يقول فيُسمَع ويأمر فيُطاع!
وأرى أن هذه الخصال السيئة في طلب الحكم والتصدير بالدعوى أساءت قديمًا للإسلام وتسيء يومنا هذا للعرب. والفقهاء الناصحون لله ورسوله يَفصلون بين طبيعة جاهلية فرَضَت نفسَها ودين قويم يجب أن يسود.
وقد ألف عبد الرحمن الكواكبي كتابه "طبائع الاستبداد" ليُنصف الإسلام ممن حكَموا باسمه وكذَبوا عليه، وفيه يقول:(1/405)
"المستبِدُّ يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويَعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الألوف المؤلَّفة، يسدُّها عن النطق بالحق ومطالبتها به! والمستبِدُّ يَوَدُّ أن تكون رعيته بقرًا تُحلَب وكلابًا تَتذلل وتَتملق! وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه؛ هل خُلقَت خادمةً له أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة مستعدة أن تقف في وجه الظالم تقول له: لا أريد الشر! ثم هي مستعدة لأن تُتبِعَ القولَ بالعمل، فإن الظالم إذا رأى المظلوم قويًا لم يجرؤْ على ظلمه" (من زعماء الإصلاح لأحمد أمين).
ومن الحكام من يحاول استجلاب صورة للشورى بها شبه من "ديمقراطية" الغرب! شبه التمثال الميت بالجسد الحيّ، قال الشيخ محمد عبده في وصفها:
لو حدَث أن إنسانًا عرَض وجهة نظرٍ غير ما يرى الحاكم لتعرَّض للتلف، فإن أمام كل لفظ يقوله نفيًا عن الوطن أو إزهاقًا للروح أو تجريدًا من المال"!
والواقع أن المستبدِّين في كثير من الأقطار الإسلامية برَعوا في تزوير الشورى عندما ألجأتهم الظروف إلى مجالسها، حتى أمست الجماهير بين استبدادٍ صريح أو استبدادٍ منافق!
إن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب هي الوجه المقابِل في ديننا لعقيدة التوحيد، وأحسب أن سَدَنة الوثنية السياسية لا يَقلون شرًّا ولا أذًى عن سَدَنة الأصنام. وهؤلاء للأسف يجيدون تحريف الكلم عن مواضعه وتطويع النصوص لخدمة السلاطين.
وهناك نموذج آخر لطغيان التقاليد الموروثة على تعاليم الإسلام:(1/406)
كان العرب في جاهليتهم يكرهون الأنثى ويتشاءمون لولدها، وقد اشتطت بهم هذه الكراهية حتى حملتهم على اقتراف جريمة لم تُعرف في جنس آخر، جريمةُ وأد البنات، ولست أدري أذلك خشيةَ العار كما يزعمون أم هو إحياءٌ دينيٌّ ضالٌّ كما يُفهم من الآية الكريمة: (وكذلك زُيِّن لكثيرٍ من المشركين قَتْلَ أولادِهم شركاؤُهم ليُرْدُوهم ولِيَلْبِسوا عليهم دينَهم)؟ (الأنعام: 137).
ليكن هذا أو ذاك، لقد جاء الإسلام فبدَّل الأحوال، وكرَّم الأنثى وأوصى بالبشاشة عند مولدها، ورعاها طفلةً وفتاةً وأمًّا، وأعطاها في المجتمع حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي العبادة حق التردد على المسجد من الفجر إلى العشاء، وفي التعليم ما تُكمل به إنسانيتها، فلم يَقصُرْها على نصيب محدود! وكان أن علا شأن المرأة؛ فبايعَت وجاهدَت وحقَّقَت لنفسها ما يُشرف نوعَها وظَفِرت المسلِمة بما لم تَظفَر به امرأة أخرى!
ثم غلَبَت تقاليدُ الجاهلية العربية شيئًا فشيئًا، حتى أقبل العصر الحاضر والمرأةُ محظور عليها أن تدخل مسجدًا في أغلب العواصم ـ خصوصًا المحافظة ـ أما حق التعليم فإنه لولا الحضارة الحديثة ما دخلَت أنثى مدرسةً ولا انتمت طالبة إلى جامعة، كأن تجهيلها فرض محتوم! وانكمشت إنسانية المرأة حتى كاد ميراثها يُجتاح كله، وحتى أصبح إذنُها في عقد الزواج شكلًا لا حقيقةَ له، وإذا اقترفت فاحشة قُتلت ونجا الطرف الآخر. والقاعدة العامة أنها لا ترى أحدًا ولا يراها أحد. وخط الانحراف في هذه المسألة أساء ولا يزال يسيء إلى الإسلام ويضع العوائق أمام دعوته!(1/407)
هذا لون من العلم الذي أشاعه خط الانحراف في تاريخنا وثقافتنا، وهو علم لا يَعني بعضَ المتدينين غيرُه! إذا وَجَدُوا في الميدان السياسيّ أنه لا شُورَى ولا أجهزةَ لَهَا ولا ضوابطَ للحكم الفرديّ، نسُوا النصوص المُهْمَلة وأخذوا صورة الإسلام من الواقع السيئ. وإذا وجدوا أن المرأة كَمٌّ مهمَل وأنه لا مكان لها في مدرسة أو مسجد وأنه لا يجوز أن ترى أحدًا أو يراها أحد، تجاوزوا القرآن والسنة وحكموا على المرأة بالإعدام الأدبيّ!
وقد رأيت هؤلاء يَخْتَلِقُون الأحاديث، أو يُقَوُّون الضعيف منها، أو يُهمِلون الصحيح لتغير الزمان، ويحدث هذا كله في وقت تعمل فيه المبشِّرات من كل ملَّة على تنصير المسلمين والمسلمات، بل إن المجنَّدات في الجيش اليهوديّ يَسْبِقْنَ الرجال عندنا في صناعات الموت (وُزِّعَ كتاب عن ضرورة ضرب النقاب على وجه المرأة المسلمة كي يتمَّ إيمانها ويَكْمُلَ دينها، ومن بين ما قال مؤلِّفه: حَرَّم الإسلام الزنى، وكشفُ الوجه طريقٌ إليه، فما أدى إلى الحرام حرام. ونعجب نحن لهذا الاستدلال؛ فإنَّ الإسلام أوجب كشف الوجه في الحج والعمرة وجعله الأساس عند أداء الصلوات كلها، فهل كان الإسلام بهذا الكشف يمهد للفاحشة؟ ومن أغرب ما قرأتُ تعليقُ المؤلف على حديث المرأة الخثعمية التي رآها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكشوفة الوجه فلم يأمرها بتغطيته، قال: لعل النبي أمرها بالنقاب. فلِمَ لَمْ يَنْقُلِ الرواة لنا ذلك؟) إننا نحذر الأمة من العلم الدينيّ المغشوش ومن فتّانين يَهدمون الحق على حين يَبني غيرُهم الباطل.(1/408)
78 ـ ما موقف الإسلام مِن اختلاط الجنسين؟
إذا ذُكِرَ الاختلاط ارتسمت في الذهن الصورةُ الدميمة للعلاقات الاجتماعية بين الرجال والنساء كما استقرت في الغرب، والحق أن هذه العلاقات سيئة، وأن وضع المرأة هناك لا يرتضيه دين! إن التبرج وإبداء الزينات الباطلة هما أساس الملابس العارية، وكأن سرور المرأة لا يَتِمُّ إلا إذا أثارت الانتباه ولَفَتَتْ إليها الأنظار!
ثم حُشِرَت النساء في أعمال شتى تتيسر فيها الخَلوة، وتَعجِز المرأة الشريفة فيها عن التصون! بل إن الحضارة الغربية في إباحتها للرقص، واستباحتها لإرواء اللذات بسبل كثيرة، أَرْخَصَت قيمة الأسرة، وجَعَلَت الزواج مَحْدُود الأثر في حماية الأعراض وقَصْرِ كِلاَ الزوجين على صاحبه!
وقد نَتَسَاءَل عن مكانة الدين في هذه الجاهلية السائدة!
إن اليهودية مشغولة بتهويد فلسطين وقتل العرب، والنصرانية مشغولة بالحملات الصليبية على بلاد الإسلام وتيسير الارتداد عنه بكل طريقة! أما حقيقة التدين بالنسبة إلى الجماهير فلا تَعْدُو أيامَ العطلة والأعياد السنوية، وإن كان هناك من بَقِيَ على دينه ووَاءَمَ بين ما يَعْرِف وما يرى!
إن الحضارة البشرية السائدة في العالم اعتبَرت اللذات الجسدية حقوقًا طبيعية، ولم تَرَ في الاعتراف بها ما ينافي الأخلاق، ووجهت نشاطها بعد ذلك إلى الميادين العملية، من مدنية وعسكرية، وسبَقَت سبقًا بعيدًا.
أمَّا الأمة الإسلامية فإنها لم تَسِرْ مع فطرة الإسلام المقررة، ووضعت أمام الزواج عقبات اقتصادية واجتماعية صعبة، وأنشأت تقاليدَ صارمة في إمكان رؤية كلا الجنسين للآخر! وعند التأمل نجد هذه التقاليد مَبْنِيَّة على الرياء والجهل والكبرياء المزعومة لبعض الأعراق، ثم دعوى التدين!
وعندي أن تقاليد الغرب إذا وُصِفَت بأنها لا شرف لها، فإن التقاليد الشرقية لا عقل لها، الأُولَى فاضحة والأخرى فادحة، وضحايا التقاليد المرعبة هنا وهناك كثيرة ومتشابهة!(1/409)
فلننظرْ إلى تقاليد الإسلام كما تُعْرَف من مَصَادِرِه ومن تطبيقاتِ سَلَفِهِ الأول، لا كما يزعمها أشخاص دَرَسُوا خط الانحراف، ورأَوْا أنْ يَئِدُوا المرأة معنويًّا إذا كان آباؤهم قد وَأَدُوها ماديًّا!
المرأة في الإسلام تَقْدِر على التردد خمس مرات كل يوم بين بيتها والمسجد، ومتروك لضميرها ألا يكونَ ذلك على حساب خدمتها لزوجها وولدها، ومتروك لرب البيت المؤمن ألا يمنعَها من ذلك ما دامت قد أدت واجبها نحو بيتها.
وفي المسجد لا يختلط الحابل بالنابل، فللرجال صفوفهم وللنساء صفوفهنَّ! والنساء سوافِرُ؛ أي مستوراتُ الأجسام ما عدا الوجه والكفين، هل يسمَّى هذا اختلاطًا؟ إن الرؤية ممكنة في المسجد وفي أثناء التَّرَدُّد عليه، لكن أية رؤية مع غض البصر وأدب النفس؟ فإذا رأى رجل محاسن امرأة لم يعاوِدِ النظر لِيَتَمَلَّى، فذلك مرفوض، له النظرة الأولى وليس له الثانية. إن هذه الرؤية العابرة من أحد الجنسين للآخر لا شيء فيها شرعًا وإن جادل المجادلون!
والشارع الإسلامي تسير فيه المرأة مُحْتَشِمة على ما وصفنا، تذهب إلى السوق أو المدرسة أو إلى المسجد دون حَرَج! ولنفرضْ أن رجلًا مَرَّ بجمع من النسوة فألقى عليهنَّ السلام، إنه لم يرتكب إثمًا، فقد صح عن أسماء بنت يزيد قالت: مَرَّ علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نسوة فَسَلَّم علينا. وفي رواية للترمذيّ: فأَلْوَى يده بالتسليم.
وقد خرجت صحابيات مع الجيش في نِطَاقِ الاحتشام الذي وَصَفْنَا، وكُنَّ يَطْهِينَ الطعام ويُمَرِّضْنَ الجرحى ويَنْقُلْنَ الموتى، وكافأهنَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببعض الهدايا.(1/410)
ووقفت مَلِيًّا عند حديث رواه البخاريّ أَضَعُه بين أيدي المؤمنين ليَرَوْا فيه بعض معالم المجتمع الأول: عن أبي جُحيفة، رضي الله عنه، قال: آخَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين سلمانَ وأبي الدرداء، رضي الله عنهما، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتَبَذِّلَة أي رأى ثيابها رديئة الهيئة فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاءه أبو الدرداء فصنع له طعامًا وقال له: كل. فقال: إني صائم. فقال سلمانُ: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل. فأكل وترك صومه، فلَمَّا كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال له سلمان: نَمْ. فنام،
فلَمَّا كان من آخر الليل قال سلمان: قُمِ الآن. فَصلَّيَا، فقال له سلمان: "إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذي حق حقَّه" فذكَر ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "صدق سلمان".
قلت في نفسي: إن البيئة التي يَصْنَعُها خَطُّ الانحراف ترى في سؤال سلمان لأم الدرداء جريمةً، وترى في إجابة أم الدرداء جريمةً أَشَدَّ، وربما عالَجَت هذا بضربٍ تَزْهَقُ فيه الروح أو يترك عاهة مستديمة!
ولا أدري كيف يَتِمُّ الزواج في هذه المجتمعات المغلَقة، يكاد يكون نوعًا من المقامرة! ومن أجل ذلك عُرِفَ العرب في عواصم أوربا وأمريكا بالسُّعَار الجنسيّ، وغُلِّقَت بيوت لا تُحصَى على آلاف العَوَانِس! والسبب في ذلك تقاليدُ فَرَضَها العرب من عند أنفسهم على المسلمين ما أنزل الله بها من سلطان.(1/411)
لا أصف المجتمع بأنه منغلق أو منفتح، إنه مجتمع طبيعيّ تحكمه تعاليم الفطرة السليمة وحدَها. المجتمع المنغلق يرتاب في حركات المرأة كلها ويُفَسِّرُها بابتغاء الشر، أو يخشى عليها ذلك، ومن ثَمَّ فهو يُحرِّم المباح، ويَضَع السدود، ويتناول النصوص بالتأويل، أو يقوّي الضعيف منها ويضعف القويّ، وينتهي بمحو شخصية المرأة. والمجتمع المنفتح يَضَع عِنان المرأة في يدها، ويُحَرِّض الذئاب على نَهْشِها، ويستغل اعترافه بشخصيتها كي يستغل ضعفها في مبازله.
وكلا المجتمعين شَرٌّ! ولست أرى بديلًا عن تعاليم الإسلام يفهمها عقلٌ طبيعي لا عقلٌ مُلْتَاثٌ! لقد رأيت رجلًا جامعيًّا متزمتًا يستغرب قوله تعالى: (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ) (التوبة: 71) كأنه لم يَسمَع الآية، حتى ذَكَرْتُهَا له مُحتجًّا بها على أن المرأة تأمر وتَنهَى وتُحِقُّ الحق وتُبْطِلُ الباطل! كان يَتصور أن صوت المرأة عورة فما يجوز لها أن تتكلم ناصرةً حقًّا أو خاذلةً باطلًا.
وقال لي شخص ممن يَرَوْنَ حَجْبَ المرأة عن المجتمع: أليس يقول الله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)؟ (الأحزاب: 33).(1/412)
قلت: إن القرآن لا يَضرب بعضُه بعضًا، وتفسير الآية الكريمة على أن البيت سجن المرأة لا تَخْرُج منه تفسير باطل؛ فإن الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ أَذِنَ لَكُنَّ أن تَخْرُجْنَ في حوائجِكُنَّ" على أن خروج المرأة من بيتها لا يجوز أن يكون مع تبرج الجاهلية القديمة أو الحديثة، إنَّ مُكْثَهَا فيه أَوْلَى من هذا الخروج السيئ، وعندما تخرج ـ وهذا حقها يقينًا ـ فإن آية أخرى أرشدتها إلى الهيئة التي تخرج بها. إن للاستعفاف ملابسَ سابغةً تَلُفُّ الجسد وتَنفي الرِّيبة وتنطق بأن هذه المرأة تقية نقية، أما الملابس الخليعة المتبرجة التي تَسْتَفِزُّ الشهوات فهي تُغْرِي السَّفِلَة وتَشْتَمُّ منها الذئابُ رائحة مُعَيَّنَة. وعلى المسلمة الشريفة ألا تُؤْذِيَ نفسَها بهذه الملابس؛ فإنها بثياب الفضيلة تحمي عِرْضَها وتُحَصِّن نفسها، وهذا معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59).
في المجتمع المسلم لابُدَّ من تَقْوَى تَسْكُن القلوب، وإقامٍ للصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومحافظةٍ على حدود الله تملأ أكناف المجتمع بالعلامات الخضراء والحمراء، على ما أمر الله وما نهى عنه، في هذا الجو تخرج المرأة للعمل إن احتاجت إليه أو احتاج العمل إليها، ولها أن تقاتل في البر والبحر كما فَعَلَت قبل ذلك صحابيات، وما يمنعها الإسلام من غزو الفضاء إذا أَتَاحَت لها مَوَاهِبُهَا ذلك! فليست المرأة بالإسلام دون غيرها من أيَّة مِلَّة!(1/413)
أعرف أشخاصًا يُوغِر صدورَهم هذا الكلامُ، إن هؤلاء المساكين أصابوا الإسلام في مَقَاتِلِه بقصورهم الشائن، لقد كَوَّنُوا جيلًا من النساء ما يُحسِنَّ تربيةَ أولادِهنَّ، على حين تكافح اليهوديات بِجَلَد مزعِج لإقامة دولة إسرائيل، وتكافح الراهبات لتحويل الألوف عن الإسلام. الواقع أنني أتشاءم من المستقبل عندما أسمع مُفْتِينَ منسوبين إلى الإسلام لا يزالون يحرمون على النساء دخول المساجد!
وأريد لَفْتَ الأنظار إلى أن العلاقات بين الجنسين قضيةٌ تاليةٌ لِمَا هو أهم منها، وهو غرسُ الإيمان الصحيح ثم إنضاجُ المعاني المبنية عليه؛ من إخلاص وتوكل ورغبة ورهبة وولاء وبَرَاء، ثم إقامة الأخلاق الاجتماعية؛ من صِدق وبِرٍّ ووفاء ورحمة، فإن العلل النفسية الناشئة عن فقدان ما ذكرنا تُهلِك الأمم أكثَرَ مما يُهلِكها الاضطراب الجنسيّ، وأثر التَّحَاقُد بين العرب شَرٌّ من أثر التَّحَلُّل بين أعدائهم، ومن الحماقة أن يُظَنَّ كشفُ الوجه أخطَرَ من خَبَث القلب وحَسَدِ الغير!(1/414)
79 ـ ما موقف الإسلام من تحديد النسل؟
يُطلَق هذا العنوان على قضيتين مختلفتين كل الاختلاف:
الأولى تعني التحديدَ المؤقت، أو بعبارة أدقَّ تنظيمَ النسل.
أمَّا الأخرى فتعني تقليلَ عدد الأمة وحصرَه في رقم معروف مثلًا، وتوجيهَ الأفراد بعد ذلك لتنفيذ مَطَالِبِه.
ونتناول القضية الأولى، فنواجه حالات فريق من النسوة يَحْمِلْنَ ولم يَنْقَضِ على وضعِهنَّ عدة أسابيع! إن الحمل يَجِيءُ والأم ضعيفة غالبًا من آثار الولادة السابقة، ورَضِيعُها بين يَدَيْها يحتاج إلى عناية موفورة، والجنين الجديد ينشأ في ظروف صعبة، فإذا تَمَّ وضعه انشغلت الأم بولدَين يُرهقانِها ويُوهِنُ أحدُهما الآخر! من حق الأم أنْ تَتَّقِيَ هذه المشكلة، وأن تُؤَخِّرَ الحمل بعد ولادتها نحو سنتين تتم فيهما الرضاعة، وتَقْوَى بعدها على حمل جديد! وجمهور الفقهاء يُبِيح ذلك ويرى أن هذا التحديد المؤقت للنسل يُحَقِّق مصالحَ لها وزنُها، ويَشتَرط أن يتم ذلك بموافقة الزوجين وباتباع وسيلة لا تَضُرُّ الأم، فإن كثيرًا من الأدوية المانعة للحَمْل تترك آثارًا سيئة على الأمهات والأَجِنَّة!
والواقع أن هذا التنظيم فرديّ لا جماعيّ، وأنه لا يضع رقمًا معينًا للأولاد، فما تقدمه الأقدار هدايا جديرةٌ بالحفاوة، ومن الغرور الزعم بأننا نسعد ونَشقَى!(1/415)
وهنا يجيء الحديث عن القضية الأخرى، قضية ألا يزيدَ عدد الأمة المصرية أو العراقية أو الباكستانية عن رقم مُعَيَّن أو نسبة مضبوطة في الزيادة السكانية. ونحن مضطَّرون إلى ذكر حقائقَ قد يكون بعضها مخجِلًا، أو يكون من وضع ساسة يُكِنُّونَ للإسلام وأمته أخبث النيات. ونبدأ بالتنبيه إلى أن الحدود الجغرافية التي رُسِمَت لدار الإسلام وشعوبها في هذا العصر حدود وهمية مُزَوَّرة لا اعتراف بها من الناحية الدينية، فلكل مسلم أن يَطْلُب رزقه في أي مكان يَنْشُدُه بين الأطلسيّ والهادي دون أي قَيْدٍ، وخيرات الأرض الإسلامية متاحة لكل من يَنطِق بشهادة التوحيد، لا يحجُبه عنها مولده في قُطْرٍ من الأقطار.
ومن الجاهلية تكليف شعب في أفريقيا مثلًا بتقليل عدده؛ لأن نِتَاجَ أرضه قليل، على حين أن الأرض الإسلامية في آسيا ثرية الينابيع! هذه تعاليم استعمارية لإفساد الأمة الإسلامية كلها، بزيادة الفقر في جانب وزيادة الغنى في جانب آخر، وهي تتوسل بالنزعات القومية لإشاعة هذه الفوضى التي لم تعرفها دار الإسلام منذ بدأ الإسلام!
ولو فرضنا جَدَلًا أن العالم الإسلاميّ قَلَّ خيره وجَفَّت ينابيعه فإن المسلم لا يرتبط بمسقط رأسه ولا بديار إخوانه في الدين، أمامه أرض الله واسعة، أليس يقول الله: (هُوَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)؟ (الملك: 15) أليس يقول: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ)؟ (الأعراف: 10) لماذا لا ينتشرون في أرجاء الدنيا وينشرون دينهم كما فعل آباؤهم الأقدمون؟(1/416)
الحق أن قِصَّة تحديد النسل بين المسلمين خاصة تُخْفِى وراءها فضيحةً إنسانية تُضْحِك وتُبْكِي! هذه الفضيحة هي ضمور المواهب البشرية في أجيال من الناس تمشي فوق مناجم الذهب، وتَكْسَل عن أخذ ما بها، أو تَعجِز عن افتتاح أبوابها! ناس يعيشون على الشواطئ ولا يُحسنون الصيد ولا يتقنون الزرع، وقد تكون تحت أقدامهم بحيرات من البترول، ولكنهم مشغولون عن استخراجه بالسمر والثرثرة والفخر بالآباء!
إن الأموال التي تُنْفَق للإغراء بتحديد النسل لو أنفقت في تحريك الأجهزة العقلية المتوقفة عند هؤلاء لكان ذلك أَجْدَى! لكن كيف تتغير مَصَارِف هذه الأموال وهي من أثرياء اليهود في أمريكا وأوربا؟ إن القوم يريدون أنْ يَقِلَّ النسل بين المسلمين خاصة لأغراض معروفة!
ونتساءل: ما الجدوى آخر الأمر؟ إنه بدل أن يكون التعداد "50مليون" كَسْلَان، سيكون "45مليونًا" فقط! أبهذا تَنْهَض الأمم أو تُحَلُّ المُعْضِلَات الاجتماعية؟
ونُلقي نظرة أوسعَ على العالم أجمعَ، أصحيح أن خيرات الأرض دون أَعْدَاد البشر التي تنمو بإطراد؟(1/417)
الذي نراه أنَّ جهودًا هائلة في الإنتاج الزراعيّ والصناعيّ تُجَمَّد عَمْدًا في أسلحة الدمار الشامل! إن الله لم يقتل البشر بتقليل رزقه وإجاعة خَلْقِه، ولكن البشر يتظالمون وينتحرون بالأَثَرَة والعدوان. والمسلمون يَحْمِلون وِزْرًا مضاعفًا في تلك الفوضى؛ لأنهم يجهلون ما لديهم من حقائقَ أو يجحدونها، وهوانُهم الإنسانيّ أزرَى برسالتهم وزهَّد الآخرين فيها! ولو هبطوا إلى نصف عددهم ما أغنى عنهم ذلك. وأُثْبِتُ هنا هذه الكلمة في العدد 1560 من صحيفة "الشرق الأوسط" في عمود "أَسْوَد وأَبْيَض" كتب الأستاذ فاروق لُقْمَان كلمة عن اليابان وسِرِّ تطورها حضاريًّا وصناعيًّا، وكيف أَضْحَت طليعةً زاهية في العالم الأول، وكيف أن أمريكا وأوربا معًا تَخشيانِها وتَرهَبان منافستها لهما! وعَزَا الكاتب سِرَّ هذا الارتقاء إلى الأُمِّ اليابانية، فهي التي تَغْرِس في أولادها خصائص التفوق والإصرار على النجاح، وفضائل الصدق والإخلاص وحب الوطن...إلخ.
والواقع أني أَحْسَسْت بالأسى؛ لأن الأم الإسلامية لا تَعِي شيئًا من هذا كله، لقد كُتِبَ عليها باسم الإسلام المُفْتَرَى عليه ألا ترى أحدًا وألا يَرَاهَا أحد، ومُنِعَت منعًا باتًّا أن تدخل مسجدًا أكثر من عشرة قرون! ومُنعَت منعًا باتًّا أن تدخل مدرسة أو تتلقى علمًا في معهد خاص أو عام، كأن تجهيلها دين، حتى قيل: لولا الحضارة ما فُتِحَت جامعة أمام طالبة، بل ما فُتحَت مدرسة ابتدائية! وأَحْزَنَنِي أن يُسأَل الإسلام عن هذا الهوان! ثم قرأت بعد ذلك تعليقًا للسيد الزبير محمد نور سليمان يؤيد فيه تعاون الجنسين في اليابان على النهوض بمستويات الأمة كلها، ويؤكد عظمة النصيب الذي تسهم به "الأم" مما يذكر بقول حافظ إبراهيم:
الأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيِّبَ الأَعْرَاقِ!(1/418)
قال السيد الزبير: هذا الحديث ذَكَّرَني بأشياءَ شاهَدْتُها وعِشْتُها في اليابان، ساقتني الظروف إلى هناك على ظَهْر سفينة يونانية كنت ضِمْنَ بَحَّارَتها، كانت السفينة مُحَمَّلَة بفول صُويَا من ميناء نيو أورليانز بأمريكا إلى ميناء يُوكُوهَامَا والباقي في ميناء آخر في اليابان نفسها، عملية التفريغ تتم دائمًا لمثل هذا النوع من الحبوب بواسطة أنابيب كبيرة توضع داخل العنابر وتشفط الحبوب بواسطة الضغط إلى صومعة الغلال مُبَاشَرَة، أَسْرَع طريقة أُشَاهِدُها، أي في غضون خمسة أيَّام تُفَرِّغ سفينةٌ حُمُولَةً قَدْرُهَا ثمانون أَلْفَ طن، هذا غير الذي شاهدته في ميناء الإسكندرية، حيث مكثنا ثلاثة أشهر بالتمام لتفريغ حمولة بنفس القدر من القمح بواسطة الجوالات، نصفها يَضِيعُ على سطح السفينة ودَاخِل الماء طعامًا للسمك، والنصف الآخر تَحْمِلُه تِرِلَّات إلى داخل البلد، والقمح يُصَبُّ من الجوالات المهترِئة على الأرض، في شريط ليس له نهاية، إن هذه الظاهرة هي التي رَأَيْتُهَا في الإسكندرية وللأسف الشديد، نعود إلى اليابان، بعد أن تم تفريغ الشحنة في يُوكُوهَامَا بَدَأْنَا نستعد لمغادرة الميناء، ولكن قبل المغادرة كان يجب تسوية أكوام فول الصويا داخل العنابر، كي لا تميل السفينة وتتعرض لخطر الغرق، إذ كان لزامًا على المسؤولين في الميناء القيام بهذه المهمة، بعد ساعات قليلة رأيت مجموعة من النساء العجائز يُهْرَعْنَ إلى السفينة وهُنَّ يَحْمِلْنَ مُعِدَّاتِ العمل؛ من حبال ومَجَارِفَ وجُوَالات، أقول: نساءٌ عجائزُ عُمْرُ أصغرهنَّ يُقَارِب الستين عامًا، عمر جَدَّتي، بادئ ذي بدء لم أُصدِّق، قلت: ربما جِئْنَ لمساعدة العمال في أشياء خفيفة، ولكن رأيت النساء يَنْزِلْنَ العنابر كالشياطين ويبدأن العمل بِهِمَّة لا تَعْرِف الكَلَل، وأي عمل، عمل شاق يصعب على الرجال الأشداء، أنا كبَحَّار ورجل عندما أَنْزِل في هذه العنابر على(1/419)
السلالم الحديدية العارية من أي مكان، أشعر بالدوار والرهبة؛ لأن عمق العنبر نحو خمسة عشر مِتْرًا، وطوله أكثر من خمسين مترًا، كله مبنيّ من الحديد، رأيت النساء يَنْزِلْنَ ويَصْعَدْنَ هذه السلالم في دقائق معدودات، تَعَجَّبْتُ من هذه الأمة، قُلْتُ: إذا كانت نساؤهم يعملن هكذا فكيف يعمل الرجال! إنَّهُنَّ يُحَقِّقْنَ المعجزات التي لا تخطر على بال، فلا عجب إذا رأيت اليابان في هذا العلو الشاهق من العلم والتطور والتكنولوجيا والصناعات التي أَذْهَلَت أوربا وأمريكا، إنني أسجل هذه القصة لأنها تشير إلى عمل ما تَقُومُ به بعض النسوة! وإن كنت أَتَرَدَّدُ ـ ولعل ذلك من آثار التربية وطبائع البيئة ـ في اختيار هذا العمل لعجائزنا، بل إنني رفضت أن تقوم النساء بِغَسْلِ شوارع "موسكو" ليلًا، وعافت نفسي إسناد هذه المِهَن لهنَّ عندنا!
إن كل الذي أريده تنفيذ تعليمات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أن النساء شقائق الرجال، وتنفيذ الحقيقة القرآنية (لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران: 196) أمَّا هذا السَّحْقُ لشخصية المرأة وعَدُّهَا للمهامِّ الجسدية وَحْدَها، فذاك عِوَج أعتقد أن تقاليد الصحراء هي المسؤولة عنه لا تعاليم الإسلام، ومن الظلم أن يؤاخَذَ الإسلام بتقاليد أمة من الأمم التي دخلت فيه.
على هذه الأمة أن تَنْقَاد لتعاليم الإسلام لا أن تفرض تقاليدها على هدايات الله!(1/420)
80 ـ لماذا حَرَّمَ الإسلام الخَمْر؟ وما عقوبتها؟
بين يديَّ العددُ 38 الذي أَصْدَرَتْه منظمة الصحة العالمية سنة 1981م عن الكحول والعقاقير المخدِّرة، وقد أَجَلْتُ النظر في صحائفه فوجدتها مَلْأَى بالنُّذُرِ من ضراوة الخمر وفَتْكِ المخدرات، ووَجَدْتُ دراسات طبية وإحصاءات اجتماعية تُثِير التشاؤم بسبب كثرة السُّكَارَى والمدمنين! تحت عنوان "ثمن الكأس" جاءت هذه العبارة:
إن الخمر شراب يبعث على السرور والاسترخاء لدى الألوف المُؤَلَّفَة! ولكن المشكلات التي تَنْشَأ عنها تَعُوقُ التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل تُهَدِّد بفيضانها العَرِم كل الخدمات الصحية المتاحة.
ثم يقول الكاتب "جون مادبي" إن الخمر تَسبَّبَ في وفاة ما بين 33% و50% من ضحايا حوادث الطرق في البلاد المتقدمة، وتتزايد نسبة الوفيات في العالم الثالث، و"الكحول" مُخَدِّر يمكن أنْ يُحَطِّم الحياة العائلية، ويُكَلِّف الكثيرين فقدان مكانتهم الاجتماعية أو وظائفهم ومواردهم التي تُؤَمِّن حياتهم!
كما يسبب الكحول ثلاثة من عشرة من حوادث العمل، وهو أساس في ضعف الإنتاج، كما أنه سبب رئيسيّ في ارتكاب الجرائم، ذلك إلى جانب أن الكحول يؤدي إلى تَلَيُّفِ الكبد، وهو يُشكِّل عبئًا ثقيلًا على الخدمات الصحية في مؤسسات الصحة النفسية!
والخمر من وراء فقدان الملايين من ساعات العمل على امتداد السنة، وقد قدرت الولايات المتحدة خسائرها في الإنتاج بسبب الكحول بعشرين مليار دولار سنويًّا.
وفي مقال آخر عن الخمر والنساء تقول الكاتبة:
إن النساء المدمنات يُعانِينَ أكثر من الرجال من أمراض الكبد رغم المقادير التي يتناولنها، كما أن استجابتهنَّ للعلاج أقل من استجابة الرجال، وينتهي أَجَلُهُنَّ في سِنٍّ أصغرَ من نُظَرَائِهِنَّ من الذكور!
وفي مَقَالٍ عن الخمر والشباب بدأ الكاتب حديثه بهذه العبارة:
عندما يشرب الآباءُ الخمور فإن الأبناء هم الذين يَدْفَعُونَ الثمن!(1/421)
والواقع أن الآباء والأبناء جَمِيعًا يَدْفَعُونَ الثمن الفَادِح إن كانت العبارة الأولى هي التي رفعها الفرنسيون شعارًا لهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية!
ومما يَلْفِت النظر أن المستعمرات بعد تحريرها يزداد استهلاكها للخمور! وإنَّ دُوَلًا كثيرة في العالم الثالث تُقْبِل على السُّكْرِ وتَتَّجِهُ إلى الإدمان! وليس هذا عجيبًا، فإن الفهم الأعوج للحضارة والتقليد الأعمى للغربيين من وراء هذا الانحطاط المبين.
إن الإسلام حَرَّمَ الخمر وعَدَّهَا من كبائر الإثم ونَظَمَها في سلك واحد مع الزنى والسرقة، ففي الحديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يَشْرَبُها وهو مؤمن". وعن أنس بن مالك: لعن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها، وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعاها ومبتاعها، وواهبها، وآكل ثمنها! وظاهر من هذا الاستقصاء أن الشارع يُرِيد قَطْع دَابِرِها، ومَحْوَ آثارها، وإغلاق كل الأبواب التي تؤدي إليها.
والقرآن عَدَّهَا مع الوثنية والقمار وأوهام الشرك: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة: 90ـ91).
والخمر: كل ما غَطَّى العقل وأَعْجَزَ الفكر، أيًّا كان مصدرُه! يَسْتَوِي فيه العِنَب والمَوْزُ والقصب، ويستوي فيه الجامد والسائل، فإنَّ القصد واضح، الله كرم الإنسان بالعقل، فما أضاع العقل فهو حرام.(1/422)
ومن السخف كذلك تَصَوُّرُ الشارع يُحَرِّم الخمر السائلة ويتجاوز عن عقاقيرَ جامدةٍ قد تكون أشدَّ من الخمر ضراوة وأعظمَ فَتْكًا، وإذا كان أَئِمَّة الفقه الأقدمون لم يَذْكُرُوا الحشيش والأفيون فلأن بيئاتهم لم تعرفه، فَلَمَّا ظهرت بعض المخدرات أيام ابن تيمية عَدَّهَا لِفَوْرِهِ من الخمور. وفي أيامنا هذه ظهرت عقاقيرُ أخرى، كالكوكايين والماريجوانا وغيرهما، تغتال العقول وتهلك المدمن وتستأصل إنسانيته، فكيف تُتْرَك؟
وفي الحديث: "كل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكل مسكر حرام" وفي حديث آخر: "إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البُرِّ خمرًا، وإن مِن الشَّعِيرِ خمرًا، وأنهاكم عن كل مُسْكِرٍ". وظاهر من الحديث أنه يَسُوقُ نَمَاذِجَ ثم يَذْكُرُ القاعدة العامة، ونحن لا نَهْتَمُّ بالأسماء ولا بالمصادر، وإنما نهتم بالتشخيص العلميّ للأشربة والعقاقير، فما ثبت تغييبه للعقل أو ما أفقَدَ المرءَ اتزانَه الفكريَّ فهو مُحَرَّم بيقين!
ولم تكن الخمر مألوفة في البيئات الإسلامية، وأذكر أنني في طفولتي سِرْتُ مع موكب كثيف من أهل قريتنا وراء رجل ثَمِلٍ، نستغرب تَمَايُلَه ونستنكر سُكْرَه، وعرفت أنه سَكِرَ في حانة فتحها بعض اليونانيين في ظِلِّ الاحتلال الإنجليزيّ. ثم أخذت الخمر تَشِيعُ مع هَيْمَنَةِ الاستعمار على شؤوننا، ثم أَمْسَت معهودة في الأحفال "الدبلوماسية" وعلى موائد بعض المُنْحَلِّين!
والواقع أن الخمر غامضة الحكم بين النصارى، وأَغْلَبُهُم يَسْتَحِلّ قَلِيلَها ويَنْأَى عن كثيرها! وإن كان القليل عادة يَجُرُّ إلى الكثير، وتلك طبيعة عامة في الأشربة المسكِرة والعقاقير المخدِّرة، ومع اضطراب الأعصاب وما وَفَدَت به المدنية من هموم رأينا من يُؤثِر الغيبوبة على مواجهة المَكَارِهِ! ولا بأس أن يُغمِض بصره أو بصيرته حتى لا يرى ما يَكرَه!(1/423)
أهو منطق العامة؟ أم هو لون من الانتحار؟ أم هو التماس السرور في الأوهام؟ كما قال الأعرابي الأبلَه:
وَإِذَا سَكِرْتُ فَإِنَّنِي رَبُّ الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ!
وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي رَبُّ الشُّوَيهَةِ وَالبَعِيرِ!
إن فترة الغيبوبة التي يُحِدثها السكر تُعَطِّل عمل العقل وتترك الشهوات سائبة دون قيد، وتتيح الانطلاق الحيوانيّ دون خوف على كرامة أو تَهَيُّبٍ لسلطة! وقد حكى الأدباء أن بَدَوِيَّة وَفَدَت على بغداد وحَضَرَت عُرْسًا يُشرَب فيه المنكر، فَلَمَّا انتَشَت قالت: أَيَشْرَبُ هذا نِسَاؤُكُم؟ قالوا: بلى. قالت: زَنَيْنَ ورب الكعبة!
الحق أن تحريم الخمور حِفَاظ على الدين والشرف والخلق والكرامة، إلا أن الأوربيين مَشَوْا في طريقهم، فلَمَّا رَأَوْا المخدِّرات سريعة التدمير للأمة حَظَرُوها بعنف، ويوجد تعاون عالميّ على مطاردة هذه المخدرات ومعاقبة تُجَّارِهَا ومتناوليها. أما الخمر فقد ازداد الإحساس بضراوتها في الأيام الأخيرة، وتوجد حكومات غير إسلامية تحرمها ـ كالهند مثلًا ـ لضرورات قومية، وفي العالَمَين الرأسماليّ والشيوعيّ تنطلق الدعايات الصحية والاجتماعية للتنفير منها وإبراز مَقَابِحِهَا، فهل ذلك يكفي؟
إن الإسلام تَأَنَّى في إعلان حُكْمِهِ على الخَمْرِ وإن كان من أول يوم ينظر إليها شَزْرًا، ولم يُقَرِّر مهاجمتها إلا بعد أن أقام دَعَائِمَ مِنَ الإيمان، وضوابط الأخلاق تُعِينُ على الخلاص منها، فَلَمَّا أصدر الحكم بعد هذا المِهَاد أُرِيقَت دِنَانُ الخمر في الأَزِقَّة، ورُمِيَت قِرَبُها في المزابل. أي أنه لابد من مقدمات نفسية وفكرية تسبق أو تساند الحَظْرَ، وجمهور الأطباء والمُرَبِّين والساسة والقُوَّاد العسكريين يكافحون المسكرات في العهود الأخيرة، وأظن أنه لا يَمْنَع من عقاب شاربيها إلا الخوف من التَّشَبُّه بالإسلام!(1/424)
والفقه الإسلاميّ يَضَعُ حَدًّا لشارب الخمر قَدْرُه ثمانون جَلْدَة، وليس هذا الحد مذكورًا في الكتاب الكريم أو السنة المطهرة، وإنما اتَّفَقَ عليه جمهور الصحابة، وأوصَى به الدولَ فنفَّذَته! ومن الفقهاء مَن يكتفي بأربعين جلدة. وفقهاؤنا مُجْمِعُون على أنَّ مَنْ سَكِرَ مِن أي شَرَاب نُفِّذَ فيه الحد، وإنَّ أَخْذَ أية جَرْعَة من الخمر أسكَرَت أم لم تُسْكِر حرام، وفيها العقوبة المقررة.
إن دولًا كثيرة عاقبَت تُجَّارَ الأفيون ومتناوليه بالقتل، ولم يَسْلَم لها كِيَانُها إلا بهذا العقاب الصارم، ومع أن قليلًا من الأفيون يُحتَاج إليه صحيًّا، وفي مجلة الصحة العالمية التي أَوْمَأْتُ إليها آنفًا أن المواد المشتقة من نبات الأفيون مثل "الكوديين" و"المورفين" مفردات مهمة في دستور العقاقير، فهل شفع ذلك في تخفيف العقوبة على مُرَوِّجِيه ومُدْمِنِيهِ؟
فلِمَاذَا نتهاون في مجال المسكِرات ثم نَشْتَطُّ في مجال المخدرات؟
قد تكون نسبة الكحول في البِيرَةِ وما يُشْبِهُهَا 3% أو أَزْيَدَ قليلًا، بَيْدَ أن الملحوظ في هذه الأشربة أنَّ قَلِيلَها يَجُرُّ كثيرها، أي أن الذي يَشْرَب زجاجة من البِيرَة يَتَجَرَّع من سُمُوم الكحول مثلَ أو أكثرَ من الذي تناول كأس خمر!(1/425)
81 ـ التدخين عادة سيئة، فَهَلْ للدِّين رأي فيها؟
لم يكن التبغ موجودًا على عَهْد النبوة حتى يُصْدَرَ فيه حُكْم، وليست له خصائص الإسكار التي لأنواع الخمور حتى يمكن إلحاقه بها، ومِن ثَمَّ فإن الحكم له أو عليه يَرْتَبِط بالآثار التي يتركها في جسم الإنسان. ولم أَقْرَأ لأحد كلمة في أنَّ للتدخين فائدة، بل إنَّ جَمْهَرَة العقلاء من باحثين وأطباء أطالوا القول في أضرار التدخين، ويَكَاد إجماعهم ينعقد على أنه سُمٌّ بطيء. وقد طالعت عددًا من المجلة التي تُصدرها منظمة الصحة العالمية عنوانه الواضح على الغلاف "التدخين نِقْمَة والصحة نِعْمَة والاختيار لك".
وفي المقال الأول من هذا العدد وَرَدَت هذه العبارات:
لَقَدْ اتَّضَحَت العلاقة بين تدخين السجائر وطائفة من الأمراض المزعجة، كما اتَّضَحَ أنَّ نِسْبَة الوَفَيَات بين المدخنين أَزيَدُ كثيرًا من نسبتها بين رافضي التدخين، ولعل أكثرَ الأمراض ارتباطًا بتدخين السجائر سرطانُ الرئة، والتهابُ الشُّعَب، وانتفاخُ الرئة، وأمراضُ القلب الإسكِيمِيَّة، وأمراضُ الأوعية الدموية، وترجع 80% من الوفيات المتزايدة إلى هذه العِلَل! وهناك أمراض أخرى أكثر شيوعًا بين المدخنين، هي سرطان الشَّفَة واللسان والفَمِ والحنجرة والبلعوم والمَرِيء والمثانة! ويتكرر حدوث قرحة الإثنا عشر بين المدخنين أضعافَ حدوثها بين غيرهم...إلخ.
وقد تأملت في هذا الكلام طويلًا ولم أستطع رَدَّه، ولكني تساءلت: لماذا تبدو هذه النتائج ببطء حتى أن البعض يرتاب فيها؟ وعلمت أن الخالق أَبْدَعَ تكوينَ الجسم البشريّ، وأودع فيه مقاومة شديدة للبلاء الهاجم! كأن الجسم ثوب متين النسيج يمكن أن تَحمل فيه الحديد والحجر دون أن يَخْتَرِق! بَيْدَ أَنَّ كثرة الاستعمال سَتُوْهِنُ قدرته يومًا فلا يَتَمَاسَك أمام شيء يُوضَع فيه!(1/426)
وربما ظَنَّ البعض أنه مُحَصَّن ضِدَّ السرطانات وضروب الأذى المقرونة بالتدخين، وليس لهذا الظَّنِّ أساس علميّ، لكن يبقى ما لا شك فيك؛ وهو أن التدخين مضعِفٌ عامٌّ للصحة، وأن جهد المدخن أقل من جهد غيره، وأن الرائحة الرديئة المنبعثة من التبغ المحترق تُلَوِّث الفم والأصابع والملابس والجو المحيط بالمدخنين، بل إن رائحة التدخين قريبة من النَّتَن، ومن حق الشخص السويّ أن يَنْفِر منها.
وجمهور كبير من المدخنين ليس وَاسِع الثراء حتى يَحْرِق أمواله بلا مبالاة، لقد ظهر أن الألوف المؤلفة من صَرْعَى هذه العادة يَحْتَاجُون وتحتاج أُسَرُهم إلى هذه النفقات الضائعة لتوفير الأَلبان والفواكه والأطعمة التي لا غنى عنها.
وقد رأت الحكومات على المستوى الدَّوْلِيّ أن تَدُقَّ أجراس الخطر ضد التدخين، ولكنها اكتفت لأسباب نُضْرِب عن ذِكْرها بإلصاق لافتة على كل علبة سجائر تشير إلى ضرر التدخين!
والعدد الذي بين يَدَيَّ من مجلة الصحة العالمية يقول:
"بالرغم من تَحَوُّل صناعة السجائر في البلدان الغنية إلى إنتاج سجائرَ تَنْخَفِض فيها نسبة القطران وسجائر مُزَوَّدة بالمرشِّحات "الفِلْتَر" فإن السجائر المصدَّرة إلى العالم الثالث عمومًا تَحْوِي نسبة من القطران تزيد ثلاثة أو أربعة أمثال على ما يشابهها في البلدان المتقدمة"!
إن حياة السكان في العالم الثالث تافهة ولا معنى للمحافظة على صحتهم!
والحقيقة أن التدخين بدأ يَقِلُّ في أغلب الأقطار الواعية، وأن طوائف كثيرة من المثقفين هجرته، وقد قرأتُ في مجلة الصحة العالمية المذكورة أنه تَبَيَّن من دراسة أُجْرِيَت على 600,000 طبيب بريطانيّ أن نصفهم كَفَّ عن التدخين بين عامي 1951و1965 ونتيجة لذلك انخفض مُعَدَّل الوَفَيات بين الأطباء.(1/427)
إن شركات التدخين العملاقة تَجِد ضحاياها في العالم الثالث، وقد ارتفعت نسبة التدخين بل نسبة السكر بين الألوف المُؤَلَّفَة في هذه الأقطاع التَّعِيسَة، وافْتَنَّ المُعْلِنُون في اجتذاب الفرائس الغبية، فهذه امرأة أفهموها أن التدخين يزيد جاذبيتها! وهذا عَيِّلٌ أَفْهَمُوه أنَّ التدخين مَظْهَر رُجُولَة! وهذا عامل أَفْهَمُوه أن التدخين يجعله فارسًا لا يَنْقُصُه من مظاهر الفروسية إلا أن يمتطيَ صهوة حصان أو حمار! وهذا امرؤ مستغرِق في فكر عميق يحلُم من سُحُب الدخان المنعقدة من سيجارة! بِمَ يحلُم أو فيم يفكر؟ في هُرَاء وخديعة كبرى!
إن التواطؤ على استغلال العالم الثالث بَلَغَ حَدَّ الفُجُور في الاستخفاف والاستغلال؛ فقد كتب مُحَرِّر جريدة "الراية" تحت عنوان "عقاقير الموت" هذا الخبر:(1/428)
أجرى فريق من علماء جامعة "كاليفورنيا" دراسة خلال السنوات العشر الماضية في أكثر من عشرين بلدًا من بلدان العالم الناميّ، تَمَّ خلالها تحليل نحو 500 دواء وعَقّار من المعروضات الصيدلية التي تنتجها 155 شركة عالمية وتُصَدِّرُها إلى أقطارنا، ثم أصدرت الجامعة نتيجة هذه الدراسة في كتاب نشرته بعنوان "وَصْفَاتُ المَوْتِ في العقاقير المُوَرَّدَة لبلاد العالم الثالث" وتؤكد النتائج أن بعضًا من كُبْرَيَات الشركات العالمية ذات المكانة المرموقة في إنتاج الأدوية والعقاقير الطبية تَسُوقُ منتجاتها في أقطار العالم الثالث بوسائلَ من الإعلانات المكذوبة والدعايات القائمة على الغِشِّ والرشوة والخِدَاع، وتَتَغَاضى هذه الشركات عن ذكر الأعراض الجانبية للأدوية التي تبيعها والمضاعفات الخطيرة التي تنشأ عن منتجاتها، وكثيرًا ما تكون لها عواقب وَخِيمَة ومميتة. وأشارت الدراسات إلى أن أَرْبَع شركات فحَسْبُ من الشركات الـ155 هي التي تلتزم بأمانة العمل وأخلاقياته، وذكرت أنَّ الأَدْوِيَة المَعْرُوضَة تَتَنَوَّع بَيْنَ علاجات للصداع والحُمَّى ومهدئات، وبين مضادات حَيَوِيَّة، أو حُبُوب مَنْع الحمل.
قال المُحَرَّر: وبما أَنَّنَا من أبناء العالم الثالث فإنَّ أسواقَنَا سوف تبقى مجالًا لهذه الأنشطة المسمومة، وسوف تَبْقَى مستهلِكة لمقاديرَ ضخمةٍ من أَدْوِيَةٍ الطالحُ فيها أضعافُ الصالح".
الحقيقة أن الأمم الغربية لا تعُدُّنا بشرًا مثلهم، وأنهم ينظرون إلينا باستهانة أو بازدراء! إن كلمات الشرف والاستعفاف والأمانة مُلْغَاة في معاملتنا ونحن المسؤولون عن هذا السلوك المَحْقُور
ومَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى ذَمِّه ذَمُّوهُ بِالحَقِّ وَبِالبَاطِلِ!(1/429)
إنَّ قَدْرًا كبيرًا من الأموال العربية يَذْهَب في مَطَالِب السَّرَف ومظاهر التَّرَف التي تُسَيْطِر على الخاصة والعامة! والغربيون يَعْلَمُون أن تقاليد الرياء الاجتماعيّ هي التي تحكمنا، وعن هذا الطريق يستنزفون ثرواتنا. الصعلوك يخرج من بيته واضعًا السيجارة في فمه، وبيته محتاج إلى بعض الضرورات، وحسبه ذاك من مَخَايِل الرجولة! والغنيّ يبعثر بيديه في ميادين اللهو الحلال والحرام، وهو يعلم أن أعدادًا لا تُحْصَى من المسلمين قتلهم الجفاف أو استحوذ عليهم التبشير فكفروا بعد إيمان!
وقد كنت أحيانًا أنظر إلى العمال وإلى الفلاحين العائدين من الجزيرة والخليج فأعجب لِمَا يحملون من هدايا! لقد أَهْدَرُوا عَرَقَهم المَبْذُول في أَجْهِزَة التليفزيون والفيديو، وعادوا لِيَسْهَروا عليها مع الأصحاب، مُضَيِّعِين بِسَهَرِهِمْ العشاءَ والفَجْرَ! ومبتدئين بعدئذ نهارًا لا بركة فيه ولا إنتاج!
لِأَدَعْ هذا الاستطراد، وما منه بُدٌّ، ولْأَسْأَلْ: هل التدخين مُبَاحٌ؟
إنني لا أقدر على الحكم بإباحته بعد ما قَرَأْت عن أضراره المؤكدة.
هل هو حرام؟
قد يكون حرامًا عند بعض الناس وقد يكون مكروهًا عند البعض الآخر.
والغريب أنني قرأت لامرأة مدخنة أن رائحة التدخين أَخَفُّ من رائحة الفم الطبيعيّ! فأيقَنتُ أنها هي أو بَعْلها مَرْضَى، وأنهما يَجِب أنْ يَذْهَبَا إلى طبيب يَشْفِيهما بَدَل أن يَحْكُمَا بإباحة التدخين، فقد قَرَّرَ أطباء مُحْترَمون أن التدخين شديد الإضرار بالنساء وأنه قد يؤثر في صحة الجنين!
إن الرائحة الجميلة من شعائر الإسلام، سواء كانت في الجسم أو في الملابس، والرجل الكريه ينبغي ألا يخالط الناس، فإنَّ صلاة الجماعة تَسْقُطُ عنه، ولا أَسْتَطِيعُ القول بِأَنَّ رائحة الدخان حسنة!(1/430)
82 ـ ما حكمة الزكاة؟ وما نصابها؟
البخل عاهة قديمة في الطبيعة البشرية، ترجع إلى حب المرء لنفسه وحرصه على مصلحته، وارتيابه في المستقبل ارتيابًا يُغْرِيهِ بالادخار والجَمْع بعد الجمع! والدين لا يُبَغِّضُ للمرء نفسه ولا يُزَهِّدُهُ في مَصَالِحِهَا، ولكنه يرفض أن يتحول ذلك إلى تجاهل للآخرين، وفقدان للشعور بوجودهم وحقوقهم، ولعل ذلك هو الفارق بين الإنسان والحيوان، فالحيوان ما يَتَحَرَّك إلا وَفْقَ اللذة والأَلَمِ، إنَّه يَسْتَقْتِل من أَجْلِ قُوته أو قُوت صغاره الذين هم امتدادًا له، والعالم في عَيْنه لا يتجاوز هذا النطاق.
والإنسان القريب من الحيوان يُصْبِح ويُمْسِي مَحْصُورًا في مآربه ومطالبه، لا يفكر أبعد من ذلك، فَلْيَحْيَ هو ولْتَمُتْ الدنيا كلها بعدئذ.
وقد جاء الإسلام فَخَلَعَ الفرد من هذه الأَثَرَة، وجعله جزءًا من كِيَان مشترَك أو جسد واحد، وأفهَمَه أن الإيمان يَقتضي محبة الآخرين والرحمة بهم واحترام مصالحهم، وقد يقتضي الإيثارَ والعطاءَ المبرَّأَ من المَنِّ، قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) (التغابن: 16) وقال: (وسيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى. الذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى) (الليل: 17ـ20).(1/431)
وعند التأمل نَجِدُ أن حب المرء لنفسه ونسيانَه لغيره يَكْمُن وراء تَشَبُّعِه مع جوع الآخرين، وتَطَلُّعِه إلى مَزِيدٍ مع فقدان غيره للضرورات الماسَّة! ولم أعرف شيئًا يُورِث الضغائن كهذا التفاوت، إنه يحول الجماعة البشرية إلى قَطِيع متوحش! ومِحْنَة الدِّين في المجتمعات التي تحولت إلى الماركسية أتت من ذلك التفاوت الظالم، والثُّوَّار ما كانوا حاقدين على الوجود الإلهيّ قَدْرَ ما كانوا ضائقين بِبِطْنَةِ الكُهّان ومَسْغَبَة البائسين، وقد رأينا القرآن الكريم يَعُدُّ أولئك الكهنة البِطَانَ هم السبب في كفر الناس، ويَعتبر مسلَكَهم صَدًّا عن سبيل الله (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: 34).
والكلام في الزكاة فرع تنقية الطباع من الشُّحِّ، وغَرْسِ الأُخُوَّة المتحابّة المتراحمة المتكافلة، وقبل أن أعطيَ أحدًا من مالي أنا باسم الزكاة يجب أن أضمن للكادح ثمن عرقه وجزاء سَعْيِه!
لقد رأيت قاعدين يَشرَكون الآخرين في رِبْحِهم تحت عناوينَ ما أنزل الله بها من سلطان! رأيت الأعرابيّ يَكْفُلُ عشرة من الناس لِيَسْتَوْلِيَ على نِصْفِ رَوَاتِبِهِم جميعًا! والإسلام بريء من هذا الجَشَعِ والغَصْب.
إن دور الزكاة يجيء بعد إرساء قواعد الحلال والحرام، فإذا حَدَثَت ثغرات في المجتمع بعد تسييره وَفْقَ سنن عادلة فإن الزكاة تَمْسَح الآلام وتنشر الرحمة والوئام، إن الزكاة طهارة نفسية واجتماعية قبل أن تكون مساعدات مادية (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 103).(1/432)
لم أعرف نظامًا دينيًّا في الأَوَّلِينَ والآخرين اهتم بالزكاة والصدقة مثلما اهتم الإسلام، وفي كتاب الله وسنة رسوله آياتٌ وحِكَمٌ تُحِسُّ معها كيف يريد الإسلام تعميمَ الخير وإشاعةَ النعمة، ومطاردةَ البأساء والضراء، وجَعْلَ بسمة الرضا يصطبغ بها كل فم!
من قديمٍ والناس يكرهون استخراج المال من خزائنهم ويوَدون لو بَقيَ لهم وَحْدَهم، بَيْدَ أن الإسلام يقاوم هذه الرغبة ويَكْسِر حِدَّتَهَا، وإذا احتاج الأمر إلى مقاتلة أصحابها أعلن عليهم الحرب حتى يفيؤوا إلى أمر الله، وهكذا فَعَلَ الخليفة الأَوَّل، فهل يتكرر ما فعل؟
عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نَفَرٍ من قريش فَمَرَّ أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ وهو يقول: بَشِّرِ الكافرين بِرَضْفٍ يُحْمَى عليهم في نار جهنم، فيوضع على حَلَمَةِ ثَدْيِ أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كَتِفَيْهِ أعلاه ويُوْضَع على نُغْضِ كتفه حتى يَخْرُجَ من حَلَمَة ثديه، يتزلزل، فَوَضَع القوم رُؤُوسهم، فَمَا رَأَيْت أَحَدًا منهم رَجَعَ إليه شيئًا! فَأَدْبَرَ، فاتَّبَعْتُهُ حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كَرِهُوا ما قُلْتَ لهم! فقال: إن هؤلاء لا يَعقِلون شيئًا! إن خليلي أبا القاسم دعاني فأجبته، فقال: "أَتَرَى أُحُدًا؟" فقلت: أَرَاه! فقال: "ما يسرني أن لي مثلَه ذهبًا أُنفقه كله إلا ثلاثة دنانير! ثم هؤلاء يَجْمَعُون الدنيا لا يعقلون شيئًا".(1/433)
وقد جاءت عن أبي ذر رواية أخرى تُفَسِّر ما نقلناه هنا قال: انتهيت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس في ظل الكعبة فما رآني قال: "هم الآخرون ورب الكعبة" قلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي، مَنْ هُمْ؟ قال: "هم الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا وهكذا ثلاث مرات من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم! ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظَمَ ما كانت وأسمَنَه تَنْطَحُهُ بقرونها، وتَطَؤُهُ بأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَت أُخْرَاهَا عادت إليه أُولاَها حتى يُقْضَى بين الناس".
وهذا الحديث يُفِيدُ إخراجَ الحقوق المعلومة والتَّيَقُّظَ إلى كل خَلَل يَقَع في المجتمع والمسارعة إلى سَدِّه، وهو ما قاله الله سبحانه: (الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 274).
وهذا الاتفاق المطلوب لا يَعْنِي أبدًا أنْ يَظَلَّ المرء يُنْفِق حتى يُفْلِسَ ويصبحَ مساويًا لمن كان يعطيهم! فهذا فَهْم سَخِيف، وإنما القصد قَهْر البخل وإحسان المواساة! عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال جاء رجل بمثل بَيْضَة من ذَهَب، فقال: يا رسول الله، أصبتُ هذه من مَعْدِنٍ، فَخُذْهَا فهي صَدَقَة، ما أَمْلِك غيرها. فأَعْرَض عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم أَتَاهُ من قِبَلِ ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، فأتاه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من خَلْفه فقال مثل ذلك، فأخذها ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَحَذَفَهُ بها، فَلَوْ أَصَابَتْه لَأَوْجَعَتْه، وقال: "يأتي أحدكم بما يَمْلِك فيقول: هذه صدقة. ثم يَقْعُدُ يَتَكَفَّف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظَهْر غِنًى".(1/434)
وإنما شرحنا هذه القضية لأن البعض نسَب إلى أبي ذرّ أنه يُحَرِّم الكَنْزَ ويأمر بالنفقة حتى لا يَبْقَى شَيْء! هناك حق معلوم قُدِّرَ في السنة الشريفة بربع العشر في الأموال المدَّخَرة وعروض التجارة، وبنصف العشر في المحاصيل التي يَتَكَلَّف فيها أصحابها، وبالعُشْرِ في المحصولات السَّهْلَة.
وأختار في الأراضي الزراعية المستأجَرة أن تكون الزكاة بين المالك والمستأجِر، كما أختار القول بأن الزكاة في جميع ما تخرجه الأرض من حبوبٍ وفواكهَ وثمارٍ.
وقد جاءت في ميادين المال أشياءُ تَقتضي النظرَ في أحكام الزكاة المتوارَثة؛ فإن القواعد التي درسناها تجعل الوزير مثلًا لا يُخرج زكاةً عن مُرَتَّبِه الذي ينفقه في بيته ما دامت النفقة تستغرقه، على حين تُوجِب الزكاةَ على فَلَّاح يَزْرَعُ فَدَّان شعير وتطالبه بحق الفقير يوم الحصاد! كما أن أغلب الفقهاء القدامى لا يأخذون زكاة من فدان فاكهة يَدِرُّ ألف جنيه، ويأخذونها من فدان يَدِرُّ ربع هذه القيمة!
وقد لَفَتُّ النظر من أربعين سنة في أَوَّلِ كتاب أَلَّفْتُهُ إلى هذا التفاوت المُثِير، وتَحَدَّثْت عَمَّا أَسْمَيْتُهُ (زكاة المال وزكاة الدَّخْل) وقد كان ذلك إشارة محدودة إلى ما يجب عمله، لاسيما أن الزكاة ليست عبادة مَحْضَة يَسْتَحِيل فيها التغيير، بل هي عِبَادة مربوطة بِحِكْمَة وتترتب عليها مصالح مُتَجَدِّدَة. ثم جاء الشيخ يوسف القرضاويّ فوضع كتابه (فقه الزكاة) الذي قُلْتُ: إنه أهم كتاب أُلِّفَ في هذا الركن الإسلاميّ منذ بَدَأَ تاريخنا الثقافيّ.
والواقع أنه يَجِب أن تَقُومَ على عَجَل لجنةٌ من الفقهاء والاقتصاديين تترجم المصطلحات القديمة إلى مفاهيمها الحديثة، وتُبَيِّن كم تساوي عشرون مثقالًا من ذهب، ومِئَتَا دِرْهَم من الفضة، وخمسة أَوْسُق من الحبوب، وماذا يَتْرُكُه التضخم من آثار في قيم الأَنْصِبَة.(1/435)
إن الزكاة عَمَل رائع في دِينِنَا العظيم، وقد حَصَّنَت المجتمعَ الإسلاميّ من زلازلَ دَكَّت غيرَه، ولكن الأمر يَحْتَاج إلى مَزيد من الدرس والتطبيق الواعي، وضَبْط الحقوق المعلومة، وإيصالها إلى أصحابها بِأَشْرَفِ أسلوب.(1/436)
83 ـ ما العلاقة بين الإسراء وبني إسرائيل؟
ليس مِن قبيل المُصادَفات العارضة أن تَرْويَ آيةٌ فذَّةٌ قصةَ الإسراء ثم يَنتقل السياق بغْتَةً إلى تاريخ بني إسرائيل وليس مِن قبيل المصادَفات العارضة أن تُسمَّى سورةُ الإسراء في بعض المصاحف سورةَ "بني إسرائيل"!
بل أَقول: إنه ليس مِن المصادَفات العارضة أن يَدخل صلاح الدين "بيْت المَقْدس" ويَستردَّهُ من الصليبيين في السابع والعشرين مِن رجب سنة 583هـ بعد أن لَبِث في أيديهم قُرابة قرن كأن الأقدار جعلت عودة المسجد الأقصى إلى المسلمين في ذكرى احتفالهم بالإسراء إشارةً إلى أن المسجد الذي وَرِثه الإسلام يجب أن يبقَى له، وأن العلاقة بين أُولَى القبلتينِ وأُخراها لا تَنفصم، وأنه لا الصليبية قديمًا ولا الصهيونية حديثًا ستُغيِّرانِ سُنن الله في مَصائر الأمم، وإن نجحت كلتاهما إلى حينٍ في إلحاق هزيمةٍ بالمسلمين!
ونعود إلى ما بدأنا به كلامنا:
قال الله تعالى: (سُبحانَ الذِي أسْرَى بعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقْصَى الذي بَارَكْنَا حولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنَا إنَّه هو السميعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1) وعقِب هذه الآية مباشرةً نقرأ قوله تعالى: (وآتَيْنَا مُوسَى الكتابَ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لبَنِي إسْرَائيلَ ألَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا) (الإسراء: 2)
ما العلاقة بين الإسراء وإنزال التوراة وتاريخ اليهود، ثم حكاية مَفاسدهم والتعليق عليها وتَبْصِيرِ المسلمين بعَواقبها؟
إن الإسراء كان مِن مكة إلى القدس، ولليهود في هذه البقاع تاريخ صحيح أنه لم يكن لهم وُجود في فلسطين يوم وَقَعَ الإسراء، بل كان وُجودهم في فلسطين مَحظورًا، لكن وُجودهم السابق لا ريب فيه.
وانتهاء هذا الوُجود ثم حَظْرُه يحتاج إلى تفسير، وهو ما أشارت إليه الآية وما بعدها في صدر سورة الإسراء، وهو ما أُريد الآن مُتابعته من الناحية التاريخية.(1/437)
كان الكنعانيون يَسكنون فلسطين قديمًا؛ وهم سلالات عربية كإخوانهم العَدنانيينَ والقحطانيين، ويظهر أنهم تَجبَّرُوا وأثَاروا الرُّعب حيث يعيشون، وأراد الله تأديبهم على مفاسدهم فسلَّط عليهم بني إسرائيل وقد وَجِلَ الإسرائيليون أيام موسى من التعرُّض للكنعانيين وغلَبَهم الجُبن ورفضوا الزَّحْف إلى فلسطين قائلين لموسى: (إنَّ فيها قومًا جبَّارينَ وإنَّا لن نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) فلمَّا ألحَّ عليهم قالوا مرة أخرى: (لنْ نَدْخُلَهَا أبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) وعُوقب الإسرائيليون على جُبنهم بالتِّيهِ في سَيناء أربعين سنة، مات خلالها موسى، ثم خلَفه "يُوشَع" الذي قاد بني إسرائيل إلى فلسطين مُنتصِرًا على الكنعانيين، وبانِيًا حُكمًا دِينيًّا باسم التوراة بعد هزيمة العرب!
بَيْدَ أن اليهود لم يَلبثوا طويلًا حتى نجَمت بينهم عِلَلٌ خُلُقية واجتماعية بالغة السُّوء، زادوا بها شرًّا على مَن كان قبلهم! وقد حَكُوا عن أنفسهم وحكى القرآن عنهم ما يستحقُّ التأمُّل، فقد اقْتَرَفُوا رذائل جعلت القدَر يحكم بطرْدهم مِن فلسطين شرَّ طَرْدةٍ، وبَدَا أن السلطة في يدهم تُعين على الافتراء والاعتداء إلى حدٍّ بعيد، فليسوا لها بأهْل! ينبغي تجريدهم منها!
وكانت فلسطين ـ حتى بعد قُدوم اليهود ـ مَليئةً بأجناسٍ أخرى، وكان المَسلك المستحب لبني إسرائيل تَحْقيرَ هذه الأجناس والنَّيْلَ منها بأسلوب غريب! فقد زعموا أن "البَنعميِّينَ" من أصل لا يُمكن أبدًا أن يرتفع.
كيف؟
قالوا: إنهم سُلالة "لوطٍ" لمَّا سَكِرَ وزَنَى بابْنَتِهِ"! وكتبوا ذلك في سِفْر التكوين!
والقصة يَقينًا مكذوبة، فأنبياء الله لا يَسكَرون ولا يَزْنُون!(1/438)
ثم جاءوا إلى الكنعانيين العرب ووصفوهم بأنهم كلاب! وقد امتدَّ هذا الوصْف حتى ذُكر في العهد الجديد، فقد لَقيَت امرأةٌ كنعانية عيسى وهو يدعو في بيت المقدس، وصاحت به: يا سيدُ يا بنَ داود، بِنْتِي مريضة جدًّا وطلبَت منه شفاءها، فقال لها: اذهبي يا امرأة فإن طَعام البَنين لا يُرْمَى للكلاب يعني بالبَنين بني إسرائيل، وبالكلاب الكَنعانيين فقالت المَحزونة: والكلابُ أيضًا تأكل أقدام السادة! فشفَى لها ابنتها بعد هذه الضراعة الذليلة.
ونحن نجزم بأن الإنسان الرقيق الرحيم عيسى بن مريم يَستحيل أن يسلك هذا المسلك أو يُرسل هذه الشتائم! لكنهم اليهود الذين تخصَّصوا في تجريح الأنبياء وإهانة الشعوب! ومِن ثَمَّ نفهم قول القرآن فيهم: (أُولئكَ الذينَ حَبِطَتْ أعْمالُهمْ في الدنيا والآخِرَةِ ومَا لهمْ مِن نَاصِرينَ).
أيَكفي في مُعاقبة بني إسرائيل أن يُطرَدوا مِن فلسطين؟
لا، إن اللهَ عزَلهم نهائيًّا عن القيادة الدينية التي كانت لهم، وحَرَمَهُمْ مِن الوحْي وشرف إبلاغه، واصطفى الأمة العربية لتقوم بهذه الأمانة، وكانت ليلةُ الإسراء والمِعراج التصديقَ الحاسِم لهذا التحوُّل، فقد انتقلت الرسالة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، وأصبحت الأمة العربية لا العِبْرية هي الوارثة لهدايات السماء! ونهض الإسلام بالعرب نهضةً رائعة، وجعل منهم حَمَلَةَ حضارةٍ زاهية، وفُوجئ العالَم بالأمة التي لم تعرف إلا رَعْيَ الغنم ونَقْلَ السلع تتلو مِن كتابها أصحَّ العقائد وأحْكَمَ الشرائع وأشْرَفَ التقاليد.
كان دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة يَصِفُ نفسَه وقَومَه وعلاقَة العرب بعضهم ببعض فيقول:
يُغَارُ علينَا واتِرِينَ فَيُشْتَفَى بنا إن أصبنا أو نَغيرُ على وِتْرِ
قسَمنا بذاك الدهرَ شَطرينِ بيننا فما يَنقضِي إلا ونحنُ على شَطْرِ(1/439)
وها هم العرب بالإسلام يُعلِّمون الناس السماحة والأخوّة والتعاوُنَ على البر والتقوى، حتى قال "جُستاف لوبون": إن العالَم لم يعرِف فَاتحًا أرْحَمَ مِن العرب!
وكان دخول المسلمين بيت المقدس أيام عمر بن الخطاب آيةً من آيات التواضُع لله والبرِّ بالناس، كان دُخولهم بيت المقدس أيام صلاح الدين آيةً مِن آيات السماحة والعفْو والمَرْحَمةِ.
أما الأمة العِبْرِيَّة فقد خَطَّت لنفسها طريقًا آخر، لقد هبَّت على اليهود عاصفةُ غَضَبٍ بَعْثَرَتْهم في أرجاء الأرض، فتَوزَّعَتهم المدائن والقرى في المشارق والمغارب، بَيْدَ أنهم حيث ذهبوا كان لهم فِكْرٌ واحد ومنهجٌ ملحوظ، يزعمون أنهم شعبُ الله المختار! ومع هذا الزعم فإنهم نسَبوا إلى الله ما لا يَلِيقُ بجلاله! ونسبوا إلى رسله ما لا يَليق بشرفهم! واستباحوا لأنفسهم الربا وأكْل مال الناس بالباطل! وتَقَوْقَعُوا في حاراتهم يَحلُمون بالعودة إلى الأرض التي طُردوا منها بسُوء خُلقهم مع الله والناس!
والغريب أنهم جعلوا آمالهم هذه وحْيًا يُتْلَى وأودعوها صحائفَ كتبهم، وكأن الله هو الذي أنزلها عليهم! وقد تضايَقَ النصارَى مِن مَزاعمهم وأعمالهم، لاسيَّما أنهم هم الذين سعَوا في قتْل عيسى!
وإذا كُنَّا على عكس النصارى نعتقد أن عيسى نجَا مِن مُؤامرتهم فالقوْمُ على أيَّة حال فِتنة بضمائرهم ومِن ثَم شرَع النصارى حُكامًا وشُعوبًا في اضطهادهم وإرْخاص دمائهم، وعَرَضتْ لهم مَآسٍ في أنحاء أوربا كادت تنتهي بإبادتهم، حتى قال نفَرٌ من المُؤرخين: لولا ظهور الإسلام لَفَنِيَ اليهود! إنهم وَجَدوا في أرضه الفسيحة وسماحته المُمتدة ما أبقَى حياتَهم!(1/440)
ومِن المؤرخين مَن يرى اليهود مسئولين عمَّا نزل بهم من آلام، فأَثَرَتُهُمْ الشديدة، وشرُّههم في حُبِّ المال، وقِلَّةُ اكتراثهم بقضايَا الشعوب التي عاشوا بين ظَهرانَيها ـ كل ذلك جعل القلوب تنطوي على بُغضهم وقد كان "هتلر" الحلقة الأخيرة في سِلسلةٍ طويلة مِن الحكام الذين أذَلُّوهم في طول أوربا وعرْضها.
ومَرَّتِ السنون ثقيلةً طويلة، وظهرت الخلائق المَستورة، أو نبتت ونَضِجَت البذور الكامنة! كان المسلمون يَغِطُّونَ في نوم عميق، وكانت الدنيا مِن حولهم تتحرك بحقد مَشبوب وتُطالب بثارات قديمة.
كان يَحلو للمسلمين أن يتحدثوا عن الرحلة الجويَّة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وسِدْرة المنتهى! ولا بأس أن يقولوا شِعْرًا ونثْرًا! أما الدرس الواعي للأمم التي توارثت فلسطينَ وأسرارَ ازدهارها واندثارها فقلَّما يُفكرون في ذلك، وربما لا يَخطِر لهم ببالٍ أن هذه الأمم تُفكر في العودة وتُحسن استغلال الفرص.
فلمَّا جاء العصر الحديث انكشف الغِطاء عن مُفارقات مذهلة، انكشف عن تعصُّبٍ يهوديٍّ شديد النبْض، وعن تأييدٍ حارٍّ له مِن رجال الكنيسة وأغلب السَّاسَة أمَّا العرب فقد قيل لهم: احْلُمُوا بإنسانية عامَّة مُتجردة عن الهوى، نُؤازركم في المَحافل الدولية ونَعدل بينكم وبين خُصومكم!
واستكان النُّوَّامُ للأحلام، فما صَحَوا إلا على المذابح تَحْصُدهم رجالًا ونساء، والتسميم يجتاح الطلاب والطالبات، والغيوم تسُدُّ الآفاق كلها أمام مُستقبل معقول.
ما الذي حدث؟
نَدَعُ الجواب لغيرنا، ندَعُه لخُصومنا ونتدبَّرُ ما يقولون:
كَتبَ "حاييم وايزمان" في مذكراته يقول لقومه: تَحْسبون أن لُورد "بلفور" كان يُحابينا عندما مَنَحَنَا الوعد بإنشاء وطنٍ قوميٍّ في فلسطين؟ كلَّا، إن الرجل كان يَستجيب لعاطفةٍ دِينيةٍ يتجاوب بها مع تعاليم العهد القديم!(1/441)
وندَعُ "وايزمان" و"بلفور" ونتدبَّر تصريحات مستر "كارتر" ومَن بعده، إنهم جميعًا يتحدثون مع "بيحن" عن أرض المِيعاد وعن نُبوءات التوراة والحُدود التي رسَمَتْها!
إن المشاعر الدينية الغائرة في العقل الباطن والظاهر هي التي جعلت جنرال "جيرو" يقول في دمشق أمام قبر صلاح الدين: ها نحنُ قد عُدْنَا يا صلاح الدين!
وهي نفسها التي جعلت مارشال "اللنبي" يدخل القدس في الحرب العالمية الأُولى ويقول: الآن انتهت الحُروب الصليبية.
يظهر أن العالَم كله شديد الإحساس بعقائده وآماله الدينية إلا قومَنا وحدهم، فإنهم يتذاكرون بينهم أن الدِّين رجعية!
إن قضية بيت المقدس وفلسطين منذ فجر التاريخ إلى قيام الساعة قضيةٌ دينية عند أصحاب الرسالات السماوية جميعًا، فكيف يتجرَّأ البعض على جعلها قضيةً قوميةً أو اقتصادية!
المسلمون يَرَونَ المسجد الأقصى يُذكَر في سياقٍ واحد مع المسجد الحرام والمسجد النبويِّ، ويَرَونَ الدفاعَ عنه جزءًا من الإيمان، ويَعْترضون باسم الله ورسوله جُهودَ اليهود لهَدْمه وإقامة الهيكل فوقه! ويَعُدُّون هذه الجهود جريمةً ضد الإسلام والألف مليون مسلم الذين يَعتنقونه! فكيف يُتجاهل هذا!
والنصارى يَرَونَ بيت المقدس قِبلتَهم، وبه قبْرُ المسيح، وقد جعلوا مَفاتيح كنيسة القيامة بأيدي المسلمين؛ لأنهم أُمناءُ عليها وحُماةٌ لها، ولرفع التنازُع الطائفي بينهم على حِيازتها!
واليهود يَرَونَ أن هذه الأرض مَنَحَهَا اللهُ إبراهيمَ الخليل وذُريَّتَه مِن بعده، وزعموا أنهم هم الذُّرِّيَّة المَعنيَّة! وأن طَرْدَهم منها لعِصيانِهم وقَتْلِهم الأنبياءَ لا يَمنع مِن العودة إليها وطرْدِ العرب منها!
فإذا كان الدِّين وراء كل دعوى فكيف جاء مَن أسْمَوا أنفسَهم العُرُوبِيِّينَ، وجَرَّدُوا العرب مِن ولائهم الإسلاميّ، وأَغرَوهُم بجعل القضية صراعًا جِنْسيًّا أو نِزاعًا "إمْبرياليًّا" وغير ذلك مِن الأوصاف المَكذوبة!(1/442)
وعندما يَفقد صاحب البيت عاطفتَه الدينية ويهجُم اللصُّ بهذه العاطفة المُهتاجة فماذا تكون النتيجة؟
إن اليهود اغتصبُوا نصْف مسجد الخليل ويَتآمرون على اغتصاب بقيته، والأخبار تَتْرَى ـ وأنا أكتب هذه السطور ـ أن مَساجدَ شتَّى في "يافَا" و"عكَّا" نُسِفَتْ، وأن ترويع الطلاب العرب في مدارسهم بمُحاولات التسميم المستمر حتى يترك العرب الضفة الغربية وقطاع غزة، أو كما يُعبِّر اليهودُ "يهوذا أو السامرة" إحياءً لعناوينِ التوراة!
إنني أتساءل: ماذا وراء تجريد فلسطين من صِبْغَتِها الإسلامية إلا الضياعُ؟
نحن نَحْتَفِي بالبُقعة التي انتهى إليها الإسراء وبدأ منها المِعراج، ونُريد أن يسأل العرب أنفسهم: لماذا لم يكن المعراج من المسجد الحرام إلى سِدْرَةِ المنتهى مباشرة؟ إن الإجابة تُعرف من الآيات التي أعقَبَت قصةَ الإسراء في سورتها المباركة، كما تُعرف مِن دراسة التاريخ القديم والوسيط والحديث!
في هذه الأرض قامت رسالاتٌ وانتهت، وفيها نهَضَت دول وتَلاشَتْ، ثم وَرِث المسلمون بيتَ المقدس باسم الله.
ولو أنك قرأت أحوال أُمَّتِنَا أواخرَ القرن الخامس وأوائلَ القرن السادس الهِجريَّينِ لَظنَنتَ أنك تقرأ أحوال المسلمين في هذه الأيام العِجَاف!
إن الصليبيينَ القُدَامَى تقدموا في فراغ، كانت الفُرقة بين العرب والمنافسة على السُّلطة هي الأسلحة التي هزَمَنا بها أعداؤنا، ولو اشتبك المسلمون مع الهاجمين في أية معركة جادَّة ما سقطت فلسطين.
وكأن التاريخ يُعيد نفسه، إن الصهيونيين تقدموا في الفراغ نفسه! أعانتهم الفُرقة، والشهوات المُطاعة، والعقائد المُنحلَّة، والأنانية الطاغية فكَسَبوا معركتهم بأيدينا!(1/443)
أُريدُ ـ كلما استقبلنا ذكرى الإسراء ـ أن نتجاوز الهامش إلى الصميم، أن نَترك السَّرْدَ السطحيَّ للقضية، أن نُعمِّق النظر في الأسباب التي مِن أجلها كان الإسراء ولأجلها قامت للعرب دولةٌ تحمل الرسالة الإسلامية (ونَضَعُ الموازينَ القِسْطَ بينَ الناسِ).(1/444)
84 ـ لماذا كانت قِبلةُ العالم في أرضنا؟
قبل بضعة أسابيع مِن معركة بَدْرٍ وقَعَ حدَثٌ دلالته العميقة في صلة المسلمين بأهل الكتاب؛ فقد كان بيت المَقدس القبلةَ التي يتَّجه إليها أصحاب الأديان السماوية جميعًا، ثم صدر الأمر إلى المسلمين أن يتحوَّلوا مِن بيت المقدس إلى مكة المكرمة.
ما سِرُّ هذا التحوُّل؟
الواقع أن أهل الكتاب ما كانوا سُعداء بالدين الجديد! ولا فَهِمُوا مِن وَحْدةِ القِبْلة أن قَرابةً مُشتركة تَرْبطهم بأتْبَاعِه!
الذي حدث أنهم ضَاقوا أشدَّ الضِّيق بالنبيِّ العربيِّ، وعَدُّوهُ مُنافسًا مَحْذورًا، كأن الأمر صراع على مَغْنَمٍ عاجلٍ أو مَأْرَب قريب!
ولو كان أهل الكتاب مُخلِصين لأديانهم لكان لهم موقف آخر، فإن العرب كانوا عُبَّادَ أصنام حتى عرَّفهم محمدٌ بالإله الواحد، وكانوا يعيشون ليَوْمهم حتى أقنعهم بالعمل لليوم الآخِر، وكانوا لا يَدْرُون شيئًا عن نُبوَّةٍ سبقت حتى حدَّثهم عن موسى وعيسى وغيرهما مِن المُرسلين!
فلِمَ الضيق بهذه الرسالة ومُخاصمة صاحبها؟
بيد أن الأمر تَجاوَزَ الخُصومةَ المُحتمَلةَ إلى ضرْبٍ مِن اللَّدَدِ يُثير الاشمئزاز، تَدَبَّرْ قوله تعالى:
(وَدَّ كثيرٌ مِن أَهْلِ الكتابِ لوْ يَرُدُّونَكُمْ مِن بَعْدِ إيمانِكمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِن عنْدِ أنْفُسِهِمْ مِن بعدِ ما تَبَيَّنَ لهم الحقُّ فاعْفُوا واصْفَحُوا حتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (سورة البقرة: 109)
وإذا كانت للمُسلمين مساجدُ تَنْبعث مِن مَنائرها صَيْحات التوحيد وتَستقبل ساحاتُها الرُّكَّعَ السجودَ، فإن أهل الكتاب تَوَاصَوْا بصَرْف الناس عن هذه المساجد وتآمَروا على تهْدِيمها (ومَن أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَساجدَ اللهِ أنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وسَعَى فِي خَرَابِهَا) (البقرة: 114)(1/445)
فلمْ يَبْقَ بعدئذٍ مَسَاغٌ لمُشاركة هؤلاء الحاقدينَ قِبْلَتَهُمْ، وانْبعثَتْ في نفس الرسول الكريم الرغبةُ في الاتجاه إلى القبلة الأولى، إلى الكعبة التي بناها جدُّه الأكبر إبراهيم الخليل، ولكنَّه لا يستطيع ذلك إلا بإذْن من الله، فلْيَنتظرْ ولْيُؤَمِّلْ!
ثم جاء على تَلَهُّفٍ وشوْقٍ الأمرُ الإلهيُّ (قد نرَى تَقلُّبَ وَجْهِكَ في السماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسجدِ الحَرامِ) (البقرة: 144) فاتَّجه المسلمون إلى الكعبة المُشرَّفة بعد قُرابة سبعة عشر شهرًا من الصلاة إلى بيت المقدس
كانت هذه المُدة كافيةً لفَضْح ضغائن اليهود، وأَثَرَتِهِمْ المُفرِطة، وظنِّهم أن الدِّين مُؤسسة احتكارية يُديرها حُكماءُ صهيون كمَصلحة جنْسٍ مِن الأجناس إنهم لا يَفهمون ولا يُريدون أن يفهموا أن الدين علاقةٌ سَمْحة رَحْبة بين الناس وربِّ الناس
وقد بَدَا لي مِن تجاربَ كثيرةٍ أن المُتاجرين بالحقِّ قد يَكونون شَرًّا مِن المَخْدُوعينَ بالباطلِ، وأنّ العرب الأُمِّيِّينَ كانوا بنَقاء سرائرهم أصْلحَ للحياة والأحياء مِن أهل الكتاب المُستكبِرين الشَّرِهِين.
كان أولئك العرب يَعْتَزُّونَ بكَعْبتهم ويَرغبون طول عُمرهم في استقبالها، وهم لم يَنْسَوا أن اللهَ حمَاها عندما أراد نصارى الحبشة هَدْمَها! وأن قُوَى السماء هي التي تَصدَّت للمُغِيرِين لمَّا عجَز أهل الأرض عن الدفاع، فإذا الجيش المُعتدِي يَلْقَى (طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) مع ما كان للمسجد الحرام مِن هذه المَكانة الوطِيدة، فإن الصحابة قبِلُوا عن طِيبِ خاطرٍ تَرْكَ استقباله لمَّا هاجروا، ولبُّوا أَمْرَ الله باستقبال بيت المَقدس!(1/446)
كان امتحانًا صعْبًا غير أنهم نَجَحُوا فيه (ومَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ التِي كُنْتَ علَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وإن كانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا علَى الذِينَ هَدَى اللهُ) (البقرة: 143)
وعندما يَحْتدمُ النِّقاش حول القِبْلة التي يتَّجه الناس إليها يَذكر الإسلام حقائقَ رفيعةً، يُلْقيها في مَسامع كل مَن يَنتسبون إلى دين! حقائقُ لا يُقرِّرها إلا الإسلام وحْده! إنه يتساءل: ما هذا اللَّغَطُ حول الاتجاه إلى شمالٍ أو جنوب؟
إن الكمال البشريَّ لا يَصنعه استقبالُ مكانٍ هنا أو مكان هناك! الكمال المَنشود عملٌ حقيقيٌّ داخل النفس الإنسانية تَزْكو به وتسمو.
العظمة الإنسانية هي اليَقين الراسخ والاستمساك بالله وإنْ هاجت العواصف، وبَذْلُ المعروف وإجابةُ الملهوف ومُساندةُ الضعفاء وإيتاء المَحرومين وهي الثبات على المبدأ وإنْ كثُرتْ المُغرِيات، والمُضيُّ في الجهاد وإنْ فَدَحَت المَغارم!
إن اتجاه المسلمين إلى المسجد الحرام في صلواتهم حقٌّ لا ريب فيه، وهي قضية تنظيمية سنَشرح بعد قليلٍ أبعادَها، بَيْدَ أن ذلك لا يعني نِسيان الحقيقة في الوصول إلى الكمال الإنسانيِّ والرضوان الإلهي.
وتَدبَّرْ قولَه تبارَك اسمُه: (ليسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغربِ ولكنَّ البِرَّ مَن آمَنَ باللهِ واليومِ الآخِرِ والمَلائكةِ والكتابِ والنَّبِيِّينَ وآتَى المَالَ علَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى واليَتَامَى والمَساكِينَ وابنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفي الرقابِ وأقامَ الصلاةَ وآتَى الزكاةَ والمُوفُونَ بعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا والصَّابِرِينَ في البَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولئكَ الذينَ صَدَقُوا وأُولئكَ همُ المُتَّقُونَ) (البقرة: 177).(1/447)
إن اليهود يَلْتمِسون الشرَّف مِن الانتساب إلى نبيِّ الله يعقوب! والأبُ العظيم لا يرفع شأن بَنِيهِ إذا كانت أعمالُهم هابطةً، وهم يَرتبطون بالقُدس والأرض المُقدسة، والأرض لا تُقدِّس أحدًا، إنَّما يَتَزَكَّى المرءُ بالهُدى والتُّقَى والعَفاف والعَدالة.
والخلاف بين الناس باقٍ إلى قيام الساعة، إنه جُزء مِن طبيعة الحياة، وهو بعض الحِكمة في خلْق الناس! لكن الخلاف مهما اتَّسعت شُقَّته لا يجوز أن يكون مَثَارَ عُدوان وتظالُم، ولا يجوز أن يَجعَلَ الحَيْفَ حَقًّا، ومِن ثَم قال الله لنبيِّه: (ولَئِنْ أَتَيْتَ الذينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ومَا أنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ومَا بَعضُهمْ بتَابعٍ قِبْلَةَ بَعضٍ ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهُمْ مِن بعدِ مَا جاءَكَ مِن العلْمِ إنَّكَ إذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 145)
والجملة الأخيرة في الآية الكريمة تُشير إلى خصائص أمَّتنا وإلى الرسالة التي كُلِّفَتْ بحَمْلِهَا إلى آخر الدهْر؛ إن العرب عندما يَحملون للناس حضارةً فهذه تنفرد بأنها مَوصولة بالسماء، تَعرِف الله وتلتزم هُداه، وتَرفض الفلسفات المادية والرغبات المَجنونة في عبادة الحياة ونِسيان ما بعده.
وقد شاء الله أن يَذكر للعرب وظِيفتهم الدولية عندما جعَل قبلةَ العالَمِينَ في أرضهم، وعندما طالَبَ البشرَ مِن كل مكان أن يُوَلُّوا وُجُوهَهم شَطْرَ المسجد الحرام.
فما معنى ذلك؟
إذا قيل: إنَّ موسكو قبلةَ الشيوعيين في العالَم فليس معنى ذلك اتجاهَ اليساريِّين إلى جدارٍ في "الكرملين" بل المعنى أنهم يَسْتَقُون أفكارَهم ويَتلُون توجيهاتهم مِن هناك.(1/448)
والواقع أن القرآن الكريم في سياق تحديده للقِبْلة قال للعرب في جلاء: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عليكمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143) والآية تُوضح الوظيفة التي اختارها القدَر لأُمتنا، فإن الله اختار محمدًا ليَحمل أماناتِ الوحي وليكون بسِيرته وسُنته أُسوةً حسنة، وقد تلقَّى العرب ذلك منه ليُعلِّموا الناس كما تعلَّموا وليَهدُوهم كما اهتَدَوا، أو ليَكونوا أساتذةً للعالم كما كان محمدٌ أستاذًا لهم! تلك وَظِيفَتُهم التي رفعهم الله إليها والتي لابدَّ مِن حسابهم عليها.
والشهادة على الناس مَنزلة فوق التبليغ العاديّ، قد يكون المرءُ شاهدًا في قضيةٍ لا علاقةَ له بوَقائعها، كل دوره فيها أنه يَقول الحق، فهل هذا دور الأمة العربية في تاريخ البشرية؟ كلَّا ربما تَحوَّل الشاهد إلى مُتَّهَمٍ إذا تبيَّن مِن التحقيق أن له أصابعَ في وُقوع الجريمة!
والعرب منذُ حَمَلُوا رسالةَ الإسلام وجَبَ عليهم أن يَسْتنيروا بها، وأن يَرفعوا مَنَارها، وأن يَسْتَطِبُّوا بأَدْوِيَتِها، ويُعالِجوا عِلَلَ العالَم بدوائها، فمسئوليتهم مُضاعفة؛ الرسول أمام الله يَشهد بأنه علَّمهم مِن جَهالة وأقامَهم مِن عِوَجٍ، وهم أمام الله كذلك مُطالَبون بالشهادة على سُكان الأرض أنهم بَلَّغُوهم الوحْيَ الأعلَى، وقدَّموا من أنفسهم نماذجَ عمليةً للتقوى والإصلاح والإنصاف!
تُرَى هل قام العرب بهذه الأمانات؟
إن رباط العُروبة بالإسلام وَثِيقٌ، وهذا الرباط وحده هو الذي يَجعل العرب أُمَّةً قائدةً رائدة، فإذا وَهَتْ صِلَتُها به فهي تَخُون أساسَ وُجودها، وهي ستتحوَّل حتْمًا مِن رأسٍ إلى ذَنَبٍ! أو مِن أمة تَدفَع غيرَها نحو الخير إلى أمة يُدحرِجها الآخرون إلى الشَّرِّ أو إلى الهاوية!(1/449)
وقد تأكَّد هذا المعنى مرة أخرى في سِياق تحويل القبلة مِن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وذلك في قوله تعالى: (ومِن حيثُ خرَجتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسجدِ الحَرامِ وحَيْثُ مَا كُنتمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكونَ للناسِ عليكمْ حُجَّةٌ) (البقرة: 150) أيْ: حتى تنقطع حُجج العرب الحُرَّاصُ على كعبتهم، الضائقين بالاتجاه السابق إلى بيت المقدس! أما أهل العِناد والمُتشبِّثون بالجاهلية الأولى فلا تَخافوهم؛ فأمرهم إلى إدْبارٍ ونارُهم إلى رَمادٍ (إلَّا الذينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ فلَا تَخْشَوْهُمْ واخْشَوْنِ ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عليكمْ ولعلَّكمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة: 150) أيْ أن الله باختياره المسجدَ الحرامَ قِبلةً لكل مُصلٍّ في الدنيا يُضاعِف على العرَب مِنَّتَهُ ويُتِمُّ عليهم نعمته وقد بدَأ الإنعام عليهم بانبعاث الرسول منهم (كمَا أرْسَلْنَا فيكمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عليْكُمْ آيَاتِنَا ويُعَلِّمُكُمُ الكتابَ والحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعلمون) (البقرة: 151) والمعنى أن العرب بهذا الدين أضحَى لهم تاريخٌ جديد، وافتَتحوا به صفحة مجْدٍ باذخٍ ما كان لهم به عهْدٌ من قبلُ، ذلك أنهم يَتلُون آيات الحق، ويُمَهِّدُون طريق التربية الفاضلة، ويَخُطُّون مَعْلَمَ الحِكْمة والرشد، فلْيَعرفوا لله حقَّه وَلْيَقدُروه قَدْرَه (فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152) وهكذا يُخاطب الله العرب ويشرح لهم ما أَسْدَى إليهم من جميلٍ! فهل نَذْكُرُ ونَشْكُرُ!
والأنبياء شهود على أُممهم بالبلاغ المُبِين، وقد كان رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يُخاطب الناس في حَجة الوداع يقول: "اللهم قد بلَّغتُ، اللهم اشْهَدْ" وهناك قبل شهادة الأنبياء مَواثيقُ الفِطْرة التي أخَذها الله على أبناء آدم.(1/450)
إن الله أوْدَع في كل ضميرٍ صوْتًا يذكر اللهَ ويَدفع إلى صراطه المُستقيم ويُقاوم التقاليد المُنحرفة والأصوات الزائفة، وما مِن إنسان إلا هو مسئول عن هذا الميثاق (وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهم ذُرِّيَّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ علَى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يومَ القِيامةِ إنّا كُنَّا عَن هذَا غَافِلِينَ أو تَقُولُوا إنَّمَا أشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ) (الأعراف: 172ـ 173)
ويتَّضح من ذلك أن العدل الإلهيَّ يَستظهر على كل مُخطئ بشاهدَينِ مِن العَقل والنقل، ومع ذلك فإنَّ ناسًا يوم الحساب سيُحاولون بالكذب الإفْلاتَ مِن مَصِيرهم؛ مُشركون يقولون: (واللهِ رَبِّنَا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (الأنعام: 23) ودجَّالون مَرَنُوا على الاحتيال والمُخادعة في الدنيا، يُحاولون في الآخرة أن يَقوموا بالدَّوْر القديم (يومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جميعًا فيَحْلِفونَ لهُ كمَا يَحلِفونَ لكمْ ويَحْسَبونَ أنَّهُمْ علَى شيءٍ ألَا إنَّهمْ هم الكاذِبون) (المجادلة: 18) وهيهاتَ أن يُجْديَ هذا التملُّص مهما صاحبُه حَلَفٌ.
ولمَّا كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهيدًا على العرب فسيُجاء به يوم القيامة وبالكتاب القيِّم الجامع الذي بلَّغه، وسيَرَى عندئذٍ مَن وفَّى ومَن غدَرَ، بل مَن آمَنَ ومَن كفَر، قال الله سبحانه: (ويومَ نَبعَثُ في كلِّ أمةٍ شهيدًا عليهم مِن أنفسِهمْ وجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا علَى هَؤلاءِ ونَزَّلْنَا عليكَ الكتابَ تِبْيَانًا لكلِّ شَيءٍ وهُدًى ورَحْمَةً وبُشْرَى للمُسلمينَ) (النحل: 89)(1/451)
إنني أحببتُ أن أشرح هذه القضية؛ لأن العرب من أمَدٍ قريب أو بعيدٍ شرَعوا يَنسَونَ أو يَتناسَونَ رسالتَهم! بل بدَا لهم أن يَستقيلوا من الوظيفة الشريفة التي آثَرَهُم الله بها أو اصطفاهم لها وسمعنا مَن يقول في جهل فاضحٍ: إن العُروبة شيء والإسلام شيء آخر! وإن العُروبة يُمكن أن تَشُقَّ طريقها بغير دينٍ إلى مستقبل مَكينٍ.
وقد استجاب نَفَرٌ من الأغرار لهذه الفِرْية، فإذا الأمة المسكينة تَتراجع في كل ميدان وتُلاحقها الهزائم الشائنة في كل أُفق، ولولا بقايَا إيمانٍ مَبثوثةٌ هنا وهناك لَحَلَّ بها خزْيُ الأبد، ولكنها تُقاوم اليوم ببأس شديد مُعتمِدة على مَواريث الإسلام وحْده.
هل للعرب في قديم الزمان وحَدِيثه رسالةٌ أخرى غير الإسلام يُمكن أن يُؤدُّوها للعالَم؟
إن لمحمدٍ كتابًا وسُنةً قامَت عليهما دولةٌ وأيْنعتْ حضارةٌ! وتَصدَّرَت قافلةَ البشرية أمةٌ تَعتزُّ بها وتَبني عليها، فماذا لغيره مِن الأولينَ والآخرينَ؟ وما قَدْرُ العرب مِن غير محمد والإسلام؟
قال شخصٌ غِرٌّ: وهل ضروريٌّ أن تكون لأمةٍ ما رسالةٌ سماويةٌ حتى تَقتعِد مكانةً مَرموقةً في العالَم؟ ما أكثَرَ الشعوبَ التي استراحت واستقرَّت برسالات أرضية!
قلت: هذا الكلام قُرَّةُ عيْنِ الاستِعمار والصهيونية! إنهما لا يُريدان أكثَرَ مِن تجريد المسلمين من عقائدهم وتاريخهم حتى يَقِفوا أمام أعدائهم عُزَّلًا مِن كل سلاح فعَّال.
وعندما يَفقد عرب فلسطين أساسَهم الدينيَّ أمام أتباع التوراة فسَتَضِيعُ فلسطين.
وعندما يَزهَد غيرُهم في مُعتَقَداته الإسلامية فسَيَنطلق التَّبْشير العالميّ دون عائق وتَكسِب الصليبية جولتَها الجديدة.
لا، بل إن الوثنية التي ذَبَحَت المسلمين في "آسَامٍ" ستقطع شوْطًا أوسَعَ في الإجهاز على مبدأ التوحيد.
إن تحقير الثقافة الإسلامية وتَوْهِينَ أركانها لابد أن ينتهيَ بهذه النتائج.(1/452)
أمَا يَحقُّ لنا أن نُحصِّن الأجيال الجديدة ضد هذه الخيانات الفكرية والاجتماعية!(1/453)
85 ـ هل من تكريم المرأة إباحةُ التعدُّدِ والطلاقِ وجعْلُها نِصْفَ الرجل في الميراث والشهادة؟
في قضية تعدُّد الزوجات أريد أن أسأل أولًا:
هل الإسلام مُبتدِعُ التعدُّدِ مُخالفًا بذلك الأديانَ التي سبَقَتْه؟
إن الأديان كلها، وَثنيةً أو سماويةً، أباحت التعدُّد، فلماذا يُسأل الإسلام عنه ويُؤاخَذ به؟
ليس في العهد القديم حظْرٌ على تعدُّد الزوجات، وقد جمَع سليمان الحكيم ـ صاحب "نشيد الإنشاد" العامر بالغَزل ـ ألف امرأة في بيته بين حرائر وإمَاءٍ.
وليس في الأناجيل التي كتبها تلامذة عيسى ـ عليه السلام ـ حظْرٌ على التعدُّد!
إن التحريم الذي وقع بعد ذلك كان تشريعًا مَدَنِيًّا لا دِينيًّا، أو كان كَنسيًّا يعتمد على الاجتهاد لا على النصِّ!
قد يُقال: فَلْيَسَعِ الإسلامَ ما وَسِعَ الأديانَ قبله ولْيُحَرِّمِ التعدُّدَ!
وهنا لا أجد مَنَاصًا من توجيه سؤالٍ آخر:
هل اكتفَى كلُّ رجلٍ أو أغلب الرجال بما لدَيْهم فلم يتَّصلْ أحدُهم بأخرى؟
بل أسأل الرجال الذين تُظِلُّهم حضارة الغرب في عدة قارات:
ألم يُنشئوا علاقاتٍ متصلةً طويلةَ الأمد أو قصيرتَه بأعدادٍ كبيرة من النساء الأُخريات؟
لماذا يُراد قَبول المرأة الأُخرى خليلةً لا حليلةً؟
لماذا يُرمَى ابنُها لَقِيطًا أو يَنشَأُ زَنِيمًا ولا يُنسَبُ لأبيه الحَقيقيِّ؟
إنني أتهم إخواننا أهل الكتاب بأنهم استهانوا بمَقاييس الحِلِّ والحُرمة، وأنهم اتَّبعوا أهواءهم بغير هُدًى من الله، وأنهم ـ مِن الناحية الجنسية ـ استباحوا الأعراض، واجتاحوا الفُروج، ويَسَّرُوا الشذوذ، ومَهَّدُوا لِمَناكِرَ ما عُرفَت بهذه الوفرة إلا في حضارتهم المادية المُوغِلَة في الإثْم.
أيعني ذلك أني أُدافع عن تصرفات سيئة ارتكبها المسلمون باسم التعدُّد؟
كلا، لقد عدَّد مَن لا يَعْدِل، وهذا مرفوض! بل عدَّد مَن لا يَستطيع الإنفاق على واحدة! وهذا مرفوض!(1/454)
إن التعدُّد جائز بشُروطه المادية والأدبية، فإذا لم تتوافر هذه الشروط فلا تعدُّد.
وحلُّ المشكلات الاجتماعية من هذا النوع يرجع إلى يقظة القلوب وسلامة الأخلاق قبل أن يرجع إلى سطْوة القانون. ومكاسب النساء من التعدُّد ـ والحالةُ هذه ـ ليست أقلَّ من مكاسب الرجال.
أما إباحة التطليق للرجل فأُحب أن أضع بين يديه هذه الروايات، قال رجل لعمر بن الخطاب: أُريد أن أُطلِّق امرأتي! فقال له عمر: لمَ؟ قال: لا أحبُّها! فقال له عمر: أوَ كلُّ البيوت بُنِيَ على الحب؟ فأين التذَمُّم والوفاء؟
ويُشبه هذا ما رواه ابن مَرْدَوَيهِ أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم. قال أنس: فقال له الرسول: "إن طلاق أم أيوب لَحُوبٌ" أي إثم. فكَفَّ عن مُراده وأمْسَك امرأته.
وقد رُوي مثل ذلك مِن طريق آخر: أراد أبو طلحة أن يُطلِّق أم سُليم امرأته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن طلاقَ أم سُليم لَحُوبٌ" فتَراجَع الرجل عن مُراده.
وقد يكون الأصل في هذا الإمْساك قوله سبحانه وتعالى: (فإنْ أَطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا علَيْهِنَّ سَبِيلًا إنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء: 34).
إن الحياةَ الزوجية أشرف مِن أن تَعصِفَ بها أزمةٌ عابرة أو غيْمة عارضةٌ، وما بين الزوجينِ مِن وشائجَ لا يُرخِّصُه إلا لئيمٌ. بيدَ أن سِياج الأسرة لا يُقيمه إلا الخُلق الذكيُّ، والأُسَر التي يُمسكها القانون هي أُسَرٌ على الورق وحسب، وقد سَئم الأوربيون هذا الخداع واضطُّروا إلى الاعتراف بالواقع المَرير، فأباحوا الطلاق في انتخاباتٍ عامة هَزَمت وصايَا الكنيسة في الموضوع.(1/455)
إنني لا أدري كيف يدفع رجال الشرطة امرأةً إلى زوجها أو رجلًا إلى امرأته! الحلُّ الأمْثل هو في قوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعروفٍ أو فَارِقُوهُنَّ بمَعروفٍ) (الطلاق: 2) وذلك بعد مراحلَ من الإنذار والإصلاح مبسوطةٍ في كتب الفقه. قد يكون الطلاق جراحةً لا مفر منها بعد ذهاب الوُدِّ وجفاف الحنان وتَولُّد مشاعر أخرى على نحو ما قِيلَ:
إن القلوب إذا تَنافَرَ وُدُّها مثلُ الزجاجةِ كَسْرُها لا يُجْبَرُ!
وإذا كان الطلاق حقَّ الرجل للخلاص مِن هذا الموضوع فالخُلْع حقُّ المرأة للراحة منه! وليس لأحدٍ أن يُكرِهَ المرأةَ على البقاء في بيت مَقَتَتْ صاحبَه وأحسَّت الضرر بجِواره (ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا ومَن يَفْعَلْ ذلكَ فقدْ ظَلَمَ نَفسَهُ) (البقرة: 231) وعندما تطلب الزوجة الفِراق فيَجب أن تَرُدَّ إلى زوجها ما ساقَ إليها مِن مال، ومِن الحَيْف أن يدفعَ الرجل المَهر ويُرسلَ الهدايا ثم تَستوليَ المرأة على هذا كله وتطلبَ الانفصال!
ويَحْزُنُنِي أن جُلَّ الفقهاء تَناسَى شريعةَ الخُلْع أو أبطَل حِكْمَتَهَا، وأن الجماهير لا تعرف شريعةَ تَمْتِيعِ المُطلقة، وأن طلاق السُّنّة ـ كما صحَّ عن صاحب الشريعة ـ لا يُطبَّق! وإنما المَألوف المُحترَم هو طلاقُ البِدْعَةِ، فقد أُمضيَتْ آثاره كلها بوَحْشية!
وعندما تيقَّظ فقيهٌ ذكيٌّ كابنِ تيمية إلى أن طلاق البدْعة باطلٌ مَنكورُ الآثار، تعرَّض لنقْدٍ شديد،
وممَّا يُثير الدهشة أن أنصار ابن تيمية في عصرنا لا يُوافقونه على إبطال طلاق البدعة، وإنما يُوافقونه على إنكار وُقوع المجاز في القرآن الكريم! وهذا مِن هَنَاتِه غفَر الله له.(1/456)
واعتقادي أن الفقهاء المسلمين المُعاصرين ـ وهم يُحسون المِحْنة الاجتماعية التي يمرُّ بها المسلمون ـ سوف يَسُدُّونَ هذه الثغرات، ويَنْتَقُون مِن أقوال الأئمة والمجتهدين ما يلُمُّ شمْلَ الأسرة ويَقيها عبَث العَابثينَ.
ويجيءُ بعد ذلك عملُ المرأة لِتُنفق على نفسها! إن الإسلام له منهج آخر غير ما يُعرف الآن في الحياة الغربية بشِقَّيْهَا الشيوعيِّ والرأسماليِّ، المرأة هناك عند البلوغ تَستقل بنفسها وتُواجِه مُستقبلها وتُكلَّف بتحصيل قُوتها والضرْبِ في فِجاج الأرض لتأمين عيْشها، وهي تُزاحم الرجل في كل ميدان!
ماذا نشأ عن هذا الوضع؟
فقدان أغلب النساء لعِفَّتِهِنَّ واستطالة الذئاب في أعراضهنَّ لسبب أو لآخر.
والمجتمعات الأوربية والأمريكية والأسترالية كادت تُطبِق على اعتبار الناحية الجنسية حاجةَ جسَدٍ لا علاقةَ لها بالخُلق والدِّين، وكانت لهذه الفلسفة الحيوانية نتائجُ رهيبة!
والإسلام يرفض هذا الفكر وآثارَه كلها.
نعمْ، قد تَعمل المرأة في ظروف تَختارها أو تُختار لها، وبعد توفير ضمانات الصَّوْن وحماية الشرَف ومَرْضاة الله. أمَّا تكليفها بالكَدْح لتَقتاتَ ولتُوفِّر مَهْرًا للرجل المُنتَظَر فلاَ ولا.
وهنا يُوجب الإسلام نفقتها على أبيها أو أخيها أو ذوي قرابتها، فإن لم يوجد أحد أُرْصِدَ لها ما يكفيها من بيت مال المسلمين. وإعانةً للرجل على النهوض بهذا العبء جعَل حظَّه في أغلب المواريث ضعفَ حظِّ المرأةِ، وقد يتساويان في حالات كثيرة، كما أمَره بأن يدفع هو للمرأة مهرها لا أن تدفع له، كما توصي بعض الديانات. وعلى الرجل أن يَنْصَبَ ليَقُوتَ زوجتَه وولَده، فإذا عَرَضتْ ظروف لتَعمل المرأة خارج البيت كان لذلك وزْنُه الخاص ومُلابساته المقدورة.(1/457)
أعتقد أنه ليس مِن تكريم المرأة تكليفُها بالارتزاق في أحوال مُقلِقة، ولا مِن تكريمها أن تجمَع بين وظيفةِ ربَّةِ بيتٍ ووظيفةٍ أخرى تُرهق أعصابها وتَستغرق انتباهها.
وبعض الجهلة يَستغلُّ فضل الرجل على المرأة في المِيراث ليُهينَها ويَزدريَ مَنزلتها، وكم أُسيءَ إلى دِيننا مِن أولئكَ الجاهلين!
ولْنُثبِتْ هنا حَديثًا يَحتاج إلى بيانٍ وفِقْهٍ، دار على كثير مِن الألْسنة، واستُغِلَّ بخُبْثٍ لتَحقير النساء وإلهاب عَداوتِهنَّ ضد الإسلام، روَى مسلم عن أبِي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "يا معشر النساء تَصدَّقْنَ وأكثِرْنَ الاستغفار؛ فإنِّي رأيتُكنَّ أكثر أهل النار" فقالت امرأةٌ منهنَّ جَزْلَة: وما لنا يا رسول الله أكثَرَ أهل النار؟ فقال: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ! ما رأيتُ مِن ناقصاتِ عقلٍ ودِينٍ أغلبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ" قالت: يا رسول الله، ما نُقصانُ العقل والدين؟ قال: أما نُقصانُ عقلها فشهادةُ امرأتين تَعدِل شهادةَ رجل، فهذا نقصانُ العقل! وتَمْكُثُ اللياليَ لا تُصلي وتُفطر في رمضان، فهذا نُقصان الدين".(1/458)
وقبل أن نَحكم على ظاهر هذا الحديث ونشرح معناه نذكر حديثًا آخر يُساويه في قوة السند، ويَزيد عليه في تكرُّر سِياقاتِه وتعدُّد رواياته، هذا الحديث هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطَّلَعتُ في الجنة فرأيتُ أكثرَ أهلِها الفُقراءَ! واطَّلَعتُ في النار فرأيتُ أكثرَ أهلها النساءَ" وفي رواية أحمد: "فرأيت أكثرَ أهلها الأغنياءَ والنساءَ". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَدخُلُ فقراءُ المسلمين الجنَّةَ قبل الأغنياء بنِصف يوم، وهو خَمسمائة عام". وعن أسامة رضي الله عنه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "قُمتُ على باب الجنة فكان عامَّةُ مَن دخَلها المَساكينَ! وأصحابُ الجِدِّ" اليَسار والعافيَة "محبوسون، غير أن أصحابَ النار قد أُمِر بهم إلى النار، وقُمتُ على باب النار فإذا عامةُ مَن دخلها مِن النساء".
ماذا تعني ظواهر هذه الأحاديث جميعًا؟ وما أثرُها المنظور في بناء الأمة الإسلامية؟
إنها تَعني ترجيحَ الفَقْر على الغِنَى، والمَسكنةِ على السَّعَة، والصَّعْلكة على الثَّراء والتمكين!
أيُمكن أن تَقوم دولةٌ أو تزدهر حضارةٌ أو يَكسِب المسلمون معركة وهم واقفون عند هذه الظواهر لِمَا رُوِيَ عن نبيِّهم؟
إن ذلك مُستحيل، والحقُّ أن هذه الظواهر غير مُرادةٍ أصلًا، وأن معناها فوق مستوى القاصِرينَ، ولذلك قُلنا في كتاب آخر: إنه لا سُنّةَ بغيرِ فقه!
الزعم بأن كلَّ غِنًى رذيلةٌ زعمٌ سخيف، فالغنَى المَحقور هو المكسوب من سُحْت أو المَكنوز لا يَستفيد منه مجتمع، والأغنياء مِن هذا القبيل أعداء الله وأعداء الشعوب، وإذا مَلأوا جهنم فهي له مَصير عدْل. أمَّا تكوين الثروات من وجهٍ شريفٍ، وإيتاء حقِّ الله فيها، وتَطْويعها لإعلاء الإيمان وحِماية الثُّغور فهذا مَحْضُ الإيمان.
وقد كان العشَرة المُبَشَّرونَ بالجنة من هذا الصِّنف، ولم يكن فيهم رجل مُقِلٌّ.(1/459)
والفقير الذي آثَرَ القِلَّة من حلال على الكثرة من باطلٍ، أو الذي ملَك بجُهده المبذولِ ولكنه ضحَّى بما يَملِك ـ في سبيل ربِّه، وليس أقلَّ درجة مِن غيره، وكونُه يَسبق غَنِيًّا أو يَسبقه غنيٌّ ليس إلينا وإنما يَبُتُّ فيه علَّام الغيوب.
ثم عندما يكون عامةُ مَن دخل النار مِن النساء، فأين يذهب قوله تعالى: (جناتُ عدْنٍ يَدْخُلُونها ومَن صلَح مِن آبائِهم وأزْوَاجِهِم وذُرِّيَّاتِهِم)؟
الواقع أن عرض الحديث النبوي دون فقهٍ صالحٍ لونٌ من تحريف الكلام عن مواضعه، ومُصَاب الإسلام شديد من هذا التصرُّف!
ونعود إلى حديث النساء ونقصان العقل والدين، صدْرُ هذا الحديث يَقِي الأسرة الإسلامية شرًّا يَشِيعُ بين الناس، جُرثومتُه امرأة تحيَا على خير رَجُلِها، وتُنكِر فَضله وتَجحَد حقَّه، قد يُخطئ الرجل، وكلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، وينبغي أن تتجاوز المرأة هذا الخطأ العارض، وربما كان الخطأ مِن وِجهة نظرها هي، ولكنها بدَلَ ذلك تَغضبُ غضبًا طائشًا، وتَنْسَى في ثورتها كلَّ شيء، وتزعُم أنها ما رأت خيْرًا قطُّ مِن زوجها، وقد تلعَنُ نفسها وحظَّها وما حدَث أو ما يَحدث لها.
أليس مِن حقِّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُحذِّر مِن هذا المسلك وأن يَذْكُرَ لصاحباتِه أنهنَّ إن أصرَرْنَ عليه يَكُنَّ مِن أهل النار؟ ثم يَستطرد الحديث: "ما رأيتُ مِن ناقصاتِ عقلٍ ودِينٍ أغلَبَ لذي لُبٍّ منكنَّ" والعبارة متصلة بالجملة قبلها، فإن الرجل قد يَستكين لامرأته، والحقُّ معه، حتى يُوفِّر الهدوء في بيته ويمنع اللَّجَاجَة والخِصام! وقد يُلغي فكْرَه الصائبَ مِن أجل ذلك الهدف، ممَّا قد يدفع بالمرأة المَغرورة إلى مَزيد من العنَتِ، وهذه هزيمة ذِي اللُّبِّ كما يُعبِّر الحديث، أو أُولي الألباب كما نرى في مجتمعات كثيرة تَنتصر فيها رغبات النساء على عزائم الرجال.(1/460)
والمرأة ـ على ضعفها ـ تُحبُّ أن تغلب غيرها وتَعرِض نفسها! قد تقول: وما هذا الضعف؟ والجواب في تكوينها الخُلُقي؛ فإنها تَضحَى عليلةً أو شِبْهَ عليلةٍ خلال الدورة الشهرية التي تعتادها وتُؤثر في أعصابها وأفكارها، وقد عذَرها الله من أجل ذلك وأعفاها من بعض الفُروض.
إن نَفَرًا من المتحدثين في الدين شاء أن يفهم من هذا الحديث أمورًا لا علاقة لها به، فصاغ قاعدةً كُلية نشرها في طول الأمة وعرضها مُفَادُها "النساء ناقصات عقلٍ ودِينٍ" وسواء كانت "أل" للجنس أو الاستغراق فهذه الكلية الشائعة فاسدةٌ مِن ناحيتَي العقل والنقل، فقد اكتملت قديمًا وحديثًا نِسوةٌ أرْضَيْنَ اللهَ ورسولَه وخدَمْنَ الدينَ والأمةَ خِدمات جليلة.
وهذه الكلية المزعومة تُناقض الآيات القرآنية التي قرَّرت أن النساء والرجال بعضهم مِن بعض، وتُناقض الأحاديث التي جعلت النساء شقائقَ الرجال.
وزاد الطينَ بَلَّةً في تأليب المرأة المُعاصرة على الإسلام أن البعض فسَّر نُقصان العقل بالحماقة ونقصان الدين بالمَعصية، وعَدَّ الأنوثةَ تُرادف الخِسَّةَ والهوانَ، وهذا التفكير امتدادٌ للجاهلية الأولى، وهو بعض ما يَشين النفسية العربية، والإسلام بريء من هذا اللغو.
ونسأل بعد ذلك البيان: أكُل امرأةٍ تتصف بالبُخل؟ أكل امرأة تتصف بنكران الجميل؟ أكل امرأة تُتَّهم بكُفران العشير؟ ما أبعَدَ ذلك عن واقع الحياة!
لكن مِن المسلمين إلى الآن مَن يظن الغِنى أخطر طريق إلى النار، ومَن يظن الأُنوثة أسرع شيء إلى جهنم! ونُريد أن نَقِيَ دِيننَا لَوْثاتِ هؤلاء المُفتِين الكَذَبة، وأن نُنصف النصوص والأخبار ممَّن يتهجمون عليها دون وَعْيٍ.(1/461)
86 ـ ما موقف الإسلام من المرأة في ضوء الأوضاع السائدة في مُجتمعاتنا؟
إنني أسأل أولًا:
هل عُوملَت المرأة في العالم الإسلامي وَفْقَ تعاليم الإسلام؟
ما أظن ذلك وقع إلا لِمامًا. إن الحاكم في مُستدَرَكه روى حديثًا موضوعًا حكَم العالَمَ الإسلاميَّ أكثَرَ من ألف عام، يقول هذا الحديث: "لا تُعلِّموا النساء الكتابة ولا تُسكِنُوهنَّ الغُرَفَ" أي إذا كان البيت مُكوَّنًا من طبقات لم يَجُزْ إسكان النساء في الطبقات العُليا، حسْبُهنَّ ظهْرُ الأرض أو تحتها إن أمكن!
وتطبيقًا لهذا الحديث المكذوب لم تُفتَح مدرسة لتعليم البنات في قرية أو مدينة خلال القرون الماضية، وأصبح تَثقيف النساء مِن الفُضول بل مِن المناكر المَحظورة!
وروى عبد الله بن عمر قول رسول الله: "لا تَمْنَعُوا إماءَ الله مساجدَ الله" وفي رواية أخرى: "ائْذَنُوا للنساء بالليل إلى المساجد" فقال ابنه مُعترضًا التوجيهَ النبويَّ: إذَنْ يتَّخِذْنَهُ دَغَلًا ـ أيْ مَهْربًا لاقتراف المَفاسد ـ واللهِ لَنَمنعُهُنَّ. فوَكَزَ عبدُ الله ابنَه في صدره واشتدَّ عليه غضبه وقال: أقول قال رسول الله وتقول: لا. وقاطعَه إلى آخرِ حياتِه.
والغريب أن العالم الإسلاميَّ لم يَكترث لرواية ابن عمر ـ على صحَّتِها ـ وتَبِعَ رأيَ الولد السيئِ الأدبُ! ويُوجد حظرٌ عامٌّ على ارتياد النساء للمساجد!
وبعد جِهاد سِنينَ طويلة للسماح بصلاة المرأة في المسجد أمْكَنَ فتحُ أقل مِن 10% مِن بيوت اللهِ لإماءِ الله، أمَّا الكثْرةُ الساحقة مِن مساجد القُرى والمُدن فهيهات أن يدخلها النساء!
كنتُ في دولة الإمارات المتحدة، وشاركت في قضية جديرة بالعرض، نشرتها جريدة "الاتحاد" على هذا النحو: قال الأستاذ مصطفى شردي: نحن في إحدى أُمسيات الثلاثاء بمسجد سعد بن أبي وقاص، انتهى المُحاضر من حديثه وبدأ التحاوُر:(1/462)
سؤال جاء من الشُّرفة المخصصة للسيدات، تقول صاحبة السؤال إنها متزوجة منذ سنوات من رجل له أكثر مِن زوجة، وإن زوجها لا يَسمح لها بزيارة أبيها ورعايته بين الحين والآخر، على الرغم مِن أن الأب وحيدٌ يحتاج إلى الرعاية والعناية، والشعورُ ببِرِّ الأبناء لآبائهم يُنغِّصها، فهل تُطيع الزوج وتُهمل واجبَ رعاية الأب أم تُخالف زوجَها وتُطيع قلْبَها وتكون بارَّةً بوالدها؟
أثار السؤال الهمس، ثم سكت الجميع انتظارًا لمَا سَيَرُدُّ به المُحاضِر، وهو عالِم فاضل، وكان من الواضح أن السؤال مسَّ أوتارًا في العديد مِن القلوب، وأعتقدُ أن قلب المُحاضر مِن بينها، حمَد الرجل الله وأثنى على الرسول الكريم، وتحدَّث عن التزام الزوجة بطاعة الزوج، وكيف أن الإسلام شدَّد على الوفاء والتمسُّك بهذا الالتزام لصلاح الأسرة وسلامة المجتمع، وطالب الزوجة بأن تُضاعف جهدها لإقناع زوجها حتى يسمح لها برعاية أبيها، إلَّا أنه اختتم إجابته برأيٍ محددٍ اجتهد فيه، فقال: إنه في حال تَمسُّك الزوج بمَوقفه القاسي الغريب دون مُبرِّر مقبول فإنه على الزوجة أن تُبادر إلى زيارة أبيها ورِعايته وتقديم حنانها إليه؛ لأن النص القرآني بشأن بِرِّ الوالدينِ واضحٌ وقاطع وصريحٌ، ولأن لهذا الزوج بالذات أكثَرَ مِن زوجة تخدمه وترعاه إذا غابت عنه واحدة لأداء واجب البرِّ والإحسان تِجاه والد عجوزٍ مريض ضعيف أمرها الله بأن ترعاه وتُحسن إليه.(1/463)
انتهى المحاضِر من إجابته فاشتدَّ الهمس، وبين الحاضرين عدد كبير من المُتزوجين بأكثَرَ مِن واحدة، وقد رأَوا في إجابة المحاضِر تحريضًا للزوجات على عدم الالتزام بأوامر الزوج، حتى لو كانت مُتعارضة مع المَنطق ومُتضاربة مع المعقول! وبدأ فريق مِن الحاضرين يُناقشون الرأي بأعصابٍ تُوشك على الانفلات! فقالوا: إن رأيَ المُحاضِر يتعارض مع تعاليم الإسلام ولابد من التراجُع عنه؛ لأن طاعة الزوج واجبة قبل أي اعتبار آخر. وتَمسَّك المُحاضِر برأيه، وكادت تهُبُّ عاصفة مِن الاحتجاجات بسبب هذا الرأي وتتحوَّل إلى مُهاترة لا يُسمح بها.
المهم أننا انصرفنا مِن المسجد وظلَّ السؤال مُعلَّقًا بين الآراء التي اختلَفت عليه. كان مَطلوبًا من الشيخ المُفتي أن يغير فتواه وأن يَحكم بحبْس المرأة في البيت ولو مات أبوها! وأيَّد ذلك الاتجاهَ أن مُتَفَيْهِقًا ذكَر حديثًا معناه أن الله رَضيَ عن زوجة بَقيَتْ في بيتها حتى تُوفِّيَ والدُها، فلم تَعُدْهُ في مرضه الأخير؛ لأن زوجها كان في سفرٍ، فلم يأذن لها بالخروج من البيت!
قلت: هذا حديث مكذوب! واستغرَبتُ أن يُطلَبَ مِن امرأةٍ ما باسم الإسلام أن تَعُقَّ أباها وتَقطَعَ به صِلتَها وتَدَعَهُ يموت مُستوحشًا لأن هذا حق رجلها.
وعندما تَفقد المِسكينةُ عاطفةَ البُنُوَّة فماذا يبقى مِن كيانها الإنساني في بيت الزوجية؟
إنها ستكون أسيرةً، فهل يَملِك أمرَها وقَهْرَها وحسْبُ!
وفي الأرياف كان أغلب النساء يفقد مِيراثه الشرعي، فتُقسَم الأرض على الذكور وحدهم، ويقول الإخوة الذين اجتاحوا الأرض: كيف نَترك غريبًا ينزل بأرض أبينا؟ ويَعنُون بالغريب زوجَ أُختهم، فإذا حدث أن طالبَت الأخت بنَصيبها الشرعيّ قاطَعَها إخوانُها إلى الأبد.(1/464)
والأُسَرُ الشريفة لها تقليدٌ عجيب ـ أعني الأُسَرَ التي تدَّعي الانتساب إلى البيت النبويِّ ـ فالمرأة تموت عانِسًا بائسةً إذا لم يَجِئْها الكُفْءُ مِن الأشراف، أمَّا الرجل فلهُ حقُّ الزواج مِن الإنكليز والأمريكان. ويظهر أن بنات العمِّ سام أو العم جُون لهنَّ شرفٌ يُضارع شرفَه، أما النساء اللاتي نُكِبْنَ بالدم الشريف فلا كُفءَ لهنَّ على المدى البعيد إلا الموت.
وروى البخاري عن الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ قالت: كُنَّا نغزو مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنَسقي القوم ونخدمهم ونرُدُّ الجرحى والقتلى إلى المدينة.
ويبدو أن هذا التقليد كان قصير العمر جدًّا، فاستخفَى في أيام الحرب والسلم على السواء. وتعتمد المُستشفيات في العالَم الإسلامي اليوم على المُمرضات الأجانب، وإذا كان النساء قد مُنِعْنَ المساجد أفكان يُؤذَنُ لهنَّ بالذهاب إلى مَيادين القتال؟
ولا أُريد أن يَفهم غِرٌّ أني راغب في نقل مَعالِم الحضارة الغربية إلى مجتمعنا، فهذه الحضارة تجمع خليطًا من التقاليد الحسنة والتقاليد الرديئة، وإنما أُريد إعمال النصوص المكتوبة أو المفهومة مِن سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسلفه الأول، وهذا مَسلك يَعجِز عنه أصحاب الخيال والشذوذ.
لقد رأيتُ في قضية المرأة أحاديثَ موضوعة وأحاديثَ واهية صحَّحها الغرض المدخول، وأحاديثَ صحيحة حُرِّفَت عن مواضعها، واستغربتُ وأنا أقرأ لبعض الفقهاء أن صلاة المرأة في بيتها أفضل مِن صلاتها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي!
وقلت: لو كان الأمر كذلك فلِمَ أشرَفَ الرسول على تنظيم صُفوفهنَّ في مسجده؟ ولِمَ جعَل لهنَّ بابًا خاصًّا بهنَّ؟ ولمَ ذهب إليهنَّ فعلَّمَهنَّ وحثَّهنَّ على الصدَقة؟ ولمَ حذَّر "البعض" أن يحرص على القُرب مِن صُفوفهنَّ؟(1/465)
الواقع أن المرأة أولَى بها أن تُصليَ في البيت إذا كانت مسئولية التغذية أو التربية تفرض عليها ذلك، أما إذا تخفَّفت مِن هذه الواجبات لسببٍ أو لآخر فلا يَمنعها بشرٌ من الذهاب إلى المسجد ليْلًا أو نهارًا. أي إن صلاة الجماعة ليست مُؤكَّدة في حقِّها كالرجال، وليس يُفيد ذلك فَرْضَ حصارٍ قاتل على حياتها العلمية والعِبادية وتحويلها إلى مسْخٍ لا مكان له في دُنيا ولا دِين، كما انتهت بذلك الأوضاع الاجتماعية في العالَم الإسلاميّ.
عندما فتح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة خرج النساء لمُبايعته وتلقِّي تعاليم الإسلام منه، ولم يَحتبِسْنَ في بيوتهنَّ قُعودًا عن هذا الغرض. أي إن علاقة المرأة بالحياة العامة كانت قائمةً، وكانت مِن الناحية العملية تَسير في خطٍّ يُحاذي علاقة الرجل ولا يتطابق معه.
وقبل فتح مكة اهتَدَت نساء كثيراتٌ إلى الإسلام ورفَضْنَ البقاء مع أزواجهنَّ الكفار فقرَّرْنَ الهجرة إلى المدينة. وحدث ذلك في وقت كان المسلمون فيه مُلزَمِين بردِّ كل مَن يَلحَق بهم من مكة فارًّا بدينه؛ تنفيذًا لمُعاهدة الحديبية، ولكن القرآن نزل يَستثني النساء مِن ذلك الحكم فقال تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا إذا جاءَكمُ المُؤمناتُ مُهاجراتٌ فامْتَحِنُوهنَّ اللهُ أعلمُ بإيمانهنَّ فإن عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤمناتٌ فلا تَرْجِعُوهنَّ إلى الكفَّارِ) (الممتحنة: 10) وورد أن عمر بن الخطاب كان في ذلك الامتحان يُحلِّف المرأة المُهاجرة؛ بالله ما خرَجَتْ رغبةً بأرضٍ عن أرضٍ! وباللهِ ما خرَجَتْ مِن بُغضِ زوْج! وبالله ما خرَجَت التِماسَ دُنيا! وبالله ما خرَجَت إلا حُبًّا لله ورسوله.
ماذا ترى في هذا القسم وفيمَن أدَّتْهُ؟ ألا ترى شخصيةً مُستقلة واضحة الوِجْهة مُحترَمة المَسلك، تحارب وتُسالم، وتُقيم وتُسافر وَفْقَ ضَميرها وتفكيرها؟(1/466)
أين هذه الشخصية التي واثقت الرسول في مكة والتي هاجرت إليه في المدينة، من شخصية المرأة المسلمة في القُرون الأخيرة؟
المرأة التي لا تَعرف كتابًا ولا إيمانًا ولا صلاة ولا ثقافة عامة، بل التي يُعتبَر من العيب الفاضح أن يُعرَفَ لها اسم أو يبدوَ لها شبَح؛ لأنه لا وظيفة لها إلا إعدادُ الطعام وإرضاءُ البَعل!(1/467)
87 ـ ما أبعادُ النشاط الاجتماعيِّ للمرأة على ضوء الاجتهاد الفِقْهيّ؟
في النشاط الاجتماعي للمرأة يُمكن أن نعرف أبعاد هذا النشاط إذا ذكرنا أن قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر تشمل الرجال والنساء على سواء، وذلك ظاهر قوله تعالى: (والمُؤمنون والمُؤمنات بعضُهم أولياءُ بعضٍ يَأمرون بالمَعروفِ ويَنهَونَ عن المُنكَرِ ويُقيمون الصلاةَ ويُؤتُون الزكاةَ ويُطيعون اللهَ ورَسُولَه) (التوبة: 11).
إن الأمر والنهيَ والصلاة والزكاة وطاعةَ اللهِ ورسوله ليست حِكْرًا على أحد الجنسينِ، والزعم بأن المرأة تُصلِّي وتُزكي وتسكُت في ميدان النصيحة زعْمٌ باطل. والذي حدَث في القُرون الأخيرة في قُرًى كثيرة أن المرأة سقطت عنها هذه التكاليف كلها، فلا تُصلي أو تُزكِّي إلا قبل الوفاة بفَترة تَطول أو تَقْصُر بحسَب المُلابسات.
على أن حِراسة المُجتمع تُنقل مِن ميدان النظر إلى ميدان التطبيق، وهنا تبتعد المسافة بين أقوال الفقهاء في الإمكانات التي تُعطاها المرأة، ويبلغ الاختلاف حدَّ التضاد؛ فابن جرير الطبريُّ يُجيز للمرأة القضاءَ في كل شيءٍ يجُوز للرجل أن يَقضيَ فيه دون استثناء!
ويقول الأحناف ـ كما جاء في البدائع ـ إن الذكورة ليست شرطًا لتقلد منصب القضاء في الجملة؛ لأن المرأة مِن أهل الشهادة في الجملة، إلا أنها لا تقضي في الحُدود والقصاص لأنها لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة.
وهنا نسأل: ما قيمة شهادة المرأة في الحُدود والقِصاص؟
والجواب أن جمهور الأئمة يردُّها؛ جاء عن الزُّهْريِّ رضي الله عنه: مضَت السُّنة مِن رسول الله والخليفتينِ بعده أنه لا تَجوز شهادة النساء في الحُدود والنكاح والطلاق. وفي رواية أخرى: والدِّماء.(1/468)
ويرفض ابن حزم هذا الكلام كله ويُجيز شهادة النساء في كل ما ذُكر! ويقول في حديث الزهري: إنه بَلِيَّةٌ، وإن إسناده مُنقطع، وهو مِن طريق إسماعيل بن عيَّاش وهو راوٍ ضعيفٌ، عن الحجاج بن أرطاة وهو هالك. تلك قيمة حديث الزهري عنده. ويَرى ابن حزم قبول شهادة المرأة في كل قضية بعد مُضاعفة النِّصاب، فيَقبَل في حدِّ الزنا ثَمانيَ نِساء بَدَلَ أربعة رجالٍ! والدليل الذي يَعتمد عليه ابن حزم هو العُموم الظاهر في حديث مسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "فشهادةُ امرأتينِ تَعْدِلُ شهادةَ رَجُلٍ" وما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في حديث: "أليسَ شهادةُ المرأة مثْلَ نِصْفِ شهادة الرجل؟" قلنا: بلَى. فقطع رسول الله بأن شهادة امرأتينِ تعدِل شهادةَ رجلٍ. قال ابن حزم: فوجب ضرورة أنه لا يُقبَلُ ـ حيث يُقبَلُ رجلٌ لو شَهِدَ ـ إلا امرأتانِ، وهكذا ما زاد. ويُفسِّر ابن حزم قوله تعالى: "إنَّ اللهَ يأمرُكمْ أن تُؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها وإذا حَكَمْتُمْ بين الناسِ أن تَحْكُموا بالعدْل) (النساء: 58) فيقول: هذا مُتوجِّه بعُمومه إلى الرجل والمرأة والحُرِّ والعبد، والدِّين كله واحد! لا حيث جاء النصُّ بالفرق بين المرأة والرجل وبين الحُرِّ والعبد، فيُستَثنَى من عُموم إجمال الدين.
وقبل ذلك يقول ابن حزم: وجائزٌ أن تَلِيَ المرأةُ الحُكمَ.(1/469)
وهو قول أبي حنيفة، وقد رُوِيَ عن عمر بن الخطاب أنه ولَّى الشفاءَ ـ امرأةً مِن قومه ـ السُّوقَ. فإن قيل: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لنْ يُفلح قومٌ أسنَدوا أمْرَهم إلى امرأة" قلنا: إنما قال ذلك رسول الله في الأمر العام الذي هو الخِلافة، برهان ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "المرأة راعيةٌ على مال زوجها وهي مسئولةٌ عن رعِيِّتها" وقد أجاز المالكيون أن تَكون وصِيَّةً ووَكِيلةً، ولم يأتِ نصٌّ بِمَنْعها من أن تلي بعض الأمور. والفقهاء مُتَّفقون على أن شهادة المرأة مَقبولة في المُعاملات المالية لقوله تعالى: "واسْتَشهِدُوا شَهيدَينِ مِن رِجالِكم فإن لم يكونَا رجلينِ فرجلٌ وامرأتانِ ممَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهداءِ أن تَضِلَّ إحداهما فتُذَكِّرَ إحداهما الأخرى) (البقرة: 282).
وقد نقلتُ في أحدِ كتبي كلامًا للأطباء عن اعتلال مِزاج المرأة وبَدَنها عند الدورة الشهرية، وقلتُ: لعل ذلك سِرُّ توكيد خبَرِها بأُخرى معها، والضلال هنا يَعني الذُّهول والشُّرود.
وأُبادر إلى القول بأني لستُ ظاهريًّا، لكني أتَّبِعُ الدليل حيث كان، وكثيرًا ما أرفض اجتهاداتٍ لابن حزم ولغيره مِن أئمة الفقه؛ لأن وجهاتِ نظرٍ أخرى بَدَتْ لي أرجَحَ. وغايتي خدمةُ الإسلام بما يُناسب المرحلةَ التي بلَغَتْها الإنسانيةُ كلها في هذا العصر الخطير.
إن تعاليم الإسلام قسمانِ: قسمٌ مَقطوع به لا مكان لخلافٍ فيه، وهذا القسم هو صلْب الدِّينِ ومَعقِد أموره، ولا أثَرَ لاختلاف الأمكنة والأزمنة، والدعوة العامة إنما تكون إليه، والمُفاضلة بيننا وبين غيرنا إنما تكون عليه.
أما القسم الآخر فهو القضايا الظنيَّة والمسائل الخلافية.(1/470)
إن المجال رحْب هنا للأخذ والردِّ والفِعل والترك، وقد رفَض أُولو الألباب أن يكون رأيُ مُجتهِدٍ ما بمنزلة الوحي المَعصوم في الأخذ به والتعويل عليه، ومِن ثَمَّ يجب ترك الناس أحرارًا في اتباع المجتهد الذي وقعت ثِقتهم به، وتَرْكُهم كذلك أحرارًا في التحوُّل إلى غيره لسبب أو لآخر.
ولتوضيح ما أعني أُريد وأنا أعرض الإسلام في بلاد أخرى ألَّا أغيِّرَ سُلوكًا في هذه البلاد يرى بعض فقهائنا أنْ لا حَرَجَ فيه، فإذا كانوا يَقْتَنُونَ الكلاب فَلْيَفعلوا، فمالك بن أنس يرى الكلاب طاهرةَ الرِّيق والعَرَق، وقد كان للفِتيَة المؤمنين مِن أهل الكهف كلبٌ يُلازمهم في أحلَك الأوقات.
وإذا كانوا يسمعون الموسيقى فلْيفعلوا، فالغزالي وابن حزم وغيرهم يَرَونَ سماعها، ولا مَسَاغَ لزجْرِهم عن أمرٍ ليس لدينا قاطعٌ في منعه.
وإذا كانوا يُولُّون النساء بعض المناصب المهمة فلْيَفعلوا، فما أستطيع باسم الإسلام أن أحظُرَ عليهم ذلك، إنَّ الحظر عندنا رأيُ مُجتهَدٍ، وليس وحْيًا حاسمًا.
الشيء الذي أتَشبَّثُ به فعْلًا وترْكًا ما انعقَد إجماعنا عليه، أمَّا عرضُ بعض المذاهب السائدة أو الشاذَّة، وعرضُ بعض التقاليد البدوية أو الحضرية على أنها الإسلام، فهذا ظلمٌ للإسلام، وربما كان صَدًّا عن سبيل الله.
وما أقوله هو ما كان عليه سلَفُنَا الأول الذي نشَر الدِّينَ عقائدَ وعباداتٍ وأخلاقًا وقِيَمًا جوهريةً، وقلَّما اكتَرَثَ بالتوافِهِ والأشكال.
وأمرٌ آخر أُريدُ التنبيه إليه أرى مع سير الزمن أن نُغلغل النظر في الاجتهادات الفقهية لنعرف بدقة نتائجَها التطبيقية؛ إن الأئمة الأربعة أمْضَوا الطلاقَ الثالثَ ثلاثًا ولو بكلمةٍ واحدة، وغبَرَتْ على ذلك قرون، ثم جاء ابن تيمية وغيَّره فجعلوا الثلاثَ واحدةً.(1/471)
وكنت في مصر أرقُبُ أثر إيقاع الطلاق على كِيان الأسرة، فوجَدتُ صُدوعًا رهيبةً في هذا الكيان جعلَتْني أُوثِرُ فقْهَ ابن تيمية وغيره، وأؤيد تحوُّلَ المحاكم الشرعية عن رأي الأئمة، لقد تركوا اجتهادًا إلى اجتهاد، ولا حرَج، فالعِصْمة للوحْي وليستْ لبشَرٍ ما.
وما يُقال في قضايا الطلاق يُقال في مُعاملاتٍ أخرى تجارية وزراعية، كانت مسرحًا رحْبًا لأنصار الفقهاء الأقدمين، إنه لا قداسة لاجتهادٍ، والخُلود لكتاب الله وسُنة رسوله.
وبَدِهيٌّ أننا ندَعُ اجتهادَ فقيهٍ لاجتهاد مِثله ولا نفتحُ الباب للأدعياء والدجَّالين ومَن لا قَدَمَ لهم في علوم الشريعة. وبَدَهيٌّ أيضًا أننا نُضاعف الأسوار حول المَقطوع به ونَستميت دون أن يَمسَّه أحدٌ.
وقضايا المرأة فيها نصوص قطعيَّة، وفيها اجتهادات فقهية اكتَنَفها الخطأ والصواب، ويُؤسفني القول بأن الجراءة على النصوص المُستيقَنَة كان سببُها تَشبُّثَ المُقلِّدين البُلْهِ بأفكارٍ رديئة عن حقوق المرأة العادية والعبادية؛ إن الله أمَر بالغضِّ من البصر ووجَّه هذا الأمر للمؤمنين والمؤمنات، فجاء مَن أمَر بمَنْع النظر أصْلًا، فلا يجوز للمرأة أن تَرَى أو تُرى، ولتحقيق ذلك تَمَّ حبْسُها أبدًا في البيت، ونشأ عن ذلك الغُلُوِّ قتْلُ إنسانية المرأة وإضاعةُ حقوقها الدينية والمدنية. ثم جاء مَن يُعالج هذا العِوَجِ بنقل تقاليد أوربا وأمريكا، أي استبدالُ داءٍ بداءٍ.
ونحن نأبَى غباوة هؤلاء وانحلال أولئكَ! ونُريد الأوضاع التي عرَفَها العهد النبوي، والفقه الذكِيُّ يُدرك هذه الأوضاع.(1/472)
إن مُحدِّثًا جليل القَدْر كأبِي عبد الله البخاريِّ نظر إلى السُّنن الصحاح ثم استنتج منها ـ دون تكلُّف ولا تخوُّف ـ أحكامًا يرفضها اليوم بعض الناس، ففي كتاب المَرْضَى يذكُر إمام المُحدِّثين هذا العنوان "باب عيادة النساء الرجالَ، وعيادة أم الدرداء رجلًا من أهل المسجد مِن الأنصار...الخ" وفي مكان آخر يُثبت عنوانًا آخر "باب غزو النساء وقِتالهنَّ مع الرجال" و"باب غزو المرأة في البحر"...الخ.
ولو أن امرأةً طلَبت شيئًا مِن ذلك في بعض البيئات التي تحترف التديُّن لَضُربَت حتى الموت، إنهم يقرأون البُخاري للبرَكة لا للفقه، وقد يَبسُطون ألسنتهم فينا بالقدْح؛ لأننا أحْيَيْنَا هذه الحقائق مِن دِيننا السَّمْح.
ومع ما ذكَرنا، فنحن نُؤكد أن نشاط المرأة لا يجوز أن يكون على حساب أُسرتها، وأن حقَّ زوجها وولَدها أسبقُ مِن شتَّى الحقوق الأخرى. وقد قرأتُ لوزيرة فِرنسية وأخرى إنكليزية أن عمل المرأة في بيْتها هو رِسالتها الأُولى، وهذا تفكير جيِّد؛ فإن منصب "ربة البيت" منصبٌ كبيرٌ، وهو في نظري يَحتاج إلى مُؤهِّلات رفيعة. وإنشاء الحياة وَفْقَ المُقرَّرات الإسلامية يتطلَّب حُظوظًا مُضاعفة مِن العلم والخِبرة، فكيف نوائِم بين شتَّى الأوضاع والغايات؟
ذاك ما يتطلَّب حُسن التفكير والتنسيق.(1/473)
88 ـ ما نظرة الإسلام إلى الأسرة؟ وما عمل المرأة في بنائها؟
الذين خَبَروا الحياةَ في أوروبا وأمريكا يُؤكدون أن الأسرة وَهْمٌ لا حقيقة له، وأنها في أفضل أحوالها تقوم بجُزء تافِهٍ مما يجب أن تقوم به لإنشاء أجيالٍ أزْكَى وأقوم. إن البيت خاوٍ على عُروشه أغلب اليوم؛ لأن الذكور والإناث تَوزَّعتْهم مَيادينُ العمل والعلم، حتى الأطفال وَكَلَتهم أمهاتُهم إلى دُور الحضانة، وانشَغَل كل امرئٍ ـ بعدُ ـ بما انشَغَل به.
وهم يَسمعون عن جوِّ الأسرة في بلادنا، وربما حلَمَت بعض المُراهِقات أن تحيَا فيه، ولكنّ الهوان الفكريّ والنفسيّ الذي يلُفُّ المرأة فيه يَصرِف الكثيرات عن التعرُّض لمَآسيهِ.
وعندي أن المُثقَّفة التي تحْيَا خارج بيتها ليست خَيْرًا من الجاهلة التي تعيش داخل هذا البيت. ألاَ فلْنَعلَمْ أنها نِعمة حقيقيةٌ أن تمتدَّ الحياة مِن الآباء إلى الأولاد إلى الأحفاد، وأن تكون الأسرة المُؤمنة المستقرة هي المِهاد الوَثير لهذا الامتداد، وليس الإنتاج الحيوانيُّ سِرَّ هذه النعمة. إن العظمة هنا في تَوارث العقائد وانتقال التقاليد الصالحة مِن جيلٍ إلى جيلٍ. إن الأسرة هنا حِصْنُ الدين وسِياجُ مبادئه وعباداته، ودور المرأة وأجْرُها كدَوْرِ الرجل وأجْرِه سواءً بسواء، وإلى عظمة هذه النِّعمة يقول الله سبحانه: (واللهُ جعَلَ لكم مِن أنفُسِكم أزواجًا وجعَلَ لكم مِن أزواجِكم بَنِينَ وحفَدةً ورَزَقَكم مِنَ الطيباتِ أفَبِالبَاطِلِ يُؤمنونَ وبِنِعمَةِ اللهِ هم يَكفرون) (النحل: 72)
إن الرجال الذين هم حمَّالُو الأعباء الثِّقال في قافلة الحياة السائرة، سواء كانوا أساتذةً أو ساسةً أو أُجَرَاءً أو باعَةً، فهم يَعودون إلى بيوتهم فقراءَ إلى المشاعر الدافئة والعون المَبذول، والبيتُ الذي تكون قاعدتُه امرأةً تَنْفُحُ هذه المعانيَ، بيْتٌ رفيع القَدْر، بل هو بيت يحتوي على أثمن الكُنوز.(1/474)
والتقاليد الغربية هزَّت كيان الأسرة، وهي تقاليد تجتاح العالَم، أمَّا التقاليد الإسلامية فالعارفون بها قِلَّة ونشْرُها يَلقَى مُقاومةً عنيدةً، خُصوصًا مِن جَهلة المُتديِّنِين، مِن أجل ذلك رأيتُ لَفْتَ النظر إلى أن وَظيفة ربَّة البيت مِن أشرف الوظائف، وقد تخرج المرأة مِن بيتها وراء أعمال مَشروعة، بَيْدَ أن هذه الأعمال مهما سُمعَتْ لا يجوز أن تَجورَ على عملها الأول الذي لا يَشرَكُها فيه أحد.
روى ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب" أن أسماء بنت يَزيد الأنصارية أتتِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: بأَبِي أنتَ وأمي يا رسول الله، أنا وافدةُ النساء إليك، إن الله ـ عز وجل ـ بعثك إلى الرجال والنساء كافَّةً، فآمنَّا بك وبإلهكَ، إنَّا ـ معشرَ النساء ـ مَحصوراتٌ مَقصورات، قواعدُ بيوتِكم وحاملاتُ أولادكم، وإنَّكم ـ معاشر الرجال ـ فُضِّلْتُم علينا بالجُمَع والجماعات وعيادة المَرْضَى وشُهود الجنائز والحجِّ، وأفضل مِن ذلك الجهاد في سبيل الله ـ عز وجل ـ وإن أحدَكم إذا خرج حاجًّا أو مُعتمرًا أو مُجاهدًا حَفِظْنَا لكم أموالَكم وغَزَلنا لكم أثوابَكم ورَبَّيْنَا لكم أولادكم، أفَنُشاركُكم في هذا الأجر والخير؟ فالتفت النبيُّ إلى أصحابه بوجهه كُله ثم قال: "هل سَمعتُم مسألةَ امرأةٍ قطُّ أحْسَنَ مسألةٍ في دِينها مِن هذه؟" فقالوا: يا رسول الله، ما ظننَّا أن امرأةً تهتدي إلى مثل هذا. فالتفتَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليها وقال: "افهَمِي أيتها المرأةُ وأَفْهِمِي مَن خَلْفَكِ مِن النساء؛ إن حُسْنَ تَبعُّلِ المرأة لزوجها" يعني قيامَها بحقِّه وإحسانَها لِعِشرتِه وطلَبَها مَرْضاتِه واتِّباعَها مُوافقتَه "يَعْدِلُ ذلك كلَّه".(1/475)
على أن هناك مَيادينَ للأعمال لابدَّ أن يَكثُر فيها النساء، أولُها الميدان الطبِّيُّ، فيجب أن تكون هناك طبيباتٌ ماهراتٌ في كل ناحية مِن نواحي الطب، والأشعة، والصيدلة، والولادة والتمريض. ثم ميدان التدريس لجميع المراحل، دُنياها وعُلياها. ولا يجوز أن يُوصَد باب مِن أبواب المعرفة أمام النساء إلا أن يكون لأسبابٍ فنيَّة أو مُواصفات خاصَّة، عندئذٍ يَنطبق التخصيص على الرجال والنساء جميعًا، فيُوجَّهُ كلُّ أحدٍ إلى ما يُناسب قُدرته وخِبْرته.
إن النساء في عالَم الكُفْر الشيوعيِّ يَغزُونَ الفضاء، فلا يَسُوغُ اجترارُ الإسلام ليَمنع المرأة مِن علْمٍ تُحْسنُه. والنساء في عالَم التثليث يَشتَغِلنَ بالتبشير والاستشراق، فلا يَسُوغُ تسخيرُ الإسلام لمنع النساء مِن أعمالٍ يُجِدْنَها ويُجْدِينَ فيها.
إن القَمَاءة الفقهية عند بعض المُشتغلين بالعلم الديني أحْرَجَتِ الإسلامَ كثيرًا، ومكَّنَت خُصومَه مِن خِنَاقه! وأذكر وأنا طالبٌ في معهد الإسكندرية ـ مِن خمسين سنةٍ ـ أن الدكتور طه حسين فتَح فصْلًا للطالبات بكلية الآداب التي كان عميدًا لها، وحدث هيَجانٌ هائل لفتح الجامعة أمام المرأة، وبعد سِنينَ طوالٍ فتح الأزهر كليةَ البنات، لقد وصل مُتأخِّرًا كثيرًا، ما السبب؟ إنها القَمَاءة الفقهية عند بعض المُتحدِّثين باسم الإسلام، ولمَّا مَشَوا في الطريق كانوا يَمشُون مُنْهزِمين، فقَبِلوا أمورًا وصُوَرًا لا ريب في أن الإسلام يَرْفُضها.(1/476)
عندما يَدعَمُ الإسلام مكانةَ المرأة يُحصِّنُها مِن الصور الحيوانية التي أبرَزَتْها فيها الحضارة الحديثة، وجعَلتْها مِحْورًا لإثاراتٍ مُتصلة تُزلزل العِفَّة وتُهيِّج الغريزة. الدينُ يَنْشُدُ الصَّوْنَ ويُؤْثِرُ الاحتشام، والحضارة الحديثة تَنشُدُ التبرُّج وتَدفعُ إلى الإغراء. ومع ضعف اليقين وحُبِّ الحياة العاجلة أخَذ السُّعَار الجنسيُّ يشتد ويَفرض رَغائبه، حتى فقَد الاتصالُ الحرامُ دَمَامَتَه، وأمسى كأنَّه حاجةٌ تُلَبَّى دون حرَجٍ كبير!
والدين يرفض أيَّ خَلْوَة بين رجل وامرأة، وهي تُقرِّب بينهم في الأعمال الجادَّة والهازلة.
وكثيرًا ما تساءلتُ: لماذا تكون "للمدير" سكرتيرة خاصَّة؟ لماذا تشتغل الفتيات بالخدمة في الطائرات وحدهنَّ ويَقضِينَ في الجو وفي الفنادق لَيْلَهنَّ ونَهارَهنَّ؟
إن النساء يُحشَرنَ في أعمال كثيرة لا معنَى لها، وعندما نُقرِّر أحكام الإسلام وتوجيهاته فإن ابتذال المرأة سيُمنَع للفور، وسيكون عملها في أيِّ موقع مَضبوطًا بآداب الشرع وحُدوده. ذلك، ومِن الصعب أن تكون المرأة ربَّةَ بيت مُتقِنة وصاحبةَ مَنصِب مُنتِجة، إن ذلك قد يقع على نُدْرة، وأقترح أن تُنشأ للنساء وظائفُ نِصْفَ وقتٍ حتى تستطيع الزوجة القيام الحَسَنَ على شئون بيتها وأولادها.
إن تعاوُن المسلمين والمسلمات لإقامة مَدنيَّةٍ مُشرِّفةٍ طاهرةٍ أمرٌ ميسور، ويحتاج ذلك إلى محو فكرة تحقير المرأة وجَعلِها مُتَّهَمةً حتى تثبُت براءتها، وهي فكرة تسيطر على بعض المُتحدثين في الدِّين وتجعل فتاواهم أقرب إلى اللَّغْو منها إلى الصدق.
إن القول بأن المرأة هي التي أخرَجَت آدمَ من الجنة تزويرٌ على الإسلام، والزعمُ بأنها لا تَزال تَقُوده إلى النار تزوير كذلك، والتصوُّر الإسلامي كما أثبته القرآن الكريم (لا أُضِيعُ عمَلَ عاملٍ منكم مِن ذَكَرٍ أو أُنْثَى بعضُكم مِن بَعضٍ) (آل عمران: 195).(1/477)
إنني غَيورٌ على الأعراض كأشدِّ المؤمنين، ولكن الحفاظ على العِرْض لا يتمُّ بعقلية السَّجَّان، فالبَوْنُ بعيد بين تكوين العقل والضمير بالعلم والتقوى وبين حبس الأجساد في قفصٍ من حديد. والإسلام قاد المرأة إلى المسجد لتَسمع الدرس وتَسجد لرَبِّها، وبذلك صقَل رُوحَها وفِكْرَها، وفي المسجد كانت ترَى الإمامَ، وربما علَّقَت على مَلابسه (روى البخاري أن امرأة ندَّدت بثوب الإمام؛ لأنه مَشْقوق) وكانت ترى المُدرس، وربما ناقشت ما يقول، أما عقلية السَّجَّان فأساسها أن المرأة لا تُرَى ولا تَرَى، وإذا كان المسجد مَظِنَّةَ ذلك فلا ذهابَ إلى المسجد! وهذا هو الإسلام في فلسفة السَّجَّان.
عندما آثَرَ الناسُ السيارةَ والطيارة على الخيل والبغال والحمير، لم يكن ذلك تحقيرًا للمواصلات الإسلامية الرديئة، فما علاقة هذه المواصلات المَهجورة بالإسلام؟
وعندما يترك الناس التقاليد التي وضعَتْها عقليةُ السَّجَّان فهم لم يَتركوا الإسلام قطُّ، وإنما ترَكوا أساليب بعض الناس في الحياة.
والحَكَمُ هو كتابُ الله وسُنَّةُ رسوله أولًا وأخيرًا، والمشكلة تجيء من طريقة فَهْم البعض للنصوص والآثار. روى البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "اطَّلَعتُ في الجنة فرأيتُ أكثَرَ أهلها الفُقراءَ، واطَّلَعتُ إلى النار فرأيتُ أكثَرَ أهلها النساءَ" ورواية أحمد في مسنده: "اطَّلَعتُ في النار فرأيتُ أكثَرَ أهلها الأغنياءَ والنساءَ" إن جماهيرَ مِن المُتصوفة اعتمَدوا على الشِّقِّ الأول من الحديث، فحَارَبوا المال وحَقَّروا الغِنَى، حتى طلَعت القرون الأخيرة على المسلمين وهم صعاليكُ الأرض. وجماهيرُ أخرى مِن قِصَار النظر والباعِ عَدَّتِ الأُنوثة لعنةً، وجعَلت جمهورَ أهل النار مِن النساء، فهنَّ حبائل الشيطان وشِباك المَعاصي.(1/478)
وهذا المنهج في فقه الأمور لا وزن له، وأصحابه لا علم لهم لا بكتابٍ ولا سُنَّة. بين الإفراط والتفريط خطٌّ وَسَطٌ نُريد التعرُّفَ عليه والتزامَه، وهو خطٌّ لا يتطابق مع وضع المرأة الإسلامية في أغلب المجتمعات، وكذلك لا يَتطابق مع تقاليد الفِرنجة التي تُستمَد مِن وثنية الرومان ومِن فلسفة الإغريق. إن أفلاطون في مدينته "الفاضلة" يجعل المرأة مَشَاعًا بين الآخرين، فما تكون إذًا المدينة الدَّنِسَة؟
على أن عقلية السَّجَّان هي الأُخرى لا تُقيم أُمَّةً راقيةَ الفكر ذاكيةَ القلب.
وتعاليمُ الإسلام الصحيحة هي الأمل في بناء عالَم مُتراحِم مَصُون؟(1/479)
89 ـ يرى البعض أن النِّقابَ فريضةٌ على المرأة، فما قيمة هذا الرأي؟
في العصر الأول وجَدنا عمر بن الخطاب ـ وهو المشهور بغَيرته ـ يُولِّي على سوق المدينة الشِّفَاء بنت عبد الله المخزومية قضاء الحِسْبة، وهي وظيفةٌ دينية مدنية تَتطلب الخبرة والصَّرامة. وذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" أن عبد الرحمن بن عوف ظل ثلاثة أيام يَستشير النساء فيمَن يخلُف عمرَ ـ بعد مَقْتَله ـ من الستة المُرشَّحين، فلم يَبقَ رجلٌ ولا امرأة يُعتَدُّ برأْيه إلا استشاره.
كانت النساء تُستشار! ولِمَ لا وقد استشار النبيُّ أمَّ سلَمة عندما تقاعَس الناس عن التحلُّل مِن عُمرة الحديبية!
أما المرأة المُسلمة في الأعْصُر الأخيرة فقد ماتت أدبيًّا وراء تقاليد جاهلية ليست من الدِّين، حتى دهَمَتْنا الحضارة الحديثة بمَنازعها المادية ومَسالكها الإباحية، فلم يَدْرِ أهلُ الدِّين ما يَفعلون.(1/480)
لقد طالعتُ في السيرة النبوية أحاديثَ تُبرز المُجتمع الأول في صورةٍ أرْحَمَ وأرحَبَ من الصورة التي يَرْسِمها بعض الناس للمجتمع المسلم، وهي صورة قاتِمةٌ مُوحشة؛ روى مسلم في صحيحه أن جارًا فارسيًّا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان طيِّب المَرَق، فصنع لرسول الله طعامًا ثم جاء يدعوه، فقال: "وهذه؟" لعائشة فقال الفارسيّ: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا" أي: لا أذهب معك وحدي فعاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهذه؟" قال: لا. فقال رسول الله: "لا" ثم عاد يدعوه للمرة الثالثة، فقال رسول الله: "وهذه؟" قال الفارسيّ: نعم. فقامَا يتدافعانِ حتى أتيَا منزلَه (ربما كان ذلك قبل نزول آية الحجاب، لكن الحجاب خاصٌّ بأُمهات المؤمنين كما قرَّر ذلك المُحققون، ويبدو أن الفارسيَّ المُضيف كان قد أعَدَّ الطعام لواحدٍ فقط، ولذلك تَحَرَّجَ من قُدوم ضيفينِ معًا، ولم يَدْرِ أن طعام الاثنين يكفي ثلاثة، وأن الرسول الكريم يُريد إيناس زوجته على مائدةٍ فارسية).
وروى البخاري أن أبا أُسيد الساعديَّ دعا النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعُرْسه وأصحابَه، رضي الله عنهم، فما صنَعَ لهم طعامًا ولا قرَّبه إليهم إلا امرأتُه أمُّ أُسيد، فقد بلَّتْ مِن الليل تمراتٍ في تَوْر إناءٍ من حِجارة فلمَّا فرَغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمَاشَتْه له أي هرَستْه بيدها فسَقَتْه تُتحِفه بذلك، وكانت امرأته خادمتَهم يومئذٍ وهي عَرُوس.
وبَدَهيٌّ أن ذلك الاختلاط المَحدود تمَّ في إطار تعاليم الشريعة التي تُوجب على المرأة الحشمة الكاملة، والحِشمة المَطلوبة ستْرُ الجسد كلَّه ما عدا الوجه والكفين.(1/481)
وقد زعم البعض أن النِّقاب كان مَضروبًا على الوجه فلم يَبْدُ من المرأة شيءٌ قط، وهذا زعمٌ مَردود؛ فقد قرأتُ نحو اثنَي عشر حديثًا في أصحِّ كُتب السُّنة تُشير إلى أن النساء كنَّ يَكشِفْنَ وُجوهَهنَّ وأيديَهنَّ أمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما أمَر واحدةً منهنَّ بتغطية شيء من ذلك، وكذلك كان أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ يفعلون.
ومع ذلك فإن ناسًا لا فقْهَ لهم ولا تَقْوَى يَسلُقُون السوافِرَ بلسانٍ حادٍّ مع أنَّهنَّ تاماتُ الحِشمة، ويَرَونَ انسياقًا مع أفكارٍ غبيةٍ أن وَجْهَ المرأة ويَدَيْها وصَوْتَها عورة.
مات سعد بن خَولة في السنة العاشرة للهجرة وترك امرأته حامِلًا، وشاء الله أن تضع قبل عدَّةِ الوفاة ـ قبل أربعة أشهر وعشرة أيام ـ فتركت المرأة إحدادها وتجَمَّلت للخُطَّاب اكتملت وتَخضَّبت وتهيَّأت فلقِيَها رجلٌ اسمُه أبو السنابل، وأنْكَرَ عليها ذلك وقال لها: لعلَّك تُريدين الزواج؟ بعد أربعة أشهر وعشر، قالت: فأتيتُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكَرتُ له ما قيل، فقال لها: "قد حلَلْتِ حين وَضَعْتِ". والقصة موجودة في الصحيحين ومسند أحمد، وهي كقصص وقعت في آخر حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا مَسَاغَ للزعم بأنها قبل الحِجاب.
إن شيئًا آخر غيرَ دِينِ الإسلام يُراد فرْضُه على الأمة الإسلامية، والذينَ يُريدون ذلك يَخضَعون لدوافعَ نفسيةٍ لا لشواهدَ علمية، والشيء الوحيد الذي يَذكرونه هو التأسِّي بأُمهات المؤمنين، ونقول: لو كان التأسِّي بهنَّ مطلوبًا في هذه القضية فلِمَ ترَكه الرسول وصحابتُه؟ ولِمَ ترَكوا الوُجوهَ مكشوفة دون اعتراض؟(1/482)
والواقع أن تنظيم البيت النبوي خضَع لظروفٍ خاصَّة، وقد صرَّح القرآن بذلك عندما قال لزوجات الرسول: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِن النِّسَاءِ). إن تحريم الزواج منهنَّ بعده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومُضاعفة الثواب أو العِقاب لهنَّ تشريعٌ خاصٌّ بهنَّ، ومَعروف أن البَّرَّ والفاجر كانوا يَطرُقون باب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف لا وهو مَحَطُّ الرجال ومَقصِد الوفود مِن كل فَجٍّ؟ وفي بعض البدو جَراءة على النظر والقول، وبين الأعراب بقايَا جاهلية في التطلُّع إلى النساء، فكان مِن إعزاز الله لنبيِّه أن نزلت آية الحِجاب في سورة الأحزاب تمنع الدخول عليهن بتَّةً، فلا يَراهنَّ أحدٌ إلا ما استثنى الله ـ عز وجل ـ في قوله: (لا جُناحَ عليهنَّ في آبَائهنَّ ولا أبنائِهنَّ ولا إخوانِهنَّ ولا أبناءِ إخوانِهنَّ ولا أبناءِ أخَوَاتِهنَّ ولا نِسائهنَّ ولا ما ملَكتْ أيمانُهنَّ واتَّقِينَ اللهَ إنَّ اللهَ كانَ على كلِّ شيءٍ شَهِيدًا).(1/483)
وظاهر أن هذا التنظيم خاصٌّ بأُمهات المؤمنين، وأنه بعدَ نُزوله رُئِيَ النساء المؤمنات مُقاتلاتٍ في "حُنينٍ" ورُئينَ في مناسبات كثيرة في المسجد وغيره سافراتِ الوجوه، فما أنكَر عليهنَّ أحدٌ، ومِن الناس مَن يحظُر رؤيةَ النساء للرجال والرجال للنساء مُطْلقًا، واستدلَّ لرأيه بما رُوي مِن كراهية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرَى نساؤُه عبدَ الله بنَ أم مكتوم، ويرى ابن حَجر أن ذلك كان لسببٍ خاصٍّ؛ هو أن عبد الله أعمَى لا يُحسن تعهُّدَ ثِيابه وسَتْرَ بَدَنه كله، وهو تعليلٌ اضطُّرَّ إليه ابن حجر لمَّا رأى الحديث يُخالف الصحاح. إن ابن حجر ردَّ حديث "أفَعَمْيَاوانِ أنْتُمَا" بطريقته الخاصة، فتغاضَى عن السند وتأوَّلَ المتن، لكن ابن العربي رفَض الحديث سنَدًا ومتْنًا وقال عن نَبهان راوي هذا الحديث: إنه مجهول. ونَبهان هذا كان خادمًا لأمِّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ ولم يُعرَف بين أهل العلم بشيءٍ، وحديثُه إذا كان قد خالَف ما رواه البخاري في رؤية عائشة للأحباش عند عَرْضِهم الرياضيِّ، فهو قد خالَف واقعةً أخرى رواها مسلم أيضًا تتصل ببنت عمٍّ لابن أم مكتوم أمَرَها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تَقضيَ عِدَّتَهَا عنده؛ روى مسلم عن فاطمة بنت قيس أن زوجها عمرو بن حفص طلَّقها ألبتَّةَ طلقةً ثالثةً فجاءت رسولَ الله فذكَرَتْ ذلك له، فأمَرها أن تَعتدَّ في بيت "أمِّ شريك" ثم قال: "تلك امرأةٌ يَغْشاها أصحابي، اعتدِّي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمَى، تَضَعينَ ثيابَكِ عنده" وفي روايةٍ : "انتَقِلي إلى أمِّ شريك" وهي امرأة غنيَّة من الأنصار واسعة النَّفَقة في سبيل الله، يَنزل عندها الضِّيفان فقلت: سأفعل. ثم بدَا لرسول الله أمرٌ آخر فقال: "لا تفعلي، إن أم شريك امرأة كثيرة الضِّيفانِ، فإني أكْرَهُ أن يَسقطَ خِمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقَيكِ فيرى القومُ منك بعضَ ما تَكرهينَ، ولكن انتقلي إلى ابن عمِّك عبد(1/484)
الله بن مكتوم، فإنك إذا وضعتِ خِمارك لم يَرَكِ" الوضع: الإنزال والكشف. فانتقلتُ إليه، فقالت: فلمَّا انقضَت عِدَّتِي سمعتُ نداء المنادِي: (الصلاةُ جامعةٌ) فخرجتُ إلى المسجد، فصليتُ مع رسول الله، فلمَّا قضَى صلاتَه جلس على المنبر فقال: "إني والله ما جمعتكم لرغبةٍ ولا لرهبة، ولكن جمعتُكم لأن تميمًا الداريَّ كان رجلًا نصرانيًّا فجاء وبايَع وأسلم..."الخ.
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألبانيُّ:
وَجْهُ دلالة الحديث على أن الوجْه ليس بعَورة ظاهرة؛ وذلك لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرَّ فاطمة بنت قيْس على أن يَراها الرجال وعليها الخِمار "وهو غطاء الرأس" فدلَّ هذا على أن الوجه منها ليس بالواجب ستْرُه كما سُتر رأسُها، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خشِيَ عليها أن يَسقط الخمار عنها فيَظهَرَ منها ما هو مُحرم بالنصِّ، فأمَرها ـ عليه السلام ـ بما هو الأحْوَط لها وهو الانتقال إلى دار ابن مكتوم الأعمَى. قال:
وهذه القصة وقعت في آخر حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن فاطمة بنت قيْس ذكَرت بعد انقضاء عدَّتِها: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحدِّث بحديثِ تميم الداري أنه جاء وأسلم. وإسلام تميم كان سنةَ تسعٍ للهجرة، فدلَّ ذلك على تأَخُّر القصة عن آيةِ الحجاب، فالحديث إذًا نصٌّ كذلك على أن الوجه ليس بعَورة.(1/485)
في السنة العاشرة للهِجرة وبعد نزل آية الحجاب بستِ سنين وقعت قصةُ "الخَثعمية" وهي امرأة جميلةُ الوجه جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم النَّحر وهو في حَجة الوداع تُريد أن تَستفتيَه في شأن مَا مِن مناسك الحج، قال الرُّواة: وكان الفضل بن العباس رَديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَلَفَتَهُ جمالُ المرأة. حدَّث الفضل عن نفسه، كما روى أحمد في مُسنده: فكُنتُ أنظر إليها، فنظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلَبَ وجهي عن وجهها، حتى فعل ذلك ثلاثًا وأنا لا أنتهي. وأصل هذه القصة ثابت في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي. كانت المرأة وَضِيئَةَ الوجه، لم يَرْوِ أحدٌ عن صاحب الرسالة ـ صلوات الله عليه ـ أنه زجَرها عن كشف وجهها أو اتَّهَمها ببَثِّ الفِتنة وقلَّة الحياء! ولكن المَلَكِيِّين أكثر مِن المَلِكِ يُريدون الاستدراكَ على المُشرِّع الأعْظم وإطلاقَ ألسنتهم في الناس، ويُريدون طَيَّ هذه السُّنن الصِّحاح وإبراز آثار مُنكَرة تُفيد أن المرأة تُغطي عيْنًا وتُبدي أخرى، أو تُغطي جسدها كله مِن الوجه إلى القدَم، فلا يُرى منها شيء ولا يُسمع لها صوتٌ؛ لأن الصوت هو الآخر عورة!
إن هذا الغُلوَّ أعقَبَ ـ على امتداد القرون ـ آثارًا اجتماعية سيئة قتَلَتْ شخصية المرأة وإنسانيتها، وأساءت ولا تَزال تُسيء إلى الإسلام.
يقول البعض: لا بأس أن تَضع المرأة نِقابًا على وجهها اقتداءً بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم.
نقول: ولا بأس أيضًا مِن تحريم الزواج على المرأة إذا مات زوجها امتدادًا لهذه الأُسوة.
إننا نُريد التزام خطٍّ إسلاميٍّ صحيح لا علاقة له بتبرُّج الغربيَّات ولا بهوانِ الشرقيات المسلمات وإهدار آدميتهنَّ. إن الغضب لله على العيْن والرأس، أما الغضب لتقاليدَ مُلْصقَة بالوحي دخيلة عليه فشيء لا نَكترث له ولا نَخشَى أصحابه.(1/486)
قال لي صديق: إن الطريقة التي تَعرض بها قضايا المرأة تُخالف تقاليدَ قويةً ومذاهبَ مستقرةً، وهذا يُسيء إليك، وقد يَعوق آراء صالحةً شرَحْتَها للناس في ميادينَ أُخرى.
قلت: نصيحةٌ مَقدورة، وأحب أن أذكر لك ما عندي لتُدرك ما هنالك؛ إنني في هذه القضية وفي غيرها أرفضُ الأحاديث الموضوعة والواهية ولا أحترمُ التقاليد التي تُبنَى عليها، إن العُرف السائد يُحكَم عليه ولا يُحتَكم إليه، والأساس المَرعِيُّ هو كتاب الله وسُنة رسوله، وإنني أعوذ بالله أن أكون قد خرجتُ عليهما، إن المُتواتر يَحكُمني والصحيح يَلزَمني، أما المَرويَّات الأُخرى فلا اكتراث.
وما زِلتُ أذكر أن رئيس جماعةٍ إسلامية كتَب مقالًا ضدِّي تحت عنوان "مدير المساجد يُكذِّب رسول الله"!
وقد اقشَعَرَّ جلدي من التهمة، فأنا أحدُ الأرقَّاء لجميل محمد، الشاعرين بعَظمته المُتابعين لسِيرته فكيف أكذِّبه!
ومِحور المقال حديث مُنكَر يقول إن المرأة لا تَرى أحدًا ولا يَراها أحدٌ. والذي يُصدق هذا الكلام يجب أن يُكذِّب المتواتر والصحيح في قضايا المرأة كلها! وهذا ما فعله البعض وأقام بعدئذ تقاليدَ فرَضَها على الدِّين فرضًا، كيف أحترم هذه التقاليد وهناك آثارٌ صحيحةُ السند شرحها البعض مِن زاوية خاصة، ولهم ما مالوا إليه من فهْمٍ وإن كان مُعتلًّا، وليس لهم إلزامُ غيرهم، فقوله تعالى: (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فسَّره أولئك بأن الزِّينة لا تظهر أبدًا ولا يجوز إظهارها بتاتًا، وأن الاستثناء هو لِمَا يقع أحيانًا من مُجاذبة الريح للنقاب المَضروب على الوجه.(1/487)
إنَّ كَشْفَ الوجه كان العادةَ السائدةَ، ورُبما تَنَقَّبَتْ بعض النساء، ولم يحدث أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتَرَض امرأةً سافرةً، والسُّننُ شاهدُ صدْقٍ على ذلك، وكان مجتمَع الصحابة قائمًا على هذا الوضع دون تكبُّر. وتأمَّل فيمَا رواه الإمام أحمد في مُسنده ـ والحديث صحيح ـ قال: عن أبي أسماء أنه دخل على أبي ذرٍّ ـ رضي الله عنه ـ وهو بالرَّبذة أيام عثمان، وعنده امرأةٌ سوداء مُسْغِبةٌ، ليس عليها أثَرُ المجاسد ولا الخَلُوق الطِّيب فقال: ألَا تنظرون إلى ما تأمرني هذه السويداء؟ تأمرني أن آتِيَ العِراقَ، فإذا أتيتُ العراق مالُوا عليَّ بدُنياهم، وإنَّ خليلي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَهِدَ إليَّ أنَّ دون جسر جهنم طريقًا ذا دَحْضٍ ومَزِلَّةٍ، وإنَّا أن نأتيَ عليه وفي أحمالنا اقتدارٌ أحْرَى أن نَنجوَ مِن أن نأتيَ عليه ونحن مَواقيرُ. يعني إذا كنا خِفافًا في الدنيا قَدَرْنا على النجاة مِن هذا الطريق الزَّلِق، أما إذا أوْقَرْنَا أحمالَها وأثْقَلْنَا مآربَها فسَنَهْوِي. وأبو ذرٍّ يشكو امرأته لبعض صَحْبه؛ لأنها تُشير عليه بالارتحال إلى العراق، وقد رأى الصَّحْبُ المرأةَ ووَصَفُوها بما قرأتَ.
أعرف أن هناك مَن يرى أن المرأة لا يجوز أن يُلمَحَ شَبَحُها في مكان! فما الذي يجعل هذا الكلام هو دينُ محمد! إنه أمر بالغ السَّخَفِ أن يرى أحدٌ رأيًا ثم يقول: هذا هو الدِّين، لا دينَ غيره.
نعم، قد قال: هو وِجهةُ نظرٍ في فقه ما ورد من آثار.(1/488)
ولا أُحارب هذا، وإنما أضُمُّ إلى الموضوع حقيقةً أخرى ليست خاصَّة بالميدان النسائي، وإنما تعُمُّ كل ميدان اختلفت فيه آراء المجتهدين، هناك خلافات لا يَضُرُّ بقاؤها إلى قيام الساعة، فليَقْنُتْ مَن شاء في صلاة الفجر أو لا يقنت، إن مذاهب المُجتهدين هنا تترك آثارًا مهمة في مسيرة المجتمع، لكن هناك مَن يرى أن الخمر والحشيش والأفيون سواءٌ في الحُرمة وهناك من يُفاوت بينها، بل هناك مَن يُبيح بعضها! وقد شعر أولو الألباب أن الأمم التي تُقبل على المُخدِّرات أسوأ حالًا وأضعف إنتاجًا من الأمم التي تَشرب المسكِرات، فهل يُقبل مِن أتباع بعض المذاهب الفقهية القولُ بأن الإسلام يُبيح كذا من المُخدِّرات فلا تُحرموا ما أحلَّ الله!
لماذا لا يَسكت مَن اعتنَقوا وجهةَ نظرٍ ما إذا كانت الأيام قد كشَفت أن وجهة نظرهم سيئة!
لماذا يُريدون جعل ما يَعتنقون دِينًا لا يُمَسُّ! ولحساب مَن هذا التعصُّب والحماس!
الأمر كذلك في قضايا المرأة، إنَّ تَردُّدَها على المساجد وتَزوُّدها بالعلم سُنة يُساندها التواتر.
ثم نبَتَت وجهة نظرٍ أخرى فحرَّمت عليها الذهاب إلى المساجد وحظَرت عليها التعليم.
وهذه الوِجهة لا تعدو أن تكون فهْمًا رَديئًا لأثرٍ مَا أو اتِّباعًا أعمَى لحديث موضوع.
ثم انهار العالَم الإسلامي كله وأصبح رجالُه ونساؤُه أمثلةً مُزرِية للتخلُّف، فإذا جاء مَن يُعيد الكرامة الأدبية والعقلية للمرأة ويُعيد الأمة إلى معالِم سَلَفِها الأول قيل له: لا.
والدليلُ: فقهٌ مغشوشٌ، أو نقلٌ مريضٌ، أو رأيُ امرئ يُريد التقدُّم بين يدي الله ورسوله ليجعل مِن سلوكه وإدراكه النَّهْجَ الذي يُفرَض على الكتاب والسُّنة، لا نَهجَ غيرُه.(1/489)
إننا نُؤكد أن النصوص على العين والرأس، وأن الخلاف الفقهي وجهات نظر تخضع للمُوازنة والترجيح ولا قَداسةَ لإحداها، وأن مِن حقِّ المسلمين في أيِّ بلد أن يَدَعُوا رأيًا تَبيَّنَ مِن تطبيقه أنه حطَّهم في الداخل وأزرَى بهم في الخارج. ولا يُوصَف أبدًا ترْكُ هذا الرأي بأنه تركٌ للدِّين، بل إن أغلب ما يَشيع بين المسلمين في المجال الإنساني مُخالف للدِّين وليس وراءه اتباعٌ مُحترَم.
مِن أجل ذلك كله أرفضُ عرض الإسلام في هذا العصر على أنه نِقاب، أو أنه رفضٌ لشهادة المرأة وعمِلها فيما تصلحُ له، أو رفضٌ لقيادتها السيارة مَثلًا، ورفضٌ لاضطِّلاعها بمَهامَّ تُطيقها، مع تأكيدي أن عمل المرأة في الأسرة يَتصدر كلَّ أعمالها الأخرى ويَحكمها.(1/490)
90 ـ يرى البعض أن هناك مَملكة في عالَم الغيب تتكون من الأقطاب والأوتاد...الخ تُؤثِّر في عالَم الشهادة، فما قيمة هذا الرأي؟ وما مصادر المعرفة في هذه القضايا وأمثالها؟
العلم الذي يتلقَّاه الناس ويَحظى بينهم بالقبول نوعانِ: دينيٌّ ومدنيٌّ، ولكلٍّ منهما مَصادرُه المحترمةُ بين أهله وحُدودُه التي يُقرُّها خبراؤه والراسخون فيه، والعلوم المدنية متروكة للاجتهاد المُطلق، وأساسها المُلاحظة والتجربة والاستقرار، ولمَّا كانت هذه العلوم مُتصلة بشئون الدنيا فإن دائرتها ليست وَقْفًا على جنس من الأجناس أو عصر من الأعصار، والسباق العالَميُّ فيها يجري دون توقُّف، وقد أفهَمَنا المَعصومُ ـ صلوات الله عليه ـ أننا في هذا الضرب مِن المعرفة الإنسانية أحرارٌ حُريةً تامَّةً، فقال: "أنتم أعلمُ بشُئونِ دُنياكم".
وليت العقل الإسلامي انطلق في هذا الميدان يَبتدع ويَكتشف، ويأتي بالعجائب والغرائب كما صنعت عقولٌ أُخرى، إنه لا يَتقيَّد في حركته هنا إلا بالحقائق التي يَستقر الناس عليها ويَنتهون إليها، وليس للوحي الإلهي دخْلٌ في بُحوثه الكيماوية أو كشوفه الفلكية أو إنتاجه الصناعي الخ.
أما العلوم الدينية فأساسُها العتيدُ النقلُ عن الله ورسوله، وتَستمد مكانتها من قيمة النقل وصحة المعنى، ولذلك قال العلماء: الإسناد مِن الدِّين، ولولاه لقال مَن شاء ما شاء.
ولا يُمكن اعتداد شيءٍ ما دِينًا إذا كان ضعيفَ الصِّلَة بالله ورسوله أو مُنقطعًا! وتتفاوت قِيَمُ الثبوت تَفاوُتًا شاسعًا بين المُتواتر المَقطوع به، وأخبار الآحاد المُعتلَّة التي يرفضها البعض أو التي يترخَّص البعض في قبولها عندما تتعلَّق بفضائلَ أو بمناقب الرجال. على أن ما استقرَّ عليه الأمر في دوائر التشريع أن الأحاديث الضعيفة ليست مصدرًا لحُكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ، وأن القُضاة والمُفتِين في حِلٍّ من التقيُّد بها دون تكبُّر ولا تأثيم.(1/491)
فإذا لم يكن ثَمَّتَ سنَدٌ من نصٍّ دينيٍّ قويٍّ أو ضعيف فلا مجال للزعم بأن لله في هذا الأمر توجيهًا خاصًّا. للناس أن يقولوا ما يقولون من عند أنفسهم، ولكن لا مكان لإعطاء كلامهم هالةً معيَّنة تُوهِم بأن لهذا الكلام صلةً بالدين.
إنني أُثبت هذه المقدمة وبين يديَّ نقلٌ طويل قرأتُه لإمام من أئمة التصوُّف المعاصر تحت عنوان "مراتب أهل الغيب" ما يلي:
للصوفية بحسب مراتب الأذواق والكشوف والمقامات مُؤيَّدة بمفاهيم الآياتِ والآثارِ أقوالٌ شتَّى في مراتب السادة "أهل الباطن" المعروفين عندهم باسم "أهل الغيب" أو "أهل الديوان" وتتلخص هذه الصورة تقريبًا في الآتي:
1ـ الغَوْث الأعظم والفرد الجامع، الذي هو قدَم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومجاله الروحيُّ حول العرش.
2ـ ثُم الإمامانِ، وهما وزيرَا القطب عن يمينه وشماله، ومجالهما الروحيُّ في طرفَي الفرش (الفرش بالفاء: ما دون العرش. بالعيْن)
3ـ ثم الأوتاد، وهم الأقطاب الأربعة الكبار، ومجالُهم الروحيُّ الجهاتُ الكونية الأربعة.
4ـ ثم الأبدال السبعة، ومجالهم الروحيُّ السبْعُ الطِّباقُ.
5ـ ثم النُّقباء الاثنا عشر، ومجالهم الروحيُّ البروج السماوية الإثنى عشر.
6ـ ثم النُّجباء السبعون، وهم أهل الخَلْوة والميقات، ومجالهم الروحيُّ الأفلاك والمجرَّات.
7ـ ثم الأخيار، وهم الحَواريون وأهل المعارج، وعددهم بين الثلاثين والثلاثمائة، ومجالهم الروحيُّ أقطار الأفق الأعلى. وأصحاب هذه المقامات السبعة هم الأقطاب.
8ـ ثم المفردون، وهم الأولياء المختارون من صالحي الأمة، ولا عدد يحصُرُهم، ومجالهم الروحيُّ الأفق الأدنى وأقطار المدن والقرى.(1/492)
9ـ ثم الصالحون، وهم أتقياء الأمَّة، وهم درجات شتى، ومجالاتهم الروحية متعددة. ثم إن لكل صاحب مقام من هذه المقامات خُلفاءَ وعُرَفاءَ، فإذا خلا المقام انتقل إليه الخليفة، ثم ارتفع العريف إلى رتبة الخليفة، واختير مِن المستوى الثاني من هو أهلٌ للعرافة، وهكذا.
وقد تختلف هذه الصورة عند بعض السادة في التسميات والأعداد وترتيب المستويات، وكلها صحيح في ذاته مُعلَّل بدليله "كما قدمنا" وهو راجع إلى اختلاف نسَب المقامات وإفاضات الكشوف، لكن ما ذكرناه هنا هو الأوثَق عندنا. والله أعلم.
وعندنا أيضًا أن كل مستوًى من هذه المستويات مَحفوف بأرواح كل مَن سبَق أن شغَله مِن أهل الله السابقين، وعلى هذا فإن شاغله من الأحياء يُعتبَر ممثِّلًا للأرواح التي سبقته إلى هذا المقام، فهي تَحوطُه، ومنها يستمد الكثير من السرِّ والإفاضة.
وكما أرجعنا أقدامَ الأقطاب الأربعة الكبار إلى نِظام أهل الملأ الأعلى باعتباره مرجعَ النظام الكونيّ كله، والتناسُب الرابط بينه وبين العالَم الأرضي حقيقة مُسلَّمة ـ فكذلك مقام الإمامينِ أحدهما مُستغرِق في "الجلال" على قدم "مالك النار" ومن هنا صحَّ مقام "الكمال" للغَوْث الأعظم، جامعًا فيه بين الجمال والجلال.
ثم نجد مقام الإمامينِ عند أهل الكشف مثلًا هما مقامَا آدم وإدريس، ثم إلياس والخَضِر ومَن شاء الله مِن أهل البيوت، ثم مَن على أقدامهم من الربانيِّين مشهورين أو مستورين، وكان على مقام الإمامين السَّعْدَينِ؛ سيدَي الأوس والخزرج، والسعيدين؛ ابن المسيب وابن جُبير، والصاحبين الفقيهين؛ أبو يوسف ومحمد بن الحسن، والشيخين المُحدِّثَينِ؛ البخاري ومسلم. وهكذا(1/493)
ويجتمع "أهل الديوان" وهم كبار أصحاب الوظائف الغيبية، أرواحًا وهَيُولًا، في المعاهد الثلاثة المُقدسة؛ الحرم المكي والحرم النبوي وبيت المقدس، ثم في أماكن مقدسة أخرى يُكشف عنها لأهل القلوب، على توقيت وترتيب دقيق، فليس في الغيب فوضَى ولا تجمُّد وعدَم، ولا انفصال الغريب المُفصَّل المعالِم الوُجود وقوى مطلق اهـ.
قرأتُ هذا الوصف للكون وحركات عالمَي الغيب والشهادة ثم تساءلت عن هذا اللون من المعرفة: أهو ماديٌّ ألتمسُ أدلته من علم الكون والحياة والطبيعة والكيمياء؟
وكان الجواب السريع: لا، فإن علماء الكون والحياة لا يُقررون من هذا الكلام حرْفًا.
أهو دينيٌّ نلتمس أدلته من الكتاب الكريم والسنة المطهرة؟
وراجعتُ سور القرآن كلها، فلم أجد لهذا الكلام شاهدًا، وأخذت أتذكَّر ما أعرف من السنن التي رواها البخاري ومسلم والترمذي وأبو داوود والنسائي وابن ماجه وابن حنبل... الخ فلم أجد لهذا الكلام شاهدًا.
قلت: هل هذا الكلام رأيٌ فقهيٌّ يستند إلى أثر ضعيف عند الناس قَوِيَ عند صاحبه؟
إن هذه الآراء وُجدت في علومنا، ألا ترى الأحناف يحكمون بنقض وضوء مَن يقهقه في الصلاة اعتمادًا على أثر أخذوا به، والشافعية يشترطون أربعين لصلاة الجمعة اعتمادًا على حديث لين! إ
ن أصحاب هذه المذاهب معروفون لدينا، وقد يُخطِّئهم غيرهم في هذه الآراء، وعلى كل حال فإن مَن ذهب إليها لا يتعصب لها ولا يظن أنها الصواب الذي لا صوابَ وراءه، ولا يصفها بتاتًا بأنها حقائقُ مُستيقَنة.
لكن الأستاذ الكاتب ـ عفَا الله عنه ـ لا يعتمد فيما كتب على مَرويَّاتٍ قوية أو ضعيفة، ومع ذلك فهو يتهم مَن يعارضه بالجهل، ويُوصيه بأن يمسك جهله على نفسه وحدها، وإلا فهو سيقول هرطقة أو شقشقة أو هنبقة أو فيهقةً باسم الدين المظلوم. هكذا يقول.(1/494)
عجبًا، هل إذا أنكَرتُ اجتماعَ أهل الديوان من أصحاب الوظائف الغيبية في مكة أو المدينة أو القدس ـ قبل احتلالها أو بعده ـ أتعرَّض لهذه التُّهَم؟ لماذا؟
شيء لم يقله الله ولا رسوله، بل شيء نَجزم أن أصحاب رسول الله ماتوا وهم لا يعرفون عنه شيئًا، يُعتبر إنكاره هرطقة وهنبقة! لماذا؟
هل لأيِّ إنسان يقوم الليل ويصوم النهار أن يقول لجماهير المسلمين كلامًا لا يعرفونه في مراجع دينهم ويُلزمهم باعتناقه، وإلا فهم جُهّال؟
ذاك ما نرفضه جملةً وتفصيلًا. بل إن الذي نُوصي الجماهير به أن يَعَضُّوا على كتاب الله وسُنة رسوله، وأن يُحكِّموا ما عداه إلى ما ورد وثبت، فمَن أتى لهم بشيء من عند نفسه رَدُّوا عليه.
وليس للخواطر أو الإلهامات أو الرُّؤَى أو الخيالات أي موقع من مصادر التشريع، لقد قرَّر علم الفلك حقائق معروفة عن حركات الأرض حول نفسها وحول الشمس، فإذا جاء رجل يحلف أنه لا خلاف بيننا على أن الله يُؤتي فضله مَن يشاء، وأنه فضَّل بعض الأنبياء على بعض، وبعض الأمكنة والأزمنة على البعض...الخ لكن مِن أين تُعرَف هذه التفضيلات ومداها؟
الذي نُقرره قاطعينَ أن الشارع وحده مصدر هذه المعرفة، ونحن مِن الكتاب والسُّنة نعرف أن المؤمن ينظر بنور الله، وقد قال الله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ وآمِنوا برَسولِهِ يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ ويَجعلْ لكم نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) لكن ليس مِن النظر بنُور الله أن نفتح أبواب الرجم بالغيب لكل إنسان، مهما اجتهَد في عبادته وتقواه، ليقول في دِين الله كلامًا لا بُرهان له به إلا المُعاناةُ الخاصةُ والكشفُ الذاتيُّ.(1/495)
إن قسم السمعيَّات مِن دِيننا يشمل الأمور الغيبية التي لا تُعرَف إلا عن طريق المعصوم؛ فالصراط والميزان، وثواب القبر وعقابه، وشئون الملأ الأعلى، وبعض الأوصاف الإلهية، كل أولئك لا يَنفرد العقل بإدراكه، ولا سَبيل للبشر إليه إلا بتوقيفٍ الشارع نفسه. فإذا جاء امرؤٌ فزعم أن حَمَلَة العرش الثمانية تحتهم ستةَ عشر مَلَكًا، ثم اثنان وثلاثون ملَكًا، وهكذا متواليات هندسية قلنا له: من أين جئت بهذا الكلام؟
ومِن حقِّنا أن نقول له هذا، بل إننا نُجْرِم في حق دِيننا إذا لم نقل له: مِن أين جئت بهذا الكلام؟
فإذا لم يذكر آية من كتاب ولا أحاديثَ مقبولةً عن رسول الله وجَب أن نَمحُوَ هذه الزيادات وأن نرفض تلك الإضافات.
والمقامات الكبرى التي شرحها الأستاذ محمد زكي إبراهيم، وتحدَّث فيها حديثَه المدوَّنَ في مجلة "المسلم" عن الملائكة والأقطاب هي إقحامٌ لجُملة من المعلومات الغريبة على قسم السمعيات في دِيننا دون أن يكون لهذه المعلومات الدخيلة أيُّ إسناد مِن كتاب أو سُنة. وقد هدّد مَن يُنكرها بأنه "عند أهل الحق مُعوَّقٌ عن السلوك، مُؤخَّرٌ عن الوصول، مُعرَّضٌ للسلْب والاستدراج"! بل قال إن إنكارها "مُوطِّئٌ لما قد يكون به سوء الخاتِمة والعياذ بالله؛ لأنه حُكم على مجهول لا يقينَ عليه لغير العالِم به فيُسلّمُ له"!
ونقول دون تردُّد: هذا باطل، فقد انتهى الوحي، ولا نُسلم لبشَر أن يَزيد في حقائق الدين، بل إن الزيادة في هذا الباب لا تقلُّ خطَرًا عن وضع الأحاديث على رسول الله، ومِن حق المسلمين في المشارق والمَغارب أن يُنادوا: هذا وحيٌ مِن عند الله فيُقبَل، وهذا لغوٌ من عند الناس فيُرفَض.(1/496)
ثم إنه في باب السمعيات لا تُقبَل الروايات المُعتلَّة ولا الأسانيد والمتون المُختلفة، لقد ذكر السيوطي في كتابه "الإتقان" أن هناك ثلاثةَ أقوال في ألفاظ القرآن؛ أنها مِن عند محمد "كذا"! وأنها مِن عند جبريل، وأنها كالمعاني مِن عند الله.
وإيرادُ هذا الكلام ضربٌ من الجهل رفضه المسلمون أجمعون، فالقرآن ألفاظٌ ومعانٍ من عند الله، ولكن السيوطي حاطِبُ ليلٍ وجمَّاع للحق والباطل دون تمحيص، ونحن لا نأخذ ديننا بهذه الطريقة البلهاء.
وإنني أعجب؛ لماذا يُريد بعض إخواننا أن يَقرِن التصوف بهذه المبتدَعات والغرائب المنكورة! إن التصوف عند رجاله الأوائل طريقُ تربيةٍ نفسيةٍ صالحةٍ، وتدريبٌ على مُراقبة الله ومُشاهدته فيما نفعل ونترك. ويُمكن تسميته على الأخلاق الدينية؛ لأن تراثه المنتَقَى لا يخرج على هذا الإطار. وقد كان أبي ـ رحمه الله ـ صوفيًّا من أتباع الشيخ أبي خليل، فما عرَفْتُه إلا كادحًا يتَّقي اللهَ في رزقه، ويقرأ كتابَه في دكانه، ويُعايش الناس على الأُخُوّة السَّمحة، ولا يعرف شيئًا بعد ذلك من هذه الخَيالات.
أخشَى إذا حرَص صوفية العصر على التشبُّث بغير الكتاب والسُّنة أن يَجْنُوا على التصوف جملةً وتفصيلًا فيُجتاحَ من أصله.
ولهذه المناسبة نَذكر ما لَهِجَت به الألسنة أخيرًا من تفسير الدكتور عبد الحليم محمود لأوائل سورة النجم، يقول الله ـ تعالى ـ واصفًا الوحي النازل على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام:
(علَّمَهُ شَديدُ القُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وهو بِالأُفُقِ الأعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى) فمَن هو شديد القُوَى الذي استوَى بالأُفق ثم اقترب مِن الرسول فعلَّمه ما تعلَّم؟
في سورة التكوير يذكر هذا المعنى بأسلوب آخر (إنَّه لقولُ رسولٍ كريمٍ. ذي قُوةٍ عند ذِي العَرْشِ مَكِينٍ) إلى أن قال: (ولقد رآه بالأفُق المُبينِ).(1/497)
وفي سورة الشعراء يُصاغ هذا المعنى نفسه في قالَب آخَرَ (وإنَّه لتنزيلٌ مِن ربِّ العالَمينَ. نَزَلَ بهِ الرُّوح الأَمِينُ. على قلبِك لتكونَ مِنَ المُنْذِرِين).
وظاهرٌ مِن هذه الآيات كلها أن الموصوفَ بالقوة، الباديَ بالأُفق، النازلَ على قلب الرسول الأمين ـ هو مَلَكُ الوحي، جبريلُ لا غيرُ، لكنّ الدكتور عبد الحليم محمود ـ عفا الله عنه ـ لوى عُنق الآيات مِن أوائل النجم، وجعل الذي دنَا فتدلَّى هو الله سبحانه وتعالى.
وهو خطأٌ مُبين، وينبغي عند تفسير آيةٍ ما نزَلت في موضوعها آياتٌ أخرى وأحاديثُ مُتعددةُ الروايات ألا نَحصُرَ أنفسَنا داخلَ آية واحدة ورواية واحدة ثم نَتعسَّفَ القول، خصوصًا عندما يتصل الأمر بذِي الجلال والإكرام، وحُبُّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يَشفع في هذا الخطأ.
لقد اعتمد الدكتور الفاضل في رأيه على حديثٍ للبخاري أخرجه من رواية شَريك بن أبي نَمِرٍ عن أنس بن مالك، وهذه الرواية مُجرَّحة، قال النووي في شرحه لمسلم: قد جاء مِن رواية شَريك في هذا الحديث أوهامٌ أنكَرها عليه العلماء، وقد نبَّه مسلم على ذلك بقوله: قدَّم وأخَّر وزاد ونقَص. يعني في الرواية التي أوردها البخاري عنه.
وهذه الرواية المُنْكَرة تصرح بأن الإسراء قبل البعثة! وأن القصة كلها رؤيةُ منامٍ! وأن ربَّ العزَّة هو الذي دنَا فتدلَّى!
ونقل القاضي عِيَاض إنكارَ أهل العلم لهذه الرُّؤية، قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي عياض قاله غيره.
وقال الحافظ عبد الحق في كتابه "الجمع بين الصحيحين" بعد ذكر هذه الرواية عن أنس، التي أثبتها البخاري: قد زاد فيها شَريك زيادةً مَجهولةً وأتى فيها بألفاظ غير معروفة.
هذه هي الرواية التي اعتمد عليها الدكتور عبد الحليم في تفسيره الذي دافع عنه بحرارة وأثبَته في رسالته التي نشَرها مجمع البحوث، وهو تفسير لا يُقبل بتاتًا.(1/498)
ولا أدري: لِمَ تُلْقَى الأحكام الخطيرة بهذه الطريقة المُستغربة؟ ولم لا نعود إلى كُتبنا الأولى نَستبين منها الرُّشد؟(1/499)
91 ـ لِمَ حرَّم الإسلامُ لُحومًا معيَّنة؟ وهل لذلك حِكمة؟
بين العباد وربهم عُقود تتصل بحُقوقه جل شأنه، أو تتناول علاقة بعضهم ببعض، وقد تتناول علاقاتهم بالكون المُسخَّر لهم والأحياءَ التي ذلَّلها لمنافعهم، وقد أمَر المؤمنين برعاية هذه العقود والإحساس بحُرمتها (يا أيُّها الذينَ آمَنوا أَوْفُوا بالعُقودِ أُحِلَّتْ لكمْ بَهِيمةُ الأنعامِ إلَّا ما يُتلَى عليكم) (المائدة:1).
وما يُتلى عليهم أربعة أنواع على الإجمال وعشرة على التفضيل، ذُكرت في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عليكمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخنزيرِ ومَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللهِ بهِ والمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنَّطِيحَةُ وما أكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ومَا ذُبِحَ على النُّصُبِ) (المائدة: 3).
والتحريم مشروع هنا لمصالح الناس والحفاظ على صحتهم، ولا يُقال إن الناس تأكل الخبائث ولا يُصيبها ضرر ظاهر، أو إن الجماهير تشرب الخمر والدخان والمخدِّرات ويتأخَّر اعتلالها، أو تكون وَعْكَاتُها خفيفة. وإن هذا الكلام مَردود؛ إذ إن التحقيق العملي أثبت أخطار هذه السموم، وإذا كان البعض ينجو منها فلأسباب غير مُطَّرِدَةٍ، والواجب أن تَتنزه الجماهير عن أكل هذه المُحرَّمات فِرارًا من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة.
أول هذه المُحرَّمات "المَيْتة": وهي الحيوانات أو الطيور التي تموتُ حَتْفَ أنْفِها ويَغلب أن يكون هلاكها لمرضٍ باطن بها.
وليست الأسماكُ التي تموت بعد خُروجها من الماء من صنف الميتة، بل هي لحْمٌ حلال.
ثم الدَّمُ: أي المَسفوح الذي يسيل من عروق الذبيحة، لا يجوز تجميعه وطبخه.
ولحم الخنزير لقَذارته واحتوائه على جراثيمَ وديدانٍ خبيثة! ولحم الخنزير مَحظور في الأديان الأولى كما هو واضح في تعاليم العهد القديم، وقد أباحه "بُولس" ولا ندري لماذا، مع أن شرائع العهد القديم مُلْزِمة للنصارى.(1/500)
وما أُهِلَّ لغير الله به، وهذا تحريم تعبديٌّ محض، والمقصود قطع دابِر الوثنية وما يَمُتُّ إليها بصِلة. فما ذُبح مقترنًا باسم صنمٍ أو بأيِّ اسمٍ آخر غيرِ اسم الله حرُم أكْلُه، والأصلُ في الذبح أن يكون باسم الله الذي سخَّر وأباح، قال تعالى: (فكُلُوا ممَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليهِ إنْ كُنْتُمْ بآياتِهِ مُؤمنين. ولا تَأْكُلُوا ممَّا لمْ يُذْكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: 118،121) ويرى فريقٌ من الفقهاء أن ذِكْرَ الاسم الكريم مستحَبٌّ وليس فرضًا، فذكرُ الله مُستكِنٌّ في قلب كل مسلم وإنْ لم يَجْرِ على لسانه، وإنما يُوصَف المذبوح بأنه فسق إذا ذُكر عليه غيرُ اسم الله، وقد اعتمد هؤلاء في فهمهم على سُننٍ واردة!
وهنا قضية أخرى: هل ذبائح أهل الكتاب باسم الصليب أو باسم الكنيسة تَندرج في هذا التحريم وتُعَدُّ ممَّا أُهِلَّ لغير الله به؟
يرى ذلك جمهور الفقهاء. ومن رجال المذاهب مَن يَخُصُّ العمومَ هنا بإباحة طعام أهل الكتاب التي قُرِّرت في آية أخرى، وهو استدلال قد يُقبَل، وإن كنت أعاف الأكْلَ من ذبيحةٍ على هذا النحو! ولكني لا أعيبُ الآكلين.
ومِن أنواع المَيْتة المُحرَّمة "المُنْخَنقة": وهي التي شنَقت نفسَها أو شنَقها غيرَها بأن لَفَّ حَبْلَها على عُنقها حتى طاحت.
و"المَوْقُوذة": وهي التي ظلَّت تُضرَب حتى هلَكتْ سواء كان بِعَصًا أو بما أشبه العصا.
و"المُتَرَدِّيَةُ": وهي التي هوَتْ من مكان عالٍ، أو داخلَ حُفرة، ففقدت حياتها.
و"النَّطيحة": وهي التي ماتت في صراعٍ مع حيوان آخر ظلَّ يَنطَحها حتى أهلكها.
"وما أكل السبع": التي عدا عليها وحْشٌ مُفترس فأعطَبها.
فإذا أدرك المرءُ بهيمةً من هذه الخمسة الأخيرة وما تزال بها حياة، فذَبحها حتى سال منها الدم، جاز أكْلُها ما دام قد رأى أن ذَبْحَه هو الذي أجْهَز عليها.(1/501)
أما "ما ذُبح على النُّصُب" فهو من قبيل ما أُهلَّ لغير الله به. والنُّصُب: شاخصٌ يُقيمه الناس لمعنًى يَتواضَعُون عليه، كالنُّصُب التذكاري للشهداء أو للجندي المجهول مثلًا.
والذبْح عند نُصُبٍ قائم أو ضريحٍ يُزار نوْعٌ من الوثنية يأْباه الإسلام وتَحْرُم به الذبيحة.
إنَّ الله الذي خلَق كل شيء هو الذي سخَّر لبني آدم بعض مخلوقاته (وإنَّ لكمْ في الأنعامِ لعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا ولكمْ فيهَا مَنافعُ كثيرةٌ ومِنْهَا تَأْكُلُونَ) (المؤمنون: 21) (اللهُ الذي جعَلَ لكم الأنعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا ومنها تَأْكُلُونَ) (غافر: 79) وللنباتيينَ رأيٌ في ترْك اللحوم كلها، لا تُقرُّهم الأديان عليه، لا أعرف شريعةً سماوية حظَرت ذَبْحَ الحيوان، وما دام الله هو الذي أحلَّ فينبغي التزام الأسلوب الذي قرَّره في الانتفاع بهذه الذبائح ورَفْضُ ما عدَاه.
والمُحرَّمات التي أحصيناها هنا تَكرَّرَ ذكْرُها في أربعة مواضع من القرآن الكريم على طريق القصر والحصر، ممَّا يجعلنا نعُدُّ ما ورد من نَهْيٍ عن أكْلِ غيرها من قبيل الكراهية، وفي ذلك خلاف فقْهيٌّ معروف.
وقد أطال صاحب "المنار" في التعليق على تحريم كل ذي ناب مِن السباع وكل ذي مِخلَب من الطير، واقترَب من مذهب مالك ـ رضي الله عنه ـ ولا نُقحم أنفسنا في هذا الميدان، وإنما نَلفِت النظر إلى أن نبيَّ الإسلام ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد بُعث بتحليل الطيبات وتحريم الخبائث، ونحن نَجزم بأن ما نصَّ الشارع على تحريمه فهو من الخبائث، فما الرأي فيما لم يَتناوله الكتاب بنصٍّ؟
يقول الشيخ محمد رشيد رضا:(1/502)
ما لا نصَّ في الكتاب على حِلِّهِ أو حُرمته قسمان: طيب حلال وخبيث حرام، وهل العِبْرة في التمييز بينهما ذوقُ أصحاب الطباع السليمة أو يعمل كل أُناس بحسب ذوقهم؟ كل من الوجهين مُحتَمل، والموافق لحكمة التحريم الثاني، وهو أنه يَحْرُم على كل أحد أن يأكل ما تَستخبثه نفسُه وتَعَافُه؛ لأنه يضره ولا يصلُح لتغذيته، ولذلك قال بعض الحكماء: ما أكَلْتَه وأنت تشتهيه فقد أكَلْتَه، وما أكَلْتَه وأنت لا تَشتهيه فقد أكَلَكَ.
ونحن نرى أن الاستعانة بعلم "التغذية" وما وصل إليه الأخصائيون في علوم الأحياء مَطلوبة، ولعل ذلك يُميز الخبيث من الطيب. على أننا نرفض كل احتيالٍ على إهمال النص، فإن الإسلام حرَّم الخنزير ـ مثلًا ـ لو ساخَنَهُ وحمَل لحمه لمصادر البلاء! فإذا جاء اليومَ مَن يقول: إنه ربَّى خنازيرَ مُعيَّنة على مراعٍ حَسَنةٍ واتَّخَذ ضماناتٍ لإنقاء لحمها من مصادر العِلل، لم نَقْبل قوله ولم نَستبِحْ الحرام، إن ذلك يُشبه ما تَزعُمه شركات التبغ من أن "الفِلْتر" الذي تضعه في سجائرها يمنع القَطِران من تلويث الرئة. ما أغنانا عن هذا كله، وفي الحلال الكثير المَيْسور ما يُغني عن هذه الحِيَلِ.
ولا يجوز تعذيب الحيوان عند ذبحه، وأفضل طُرُق التذكية ما يُخفِّف على الحيوان خُروجَ رُوحه، وقد رأى فُقهاؤنا القدامَى أن يكون الذبح بقَطع الحُلقومِ والمَرِيءِ والوَدَجَينِ ـ عِرْقانِ على صفحتَي العُنق ـ أو أكثر ذلك، لتتمَّ تنقية البدَن مِن الدم الكائن فيه! يقول صاحب المنار: "إن هذا لَتَحَكُّمٌ في الطبِّ والشرع بغير بيِّنة، ولو كان الأمر كذلك لمَا أُحِلَّ الصيدُ الذي يأتي به الجارحُ ميْتًا"
ثم يقول:(1/503)
"وإني أعتقد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو اطَّلع على طريقةٍ للتذكية أسهَلَ على الحيوان ولا ضرَر فيها كالتذكية بالكهربائية، إن صحَّ هذا الوصف، لفضَّلها على الذبح؛ لأن قاعدة شريعته أنه لا يَحرُمُ على الناس إلا ما فيه ضررٌ لأنفسهم أو لغيرهم من الأحياء".
ولا أعرف الطريقة التي يُومئ إليها الشيخ رشيد! وقد عرفتُ أن مصانع اللحوم البقرية تضرب البهيمة قبل ذبحها ضربةً تُخدِّر أعصابها، ثم تقطع الرأس، وتمضي في تهيئة اللحم لآكليه، قد تكون الصدمة التي تَذهب بإحساس البهيمة ولا تَذهب بحياتها مُشبِهة للمخدِّر الذي يتناوله المريض قبل جراحة يُجريها الأطباء، ولا شيءَ في ذلك بَدَاهةً.
بَيدَ أن أعدادًا مِن الغربيِّين والشرقيِّين يَخنُقون الطيور، أو يُجهِزون على حياتها بوسائل همجية أقسى من الذبح، وإن كانوا يَعيبون الذبح! وذلك ما تأباه الشريعة الإسلامية.
ذلك، وقد عطف القرآن الكريم على الطيبات المُباحة مثل لُحوم الصيد (يَسأَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لهم قُل أُحِلَّ لكم الطيباتُ ومَا علَّمْتُم مِن الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ ممَّا علَّمَكمُ اللهُ فَكُلُوا ممَّا أمْسَكْنَ عليكم واذْكُرُوا اسمَ اللهِ عليهِ) (المائدة: 4)
والصيد كما يكون بالكلاب المُدرَّبة والبُزَاةِ والصُّقور يكون بالأسلحة الفاتكة (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بشيءٍ مِنَ الصيدِ تَنالُه أيْدِيكُمْ ورِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بالغَيْبِ) (المائدة: 94) وفي عصرنا هذا اختفتِ الرماح والسهام لتَحِلَّ محلَّها الأسلحةُ النارية التي تقتل الصيد أو تُصيبه بجِراحٍ مُجْهِدة، وعند إدراكه حيًّا ينبغي أن يُذبَح الذبحَ الشرعيَّ المعهودَ، وإلا فإنَّ موتَه بأيّة أداةٍ مِن أدوات الصيد السابقة يُعتبَر ذكاةً له.(1/504)
وليس الصيدُ مَسْلاةً لطلاب اللهو وهُواة قتل الحيوان، بل هو مَصدر مِن مصادر التغذية التي كان الناس ولا يزالون في بعض البيئات يحتاجون إليها.
والصائد يَذكر اسم الله عندما يُرسل كلبَه أو يُطلق رصاصة، وروى ابن جرير: "إذا أرسَلتَ جَوارحَك فقُل: باسم الله. وإن نَسِيتَ فلا حَرَجَ" أي إن عدم الذِّكر لا يُحرِّم الصيد. وروى البخاري أن قومًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتونَنا باللحم لا ندري؛ ذكَروا اسمَ الله عليه أم لا؟ فقال: "سمُّوا عليه أنتم وكُلوا" قال: وكانوا حَدِيثِي عهد بكُفر.
تابعتُ عن كَثَب النقاشَ الحادَّ الذي دار حول ذبائح أهل الكتاب وغيرهم من الأُمم، وكان الناس يطلبون رأيي فأقول في قلة اكتراثٍ: مَن شاء أكَلَها مهما كانت طريقةُ ذَبْحِها، ومن شاء تَرَكَها واستعاض عنها بما يُحبُّ. وألحَّ عليَّ بعض الإخوة أن أُدْلِيَ برأيي في القضية فلم أرَ بأسًا من نقل وجهات النظر فيها مع تعليقٍ لابد من إثباته.
يقول الشيخ عبد الله بن زيد رئيس المحاكم الشرعية بدولة قطر:
كلُّ ذبيحة من حيوان أو دجاج تُجلَب إلى الناس وهي مجهولة، لا يُعلم مَن ذبَحها ولا كيف ذبحها، فإنها تندرج في عُموم الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنهم قالوا: يا رسول الله، إنَّ قومًا حديثي عهد بجاهلية يأتوننا باللحم، لا ندري ذكَروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سَمُّوا اللهَ أنتم وكلُوا". وقد أباح القرآن ذبائح أهل الكتاب بدون قيْد ولا شرط، وما سكَت القرآن عن تحريمه فهو حلال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ـ تعالى ـ فرض فرائضَ فلا تُضيعوها، وحَدَّ حدودًا فلا تَعتَدُوها وحرَّم أشياء فلا تَنتهكوها، وسكَت عن أشياءَ رحمةً لكم غيرَ نسيان فلا تَبحثوا عنها".(1/505)
قد يُقال: إننا نعلم بيقينٍ أن مِن أهل الكتاب مَن يَذبح باسم الصليب، أو مَن يَخنِق الطيور، أو من يَهوِي بمِثْقَل على أمِّ رأس الحيوان فيقتلُه، فكيف نَطعَم شيئًا من ذلك؟
قلت للسائل: هذا بحث قديم، وقد اختلف الفقهاء فيه؛ فمنهم من أدرَج هذه الصورَ المَحكية تحت عنوان "ما أُهلَّ لغير الله به" أو تحت عنوان "المُنخنِقة" أو تحت عنوان "المَوقوذة" واستثناها مِن ذبائح أهل الكتاب المباحة. ومن الفقهاء من جعلها مِن ذبائح أهل الكتاب المباحة بالنص واستثناها من المُحرَّمات السابقة، وقال: الله أعلم ـ إذ أباح أطعمتهم ـ ما يقولون وما يفعلون. مِن هؤلاء الفقهاء مالك ـ رحمه الله ـ فقد جاء في "المُدوَّنة" أنه سُئل عمَّا ذبحوه للكنيسة أو غيرها فقال: أَكرَهُ ذلك ولا أُحرِّمه! إن الله أباح لنا ذبائحهم وقد عَلِم ما يفعلونه. وقال القاضي ابن العربيّ المالكيّ في كتابه "أحكام القرآن" عند تفسير قوله تعالى: (...أُحِلَّ لكمُ الطيباتُ وطعامُ الذين أُوتُوا الكتابَ حِلٌّ لكم) قال: وسُئلْتُ عن النصرانيِّ يقتل عُنق الدجاجة ثم يَطبُخها؛ هل يجوز أن نأكل معه منها؟ فقلت: نعم كُلُوا منها؛ فإنها طعام أحبارهم ورهبانهم، وإن لم تكن هذه الطريقة ذكاةً عندنا، ولكن الله أباح لنا طعامهم مُطلقًا.(1/506)
الخلاف الفقهيّ قديم كما نرى، والأساس الشرعيّ لكل مذهب قائمٍ؛ مَن شاء تَبِعَ هذا فأكَل ولا حرَج ومَن شاء تَبِعَ هذا فامتَنَع ولا حرَج. ولا أشتغل بمَزيدٍ من عرَض الأدلة المُتقابِلة لا تأييدًا ولا تنفيذًا، فوراءَ هذه القضية أمر آخر يتصل بالسلوك الإسلامي العام أو يتصل بحاضر المسلمين ومُستقبلهم؛ لماذا عجَزوا عن تنميتها وتكثيرها في بلادهم؟ هل تربية الأبقار والدجاج تحتاج إلى أخصائيين في علوم الذَّرَّة؟ وعندما تُصاب قدرات المسلمين بالشلل في مجال الثروة الزراعية والحيوانية فهل يُنتظر لهم تفوُّق أو نجاح في الميادين الأخرى، برًّا وبحرًا وجوًّا؟ إن الحماس في عالَم الجدَل مرضٌ عفِنٌ إذا صحبه بُرُود في عالَم الإنتاج، وقد رأيتُ التديُّن التقليديَّ يَتَّسم بهذه الخاصة المُزعجة، قصورٌ في فهْمٍ أو في عَرْض وِجهات النظر المختلفة، ثم تَراشُقٌ بالتُّهم وتبادُلٌ لسُوء الظن، فإذا تطلَّب الإيمانُ ضرورةَ اكتفاء الأمة بمَواردها واستغنائها عن سِواها تَبخَّرَ الحماس وخلَا الميدان.
لستُ مِن هُواة التغلغُل في الفروع الفقهية، فإن أصول العقيدة والأخلاق والتشريع تَهُمُّني وتستغرق وقتي، وما أنظر في الأمور الفرعية إلا بمِقدار ما أجمع به الشمل وأمنع الفُرقة وأُقصي المُتزمِّتين والمَعلولين عن أماكن الصدارة.
إن حاجة المسلمين إلى القمح لصُنع الرغيف، أو إلى الدواء لعلاج العلل، أو إلى اللحوم ميتةً أو حيةً شيءٌ في نظري يُهدد عقائدهم ذاتها ويجعلهم يعيشون عالةً على أهل الأرض. فهل نُوجِّه قُدرتنا على الكلام والاعتراض إلى عملٍ إيجابيٍّ أم تَبقَى مهمةُ بعض المُتديِّنين الطعنَ في الدواء لأنه ذائب في "الكحول" ورَفْضَ اللحم المستورد لأن ذكاءه مَوْضع رِيبة؟ ثم ينتهي دورهم. إنني أُقدر النِّيَّة الحسنة لكل مَن شارك في هذا البحث، ولكن الطريق لمَّا يُمهَّدْ بعدُ لعملٍ جادٍّ تتحرك به أمةٌ كَسُول!(1/507)
92 ـ هل تُوجد صحوة إسلامية مُعاصرة؟ وما أبعادها؟
لستُ بعيدًا عن هذا الميدان، بل أحسَبني واحدًا من الكادحين في جنَباته، لقد تلقيت العلم على مُجاهدين ذوي صلابةٍ، ثم قمتُ بتعليم شبابٍ سبقونِي سبْقًا بعيدًا في إحراز الرِّضْوان الأعلى؛ لأنهم ماتوا شهداء في سبيل الله.
إنني لمستُ بيدي صحوة الإسلام في هذه الأيام، وصافحتُ بحرارة وحبٍّ رجالًا يُقاتلون عن بقايَا الإسلام في "الفلبِّين" على شواطئ الهادي، ورجالًا آخرين يَحرُسُون مواريثَ الإسلام على شواطئ الأطلس، وبين الشاطئَينِ المُتباعدَينِ قامت مدراسُ تُجاهد بالقلم وكتائبُ تُجاهد بالسلاح، تَذُود الغَزْوَينِ الثقافيَّ والعسكريَّ عن أراضٍ فَيْحَاءَ، نامَ ساسَتُها حِينًا من الدهر فدفعوا ثمن نومهم ذُلًّا فادحًا واستعمارًا فاضحًا.
إن الصحوة الإسلامية حقيقةٌ قائمة، ولكن الإعداد لسَحْقها وتبديدها حقيقةٌ أبرزُ للعين وأرهَبُ للنفس. والمُستشرقون الأوربيون يعرفون طبيعة الإسلام، ويَرصُدون تاريخه القديم والحديث بعَيْنَيْ ذِئبٍ جائع. وتَدبَّرْ قولَ المستشرق الألماني "باول شمتز" في كتابه "الإسلام قوة الغدِ العالمية" الذي صدر من نصف قرن تقريبًا:
"إن انتفاضة العالَم الإسلامي صوتُ نذيرٍ لأُوربا وهُتافٌ يَجُوب آفاقها، يدعوها إلى التجمُّع والتساند لمُواجهة العملاق الذي بدأ يَصْحُو".
ويقول:
"إن قوة القرآن في جمع شمل المسلمين لم يُصِبْها الوهَن! ولم تُفلِحْ الأحداث الكثيرة في زعزعة ثِقتهم به، وإن الروح الإسلامية ما زالت تُسيطر على تفكير القادة وعواطفهم، وستَظلُّ كذلك ما دامت الشعوب الإسلامية قد ربَطت مَصيرها بتعاليم الإسلام واعتقدت أنه الرباط الجامع بين أجناسها المختلفة".(1/508)
إن هذا القول القديم الجديد يَكشف ما وراءه من إعدادٍ لضرب الإسلام غِيلةً أو جهرةً، ويفرض علينا المزيد من الحذَر واليقظة. والحق أن الصحوة الإسلامية المعاصرة تَكتنفها أخطار هائلة، يُشارك في صُنْعها مُبَشِّرون ومُستشرِقون، وساسَة وعَسكريون، وأدباء وإعلاميون، ومَلاحدة وكِتابيون، ومُصارِحون ومُداهِنون، وأُناسٌ غُرَباءُ عنَّا وأُناسٌ مِن جِلدتنا.
ولستُ أخاف أولئك كلَّهم يوم يكون قادة الصحوة الإسلامية مِن مَعدِن إسلاميٍّ صافٍ، يُجدِّدون سِيرة سلفنا الأول فيعملون بعقل مفتوح وقلوبهم تَرْنُو إلى الله وحده.
لقد كادت الدعوة الإسلامية تُعلن إفلاسها منذ قرنين تقريبًا، بل لقد تركت الميدان خاليًا لشتَّى المِلَل والنِّحَل تَنشُر الخُرافة وتُعلِي راية الباطل، ثم بدَت تباشير صُبْح جديد وتيقظت الثقافة الإسلامية من سُبَاتها تُدافع بقوة وتُمهد لغد أفضلَ.
وأُريد أن أقدم للصالحين الجُدُد بعضَ ما أفَدتُ من تجاربَ؛ حتى يتجنبوا النكسات وحتى لا يُقدِّموا أرضَ الإسلام غنيمةً باردة للمُتربِّصين مِن لونٍ.
إنني أشعر بانزعاج حين أرى المجاهدين في قُطْرٍ ما يبدأون العمل من الصفر غير مُنتفِعين بما وقع لزميلتها في القُطر نفسِه من بضع سنين، إنهم يُلدَغون من جحر واحد مرتين أو أكثَرَ دون وَعْيٍ.
ما تقول في مديرٍ يبدأ العمل في شركة مُضطَّرِبة دون أن يدرُسَ أسبابَ الاضطراب ومسالكَ المديرين مِن قبله وأسرارَ فشَلهم أو تَوقُّفهم؟ ألاَ يستحقُّ التأديب؟(1/509)
إن خسائرَ جسيمةً أصابت الدعوة الإسلامية من هذه القيادات الذاهلة. ولا يُقبَل في هذا المجال اعتذارٌ بحُسن النِّيَّة، ولا تنجو الأمم المُسترسِلة وراء هذه القيادات. وإذا كان الجهل بقوانين البشر لا يُنجِّي من اللائمة فإن الجهل بسُنن القدر أسوأُ عُقبَى، ومن هنا رأينا الحسابَ شديدًا للمنهزِمين في أُحد! قيل لهم دون مُوارَبة لمَّا سَألوا عن سِرِّ هزيمتهم: (قُل هُوَ مِن عِنْدِ أنْفُسِكمْ) (آل عمران: 165).
ويُوجد عاملون في الحقل الإسلامي يظنون أنفسهم فوق المُساءلة، لعل ذلك ببركة الوضوء والصلاة. والذي أراه أن القوم يُعانون عِللًا نفسية، وأنه لا بركة هنالك، بل فوضى.
ولْأَترُكْ هذا التعليق العابر إلى أخطاءٍ لها جذور في ماضينا الطويل؛ كان الأدباء قديمًا يَلتزمون السجع في مقالاتهم، ومرَّت بالأدب العربي عصور احْتُبِس فيها داخل هذه القيود اللفظيَّة، والتزامُ السجع يتمُّ على حساب المعنى غالبًا، فلن تجد فكرًا عميقًا ولا أداء مناسبًا سهلًا ولا مُعالجة خصبة ثَرَّةً لمختلف القضايا والموضوعات، بل إن السجعة قد تَخلُق المعنى، ومن الطرائف في هذا أن أحد الوُلاة قال للقاضي: أيها القاضي بقُمْ، قد عزلناك فقُمْ! فقال الرجل المَعزول: والله ما عزَلتَني ولكن عزَلَتْنِي القافية.
ولم يأخذ الأدب العربي طريقه صُعُدًا إلا بعد ما تَخلَّصَ من القافية أو السجع.
ما حدث في ميدان الأدب حدث مثله في ميدان الدِّين، فقد مرَّت بالمسلمين عصورٌ طوال أصبح فيها فقهُ الفروع عمودَ الدين وسنامَه وذِروةَ أمره! أو أصبح البحث في صور العبادات وأشكالها هو الشغلَ الشاغلَ للخاصة والعامة. وتَصوَّرَ الدَّهْماءُ أن إتقان المراسم شارةُ الكمال وسُلَّمُ الارتقاء ووسيلةُ القبول عند الله.(1/510)
وعلم الفقه جزءٌ له مكانته في الثقافة الإسلامية، لكن مكانته تجيء بعد علوم العقيدة والأخلاق. وإتقان مذهبٍ فقهيٍّ في الفروع العملية شيء حسن، ولكن هذا الإتقان لا يُغني قليلًا ولا كثيرًا عن مِهاد الأخلاق والعقائد الذي لابد منه أوَّلًا وآخِرًا.
ربما اختلف الفقهاء؛ أيَقرأ المُصلِّي وراء إمامه أم لا؟ بيد أنهم متفقون على أن الخُشوع روح الصلاة، وأن مَن فقَد هذا الخُشوعَ فقَدَت صلاتُه قيمتها سواء قرَأ أم صمَتَ.
ومع ذلك فقد استَفحَلَ الغُلُوُّ في قيمة أفعال الصلاة استفحالًا مزَّق شمل الأمة، فإذا الصلاة الواحدة تنعقد لها أربع جماعات في الأزهر الشريف ـ واحدةٌ للأحناف وثانيةٌ للشافعية وثالثةٌ للمالكية ورابعةٌ للحنابلة ـ لأن صلاةَ مُقلِّد لا تصلح وراء مُقلِّد آخر! وكان ذلك الانقسام يقع في الحرَم المكيِّ نفسِه، حتى أدرَكَت المسلمين رحمةُ الله ففَضَّت هذه الجماعاتِ كلَّها وصلَّى الكلُّ وراء إمامٍ واحد.
إن توسيع المساحة التي يعمل فيها فقه الفروع تَمّ على حساب تضييق المساحة التي تعمل فيها التربية الدينية، وتتحوَّل فيها العقيدة إلى قُوًى روحية ومَلَكَات نفسية.
وتَصوَّرْ رجلًا مُنِح جنيهًا ليعيش به فاشترى بنصفه مِياهًا غازيّة ومَعدِنية وبالنصف الباقي لديه سُكَّرًا وشايًا، ووجَّه ما بَقيَ بعدئذ للخُبز واللحم والبقول الفواكه... الخ. إن هذا الرجل سيقتله فقرُ الدم يومًا.
وقد لاحظت أن مُصابَنا شديد في الأنشطة العقلية والخُلُقية بسبب هذا العِوَج، وحَسِب كثير من المتدينين أن التشبُّث ببعض المراسم العبادية الثانوية يُغطي هذا التصوُّر! وهيهات. وكنتُ أرجو أن تَنْقَهَ الجماعاتُ الإسلامية من هذا الاعتلال، فساءني أن بعضَها غَرِقَ إلى الأذقان في البحوث الفقهية وما تَشعَّبَ عنها مِن خلاف وما بُنيَ عليها مِن أوهام كبار.(1/511)
إن حُكم تحريم الذهب على النساء كما يرى البعض يُساوي ـ وقد يَرجَحُ ـ تحريرَ أفغانستان مِن الشيوعية! وضبطُ الفُرجة المستحَبّة بين قدَمَي المصلِّي يكاد يبلُغ مجلس الأمن! وتحليلُ الموسيقى يُشبه الكفر أو دونه الكفرُ!
لقد ذكَّرني هذا الخلل الرديء بما كنت أقرأ في كتب التاريخ؛ قال الراوي: دخل فلان على الخليفة وتحدث معه بأغلظ القول، قال: فضَمَمتُ عليَّ ثيابي مَخافة أن يُصيبَني دمُه!
إنني عجبت لهذه المُخالفة، مَصْرَعُ رجل شجاع ويُتْمُ أولاده ليس هو المحذورَ، المحذورُ أن تَبتلَّ ملابس الراوي بدم القتيل! لأن الدم نجِس أم لأن ثمن غَسْله باهظ! إن توارُثَ هذا الفكر سُقوطٌ عقليٌّ وخُلقيٌّ معًا، وأهل هذا الفكر لا يصلُحون لشيء في دنيا الناس.
إنني ميَّال إلى إغلاق باب الاجتهاد في فقه العبادات وإبقاء حق الاختيار، أو ما يُسمَّى بالاجتهاد الانتقائيِّ؛ نأخذ ما تدعو إليه الحاجة ونَدَعُ ما عدَاه من الثروة الطائلة التي آلَتْ إلينا.
والذي يدفعني إلى ذلك أن وُجوهَ الرأي في كثير من القضايا تكاد تستوعب الصور العقلية أو الشيءَ وضدَّه معًا، خُذْ مثلًا إمامةَ المرأة في الصلاة؛ يرفضها فقهاءُ مطلقًا ويُجيزها البعض مطلقًا، ويرى الشافعي جوازَها للنساء خاصة.
ولَمْسُ المرأة؛ ينقُض الوضوء مُطلقًا، ولا ينقُضه بَتَّةً، وقال مالك: النقْضُ وعدَمُه مَقرون بطلب اللذَّة من اللَّامِس.
وإمامة الفاسق؛ ردَّها بعض الفقهاء بإطلاق، وأجازها قومٌ بإطلاق، وفصَّل آخرون متسائلين: هل فِسْقُه بتأويل أم بتبجُّح؟ هل فسقُه قطعي أم ظنِّيّ؟ ومع تغير الجواب يتغير الحكم.
ليت شِعري ما نصنع نحن بعد ذلك إلا المُوازنة والترجيح؟ وإذا انتهى أحدٌ إلى رأي فهل له إلزامُ الآخرين به ومُؤاخذتُهم على تَرْكِه لا؟ وقبل ذلك كله وبعده هل هذه الأحكام تسبق في الترتيب إيحاءاتِ العقيدة ومُقرراتِ الأخلاق وضوابطَ التربية؟(1/512)
لا، إن الذي يَكرَهُ مسلمًا لأنه لا يضع يديه تحت رقبته في الصلاة، أو لأنه يقنُت في الفجر مثَلًا، رجل مُنحرف ضعيف الخُلُق، وإتقانُه للصلاة على النحو الذي يَألَف لا يَمحو عنه هذه الوَصْمةَ، فالخطأُ الفقهيُّ مأجور أما الخطأُ الخُلُقيُّ فهو إثْم، وهذه الأخطاء الخُلُقية من وراء الفتوق الرهيبة التي تسلَّل منها الغزو الاستعماري وفَتَك بنا.
أحسستُ غضبًا شديدًا وأنا أسمع مُفتيًا في إحدى الإذاعات يُجيب عن سؤال وجه إليه: هل يجوز إخراج زكاة الفطر نُقودًا؟ قال المفتي: لا يجوز، ومَن أخرَجَها نقدًا وجَب عليه أن يُعيدَ إخراجَها شعيرًا أو قمحًا. واستتلَى: إن هذا التصرُّف بدعة، ومَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ عليه.
وخُيِّلَ إليَّ من غضب المفتي أنه لو وجَد أبا حنيفة لأمسَكَ بخَنَاقه وأخمَدَ أنفاسَه؛ لأن هذا الإمام يرى إخراج الزكاة مما هو أنفع للفقراء نقدًا كان أم حُبوبًا. وأغلب المسلمين يتَّبع هذا الرأي، فلماذا نُحرِجُهم؟ ولماذا نرى فَهْمَنا هو وحده الدين؟ لِمَ ضِيق الأفُق وقَطْعُ ما أمَر الله به أن يُوصل؟ إن المتنطِّعين في نطاق الأحكام الفقهية المَحدودة يُسيئون أكثر ممَّا يُحسنون!
وحدث في إحدى الكليات أن أقبَلَ العميد على جَمْع من الطلاب كانوا جُلوسًا على بعض مقاعد الحديقة، وخَفَّ الكلُّ إلى استقبال أُستاذهم وُقوفًا، إلا واحدًا ظلَّ على كرسيه لم يتحرك، زاعمًا أن ما فعَلَ هو السُّنّة!
قلت: إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للأوس لما جاء زعيمهم سعد بن معاذ: قُوموا إلى سيِّدكم! والطلاب الذين قاموا مُرَحِّبين بعميدهم أقربُ إلى الفطْرة والسُّنة والأدب من هذا الطالب، وهو يُسيء إلى الإسلام بهذا المسلك.
قال لي أحدُهم: إنه طالب مُحافظ يُربي لحيته!
قلت: تربيةُ اللحية من سُنَن الفطرة، وتربيةُ النفس مِن أركان الإيمان، وماذا عليه لو أحسَنَ الشكْلَ والموضوعَ؟(1/513)
إن الاهتمام بالشكل أول مراحل التقليد، فالطفل عندما يرى أباه وهو يُصلِّي يحفظ حركاتِ جسمه ركوعًا وسجودًا، ويبدأ مُحاكاته فيها. أما مشاعر الخشوع ومعاني الكلمات فهو لا يراها ولا يُحسن تقليدها، لعلَّه يبلغ ذلك مستقبلًا بالدراسة والتجربة والمعاناة.
والأمم الطفلة هي التي تَبرَع في تقليد الشكل وتُفْصِله فصْلًا تامًا عمَّا ارتبَط به من معانٍ، فهي في ميدان الأدب تُحسن السجع والجناس أكثَرَ ممَّا تُعمِّق الفكرة وتُسدِّد النظرة، وهي في ميدان الدين تُضحِّي بوَحدة الأمة في سبيل إخفاء البسملة أو الجهر بها.
وسلفنا الأول كان أرفَعَ كثيرًا جِدًّا من هذا المستوى، ولذلك خدَم رسالته وبلَّغ دعوته.
هل مِن الصحوة الإسلامية أن يُهمل البعض التفوق الصناعيَّ مدنيًّا كان أو عسكريًّا لانشغاله بحُكم الصلاة في النِّعال وجواز دُخول المسجد بها؟ هذا المَسلك إغماءٌ عقليٌّ وهوَسٌ دينيٌّ، ولا يُوصف أبدًا بالخيْرِ.
ثم أيَصنع العقل الغَرْبيُّ السيارة ونَشتريها نحن لنَكتب عليها "عيْن الحَسود فيها عود أو "كايدة الأعداء"؟
إن أيَّة يقظةٍ إنسانية إنما تنهض بدءًا وختامًا على حدَّة العقل وسناء القلب، والإسلام إنما أنهَضَ العَرَبَ وحلَّق بهم في الأوج؛ لأنه أنعَشَ هذه الملَكَات الإنسانية وأطلَقَها تسعى. والصحوة الإسلامية الحاضرة ينبغي أن تترسَّم الخُطا الأولى لا أن تتَّبعَ خُلوفًا ظلَموا دينَهم وأنفسَهم على السواء.
هل نَستقدم خُبراءَ ليُعلمونا نظافة البيوت والمدن؟ هل نستقدم خبراءَ ليعلمونا الهدوء والنظام والسير في الشوارع برَتابة وكِياسة؟ هل نستقدم خبراءَ ليعلمونا أن التزوير في أداء الشهادات وإجراء الانتخابات ضرْبٌ من الوثنية؟ هل نستقدم خبراءَ ليعلمونا كيف ندفع الكفاءات إلى الأمام ونردُّ التافهين إلى الوراء؟(1/514)
إن هناك أبجديات في الفطرة الإسلامية لا ندري لماذا ننساها، ولن تتمَّ صحوة إلا عندما نفتتح بها أولًا.
قال لي صديقٌ عالِم في "الجيولوجيا": إنني قلِق الآن؛ أمامنا عشرات السنين حتى نَطويَ مسافة التخلُّف الحضاري بيننا وبين مَن سبقونا في ميادين الذَّرَّة والفضاء والطاقة وغيرها، ودَعْمُ الحق ميئوسٌ منه بالوسائل البدائية.
قلت: إنني أُومن بعَوْن الله.
ثم استتبعتُ أقول لنفسي ولَكُلِّ مُهتمٍ بأمر دينه: إن العون الأعلى يَظفَر به الصاحُون بين السُّكَارَى! فلْنَجتَهدْ في ترشيد صحوتنا المعاصرة حتى تُؤتيَ جَنَاهَا.(1/515)
93 ـ ما مكانة العمل والعلم في الإسلام؟ وهل هما مَقصوران على العمل العِباديّ والعلْم الدينيّ؟
الإسلام هو الوحْي النازل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليُوجِّه به الحياة إلى ربها، ويهديَ الناس كافَّة إلى الصراط المستقيم، أي أنه حقائقُ مُقرَّرة أولًا ثم أساليبُ مُتجددة في البلاغ والعرْض والحِماية والدفاع.
لنفرضْ أن صاحب فلسفةٍ ما اقتنَع بأن ما لدَيْه ينفع العالَم، إنه ابتداءً يشرح ما عنده ويُطبقه في ذات نفسه، ثم يَنتقل إلى تفهيم الآخرين بكل وسائل الفهْم، ويحتاط ضد المُعتدين والمُعوِّقين بكل أسباب المقاومة.
وقد مضى الإسلام على هذا النهج منذ بدأ مسيرته، أو منذ استمع نبيُّه إلى صوت الوحْي (اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ. خَلَقَ الإنسانَ مِن عَلَقٍ. اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ. الذِي عَلَّمَ بالقَلَمِ. عَلَّمَ الإنْسانَ مَا لمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1ـ5).
إن العلم هنا مِن شقين: علْمٌ بحقائق الوحْي، وعلْمٌ بطُرق غرْسِه وذَوْدِ الأذى عنه.
في الفلسفات المادية المُعتادة يسير العِلمانِ معًا سيرًا لا يتَّسمُ بأي تناقض، فالشيوعية تُسوِّي بين رجل الإعلام الذي يعرض مبادئها في الصحف المحلية والهيئات الدولية، وبين رجل الفضاء الذي يستكشف الكوْن، ويستخدم الأقمار الصناعية في الكَرِّ والفَرِّ والظفَر في حرب الكواكب! كِلا الرجلين يؤدي واجبه نحو مَبدئه، وكلا العِلْمينِ يعمل للآخر ويُعانقه.
إننا نضرب هذا المَثَلَ ليَعْلَمَ السُّذَّجُ مِن المسلمين أن تالِيَ القرآن الكريم في الإذاعة يَعرض نوعًا مِن المعرفة الدينية، وأن الذي يُشرف على توجيه صاروخ في الفضاء كي يُدافع عن هذه المعرفة لا يقلُّ مكانة عن القارئ المُرتِّل، وقد يكون ـ بصدْق نِيَّتِهِ ـ أولَى بالله منه!
إنه هو الآخر يُمثل علْمًا لابدَّ منه، ما يحيَا العلم الأول إلا به، فالإيمانُ أُسٌّ والجهاد حارس.(1/516)
والواقع أن الثقافة الإسلامية منذ نشأتها تشعَّبت أصولها وفُروعها، وتشعب العمل الذي يقوم به المسلمون فُرادَى وجماعاتٍ، وليس في تاريخ هذه الثقافة علْم دينيّ بعيد عن الحياة، وعلْم مدنيّ بعيد عن الدين، ولم يقع انقسام العلم إلى دينيٍّ ومدنيٍّ إلا في عصور السقوط والاضْمحلال.
وبَدَهيٌّ أن تكون علوم الشريعة أول مظاهر الحركة العلمية في الإسلام، فنشأت علوم القرآن والسُّنة والأخلاق والتربية، ولا يَجرؤ أحد على إنكار ما في القرآن الكريم والسُّنة المُطهرة من خُصوبة فكرية ومنابع غزيرة للفكر والوجدان والسلوك، إنهما مِهادٌ جليل لحضارة إنسانية ذكية رحْبة.
ثم صاحَب ذلك ميلادُ العلوم العربية؛ من نحْوٍ وصرْف ومعانٍ وبيانٍ وبديعٍ، وازدهر الأدب والبحث في فلسفة اللغة وأسرار البلاغة، وأُلِّفَتْ القواميس، وأصبحت الدراسات الأدبية واللغوية جزءًا أصيلًا من عمل المعاهد الدينية.
ونشطت الدراسة الفلسفية التي تحولت في عصرنا إلى علوم إنسانية، فلم تَبْقَ في أرض الله أثَارةٌ من معرفة إلا استقدَمها العرب وتوفَّرُوا على فَهْمِها وتقويم مَسارها.
ومع نُضج الفكر الإسلاميّ ظهرت علوم الكون والحياة مُستهدية بمنطق الملاحظة والتجربة ـ وهو منطق قرآنيّ المَنْبَت ـ فكانت علومُ الرياضة من حساب وجبر، وعلومُ الطبيعة والكيمياء والفلك.
ويكاد المُنصفون من مُؤرخي الحضارة يُجمِعون على أن المسلمين هم أُولو الفضل على النهضة الأوربية، وأنهم السبب المباشر في عصر الإحياء.
وقد كان مِن وراء الانتصارات العسكرية الإسلامية ـ إلى ما قبل بضعة قرون ـ تفوُّقٌ علميّ وصناعيّ، هو الذي أعان على فتح "القسطنطينية" وحصار "فِيينَّا" ووقف الزحف الصليبيّ.(1/517)
ويرى المُحقِّقون أن الحرب التي نشَبَت بين العلم والدين في أوربا، قد أشعلتها الكنيسة عن عمدٍ؛ لأنها رأت أن الاتجاه العلميّ المبتكِر الناشط هو أثر الزحف الإسلاميّ الناجح، وأن العلماء الباحثين هم طابور خامس للجهاد الإسلاميّ القديم.
بيد أن هذا كله تلاشَى مع خُمول المسلمين الأخير، وانطفاء جَذْوتهم، وانتشار الجهل العام في رُبوعهم، وفهم كثير منهم أن العلم لا يتجاوز دراسة الوضوء والصلاة والمواريث! وأن ما وراء ذلك من أدب وفنٍّ وكشْفٍ وذكاءٍ نوعٌ من الفُضول.
وقد دفعوا ثمن ذلك الخطأ سوادًا صبَغ الوجوه وأخزَى النفوس، وجعل بلادهم بين الأطلسيّ والهادي مَسْرحًا لاستعمارٍ أنانيٍّ ظَلُوم، أكل دِينَهم ودُنياهم على سواء.
ومن الغرائب أن بعض الفِتية المُشتغلين بالدِّين لا يزالون صرْعَى هذا الغلط الفاحش، وأن المُنتسبين منهم إلى كليات عملية أو مدنية يَصْدِفُون عن الدراسات المكتوبة عليهم ويَقولون: ندرس علوم الدين.
وَيْحَكُمْ! وهل يقوم الدين إلا بالعلوم التي فيها تَزهَدون! وكما لا يقوم إلا بها، فهو ما يحسن فهْمُه إلا في ضَوْئها.
من هؤلاء الفتية مَن أمضى عدة سنوات في كليات الهندسة أو التجارة أو غيرها، ورأى أن يُضحيَ بالسنوات التي قضاها ويلتحق بإحدى الجماعات الإسلامية!
وأقتطف هذه الفقرات من رسالة كتبها لي أحدهم يقول فيها:
"يُؤلمني ألَمًا شديدًا ويعتصر قلبي حزنًا تعدُّدُ الأهواء وإعجابُ كل ذي رأيٍ برأيه! وقد دعوت الله أن يُلهمني الحق ويَهديَني الطريق القويم ويُوفقني إلى الالتحاق بالجامعة الإسلامية، فقد علمت مِن قراءتي للإمام الشافعي أن العلم ما كان قال حدثنا وأخبرنا وغيرُ ذلك وساوسُ شياطين! ولذلك فإني أرغب في التعلُّم الدينيّ المنهجيّ! واللهُ يُوفقك لمُساعدتي".
وقد رق قلبي لصاحب الرسالة، وحاولت إلحاقه بكلية الشريعة في دولة قطر ولكن التعليمات القانونية لم تسمح!(1/518)
ولابد مِن وعي الكلمة المنسوبة للإمام الشافعيّ ـ إن صحَّت ـ فالمراد منها أن شئون العبادات لا مجال فيها للآراء الشخصية، وإنما تُؤخذ العبادات من النُّقول الثابتة عن المَعصوم،
وقضايا العبادات قطرة من بحر في سلوك المسلمين وشئونهم العلمية، ولا دخل للروايات في موضوعات العلوم الأخرى.
وقد تأملت في سيرة نَفَرٍ من خريجي الجامعات الإسلامية فكِدتُ أيْأسُ من جَدواها، هذا رجل يحمل حملة شعواء على الأضرحة، قال لي أحد مُستمعيه: لكن لا تُوجد في هذا البلد أضرحة! قلت: كلامٌ سمعه لا يعرف غيره فأفْرَغَه بيننا!
وفي افتتاح مسجدٍ بباريس، وفي أثناء التقاط صورٍ تذكارية للحفل قام واحد من هؤلاء في حالة تَشنُّج، يذكر أن التصوير الشمسي حرامٌ! فقال له أحد الحضور: ذلك رأيك! وما أكثَرَ الفقهاءَ الذين يُخالفونك، إنك تُوقف سير الدعوة الإسلامية في باريس بهذا التعصُّب الضيِّق لرأْيٍ ما، فهل تريد التضحية بالدِّين كله من أجل وِجهة نظر لك أو لأناس قاصرينَ خلْفَك!
قلت في نفسي: ما أتعَسَ حظَّ الإسلام إذا كان المُتحدثون باسمه لا يعرفون العلمَ الخادمَ له أو المُبِينَ عنه إلا بعضَ المَرويات وبعضَ الأفهام.
عندما عرض عِفريت من الجنِّ على سليمان أن يأتيَه بعَرش بَلقِيسَ من اليمن إلى فلسطين قبل أن يقوم من مقامه (قال الذي عنده علْمٌ مِنَ الكتابِ أنَا آتِيكَ بهِ قبلَ أنْ يَرْتَدَّ إليكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رآهُ مُسْتَقِرًّا عندَهُ قالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبِّي) (النمل: 40).
ما أحوَجَ المسلمين إلى رجالٍ أُوتُوا علْمَ هذا الكتاب! أم أن هؤلاء الرجال خشُوا سُوء الاستقبال عندنا فحَطُّوا رحالهم في أوربا وأمريكا!(1/519)
ليس للعلم ولا للعمل صورة واحدة صالحة أو ميدان واحد مقبول، فإن اللهَ أمر المسلمين أن يفعلوا الخير (وافْعَلُوا الخَيْرَ لعلَّكمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: 77) وكلَّفَهم مع فِعْلِه أن يَدْعُوا الآخرين إليه (ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ) (آل عمران: 104) فهل للخير المَطلوب شكلٌ واحد لا يُرى إلا في الصلاة والصيام!
إن صُنوف الشرِّ لا تُحصَى وصنوف الخير لا تُحصَى! وما يحشُده البشَر لتحصيل الخير أو الشرِّ لا يُحصَى، وللوسائل حُكمُ الغايات.
والحق أن العمل الصالح ـ الذي هو صِنْوُ الإيمان ـ هو كل سلوكٍ يُترجَم عن نيَّة حسنة وغاية شريفة، وقد يكون فِلاحة أو صناعة أو إدارة، وقد يكون سَفرًا أو إقامة، وقد يكون قِتالًا أو سَلامًا، إنه مسلك غير مَحدود لباعث واحد هو حبُّ الخير وطلَبُ الإصلاح (فمَن آمَنَ وأَصْلَحَ فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُونَ. والذينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذابُ بمَا كانُوا يَفْسُقُونَ) (الأنعام: 48ـ49).
وقد سمَّى القرآن الكريم تَجويد الصناعات الحربية ـ لدعم الحق بداهةً ـ سماها عملًا صالحًا، فقال عن نبي الله داود: (وأَلَنَّا لهُ الحديدَ أنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وقَدِّرْ في السَّرْدِ واعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (سبأ: 11).
وجعل كل تعَبٍ يُعانيه المجاهدون وكلَّ بذْلٍ يتكلَّفونه عملًا صالحًا (ذلكَ بأنَّهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سبيلِ اللهِ ولا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ ولا يَنالونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلًا إلا كُتِبَ لهمْ بهِ عملٌ صالحٌ إنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ) (التوبة: 120).
وما يذكره القرآن الكريم ليس إلا نماذجَ وأمثلةً، ولقد اعتبَر الرسول الصِّلةَ الجنسية بين الرجل وامرأته عمَلًا صالحًا يُثاب عليه؛ لأنها حصانة من الإثم ووِقاية مِن الشرود.(1/520)
إن كل علم تَسمو به الإنسانية، وكل عمل تَزْكُو به هو من صميمِ الدين، تَرجَح به الموازين وترتفع به الدرجات في الدنيا والآخرة.(1/521)
94 ـ لماذا لم يُحرِّم الإسلام الرِّقَّ كما حرَّم الخمر والربا؟ وما موقفه الحقيقيّ من هذه القضية؟ وهل يجوز للمسلمين في حُروبهم مع أعدائهم أن يَعُدُّوا أسْرَى الحرب رقيقًا؟
في مطالع البعثة المحمدية كان الرقيق واقعًا غير مُؤلِم ولا مستغرَب ولا منكور، وكانت جماهير الأرقَّاء تَزحَم المشارق والمغارب، لا يَأْبَهُ لهم أحدٌ ولا يفكر في إنقاذهم مُصْلِح.
في أرجاء الدولة الرومانية النصرانية كان العبيد يَخدمون في صمت، وربما قُدِّم بعضهم طعامًا للوحوش في بعض المناسبات، وكان اليهود ـ وَفْقَ تعاليم التوراة ـ يُنظمون أساليب الاسترقاق للعِبرانيين وغير العبرانيين.
ولم الأسَى على الرقيق وحدهم؟ إن المَنبوذين في القارة الهندية كانوا أنجاسًا لا تُعرَف لهم حُرمة، ولقد وقع ابنٌ لامرأةٍ بِرَهْمِيّةٍ في بئر، وكان أحد المنبوذين يستطيع إنقاذه لو أذنت أُمه، لكن الأم فضَّلت أن يموت ولَدُها ولا يعيش بعد ما لَمَسه مَنْبوذ!
وجاء في الكتاب المُقدس أن طعام النبيِّين لا يُعطَى للكلاب، والنبيُّون هم بنو إسرائيل، والكلاب هم الكنعانيون الذين كانوا يَسكنون فلسطين قديمًا.(1/522)
في هذا الجو القابِض الظَّلُوم كانت الإنسانية تعيش، ما أنصَفَتها فلسفة اليونان التي تُقرُّ الاسترقاق بعقلها المُفكر! ولا أنصَفَتها مَواريثُ التديُّن التي احتضنها الكهنة وأظلَمَت بها الأرض، حتى تكلَّم محمد، وأصاخ الناس إلى ما جاء به، فإذا هم يسمعون أن البشر كلهم إخوة بينهم نسَبٌ واحدٌ، وتَسري في أوصالهم نفخة مِن روح الله، وأنهم سواسيةٌ في الحقوق والواجبات، وأنهم خُلقوا ليَتعارفوا ويَتحابُّوا (يا أيُّها الناسُ إنَّا خلَقْناكُمْ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعلناكم شُعوبًا وقَبائلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13) وسمع الناس للمرة الأولى في تاريخهم أن المُسترَقِّينَ يجب أن تُفَكَّ قيودُهم وتُعتقَ رِقابُهم، وأن العانِينَ ينبغي أن يُحرَّروا من الذُّلِّ والجُوع والهوان، وأن العقبات دون هذا كله لابد مِن اقتحامها لمَن يريد رضوان الله (فلا اقْتَحَمَ العَقبةَ. ومَا أدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أو إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد: 11ـ16) وعلى المؤمنين أن يَتجرَّدوا لأداء هذا الواجب، فلا يُحرِّروا الأسرى ليَجعلوهم أتباعًا أو عبيدَ إحسانٍ بعد ما كانوا عبيدَ سطوةٍ، كلاّ، إنهم كما قال تعالى: (ويُطْعِمُونَ الطعامَ علَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا. إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكورًا) (الإنسان: 8 ـ 9).
ولمَّا جاء دور التشريع لنقل هذه المبادئ إلى قوانينَ مُلزِمةٍ نظَر الإسلام إلى مصادر الرِّقِّ فألغاها كلها على النحو الآتي:(1/523)
كان الرُّومانيون ومِن قبلِهم العبرانيون يَحكمون بالعُبودية على مُقْترفِي بعض الجرائم، ومِن هذه الجرائم عند الرومان عجْزُ المُعْسِر عن الوفاء بالدَّيْنِ، وقد رفض الإسلام هذه النظرة رفضًا حاسِمًا، ولم يَسترِقَّ في أية مُخالَفة، بل رصَد من الزكاة المفروضة سهْمًا لازمًا لسداد دُيون المُعسرين، قال تعالى: (وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وأن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لكمْ إن كُنتم تَعلَمُونَ) (البقرة: 280).
وكان الخطف إلى القرن الماضي مَصدرًا هائلًا للاستعباد، وقد ظلَّ الأوربيون يَصطادون البشر بِضْعةَ قرون مِن غرب أفريقية، في ظروف تكتنفها الوحشية المُطلقة، وتمَّ خطفُ عشرات الملايين وهلاكُ مِثْلهم في أثناء الغَارات التي كان يقوم بها قَراصِنتُهم، وأبَى الإسلام إباءً شديدًا خطْفَ الأحرار، وهدَم كل ما انبنَى على هذا الخطف من آثار، وجاء في الحديث القُدسيّ عن ربِّ العزة: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خَصْمُهم يوم القيامة، ومَن كنتُ خَصْمَه خصَمْتُهُ "غلَبْتُهُ" رجلٌ أعطَى بي ثم غدَر، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يُعطِهِ الأجْرَ".
والمصدر الثالث للاسترقاق ـ وهو مصدر خطير ـ أسْرَى الحروب، إن أولئك المنكودِين الخزايا كانوا يُواجهون مُستقبلًا غامِضًا، وقد يكون الاسترقاق أهوَنَ ما يتوقعون. وفي الحرب العالمية الثانية لم تُعرَف مصائر الألوف المُؤلَّفة من أسرَى الروس لدَى الألمان أو أسرى الألمان لدَى الفرنسيين. فإن كان ذلك ما وقع أيام التحضُّر والارتقاء فما ظنُّك بما كان يقع قديمًا؟(1/524)
على أيةِ حالٍ فإن الإسلام في أول حرب خاضها خرج على الدنيا بمبادئَ أزكَى وأرَقَّ في معاملة الأسرى، فنزل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأسرى بعد معركة بدر: (يا أيُّها النبيُّ قُل لِمَن في أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إن يَعْلَمِ اللهُ في قُلوبِكمْ خَيْرًا يُؤتِكُمْ خَيْرًا ممَّا أُخِذَ مِنكم ويَغفرْ لكم واللهُ غفورٌ رحيمٌ. وإن يُريدُوا خِيانَتَكَ فقد خَانُوا اللهَ مِن قبلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُم) (الأنفال: 70،71) والخيانة التي تُشير إليها الآية موقفُ المشركين مِن قضية الحريات الدينية والإنسانية كلها، فقد كان مَوقفًا غبيًّا مُتعنتًا مَليئًا بالكبرياء والقسوة، أكان هذا موقف عَبَدَةِ الأوثان وحدهم؟
كلَّا، فإن أهل الكتاب كانوا أخَسَّ وأظلَمَ، يقول الله تعالى: (ولَئِنْ أَتَيْتَ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بكُلِّ آيةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) (البقرة: 145).
لِيَكُنْ، فليس لأحدٍ أن يُرغِمَهم على اتِّباع. لكنهم لم يَكتفوا بهذا، بل لجأوا إلى صَدِّ الأتباع وفِتنةِ الضعفاء وقيلَ لهم: (قُل يا أهلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللهِ مَن آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وأنتم شُهدَاءُ ومَا اللهُ بِغَافِلٍ عمَّا تَعْملُونَ) (آل عمران: 99).
ولو أن الكُرْهَ للإسلامِ كان عواطفَ فَرْدٍ أحمقَ أو سلوكَ نَفَرٍ مُتَعَصِّبِينَ لَهَانَ الخطْبُ، لقد تحوَّل إلى حرب ساخنة يَصْلاَها دِينٌ عَدَّهُ خُصومُه خارجًا على القانون ولم يَرَوا الاعترافَ به أبدًا،
ولْننظُرْ إلى صدرِ تاريخنا القديم ولْنَتساءلْ:
متى اعترفت الأديان الأخرى بحقِّ الحياة للإسلام وحقِّ أتباعه في إقامة مُجتمع له؟
لا مَجوسُ فارس، ولا يهودُ المستعمرات المُقاومة في جزيرة العرب، ولا الرومانُ الذين اعتنقوا النصرانية ليَجعلوا منها ذريعةَ استعمارٍ أسودَ أكَلَ الشامَ ومصرَ وغيرَهما طول خمسة قرون.(1/525)
ومع ما أَحَسَّهُ سلفُنا مِن وحشيةٍ ونكير فقد خاضوا ضدَّ أعدائهم حربًا عادلة، وأمَروا بكَسْرِ شوكتهم ومَحْق كِبْرِهم، حتى إذا قلَّموا أظفارهم وأذلُّوا طُغيانهم قيل لهم: لكم أن تَمُنُّوا على الأسرى والمُنهزمين (فإذا لَقِيتُمُ الذينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حتَّى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بعدُ وإمَّا فِداءً حتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها) (محمد:4).
وقد يَفزع البعض لكلمة (ضَرْبَ الرِّقَابِ) بيد أن فزَعه هذا يذهب عندما يَعلم أن عربيًّا من أذناب الروم ومِن وُلاتهم شمال الجزيرة قبَض على المسلم الذي جاء برسالة من لدَى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو فيها إلى الإسلام وقال له: أنت حامِلُ رسالةِ محمد؟ قال: نعم. فأمر بضَرْبِ عُنِقِهِ!
كان حمْلُ كتابٍ رقيق العبارة مَقبولِ العرض جريمةً تُعالَج بالقتل السريع!
بِمَ يُعامَل هؤلاء الأذناب من سماسرة الاستعمار الرومانيّ المُتعصِّب!
إنها الحرب ولا شيءَ غيرها.
ثم قيل بعد ذلك للمُقاتلين المسلمين: (فإذا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وإمَّا فِدَاءً حتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَها) المَنُّ أو الفداء! ليس هناك تصريحٌ في الآية باسترقاق أحدٍ، لم يَعُدِ الأسرُ مَنْبَعًا دائمًا لأسواق الرقيق كما كان ذلك مَعهودًا في القرون الأولى.
وهنا نبحث: كيف يتمُّ تنفيذ هذا المبدأ؟
هل يُطلِق المسلمون سراح الأسرى دون قيدٍ أو شرط ليَعودوا إلى مُقاتلتهم مرة أخرى؟
هل يتمُّ هذا التحرير في الوقت الذي يُباع أبناؤهم فيه هنا وهناك؟
إن مُعاملة الأسرى ليست تشريعًا مَحَلِّيًّا يصدر مِن جانبٍ واحد، إنه تشريع تلتزم به أطراف مُتشابكةُ المصالح، مُتعاونةٌ على احترام قيَمٍ مُعينة.
هل يجد المسلمون هذه المعانيَ عند خُصومهم؟(1/526)
كلَّا، فإن هؤلاء الخُصوم مِن عَبَدَةِ الأصنام أو مِن أتباع الكتب الأولى لا يُقِرُّون للمسلمين بحقِّ الوُجود، فكيف يَسمحون لهم بحقِّ البقاء وحرية التديُّن!
وعندما يُوجد تفهُّمٌ دوليٌّ على "المَنِّ أو الفداء" فنحن أولُ مَن يُهرَع إلى الإسهام فيه وإنفاذ عهوده، إن مبدأ المعاملة بالمِثْل له أثره العميق في العلاقات والمعاملات الدولية، وقد قلنا: إن الأمريكيين لو عَرفوا أن اليابان تَملِك رادعًا نوويًّا ما فجَّروا قنابلهم الذرية فوق "هُيروشيما وناجازاكي"!
وإلى أن يتمَّ تفاهُمٌ عالميّ على أسلوب إنسانيّ في مُعاملة الأسرى انفرد الإسلام بتعاليم تحْنُو على أولئك المَنكوبين، وتُذَكِّرُ بالأُخُوَّةِ الإنسانية، وتُوصي بالرحمة، وتُعاقب على الغِلْظة، أو بعبارة مُوجزة: جفَّف منابع الرِّقِّ جَهْدَ الطاقة، ونوَّع أسباب التحرُّر والانطلاق! فليس هناك أمرٌ باسترقاقٍ، وإنما هناك أوامرُ بالإعتاق، وقد بسطنا ذلك كله في مَوطن آخر (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة).
قال لي شخصٌ مِن المُتأثرين بالاستعمار الثقافيّ: إن الحضارة الحديثة هي التي حرَّرت النساء والأرقَّاء، ولا ريب أنها انساقت إلى ذلك مِن مَواريثها الدينية!
قلت له: إن الحضارة الحديثة مكَّنت ناسًا لهم فِطرة سليمة مِن خدمة البشرية، مثل "إبراهام لنكولن" الذي قاد حربًا شديدة لتحرير العبيد، وقد لَقِيَ الرجل مصرعه بعد هذا البلاء، كما لَقِيَ غاندي مصرعه على يدِ هنديٍّ مُتعصب لدِينه!
وأصحاب الفطرة السليمة الذين جاهَدوا في سبيل هذه الغايات النبيلة كانوا يَستوحُون ضَمائرهم وحدها، أين تجد المَواريث الدينية في تحرير النساء عندما تقرأ رسالة "بولس الأول" إلى أهل "كورنتوسي" الإصحاح الرابع عشر فقرة 24 وما بعدها:(1/527)
"لِتَصْمُتْ نِساؤُكم في الكنائس؛ لأنه ليس مأذونًا لهنَّ أن يَتكلَّمْنَ، بل يَخْضَعْنَ! كما يقول الناموس أيضًا، ولكن إن كُنَّ يُرِدْنَ أن يتعلَّمْنَ شيئًا فيَسألْنَ رجالهُنَّ في البيت؛ لأنه قبيح بالنساء أن يتكلَّمنَ في كنيسة"؟
وأين تجِد المواريث الدينية في تحرير الأرِقَّاء عندما تقرأ رسالة بولس إلى أهل "أفسس":
"أيها العبيد، أطِيعُوا سادتَكم حَسَبَ الجسد بخَوْفٍ ورِعْدة! في بساطة قُلوبكم كما للمَسيح، ولا بخدمة العين كما يَرضَى الناس، بل كعبيد المسيح... الخ"؟ (على هذا النصِّ وغيره استقرَّ الرِّقُّ في الغرب، وقتَل أحدُ المتدينين المُتعصبين له "لنكولن" مُحرر العبيد).
إن رجالًا مِن أصحاب القلوب الكبيرة هم الذين جاهَدوا بشرف لتكسير القيود التي أنشأها التظالُم البشريّ على مرِّ العصور، والحقيقة أنه لا دِينَ إذا طُمسَت الفطرة وطَغَتِ الأثَرَة!
وللإسلام علامة مُميِّزة يُعرف بها ويَلفت كلَّ امرئ إليها، تبدو في قوله تعالى: (فأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ التِي فَطَرَ الناسَ علَيْهَا لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30) ومِن هنا حكمنا بأن التقاليد التي يتعارف الناس عليها يجب نَبْذُها إذا خالَفَت الفطرة! ويستحيل أن تكون هذه التقاليد دِينًا وإن استَمسَك بها بعض الكُهّان!(1/528)
95 ـ ما موقف الإسلام من الحضارة المُعاصرة؟ وهل يُمكن القول بأن للإسلام حضارةً خاصَّةً يدعو إليها؟
هناك جوانب في الحضارة الحديثة جَديرة بالاحترام كلِّه، بل أعتقد أنها امتداد أو انطلاق مِن الفكر المُتحرِّر الراشد الباحث عن الحق، الحفِيِّ بالمعرفة، المُستغِلِّ لأثمن مواهب الإنسان.
إن الوصول إلى اليقين في قضية حِسيَّة أو عقلية ليس شيئًا رخيصًا، إنه ثمرة غالية لأعلى مَواهب البشر، بل هو الاستجابة الوحيدة لقوله تعالى: (ولا تَقْفُ ما ليسَ لكَ بهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36) وهو كذلك البُعد المطلوب عن نهج المُنحرفين والوَاهين والقَاصرين الذين قِيل فيهم: (إن يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28).
والحضارة الحديثة نجحت في ميدان البحث الماديّ وتعمقت في الدراسات الكونية كلها، وهذا النجاح ـ في رأيي ـ يَجعلها أقرَبَ إلى منطق القرآن الكريم وأدنَى إلى منهجه، فإن التفكير في الكون، أرضه وسمائه وما بينهما، مَطلبٌ إلهيٌّ لا ريب فيه.
والمسلمون يَحملون أوزار التخلُّف في هذا المجال، وقد دفعوا ثمنه فادِحًا، وأرى أنه من عصيان الله والفسوق عن أمره الانشغالَ بالجدَل العقيم، وفلسفةِ ما وراء المادة، وتشقيق الخلاف وتكثيرِه في شئونٍ يَستوي فيها العلم والجهل.
إن الحضارة الحديثة اكتشفت كثيرًا من قُوَى الكون وأسراره، ولها الآن حصيلةٌ كبيرة في علوم الذَّرَّة والفضاء و"الإلكترونيات" و"الكمبيوتر" وقد نَقَلَت آثارَ ذلك إلى تفوُّقٍ مَدنيٍّ وعسكريٍّ في البرِّ والبحر والجو.(1/529)
ومع هذا السبق البعيد فإن الحضارة الحديثة لا تَزال واقفةً عند العصر الحجريّ في ضبط الغرائز، وترويضِ الحيوان الرابض داخل الجسم البشريّ، وكَبْحِ الأثَرَة المَسعورة، وجَعْلِ المرءِ يُحبُّ غيرَه ويَغار على حُقوقه، أو على الأقلِّ يَعْدِل مع غيره ويَعترف له بحقوقه طوعًا لا كَرْهًا!
وقبل ذلك فَشِلَتْ هذه الحضارة في التعرُّف على ربِّ العالَمين، وتأسيس علاقة صحيحة معه تقوم على توقيره، وتقدير نِعمته، والشعور بعَظمته، والتسبيح بحمده، والتعويل عليه في الأزمات، والاطمئنان إليه في المَخاوف.
إن الإنسان مهما قَوِيَ بالعلم لن يكون إلَهًا، وسَيبقَى ما عاشَ فقيرًا إلى سيده، لا يُحِسُّ طُمأنينةً إلا في السجود بين يديه واستلهامِه الرُّشْدَ.
لكن مِن أين تَطَرَّقَ الخلَل إلى هذه الحضارة حتى إنه ليُهَدِّدُ مُستقبلها؟
قد يكون الجواب: مِن غُرور الماديِّين بما وصَلوا إليه، واستهانتِهم بما قَصَّرُوا فيه. والغرورُ بالعلم داءٌ قديم، وقد حدَّثنا القرآن الكريم أن أُمَمًا عمَّرت هذه الأرض قبلنا، وأقامت بها مَدنيَّاتٍ فخمةً، وأنها انتَشَت بما تيَسَّر لها مِن لذَّة وسَخِرَت مما قُدِّم لها مِن نُصْحٍ، فماذا كانت عُقباها؟ (فلَمَّا جاءَتْهُم رُسُلُهُم بالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بما عندَهم مِنَ العِلْمِ وحَاقَ بِهِم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (غافر: 83).
والاعتزاز بالتقدم العلميّ مرضٌ مَخُوفٌ، بَيْدَ أني لا أردُّ إليه وحده عِوَجَ هذه الحضارة! السبب الأول ناشئٌ ـ فيما أرى ـ مِن خيانة أهل الأديان لرسالات الله، فالاسترخاء العقليّ السيئ عند المسلمين والغِشُّ الممجوج عند إخوانهم أهل الكتاب مِن وراء هذا البلاء!
أهل الكتاب قدَّموا مِن عند أنفسهم تعاليمَ نسبوها إلى الله، ضاقَ بهم العقل وتبرَّحت بها الفطرة، فلما نَشِبَ العِرَاك بين العلم والدين، كانت النتائج المعروفة: ألْحَدَ العلمُ وساءَ ظنُّه بالوحي كله،(1/530)
وأما المسلمون فقد أوغَلُوا في البعد عن دينهم حتى أمْسَوا في وادٍ ودِينُهم في وادٍ آخر!
التفكير الذي هو فريضةٌ عليهم حسَب وصية الكِتابِ تحوَّل إلى تقليدٍ وجُمود، وإذا عرَضَ له نشاطٌ ففي ما وراء المادة لا في المادة نفسها، كما شَكَوْنَا مِرارًا. ومفاخر الحياة الإسلامية تلاشَتْ، فإذا قال شوقي:
فالدِّينُ يُسْرٌ والخِلافَةُ بَيْعَةٌ والأَمْرُ شُورَى والحُقُوقُ قَضَاءُ!
وجدتُ التاريخَ في أعصُرٍ شتى يُؤكد أن الأمرَ استبدادٌ، والخلافةَ اغتصابٌ، ويُسْرَ الشريعة رياءٌ وتعقيد، والحقوقَ دعاوَى "مِن النَّابِ والظُّفُرِ برهانُها"!
على حين ظهرت الحضارة الحديثة بأساليبَ ثقافيةٍ وإداريةٍ أدنَى إلى الفطرة والشورى والاختيار الحرِّ، وإن شابَها ما لابَسَها مِن هوًى جامعٍ وإسرافٍ كثير.
وصلاح الحياة لا يتمُّ بهدم الباطل لأن الباطل جدير بالزوال! كلَّا، لابد أن يكون الحقُّ تامَّ الاستعداد ليحلَّ محلَّه، ويُؤدِّيَ عملَه بقُدرةٍ أعظَمَ وأشرَفَ.
وأعترف بأن المسلمين لم يَستكملوا هذه الخصائص ولا هم اليومَ أهلٌ لتلك القيادة. الحضارة الحديثة نَسِيَتِ اللهَ كلَّ النسيان، ولم تأخذ أيَّةَ أُهْبَةٍ للقائه، إنها تعبد اليوم الحاضر وتَجْحَد ما وراءه، وتعبُد الجسد وتُغالي بمَطالبه وحدها. ونحن باسم الإسلام نقاوم هذا الاتجاه الزائغ ونرفضه جملة وتفصيلًا.
أما الاقتدار العلميُّ وتسخيره لتنعيم الإنسان وتكريمه فنحن مُعجبَون به، كذلك نحن مُعجَبون بالقُدرة التنظيمية التي جعلت الإدارة فَنًّا رفيع المُستوى، وأبدَعَتْ أساليبَ لمَنْع الطغيان الفرديِّ والهَوان السياسيّ، وإن كان الغربيُّون جعلوا الثمار حِكْرًا على الرجل الأبيض.
ولا أَسْتحِي مِن أن أُسائلَ نفسي وقومي: أينَ كُنَّا حين استخرج الأُوربيون النِّفْطَ مِن أرضنا؟ ماذا كُنَّا نَصنع؟ وأيَّة ثقافة كانت تملأ أدمِغَتَنا؟(1/531)
أُؤكد، وأنا مِن علماء الدِّين، أن الصحابة تجهل تِسعة أعشار الفِكْر الدينيّ الذي شَغَلَنا ونِمْنَا فيه وصَحَوْنَا عليه!
وأُؤكِّد أن نُظُم الحُكم في بلادنا كانت أشبه بنُظم الحكم في فارس والروم على عهد سلفنا الفاتح العادل الذكِيِّ.
وأُؤكد أن اللغة العربية في الجاهلية الأُولى كانت أضْوَأَ وأنصع منها في الأعصار النكِدة الأخيرة.
إن مُجدِّدي الإسلام بذَلوا جُهودًا جبَّارة ليَعود إلينا الوعي الغائب! ومِن عجَبٍ أن البعض الآن يَفتح فمَه لسَبِّهِمْ ويَنتقِص أقدارهم، إننا لم نَسْتَشْفِ بعدُ من عِلَلِنَا!
وقد مضت حضارة الغرب في طريقها لا يُثنيها شيءٌ، غير أن الاستغراق في الدنيا لا يُحقق الخير لا للفرد ولا للمُجتمع، وقد كرَع "أبو نواس" من اللَّذَّة حتى آخرَ قطْرةٍ، ثم استيقظ مِن سَكْرته يقول:
إذا عرَف الدنيا لَبِيبٌ تكشَّفتْ لهُ عن عدوٍّ في ثِيابِ صَدِيقٍ!
وكذلك يفعل الخرابُ الرُّوحيُّ وخَوَاءُ الإيمان بأوربا وأمريكا. إن الجماهير تَشْعرُ بالقلَق والضيق، ولْأُثبِتْ هنا كلمةَ للأديب الكبير الأستاذ "أحمد بهجت" كتبها وهو يزور "لندن" يُصور أثر هذه الحضارة، قال:
"عيون الناس هنا مُلوَّنة، وبَشَرَتُهم كشمعٍ مَسْقِيٍّ بالدم، وابتساماتهم حاضرة وجاهزة لكلِّ نظرة وأيِّ سؤال، رغم ذلك ثَمَّةَ طَيْفٌ غامضٌ مِن الكآبة يَلُوحُ وراء ألوان العُيون والبشَرة، ويَتبدَّى في هذا الصمت الذي يَغْرَقُون فيه حين يَركَبون المترو أو الأتوبيس.
هنا لا حدَّ لجمالِ الناس، ولكنه جمالٌ يُشْبِه جمالَ الجُزُر المُنعزلة في المُحيط، إن صفحة المياه الزرقاء تمتدُّ بصَمْتِها الفاجِع وتُحيط بالجزر مِن جميع الجهات.
رغم العُزلة المُرشحة ينهض الجمال، ويكتسب الجمال شُحوبة من العُزلة النفسية، حتى لَتَعكس أغوارُ العيون قلَقًا يبدو وسَط يُسْرِ الحياة وسُهولتها مثل حُزْنٍ غير مفهوم في عُرسٍ مِن أعراس الحياة.(1/532)
بالنسبة لكثير مِن الشرقيين تبدو "لندن" عاصمةً مُبهجةً في الصيف، هي سوق عظيمة للمرَح والمتعة والجمال والثياب واللهو والحرية. كيف تُفسر إذًا هذا البحث الذي قامت به إحدى شركات البحوث وقالت نتائجه: إن مليون بريطانيٍّ يُعانُون من اكتئاب نفسيٍّ، وإن مِن المحتمل أن يُقدِمَ ثُلُثُ هذا العدد على الانتحار بسبب الكآبة، كيف نُفسر أن معظم المُصابين بالاكتئاب مِن النساء!
استبعدَ البحث مُشكلة البطالة كسَبب رئيسيّ للكآبة، وأشار إلى المشاكل الزوجية والمنزلية والإنسانية!
عاودت النظر في وجوه الناس، أَهَؤلاءِ مُكْتَئِبون!
إن النظرة السريعة تقول إن الناس تعيش وسَط نَعيمٍ مُقيم في "لندن" كل شيء مُيسَّر، لا صوت للشوارع ولا صوت للناس، وكل ما تُريده مَوجود وحاضر، هناك مكان في الأوتوبيس والمترو والتاكسي والقطار، ليست الحياة اليومية مُعاناةً كالحياة اليومية في مدن العالَم الثالث أو الشرق.
إن المدنية الحديثة تُوفر للناس جهدهم الإنسانيّ، وتقوم عنهم بأداء كثير ممَّا كان يقتضي جهدًا بدَنيًّا أو عضليًّا، والخِدْمات أكثر من الحاجة إليها، والعرض أكثر مِن الطلب، والتليفون لا يَستعصي عليك، ولا يتكلم معك في الخطِّ أحدٌ، لماذا يَكتئب الناس إذًا وحياتُهم تمضي بهذه النُّعومة والكفاءة؟
إن الحضارة الغربية تكشف هنا عن أحَدِ أسرار الحياة، إن للتخلُّفِ مشاكلَه وللتقدُّم مشاكلَه، وليست مَشاكل التقدُّم بأخفَّ في الميزان من مشاكل التخلُّف، هنا تُوفر الحياة للناس وقتًا يُفكرون فيه في حياتهم وهدف هذه الحياة ومَصيرهم بعدها، وهنا يُحسُّ الناس بالوحدة القاسية رغم كل مُبهِجات العيش.
إن الوضع الصحيح الوحيد للإنسان أن يكون تابعًا للهِ لا مُستقلًّا بنفسه، وأن يسترشد بوَحيه لا أن يغتر بفلسفته الخاصة.
ما أضعَفَ الإنسانَ إذا لم تُسْنِدْه قوةُ ربه! وما أشقاه حين يُحرَمُ بَرَكتَه!(1/533)
96 ـ هل في استطاعة الإسلام أن يُقدم حُلولًا للمشكلات الكبرى التي تُعاني منها الإنسانية اليوم؟
تقع المَصائب والمشاكل عندما يُفرط الإنسان فيما يجب عليه أو يَستهين بما يمنع منه، فحوادث الطرق تَنشأ غالبًا مِن السرعة الزائدة عن الحدِّ، أو مِن التوقُّف المُباغت، أو مِن خُروج المرء عن المَسار المُحدَّد له، ولو تبِع الناس التعاليم الصادرة إليهم لوَقاهمُ الله سيئاتٍ كثيرةً، ولكن (ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ والبَحْرِ بمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم: 41).
ولسنا نُنكر أن هناك أقْدارًا قاهرةً تَعرِض لنَا بما نَكرَهُ وتَفْجَأُنا بوُقوعِها، وإنما علينا أن نَتصرف تِجاهها بثباتٍ وتسليم لا بجَزع وتمرُّد، فهي بعض بلاء الدنيا الذي نُختبَر به!
ولكني أستعرض مشكلاتٍ كبيرةً في عالَمنا المعاصر فأجد أغلبها من صُنع الناس، إنها تنشأ في غياب الإيمان الصحيح، والاستهداء بنور الله، والاستشهاد بالعلامات الخضراء والحمراء التي تَعْصِمُ مِن الزَّلَل.
القلَق الشديد مِحْنة كامنة وراء الركض الوحْشيِّ طلَبًا للرزق، إن هؤلاء الراكضينَ قد يَدُوسون قواعد الحلال والحرام، بل قد يَدُوسون العَجَزة والضِّعاف كي يَصِلُوا قبل غيرهم. بِمَ نُفَسِّرُ هذا السُّعَارَ الذي ملأ الدنيا؟ لا تفسير له إلا الجهل بالله وبقِيامه على الخَلْق وتدبيره للرزق.
وأذْكرُ هنا جملةً مِن الحقائق الدينية غير خاشٍ مِن تأويل الجهَلة لها وانحرافهم بها؛ لو كان للإنسان صديقٌ نبيل الخُلق حُلْو العِشْرة مأمون الوفاء لجَعَله واحتَه الظليلة في صحراء هذه الحياة! أفتكون صِلَة المؤمن بربه أنزلَ مِن هذه الصِّلَة؟ ربه الوَدود المَجيد (اللهُ لا إلهَ إلا هُوَ لهُ الأسماءُ الحُسْنَى) (طه: 8).(1/534)
إننا نحيا في رحمته الواسعة، ونِعمتِه المَبذولة، وبركاته الهاميَّة، ولكن ذلك كله يُشبه العافية التي قيل في تبلُّد الشعور بها: الصحة تاجٌ على رُءوس الأصحَّاء لا يَراه إلا المَرْضَى.
إنه شيءٌ مؤسف أن يَقِلَّ إحْسَاسُنَا بفضل الله الذي يَغمُرنا بالليل والنهار، ثم يتضاعَف جُؤَارُنا بالشكوى إذا فقدنا بعض ما نَهوَى! والغريب أننا نَعتبر ما نفقده هو مَصلحتَنا المُؤكدةَ أو الخيرَ الذي حُرِمناه، إن مواقفنا مع القدَر تَكرار لمَوقف موسى مع الخَضِر حين اعترض ما يجهل عُقباه، مع أن القصة ذُكرت لتقول لنا: رُبَّ ضارَّةٍ نافعةٌ، رُبَّ أمرٍ أنكرنا بدايته وجدنا نهايته (وعَسَى أن تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19).
هناك أبجدياتٌ للإيمان لو عرفناها لزالت مُشكلة القلَق والاكتئاب والتوتُّر التي تسود العالَم، وأرى أن الغُرور البشريّ أو إحساس الإنسان بأنه يقوم وحده من وراء تلك المشكلة. لقد خُيِّلَ إلينا مع التقدم العلميّ الجافّ أننا مُديرو هذا الكون ومَالكو زمامه! وأن الإنسان يستطيع المُضيَّ وحده إلى هدفه دون صُحبة من رعاية عليا، أو مُساندة من ربٍّ قدير! وهذا هو الغباء المَحْضُ!
إن المساحة التي تعمل فيها إرادتُنا الحرة ضيقةٌ جدًّا، حقًّا هي موجودة، بيد أنها محكومة بظروف لا دخل لنا فيها مُذْ وُلِدنا إلى أن نموت، ما أغبَى السمكةَ التي تظن أنها صنَعَت مياه البحار والمُحيطات، وأنها صنَعَت الخياشيم التي تَستخلص بها أنفاسَها وسط الماء!(1/535)
الواقع أن الخُطط التي تَحْكم حياة البشر، خفْضًا ورفعًا وضيقًا وسَعة، جزءٌ من الخُطط التي تحكم الفضاء وتقلب كواكبه بين شُروق وغروب، مُبتَدؤُنا ومُنتهانًا وما بين ذلك يُشرف عليه (الذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهُوَ علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك: 1) الذي (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ علَيْهِ) (المؤمنون: 88) الذي (لا إلهَ إلَّا هوَ كلُّ شيءٍ هالكٌ إلَّا وَجْهَهُ لهُ الحُكمُ وإليهِ تُرْجَعُونَ) (القصص: 88) فما معنى تجاهُل هذا الواقع والانطلاق في الدنيا دون وَعْيٍ ودون غاية؟
الإيمان بالله وصِفاته هو ـ لا غيرُ ـ حلُّ تلك المشكلة! والإسلام يُعرِّف الناس بربِّهم على نحوٍ رائع مُقْنِع مشبِع، يَغمُر اللُّبَّ والقلب بهُداه، ويجعل المرء إذا كَرَبَ فَزِعَ إلى الصلاة!
ثم هو ينظر إلى ما أصابه وما أخطأه عارِفًا مَن يُدَبِّرُ الأمر، فيقول: "اللهمَّ لا مانعَ لِمَا أعطَيتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ".
وعند هذه الجملة الأخيرة نقف قليلًا، فأصحاب الحُظوظ الحَسَنة قد يَكثُرون أو يَقِلُّون في هذه الدنيا، غير أن مُجرَّد وُجُودهم يُثير الغيرة والتساؤل: لماذا أُوتُوا هذا الثراءَ أو هذا التقدُّمَ أو هذا الرُّجْحانَ؟
ويُؤكد الإسلام أن هذا الجَدَّ لا يُجدي أصحابه شيئًا ولا يَنفعهم عند الله أبَدًا! إنه بعض ما يُسألون عنه يوم الحساب، أو هو جزء من الاختبار الذي يكون للبعض بالجمع وللبعض بالطرح، ولا امتياز هنالك "ورُبَّ كاسيةٍ في الدُّنْيَا عاريةٌ يومَ القيامة" وذلك مِن ثمرات الإيمان بيومٍ آخر.(1/536)
ومِن المشكلات التي يشكو العالَم منها الفقرُ المُتوطِّن في بيئات كثيرةٍ، وأُحِبُّ أولًا أن أُحدِّد المفاهيم حتى تَنضبط الأحكام، أعرف مُوظَّفًا في وزارة العدل يَقُوت أسرةً كبيرة، عُرِضَتْ عليه يومًا مائةُ جنيهٍ كي يدَعَ أحدَ الخُصوم يستولي على وثيقةٍ تُفيده في ملفٍّ تحت يده! وأبَى الموظف الشريف، مع أنه كان يَبيت طاويًا ليُعشِّيَ أولادَه، وكان بحاجة إلى جنيهٍ واحد لا إلى مائة، هذا الفقير وأمثاله هم الذين قال الدِّين عنهم إنهم سوادُ أهل الجنة.
وأعرف أن الزعيم "محمد فريد" فقَدَ ما كان يملك من أرض في سبيل أسفاره كي يَعرض شكوَى وطنِه من الاحتلال الإنجليزي!
هذا فقْرٌ يذكرنا بالسابقين الأولين مِن المُهاجرين والأنصار الذين ضحُّوا بما لديهم في سبيل عقائدهم.
وأعرف رؤساءَ كانوا يملكون القليل أو ما كانوا يملكون شيئًا! فلمَّا وُلُّوا الحُكمَ فاضت أنهارُه عليهم سمْنًا وعسَلًا، فأضحَوا هم وأقرباؤهم وأصدقاؤهم ومَن يَلُوذُ بهم أصحابَ جاهٍ عريض ومالٍ مَمدود!
هؤلاء الأغنياء من سُحْت هم الذين قال الدين عنهم إنهم جمهور النار، وبئس القرار.
لكنّ هناك فَقْرًا نشأ عن آفات عضوية في الكيان الإنسانيّ والمَلَكات التي زُوِّدَ بها أصْلًا، وهو الفقر الذي ينتشر في الأقطار المُتخلِّفة أو في أرجاء العالَم الثالث، إنه فقْرُ تعوُّدٍ وصَعلَكة، وهو فقر يُنكره الدِّين، ويُعَدُّ أصحابه آثمِين أو عجَزة مَلُومين!
إن الله ـ سبحانه ـ يَسَّرَ كل ما في الأرض مِن خير للإنسان، ومكَّنه من ارتقائه، ولم يَطلب منه بإزاء ذلك إلا أن يعرف حقَّه ويشكر فضله، فإذا جاء امرؤٌ أو جاءت شُعوب وتجاهلت هذا البذل، ورأت أن تعيش عاريةً بدل أن تَكتسيَ! أو جائعةً بدل أن تُطْعَمَ، فهي شُعوب مُجرِمة!(1/537)
وقد رأيتُ ناسًا ينتمون إلى الإسلام ـ وهو انتماءٌ مُريب ـ يُشبهون الثعالب التي تأكل من فضلات الأُسود، تراهم أمام قوى الكون وأسراره حَيْرَى، لا يستطيعون حِيلة ولا يهتدون سبيلاً، إذا جاءهم الغيث شبِعوا، وإذا هاجمهم الجفاف تَضَوَّرُوا وتَسَوَّلُوا، لو وُضِعَت مفاتيح الكنوز بين أيديهم لعَجزوا عن إدارتها وبَقُوا وُقُوفًا أمام خزائنها المُغلقة، هؤلاء جَدِيرون بالفقر يَقِينًا، وعلاجهم يحتاج إلى تغيير نُفوسهم.
وإذا كان هؤلاء مِحنةً في الميدان الاقتصادي فهم كذلك محنةٌ في الميدان السياسيّ!
ذَكرتهم وأنا أقرأ الكلمات التي كتبها أنصار زعيم المُعارضة الفلبينيّ الذي قُتل في مطار "مانيلَّا" لقد وَضَعوا فوق رُفاته هذه الجملة "لا مكان للطُّغاة لو لم يكن هناك عبيدٌ" نعم، إن أيَّ فرعون لا يُوجد إلا حيث يكون الأوغاد والأذناب.
والفقراء مِن هذا الصنف يَمُدُّون أكفَّهم في الأزمات، وباسم الإنسانية قد يضع الأقوياء في أيديهم بعض ما يَستبقي الحياة، ولا عليهم! فستبقى أيديهم السُّفلَى وأيدي الأقوياء هي العُليا، لكن إلى متى؟
إن الحلَّ لمشكلة الفقر هو العمل لا الاستجداء، هو فهم قوله ـ تعالى ـ للناس: (ولقدْ مَكَّنَّاكمْ في الأرضِ وجَعَلْنَا لكمْ فِيها مَعَايِشَ) (الأعراف: 10) وذلك يتطلب تغيير النفوس لتُنتج بدل أن يكون قٌصَاراها الاستهلاك. والمعاناة هي سُلَّمُ الكمال، ويُعجبني قول أبي الطيب:
لولَا المَشَقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ الجُودُ يُفْقِرُ والإقْدامُ قَتَّالُ
وشعوب العالَم الثالث تحسب السعد والنحس طوالِعَ فلكيَّة! أو كما صوَّر الأستاذ مصطفى أمين: يحسب أحدهم أنه يجلس على كرسيٍّ في مقهى، وكما يُصفِّق بيديه طالبًا من الساقي "واحد شاي" يُصفِّق طالبًا "واحد حقوق إنسان" أو "واحد حريات شعب" أو "واحد عدالة اجتماعية"!(1/538)
ولْنَدَعْ مشكلة الفقر فطالما كتبنا فيها واستفتحنا حياتنا الأدبية بالخَوْض في مآسيها، وَلْنَنْظُرْ نظرة خاطفة إلى مشكلة أخرى هي السلام! وهي مشكلة قد يؤدي تجاوزها إلى أن يفقد العالَم حياته وحضارته كلتيهما، بعد ما أصبحت أدوات الفتك ذَريعةً إلى إبادة جماعية، والساسة الذين يتحدثون عن السلام لهم منطق عجيب!
فبنو إسرائيل يَنشُدون السلام بعد أن يُدمِّروا الوجود العربيّ في فلسطين، ويَضعوا الخطة لإقامة هيكل سليمان على أنقاض المَسجد الأقصى!
والروس يَنشُدون السلام بعد ابتلاع أفغانستان إلى جانب آسيا الإسلامية كلها، واعتبار الدِّين خُرافة لا معنى لبَقائها!
وجنوب أفريقيا تطلب السلام بعد إخماد أنفاس الزُّنُوج وحِرْمانهم مِن منزلة البشر أو من مكانة الجنس الأبيض!
والأمريكيون يَطلبون السلام بعد تأييد اليهود ودعم حقهم في بناء المستعمرات على الأرض العربية وقولهم: خُلقَت إسرائيل لتبقَى... الخ.
إن العالَم أمام لون من النفاق والتبجُّح يستحيل أن يبقَى معهما سلام!
العدْل أولًا ثم المُطالبة باحترامه والتسلُّح للذود عنه، ويَستحيل أن يُوجد سلام ما حَكَمَ الدنيا منطقُ الغابات، إن القرآن الكريم ناشَد أهلَ الإيمان أن يَحرصوا على السلام ويَستريحوا إليه (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا ادْخُلُوا في السِّلْمِ كَافَّةً ولا تَتَّبِعُوا خُطواتِ الشيطانِ إنَّه لكم عدوٌّ مُبِينٌ) (البقرة: 208) فماذا يحدث إن أعْرَضُوا عن هذا النداء؟ ستَمتلئ الأرض بالأحزان والخراب (فهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرضِ وتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ. أُولئكَ الذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فأَصَمَّهُمْ وأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد: 22 ـ 23).(1/539)
لقد قرأتُ قصصًا أليمةً عمَّا يُصيب الرجال والنساء والأطفال في أثناء الحروب من أسًى وضياعٍ يَهتكانِ الأستار ويَسترخصان العار! ورأيت صُورًا قابضةً مُبكيةً للجُثث على عرض الطريق أو تحت الأنقاض، أمْسَتْ رُفاتًا هامدًا وولَّتْ عنها بشاشة الحياة وآمَالُها العِراض، إن الحرب شيءٌ كريه حقًّا، والوَيْلُ للمُجرمين الذين يُشعلون نارها ويَحتقرون آثارها. وفي الأديان السماوية كلِّها لم يأذنِ اللهُ بحربِ عُدوان، وإنما أذِن في حربٍ تُحْمَى بها الحقوق وتُصان الحقائق، وتبقى فيها بيوتُ الله قائمةً لعبادته وحده، وفي قراءةٍ صحيحة يقول الله تعالى: (ولولَا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهُمْ ببَعْضٍ لهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وبِيَعٌ وصَلَوَاتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا) (الحج: 40).
ورَبُّ البيت لا يُطالب بالاستسلام للِّصِّ المُغير إيثارًا للسلام، وصاحب العقيدة لا يُكَلَّفُ بتركها تحت بَرِيق السيوف!
وإذا خلَصت النِّيَّاتُ يُمكن إقامة مؤسسات عالَمية للحفاظ على السلام، بعد غسل النفوس من الأثَرة والبغي، وإشعارها بأنها أوَّلًا وآخِرًا مِن الله بدأت وإليه تَصِيرُ.(1/540)
97 ـ بِمَ تُفسِّر النكسات التي أصابت الأمة الإسلامية، بدءًا من الخلاف الداخليّ بين عليٍّ ومعاوية حتى يومنا هذا؟
أجمع أُولو الألباب مِن عدوٍّ وصديقٍ على أن الإسلام عقائدُ وشرائعُ، وعباداتٌ ومعاملات، وأخلاق ونُظم، وتراتيب إدارية وتقاليد اجتماعية، وإنه يُكلِّف أتباعه بتطويع الشئون العادية لخِدمة ذلك كله. وكُنَّا في أثناء دراستنا الإسلامية نعرف الفرق بين الإسلام والفكر الإسلاميّ، وبين الإسلام والحُكم الإسلاميّ، الإسلام وحْيٌ معصوم لا ريبَ فيه، أمَّا الفكر الإسلاميّ فهو عملُ الفكر البشريّ في فهمه، والحُكم الإسلاميّ هو عمَل السُّلطة البشرية في تنفيذه، وكلاهما لا عِصْمة له.
وعندما يُخطئ مُفكِّر فإن خطأه لا يبقَى طويلًا حتى يَستدرِك عليه مُفكرٌ آخر.
وعندما يُخطئ حاكمٌ فإن زلَّته لن تطول حتى يُصوِّبها ناقدٌ راشد.
والأمة الإسلامية ـ بفضل الله ـ لا تُجمع على خطأ، وجهاز الدعوة بها حسَّاسٌ، وهو عن طريق التعليم والأمر والنهي يُنصف الحق. ولمَّا كانت هذه الأمة حاملةً الوحي الخاتَم فإن القدَر يُؤدبها إذا استرخت أو فرَّطت حتى تَلزَم الصراط المُستقيم، ويتعهَّدها بالمُجدِّدين الذين يَغارُون على حقائق الوحي وسُبل فقهه وأساليب حُكمه، قال تعالى: (ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحَقِّ وبهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف: 181).
ومن هذا التقديم يظهر أنه لا غَرابة في وُجود أخطاء في تاريخنا الثقافيّ والسياسيّ، وإنَّما الغرابة في التستُّر على هذه الأخطاء أو الاستِحماقِ في مُعالجتها والتَّعْفِيَةِ على آثارها.
وجمهور المسلمين يعلم أن سلفنا الأول شغله قتالُ الاستعمارَينِ الروميِّ والمَجوسيِّ، ولعلَّه أشرفُ قتالٍ عرفَتْه الدنيا، ولكنه يَشعر بغَضاضةٍ وألم لِمَا أعقب ذلك مِن قتالٍ داخليٍّ بين المسلمين أنفسهم، كانت له آثارٌ بعيدة المدَى على حاضرهم ومُستقبلهم.(1/541)
وجمهور الفقهاء والمُؤرخين والدُّعاة يُؤكد أن علي بن أبي طالب ـ الخليفة الرابع ـ كان إمامَ حقٍّ، وأن معاوية بن أبي سفيان كان يُمثل نفسَه وعصبيَّته في خُروجه على عليٍّ، وشاء الله أن يَكسب معاوية هذه المعارك، ومِن ثم تحوَّلت الخلافة الراشدة إلى مُلْكٍ عَضُوض في بني أُميَّة.
ومع أن هذا التحوُّل كان هزيمةً للحقِّ وضربة مُوجِعة للمُثل العُلْيَا، إلا أنه من الغُلُوِّ المَرفوض تضخيمُ نتائجه؛ لمَا يأتي:
(أ) إن الخلفاء أو الملوك الذين وَلُوا أمورَ المسلمين بطريقةٍ غير صحيحة أعلنوا أن ولاءهم للإسلام، وأن التغير في أشخاص الحاكمين لا يعني التغيُّر في القوانين أو الأهداف الإسلامية، ومِن أجل ذلك استأنفوا الجهاد الخارجيّ، كما تركوا للفقهاء حريةَ الحركة، ما لم يَمَسُّوا سلطانهم في الزعامة.
(ب) إن العلم الدينيّ مضَى في طريقه يُوسِّع الآفاق ويُربِّي الجماهير ويُقرِّر الحقائق الإسلامية كلها من الناحية النظرية، أيْ أن الإسلام الشعبيّ مع ازوِرارِه عن السُّلطة بقِيَ قديرًا على الامتداد والتأثير.
(جـ) مع أن الدولة كانت عربيةً تتعصَّب لجنسها، فإن الجماهير والَتْ تعاليم الإسلام وحدها، وألقَتْ قِيادها في أغلب العواصم لفُقهاءَ ودُعاةٍ مُربِّين من الأعاجم!
وأجدُني هنا مَسُوقًا لتوكيد حقيقة مهمة: إن الجنس العربي له خصائصُ رفيعة رشَّحَته لظهور الإسلام فيه واختيار النبوة منه، وهو إلى جانب ذلك جنس له نقائصُ منكورة مثل الاعتزاز بالنسَب إلى حدِّ السخَف، وازدراءِ الحِرَف من فِلاحة وصناعة، والحرصِ على الإمارة ولو بطريق اللَّفِّ والخطف.
وقد أفاد الإسلام مِن خصائصه وخَبَرَ مِن نقائصه، ومِن أجل ذلك نُريد أن نضع فواصل بارزةً بين التعاليم الإسلامية والتقاليد العربية، فإن الأخيرة غلبتِ الأولى في مجالاتٍ كثيرة.(1/542)
إن أُسرتينِ عربيتين احتكرتا في ذراريِّهما مَهامَّ الخلافة العُظمى بضعة قرون، إلى أن سقط الإسلام بحكامه هؤلاء تحت وطأة التتار في بغداد، وتحت وطأة الصليبيِّين في الأندلس، بأيِّ منطقٍ وقع ذلك؟
إن دِينًا عالميَّ الشرائع والشعائر لا يحتمل هذا السَّفَه!
وجاء العثمانيون فقلَّدوا العرب!
ولماذا يكون عثمان التركيّ أقلَّ مِن حرب أو هاشم المَولودينَ في بَطحاء مكة؟
لقد بَقيَت هذه الغلطة حتى أنزَلَتْ لواءَ الخلافة عن الآستانة وحلَّت بالإسلام نكبةٌ هائلة مهينة. وأرى أن الروح القَبَلية عند العرب كانت مِن وراء هذا الانحدار كله، قديمِه وحديثه. وعلى العرب أن يَحترموا الإسلام، وليس على تعاليم الإسلام أن تَلِينَ للتقاليد العربية.
والعرب ـ مع بعض الأمم القديمة ـ كانوا يُؤخرون المرأة ويَضِيقون بالأنثى! كان الهنود يحكمون على الزوجة أن تَنتحر بعد وفاة زوجها! وكان عربٌ كثيرون يَئِدون البنت بعد ولادتها.(1/543)
وجاء الإسلام فأعلَن حربًا شعواءَ على هذه التقاليد الهمجية، إلى أن ردَّ للمرأة كرامتَها وصانَ حُقوقها المادية والمَعنوية. لكن الاستهانة بالأُنوثة بَقيَت كامنةً في النفوس، تُنشئ تقاليدَ وتمحو أخرى حتى كادت تعاليم الإسلام تُطوَى وتحلُّ محلها التقاليد العربية الأُولى، وظهر ذلك أولَ ما ظهَر في حِرمان المرأة من التعليم، ومن حرمانها مِن غِشْيان المساجد والصلاة في الجماعة، وقد وازنتُ بين النصوص الواردة والشروح المُصاحبة لها فرأيتُ النقائض المُضحكة؛ جاء في الصحاح عن أم عطية ـ رضي الله عنها ـ قالت: أمرَنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفِطر والأضحى أن تَخرج العواتق (الشوابُّ البالغات) والحُيَّضُ وذوات الخُدور (المَكنونات في الأستار) ولكن الحُيَّض يَعتزِلْنَ الصلاة، ويَشهَدنَ الخير ودعوة المسلمين! قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جِلباب! قال: "لِتُلْبِسْها أُختُها من جلبابها" أي تستعير من إحدى المسلمات جِلبابًا وتخرج لتَشهد الجماعة.
قال صاحب "التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول": هذا كان في سالف الزمان، أما الآن فلا يجوز خُروجهنَّ لمَا هنَّ عليه من زيادة التبرُّج، إلا العجائزَ إن كان لهنَّ مكان خاصٌّ.(1/544)
وصاحب التاج ـ غفر الله له ـ يُتابع في هذا الحكم علماءَ السُّنة مِن قبْلِه، فإن شروحهنَّ غالبًا لا تخرج عن هذا المعنى. والواقع أن أولئك الشُّرَّاح يذهبون بعيدًا عن مُراد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتَجرُفُهم التقاليد العربية، فيَنسَخون بها أحكام الشريعة ومُقررات الدين. وفي حديث جابر ـ وهو في منتهى الصحة ـ أن امرأةً مِن وسَط النساء سَفْعاء الخدينِ استفهَمَت من الرسول عن بعض ما قال في خُطبة العيد، والسَّفعاء: الحمراء، وزْنًا ومعنًى، أو التي في حُمرة خُدودها سُمرة! وظاهر أن المرأة كانت سافِرةَ الوجه دون حرَج، وهذا أمر يُماري فيه المُتعصِّبون لبعض التقاليد المَوروثة، أما تعاليم الإسلام فمَوضع نظرٍ؛ لأنها تُخالف ما ألْغَوا مِن تقاليد!
ومِن النكسات التي أصابت جماعة المسلمين وأوْهَنَتْ قُواهم مِن قديمٍ انفصالُ الحُكم عن العلم وسيرُ كل منهما في مجرًى اختَصَّ به، لقد كان الخلفاء الراشدون حُكامًا وفقهاء معًا، ولستُ أعني بالفقه الاستبحارَ في تفاصيل العبادات وفروع الأحكام كما يتصور الناس، كلَّا، كلَّا، إنما أعني بالعلم إدراكَ الأصول والغايات العُظمى لدِين الله، وإدراكَ ما يَدعَمها من حُجج وما يَشين غيرَها مِن شُبَه، والقُدرةَ النفسية على الغرس والحَصاد والكرِّ والفَرِّ.(1/545)
إن المرء ليَغُوص في بحار الحيرة عندما يرى كَرَادِلَة العالَم النصرانيّ يختارون أدهاهم وأذكاهم وأجلَدَهم على خدمة الدين، وعندما يرى مُعتنقي الشيوعية يختارون أقدَرَهم وأمهَرَهم وأشجَعَهم على خدمة المذهب! على حين يقود المسلمين على مرِّ التاريخ رجلٌ أعظم مُؤهلاته أنه ينتمي إلى المأسوفِ على شبابه أُمَيَّةَ بنِ حرب! أو الصحابيّ المعروف العباسِ بن عبد المطلب (نحن نحب نبيَّنا من أعماق قلوبنا، وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ الذي شرح لنا سُنن الخلافة الراشدة، فليس لأحد من أسرته أن يحبسها في ذُريَّته بضعة قُرون) أو ابن الأناضول عثمان بن هيان بن بيان!
إن أولئك الخلفاء لا تُرشِّحُهم مواهبهم الخاصة لمَنصب ذي بالٍ، وليس في كتاب الله ولا سُنة رسوله إلا ما يَشجُب هذا المسلك، بيد أن تقاليد العرب أعْوَجَت بتعاليم الإسلام كَرْهًا ودفَعَتْها في هذا المَجْرَى!
ونشأ عن ذلك أن العلم بدأ يَستوحش، وقد كابَرَ وقاوَمَ واستمسَكَ بحقِّه في الحياة مُستمِدًا كفاحه من تعاليم الإسلام وما بَقِيَ له مِن كرامة بين الجماهير.
لكن العلم ـ وأعني الدينيَّ منه خاصَّةً ـ أخذ يَنحدر وتقلُّ وجاهته، وانصرفت عنه كل الانصراف الطبقاتُ الثريَّة أو المرشحةُ للوظائف العليا، ولم يَبقَ على الوفاء له إلا بعض المُغامرين بأولادهم في سبيل الله، أو بعض الذين عزَّ عليهم السيرُ في ميدان آخر من مَيادين المعرفة، فرَضُوا بما لا مَحيص عنه أو لا مَفَرَّ منه.
ومِن انفصال العلم عن الحُكم وَرِث المسلمون المُعاصرون مشكلتينِ جديرتينِ بالنظر العميق: الأولى: هجرة العقول الكبيرة إلى الغرب.
والأخرى: رداءةُ الأوعية الحاملة للفقه وطلبُها للدَّنايَا تحت أقدام المُستبدِّين.(1/546)
98 ـ هل نجح الإسلام في تحقيق أهدافه خلال تاريخه الطويل؟
عندما قرأتُ هذا السؤال أسرعت بالقول: لماذا لا يُوجَّه هذا السؤال إلى الدِّينَيْنِ السابقَينِ عليه مِن الناحية التاريخية؟ هل أحدهما أو كلاهما حقَّق أهدافه وفرض على العالَم صبغته؟
سكان العالَم الآن أربعة مليارات ونِصْف تقريبًا، فيهم مليار مسلم، ومليار نصرانيّ، ومليار وثنيّ، والباقي شيوعيون! ذلكم هو الانتماء الظاهر الذي يُمكن حصرُه.
غير أني أنظر في الإجابة من ناحية أخرى، إن الإسلام لا يُمثل نفسه عندما يفشل في سَوْقِ الأحياء جميعًا تحت لوائه، إنه يُمثل الأديان كلها في الحقيقة، فمعنى أنِّي مسلم أنِّي أُؤمن بموسى كأحد أتباعه الذين عاصروه وأيَّدوه، وأُومِنُ كذلك بعيسى كواحد مِن حَواريِّيه الذين يُحبونه ويَنصرونه! كل ما هنالك أنِّي أضمُّ إلى الإيمان بهذينِ الرجلينِ الصالحين إيمانًا برجل آخر هو أخٌ لهما ومُحْيٍ لتعاليمهما، رجل تلقَّى عن ربه هذه العبارة: (ما يُقالُ لكَ إلَّا ما قدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) (فصلت: 42) فإذا لم يَنجح أتباع محمد في بسط دعوته على الناس فمعنى ذلك فشَلُ الدينِ كلِّه والرُّسُلِ جميعًا!
هذا عندما يكون الرفض لحقائق الرسالة المَعروضة، أمَّا إذا كان الرفض لسوء خُلُقِ العارض وفقدانه الوعيَ الصحيح، فإن اللوْمَ أو التساؤلَ لا يُوجَّه إلى الإسلام، بل إلى الأمة التي أساءت البلاغ وشانت المبادئ التي تَحملها! ويبدو أن ذلك هو المَقصود من السؤال.
وإذا كان الأمر كذلك فإن السؤال يجب أن يُصاغ على هذا النحو:
هل نجح المسلمون في خدمة رسالتهم خلال القرون الأربعة عشر أم كان فشلُهم أغلبَ؟(1/547)
ومع أني شديدُ اللوم لأمتي دائمُ التقريع لها، فإنني لا أستطيع أبدًا الزعمَ بأن اليهود أو النصارى كانوا خيرًا منها حالًا، ولا تخدَعني الهزائم السياسية المُعاصرة عن تقرير الحقيقة، فلا يزال المسلمون برغم جراحاتهم الخطيرة أولَى بالله، وأعرَفَ برسالاته، وأمْلَكَ لأسباب العافية، وأحقَّ بالبقاء، وما قدَّموه للعالَم وما يُنتظَر منهم تقديمه يُرجِّح كفَّتهم ويُعْلِي حُجتهم. إن الإسلام انتقل بالحياة البشرية نقْلة حاسمة في عدة مجالات:
(أ) نقَّى عقيدة الوَحدانية من كل شوائب الشرك.
(ب) رفض أيَّ عنصر في الإيمان يُناقض العقل.
(جـ) أقرَّ المساواة في الحقوق والواجبات على اختلاف الألوان والأديان.
(د) خفَّف مِن وَيْلات الحروب وحرَّم الدمار الشامل.
ومع ما تعرَّض له التاريخ الإسلامي مِن مدٍّ وجزْر وذُبول وازدهار، فإن الأمة الإسلامية فرضت طابعها المُتميز على الفكر البشريّ، وجعلت خُصومها يُراجعون أنفسهم ويُجمدون بعض مَواريثهم أو يَتخلَّون عنها.
كانت صورة الأُلوهية مُفْزِعة في كلمات بعض المُتحدِّثين عن الله؛ إذ يبدو رب العالمين وكأنه شخصٌ حاسد ذاهلٌ يُخطئ ويَندم ويجهل ويتراجع، ويَفتقر إلى مَن يُرشده ويُصحح له عمله!
تأمَّلْ في هذه العبارات:
لمَّا قرَّر الله الانتقام من بني إسرائيل بعد عبادتهم للعِجْل قال موسى له: ارجع عن حُمُوِّ غضبك وانْدَمْ على الشرِّ بشَعْبِك! فندِم الربُّ على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه!
وفي مكان آخر:
فندِم الرب واغتاظ لمَّا أغضبه بَنُوه وبناته!
فندِم الرب على أنه ملَّك "شاؤل" على إسرائيل!
الرب كجبَّار يَبرز، وكرجل قتَّال يُثير غيْرته، ويَهتفُ، ويَصرخ ويَظفر على أعدائه، سطع دُخَانٌ مِن أنْفه، ومِن فِيهِ نارٌ آكلةُ جمْرٍ مُتَّقِدٍ، طأطأ السموات والضباب تحت قدميه، ركِب على كُروب وطارَ، وخطف على أجنحة الرماح...الخ.(1/548)
وقد يُعجب المرء عندما يرى أن اللهَ أخرج آدمَ من الجنة غيرةً منه أو خوفًا مِن مُزاحمته له، والنصُّ الوارد أنه حظَر على آدم الأكل مِن شجرة المعرفة خشية أن يكون مثله.
إن عقيدة الوَحدانية والكمال المُطلق لله ـ سبحانه وتعالى ـ كما عرضها المسلمون قهَرتْ وبهرت، وجعلت العالَمينَ يَستكينون إليها، ويتجاهلون ما عداها أو يَذكرونه بحياء وإغماض!
وهذا أثرٌ إسلاميٌّ لا مَثيل له.س
وقد غالى المسلمون بالحُكم العقليّ، وقرَّروا أن ما يَرفضه العقل يَستحيل أن يكون دِينًا، بل هو أهواء البشر، وهذه النزعة الإسلامية شقَّت طريقها إلى مستقبل الإنسانية وتخاذلت أمامها شتَّى المِلَل والنِّحَل.
ويَسُوؤنا أن نتهم الحضارة الحديثة بأنها لا تزال تحترم التفْرِقة العُنصرية، وتتعامل مع الأجناس المُلوَّنة ومع مُعتنقي الإسلام خاصةً بمَشاعر الضِّغْن والزِّرَاية!
إن القوانين من الناحية النظرية تُلغي هذه التفرقة، أما مِن الناحية العملية فالحَيْف يَنزل بالضعاف من المُسلمين والزنوج دون حرَج، وقد أصدَرَتْ هيئةُ الأمم المتحدة 250 "مائتين وخمسين" قرارًا لمَصلحة أهل فلسطين، لم يُنفَّذ منها قرار واحد!
ولم يَعرف المسلمون بتَّةً حروب الإبادة الجماعية، ولم يَعرف العالَمُ فاتِحًا أرحَمَ من العرب، بل إن الأكراد والأتراك المسلمين كانوا أعَفَّ ألف مرة من الدول الأوربية الغابرة والحاضرة على سواء.
وطِيبة المسلمين إلى حدِّ الغفلة المَعِيبة هي التي تَجعلهم يَنسَونَ ما حلَّ بآبائهم وإخوانهم في آيات نَجِسات.
لقد غزا "نابليون" مصر والشام فقتَل في الشام أربعة آلاف أسيرٍ بعد ما أمَّنَهم على حياتهم، واستَحَرَّ القتلُ بسُكان مصر في الوجهين البحريّ والقبليّ والعاصمة نفسها حتى اهتزَّ عدد السكان، ولا يُريد أن يَذكر هذا أحدٌ.(1/549)
ويظهر أن اغتيال الأسرى على كثْرتهم داءٌ قديم، فإن صلاح الدين الأيوبيّ أرسل إلى "ريتشارد" ملك إنجلترا ـ وكان على رأس حملة صليبية تُقاتل المسلمين في الشرق ـ أرسل إليه بفِدية كبيرة ليَفُكَّ قيود هؤلاء الأسرى، فماذا حدث؟
إليك ما كتبه "ستيفن رنسيمان" في الجزء الثالث مِن "تاريخ الحروب الصليبية" بعد ما شرح مراوغات "ريتشارد" وتعنُّت مُفاوضيه، قال:
أضحَى "ريتشارد" حريصًا على أن يُغادر "عكَّا" وأن يزحف على بيت المقدس، وصار الأسرى المسلمين مصدر حيرة له، ثم انشرح صدره للخلاص منهم بعد ما دبَّر اعتذارًا رآه مَقبولًا، قال إن صلاح الدين نقَض عهده معه، ومن أجل ذلك فقد أمر بالإجهاز على 2700 "ألفين وسَبعمائة" أسيرٍ من الذين بقُوا على قيد الحياة من حامية عكَّا!
قال المؤلف:
واشتدَّ حماس عساكره للقيام بهذه المَجزرة، وحمَدوا الله في جَزَلٍ وسرور ـ حسَبما يَروي المُدافعون عن ريتشارد ـ فقد هيَّأ لهم فرصةً للانتقام لرفاقهم الذين سقطوا أمام المدينة أثناء الهُجوم عليها، ولَقِيَ زوجات الأسرى وأطفالهم مَصارعهم إلى جوار رجالهم! ولم يُبْقِ الصليبيون إلا على بعض رجالٍ يَستفيدون منهم في أعمال السُّخْرة، وبعض الأعيان، أما الباقون فقد فَنُوا جميعًا، وشهِد المسلمون المُرابِطون في أقرب المَعاقل إلى عكَّا ما قد حدَث فاندفعوا لإنقاذ إخوانهم وأهلِيهم، وعلى الرغم من أنهم ظلُّوا يُقاتلون حتى حُلول الظلام فقد عَجزوا عن الوصول إليهم، ولمَّا انتهت المذبحة غادر الإنجليز البُقعة بما تَناثر عليها من الجُثث المُشوَّهة، وأضحى بوُسع المسلمين أن يَقدَموا للتعرُّف على أصدقائهم الذين استُشهدوا.
لِنَدَعْ هذا المشهد الكئيب، ولنتركْ دلالاته البيِّنة، ولننتقلْ مع "ستيفن رنسيمان" إلى مشهد آخر ذكره في الجزء الثاني من كتابه بعد ما انتصر صلاح الدين في "حطين" قال:(1/550)
وقَبِلَ صلاح الدين أن يضع شروط الصلح، فعرض بأن بوسْعِ كل مسيحيّ أن يَفتديَ نفسه، على أساس عشرة دنانير للرجل، وخمسة دنانير للمرأة، ودِينار للطفل، وعندئذ أشار "باليان" إلى أن بالمدينة حوالي عشرين ألفًا من الفقراء، ليس بوسعهم أن يُؤدُّوا هذا المبلغ، أفلا يجوز للسلطات المسيحية أن تدفع مبلغًا إجماليًّا لافتدائهم؟ ورَضيَ صلاح الدين بأن يَقبَل مائة ألف دينار عن جميع العشرين ألفًا، غير أن بليان أدرك أنه ليس مِن المستطاع تحصيل هذا المبلغ الضخم، فتقرَّر إطلاق سراح سبعة آلاف مُقابل دفع ثلاثين ألف دينار، وبناء على أوامر باليان ألقَى العسكر السلاح، وفي يوم الجمعة 2 أكتوبر سنة 1187م دخل صلاح الدين بيت المقدس، ويُوافق هذا التاريخُ السابعَ والعشرين من رجب، الذي يجري فيه الاحتفال بعيد الإسراء، حين أُسرِيَ بالنبيِّ إلى بيت المقدس، ثم ارتقَى إلى السماء.(1/551)
والواقع أن المسلمين الظافرينَ اشتهروا بالاستقامة والإنسانية، فبينما كان الفرنج منذ ثمان وثمانين سنة يخوضون في دماء ضحاياهم، لم تتعرَّض الآن دارٌ مِن الدور للنهب، ولم يَحِلَّ بأحدٍ من الأشخاص مَكروه، إذ صار رجال الشرطة، بناءً على أوامر صلاح الدين، يَطوفون بالشوارع والأبواب يَمنعون كل اعتداءٍ يقع على المَسيحيين، وفي تلك الأثناء حرص كل مسيحيّ على أن يلتمس المال اللازم لافتدائه. وأخذ "باليان" كل ما في بيت المال من الأموال لدفع ما وعَد به من أموال الافتداء، وقدرها ثلاثون ألف دينار، ولم يَخرج الإسبتارية والداوية عن شيء من أموالهم إلا بصعوبة، ولم يَحفُل البطريرك وهيئة الكنيسة إلا بأنفسهم، ودَهِشَ المسلمون حينما رأوا البطريرك "هِرَقْلَ" يؤدي عشرة دنانير، مقدار الفدية المطلوبة منه، ويُغادر المدينة، وقد انْحنَتْ قامتُه لثِقَل ما يحمله مِن الذهب، وقد تَبِعَتْهُ العرَبات التي تَحْمل ما بحَوْزته من الطنافس والأواني المصنوعة من المعادن النفِيسة، وبفضل ما تبقى من منحة الملك هنري الثاني تقرَّر إطلاق سراح سبعة آلاف من الفقراء، وقد كان يصحُّ أن ينجوَ من الاسترقاق أُلوف عديدةٌ مِن المسيحيين لو أن الإسبتارية والداوية والكنيسة كانوا أكثر سخاء. ولم يَلبث أن تَدفَّق من أبواب المدينة طابوران من المسيحيين، تألَّف الأول من أولئك الذين افتَدَوا أنفسَهم، أو تمَّ افتداؤهم بفَضْل جهود باليان، أما الطابور الثاني فشمل أولئك الذين لم يستطيعوا افتداء أنفسهم، ولِذَا توجَّهوا إلى الأسر. ومن المناظر التي تدعو للأسى والحزن ما حدَث من التفاتِ العادل إلى أخيه صلاح الدين يطلب منه إطلاق سراح ألف أسير، على سبيل المُكافأة عن خدماته له، فوهَبهم له صلاح الدين، فأطلق العادل على الفور سراحهم. وإذا ابتهج البطريرك هرقل لأن يلتمس هذه الوسيلة الرخيصة لفعل الخير، لم يَسَعْهُ إلا أن يطلب مِن صلاح الدين أن يَهَبَه بعض(1/552)
الأرقَّاء ليُعتقهم، فبذل له صلاح الدين سبعمائة أسيرٍ، كما جعل صلاح الدين لـ"باليان" خمسمائة أسير. ثم أعلن صلاح الدين أنه سوف يُطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز، ولمَّا أقبل نساء الفرنج اللائي افْتدَينَ أنفسَهنَّ، وقد امتلأت عُيونهنَّ بالدموع، فسألْنَ صلاح الدين أين يكون مَصيرهنَّ، بعد أن لَقيَ أزواجهنَّ أو آباؤهنَّ مصرعهم أو وقعوا في الأسر، أجاب بأنه وعَد بإطلاق سراح كل مَن في الأسر من أزواجهنَّ. وبذَل للأرامل واليتامى مِن خزانته العَطايا، كلٌّ بحسب حالته. والواقع أن رحمته وعطفه كان على نقيض أفعال الغُزاة في الحملة الصليبية الأولى".
إن الأمة الإسلامية ـ برغم تَعاسة الظروف التي ألَمَّت بها ـ أرسَتْ قواعدَ خيرٍ كثير في هذه الحياة، وما يبقى لها بعد مُعادلات الحذف والإضافة يَزِينها ولا يَشينها.
وأعرف أن خُصومها أصْفَقُ وُجوهًا وأقدرُ على فِعْل المَناكر ودفنها فلا تُعرَف، وأجرأ على تلَمُّس العيوب للبُرَآء والإصرار عليها حتى تثبت.
وفي عصرنا هذا أمَرَ رجلُ دينٍ أحمقُ في "جيانا ـ أمريكا الوسطى" ألفَ شاب بالانتحار الجماعيّ، فماتوا كلهم في صمْت! ولو فعَل شيخٌ مسلم واحدًا في المائة مِن هذه المأساة لَدُمغَت الأمة الإسلامية بعارٍ لا تقدر على الإفلات منه! ولنُسِبَ للإسلام كلُّ شرٍّ!
وما نُنكر أن هناك مُنصفين صارحوا بفَضل الأمة الإسلامية على العالَم، وآخر ما قرأنا لهؤلاء كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" لأستاذة ألمانية طاهرة الذمَّة.
صحيح أن المسلمين اليوم في أوضاع بالغة السوء! وصحيح أن فساد الحُكم حِقَبًا طويلة مِن وراء هذا الانتحار، بيْ أن الأمة الجريحة لا تزال أنبل مِن قاتليها، ولا تَزال ثروتها الروحية أجدر بالتقدير وأحقَّ بالتقديم.
إن الذكاء الأنانيَّ في أوربا وأمريكا سيَجرُّ الويل على أصحابه، وقد يجرُّه على العالَم كله ما لم يرحمنا الله.(1/553)
99 ـ كيف تَتصور مستقبل الإسلام في عالَم الغد؟
حاضر المسلمين يَقبض الصدر، وقد يبعث على التشاؤم! ولكني واثقٌ من أن هذه المِحنة ستَنجلِي كما انجلت مِحَنٌ أخرى في أيام مضت. على أن انجلاء المِحَن لا يُشبه انقشاع السُّحب، نَرْقُبُه ونحن مَكتوفو الأيدي، كلَّا، لابد مِن عملٍ جادٍّ وسعْيٍ لاغبٍ، أو كما قلت في موضع آخر: لابدَّ أن يعتنق المسلمون الإسلام يَقينًا وخُلُقًا ونَشاطًا وفِكْرًا. أمَّا مع النقائض المَوجودة فيَستحيل أن يكسب المسلمون خيْرًا.
إن أعطابًا نفسية وعقلية أصابت كيانهم بشَللٍ لا تعرفه أممٌ أُخرى، وألحَقَتْ برسالتهم مَهانةً كبيرة، أقول ذلك وأنا أقرأُ كلمات للمهندس ماهر أباظة وزير الكهرباء جاء فيها أن قِطاع الطاقة ظلَّ يبحث منذ خمس عشرة سنة عن سِرِّ صناعةِ مادةٍ مُعيَّنة في العازلات الكهربائية دون جدوَى، فقد رفضت الشركات الأجنبية ـ نحو سبع شركات ـ أن تُعطيَ أسرار هذه التكنولوجيا حتى تَبقَى المصدرَ الوحيد لها وحتى تبيعَها وَفْقَ شروطها.
قال الوزير: ثم تطوَّع العلماء الصينيون بإخبارنا أن المواد التي تُصنع منها هذه العازلات مَوجودة في تُربتنا، وأنهم سَيُرسلون خُبراءهم ليُرشدونا إليها في بلادنا!
علماء الصين درسوا طبيعة أرضنا في البحر المتوسط! إنني لم أَدهَش للخبر، لأني لمَّا ذهبت إلى "نواكشوط" عاصمة "موريتانيا" عرفت أن المياه التي تُغذي العاصمة تأتي مِن آبار جوفية اكتشفها الصينيون وقاموا بمَد أنابيبها إلينا، لقد عرفوا وهم على المحيط الهادي خيراتِ أرضنا على المحيط الأطلسي!(1/554)
قلت لنفسي: إنني أَعرض الدعوة الإسلامية كلامًا، وهؤلاء الصينيون يعرضون الدعوة الشيوعية عمَلًا. وخامَرني حُزنٌ عَميق. ومَضيتُ أتابع ما قرأته في موضوع العازلات الكهربية ففُوجئت بأمر آخر، لقد تكلَّم عالمٌ مصريّ هو الدكتور عصام حسن يقول: إن مادة الكُولين التي تُنتِج العوازل المَطلوبة موجودة في سيناء وفي كلابشة، وإن إمكانات استخدامها قُدِّمت إلى الإدارة المصرية من سِنين طويلة، وهي إلى الآن حبِيسةُ أدراجِ بعض الرؤساء! قال: وإن العلماء الصينيين لم يَعرفوا نبأ هذه المادة إلا مِن كتابات وبحوث العلماء المِصريين التي نَشروها في الخارج!
لقد صدَّقت هذا التعليق، وأدركتُ أن المِحنة ليست جهلَنا، وإنما هي تبلُّدُ بعض الرؤساء، أو هي ما أشرتُ إليه في إجابة سابقةٍ؛ انفصال العلم عن الحُكم في أغلب البلاد الإسلامية.
فالأمر كما قيل:
فإن كُنتَ لا تدري فتلكَ مُصيبةٌ وإن كُنتَ تدري فالمُصيبةُ أعظمُ!
ويظهر أن هناك نوعين من الشَّلل الجُزئيّ يقطع دورة الإحساس في الكيان الإسلاميّ العامّ، ويُقعِد الأمة عن أداء رسالتها الكبرى، ذاك لو بَقِيَ لدينا شعورٌ بأننا نحمل للعالَم رسالةً كبرى،
إن الوهَن الذي حلَّ بالمسلمين دوَّخهم وجعل أبصارهم عند مَواطئ أقدامهم.
ولكي نطمع في استماع الناس إلينا يجب أن نقول ما يُعقل، أو نَعقل ما قيل لنا في كتابنا ونكون نموذجًا حسَنًا له!
هل مِن التصوُّر المحتَرَم للإسلام أن يقول بعض "العلماء": الحاكم يَمضي في طريقه دون اكتراث بالشُّورَى؛ لأنها غير مُلزمة له! هل تُخدَم الفرعونية بأفضَلَ من هذا اللغو!
هل مِن التصوُّر المُحتَرَم للإسلام أن يُقال في حكومته: إنها حكومة الحزب الواحد!(1/555)
إن أقمار التجسُّس الأمريكية صوَّرت الطائرة الكُورية التي أُسقطت قريبًا من قاعدة عسكرية روسية، ولا يزال بعض علمائنا يُحارب التصوير بضَراوة ويراه وثَنِية! وبعضهم حَكم بأن وصول الأمريكيين إلى القمَر خبرُ آحادٍ لا يُفيد العلم، وأن الأمر إشاعة!
ولْنَترُكْ هذا الهزل إلى آفةٍ أخرى تَخدِش الفكرَ الدينيّ! إن مناقشة السند أو التمحيص النظريّ للحُكم المَرويِّ أساسُ الحكم في القضايا المَعروضة، أمَّا ملاحظة الآثار الاجتماعية عند ترجيح اجتهادٍ فلا يُلتَفت إليها، ومِن هنا استُبعِد رأيُ ابن تيمية في رفض الطلاق البدْعيِّ ورفض الآثار المترتبة عليه، واستُبعِد رأيُ أبي حنيفة في أن المسلم يُقتَل بالذِّمِّيِّ، أو أن المرأة تُباشر عَقدها، وكان العمدة عند المُستبعِدين مُجردَ النظر في قواعد الاستدلال، أما استقصاء الأبعاد الاجتماعية لهذه الأحكام العملية فلم يَرِدْ على البال.
ونحن لا نُهوِّن من قيمة الاستدلال في القضايا الاجتهادية، وإنما ندعو إلى احترام التقاليد المُستقرة في بيئاتٍ كثيرة ما دام لا يُصادمها نصٌّ، كما نرفض التشبُّث باجتهادٍ ما إذا كان يعوق سيرة الدعوة الإسلامية، فلا وزْنَ لاجتهادٍ فرعيٍّ يعترض انتشار الأصول والأركان.
وإذا رأينا أن الأوربيين يَقبَلون الإسلام لو سَمَحنا للمرأة بالقضاء في الدماء والأعراض وولاية المناصب العامة فلْيَدخلوا في الإسلام ولْيَعمَلوا بمذهب ابن حزم! أليس خيرًا لنا ولهم!(1/556)
وقد أمْسَى الجهادُ فرْضَ عينٍ على كل مسلم ومسلمة بعد ما اقتُحمَت دار الإسلام مِن أقطارها. ومِن أبجديات الجِهاد العلمُ بكلِّ ما أوْدَعَ الله مِن قُوًى في أرجاء البَرِّ والبحر والجو، إن هذا العلم الضروريّ يَسبق عُلومًا كثيرة ظهرت أيام التَّرَف والتفوُّق، بل لقد أمست علوم اللغة العربية مِن فُروض العين على المثقفين بعد ما تدحرجت هذه اللغة وأُسْقِطَت مكانتها عن عمدٍ، ومن النِّفاق أو الجبن شَغْلُ المسلمين بنوافلَ علمية أو عملية قبل استكمال الفروض المُهمَلة.
بناءُ الأمة الإسلامية مِن جديد يَفرض على الساسة والدعاة والفقهاء أن يُمْعِنُوا النظر ويطلبوا التفكير، وأن يُحاربوا بجهد مُتساوٍ الغزْوَ الثقافيَّ الوافدَ مِن الخارج والانحرافاتِ الكثيرةَ المُتوارَثة من الداخل.
وللأخلاق قصة لا يجوز إغفالها، هناك أخلاق تنشأ من حُسن معرفة الله، أو مِن صدق عقيدة التوحيد، أبحث عنها في سلوكِ خاصَّةٍ وعامَّة فلا أجدها.
هل أستطيع وَصْفَ رجل يخاف الناسَ ولا يخاف اللهَ، ويسترضي الناسَ ولا يسترضي اللهَ، ويتوكل على الناس ولا يتوكل على الله، هل أستطيع وَصْفَ هذا المَخلوق بأنه مُسلم!
وهناك جملة أخلاق تقوم على مَحْوِ النفاق وتزكية السريرة وتنضبط بها الأعمال والأحوال، نبَّه إليها النبيُّ العظيم الذي قال: "بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مكارِم الأخلاق". إنه أحصَى أمَاراتِ النفاق في الكذب وخُلف الوعد وخِيانة الأمانة ونَكْثِ العهود والفجور في الخُصومة!
ماذا يقول المسلم إذا كانت مُجتمعات أخرى أحرَصَ منَّا على الصدق والأمانة والوفاء والسماحة!
ولقد رأيتُ نظافة القرى والمدن في أممٍ شتَّى، ورأيت النظام الصارم يَشيع بين مُشاتها ورُكَّابها، وألقيت نظرةً خاطفة على بلادنا ثم شعرت بغُصَّة، لا أدري ماذا حدث لنا، إننا نَموت ونُميت دِينَنا معنا!(1/557)
ورأيتُ عُمَّالًا يَكرَهون الإتقان، ومُوظفين يكرهون الخدمة العامَّة، ورؤساء يُشبِعون مُركَّبات النقص أو عُقَدَ الوَضاعة، وينظرون إلى الجماهير من أعلَى، وهم آلُهُم وعَشِيرتُهم.
إن قضايا الأخلاق أخطر مِن قضايا أخرى، لاسيما والخُلُق عندنا يتركز على الإيمان بالله، ولا يتركز على فلسفات بشرية أو مادية، وذلك يعني أن هدم الإسلام ـ وهو دينُ أكثَرَ مِن تسعة أعشار العرب ـ لا ثَمرةَ له إلا ضَياعُ الأخلاق يَقِينًا، وعندما يقول الله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بالقِسْطِ شُهَداءَ للهِ) (النساء: 135) فلا تنتظر عدالة ولا شهادة نقيَّة مِن شخص خَرِبِ القلب!
والواقع أن الذين يَنتقضون الإسلام ويَعبَثون بشَعائره يَهُزُّون الأخلاق هزًّا، ويُنشئون أجيالًا لا تَصلح في حرب ولا سلام
وليسَ بقائمٍ بنيانُ قومٍ إذا أخلاقُهمْ كانت خَرَابًا!
يجب أن تقوم للإسلام أمةٌ تعمل به وتُعطي صورة صادقة له، ومِن السفاهة تكليفُ العالَم أن يدرُس الإسلام مُجردًا من سِيرة مُعتنقيه، وتحميلُه مسئوليةً فلسفيةً عن كُفره وإيمانه بعد تلك الدراسة العجيبة.
وأرى أن الصحوة الإسلامية المُعاصرة مُكلَّفة بتكوين هذه الأمة الجديدة وإنصاف رسالة الإسلام مِن هذا البلاء. ومع تمام هذا التكوين نَعرض أنفسنا على ساكني القارات المَعمورة. واعتقادي أن النجاح سيكون حليفنا، فإنَّ لصاحب الحقِّ مَقالًا، وللحقيقة سَناؤُها وإغراؤها، وقد سئِم الناس ما صحِب الحضارة الحديثة من جَفافٍ وإباحية، ومِن شَرَهٍ ووَحْشِيَّة، ومِن بُعْد عن الله وكُفْرٍ بلقائه. وفي حقائق الإسلام وشُعب الإيمان الجامعة الجليلة ما يُغني ويَستحق كل حَفاوة. وفي لقائي ببعض الكبار الذين أسلَموا رأيتُ أن الجانب العاطفي من الإسلام هو الذي اجتَذَب الانتباه، أو المَنطقَ العقليَّ للقرآن الكريم، أي أن القوم ينشُدون ما ينقُصهم.(1/558)
وهنا أَلفِتُ النظر إلى أن بالإسلام أُصولًا صُلبة وفروعًا مَرِنة، وفيه أقوالٌ وآراءٌ نِسْبتُها إلى الناس أقربُ من نِسبتها إلى ربِّ الناس، والدعاة الراشدون يَعرفون واجبهم بإِزاء هذا كله.
وأخشى أن يذهب داعيةٌ ليطعن في قانون السببيَّة، ويزعم أن النار لا تَحرق بحَرِّها وأن السكِّينة لا تقطع بحدِّها، كما هو مُقَرَّرٌ في كُتب الكلام عندنا.
أو ليذهب آخر ليقول: لا تُقيدوا الحاكم بالشورى، فليس يجب عليه ذلك.
أو يذهب آخر فيقول: لابد من ضرب النقاب على وُجوه النساء وحَبْسِهنَّ في البيوت أغلب العمر، فلا تتعلَّم ولا تَعبُد ولا تَمشي في الأسواق.
إن أُصول الإسلام ومَعاقد العبادات والأخلاق هي التي يُدْعَى إليها، والناس يتخيَّرون بعدُ ما يُعجبهم من تفاسيرَ ووجهاتِ نظرٍ.
وفي رأيي أن النموذج العلميّ الذي يُقدمه المسلمون هو الأساس الأول لنجاح الدعوة. ثم إن الدول الإسلامية الكثيرة يجب أن تتقاربَ وتُوهِيَ الحدودَ بينها، ولا بأس أن يبدأ ذلك بأسواقٍ مُشتركة أو بتكوين اتحادات إقليمية، كما تَمَّ بين دول الخليج ودول وادي النيل، وما يُقترَح بين دول المغرب الكبير، على أن يكون الهدف الأهمُّ تجمُّعَ المسلمين كافَّة في كيانٍ واحد أو جسَدٍ رُوحه الإسلام.(1/559)
100 - إلى أي مدى يمكن أن نقتبس من هذه الحضارة المعاصرة ؟
كان رجال التعليم والتربية في اليابان أيقاظا عندما اتصلت بلادهم بأوربا في القرن الماضي ، أو قل: كان حراس التقاليد الموروثة صاحين عندما قررت اليابان الاستفادة من التفوق الصناعي الغربي ، فقد أعدوا لكل جديد يقتبس مكانه فوق أرضهم، ومساحته المادية والأدبية التي لا يعدوها، وهيمنوا ببصر حاد على الآثار المتوقعة حتى لا تفلت من أيديهم، أو تتحرك بعيدا عن خططهم المرسومة..
ومع التزام هذا الخط الصارم بقيت الشخصية اليابانية محفوظة السمات ثابتة الملامح، فانتقلت الصناعات الغربية إلى اليابان، ولم يتحول اليابانيون إلى أوربيين في عقائدهم أو لغتهم أو آدابهم وأخلاقهم ..
إنهم فعلوا ولم ينفعلوا وقادوا ولم ينقادوا ..
وكانت هناك أديان بينها فجوات، البوذية من ناحية، والشنتوية من ناحية أخرى.. و الأتباع المخلصون تتقسمهم وجهات نظر شتى، ومذاهب فقهية كثيرة - إن صح التعبير - بيد أن لونا من المعايشة السلمية فرض نفسه على الجميع فإذا اليابانيون كلهم دون حساسيات دينية يتعاونون على إنهاض بلدهم ورفع لوائه، وتم لهم ما أرادوا ..
إن للنجاح الحقيقي أساسا لا يتغير.. هو النفس الإنسانية، فإذا استقر هذا المهاد لم يبق شيء ذو بال، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أعرف إنسان بهذه الحقيقة، فاتجهت جهوده كلها قبل أي شيء إلى داخل الإنسان تصوغه وتضبطه وتطمئن إلى قراره ومساره، وهو يعرف أن هذا الإنسان سوف يفرض نفسه على بيئته يوما عندما تنزاح العوائق من أمامه..
ولم يحاول قط الاصطدام بالأسوار الخارجية قبل استكمال هذا الداخل المهم.. ومن ثم ترك الأصنام منصوبة حول الكعبة عشرين سنة، لم يهتم واحدا منها في
ص _543(1/560)
معركة طائشة، بل الثابت في سيرته أنه طاف في عمرة في السنة السابعة حول الكعبة والأصنام جاثمة حولها، وفى الأوضاع التي كانت عليها من بدء الدعوة.. أكان ذلك بقيا عليها، أو توقيرا لها؟.. كلا.. لقد كان يعلم أن لها أجلا لا ريب فيه، وأنها عن قريب أو بعيد ستتحول جذاذا.. ومن الذي يقوم بهذا التحويل الحاسم؟ الرجال الذين استناروا من الداخل، وتربوا على التوحيد الحق .. لقد عرفوا أن الذباب أقوى من هذه الأصنام، وأنها لا تثبت في معركة معه.. ألم يتلوا قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) . فليتربصوا بهذه الأصنام يوما لا ريب فيه دون استعجال، وليهتموا بداخلهم يتعهدونه فهو الوجود الآتي مع الغد .. و يتساءل أناس: ما هذا التعهد الشاغل المهم؟ ونقول: هو تعهد الوعي ليكون صحيحا، والباطن ليكون نظيفا، والخلق ليكون عظيما، والإخاء ليكون وثيقا، والهدف ليكون واضحا.. فالأمم لا تبنى بالصور وإنما تبنى بالحقائق.. إن المنافقين أحن الناس إتقانا للمراسم، وقلوبهم هواء.. أما المؤمنون فإن نضج نفوسهم، وزكاة سرائرهم، هما سر عظمتهم، وسر مآل الأمور إليهم.. ولا يعرف في تاريخ الهداة رجل مثل محمد صلى الله عليه وسلم أحسن صوغ النفوس وإيقاظ ملكاتها وإدارتها بأعظم ما فيها من طاقة، وجعلها تدفع ولا تندفع، وتؤثر ولا تتأثر.. فهل نحن الدعاة المنتمين إليه نفهم هذا المنهج، ونلتزم منطقه؟؟.. إن الموجهين اليابانيين كانوا أذكى منا وأقدر في مواجهة المشاكل وهزيمة الصعاب .. ص _544(1/561)
نظرت بحسرة إلى " الخلق الفردى " فى الإفادة من التقدم الصناعى العالمى، ما هذا؟ هذا شاب يقود سيارة فارهة، تنهب الأرض نهبا، ينزل منها بأناقة وكبرياء، ويرمق الشارع بنظرة استعلاء، يشترى ببض السلع ثم يمتطى سيارته ويعود من حيث جاء.. ! إنه ما زاد من الناحية الإنسانية شيئا عن الأيام التى كان سلفه يمشى فيها حافيا أو منتعلا.. وما تشرف به أمته ولا أسرته. وهذا عامل قادم من وإدى النيل ماذا حمل إلى وطنه ؟ " فيديو "! إن المسكين جمد عرق جبينه وإرهاق أعصابه فى هذا الجهاز المسلى، وسيحمله منتصب القامة والهامة لأنه أصبح به أرفع مستوى، وما درى المسكين أنه بما يحمل نقص وما زاد.. العرب فى الحضارة الحديثة شعوب مستهلكة تتنافس الدول الصناعية على إلهائها بالأدوات البراقة والمخترعات المربحة. والدعاة لا يدرون كيف يستنقذون أمتهم المخروبة من هذه الأوضاع القاتلة.. لأنهم لا يتجهون إلى داخل الإنسان المسلم، يحركون ما توقف من أجهزته، و ينيرون ما أظلم من مصابيحه.. إنهم يتحركون نحو الظاهر القريب أو تحته بقليل.. إن قدرة أمة ما على الصدارة فى الأرض، أو توريث أمة ما قيادة العالم كما يعبر القرآن الكريم، لا يجئ بين عشية وضحاها، ولا يتم بخصائص سهلة، لا أن له صلاحيات معينة أومأ إليها الوحى فى قوله سبحانه: (ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون) ... لا تظن المدى قريبا بين ما قصه القرآن الكريم عن ذل بنى إسرائيل قديما، وبين تمكينهم فى الأرض بعد ذلك. عندما توعد فرعون قوم موسى، وجاء على لسانه.. (قال سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) .. قال ص _545(1/562)
موسى لقومه: (استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) . ومرت السنون، وتغيرت الأوضاع (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) إن ذلك كله لم يتم فى أيام قلائل، إنه استغرق عشرات السنين، حتى أمكن وفق سق الله الاجتماعية أن يرزق العبيد أخلاق السيادة الحقيقية.. والواقع أن العرب أيام البعثة تعهدتم بالصقل والتهذيب يد صناع، ومضت بهم فى طريق المجد نبوة ملهمة، نبوة حولت الماء والطين إلى أزهار ورياحين.. نعم إن الإسلام حول العرب إلى ربانيين بعد ما كانوا شياطين، وجعلهم نماذج تحتذى فى ميادين : العبادات والمعاملات، فكانت قيادتهم خيرا وبركة وكانت فتوحهم الفكرية والروحية أندى وأجدى من فترحهم العسكرية الخارقة.. وعندما سقطت القيادات القديمة من الفرس والروم لم يبكها أحد، لم يتخلف عن سقوطها فراغ يحاول الآخرون ملأه! بل الذى حدث أن الشعوب تنفست الصعداء، ورأت أن ما جد فى ربوعها أولى بالتقدير والاحترام، أو أولى بالرعاية والحماية. لكن عرب اليوم على غرار آخر، ودعك من التخلف الصناعى والحضارى، ولننظر إلى قضايا اجتماعية وأخلاقية هى من صميم حياتنا الداخلية.. ما تقاليد الزواج عندنا؟ هناك أعراف متبعة أن قبيلة دون قبيلة.. وأن أسرة أعرق من أسرة.. وأن مكانة امرئ ما تنبع من نسبه.. وقد ساند هذا السلوك الجائر تفكير فقهى يؤكد أن المرأة من بنى أمية أو بنى هاشم لا يرقى إلى مستواها الرجل من عرق آخر.. ص _546(1/563)
أليست هذه هي التفرقة العنصرية التي جاء الإسلام لمحوها؟ هل نستطيع تصدير هذا التفكير إلى العالم؟ وهل نكون صادقين مع الله عندما نزعم أن ذاك دينه؟.. وهل يقبله أهل الأرض منا ؟.. وفى أقطار كثيرة رأيت الشباب يئن من غلاء المهور، وأحسست أن العوائق هائلة دون الحلال وأن المغريات كثيرة نحو الحرام، فهل هذا العجز في علاج أهم الغرائز البشرية يعد نصرا إسلاميا، وهل رسالة أمتنا الاجتماعية تصعيب الطيبات وتيسير الخبائث، وهل يهش العالم لتقاليدنا تلك ؟؟.. ولا أمضى في سرد أمثلة لتعثر قضايانا الاجتماعية، إنما أمد البصر لقضايانا الخلقية التي لن نستورد لبحثها خبراء أجانب .. شكا لي شاب ناشئ موهوب، وعورة الطريق أمامه، فقلت له يائسا : أمضى بمواهبك إلى الأمام دون انتظار عون من أحد .. بل توقع الكيد والصد لأن البيئات التي نعيش فيها لا ترحب بالموهوبين، ولا تؤتى كل ذي فضل فضله .. لا كارهة ، أو مغلوبة .. أغلب الناس يعيش داخل قوقعة من نفسه ومآربه، وقلما يلتفت إلى الآخرين ليسدى عونا، أو يقدم يدا .. والطريقة التي يدرسون بها الدين لا تعين على زكاة النفس وسنائها، فالأجرب عندما يرتدى ثوبا غاليا جميلا قد يستر علته حينا، بيد أن ذلك لا يشفى سقامه. هكذا نرى الذين يؤدون مراسم العبادات، ولا يهذبون أنفسهم.. الفارق بين الإنسان والحيوان أن الحيوان يتحرك بدوافع حاجاته الخاصة ولا يحس إلا ذاته! أما الإنسان فالمفروض أنه يحيا في مجتمع له ضوابطه وآدابه، وعلى المرء أن يحس بنفسه و بغيره معا، والصورة الدنيا للسلوك البشرى تظهر في أفعال المجرمين الذين لا يهتمون إلا بما يشتهون، أما صورة الرقى المنشود فتتضح كلما اخفت الأنانية، ونما الإحساس بالغير، والتقدير لحقوقه .. ص _547(1/564)
وقد أقام الإسلام شعار " في سبيل الله " ليخلع الإنسان من أثرته، و يدفعه إلى ربه! فالإنفاق ينبغي أن يكون في سبيل الله، والجهاد ينبغي أن يكون في سبيل الله ، والسعي في هذه الدنيا ينبغي أن يكون في سبيل الله ، بل المحيا والممات جميعا في سبيل الله .. وهذا الشعار يعنى في النشاط العام أمرين: ابتغاء وجه الله، وتحقيق المصلحة العامة، وفقهاؤنا يرون أن حق الجماعة داخل في كل ما هو لله، إذ الإسلام يمزج بين الدين والدولة، والعبادات والمعاملات.. والذي حدث في هذا العصر أن المقاييس الأخلاقية في الغرب غالت في حق المجتمع، وقهرت به النوازع الشخصية، وجعلت " المواطن " يرعى وطنه، ومصلحة قومه ورفعة أمته.. إلى آخره، وضبطت بذلك أنانيته الخاصة.. أما المنتمون إلى الدين فأن شعار في سبيل الله " نسى ،أو تنوسى ، في مجال التربية " !.. وترك سرطان الأنانية يمتد و يتوغل، فماذا كانت النتيجة؟.. فرقة مستغربة بين مجاهدي أفغانستان ، وبين محرري فلسطين! وسيطرت المآرب على أغلب الأنشطة العامة.. فإذا الشخص الذي يعمل لوطنه في أوربا أيقظ ضميرا من مثيله الذي ينتمي إلى الدين ولا يفكر في سبيل الله، وإنما يفكر في تنمية ثروته أو دعم مكانته.. إن المبدأ الإسلامي الأول في التربية وهو (قد أفلح من زكاها) لا تحقق بالدعوى ولا بالصياح، و إنما يتحقق بتطبيق عميق حاسم في شئون الحياة، بين جميع الطوائف .. إن " ديجول " ولى نعمة فرنسا الحديثة دفن دون احتفال فى قريته، وامرأته الفاضلة تعيش بين جدران ملجأ يرعى شيخوختها.. على حين نرى من خانوا أمتهم أو غشوها يدفنون وسط أحفال مائجة، وتوضع في أفواه أسرهم ملاعق الذهب! فهل هذه مثاليات الإسلام كما نراها ؟ وهل تنتصر الدعوة الإسلامية بهذا التفاوت الصارخ ؟.. ص _548(1/565)
إن الطيبة أو التقوى أو القدرة على ميز الخبيث من الطيب وإيثار الحسن على القبيح ، كانت المشاعر التى برز بها سلفنا الأولون بل آباؤنا الأقربون.. ولقد عرفت فلاحى قريتنا وأنا صغير ينامون مبكرين بعد صلاة العشاء، ويستيقظون مع الفجر، فيذهبون صوب حقولهم، وقد تذهب إليهم زوجاتهم أو أولادهم بالغداء، فما يعودون من مزارعهم إلا مع الغروب.. وكانت أرضوهم تدر السمن والعسل، و بركات الله تنهمر عليهم بالغدو والآصال.. والآن بعد السهر والسمر على شتى البرامج والنوم حتى الضحى، وإضاعة الصلاة، واتباع الغفلات ماذا نجنى؟ والسؤال نفسه مع أهل الخليج، لقد سمعت معمرين منهم يتحدثون عن الماضى بأسى وإعزاز معا! يقولون: كنا فقراء، ولكن الرجولة والاستعفاف وتقوى الله كانت تسود الآفاق.. إن الغد مع الشهوات الوافدة مر الثمر... أريد من أمتنا أن تقتبس من حضارة الغرب ما يوافق أو يتواءم مع فطرة الله فى مواريثنا.. ثم ماذا على الدعاة والمربين لو درسوا الأساليب التى اتبعها اليابانيون فى الاستفادة من هذه الحضارة؟.. ثم إن هناك خللا فى التركيب الإنساني لأمتنا طرأ عليها مع ترادف العلل السياسية والاجتماعية، جعل المنطق العلمى يتقهقر، وتحل محله الأوهام، وجعل الاكتمال النفسى يضعف وتسد فراغه بعض الشعائر وسور الطاعات.. وعلماؤنا الكبار لم تخدعهم هذه النقائص، ولذلك رفض ابن القيم من الغنى البخيل أن يكثر الذكر ويطيل الصيام، فعبادته الأولى العطاء! كما رفض من الداعية الجبان أن يثرثر بالأوراد، ويعتكف بعيدا عن الناس فعبادته الأولى الأمر والنهى والنصح. وفى عصرنا هذا لا يخفى ما تحتاج إليه أمتنا كى تنهض من عثرتها، وما أيسر التوفيق بين التقدم الحضارى ومواريث الدين والخلق، والوفاء بحقوق الله..(1/566)