ص -21- ... الموجودين، إنَّه سميعٌ مجيب.
وقد جاء آثار عن السلف تدلُّ على مدى عِظم المصيبة بموت العالِم:
ـ فعن سَلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "لا يزال الناسُ بخير ما بقي الأول حتى يتعلَّم الآخِر،فإذا هلك الأوَّلُ قبل أن يتعلَّم الآخِر هلك الناس" رواه الدارمي في سننه (255).
ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه لَمَّا مات زيد بن ثابت قال: "هكذا ذهابُ العلم،لقد دُفن اليوم علمٌ كثير" رواه الحاكم في المستدرك (3/428).
ـ وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "تعلَّموا العلمَ قبل أن يُقبض العلمُ،وقبضُه أن يُذهَب بأصحابه...إلى أن قال:فما لي أراكم شباعاً من الطعام،جِياعاً من العلم" جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/602).(16/20)
ص -22- ... ـ وعن الحسن قال: "موتُ العالِم ثُلمة في الإسلام لا يسدُّها شيء ما طرد الليل والنهار" رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/595).
ـ وعن أيُّوب السّختياني قال: "إنَّه ليَبلُغنِي موتُ الرَّجل من أهل السُّنَّة،فكأنَّما سقط عضوٌ من أعضائي" رواه أبو نعيم في الحلية (3/9).
ـ وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (ص:74): "...لَمَّا كان صلاحُ الوجود بالعلماء، ولولاهم كان الناسُ كالبهائم، بل أسوأ حالاً، كان موتُ العالِم مصيبة لا يجبرها إلاَّ خلف غيرِه له، وأيضاً فإنَّ العلماءَ هم الذين يسوسون العبادَ والبلاد والممالك، فموتُهم فسادٌ لنظام العالَم،ولهذا لا يزال اللهُ يغرسُ في هذا الدِّين منهم خالفاً عن سالف يحفظُ بهم دينَه وكتابَه وعبادَه، وتأمَّل إذا كان في الوجود رجلٌ قد فاق العالَم في الغنى والكرم، وحاجتهم إلى ما عنده شديدة، وهو محسنٌ(16/21)
ص -23- ... إليهم بكلِّ ممكن ثم مات، وانقطعت عنهم تلك المادة، فموتُ العالِم أعظمُ مصيبة من موت مثل هذا بكثير، ومثل هذا يموت بموته أممٌ وخلائق".
وقبل ذلك كلِّه ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، في الحديث المتفق على صحَّته عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يَقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لَم يُبق عالِماً اتَّخذ الناسُ رؤوساً جُهَّالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضلُّوا"، وهذا لفظ البخاري (100).
ولا شكَّ أنَّ وجودَ العالِم المحقِّق بين الناس غنيمةٌ عظيمةٌ، يستفيدون من نُصحه، ويستضيئون بنورِ علمِه، فإذا فقدوه شعروا بالفراغ الواسع.
وفي هذا المعنى قال الشاعر محمد بن عبد الله بن(16/22)
ص -24- ... عثيمين المتوفى سنة 1363هـ في رثاء الشيخ سعد ابن حمد بن عتيق المتوفى سنة 1349هـ:
خَبَتْ مصابيحُ كنّا نستضىءُ بها ... وطوّحَتْ للمغيب الأنجُمُ الزُّهُرُ
واستحكمتْ غُرْبَةُ الإسلام وانكسفتْ ... شمسُ العلومِ التي يُهدى بها البَشَرُ
عقِبه:
وأمَّا عقِبه فله خمسة من البنين،وثلاث من البنات.
وبنوه هم:عبد الله،وعبد الرحمن،وإبراهيم،وعبد العزيز،وعبد الرحيم.(16/23)
ص -25- ... وأذكر أنَّه جرى حديث معه في تسمية الأولاد، فكان مِمَّا قال :إنَّنِي سَمَّيتُ ثلاثةً من أولادي معبَّدين لأسماء الله التي في البسملة، وهم عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم.
أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُصلحَ عَقِبَه، وأن يُصلح أبناءَ المسلمين، وأن يُوفِّقنا جميعاً لِما فيه رضاه.
ثامناً: وصايا ومقترحات
أهمُّ ما أوصي به طلبةَ العلم بهذه المناسبة أن يحرصوا على الاشتغال بالعلم، والاستفادة من أهله الذين هم على قيد الحياة، فيغتنموا فرصة وجودهم بينهم، ويأخذوا عنهم العلمَ، ويرجعوا إليهم في معرفة ما يشكل، وأن يعتنوا باقتناء الكتب النافعة لعلماء أهل السُّنَّة المحقِّقين من المتقدِّمين والمتأخِّرين، وأُوصيهم بالعناية بالمذاكرة بينهم في العلم، وشغل أوقاتهم بالقراءة في الكتب النافعة، والاشتغال بما يعود عليهم نفعه في الدنيا والآخرة.
أمَّا بالنسبة لما خلفه الشيخ ـ رحمه الله ـ من آثار، فأقترح أن يقوم بعضُ طلاَّبه الذين على علمٍ بمؤلفاته والأشرطة التي سُجِّلت فيها دروسه ومحاضراته بكتابة(16/24)
ص -26- ... فهرس شامل لتلك المؤلفات والأشرطة؛ ليكون طلبةُ العلم على عِلمٍ بها،فيحرصوا على اقتناء ما أمكنهم اقتناؤه منها، ثم العناية بتفريغ ما لَم يُفرَّغ من تلك الأشرطة، والسعي لدى مَن يقوم بطباعتها، ليكون طلبةُ العلم على إحاطة بما خلفه هذا العالِم الكبير من آثار،فيقتنوها ويستفيدوا منها.
ثمَّ أقول: إنَّ الشيخ ـ رحمه الله ـ من العلماء الذين اجتهدوا وحرصوا على اتِّباع الدَّليل من الكتاب والسُّنَّة، وله عناية في التحقيق في المسائل والاستدلال عليها بالكتاب والسُّنَّة والإجماع والمعقول، حيث يذكر الأدلَّة إجمالاً ثمَّ يفصِّلها، ويُبيِّن وجهَ الاستدلال، وهو مِمَّن رُزق فقهاً في الدِّين، وعناية في فقه الشريعة أصولاً وفروعاً، وهو كغيره يخطئ ويُصيب، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُردُّ إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وله آراء في مسائل يسيرة،يرى غيرُه أنَّ الصوابَ(16/25)
ص -27- ... على خلاف ما قال، وقد يكون هو المصيب، ومن المعلوم أنَّ كلَّ مجتهد للوصول إلى الحقِّ لا يعدم الحصول على أجرٍ أو أجرَين، على أجرين إن أصاب، وأجرٍ واحد إن أخطأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو ابن العاص رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكمُ فاجتهدَ ثمَّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمَّ أخطأ فله أجرٌ"، وهذا لفظ البخاري (7352).
فقد قسم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الحكَّام في هذا الحديث إلى قسمين :مصيب ومخطئٌ، فدلَّ على أنَّ الحقَّ يُصيبه من يُصيبه، ويخطئه مَن يخطئه، وأنَّه ليس كلُّ مجتهدٍ في اختلاف التضادِّ مصيباً حقًّا، وإنَّما كلّ مجتهد مصيبٌ أجراً، مع تفاوتِهم في الأجر كما هو واضح من هذا الحديث.
والحاصلُ أنَّ الشيخَ ـ رحمه الله ـ عالِمٌ كبيرٌ، وعلمُه(16/26)
ص -28- ... غزيرٌ، وصوابُه كثير، ونفعُه عميم، فأوصي بالاهتمام بآثاره والاستفادة منها.
وختاماً فقد ورد في صحيح مسلم (920) من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة عند موتِه فقال: "اللَّهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجتَه في المهديِّين، واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالَمين، وافسَح له في قبره، ونوِّر له فيه".
وأنا أقول: اللَّهمَّ اغفر للشيخ محمد بن عُثيمين، وارفع درجتَه في المهديِّين، واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالَمين، وافسَح له في قبره، ونوِّر له فيه.
وأسألُ اللهَ أن يُوفِّقنا جميعاً لتحصيل العلمِ النافع، والعمل الصالِح، إنَّه سميعٌ.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.(16/27)
عنوان الكتاب:
العبرة في شهر الصوم
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
الأول، 1370هـ/1970م(17/1)
ص -31- ... العبرة في شهر الصوم
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
محاضرة ألقيت في مدرسة طيبة الثانوية ليلة الاثنين الموافق 16 شوال عام 1390 هـ
الدنيا دار ابتلاء وامتحان:
خلق الله عباده ليعبدوه وحده لا شريك له، وقال في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، وأرسل رسله الكرام ليرسموا لهم طريق العبادة، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.. وجعل حياتهم الدنيوية موطناً لابتلائهم وامتحانهم أيهم أحسن عملاً، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}, ثم قال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} مبيناً أن هؤلاء الممتحنين منهم من يحسن في عمله فيجازى بما يقتضيه اسمه الغفور ومنهم من يسيء فيكون مستحقاً للعقوبة بما يقتضيه اسمه العزيز, وذلك كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ, وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}.
موسم من مواسم الآخرة:
وكما فضل الله بعض البشر على بعض وبعض الأماكن على بعض فضل بعض الزمان على بعض، ومن ذلك تفضيل شهر رمضان المبارك وتمييزه على غيره واختياره ليكون محلاً لإيجاب الصوم على الناس {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}.. فلقد فضل الله هذا الشهر وجعله موسماً من مواسم الآخرة يتنافس فيه عباده المتنافسون ويتسابق فيه لتحصيل الفوز والزلفى عند الله المتسابقون، يتقربون فيه إلى ربهم بصيام النهار وقيام الليل وتلاوة كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من(17/2)
ص -32- ... بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ويتقربون إلى الله بهذا وغيره من الطاعة مع الحذر والبعد عن المعصية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور.
زيادة في الخير:
ولما فرض الله على العباد صيام شهر رمضان رغبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتهائه بصيام ست من شوال ليعظم لهم الأجر وليكونوا كمن صام الدهر، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر". قال الحافظ المنذري: "رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني وزاد وقال: "قلت: بكل يوم عشرة، قال: نعم"، ورواته رواة الصحيح". انتهى. وذلك أن السنة أقصى حد لها ثلاثمائة وستون يوماً فإذا أضيف إلى شهر رمضان ستة أيام من شوال وصيام كل يوم بعشرة أيام لأن الحسنة بعشر أمثالها يكون المسلم كأنه صام السنة كلها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "كان كصيام الدهر" وذلك فضل عظيم من الله فله الحمد والشكر على نعمه التي لا تحصى ولا تعد.(17/3)
من خير إلى خير:
ومن فضل الله وإحسانه إلى عباده أن يسر لهم الأسباب التي ترفع في درجاتهم وتجعلهم على صلة وثيقة دائماً بعبادة ربهم فإذا مرت بهم أيام وليالي شهر رمضان التي يكفر الله فيها السيئات ويرفع الدرجات ويقيل العثرات تقربوا فيها إلى ربهم فإذا ما تصرمت أيامه وانتهت تلتها مباشرة أشهر الحج إلى بيت الله الحرام فإن يوم عيد الفطر الذي هو أول يوم من شهر شوال هو أول يوم في أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَاب} نعم إذا انتهت أيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن الشهر المبارك الذي تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد الشياطين(17/4)
ص -33- ... أيام الصيام التي قال الله تعالى عنها في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، إذا انتهت هذه الأيام جاءت أيام الحج الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وقال عنه صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، فلا يكاد المسلم يودع موسماً من مواسم الآخرة إلا استقبل موسماً آخر ليكون على صلة مستمرة بعبادة خالقه وبارئه الذي أوجده من العدم وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
العبرة من شهر الصوم:
وهذا الموسم المبارك من مواسم الآخرة قد ودعته الأمة الإسلامية منذ أيام فطوبى لمن وفقه الله فيه للأعمال الصالحة وتفضل عليه بقبولها ويا خسارة من مرت به أيامه دون أن يقدم فيها لنفسه صالحاً يلقاه إذا غادر هذه الدار وما أعظم مصيبته إن كان قد شغل أيامه بما يرضي الشيطان ويتفق مع ما تهواه النفس الأمارة بالسوء، والعياذ بالله.
وهذا الموسم العظيم الذي مرت بنا أيامه يشتمل على فوائد جمة وعلى عبر وعظات تبعث في النفس محبة الخير ودوام التعلق بطاعة الله كما تكسب النفس بغض المعصية والبعد من الوقوع فيما يسخط الله عز وجل.
وسأحاول فذ هذه الكلمات تسجيل بعض تلك العبر والعظات التي يخرج بها المسلم معه من شهر الصيام والتي هي الحصيلة الطيبة له في تلك الأيام المباركة فأقول مستمداً من الله التوفيق والتسديد:(17/5)
ص -34- ... العقوبة على السيئة السيئَة بعدها وذلك أن المسلم الناصح لنفسه إذا وفق لبلوغ هذا الشهر المبارك وشغله في طاعة ربه الذي خلقه لعبادته وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة فارتاحت نفسه للأعمال الصالحة وتحرك قلبه للآخرة التي هي المستقر والمنتهى والتي لا ينفع الإنسان فيها إلا ما قدمت يداه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، نعم إذا ألفت النفس الطاعة في تلك الأيام المباركة رغبة فيما عند الله وكفت عن المعصية خوفاً من عقاب الله فلفائدة التي يكسبها المسلم من ذلك والعبرة التي يجب أن تكون معه بعد ذلك أن يلازم فعل الطاعات واجتناب المنهيات؛ لأن الله تعبد عباده حتى الممات.. {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فلا يليق بالمسلم وقد ذاق طعم الطاعة في شهر الصيام أن يحل محل تلك الحلاوة مرارة المعصية، ولا يسوغ له إذا أرغم عدوه في شهر الصيام أن يدخل عليه السرور في شهر شوال وما بعده من الشهور، وليس من صفات المسلم الناصح لنفسه أن يودع فعل الخيرات مع توديع شهر الصيام فيستبدل الزمن الذي هو أدنى بالذي هو خير فالمعبود في رمضان وغير رمضان حي لا يموت قيوم لا ينام يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار لا يظلم مثقال ذرة { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }.(17/6)
ثانياً:
الصيام سر بين العبد وبين ربه لا يطلع على حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى ولهذا جاء في الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي" . وذلك أن بإمكان العبد أن يختفي عن الناس ويغلق على نفسه الأبواب ويأكل ويشرب ثم يخرج إلى الناس ويقول أنا صائم ولا يعلم ذلك إلا الله تبارك وتعالى ولكن يمنعه من ذلك اطلاع الله عليه ومراقبته له وهذا شيء يحمد عليه الإنسان والعبرة من ذلك أن يدرك أيضاً أن الذي يخشى إذا أخل الإنسان بصيامه هو الذي يخشى إذا أخل الإنسان بصلاته وزكاته(17/7)
ص -35- ... وحجه وغير ذلك مما أوجبه الله فالذي فرض الصيام هو الذي فرض الصلاة والصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولعظم شأنها وكونها هي الصلة المستمرة ليلا ونهاراً بين العبد وبين ربه افترضها الله على نبيه ليلة عرج به إلى السماء فإذا وجد المسلم أن إخلاله بالصيام كبير وعظيم فيجب أن يجد ويدرك أن حصول ذلك منه في الصلاة أكبر وأعظم وتلك من أجل الفوائد وأعظم العبر التي يستفيدها المسلم من شهر الصيام.
ثالثاً:
إن مما يشرح الصدر ويدخل السرور على النفوس الطيبة أن تكون المساجد عامرة بالمصلين في شهر رمضان ويكون انشراحها أعظم والسرور أكبر في المداومة على ذلك فالفائدة التي يليق بالمسلم بعد الذي شاهده في تلك الأيام من اكتظاظ المساجد بالمصلين أن يعقد العزم ويصمم على أن يكون ممن يداوم على هذا الخير ليكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فإن من بينهم الرجل الذي يكون قلبه معلقا بالمساجد كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً:
وجوب الصيام عن الطعام والشراب وسائر المفطرات محله شهر رمضان أما الصيام عن الحرام فمحله طيلة عمر الإنسان فالمسلم يصوم في أيام شهر رمضان عن الحلال والحرام ويصوم طيلة حياته عن الحرام فالصيام عن الحلال والحرام معاً قد مرت أيامه أما الصيام عن الحرام فهو مستمر دائم وذلك أن الصوم في اللغة الإمساك عن الشيء، والصوم الشرعي هو الإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس والمعنى الشرعي جزء من جزئيات المعنى اللغوي فكما يطلق المعنى اللغوي على المعنى الشرعي فهو يشمله ويشمل غيره ومن ذلك الامتناع عن الحرام فامتناع العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج عما منعت منه هو صيام من حيث اللغة وذلك أن الله تفضل على العباد بهذه النعم التي لا غنى لهم عنها ولكن الله كما امتن عليهم بها(17/8)
ص -36- ... أوجب عليهم استعمالها فيما يرضيه وحرم عليهم استعمالها فيما يسخطه ومن أعظم شكر الله على هذه النعم أن يكون المسلم مستعملاً لها حيث أمر أن يستعملها فيه ممتنعاً عن استعمالها في معصية من تفضل عليه بها وبكل نعمة ظاهرة وباطنة سبحانه وتعالى.
فالعين شرع استعمالها في النظر إلى ما أحل الله ومنع من استعمالها في النظر إلى الحرام وامتناعها عن ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.
والأذن شرع استعمالها في استماع ما أبيح لها وحرم على العبد استعمالها في سماع ما لا يجوز سماعه وامتناعها عن ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم.
واللسان شرع استعماله في كل معروف ومنع استعماله في كل ما هو منكر وامتناعه من ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم.
واليد شرع استعمالها في تعاطي ما هو مباح ومنع من استعمالها في كل حرام وامتناعها من ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.
والرجل شرع استعمالها في المشي إلى كل خير ومنع من المشي فيها إلى الحرام وامتناعها عن ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.
والفرج أبيح استعماله في الحلال ومنع من استعماله في الحرام وامتناعه من ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم .
وقد وعد الله من شكر هذه النعم واستعملها حيث أمر الله أن تستعمل وعده بالثواب الجزيل وتوعد من لم يحافظ عليها ولم يراع ما أريد استعمالها فيه بل طلقها فيما يسخط الله ولا يرضيه بل يرضي الشيطان الذي هو عدو الله وعدو المخلصين من عباد الله توعده بعقابه وأخبر أن هذه الجوارح مسؤولة يوم القيامة عنه وهو مسؤول عنها فقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}, {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}, وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ, حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ(17/9)
وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ, وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن(17/10)
ص -37- ... جبل رضي الله عنه بعد أن أمره بحفظ اللسان، وقال له معاذ: "يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال عليه الصلاة والسلام: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة". رواه البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه, ورواه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: "من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" . رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجا من حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعاً: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" . وقال صلى الله عليه وسلم: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والحاصل أن الله أوجب على العبد أن يصون لسانه وفرجه وسمعه وبصره ويده ورجله عن الحرام وهو صيام من حيث اللغة وهذا الصيام لا يختص بوقت دون آخر بل يجب الاستمرار عليه حتى الممات طاعة لله تعالى ليفوز برضا الله ويسلم من سخطه وعقوبته، فإذا أدرك المسلم أنه في شهر الصيام امتنع عما أحل الله له؛ لأن الله حرم عليه تعاطي ذلك في أيام شهر رمضان فالعبرة من ذلك أن يدرك أن الله قد حرم عليه الحرام مدة حياته وعليه الكف عن ذلك والامتناع منه دائماً خوفاً من عقاب الله الذي أعده لمن خالف أمره وفعل ما نهى عنه.
وقد أخبر عليه الصلاة(17/11)
والسلام في الحديث القدسي عن ربه أن للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند(17/12)
ص -38- ... لقاء ربه فالصائم يفرح عند فطره لأن النفس عند الفطر تتعاطى ما منعت منه وهو محبوب لها ولأنه قد وفق لإنهاء الصيام الذي جزاؤه عظيم عند الله ويفرح الفرحة الكبرى عند لقاء ربه حيث يجازيه على صيامه الجزاء الأوفى.
ومن حفظ لسانه عن الفحش وقول الزور وفرجه عما حرم الله عليه ويده من تعاطي ما لا يحل تعاطيه وسمعه من سماع ما يحرم سماعه وبصره عما حرم الله النظر إليه واستعمل هذه الجوارح فيما أحل الله من حفظها وحافظ عليها حتى توفاه الله فإنه يفطر بعد صيامه هذا على ما أعده الله لمن أطاعه من النعيم وأول ما يلاقيه من ذلك ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجري للمؤمن عند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة حيث يأتيه في آخر لحظات في الدنيا ملائكة كأن على وجوههم الشمس معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة يتقدمهم ملك الموت فيقول: يا أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء إلى آخر ما بينه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مما يجري بعد ذلك وهذه هي البوادر الطيبة التي يجدها أمامه من حرص على سعادة نفسه وسعى في خلاصها مما يفضي بها إلى الهلاك والدمار، ولهذا أرشد طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه الرجل الذي سأله عن قيام الساعة إلى ما هو أهم من قيامها وهو الاستعداد لها بالأعمال الصالحة فإنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن قيامها: "وماذا أعددت لها؟" مبيناً أن الإنسان في حياته الدنيوية عليه الاستعداد لحياته الأخروية، وقد قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وذلك أن كل سفر لا بد فيه من زاد يناسبه والسفر إلى الآخرة زاده تقوى الله والعمل بطاعته والسير على النهج القويم الذي جاء به رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.(17/13)
كلمة ختامية:
واختتم هذه المحاضرة بكلمة تخصنا معشر الذين امتن الله عليهم بسكنى طيبة الطيبة دار الهجرة والعاصمة الأولى للمسلمين فأقول:(17/14)
ص -39- ... إن شهر رمضان المبارك شهر شرفه الله وخصه بخصائص لا توجد في غيره وقد ودعناه نحن وسائر الأمة الإسلامية منذ أيام ونرجو أن نكون جميعاً ممن فاز فيه برضا الرب جل جلاله والذي أحب أن أذكره هنا هو أنه إذا كان هذا الوقت المفضل والزمن المقدس قد مضى وذهب عنا وعن سائر المسلمين في كل مكان فإن لدينا ولله الحمد والمنة المكان المقدس ، فقد جمع الله لنا في شهر رمضان بين شرف الزمان وشرف المكان وإذا ذهب شرف الزمان فإن شرف المكان باق موجود فها هي بين أيدينا سوق من أسواق الآخرة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عن الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"، إنه الفضل العظيم من الله صلاة في هذا المسجد المبارك مسجد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام تفوق ألف صلاة في سائر المساجد سوى المسجد الحرام، إن المشتغلين في التجارة الدنيوية يتحرون المواسم التي تنفق فيها السلع وتروج فيها التجارة فيتجشمون الأخطار ويقطعون الفيافي وينتقلون بتجارتهم من مكان إلى آخر إذا علموا أن السلعة التي تساوي ريالاً واحداً قد تباع بريالين اثنين، هذا أمر لا مرية فيه ولا شك ونحن في هذا البلد الطيب الصلاة الواحدة في مسجد سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لا تساوي صلاتين أو ثلاثاً أو عشراً أو مائة فحسب بل تفوق ألف صلاة في غيره سوى المسجد الحرام، سبحان الله ما أعظم فضله وأوسع جوده وإحسانه فله الحمد والشكر على نعمه.
ولا يفوتني أن أقول: كما أن النعمة من الله علينا في سكنى طيبة الطيبة عظيمة والمنة جسيمة فإن علينا أن لا ننسى أنه على قدر النعمة تكون المسؤولية فكما أن الإحسان في هذا المكان المقدس أجره عظيم عند الله فإن الإساءة فيه ليست كالإساءة في الأمكنة الأخرى التي لا تفضيل فيها فمن يعصي الله بعيداً عن الحرم ليس كمن يعصيه في الحرم، وليس من يرتكب الحرام وهو(17/15)
في المشرق والمغرب كمن يقترف الذنوب في مكة المكرمة أو المدينة المنورة فإن البون شاسع بين هذا وذاك، فالمدينة المنورة أعز مكان(17/16)
ص -40- ... وأقدس بقعة على وجه الأرض بعد مكة المكرمة فهي تلي مكة في الفضل ويليها المسجد الأقصى وهذه المدينة المباركة هي منطلق الرسالة ومنها شع النور إلى سائر أنحاء الأرض وهي المركز الرئيسي والعاصمة الأولى للمسلمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ هاجر إليها وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان وبعض من عهد علي رضي الله عن الجميع، وفيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى هذه الأرض نزل جبريل عليه السلام بالوحي من السماء إلى محمد عليه الصلاة والسلام وهي الأرض المشتملة على أول جامعة إسلامية أبرز خريجيها أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي أبو الحسنين ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين وهي الأرض التي مستها أقدام صفوة الصفوة وخلاصة الخلاصة من البشر بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، فجدير بنا وقد أكرمنا الله بالبقاء فيها أن نتزود فيها من الأعمال الصالحة التي تنفعنا بعد الموت وأن نكون على حذر من الوقوع فيها بما يسخط الله عز وجل.
وأسال الله تعالى أن يجعلنا جميعاً ممن تقبل الله صيامه وقيامه وأن يرزقنا في هذا البلد الطيب طيب الإقامة وحسن الأدب وأن يحسن لنا الختام، كما أرجوه سبحانه أن يمن على المسلمين في سائر أنحاء الأرض بالرجوع إلى كتاب ربهم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.(17/17)
عنوان الكتاب:
أهمية العناية بالتفسير و الحديث و الفقه
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنيه
الطبعة ا[ولي 1425 هـ(18/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، قيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن العلم المحمود المُثنى عليه وعلى أهله في الكتاب والسّنّة علم الشريعة، التي بعث الله بها رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فكل ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من مدح للعلم وثناء على حملته إنما يراد به هذا العلم الشرعي، علم الكتاب والسّنّة والفقه في الدين.(18/2)
ص -4- ... ومما جاء في كتاب الله قول الله عزّ وجلّ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]، وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
ومن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنّة" أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله عزّ وجلّ به طريقاً من طرق الجنّة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان(18/3)
ص -5- ... في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" وهو حديث حسن رواه أبو داود (3641) و(3642)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وغيرهم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وقد شرحه الحافظ ابن رجب في جزء. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة، إلاّ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأصول هذا العلم ترجع إلى التفسير والحديث والفقه، وقد بدأ البخاري كتاب العلم من صحيحه بباب فضل العلم وقول الله تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ(18/4)
ص -6- ... خَبِيرٌ} ، وقوله عزّ وجلّ: {رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} ، قال الحافظ في شرحه فتح الباري (1/141) في معنى الآية الأولى: "قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم"، وقال في الآية الثانية: قوله: "وقوله عزّ وجلّ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلاّ من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه، وقد ضرب هذا الجامع الصحيح في كل من الأنواع الثلاثة بنصيب".
وتتّضح أهمية العناية بهذه العلوم الثلاثة التي عليها مدار العلم الشرعي، وهي التفسير والحديث والفقه بما يلي:(18/5)
ص -7- ... أما التفسير فلتوضيحه معاني كلام الله عزّ وجلّ، واشتماله على نتائج التدبر لآياته، قال الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وقال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]، وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، وروى البخاري في صحيحه (5027) عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلّمه"، وروى مسلم في صحيحه (817) عن عامر بن واثلة: أن نافع ابن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: مَن استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارىء لكتاب الله عزّ وجلّ، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع(18/6)
ص -8- ... بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين".
وفي صحيح مسلم أيضاً (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطهور شطر الإيمان" وفي آخره: "والقرآن حجّة لك أو عليك".
وخير ما يفسّر به القرآن القرآن، ثم سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كلام السلف من الصحابة والتابعين بإحسان، وأهم الكتب في ذلك: تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310هـ)، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي المتوفى سنة (516هـ)، وتفسير إسماعيل بن كثير المتوفى سنة (774هـ)، وكتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة (1393هـ).
وأما الحديث ـ وهو مرادف للسّنّة عند عطفها على الكتاب ـ فهو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو(18/7)
ص -9- ... فعل أو تقرير أو وصف خُلُقي أو خَلْقي، وهو وحي من الله أوحاه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عزّ وجلّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4]، وفي صحيح البخاري (1454) كتاب أبي بكر إلى أنس الطويل في بيان فرائض الصدقة، وفي أوله قال: "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله"، وروى مسلم في صحيحه (1885) عن أبي قتادة أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم، فذكر لهم: "أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله تكفَّر عنّي خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم! إن قتلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلاّ الدَّين؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك" ورواه النسائي (3155) عن أبي هريرة، وفي(18/8)
ص -10- ... آخره: "نعم! إلاّ الدَّين، سارَّني به جبريل آنفاً"، وفي صحيح البخاري (1789) ومسلم (1180) عن يعلى ابن أمية في قصّة الرجل الذي عليه جبّة وهو متضمخ بالخلوق، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة: "كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟" فنزل عليه الوحي، وفي آخر الحديث: "فلما سُرِّي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبّة، واغسل أثر الخلوق منك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك"
والعمل بالسّنّة والحديث لازم كالعمل بالقرآن، قال الله عزّ وجلّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59]،وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ(18/9)
ص -11- ... وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وتتبين أهمية العناية بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّته في قوله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءاً سمع منّا حديثاً فحفظه حتى يبلّغه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" رواه أبو داود (3660) وهذا لفظه، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو حديث متواتر، جاء عن أكثر من عشرين صحابياً، ذكرت رواياتهم وما اشتمل عليه من الفقه في كتابي" دراسة حديث نضّر الله امرءاً سمع مقالتي رواية ودراية"، وفي هذا الحديث بيان فضل من اشتغل بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة العظيمة، وقال العرباض بن سارية رضي الله عنه: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم(18/10)
ص -12- ... موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي،فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607) ـ وهذا لفظه ـ والترمذي (2676)، وابن ماجه (43-44)، وقال الترمذي: (( حديث حسن صحيح ))، وروى مسلم في صحيحه (867) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يوم الجمعة قال:" أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن رغب عن سنّتي فليس منّي" رواه(18/11)
ص -13- ... البخاري (5063) ومسلم (1401)، وروى البخاري في صحيحه (7280) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمّتي يدخلون الجنّة إلاّ مَن أبى، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنّة، ومَن عصاني فقد أبى".
وأهم الكتب المؤلفة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتب السّتّة وهي: صحيح الإمام البخاري المتوفى سنة (256هـ)، وصحيح الإمام مسلم المتوفى سنة (261هـ)، وسنن أبي داود المتوفى سنة (275هـ)، وسنن الترمذي المتوفى سنة (279هـ)، وسنن النسائي المتوفى سنة (303هـ)، وسنن ابن ماجه المتوفى (273هـ)، وقد لقيَت هذه الكتب من العلماء عناية خاصة، وكتبتُ في ذلك رسالة مختصرة بعنوان: "كيف نستفيد من الكتب الحديثية السّتّة"، ذكرت فيها جملة من كلامهم وجهودهم في هذه الكتب.(18/12)
ص -14- ... والكتب المؤلفة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة جدّاً، ومن أشهرها سوى ما تقدّم: موطّأ الإمام مالك، وسنن الدارمي ومسند الإمام أحمد.
وأما الفقه فهو استنباط الأحكام من أدلة الكتاب والسّنّة، وقد اعتنى بذلك المفسرون وشرّاح الحديث، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" رواه البخاري (71) ومسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه، وهو يدل على أن من علامة إرادة الله عزّ وجلّ الخير بالعبد أن يفقهه في الدين؛ لأنه إذا فقه في دين الله يعبد الله على بصيرة، ويدعو غيره إلى الحق والهدى على بصيرة، وروى البخاري (3353) ومسلم (2378) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "قيل يا رسول الله! مَن أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن(18/13)
ص -15- ... معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" ، وهذا الحديث دال على أن من كان خياراً في الجاهلية لما اتصف به من صفات حسنة وأخلاق كريمة ثم أسلم على هذه الصفات وفقه في دين الله، فإنه يكون جمع بين الشرف والسؤدد في الجاهلية والإسلام، قال النووي في شرح مسلم (15/135): "ومعناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا، فهم خيار الناس، قال القاضي: وقد تضمّن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كله عمومه وخصوصه ومجمله ومبانه إنما هو الدين من التقوى والنبوة والإعراق فيها والإسلام مع الفقه، ومعنى معادن العرب أصولها، وفقهوا بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها، أي صاروا فقهاء عالمين بالأحكام الشرعية الفقهية، والله أعلم"(18/14)
ص -16- ... وفي صحيح البخاري (79) ومسلم (2282) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"، والحديث يدل على أن الناس في الوحي ثلاثة أصناف: صنف فقه
في دين الله فعلم وعلّم، وصنف حفظ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحصلت الفائدة والمنفعة من حفظه، وإلى هذين الصنفين الإشارة في حديث زيد بن ثابت المتقدّم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءاً سمع منا(18/15)
ص -17- ... حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"، وأما الصنف الثالث فهو الذي لم يحفظ ولم يفقه، فلم ينتفع ولم ينفع.
الفقه الفهم في الكتاب والسّنّة
والفقه في الدين هو الفهم في كتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واستنباط الأحكام منهما، فأما الفهم في الكتاب العزيز، ففي صحيح البخاري (3047) عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه: "هل عندكم شيء من الوحي إلاّ ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما أعلمه إلاّ فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر"
ومن أمثلة فهم علي رضي الله عنه في كتاب الله استنباطه(18/16)
ص -18- ... من آيات البقرة ولقمان والأحقاف، أن أقلّ مدّة الحمل ستة أشهر، قال ابن كثير في تفسيره عند قوله في سورة الأحقاف: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} "وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان:
{ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وقوله تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} على أن أقل مدّة الحمل ستّة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم"
ومن الفهم في كتاب الله استنباط شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله صحّة إمامة أبي بكر صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6-7]، قال في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/36): "يؤخذ من هذه(18/17)
ص -19- ... الآية الكريمة صحّة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه داخل فيمن أمرَنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم ـ أعني الفاتحة ـ بأن نسأله أن يهدينا صراطهم، فدلّ ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم، وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وقد بيّن الذين أنعم عليهم فعدّ منهم الصديقين، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين، فاتّضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرَنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم، فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم، وأن إمامته حق"
وكتابه أضواء البيان حافل بالأمثلة الكثيرة من الفهم في كتاب الله عزّ وجلّ.
ومن الفهم في كتاب الله فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(18/18)
ص -20- ... فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3]، قرب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري في صحيحه (4294) عن ابن عباس قال:" كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أُريته دعاني يومئذ إلاّ ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} ؟ حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس! أكذاك تقول. قلت: لا! قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَه الله له {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة، فذاك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ(18/19)
ص -21- ... تَوَّاباً} قال عمر: ما أعلم منها إلاّ ما تعلم"
ومن كتب التفسير التي عُنيت باستنباط الأحكام من القرآن، كتاب الجامع لأحكام القرآن للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة (671هـ)، ومما يُنَبَّه عليه أن لديه تخليطاً في صفات الله عزّ وجلّ، يتّضح ذلك بما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، في سورة الأعراف.
وأما الفهم في سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون باستنباط الأحكام الشرعية مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكان من قبيل الصحيح أو الحسن، وأما الأحاديث الضعيفة التي لا تستفاد الأحكام إلاّ منها، فلا يعوَّل عليها، وإنما التعويل على ما ثبتت نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأحاديث الصحيحة والأحاديث الحسنة.
ومن أمثلة الاستنباط الدقيق من الحديث ما اشتملت عليه تراجم الإمام البخاري في صحيحه، من(18/20)
ص -22- ... فهم دقيق واستنباط عجيب، جعل كتابه كتاب رواية ودراية، جمع فيه بين الحديث والفقه، ومن أمثلة ذلك: ترجمة "باب صب النبي صلى الله عليه وسلم وَضوءه على مغمى عليه"، وأورد تحتها الحديث (194) عن جابر رضي الله عنه قال: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضّأ وصبّ عليَّ من وَضوئه فعقلت، فقلت: يا رسول الله! لمن الميراث، إنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض" فتعبيره رحمه الله في الترجمة بـ "صب النبي صلى الله عليه وسلم وَضوءه على مغمى عليه" إشارة إلى أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يقل: باب صب الإمام أو العالم أو الكبير أو الزائر وَضوءه على مغمى عليه.
ومن ذلك ترجمة "باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام أو بعد شهر أو بعد سنة جاز، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل"، وأورد تحتها حديث عائشة رضي الله عنها (2264) قالت: "واستأجر(18/21)
ص -23- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث" وقد استنبط بهذه الترجمة من هذا الحديث أن وقت تنفيذ المعقود عليه يجوز أن يكون متراخياً عن وقت إبرام العقد.
ومن الفهم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استنبطه النسائي (7) من قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فقال في الترجمة لهذا الحديث: "الرخصة في السواك بالعشي للصائم" والمراد أن الصائم يستاك في آخر النهار لأن صلاة العصر تكون فيه، خلافاً لمن قال بمنعه آخر النهار لأنه يُذهب الخلوف، وقد أثنى السندي على هذا الاستنباط، فقال في حاشيته على سنن النسائي: "ولا يخفى أن هذا من المصنف استنباط دقيق وتيقظ(18/22)
ص -24- ... عجيب، فلله درّه؛ ما أدقّ وأحدّ فهمه!"
ومن الفهم الدقيق ما ذكره الحافظ في فتح الباري (1/54) عند شرح حديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، أخرجه البخاري (10) ومسلم (64)، قال: "وخصّ اللسان بالذكر لأنه المعبّر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم! يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعاً تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعا زير على المسلم المستحق لذلك، وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء(18/23)
ص -25- ... على حق الغير بغير حق".
وقد اشتملت كتبُ الشروح الحديثية على إيراد الفوائد الفقهية المستنبطة من الأحاديث، فمستقل ومستكثر، ومن أهم الكتب التي عنيت بذلك فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد ذكر عند شرح حديث عتق بريرة رضي الله عنها (2563) جملة كبيرة من الفوائد المستنبطة منه، وقال (5/194):" قال ابن بطّال: أكثرَ الناسُ في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلَّغوها نحو مائة وجه، وسيأتي الكثير منها في كتاب النكاح، وقال النووي: صنَّفَ فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين، أكثرا فيهما من استنباط الفوائد، فذكرا أشياء، قلت: ولم أقف على تصنيف ابن خزيمة، ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه تهذيب الآثار، ولخصت منه ما تيسر بعون الله تعالى، وقد بلَّغ بعض(18/24)
ص -26- ... المتأخرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة أكثرها مستبعد متكلف، كما وقع نظير ذلك للذي صنَّف في الكلام على حديث المجامع في رمضان، فبلغ به ألف فائدة وفائدة".
وذكر الحافظ ابن حجر أيضاً في شرح حديث أنس (6203) في قصّة أخيه أبي عمير الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عمير! ما فعل النغير؟" جملة كبيرة من الفوائد، بعضها من استنباطه، وبعضها من استنباط ابن القاص، قال (10/584): "وفي هذا الحديث عدّة فوائد، جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزء مفرد، بعد أن أخرجه من وجهين عن شعبة عن أبي التياح، ومن وجهين عن حميد عن أنس، ومن طريق محمد بن سيرين، وقد جمعتُ في هذا الموضع طرقه وتتبّعت ما في رواية كل منهم من فائدة(18/25)
ص -27- ... زائدة، وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثَّل ذلك بحديث أبي عمير هذا، قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجهاً، ثم ساقها مبسوطة، فلخصتها مستوفياً مقاصده، ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه، فقال: ... "، ثم ذكر فوائد ابن القاص إلى قوله:"وفيما يسره الله تعالى من جمع طرق هذا الحديث واستنباط فوائده ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبط منها واحدة، لكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل، هذا آخر كلامه ملخصاً"، ثم ذكر الفوائد التي زادها على ابن القاص.
ومن الشروح الحديثية التي عنيت بسرد الفوائد(18/26)
ص -28- ... المستنبطة من الأحاديث كتاب (طرح التثريب في شرح التقريب) لزين الدين العراقي المتوفى سنة (806 هـ) وابنه أبي زرعة المتوفى سنة (826 هـ)، فإنه يذكر عند كل حديث الفوائد المستنبطة منه مسرودة، وأول حديث فيه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما الأعمال بالنيات"، وقد اشتمل على ثلاث وستين فائدة.
وقد ألّف بعض العلماء شروحاً لأحاديث مفردة، ذكروا فيها ما اشتملت عليه تلك الأحاديث من الفوائد الفقهية، ومن تلك المؤلفات: (( بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد )) للقاضي عياض المتوفى سنة (544 هـ)، و(( نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد )) لصلاح الدين العلائي المتوفى سنة (763 هـ)، وهما مطبوعان.(18/27)
ص -29- ... الفقه فقهان: أكبر وأصغر
وكتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما الينبوعان الصافيان النقيان، وهما مصدر كل خير وأساس كل صلاح وفلاح، ومنهما تستنبط الأحكام في الأصول والفروع، في العقائد والعبادات والمعاملات، والفقه في الدين فقهان: فقه أكبر، وهو ما يتعلق بأمور الاعتقاد، وهي من أمور الغيب التي لا مجال للرأي فيها، وإنما التعويل فيها على الاستنباط من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والفقه الثاني، ما يتعلق بالفروع من عبادات ومعاملات، والتعويل فيها أيضاً على ما جاء في الكتاب والسّنّة، فإذا وُجد نص فيهما على مسألة من المسائل تعيَّن المصير إليه والأخذ به، وحيث لا يوجد نص ساغ الاجتهاد، والمجتهد المصيب فيما يسوغ فيه الاجتهاد مأجور أجرين، والمجتهد المخطىء مأجور أجراً واحداً، كما ثبتت بذلك السّنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(18/28)
ص -30- ... اشتهار مذاهب الأئمة الأربعة في الفقه دون غيرهم
الذين اشتهروا في الفقه كثيرون، ذكر ابن القيم في أول كتابه إعلام الموقعين عدداً كبيراً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم اشتهروا بالفقه والفتوى.
ومن أشهر الذين اشتهروا بالفقه الأئمة الأربعة، وهم: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة (150هـ)، والإمام مالك بن أنس المتوفى سنة (179هـ)، والإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة (204هـ)، والإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة (241هـ)، وقد نظم تاريخ وفياتهم بالحروف الأبجدية الشاعر فقال:
فنعمانهم (قن) و(طعق) لمالك
وللشافعي (در) و(رام) ابن حنبل(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لما توفي الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله سنة (1389 هـ) وكان مفتي المملكة العربية السعودية ورئيس قضاتها قبل إنشاء وزارة العدل ورئيس كل من الجامعة الإسلامية بالمدينة ورابطة العالم الإسلامي بمكة والكليات والمعاهد العلمية التي أطلق عليها فيما بعد اسم: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكان طوداً شامخاً ذا هيبة ووقار، وتثبت وأناة، وهو ممن يصدق عليه قول الشاعر، يرثي قيس بن عاصم التميمي رضي الله عنه:
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
لما توفي رحمه الله تكلفت ـ ولم أكن شاعراً ـ نظم ثلاثة أبيات، اشتمل الأخير منها على ذكر سنة وفاته بالحروف بلفظ الدعاء فقلت:
سماحة الشيخ العظيم المنزله
الثاقب الرأي بحل المشكله
مفتي الديار رأس كل قضاتها
مع دور علم الشرع كل أنَّ له
وفاته بأحرف أرَّختها
فقلت (جُدْ جَوادُ واغفر لي وله)
ومعنى (كل أنَّ له) أي حزن لوفاته، وهذه الأبيات الثلاثة هي كل الذي لي من الشعر، فلم أنظم شعراً قبلها ولا بعدها.(18/29)
ص -31- ... وقد اشتهر الإمام أبو حنيفة بكنيته، وأما الثلاثة الباقون، فكل منهم يكنى بأبي عبد الله، والشافعي تلميذ لمالك، وأحمد تلميذ للشافعي، وقد وردت رواية بعضهم عن بعض في مسند الإمام أحمد (15778)،(18/30)
ص -32- ... قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن إدريس ـ يعني الشافعي ـ عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنّة، حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه"، وقد أورده الإمام ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، وقال: "وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة"
وقد اشتهر بالفقه والفتوى جماعة من العلماء في زمن الأئمة الأربعة ولم تشتهر مذاهبهم كما اشتهرت مذاهب الأئمة الأربعة؛ لأن الأئمة الأربعة صار لهم تلاميذ وأتباع اعتنوا بجمع أقوالهم وترتيبها وتحريرها وتدوينها، ولم يحصل مثل ذلك لغيرهم، ومن هؤلاء(18/31)
ص -33- ... العلماء المشهورين بالفقه: الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه الشام ومحدثها المتوفى سنة (157هـ)، والإمام سفيان بن سعيد الثوري فقيه الكوفة ومحدثها المتوفى سنة (161هـ)، وهو ممن وُصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، والإمام الليث بن سعد فقيه مصر ومحدثها المتوفى سنة (175هـ)، والإمام إسحاق ابن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي المروزي المتوفى سنة (238هـ)، وهو ممن وُصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وكان الإمام الترمذي يورد في جامعه أقواله في مسائل الفقه، وكثيراً ما كان يقرنه بالشافعي وأحمد أو أحدهما.
الرجوع إلى كتب الفقه والاستفادة منها
وطالب العلم كما يرجع إلى كتب شروح الحديث المشتملة على بيان ما يستنبط من الأحاديث، ينبغي له أن يرجع إلى الكتب المدونة في الفقه للاستفادة منها؛(18/32)
ص -34- ... وذلك لمعرفة الأقوال وأدلتها وما يترجح منها وفقاً للدليل، والكتب في فقه المذاهب الأربعة كثيرة، منها المختصر، ومنها المطوّل، وأوفى هذه الكتب وأشملها كتاب (المغني) للإمام ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة (620هـ)، وكتاب (المجموع شرح المهذب) للإمام النووي المتوفى سنة (676هـ)، وكتاب (الاستذكار) لأبي عمر بن عبد البر المتوفى سنة (463هـ)، وذلك لاشتمال هذه الكتب الثلاثة على فقه الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم.
قال الإمام ابن القيم في كتاب الروح (395-396): "فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يُهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم؛ فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقاً من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم؛ فخلافهم في القول الذي جاء النص(18/33)
ص -35- ... بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم، ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال، وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلبٍ لدليله من الكتاب والسّنّة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه ويقلده به، ولذلك سمي تقليداً، بخلاف من استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى، قال الشافعي: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد"
ومع رجوع طالب العلم إلى كتب الفقهاء(18/34)
ص -36- ... للاستفادة منها، عليه أن يوقرهم ويسلك طريق الاعتدال فيهم، فلا يتعصب لأحد منهم، ولا يجفو فيهم، بل يذكرهم بالجميل اللائق بهم، وقد قال الإمام الطحاوي في عقيدة أهل السّنّة والجماعة: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلاّ بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل".
وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (7/555): "اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم، وهو موالاتهم ومحبتهم وتعظيمهم وإجلالهم والثناء عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعهم في العمل بالكتاب والسّنّة، وتقديمهما على رأيهم، وتعلُّم أقوالهم والاستعانة بها على الحق، وترك ما خالف الكتاب والسّنّة منها.(18/35)
ص -37- ... وأما المسائل التي لا نص فيها، فالصواب النظر في اجتهادهم فيها، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا؛ لأنهم أكثر علماً وتقوى منّا، لكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضى الله، وأحوطها وأبعدها من الاشتباه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وقال: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".
وحقيقة القول الفصل في الأئمة رحمهم الله أنهم من خيار المسلمين، وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وما أخطأوا فيه فهم مأجورون على كل حال، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك، ولكن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى.
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد
كلا طرفي قصد الأمور ذميم(18/36)
ص -38- ... فلا تك ممن يذمهم وينتقصهم، ولا ممن يعتقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنّة رسوله أو مقدّمة عليهما"
وصايا الأئمة الأربعة بالتعويل على الأدلة لا على أقوالهم
الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم مجتهدون، فما أصابوا فيه لهم أجران، أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ومن أخطأ منهم هو مأجور أجراً واحداً على اجتهاده وبذله وسعه لمعرفة الحق، وقد جاء عن الأئمة الأربعة نصوص فيها وصاياهم لغيرهم بأن يأخذوا بما دلت عليه الأدلة ويتركوا أقوالهم، وقد أورد الشيخ صالح الفلاني المتوفى سنة (1218هـ) في كتابه (إيقاظ الهمم) نقولاً عنهم في ذلك: منها قول الإمام أبي حنيفة (ص:50): "إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه، قال: اتركوا قولي(18/37)
ص -39- ... لكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة"
وقوله (ص:54): "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب والسّنّة أو إجماع الأمّة أو القياس الجلي في المسألة"، وقوله (ص:62): "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي"
ومنها قول الإمام مالك (ص:72): "إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسّنّة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسّنّة فاتركوه"
ومنها قول الإمام الشافعي (ص:100): "ما من أحد إلاّ وتذهب عليه سنّةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن(18/38)
ص -40- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي"
وقوله: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت"
وقوله (ص: 103): "أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد"
وقوله (ص: 104):"كل مسألة صحّ فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي"، وقوله (ص: 107): "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي"
ومنها قول الإمام أحمد (ص: 113) وقد قيل له:" الأوزاعي هو أتبع أم مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيهم مخير".(18/39)
ص -41- ... وقوله: "لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"
وانظر مقدمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص: 23-37)، وهذه النقول عن الأئمة الأربعة رحمهم الله تدل على ورعهم وفقههم وإنصافهم، ومن المتعين على كل ناصح لنفسه الأخذ بهذه الوصايا، وتقدّم قريباً في كلام ابن القيم قوله: "فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يُهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم؛ فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقاً من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم"
بم يُعتذر عمن وُجد له من الأئمة الأربعة وغيرهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه.
وهذه الوصايا المذكورة في كلام الأئمة الأربعة تدل على فضلهم ونبلهم واتباعهم للسّنّة ودعوة(18/40)
ص -42- ... غيرهم إلى اتباعها وألاّ يصار إلى أقوالهم وأقوال غيرهم إذا وُجد سنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافها، ومن وُجد له من الأئمة الأربعة وغيرهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فإن لهم في ذلك أعذاراً أوضحها العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد ألّف في ذلك رسالة خاصّة وهي (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، قال فيها: (( وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين قبولاً عاماً يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنّته، دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وُجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد له من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة(18/41)
ص -43- ... بذلك القول، والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ، وهذه الأصناف الثلاثة تتفرّع إلى أسباب متعددة"
فذكرها وهي عشرة أسباب، وهذه الرسالة تقع ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/231-290).
وهي رسالة مختصرة قليلة المبنى واسعة المعنى أثنى عليها الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي المتوفى سنة (1332هـ)، في كتابه (الجرح والتعديل ص:26)، فقال: (( ومن أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، فإنه جدير لو كان في الصين أن يرحل إليه، وأن يُعض بالنواجذ عليه، فرحم الله من أقام المعاذير للأئمة، وعلم أن سعيهم إنما هو إلى الحق والهدى )).(18/42)
ص -44- ... حكم تقليد أحد المذاهب الأربعة.
الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، علماء مجتهدون دائرون في اجتهادهم بين الأجر والأجرين، وقد تقدّم ذكر جملة من وصاياهم، في ترك تقليدهم، والتعويل على الأدلة، ومن تمكن من معرفة الحق بدليله، تعيّن عليه الأخذ به، تنفيذا لوصاياهم، وقد قال الشافعي رحمه الله: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد" وقال ابن خزيمة: "ويحرم على العالم أن يخالف السّنّة بعد علمه بها )) فتح الباري (3/95)، وقال أيضاً في رفع اليدين عند القيام من الركعتين:"هو سنّة وإن لم يذكره الشافعي، فالإسناد صحيح، وقد قال: قولوا بالسنة ودعوا قولي". فتح الباري (2/222)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن أهل السّنّة لم يقل أحد منهم: إن إجماع الأئمة(18/43)
ص -45- ... الأربعة حجة معصومة، ولا قال: إن الحق منحصر فيها، وأن ما خرج عنها باطل، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة كسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد ومن قبلهم من المجتهدين قولاً يخالف قول الأئمة الأربعة، ردّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل". منهاج السنّة (3/412).
ومن المعلوم أن أول الأئمة أبو حنيفة المولود سنة (80 هـ)، والمتوفى سنة (150هـ)، وما كان عليه الناس قبل زمان الأئمة الأربعة، هو الذي عليهم أن يكونوا عليه في أزمانهم وبعد أزمانهم، وهو التعويل على الأدلة، وترك التقليد، وأما العامي ومن لم يتمكن من معرفة الحق في المسائل الفقهية، ولم يجد من أهل العلم من يبصره فيها فله أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة، لأنه مضطر، وقد قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ(18/44)
ص -46- ... مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، قال شيخنا الشيخ عبد العزيز ابن باز ـ رحمه الله ـ في رده على الصابوني في قوله عن تقليد الأئمة الأربعة: "إنه من أوجب الواجبات" قال: "لا شك أن هذا الإطلاق خطأ، إذ لا يجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمه؛ لأن الحق في اتباع الكتاب والسّنّة لا في تقليد أحد من الناس، وإنما قصارى الأمر أن يكون التقليد سائغاً عند الضرورة لمن عرف بالعلم والفضل واستقامة العقيدة، كما فصل ذلك العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه (إعلام الموقعين) ولذلك كان الأئمة ـ رحمهم الله ـ لا يرضون أن يؤخذ من كلامهم إلاّ ما كان موافقاً للكتاب والسّنّة، قال الإمام مالك رحمه الله: "كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلاّ صاحب هذا القبر"، يشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال إخوانه من الأئمة في هذا المعنى، فالذي يتمكّن من(18/45)
ص -47- ... الأخذ بالكتاب والسّنّة يتعين عليه ألاّ يقلّد أحداً من الناس، ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحق، والذي لا يستطيع ذلك فالمشروع له أن يسأل أهل العلم، كما قال الله عزّ وجلّ: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] )). مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/52).
وقال شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان (7/553): "لا خلاف بين أهل العلم في أن الضرورة لها أحوال خاصّة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار، فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاءً صحيحاً حقيقياً فهو في سعة من أمره فيه"، إلى أن قال: "وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقياً بحيث يكون لا قدرة له البتّة على غيره، مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلاً على الفهم، أو له قدرة على الفهم وقد عاقته(18/46)
ص -48- ... عوائق قاهرة عن التعلم، أو هو في أثناء التعلم، ولكنه يتعلم تدريجاً؛ لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد، أو لم يجد كفؤاً يتعلم منه ونحو ذلك، فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة؛ لأنه لا مندوحة له عنه، وأما القادر على التعلم المفرط فيه والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي فهو الذي ليس بمعذور"
دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السّنّة الأربعة
ومن المناسب لطلاب العلم دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السّنّة الأربعة على مشايخ متمكنين في الفقه ومعرفة أقوال العلماء وأدلتها وترجيح ما يعضده الدليل، كما هي وصايا الأئمة الأربعة، وقد كانت عادة العلماء في القديم والحديث دراسة الفقه على هذه الطريقة، ثم ينتهي الأمر بهم إلى(18/47)
ص -49- ... التمكن في العلم والبروز فيه وترجيح ما يؤيده الدليل ولو كان في غير المذهب الذي درسوه، ولهذا يُنسب بعض أهل العلم الذين برّزوا فيه إلى المذاهب التي نشؤوا عليها واعتنوا بها وإن لم يكونوا مقلدين فيها، كابن عبد البر من المالكية، والذهبي وابن كثير من الشافعية، وابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من الحنابلة.
وإنما قلت بمناسبة دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السّنّة الأربعة؛ لأن المسائل في هذه المذاهب اعتُني بجمعها وترتيبها وتحريرها وتدوينها، وفي ذلك تسهيل لمهمة الشيخ المدرس والتلميذ الدارس، لكن تكون هذه الدراسة مبنية على معرفة الأقوال في المسألة وأدلتها وترجيح الراجح منها بالدليل.
الجمع في دراسة العلم بين الحديث والفقه
ومن أهم المهمات لطالب العلم أن يكون في دراسته جامعاً بين الحديث والفقه، بين الدليل(18/48)
ص -50- ... والمدلول، فلا تكون دراسته متمحضة في معرفة كثرة الطرق للأحاديث، مغفلة معرفة المسائل الفقهية وأقوال أهل العلم فيها، وفي مقابل ذلك لا تكون مهمته منحصرة في معرفة المسائل الفقهية دون عناية بمعرفة أدلتها وترجيح الراجح فيها؛ لأنه إذا أخلّ بجانب الفقه فاته الكثير من معرفة مسائله وأحكامها، وإن أخلّ بجانب الحديث فاته العلم بأدلة المسائل الفقهية، وقد يستدل بالأحاديث الضعيفة لعدم عنايته وتمكنه من معرفة الصحيح الذي يعوّل عليه والضعيف الذي لا يحتج به، وقد أوضح الإمام أبو سليمان الخطابي المتوفى سنة (388هـ) في كتابه معالم السنن (سنن أبي داود) أهمية الجمع بين معرفة الحديث والفقه، وأن الفقيه لابد له من الحديث، والمحدّث لابد له من الفقه، فقال في مقدّمة كتابه (1/3-4): "وقد رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين،(18/49)
ص -51- ... وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميّز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.فأما الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون سيرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون، وأما(18/50)
ص -52- ... الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلاّ على أقله، ولا يكادون يميّزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيّده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي وغبناً فيه...".
اختلاف التنوع والتضاد، وهل كل مجتهد فيهما مصيب؟
والاختلاف في المسائل الفقهية ينقسم إلى قسمين: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد، واختلاف التنوع لا(18/51)
ص -53- ... يؤثر؛ لأن من أخذ بشيء منه أخذ بنوع من أنواع الحق، ومن أمثلة ذلك: ألفاظ الاستفتاح في الصلاة وألفاظ التشهد فيها، فإن كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فهو حق، والآخذ به آخذ بنوع من أنواع الحق، لكن لا يجمع المسلم بينها في صلاة واحدة، فإذا اجتهد عالم في اختيار نوع منها، واختار عالم نوعاً آخر، فإن هذا الاختلاف غير مؤثر، وكل مجتهد في ذلك مصيب أجراً، كما أنه مصيب حقاً، وأما اختلاف التضاد فهو أن يقول عالم في مسألة قولاً، ويقول آخر فيها قولاً مضاداً، كأن يقول قائل في أمر: هذا حلال، ويقول آخر: هو حرام، أو يقول قائل في أمر: إنه ينقض الوضوء مثلاً، ويقول آخر: لا ينقضه، أو يقول قائل: هذا يبطل الصلاة، ويقول آخر: لا يبطلها، وهذا النوع من الاختلاف كل مجتهد فيه مصيب أجراً، مع التفاوت فيه بين الأجر والأجرين، ولا يكون كل(18/52)
ص -54- ... مجتهد فيه مصيباً حقاً، بل من المجتهدين من يصيب فيؤجر أجرين على اجتهاده وإصابته، ومنهم من يخطىء فيؤجر أجراً واحداً على اجتهاده، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". رواه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه.
ولو كان كل مجتهد في هذا الخلاف مصيباً حقاً لم يكن لتقسيم المجتهدين في هذا الحديث إلى مصيب ومخطىء معنى.
وأسأل الله عزّ وجلّ أن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات على الحق، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين في كل مكان إلى ما تحمد عاقبته في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(18/53)
ص -55- ... المحتويات
العلم الممدوح في الكتاب والسّنّة العلم الشرعي 3
مدار العلم الشرعي على التفسير والحديث والفقه 5
أهمية العناية بالتفسير 7
أهمية العناية بالحديث 8
أهمية العناية بالفقه 14
الفقه الفهم في الكتاب والسّنّة 17
الفقه فقهان أكبر وأصغر 29
اشتهار مذاهب الأئمة الأربعة في الفقه دون غيرهم 30
الرجوع إلى كتب الفقه والاستفادة منها 33
وصايا الأئمة الأربعة بالتعويل على الأدلة لا على أقوالهم 38
بم يعتذر عمن وجد له من الأئمة الأربعة وغيرهم قول قد جاء حديث
صحيح بخلافه 41
حكم تقليد أحد المذاهب الأربعة 44
دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السّنّة الأربعة 48
الجمع في دراسة الفقه بين الحديث والفقه 49
اختلاف التنوع والتضاد، وهل كل مجتهد فيهما مصيب؟ 52(18/54)
عنوان الكتاب:
آيات متشابهات الألفاظ في القرآن الكريم وكيف التمييز بينها
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار الفضيلة، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1423هـ/ 2002 م(19/1)
ص -3- ... آيات متشابهات الألفاظ في القرآن الكريم وكيف التمييز بينها
تأليف: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكرمه الله فجعل القرآن له خلقا صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيّبين الشرفاء، وأصحابه أولي الفضائل والنهى ومن سلك سبيلهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أهم المهمّات وأولى ما تُعمر به الأوقات، الاشتغال والعناية بكتاب الله حفظاً وتلاوة وتدبّراً وتعلّماً وتعليماً وتأليفاً.
وكتاب الله خير الكلام وأحسن الحديث وأصدق القول، وقد وصفه الله بكونه عظيماً و حكيماً و مجيداً و كريماً و عزيزاً و مبيناً و نوراً و هدى ومباركاً، وغير ذلك من الأوصاف.
وقد تكفّل الله بحفظ كتابه الكريم فقال {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، وتحقّق هذا الحفظ لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فكان صلى الله عليه وسلّم عندما يُلقي عليه جبريل القرآن يحرّك لسانه به ليعجل في حفظه ، فأمره الله عزّ وجلّ أن يصغيَ عند سماعه، ووعدَه بأن يتحقّق له حفظه فلا يفوته منه شيء، قال الله عزّ وجلّ {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ نَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.(19/2)
ص -4- ... وأيضاً فقد كان جبريل يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن في كل شهر رمضان مرة، وفي العام الذي قبض فيه دارسه القرآن مرتين.
وتحقق حفظ القرآن لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بتلقّيهم القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً خلال مدّة ثلاث وعشرين سنة، وهي مدّة البعثة كما قال الله عزّ وجلّ {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106]، فتمكّنوا من حفظه وتدبّره والتفقّه فيه.
وتحقّق حفظ القرآن لخلفائه الراشدين، فقد قام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبو بكر رضي الله عنه بجمعه في صُحُفٍ، ثم قام الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بجمعه في مصحف توارثه المسلمون على مختلف العصو، وتلقّاه بعضهم عن بعض .
وتحقّق حفظ القرآن للمسلمين على مختلف عصورهم وأزمانهم بتوفيق الله الألوف المؤلّفة منهم للقيام بحفظه في صدورهم، فلو زاد أحد في القرآن حرفاً أو نقص حرفا لتنبّه لذلك الألوف من الحفّاظ، فبيّنوه وأظهروا خِزيَ من فعله.وأذكر أن الجامعة الإسلامية بالمدينة بعثت قبل ربع قرن من الآن (1423هـ) بعض طلبتها الحافظين لكتاب الله إلى بعض البلاد الأوروبية في شهر رمضان ليصلوا صلاة التراويح ببعض الجمعيات هناك، ومن بينهم طالب وصل إلى مطار إحدى المدن ولم تكن معه الورقة الصحية، فأبقوه في محجر مدّة ثلاثة أيام، فوجد فيه مصحفاً حصل فيه تحريف، وكان حافظا لكتاب الله فقرأ المصحف وصحّح ما فيه من تحريف وتركه في مكانه.
وتحقّق حفظ القرآن بعد ظهور آلات الطباعة، بطباعة القرآن الكريم بأحجام مختلفة وبملايين النسخ، مما حصل به وصول القرآن لكل من أراده في كلّ(19/3)
ص -5- ... مكان بسهولة ويسر.
وفي العصر الحاضر وفّق الله حكومة المملكة العربية السعودية لإنشاء مجمّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فطُبع فيه ملايين النسخ من القرآن كاملاً وأجزاء منه، بأحجام مختلفة تمَّ توزيعها ووصولها إلى أماكن كثيرة من العالم.
ومن المعلوم أن حفظ المسلم كتاب الله في صدره من أعظم النعم وأجلّ الغنائم، لأنه يتيسّر لحافظه تلاوته في أحواله المختلفة ، مصلياً وقائماً وماشياً وجالساً ومضطجعاً.
وإن مما يفيد في حفظ القرآن، معرفة الآيات المتشابهة الألفاظ وكيف التمييز بينها.
وقد كنت عند تلاوة القرآن أقف عند بعض الآيات المتشابهة الألفاظ لمعرفة أماكن ورودها في القرآن، وأتأمل في التمييز بين تلك الآيات، فتيسّر لي معرفة آيات كثيرة متشابهات الألفاظ ، وانتهيت في معرفة التمييز بين تلك الآيات إلى تقسيمها إلى خمسة أقسام، مع وضع خط تحت الحرف أو الكلمة التي يكون بهما التمييز بين المتشابه ، وذلك بالتقديم والتأخير بين الحروف في القسم الأوّل والثاني، وزيادة حرف أو أكثر أو كلمة فأكثر في القسم الثالث والرابع.
وقد رتّبت كلَّ قسم على حِدى حسب ترتيب سور القرآن ، وأذكر الآيات المتشابهة في الموضع الأول ثم لا أعود إلى ذكر ذلك في السور الأخرى، وهذه هي الأقسام :
القسم الأول: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدّم في القرآن مبدوء بحرف متقدّم من حروف الهجاء.(19/4)
ص -6- ... وأوّل موضع في هذا القسم : قوله تعالى في سورة البقرة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وقوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، فإن التشابه بين هاتين الآيتين في كلمتي {يَرْجِعُونَ} و {يَعْقِلُونَ} والراء في الموضع الأوّل {يَرْجِعُونَ} وهي متقدّمة في حروف الهجاء على العين في الموضع الثاني {يَعْقِلُونَ}
القسم الثاني: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدّم في القرآن مبدوء بحرف متأخّر من حروف الهجاء.(عكس الذي قبله)
وأول موضع في هذا القسم : قوله تعالى في سورة البقرة :
{وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}، وقوله {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً}
فإن التشابه بين هاتين الآيتين في {رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} و {حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً}
والموضع الأول مبدوء بحرف الراء وهو متأخّر في حروف الهجاء عن حرف الحاء في الموضع الثاني.
القسم الثالث: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدّم في القرآن فيه زيادة حرف أو أكثر أو كلمة فأكثر عن الموضع المتأخّر.
وأوّل موضع في هذا القسم: قوله تعالى في سورة البقرة: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وقوله في سورة يونس {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}، فإن التشابه بين هاتين الآيتين: بزيادة [من] في الموضع الأوّل دون الثاني.
القسم الرابع: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدّم في القرآن فيه نقص حرف أو أكثر أو كلمة فأكثر عن الموضع المتأخّر.(عكس الذي قبله).(19/5)
ص -7- ... وأوّل موضع في هذا القسم : قوله تعالى في سورة البقرة:
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
وقوله في سورة الأعراف:
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}.
وقوله في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
وليس في الموضعين الأول والثاني {مِنْهَا جَمِيعاً} وفي الموضع الثالث زيادة هذا اللفظ.
القسم الخامس: ما كان التشابه فيه باتفاق في أوائل الآيات وافتراق في أواخرها.
وفائدة معرفة هذا القسم ألاّ ينتقل الذهن في القراءة من آية إلى أخرى بسبب الافتراق الذي يكون في أواخر الآيات.
وأوّل موضع في هذا القسم: قوله تعالى في سورة البقرة {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
وقوله تعالى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
ولم أتعرّض لذكر الآيات التي يكون الاتفاق في أواخرها والافتراق في أوائلها لانتفاء المحذور المشار إليه.
ومن أمثلته: قوله تعالى في سورة طه {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى}، وقوله {أََفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِأُولِي النُّهَى}(19/6)
ص -11- ... وختمت الرسالة بذكر آيات من القرآن الكريم مشتملة على معدودات منها ما هو جمل ومنها ماهو مفردات يحصل بمعرفتها إتقان حفظ تلك الآيات.
وسميت هذه الرسالة: آيات متشابهات الألفاظ في القرآن الكريم وكيف التمييز بينها.
ولم أستوعب الآيات المتشابهات الألفاظ في القرآن الكريم بل لم أستوعب الآيات المتشابهة في الموضع الواحد، لأن هذا الذي أثبتّه هو الذي اجتمع لي عند التأمّل ومراجعة القرآن، ولم أرجع في ما أثبتّه إلى مؤلفات قديمة أوحديثة أوالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم أو الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، ولهذا أطلقت عليه اسم آيات متشابهات الألفاظ ولم أقل الآيات المتشابهات الألفاظ.
وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الأول: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدم في القرآن مبدوء بحرف من حروف الهجاء ...(19/7)
... القسم الأول: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدم في القرآن مبدوء بحرف متقدم من حروف الهجاء
سورة البقرة
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18].
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23].
{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38]
[هود:13].
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
{إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11].
{إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:31].
{إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص:74].
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36].
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20].
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120].
{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا(19/8)
ص -12- ... يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:48]
{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:123].
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49].
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف:141].
{وََإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم:6].
وفي الآيات أيضا من التشابه :
في البقرة {نَجَّيْنَاكُمْ}، وفي الأعراف {أََنْجَيْنَاكُمْ}
وفي إبراهيم {أَنْجَاكُمْ}، وفيها أيضا {وَيُذَبِّحُونَ}
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57].
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [الأعراف:160].
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:80]
في البقرة والأعراف {وَأَنْزَلْنَا}، وفي طه {وَنَزَّلْنَا}(19/9)
ص -13- ... {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58].
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزَيِدُ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف:161].
وفي الآيتين من التشابه :
في البقرة {وَإِذْ قُلْنَا}، وفي الأعراف {وَإِذْ قِيلَ}
وفي البقرة {ادْخُلُوا} وفي الأعراف {اسْكُنُوا}.
وفي البقرة{فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً}،.وفي الأعراف عكسها {وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ}.
وفي البقرة {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ}، وفي الأعراف عكسها { وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً}.
وفي البقرة {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}، وفي الأعراف {سَنَزَيِدُ الْمُحْسِنِينَ}.
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125].
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26].(19/10)
ص -14- ... {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.[البقرة:136].
{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.[آل عمران:84].
في البقرة {قُولُوا}، وفي آل عمران {قُلْ}.
في البقرة {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ}، وفي آل عمران {وََالنَّبِيُّونَ}.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21].
{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
{أََوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104].
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173].(19/11)
ص -15- ... {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} إلى قوله {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3].
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}.إلى قوله {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145].
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:115].
قد قدمت كلمة [به] في البقرة على [لغير الله] وأُخِّرت في الآيات الأخرى.
وفي الآيات من التشابه:
زيادة {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في البقرة.
وفي الأنعام {فَإِنَّ رَبَّكَ}، وفي المواضع الأخرى بلفظ الجلالة.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191].
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:89].
{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [النساء:91].
{وََالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191].
{وََالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217].(19/12)
ص -16- ... {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203].
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28].
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231].
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2].
{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:233].
{لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأعراف:42].
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284].
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران:29].
{وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.[النمل:25].
سورة آل عمران
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:129].
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:40].(19/13)
ص -17- ... {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفتح:14].
وفي آل عمران والفتح تقديم [المغفرة] ، وفي المائدة تقديم [التعذيب].
{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]، [النحل:36].
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11].
{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167].
{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11].
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]، [الأنفال:51].
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10].
وسياق الآيات في آل عمران والأنفال بالجمع ، وسياق الآية في الحج بالإفراد.
سورة النساء
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46]، [المائدة:13].
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41].(19/14)
ص -18- ... {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87].
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122].
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء:105].
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ } [الزمر:41].
وفي الموضع الثاني زيادة { لِلنَّاسِ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].
{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137].
{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} [النساء:168].
{إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149].
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب:54].
سورة الأنعام
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].(19/15)
ص -19- ... {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17].
وآية الأنعام بدئت بـ [واو]، وآية يونس بدئت بـ [فاء].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42].
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94].
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:63، 64].
{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:22، 23].
{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس:12].
{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131].
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
وقريب منها آية القصص {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي(19/16)
ص -20- ... أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59].
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148].
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35].
سورة الأعراف
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55].
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ} [الأعراف :205].
{فََكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} [الأعراف:64].
{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس:73].
وفي الموضع الثاني {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ}.
وقريب من الموضع الأول قوله في قصة عاد في الأعراف {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [الأعراف:72].(19/17)
ص -21- ... قوله في قصة صالح {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78].
وفي سورة هود {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67].
وقوله في قصة شعيب {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:91].
وفي سورة هود {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:94].
وفي سورة العنكبوت {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [العنكبوت:37].
ففي الأعراف والعنكبوت {الرَّجْفَةُ}، وفيهما {فِي دَارِهِمْ}
وفي هود في القصتين {الصَّيْحَةُ} و { فِي دَارِهِمْ}
وفي سورة هود في قصة صالح {وَأَخَذَ}،وفيها في قصة شعيب {وَأَخَذَتِ}
{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف:73].
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود:64].
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف:83].(19/18)
ص -22- ...
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل:57].
{إِِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر:60].
{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:170، 171].
وفي النمل {قَدَّرْنَاهَا}، وفي الحجر {قَدَّرْنَا إِنَّهَا}.
{قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:109-112].
{قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:34-37].
ففي الموضع الأول نسبة القول إلى الملأ، والثاني إلى فرعون.
في الموضع الأول {وَأَرْسِلْ}، وفي الثاني {وََابْعَثْ}.
في الموضع الثاني زيادة {بِسِحْرِهِ}.
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120].
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} [طه:70].
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:46].
الموضع الأول مبدوء بالواو، والثاني والثالث بالفاء.(19/19)
ص -23- ... {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:123،124].
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71].
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:49].
وفي الأعراف زيادة {فِرْعَوْنَ}.
وفي الشعراء زيادة لام في {فََلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
وفي طه زيادة الفاء في {فَلأُقَطِّعَنَّ}.
وفي الأعراف {ثُمَّ}.
سورة الأنفال
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22].
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال:55].(19/20)
ص -24- ... سورة التوبة
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً} [التوبة:39].
{وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} [هود:57].
وفي هود زيادة {رَبِّي}.
وفي الموضع الأول {تَضُرُّوهُ}، وفي الثاني {تَضُرُّونَهُ}.
سورة يونس
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [يونس:18].
{يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55].
{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33].
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6].
في الموضع الثاني زيادة الواو في أوّل الآية.(19/21)
ص -25- ... {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس:55].
{أََلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [يونس:66].
قد كرّرت [مَن] في الموضع الثاني، ولم تكرّر [ما] في الموضع الأوّل.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:104].
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91].
وقريب من آية النمل آية الزمر: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12].
سورة هود
{لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [هود:22].
{لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل:109].
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود:28].
{قََالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} [هود:63].
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ(19/22)
ص -26- ... اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ } [هود:40].
{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون:27].
{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69].
{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذّاريات:26].
سورة يوسف
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2].
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]
سورة الرعد
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [الرعد:37].
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [طه:113].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} [الرعد:38].
{وََلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم:47].
سورة الحجر
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر:11].
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزخرف:7].
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر:45]، [الذاريات:15].
{إِِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}(19/23)
ص -27- ... [الدخان:51، 52].
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17].
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41].
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر:73].
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} [الحجر:83].
{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} [الحجر:82].
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء:149].
سورة النحل
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61].
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45].
وفي النحل {عَلَيْهَا}، وفي فاطر {عَلَى ظَهْرِهَا}.
سورة الإسراء
{ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18].
{فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء:22].
{فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29].(19/24)
ص -28- ... {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:39].
سورة الكهف
{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26].
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم:38].
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} [مريم:76].
{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} [الكهف:61].
{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} [الكهف:63].
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71].
{لََقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74].
سورة مريم
{إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} [مريم:16].
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22].
سورة طه
{فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40].
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [القصص:13].(19/25)
ص -29- ... سورة الأنبياء
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2].
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5].
وفي الشعراء بدئت بالواو.
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70].
{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98].
وفي الأنبياء بدئت الآية بالواو، وفي الصافات بدئت بالفاء.
سورة الحج
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28].
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36].
سورة المؤمنون
{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}[المؤمنون:24].
{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المؤمنون:33].
{قَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:83].(19/26)
ص -30- ... {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النمل:68].
سورة النور
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10]
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20].
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].
سورة النمل
{هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:2].
{هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:3].
{فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [النمل:12].
{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [القصص:32].
{وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:53].(19/27)
ص -31- ... {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18].
سورة القصص
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [القصص:20].
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20].
سورة الروم
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم:30].
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم:43].
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم:37].
[الزمر:52].
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
سورة الأحزاب
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:38، 62].
{سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر:85].(19/28)
ص -32- ... {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:23].
سورة ص
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص:8].
{أََأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر:25].
وفي الأولى تقديم {عَلَيْهِ}.
سورة الزمر
{ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} [الزمر:21].
{ثُُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20].
سورة غافر
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7].
{وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5].
وفي الموضع الأول {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}.
سورة فصلت
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52].(19/29)
ص -33- ... {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} [الأحقاف:10].
سورة الطور
{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:20].
{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:15، 16].
سورة المجادلة
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:4].
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5].(19/30)
ص -37- ... القسم الثاني: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدم في لقرآن مبدوء بحرف متأخر من حروف الهجاء
سورة البقرة
{وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35].
{فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} [البقرة:58].
{فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة:60].
{فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [الأعراف:160].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17].
وفي الآيات من التشابه:
في المائدة {وَالصَّابِئُونَ}، وفي البقرة والحج {وَالصَّابِئِينَ}.
وفي البقرة زيادة {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
وفي الحج زيادة {وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}.(19/31)
ص -38- ... {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95].
{وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:7].
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] ، بتقديم التعليم على التزكية.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164].
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].
ومثل الآيتين الأخيرتين قوله تعالى ـ وهي خطاب لهذه الأمة ـ
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151]، بتقديم التزكية على التعليم.
{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154].
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].(19/32)
ص -39- ... سورة آل عمران
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40].
{قََالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:47].
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم:8].
وفي الآيتين:
ذكر [الغلام] في قصة زكريا، و[الولد] في قصة مريم.
وقد جاء في سورة مريم في قصة مريم {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} جواباً لقول جبريل: {لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}.
وبين الآيتين في قصة زكريا تقديم وتأخير، وزيادة [كانت] في مريم.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44].
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49].
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102].
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران:151].(19/33)
ص -40- ... {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}.[الأنفال:12].
سورة النساء
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1].
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189].
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6].
جاءت [واو] في الآية الأولى والثانية ، و [ ثم ] في الآية الثالثة.
{وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].
{وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89].
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95]، بتقديم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على [الأموال و الأنفس ].
ومثلها في سورة التوبة {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:20].
{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:11].
وجاءت آيات فيها تقديم [ الأموال والأنفس] على [ في سبيل الله]، منها في الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(19/34)
ص -41- ... [الأنفال:72].
{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41].
{وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:81].
{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15].
سورة المائدة
{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} [المائدة:2].
{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29]، [الحشر:8].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36].
{وََلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس:54].
{لِِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} [الرعد:18].
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}(19/35)
ص -42- ... [الزمر:47].
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]
{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:62].
{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].
سورة الأنعام
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].
{وََإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107].
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأنعام:37].
{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس:20].
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد:7، 27].
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت:50].(19/36)
ص -43- ... في العنكبوت {آيَاتٌ}.
في الأنعام والعنكبوت {وَقَالُوا}، وفي يونس {وَيَقُولُونَ}.
وفي الموضعين في الرعد {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99].
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141].
وفي الأولى {انْظُرُوا}، وفي الثانية {كُلُوا}.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام:102].
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر:62].
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:137].
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام:130].
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ(19/37)
ص -44- ... لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71].
وقريب من آية الأنعام آية الأعراف {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأعراف:35].
وفي الأنعام {آيَاتِي}، وفي الزمر {آيَاتِ رَبِّكُمْ}.
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام:133].
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف:58].
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31].
وقد قدّم مع خشية الفقر رَزْق الأولاد، ومع وجود الفقر رَزْق المخاطبين.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151].
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152].
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160].
{مََنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89].
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ(19/38)
ص -45- ... عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84].
سورة الأعراف
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12].
{قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:32].
{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
{قََالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13].
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر:34]، [ص:77].
وفي الأعراف {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}
{لََمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18].
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85].
{أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44].
{أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57].
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان:48].
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف:57].
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر:9].(19/39)
ص -46- ... {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59].
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26].
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82].
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
ففي الأعراف بدئت الآية بحرف [الواو] وفي النمل بدئت بحرف [الفاء].
ومثلها في قصة إبراهيم في العنكبوت: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:24].
وفي الأعراف {أَخْرِجُوهُمْ}، وفي النمل {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ}.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:103].
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ بِآياتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [يونس:75].
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} [المؤمنون:45، 46].
وفي الأعراف والمؤمنون تقديم {بِآياتِنَا }.
وفي يونس زيادة {وَهَارُونَ}.
وفي المؤمنون زيادة {وَأَخَاهُ هَارُونَ}.(19/40)
ص -47- ... وفي يونس {مُجْرِمِينَ}.
وفي المؤمنون {عَالِينَ}.
وفي المؤمنون زيادة {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
وفي الأعراف ويونس {مِنْ بَعْدِهِمْ}.
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188].
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس:49].
سورة التوبة
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42].
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107] ، [الحشر:11].
{اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
{فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83].
سورة يونس
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس:46].
{فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77].
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48]، [الأنبياء:38]، [النمل:71]، [سبأ:29]، [يس:48]، [الملك:25].
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة:28].(19/41)
ص -48- ... {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس:47].
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس:54].
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69].
{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61].
{لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3].
وفي الموضع الأول {عَنْ رَبِّكَ}، وفي الموضع الثاني {عَنْهُ}
وفي الموضع الأول تأخير السماء بالإفراد، وفي الموضع الثاني تقديم السماوات بالجمع.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً} [يونس:90].
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه:78].
سورة هود
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [هود:10].
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [فصلت:50].
{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود:29].
{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}(19/42)
ص -49- ... [هود:51]. والآية الأولى مبدوءة بالواو.
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} [هود:58].
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} [هود:66].
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82].
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً} [هود:94].
ففي الموضع الأول والأخير {وَلَمَّا} بالواو.
وفي الموضعين بالوسط {فَلَمَّا} بالفاء.
سورة يوسف
1- {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف:59].
2- {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف:63].
3- {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} [يوسف:65].
4- {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} [يوسف:68].
5- {فََلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف:69].
6- {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف:70].
7- {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف:80].
8- {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88].
9- {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف:94].
10- {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً} [يوسف:96].(19/43)
ص -50- ... 11- {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [يوسف:99].
هذه الآيات الأحد عشر المبدوءة بـ [ولما] و [فلما] ، ففي المجموعة الخمس الأولى كلها بالواو إلا الثاني ، وفي المجموعة الثانية المبدوءة بـ [فلما جهزهم] كلها بالفاء إلا الموضع التاسع.
سورة الرعد
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2].
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10].
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً} [الرعد:2]
[فاطر:13] ، [الزمر:5].
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [لقمان:29].
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد:15].
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النحل:49].
وفي الموضع الثاني إعادة {مَا فِي}
{لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الرعد:16].
{وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [الفرقان:3].
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30].
{إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد:36].(19/44)
ص -51- ... سورة الحجر
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1].
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1].
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الحجر:12].
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200].
{إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر:53].
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101].
{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذّاريات:28].
سورة النحل
{ وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل:14].
{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر:12].
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78].
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23].
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [النحل:84].(19/45)
ص -52- ... {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [النحل:89].
سورة الإسراء
{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9].
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف:2].
{ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} [الإسراء:68].
{ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء:69].
{ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء:75].
{ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} [الإسراء:86].
{وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء:77].
{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62]، [الفتح:23].
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} [الإسراء:89].
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54].(19/46)
ص -53- ... {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الإسراء:96].
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} [العنكبوت:52].
سورة الكهف
{ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف:36]
{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50].
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف:57].
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22].
سورة مريم
{وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم:14].
{وََبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:32].
{فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37].
{فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65].
في الأولى {مَشْهَدِ}و {عَظِيمٌ}
وفي الثانية {عَذَابِ} و {أَلِيمٍ}(19/47)
ص -54- ... سورة طه
{إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:10، 11].
{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:7، 8].
{قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:29، 30].
جاء في طه {بِقَبَسٍ}، وفي النمل {بِِشِهَابٍ قَبَسٍ}، وفي القصص{أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ}.
وفي النمل والقصص {بِخَبَرٍ} وفي طه {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً}.
وفي طه والقصص {فَلَمَّا أَتَاهَا}، وفي النمل {فَلَمَّا جَاءَهَا}
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} [طه:22].
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12].
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32].
ففي طه {جَنَاحِكَ} وفي النمل والقصص {جَيْبِكَ}(19/48)
ص -55- ... {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه:40].
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} [القصص:12].
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} [طه:53].
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} [الزخرف:10].
سورة الأنبياء
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].
سورة الحج
{وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتتْ منْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39].
{فََكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45].
{وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:48].
والآية الأولى بدئت بالفاء والثانية بدئت بالواو.(19/49)
ص -56- ... سورة الشعراء
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:57، 58]
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:25، 26].
سورة العنكبوت
{وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8].
{وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14].
{ وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15].
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]
{ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15].
سورة الصافات
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، [الطور:25].
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50].(19/50)
ص -57- ... سورة الزمر
{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر:48].
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية:33].
سورة غافر
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر:78].
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85].
سورة الواقعة
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13، 14].
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39، 40].
سورة الحديد
{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12].
{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8].
سورة الحشر
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13].(19/51)
ص -58- ... {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14].
سورة نوح
{وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً} [نوح:24].
{وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} [نوح:28].(19/52)
ص -61- ... القسم الثالث: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدم في القرآن فيه زيادة حرف أو أكثر أو كلمة فأكثر عن الموضع المتأخر
سورة البقرة
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23].
{قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38].
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25].
{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100].
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43]، [يونس:9]، [الكهف:31].
في أكثر المواضع في القرآن {مِنْ تَحْتِهَا} وفي بعضها {مِنْ تَحْتِهِمْ} وفي التوبة وحدها {تَحْتَهَا}.
{وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35].
{فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} [الأعراف:19].
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة:61].
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:21].
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:112].(19/53)
ص -62- ... وفي الآيات من التشابه:
{النَّبِيِّينَ} في البقرة وفي الموضع الأول من آل عمران.
{الأَنْبِيَاءَ} في الموضع الثاني من آل عمران.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:116].
{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68].
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:145].
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} [الرعد:37].
وقريب من هاتين الآيتين قوله تعالى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] ، بدون ذكر حرف [من] وبذكر [الذي] بدل [ما].
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147].
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60].
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ(19/54)
ص -63- ... بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5].
ففيهما من التشابه:
{مِنْ مَاءٍ}، و {مِنْ رِزْقٍ} في الجاثية.
وفي البقرة زيادة {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}،
{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}
والبث في سورة الجاثية ذكر في الآية التي قبل هذه الآية.
{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].
{وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12-197]، [الرعد:18].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} [البقرة:218].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} [الأنفال:72].
{وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271].
{وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال:29].
سورة آل عمران
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19].(19/55)
ص -64- ... {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [يونس:93].
{فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17].
وفي الموضع الثاني {حَتَّى جَاءَهُمُ}.
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124، 125].
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9].
ففي آل عمران {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} و {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ}، وفي الأنفال {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10].
ففي آل عمران أُخِّرت {بِهِ}، وفي الأنفال قدِّمت.
وفي آل عمران {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، وفي الأنفال {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.(19/56)
ص -65- ... سورة النساء
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3].
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
[النساء:124].
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97].
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [غافر:40].
في النساء {وَمَنْ يَعْمَلْ}، وفي النحل {مَنْ عَمِلَ}، وفي غافر
{وَمَنْ عَمِلَ}.
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء:127].
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} لنساء:176].
سورة المائدة
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12].(19/57)
ص -66- ... وقريب من الآيتين ، الآية في سورة النور: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
وفي سورة النور {قُلْ}، وفيها {فَإِنْ تَوَلَّوْا}.
سورة الأنعام
{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:5].
{فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء:6].
{وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32].
{وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأعراف:169].
{وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف:109].
وفي آية يوسف {اتَّقَوْا}، وفي الآيتين الأوليين {يَتَّقُونَ}.
{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50].
{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31].(19/58)
ص -67- ... {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90].
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}.[يوسف:104].
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114].
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164].
{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140].
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:135].
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} [هود:93].
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الزمر:39].
سورة الأعراف
{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22].(19/59)
ص -68- ... {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121].
وفي آية الأعراف {ذَاقَا} و {بَدَتْ} و في طه {فَأَكَلا}.
و{فَبَدَتْ}.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49].
وفي الموضع الثاني زيادة الفاء في {فَلا}.
قوله في قصة نوح {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62].
قوله في قصة هود {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68].
قوله في قصة صالح {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79].
قوله في قصة شعيب {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93].
ففي قصة نوح وهود وشعيب بالجمع {رِسَالاتِ}، وفي قصة صالح بالإفراد(19/60)
ص -69- ... {رِسَالَةَ}.
وفي قصة نوح وهود {أُبَلِّغُكُمْ}.
وفي قصة صالح وشعيب {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ}.
وفي قصة نوح {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}،وفي قصة هود {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.
وفي قصة صالح وشعيب {وَنَصَحْتُ لَكُمْ}.
{فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87].
{وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109].
{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:410].
{فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزخرف:46].
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:178].
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف:17].
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء:97].
وفي الإسراء بدئت بالواو.(19/61)
ص -70- ... سورة الأنفال
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4].
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:7، 8].
{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:82].
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13].
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:4].
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28].
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
ففي الموضع الأول {وَاعْلَمُوا} مع فتح همزة أن في الآية الأولى.
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41].(19/62)
ص -71- ... {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7].
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الأنفال:53].
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
سورة التوبة
{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
{وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:85].
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
{وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:89-100].
سورة يونس
{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} [يونس:12].
{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر:8].(19/63)
ص -72- ... {فَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49].
ففي يونس والموضع الثاني من الزمر {دَعَانَا}، وفي الموضع الأول {دَعَا رَبَّهُ}.
ففي الموضع الأول من الزمر {خَوَّلَهُ}، والموضع الثاني {خَوَّلْنَاهُ}.
والموضع الثاني من الزمر مبدوء بالفاء ، وفي يونس والموضع الأول من الزمر بالواو.
{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108].
{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [النمل:92].
{فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الزمر:41].
سورة هود
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود:60].
{وََأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود:99].
{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62].
{وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم:9].(19/64)
ص -73- ... ففي الآية الأولى {وَإِنَّنَا} و {تَدْعُونَا}.
وفي الآية الثانية {وَإِنَّا} و {تَدْعُونَنَا}.
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82].
{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74].
وفي الموضع الأول {عَلَيْهَا} وفي الثاني {عَلَيْهِمْ}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ} [هود:96، 97].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ} [الزخرف:46].
سورة يوسف
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل:43].
سورة الحجر
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:35].
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:78].(19/65)
ص -74- ... {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الحجر:85].
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:27].
سورة النحل
{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل:29].
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72].
{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر:76].
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72].
{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67].
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].(19/66)
ص -75- ... {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102].
سورة الكهف
{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78].
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
سورة طه
{فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ } [طه:47].
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء :16، 17].
وفي طه {فَأَرْسِلْ} وفي الشعراء {أَنْ أَرْسِلْ}.
سور الأنبياء
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91].
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم:12].(19/67)
ص -76- ... سورة الحج
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج:5].
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67].
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22].
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40، 74].
{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].(19/68)
ص -77- ... {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30].
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج:64].
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26].
سورة المؤمنون
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9].
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34].
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96].
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
سورة النور
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:34].
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:46].
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58].(19/69)
ص -78- ... {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59].
سورة القصص
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60].
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36].
الآية الأولى بدئت بالواو ، والثانية بالفاء.
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78].
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:49].
سورة العنكبوت
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت:22].
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:31].(19/70)
ص -79- ... سور الأحزاب
{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19].
{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20].
سورة الصافات
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105].
{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:110].
{وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:175].
{وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات:179].
سورة غافر
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا} [غافر:22]
{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا} [التغابن:6].
سورة الفتح
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11].(19/71)
ص -80- ... {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} [الفتح:15].
سورة ق
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23].
{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق:27].
سورة الواقعة
{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65].
{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70].
سورة الحديد
{خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12].
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن:9].
وفي الموضع الثاني {أَبَداً}.(19/72)
ص -83- ... القسم الرابع: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدم في القرآن
فيه نقص حرف أو أكثر أو كلمة فأكثر عن الموضع المتأخر
سورة البقرة
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36].
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24].
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123].
وفي الآيات أيضا: {وَقُلْنَا} في البقرة، و {قَالَ} في الأعراف وطه.
وفي البقرة والأعراف أيضا {اهْبِطُوا}، وفي طه {اهْبِطَا}.
{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123].
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59].
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:162].
وفي الآيتين من التشابه:
في البقرة {فَأَنْزَلْنَا}، وفي الأعراف {فَأَرْسَلْنَا}.
في البقرة {عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}، وفي الأعراف{عَلَيْهِمْ}.
في البقرة {يَفْسُقُونَ}، وفي الأعراف {يَظْلِمُونَ}.(19/73)
ص -84- ... {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80].
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران:24].
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة:126].
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} [إبراهيم:35].
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126] ، [آل عمران:162].
{وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57].
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174].
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77].
وفي الآية الأولى {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ}، وفي الآية الثانية {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ}.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].(19/74)
ص -85- ... {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210].
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158].
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل:33].
وفي الآيات الثلاث ذكر الملائكة.
وفي البقرة والأنعام جاء ذكر [ الله ]، وفي النحل جاء ذكر [ أمر الله ].
{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:232].
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [الطلاق:2]
وفي الموضع الأول {مِنْكُمْ}.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262].
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274].
بزيادة الفاء في {فَلَهُمْ} في الموضع الثاني.(19/75)
ص -86- ... ومثل الموضع الأول قوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277].
سورة آل عمران
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران:11].
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:52].
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال:54].
في الآيتين الأولى والثانية {كَذَّبُوا}، وفي الثانية {كَفَرُوا }.
وفي الأولى {بِآيَاتِنَا}، وفي الثالثة {بآيَاتِ اللَّهِ}، وفي الثالثة {بِآياتِ رَبِّهِمْ}.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
{يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم:10].
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:3]
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح:4].(19/76)
ص -87- ... {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49].
{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة:110]
في آية آل عمران {فَأَنْفُخُ فِيهِ}، وفي المائدة {فَتَنْفُخُ فِيهَا}.
وفي آل عمران جاء ذكر {بِإِذْنِ اللَّهِ} مرتين.
وفي المائدة جاء ذكر {بِإِذْنِي} أربع مرات.
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران:51].
{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36].
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:64].
وفي مريم زيادة [و] ، وزيادة [هو] في الزخرف.
{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117].
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118].
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].(19/77)
ص -88- ... {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21].
وفيهما من التشابه:
في آل عمران {وَسَارِعُوا}، وفي الحديد {سَابِقُوا}.
وفي الحديد زيادة {كَعَرْضِ}.
وفي آل عمران ذكر {السَّمَاوَاتُ} بالجمع، وفي الحديد ذكر {السَّمَاءِ} بالإفراد.
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
وفي آل عمران {وَلا تَهِنُوا} بالواو، وفي محمد {فَلا تَهِنُوا} بالفاء.
وفي آل عمران {وَلا تَحْزَنُوا} وفي محمد {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ}.
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184].
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [فاطر:4].
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [فاطر:25].(19/78)
ص -89- ... مما يشبه هذه الآيات، قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} [الحج:42].
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18].
سورة النساء
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء:24].
{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة:5].
ومثل آية المائدة في حق الرجال جاءت آية في سورة النساء في حق الإماء وهي: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25].
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43].
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6].
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء:171].
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77].(19/79)
ص -90- ... سور ة الأنعام
{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16].
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية:30].
وفي الموضع الأول زيادة الواو.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام:25]، [محمد:16].
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس:42].
{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29]
{إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون:37].
وآية الأنعام بدئت بـ {وَقَالُوا}.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:32].
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64].
وفي العنكبوت زيادة {هَذِهِ}، وتقديم {لَهْوٌ} على {لَعِبٌ}.
{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20].
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(19/80)
ص -91- ... [الأنعام:117].
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم:7].
وقريب من آية القلم آية النجم: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم:30].
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163].
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72].
{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12].
وفي الأعراف {الْمُؤْمِنِينَ}.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام:165].
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر:39].
{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165].
{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167].
سورة الأعراف
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14].
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، [ص:79].(19/81)
ص -92- ... {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف:15].
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:37، 38]، [ص:80، 81].
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
{قََالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39].
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82].
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:45].
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود:19].
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54].
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59].
وجاء ذكر {وَمَا بَيْنَهُمَا} في [السجدة:4].
ومثل آية الأعراف آية [يونس:3 ].
وقد جاء أيضا ذكر الاستواء على العرش في: [الرعد:2]، [طه:5]، [الحديد:4].(19/82)
ص -93- ... {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [هود:25].
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [المؤمنون:23].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14].
في الموضع الأول {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} غير مبدوء بحرف الواو ، والمواضع الأخرى مبدوءة بحرف الواو.
{قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]
{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا} [هود:27].
{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [المؤمنون:24]
ففي الأعراف نقص [الفاء] و [الذين كفروا]، وفي الموضعين الآخرين بزيادتهما.
{قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ(19/83)
ص -94- ... لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:60، 61 ، 62].
{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:66، 67، 68].
ففي الموضع الأول نقص {الَّذِينَ كَفَرُوا} وفي الموضع الثاني بزيادته.
وفي الموضع الأول {ضَلالٍ} و {ضَلالةٌ} و {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}.
وفي الموضع الثاني {سَفَاهَةٍ} مرتين، و {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80].
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28].
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81].
{أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55].
{أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت:29].(19/84)
ص -95- ... ففي الموضع الأول {مُسْرِفُونَ}، وفي الثاني {تَجْهَلُونَ}.
{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:85].
{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:85].
{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:101].
{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس:74].
ففي الموضع الثاني زيادة {بِهِ}.
{فَأَلْقَى عَصَاهُ} [الأعراف:107]، [الشعراء:32].
{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} [الشعراء:45].
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113، 114].
{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41، 42].
ففي الموضع الثاني زيادة {فَلَمَّا} و {إِذاً}.
{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} [الأعراف:125].(19/85)
ص -96- ... {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50].
ففي الشعراء زيادة {لا ضَيْرَ}.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200].
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36].
سورة الأنفال
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا} [الأنفال:31].
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [يونس:15]، [مريم:73]،
[ الحج:72]، [سبأ:43]، [الجاثية:25]، [الأحقاف:7].
{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40].
{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].
سورة التوبة
{سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
{تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:3].(19/86)
ص -97- ... {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]، [النحل:1] [الروم:40]، [الزمر:67].
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:87].
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:93].
وفي الموضع الأول {يَفْقَهُونَ}، وفي الثاني {يَعْلَمُونَ}.
{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:94].
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75].
في الموضع الثاني تقديم {حَلِيمٌ} وزيادة {مُنِيبٌ}.
سورة يونس
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [يونس:31].
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سبأ:24].(19/87)
ص -98- ... {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يونس:60].
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61].
سورة هود
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} [هود:77].
{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} [العنكبوت:33].
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [هود:81].
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [الحجر:65].
سورة يوسف
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22].
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14].(19/88)
ص -99- ... سورة الرعد
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26].
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء:30].
{يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82].
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت:62]
{أََوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الروم:37].
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ:36].
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [سبأ:39].
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر:52]
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى:12].
ففي العنكبوت وفي الموضع الثاني من سبأ زيادة {مِنْ عِبَادِهِ} و {لَهُ} [العنكبوت:62].
وفي القصص زيادة {مِنْ عِبَادِهِ}.(19/89)
ص -100- ... سورة الحجر
{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} [الحجر:88].
{وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه:131].
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88].
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
سورة النحل
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل:55]، [الروم:34].
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66].
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58].
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17].
{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60].
{وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27].(19/90)
ص -101- ... {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل:66].
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون:21].
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ} [النحل:79].
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} [الملك:19].
في النحل {مُسَخَّرَاتٍ}، وفي الملك {صَافَّاتٍ}
وفي النحل {اللَّهُ}، وفي الملك {الرَّحْمَنُ}.
سورة الإسراء
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء:56].
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:22].
سورة الكهف
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72].
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75].
سورة مريم
{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:15].(19/91)
ص -102- ... {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:33].
{إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:60].
{إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70].
سورة طه
{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15].
{إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [غافر:59].
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه:128].
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26].
وفي طه بدئت بالفاء ، وفي السجدة بالواو.
سورة الأنبياء
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16].
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38].(19/92)
ص -103- ... {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53].
{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74].
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:73].
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:93].
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، وفي الأنبياء بدئت بالواو،
وفي المؤمنون بدئت بالفاء.
سورة الحج
{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44].
{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر:26].
سورة النور
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].
{اليوْمَ نختمُ على أَفوَاههمْ وَتكلّمنا أَيدِيهمْ وَتشهدُ أَرْجلهمْ بما كانوا يكسبونَ} [يس:65].(19/93)
ص -104- ... {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20].
في الآية الأولى ذكر {أَلْسِنَتُهُمْ}.
وفي الثانية {نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ}.
في الأولى {يَعْمَلُونَ}، وفي الثانية {يَكْسِبُونَ}.
سورة الفرقان
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الفرقان:3].
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس:74].
{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53].
{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر:12].
سورة الشعراء
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52].
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23].
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70].
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:85].
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:153، 154].(19/94)
ص -105- ... {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء :185، 186].
سورة النمل
{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10].
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31].
{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80].
{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52].
سورة الروم
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} [الروم:9].
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر:44].
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ} [غافر:21].(19/95)
ص -106- ... {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ} [غافر:82].
والموضع الثاني من غافر بدئت بالفاء، وفيه {أَكْثَرَ مِنْهُمْ}.
سورة الزمر
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر:71].
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر:73].
سورة فصلت
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8].
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25].
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:6].
سورة الشورى
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32].
{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الرحمن:24].(19/96)
ص -107- ... سورة الذاريات
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذّاريات:19].
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24، 25].
سورة الحديد
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:1].
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1]، [الصف:1].
سورة المدثر
{كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} [المدثر:54].
{كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس:11].(19/97)
ص -111- ... القسم الخامس: ما كان التشابه فيه باتفاق في أوائل الآيات وافتراق في أواخرها
سورة البقرة
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175].
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:20].
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214].
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].(19/98)
ص -112- ... سورة آل عمران
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران:10].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:116].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57].
سورة النساء
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37].
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:24].
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44].
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ(19/99)
ص -113- ... وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51].
{إِِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء:57].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61].
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:104].
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133].
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام:133].(19/100)
ص -114- ... سورة المائدة
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [المائدة:17].
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:72].
سورة الأنعام
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10] ، [الأنبياء:41].
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الرعد:32].
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18].
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61].
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
[الأنعام:22].
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} [يونس:28].
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ(19/101)
ص -115- ... أَهْوَاءَكُمْ} [الأنعام:56].
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:66].
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92].
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام:109].
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38].
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53].
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر:42].
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132].
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف:19].
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152].
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا(19/102)
ص -116- ... بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34].
سورة الأعراف
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37].
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17].
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43].
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} [الأعراف:56].
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:85].
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:63].
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف:69].
{فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف:69].(19/103)
ص -117- ... {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف:74].
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:84].
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء:173]،[النمل:58].
سورة التوبة
{وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة:2].
{فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3].
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، [الصف:9].
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح:28].(19/104)
ص -118- ... سورة يونس
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24].
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45]، مع اختلاف في بداية الآيتين.
{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس:65].
{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:76].
والموضع الأول بدء بالواو، والثاني بدء بالفاء.
سورة هود
{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود:17].
{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً} [الأحقاف:12].
سورة يوسف
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} [يوسف:83].(19/105)
ص -119- ... {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:21].
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف:56].
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف:109].
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]، ووردت أيضا في: [الروم:9]،[فاطر:44]، [غافر:21، 82].
وفي الموضع الثاني من غافر مبدوءة بالفاء وفي غيره مبدوءة بالواو.
سورة الرعد
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41].
{أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]، مع اختلاف في بدء الآيتين.
سورة إبراهيم
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم:21].
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا(19/106)
ص -120- ... إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [غافر:47] ، مع اختلاف في بدء الآيتين.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18].
سورة الحجر
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الحجر:13].
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:201].
سورة اإسراء
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} [الإسراء:83].
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51].
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:94].
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} [الكهف:55].(19/107)
ص -121- ... سورة الكهف
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6].
سورة طه
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [طه:53].
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10].
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130].
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39].
سورة الأنبياء
{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36].(19/108)
ص -122- ... {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} [الفرقان:41]، مع اختلاف في بدء الآيتين.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81].
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12].
سورة الحج
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3].
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8].
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34].
{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67]،وفي الموضع الأول بدئت بالواو.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47].
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:53، 54].(19/109)
ص -123- ... {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:51]
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:5].
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38].
وفي الآية الأخيرة {يَسْعَوْنَ}
سورة النور
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14].
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].
سورة الشعراء
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:59].
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان:28].
سورة النمل
{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ(19/110)
ص -124- ... أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19].
{قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69].
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}.
[الروم:42].
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت:20].
سورة القصص
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40].
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذّاريات:40].
سورة يس
{إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:29].
{إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53].(19/111)
ص -125- ... سورة الصافات
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات:16].
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53].
سورة الزمر
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63].
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:12].
سورة غافر
{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35].
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56].
سورة فصلت
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30].(19/112)
ص -126- ... {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13].
سورة الشورى
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37].
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32].
والآية الأولى بدئت بالواو.
سورة محمد
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد:32].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34].
سورة الفتح
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4].
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح:7].(19/113)
ص -127- ... سورة النجم
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23].
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم:28].
سورة الحديد
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:2].
{لََهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحديد:5].
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22].
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11].
سورة المجادلة
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5].
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20].
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [المجادلة:6].
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة:18].
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(19/114)
ص -128- ... [المجادلة:16].
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2].
سورة الطلاق
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2].
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5].(19/115)
ص -129- ... خاتمة
وقد رأيت أن أختم هذه الرسالة بذكر آيات من القرآن الكريم مشتملة على معدودات منها ماهو جمل، ومنها ماهو مفردات، وليس هذا من قبيل المتشابه، وإنما المقصود منه التسهيل لمن يشتغل بحفظ القرآن أو مراجعته، فيعرف عدد تلك المعدودات ، فيتحقق من كونه حفظ الآيات بعدّه تلك الجمل والمفردات.
فأسوق الآيات وأذكر بعد كل آية بين قوسين عدد الذي اشتملت عليه من المعدودات.وهذا سياقها حسب ورودها في القرآن:
سورة البقرة
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [4].
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [5].
{مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [5].
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ(19/116)
ص -130- ... بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [9].
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [7].
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [4].
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
اشتملت الآية على ست جمل: الأولى تحتها خمس مفردات ، والثانية تحتها ست مفردات.
{يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [5].
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ(19/117)
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [10].(19/118)
ص -131- ... سورة آل عمران
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [6].
{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [5].
{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [9].
سورة النساء
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [15].(19/119)
ص -132- ... {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [10].
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [5].
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [4].
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [7].
{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} [5].
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ(19/120)
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ(19/121)
ص -133- ... قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [15].
سورة المائدة
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [11].
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [6].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [4].
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى(19/122)
بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ(19/123)
ص -134- ... فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [5].
سورة الأنعام
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [18].
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [4].
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً(19/124)
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [10].(19/125)
ص -135- ... سورة الأعراف
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [4].
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [5].
سورة الأنفال
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [6].
سورة التوبة
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [8].
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [8].
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا(19/126)
ص -136- ... كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [6].
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [9].
سورة النحل
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [4].
سورة الحج
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [9].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [6].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ(19/127)
ص -137- ... الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [8].
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [7].
سورة المؤمنون
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ َالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [6].
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [7].
سورة النور
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ(19/128)
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ(19/129)
ص -138- ... لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [12].
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [11].
سورة العنكبوت
{فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [4].
سورة الروم
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [5].
سورة لقمان
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا(19/130)
ص -139- ... تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [5].
سورة الأحزاب
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [5].
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [10].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [7].
{لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} [7].(19/131)
ص -140- ... سورة فاطر
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [5].
سورة ص
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ} [6].
سورة غافر
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [9].
سورة الشورى
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [5].
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [10].(19/132)
ص -141- ... سورة ق
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [8].
سورة الحشر
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [14].
سورة الممتحنة
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [6].
سورة التحريم
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [8].
سورة المعارج
{إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ(19/133)
ص -142- ... حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [8].
سورة التكوير
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [12].
وأسأل الله عز وجل أن يوفّق المسلمين للرجوع إلى الينبوع الصافي، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بهما، ليظفروا بسعادة الدنيا والآخرة، وأسأله تعالى أن يجعلنا من أهل القرآن وينفعنا به، وأن يجعله حجة لنا لا علينا إنه سميع مجيب.
وكان الفراغ من إعداد هذه الرسالة صباح يوم السبت الموافق لـ 1 جمادى الآخرة سنة 1423هـ.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(19/134)
عنوان الكتاب:
بأي عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهادا؟! ويحكم ... أفيقوا يا شباب!!
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
مطبعة سفير، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1424هـ/2003م(20/1)
ص -3- ... بأيِّ عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهاداً وَيحَكم أفيقوا يا شباب
إعداد: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فإنَّ للشيطان مدخلَين على المسلمين ينفذ منهما إلى إغوائهم وإضلالهم، أحدهما: أنَّه إذا كان المسلمُ من أهل التفريط والمعاصي، زيَّن له المعاصي والشهوات ليبقى بعيداً عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال: "حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات" رواه البخاري (6487)، ومسلم (2822).(20/2)
ص -4- ... والثاني: أنَّه إذا كان المسلم من أهل الطاعة والعبادة زيَّن له الإفراط والغلوَّ في الدِّين ليفسد عليه دينه، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكم والغلوَّ في الدِّين؛ فإنَّما هلك مَن كان قبلكم بالغلوِّ في الدِّين"، وهو حديث صحيح، أخرجه النسائي وغيرُه، وهو من أحاديث حَجة الوداع، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1283).
ومِن مكائد الشيطان لهؤلاء المُفْرطين الغالين أنَّه يُزيِّن لهم اتِّباعَ الهوى وركوبَ رؤوسهم وسوءَ الفهم في الدِّين، ويُزهِّدهم في الرجوع إلى أهل(20/3)
ص -5- ... العلم؛ لئلاَّ يُبصِّروهم ويُرشدوهم إلى الصواب، وليبقوا في غيِّهم وضلالهم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}،وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}، وقال: {أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}،وقال: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}،وقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وفي صحيح البخاري (4547)، ومسلم (2665) عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقال: "إذا رأيتم الذين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم"، وقال:صلى الله عليه وسلم: "من يُرِد الله به خيراً(20/4)
ص -6- ... يفقِّهه في الدِّين" رواه البخاري (71) ومسلم (1037)، وهو يدلُّ بمنطوقه على أنَّ من علامة إرادة الله الخير بالعبد أن يفقهه في الدِّين، ويدلُّ بمفهومه على أنَّ مَن لَم يُرد الله به خيراً لم يحصل له الفقه في الدِّين، بل يُبتلى بسوء الفهم في الدِّين.
ومن سوء الفهم في الدِّين ما حصل للخوارج الذين خرجوا على عليٍّ رضى الله عنه وقاتلوه، فإنَّهم فهموا النصوصَ الشرعية فهماً خاطئاً مخالفاً لفهم الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا لَمَّا ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما بيَّن لهم الفهمَ الصحيح للنصوص، فرجع مَن رجع منهم، وبقي من لم يرجع على ضلاله، وقصَّة مناظرته لهم في مستدرك الحاكم (2/150 ـ 152)، وهي بإسناد صحيح على شرط مسلم، وفيها قول ابن عباس:"أتيتُكم من عند صحابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار،(20/5)
ص -7- ... لأبلِّغكم ما يقولون، المخبرون بما يقولون، فعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بالوحي منكم، وفيهم أنزل، وليس فيكم منهم أحد، فقال بعضُهم: لا تخاصموا قريشاً، فإنَّ الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، قال ابن عباس: "وأتيتُ قوماً لم أرَ قوماً قطُّ أشدَّ اجتهاداً منهم، مسهمة وجوههم من السَّهر، كأنَّ أيديهم وركبهم تثنى عليهم، فمضى من حضر"، فقال بعضُهم: "لنكلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول، قلت: أخبروني ماذا نقمتم على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره والمهاجرين والأنصار؟ قالوا: ثلاثاً، قلت: ما هنَّ؟ قالوا: "أمَّا إحداهنَّ فإنَّه حكم الرِّجالَ في أمر الله، وقال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، وما للرِّجال وما للحكم، فقلت: هذه واحدة، قالوا: وأمَّا الأخرى فإنَّه قاتَلَ ولَم يسْب ولَم يغنَم، فلئن كان الذي قاتل كفَّاراً لقد حلَّ سبيُهم وغنيمتهم، ولئن(20/6)
ص -8- ... كانوا مؤمنين ما حلَّ قتالُهم، قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ قال: إنَّه مَحا نفسَه من أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين، قلت: أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا، فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما يُردُّ به قولُكم أتَرضَون؟ قالوا: نعم! فقلت: أمَّا قولكم: حكَّم الرِّجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم ما قد رُدَّ حكمُه إلى الرِّجال في ثمن ربع درهم، في أرنب ونحوها من الصيد، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، فنشدتكم الله: أحُكم الرِّجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟! وأن تعلموا أنَّ الله لو شاء لَحَكم ولَم يُصيِّر ذلك إلى الرِّجال، وفي المرأة وزوجها قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ(20/7)
ص -9- ... بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، فجعل الله حكم الرِّجال سنة مأمونة، أخَرَجتُ من هذه؟ قالوا: نعم! قال: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يسْب ولم يغنم، أَتَسبُون أمَّكم عائشة، ثمَّ تستحلُّون منها ما يُستحلُّ من غيرها؟! فلئن فعلتم لقد كفرتُم، وهي أمُّكم، ولئن قلتُم: ليست أمَّنا لقد كفرتُم؛ فإنَّ الله يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، فأنتم تدورون بين ضلالَتين، أيّهما صرتُم إليها صرتُم إلى ضلالة، فنظر بعضُهم إلى بعض، قلت: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم! وأمَّا قولكم: مَحا اسمَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمَن ترضَون وأريكم، قد سمعتُم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبية كاتَبَ سُهيل بن عمرو وأبا سفيان بن حرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين: اكتب يا علي: هذا(20/8)
ص -10- ... ما اصطلح عليه محمد رسول الله، فقال المشركون: لا والله! لو نعلم أنَّك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم إنَّك تعلمُ أنِّي رسول الله، اكتب يا علي: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، فوالله لرسول الله خيرٌ من علي، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسَه، قال عبد الله بن عباس: فرجع من القوم ألفان وقُتل سائرُهم على ضلالة".
ففي هذه القصة أنَّ ألفين من الخوارج رجعوا عن باطلهم؛ للإيضاح والبيان الذي حصل من ابن عباس رضي الله عنهما، وفي ذلك دليلٌ على أنَّ الرجوعَ إلى أهل العلم فيه السلامة من الشرور والفتن، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {فاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ومِمَّا يدلُّ على أنَّ الرجوع إلى أهل العلم خيرٌ للمسلمين في أمور دينهم ودنياهم ما رواه مسلم في(20/9)
ص -11- ... صحيحه (191) عن يزيد الفقير قال:"كنتُ قد شَغَفَنِي رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عِصابةٍ ذوي عدد نريد أن نحجَّ، ثمَّ نخرجَ على الناس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يُحدِّث القومَ ـ جالسٌ إلى ساريةٍ ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين، قال: فقلتُ له: يا صاحبَ رسول الله! ما هذا الذي تُحدِّثون؟ والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}، و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}، فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأُ القرآنَ؟ قلتُ: نعم! قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام، يعني الذي يبعثه فيه؟ قلتُ: نعم! قال: فإنَّه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يُخرج اللهُ به مَن يُخرج. قال: ثمَّ نعتَ وضعَ الصِّراط ومرَّ الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنَّه قد(20/10)
ص -12- ... زعم أنَّ قوماً يَخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنَّهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنَّة فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنَّهم القراطيس. فرجعنا، قلنا: وَيْحَكم! أَتَروْنَ الشيخَ يَكذِبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا، فلا ـ والله! ـ ما خرج منَّا غيرُ رَجل واحد، أو كما قال أبو نعيم". وأبو نعيم هو الفضل بن دكين هو أحد رجال الإسناد، وقد أورد ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى من سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} حديث جابر هذا عند ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما، وهو يدلُّ على أنَّ هذه العصابةَ ابتُليت بالإعجاب برأي الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار، وأنَّهم بلقائهم جابراً رضى الله عنه وبيانه لهم صاروا إلى ما أرشدهم إليه،(20/11)
ص -13- ... وتركوا الباطلَ الذي فهموه، وأنَّهم عدلوا عن الخروج الذي همُّوا به بعد الحجِّ، وهذه من أعظم الفوائد التي يستفيدها المسلم برجوعه إلى أهل العلم.
ويدلُّ لخطورة الغلو في الدِّين والانحراف عن الحقِّ ومجانبة ما كان عليه أهل السنَّة والجماعة قوله صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفةرضى الله عنه: "إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رُئيت بهجته عليه وكان ردءاً للإسلام، انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك، قلت: يا نبيَّ الله! أيُّهما أولى بالشرك: الرامي أو المرمي؟ قال: بل الرامي" رواه البخاري في التاريخ وأبو يعلى وابن حبان والبزار، انظر الصحيحة للألباني (3201).
وحداثةُ السنِّ مظنَّة سوء الفهم، يدلُّ لذلك ما رواه البخاري في صحيحه (4495) بإسناده إلى(20/12)
ص -14- ... هشام بن عروة، عن أبيه أنَّه قال:"قلت لعائشة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السنِّ: أرأيتِ قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوَّف بهما، فقالت عائشة: كلاَّ! لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوَّف بهما، إنَّما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلُّون لِمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرَّجون أن يطوَّفوا بين الصفا والمروة، فلمَّا جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}".
وعروة بن الزبير من خيار التابعين، وهو أحدُ الفقهاء السبعة بالمدينة في عصر التابعين، قد مهَّد(20/13)
ص -15- ... لعُذره في خطئه في الفهم بكونه في ذلك الوقت الذي سأل فيه حديثَ السنِّ، وهو واضحٌ في أنَّ حداثةَ السنِّ مظنَّةُ سوء الفهم، وأنَّ الرجوع إلى أهل العلم فيه الخير والسلامة.
بأيِّ عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهاداً
بعد هذا التمهيد بذكر أنَّ الشيطانَ يدخل إلى أهل العبادة لإفساد دينهم من باب الإفراط والغلوِّ في الدِّين، كما حصل من الخوارج والعصابة التي شغفت برأيهم، وأنَّ طريق السلامة من الفتن الرجوع إلى أهل العلم، كما حصل رجوع ألفين من الخوارج بعد مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما، وعدول العصابة عمَّا همَّت به من الباطل برجوعها(20/14)
ص -16- ... إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
بعد هذا التمهيد أقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! فإنَّ ما حصل من التفجير والتدمير في مدينة الرياض، وما عُثر عليه من أسلحة ومتفجِّرات في مكة والمدينة في أوائل هذا العام (1424هـ) هو نتيجة لإغواء الشيطان وتزيينه الإفراط والغلو لِمَن حصل منهم ذلك، وهذا الذي حصل من أقبح ما يكون في الإجرام والإفساد في الأرض، وأقبح منه أن يزيِّن الشيطان لِمَن قام به أنَّه من الجهاد، وبأيِّ عقل ودين يكون جهاداً قتل النفس وتقتيل المسلمين والمعاهدين وترويع الآمنين وترميل النساء وتيتيم الأطفال وتدمير المباني على من فيها
وقد رأيت إيراد ما أمكن من نصوص الكتاب والسنة في مجيء الشرائع السابقة بتعظيم أمر القتل وخطره، وإيراد نصوص الكتاب والسنة في قتل(20/15)
ص -17- ... المسلم نفسه وقتل غيره من المسلمين والمعاهدين عمداً وخطأ، وذلك لإقامة الحجة وبيان المحجَّة، وليهلك مَن هلك عن بيِّنة ويحيى من حيَّ عن بيِّنة.
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يهدي من ضلَّ إلى الصواب ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن يقي المسلمين شرَّ الأشرار، إنَّه سميع مجيب.
ما جاء في تعظيم أمر القتل وخطره في الشرائع السابقة
قال الله عزَّ وجلَّ عن أحد ابني آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}،وقال الله عزَّ وجلَّ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ(20/16)
ص -18- ... فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتل نفس ظلماً إلاَّ كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها؛ لأنَّه أول من سنَّ القتل" رواه البخاري (3335)، ومسلم (1677)، وقال الله عزَّ وجلَّ عن رسوله موسى صلى الله عليه وسلم أنَّه قال للخضر: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}، وقال عنه: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وفي صحيح مسلم (2905) عن سالم بن عبد الله بن عمر قال:"يا أهل العراق! ما أسْأَلَكُم عن الصغيرة وأركبَكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم(20/17)
ص -19- ... يقول: إنَّ الفتنةَ تجيء من ههنا، وأومأ بيده نحو المشرق، من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم يضرب بعضُكم رقاب بعض، وإنَّما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله عزَّ وجلَّ له: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}"، وقول سالم بن عبد الله:"ما أسألَكم عن الصغيرة وأركبَكم للكبيرة" يشير بذلك إلى ما جاء عن أبيه في صحيح البخاري (5994) أنَّه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض، فقال: "انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا"، يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ(20/18)
ص -20- ... وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}، وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
ما جاء في قتل المسلم نفسه عمداً وخطأ
قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قتل نفسَه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة" رواه البخاري (6047)،(20/19)
ص -21- ... ومسلم (176) عن ثابت بن الضحاك رضى الله عنه، وروى البخاري (5778)، ومسلم (175) عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن تردَّى من جبل فقتل نفسَه فهو في نار جهنَّم يتردَّى فيه خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسَه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنَّم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسَه بحديدة فحديدتُه في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنَّم خالداً مخلَّداً فيها أبداً"، وفي صحيح البخاري (1365) عن أبي هريرة قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الذي يخنق نفسَه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار".
وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد (9618) وغيره وفيه زيادة: "والذي يتقحَّم فيها يتقحَّم في النار"، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (3421).(20/20)
ص -22- ... وفي صحيح البخاري (1364)، ومسلم (180) عن الحسن قال: حدَّثنا جُندب رضى الله عنه في هذا المسجد فما نسينا وما نخاف أن ننسى، وما نخاف أن يكذب جُندب على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كان برجل جراح فقتلَ نفسَه، فقال الله: بدرنِي عبدي بنفسه، حرَّمت عليه الجنَّة"، وروى ابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن 763) عن جابر بن سمرةرضى الله عنه: "أنَّ رجلاً كانت به جراحة، فأتى قرَناً له فأخذ مشقصاً، فذبح به نفسَه، فلم يُصلِّ عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (2457):"صحيح لغيره".
وأمَّا من قتل نفسه خطأ فهو معذور غير مأزور؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، وقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال الله: "قد فعلت" رواه مسلم (126).(20/21)
ص -23- ... ما جاء في قتل المسلم بغير حقٍّ عمداً وخطأ
قتل المسلم يكون بحقٍّ وبغير حق، يكون بحقٍّ قصاصاً وحَدًّا، والقتل بغير حقٍّ يكون عمداً وخطأ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في القتل عمداً: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، وقال: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناًلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}، وقال في سورتي الأنعام والإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، وقال في سورة(20/22)
ص -24- ... الأنعام: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وقال في سورة الإسراء: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً}، وقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدِّماء" رواه البخاري (6864) ومسلم (1678)، وقد أكَّد صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجَّة الوداع حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بتشبيهها بحرمة الزمان والمكان، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: "خطبنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: أتدرون أيَّ يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننَّا أنَّه سيُسمِّيه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟(20/23)
ص -25- ... قلنا: بلى! قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنَّه سيُسمِّيه بغير اسمه، فقال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى! قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنَّه سيُسمِّيه بغير اسمه، قال: أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى! قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربَّكم، ألاَ هل بلَّغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهمَّ اشهد، فليُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض" رواه البخاري (67) و(1741)، ومسلم (1679)، وقد جاء هذا التأكيد أيضاً في حديث ابن عباس في صحيح البخاري (1739)، وحديث ابن عمر فيه أيضاً (1742)، وحديث جابر في صحيح مسلم (1218).(20/24)
ص -26- ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" رواه البخاري (2766)، ومسلم (145).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يزال المؤمن في فُسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً"، وقال ابن عمر: "إنَّ من وَرْطات الأمور التي لا مخرج لِمَن أوقع نفسَه فيها سفك الدم الحرام بغير حلِّه" رواهما البخاري في صحيحه (6862 ، 6863).
وقال عبادة بن الصامت: "كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: "تُبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا(20/25)
ص -27- ... النفسَ التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ، فمَن وفَّى منكم فأجره على الله، ومَن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفَّارةٌ له، ومَن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمرُه إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه" رواه البخاري (18) ومسلم (1709)، وهذا لفظ مسلم.
وعن ابن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حَمَلَ علينا السِّلاحَ فليس منَّا" رواه البخاري (6874) ومسلم (161).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله إلاَّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة" رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676).(20/26)
ص -28- ... وعنه أيضاً: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "سبابُ المسلم فسوق، وقتاله كفر" رواه البخاري (48)، ومسلم (116).
وعن ابن عباس: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أبغضُ الناس إلى الله ثلاثة: مُلحدٌ في الحرَم، و مبتغ في الإسلام سنَّة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حقٍّ ليهريق دمه" رواه البخاري (6882).
وقال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم ٌوَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وفي صحيح البخاري (6896) عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أنَّ غلاماً قُتل غيلة،(20/27)
ص -29- ... فقال عمر: لو اشترك فيها أهلُ صنعاء لقتلتُهم"، وقال مغيرة بن حكيم، عن أبيه: "إنَّ أربعة قتلوا صبيًّا، فقال عمر ..." مثله.
وفي صحيح البخاري (7152) عن جندب بن عبد الله قال: "إنَّ أوَّل ما ينتن من الإنسان بطنُه، فمَن استطاع أن لا يأكل إلاَّ طيِّباً فليفعل، ومَن استطاع أن لا يُحال بينه وبين الجنَّة بملء كفٍّ من دم هراقه فليفعل"، قال الحافظ في الفتح (13/130):"ووقع مرفوعاً عند الطبراني أيضاً من طريق إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن جندب، ولفظه: "تعلمون أنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحولنَّ بين أحدكم وبين الجنَّة وهو يراها ملءُ كفِّ دم من مسلم أهراقه بغير حلِّه"، وهذا لو لم يرِد مصرَّحاً برفعه لكان في حكم المرفوع؛ لأنَّه لا يُقال بالرأي، وهو وعيد شديد(20/28)
ص -30- ... لقتل المسلم بغير حقٍّ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ومَن خرج على أمَّتي يضرب برَّها وفاجرَها، ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهدَه، فليس منِّي ولستُ منه" رواه مسلم (1848).
وهذه أحاديثُ لَم ترد في الصحيحين مِمَّا أورده المنذري في الترغيب والترهيب، وأثبته الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/629 ـ 634):
عن البراء رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمن بغير حق، ولو أنَّ أهلَ سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم".(20/29)
ص -31- ... وعن بُريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا".
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنَّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار".
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنَّ أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لكبَّهم الله جميعاً على وجوههم في النار".
وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ ذنب عسى الله أن يغفره، إلاَّ الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمِّداً".
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ ذنب عسى الله أن يغفره، إلاَّ الرجل يموت مشركاً، أو يقتل مؤمناً متعمِّداً".(20/30)
ص -32- ... وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أصبح إبليسُ بثَّ جنودَه، فيقول: مَن أخذل اليوم مسلماً أُلبسُه التاج، قال: فيجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى طلَّق امرأته، فيقول: أوشك أن يتزوَّج، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه، فيقول: يوشك أن يبرَّهما، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قَتَل، فيقول: أنت أنت، ويُلبسه التاج".
وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً" رواه أبو داود، ثم روى عن خالد بن دهقان: سألت يحيى بن يحيى الغسَّاني عن قوله:"فاغتبط"، فقال: "الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم، فيرى أحدهم أنَّه على هدى لا(20/31)
ص -33- ... يستغفر الله، يعني من ذلك".
وعن أبي سعيد رضى الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج عُنق من النار يتكلَّم، يقول: وُكلتُ اليوم بثلاثة: بكلِّ جبَّار عنيد، ومَن جعل مع الله إلَهاً آخر، ومن قتل نفساً بغير حق، فينطوي عليهم فيقذفهم في غمرات جهنَّم".
وأمَّا قتل المؤمن خطأ ، فقد أوجب الله فيه الدية والكفارة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}(20/32)
ص -34- ... ما جاء في قتل المعاهد عمداً وخطأ
قتل الذمِّي والمعاهد والمستأمن حرام، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً"، أورده البخاري هكذا في كتاب الجزية،"باب إثم مَن قتل معاهداً بغير جُرم"، وأورده في كتاب الديات، في"باب إثم من قتل ذمِّيًّا بغير جُرم"، ولفظه: "مَن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً"، قال الحافظ في الفتح (12/259): "كذا ترجم بالذمِّيِّ، وأورد الخبر في المعاهد، وترجم في الجزية بلفظ: (مَن قتل معاهداً)، كما هو ظاهر الخبر، والمراد به مَن له عهدٌ مع المسلمين(20/33)
ص -35- ... سواء كان بعقد جزية أو هُدنة من سلطان أو أمان من مسلم".
ورواه النسائي (4750) بلفظ: "مَن قتل قتيلاً من أهل الذِّمَّة لم يجد ريح الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً"، ورواه أيضاً (4749) بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قتل رجلاً من أهل الذِّمَّة لم يجد ريح الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً"، وعن أبي بكرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قتل معاهداً في غير كُنهه حرَّم الله عليه الجنَّة" رواه أبو داود (2760)، والنسائي (4747) بإسناد صحيح، وزاد النسائي (4748): "أن يشمَّ ريحها".
ومعنى"في غير كُنهه" أي: في غير وقته الذي يجوز قتله فيه حين لا عهد له، قاله المنذري في الترغيب والترهيب (2/635)، وقال: "ورواه ابن(20/34)
ص -36- ... حبان في صحيحه، ولفظه قال: "مَن قتل نفساً معاهدة بغير حقِّها لم يرح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحَ الجنَّة لتوجد من مسيرة مائة عام"، قال الألباني:"صحيح لغيره".
وأمَّا قتل المعاهد خطأ، فقد أوجب الله فيه الدية والكفارة، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}.
وأقول في الختام: اتَّقوا الله أيُّها الشباب في أنفسكم، لا تكونوا فريسةً للشيطان، يجمع لكم بين خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واتَّقوا الله في المسلمين من الشيوخ والكهول والشباب، واتَّقوا الله في المسلمات من الأمَّهات والبنات والأخوات والعمَّات(20/35)
ص -37- ... والخالات، واتَّقوا الله في الشيوخ الرُّكَّع والأطفال الرُّضَّع، واتَّقوا الله في الدماء المعصومة والأموال المحترمة، {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، أفيقوا من سُباتكم وانتبهوا من غفلتكم، ولا تكونوا مطيَّة للشيطان للإفساد في الأرض.
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُفقِّه المسلمين بدينهم، وأن يحفظهم من مضلاَّت الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيِّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/36)
عنوان الكتاب:
رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ابراهيم
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثانية - العدد الثانية، شوال 1389 هـ(21/1)
ص -7- ... رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -
بقلم الشيخ عبد المحسن العباد المدرس بكلية الشريعة
في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك من هذا العام فقدت المملكة العربية السعودية علمها الشامخ وكوكبها الأغر ونجمها اللامع ومشعلها الوضاء سماحة المفتي ورئيس القضاة ورئيس الجامعة الإسلامية والكليات والمعاهد العلمية: الشيخ الجليل العالم العامل الذي طال عمره وحسن عمله محمد بن إبراهيم آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب غفر الله له ورحمه.
وكان لوفاته الأثر البالغ في النفوس لما للفقيد رحمه الله من مكانة مرموقة وأعمال جليلة، وهذه لمحة قصيرة عن سماحته رأيت إثباتها في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي هي إحدى المؤسسات العلمية التي يرأسها سماحته في أول عدد يصدر بعد وفاته.
وموضوع الحديث عن سماحته مشاع لا يخفى على الكثير من الناس، لكنها الرغبة في أداء بعض ما يجب لهذا الرجل الفذ، الذي جمع بين العلم والعمل، وإن هي إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها، رحم الله الفقيد، ولا فتننا بعده، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.(21/2)
ص -8- ... نسبه:
هو صاحب السماحة الشيخ الجليل أبو عبد العزيز محمد بن الشيخ إبراهيم المتوفى سنة 1329هـ رحمه الله ابن الشيخ عبد اللطيف المتوفى سنة 1293هـ رحمه الله ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن المتوفى سنة 1285هـ رحمه الله ابن شيخ الإسلام الإمام مجدد القرن الثاني عشر محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206هـ رحمه الله، ينتهي نسبه إلى ذلك الإمام المبارك الذي أظهر الله به السنة المحمدية في وقت اشتدت فيه غربة الدين وكثر فيه تعلق الخلق بغير رب العالمين؛ فأرشد النّاس إلى الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحذرهم من طرق الجحيم الطرق التي سلكها أعداء الله من المغضوب عليهم والضالين، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
ولادته وأبرز شيوخه وتلامذته:
ولد رحمه الله وغفر له في اليوم السابع من شهر محرم سنة إحدى وعشرة بعد الثلاثمائة والألف 1311هـ، في مدينة الرياض.
ونشأ في بيت العلم والفضل والتقى والصلاح، فتغذى بلبان العلم والإيمان، وتسلح بسلاح المعرفة والعقيدة السليمة منذ نعومة أظفاره حتى آل أمره إلى أن صار مرجع العلماء وأبرز الفقهاء ونادرة الأذكياء.
أخذ العلم عن والده الشيخ إبراهيم وعن عمه الشيخ عبد اللطيف وعن الشيخ سعد بن عتيق وعن الشيخ حمد بن فارس وغيرهم ممن فقهه الله في دينه ونور بصيرته.
ثم أخذ ينشر العلم ويرشد إلى الخير ويحذر من الشر صابرا محتسبا حتى تخرج على يديه الأعداد الكبيرة من العلماء الذين قاموا بمهام القضاء والتدريس وغيرها في المملكة العربية السعودية، ومن أبرزهم: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائبه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد الرئيس العام للإشراف الديني بالمسجد الحرام.(21/3)
أعماله رحمه الله:
بعد وفاة عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف سنة 1339هـ، أسند إليه عمله، وقام مقامه في الإفتاء ومشيخة علماء نجد وملحقاتها، ثم تولى رئاسة القضاء في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، وعند تأسيس الكليات و المعاهد العلمية باقتراحه ومشورته أسندت إليه(21/4)
ص -9- ... مؤلفاته:
ورغم كثرة هذه الأعمال التي نهض بها، والتي يشق القيام بها على الجماعة من الرجال خلف وراءه من الفتاوى ما يبلغ المجلدات الكثيرة، وقد جمع بعضها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وأكثرها في ملفات دار الإفتاء، ونرجو الله أن يوفق المسؤولين لنشرها ليعم الانتفاع بها، كما أنّ له نصائح توجيهية عامة وخاصة ورسائل قيمة كبيرة الفائدة قد طبع كثير منها.
صفاته رحمه الله:
وكان سماحته غفر الله له من الرجال القلائل الذين يعدون من نوادر الزمان لما منحه الله من الصفات الجمة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فقد كان رحمه الله إلى جانب غزارة علمه وسعة اطلاعه وقوة ذاكرته أرجح العقل ثاقب الرأي، صبورا حليما، ذا أناة وروية، وذا شخصية فذة، تذوب أمامها الشخصيات الكبيرة، مهيب الجانب، مع تواضعه وبعده عن الترفع، عالي الهمة، رجل علم وعمل، حافظا لوقته معنيا بعمارته في خدمة الإسلام والمسلمين بعزيمة لا تعرف الكسل وهمة لا يشوبها فتور داعيا إلى الله على بصيرة لا يخشى في الله لومة لائم إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي وفقه الله للاتصاف بها.
وقد فقد بصره في السابعة عشر من عمره، ولكن الله عوضه قوة في البصيرة ونورا في القلب وإشراقا في حياته المباركة المعمورة بتقوى الله والجهاد في سبيله.
وفاته رحمه الله:
انتقل إلى رحمة الله تعالى ضحى(21/5)
ص -10- ... في أول الساعة الخامسة من يوم الأربعاء الموافق الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1389هـ، وصلى عليه في المسجد الجامع الكبير في الرياض عقب صلاة الظهر أم الناس في الصلاة عليه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، واكتظ المسجد بالمصلين عليه من خاصة الناس وعامتهم على الرغم من قصر المدة التي بين وفاته ووقت صلاة الظهر.
وكان على رأس الذين حضروا الصلاة عليه جلالة الملك فيصل حفظه الله حيث أدى الصلاة عليه مع الناس في الجامع الكبير ثم ذهب إلى المقبرة ولم يزل على حافة القبر حتى دفن رحمه الله.
وقد نقل من المسجد إلى المقبرة على أكتاف الرجال في مسافة تقرب من اثنين كيلومترا، واكتظت الشوارع بالمشاة وبالسيارات التي تحمل المشيعين لجنازته، ولم تكن المصيبة فيه مصيبة أسرة بل كانت المصيبة عامة لا تكاد تلقى أحدا إلاّ وهو يتمثل بقول الشاعر:
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وكانت وفاته رحمه الله على أثر مرض أصابه في كبده في أواخر شهر شعبان حيث دخل المستشفى في الرياض، وفي أوائل شهر رمضان سافر إلى لندن ثم عاد منها إلى الرياض في مساء يوم الخميس الثامن عشر من شهر رمضان، ومنذ عودته وهو في غيبوبة يفيق أحيان فيذكر الله ويستغفره حتى توفاه الله تعالى.
ومدة عمره ثمان وسبعون سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام رحمه الله وغفر له، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يفتح له أبواب الجنة الثمانية ليدخل من أيها شاء إنّه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلاّ به.
وقد أرخت سنة وفاته بهذه الأبيات:
سماحة الشيخ العظيم المنزله ... الثاقب الرأي بحل المشكلة
مفتي الديار رأس كل قضاتها ... مع درر علم الشرع كل أنّ له
وفاته بأحرف أرختها ... فقلت(جد جواد واغفر لي وله(21/6)
عنوان الكتاب:
رفقا أهل السنة بأهل السنة
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
مطبعة سفير، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1424هـ/2003م(22/1)
ص -3- ... رفقاً أهلَ السنَّة بأهلِ السنَّة
إعداد: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ألَّف بين قلوب المؤمنين، ورغَّبهم في الاجتماع والائتلاف، وحذَّّرهم من التفرُّق والاختلاف، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، خلق فقدَّر، وشرع فيسَّر، وكان بالمؤمنين رحيماً، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، الذي أمر بالتيسير والتبشير، فقال: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا"، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله المطهَّرين، وأصحابه الذين وصفهم الله بأنَّهم أشداء على الكفَّار رُحماءُ بينهم، وعلى مَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، اللَّهمَّ اهدني واهد لي واهد بي، اللَّهمَّ طهِّر من الغلِّ جناني، وسدِّد لإصابة الحقِّ لساني، اللَّهمَّ إنِّي أعوذ(22/2)
ص -4- ... بك أن أضِلِّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أزَلَّ، أو أظلم أو أُظلَم، أو أجهلَ أو يُجهل عليَّ.
أمَّا بعد:
فأهل السنَّة والجماعة هم المتَّبعون لِما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونسبتهم إلى سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم التي حثَّ على التمسُّك بها بقوله: "فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليه بالنواجذ"، وحذَّر من مخالفتها بقوله: "وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة"، وقوله: "فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي"، وهذا بخلاف غيرهم من أهل الأهواء والبدع، الذين سلكوا مسالكَ لم يكن عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأهل السنَّة ظهرت عقيدتهم بظهور بعثته صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الأهواء وُلدت عقائدُهم بعد زمنه(22/3)
ص -5- ... صلى الله عليه وسلم، منها ما كان في آخر عهد الصحابة، ومنها ما كان بعد ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ مَن عاش من أصحابه سيُدرك هذا التفرُّقَ والاختلاف، فقال: "وإنَّه مَن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً"، ثم أرشد إلى سلوك الصراط المستقيم، وهو اتِّباعُ سنَّته وسنَّة خلفائه الراشدين، وحذَّر من محدثات الأمور، وأخبر أنَّها ضلال، وليس من المعقول ولا المقبول أن يُحجب حقٌّ وهدى عن الصحابة رضي الله عنهم ويُدَّخر لأناس يجيئون بعدهم؛ فإنَّ تلك البدع المحدَثة كلّها شر، ولو كان في شيء منها خير لسبق إليه الصحابة، لكنَّها شرٌّ ابُتلي به كثير مِمَّن جاء بعدهم مِمَّن انحرفوا عمَّا كان عليه الصحابةُ رضي الله عنهم، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمَّة إلاَّ بما صلح به أوَّلها"، ولذا فإنَّ أهل السنَّة ينتسبون إلى السنَّة، وغيرهم ينتسبون(22/4)
ص -6- ... إلى نحلهم الباطلة كالجبرية والقدرية والمرجئة والإمامية الاثني عشرية، أو إلى أسماء أشخاص معيَّنين، كالجهمية والزيدية والأشعرية والإباضية، ولا يُقال إنَّ من هذا القبيل (الوهابية)، نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنَّ أهلَ السنَّة في زمن الشيخ محمد ـ رحمه الله ـ وبعده لا ينتسبون هذه النسبة؛ لأنَّه ـ رحمه الله ـ لم يأت بشيء جديد فيُنتسَب إليه، بل هو متَّبعٌ لِما كان عليه السلف الصالح، ومظهرٌ للسنَّة وناشرٌ لها وداع إليها، وإنَّما يُطلِق هذه النِّسبةَ الحاقدون على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ الإصلاحية للتشويش على الناس، وصرفهم عن اتِّباع الحقِّ والهدى، وأن يبقوا على ما هم عليه من البدع المحدثة المخالفة لِما كان عليه أهل السنّة والجماعة.(22/5)
ص -7- ... قال الإمام الشاطبي في الاعتصام (1/79): "وقال عبد الرحمن بن مهدي: قد سئل مالك بن أنس عن السنة؟ قال: هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال ابن القيم في مدارج السالكين (3/179): "وقد سئل بعض الأئمة عن السنة؟ قال: ما لا اسم له سوى السنَّة. يعني أنَّ أهل السنَّة ليس لهم اسم يُنسبون إليه سواها".
وفي كتاب الانتقاء لابن عبد البر (ص:35): أنَّ رجلاً سأل مالكاً فقال: مَن أهل السنَّة؟ قال: "أهل السنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به؛ لا جهمي ولا قدَري ولا رافضي".
ولا شكَّ أنَّ الواجبَ على أهل السنَّة في كلِّ(22/6)
ص -11- ... زمان ومكان التآلف والتراحم فيما بينهم، والتعاون على البرِّ والتقوى.
وإنَّ مِمَّا يؤسف له في هذا الزمان ما حصل من بعض أهل السنَّة من وحشة واختلاف، مِمَّا ترتَّب عليه انشغال بعضهم ببعض تجريحاً وتحذيراً وهجراً، وكان الواجب أن تكون جهودُهم جميعاً موجَّهةً إلى غيرهم من الكفَّار وأهل البدع المناوئين لأهل السنَّة، وأن يكونوا فيما بينهم متآلفين متراحمين، يذكِّرُ بعضهم بعضاً برفق ولين.
وقد رأيت كتابة كلمات؛ نصيحةً لهؤلاء جميعاً، سائلاً الله عزَّ وجلَّ أن ينفع بهذه الكلمات، إن أريد إلاَّ الإصلاحَ ما استطعت، وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكَّلت وإليه أنيب، وقد سمَّيت هذه النصيحة"رفقاً أهل السنَّة بأهل السنَّة".(22/7)
ص -12- ... وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وأن يُصلح ذات بينهم وأن يؤلِّف بين قلوبهم وأن يهديهم سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، إنَّه سميع مجيب.(22/8)
ص -10- ... نعمة النطق والبيان
نعمُ الله على عباده لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومن أعظم هذه النِّعم نعمة النطق التي يُبين بها الإنسانُ عن مراده، ويقول القولَ السديد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومَن فَقَدها لم تحصل له هذه الأمور، ولا يُمكنه التفاهم مع غيره إلاَّ بالإشارة أو الكتابة إن كان كاتباً، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقد قيل في تفسيره: إنَّه مثل ضربه الله لنفسه وللوثن، وقيل: إنَّه مثل للكافر والمؤمن، قال القرطبي (9/149): "روي عن ابن عباس وهو حسن؛ لأنَّه يعمُّ"، وهو واضحٌ في نقصان الرقيق(22/9)
ص -11- ... الأبكم الذي لا يُفيد غيرَه ولا يستفيد منه مولاه أينما وجَّهه.
وقال الله عزَّ وجلَّ: { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}، فقد أقسم الله بنفسه على تحقق البعث والجزاء على الأعمال، كما أنَّ النطقَ حاصلٌ واقعٌ من المخاطَبين، وفي ذلك تنويه بنعمة النطق.
وقال سبحانه:
{خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وفسَّر الحسن البيانَ بالنطق، وفي ذلك تنويهٌ بنعمة النطق التي يحصل بها إبانة الإنسان عمَّا يريده.
وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} أي يُبصر بهما،{وَلِسَاناً}.أي.ينطق به فيعبِّر عمَّا في ضميره،(22/10)
ص -12- ... {وَشَفَتَيْنِ} يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه وفمه".
ومن المعلوم أنَّ هذه النعمة إنَّما تكون نعمة حقًّا إذا استُعمل النطق بما هو خير، أمَّا إذا استُعمل بشرٍّ فهو وبالٌ على صاحبه، ويكون مَن فقد هذه النعمة أحسنَ حالاً منه(22/11)
ص -13- ... حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في خير
قال الله عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وقال عزَّ وجلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(22/12)
ص -14- ... وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}
وفي صحيح مسلم (2589) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم، قال: ذكرُك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لَم يكن فيه فقد بهتَّه".
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً؛ يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرَّقوا، ويكره لكم قيل وقال،(22/13)
ص -15- ... وكثرة السؤال، وإضاعة المال" أخرجه مسلم (1715)، وجاءت هذه الثلاثة المكروهة في حديث المغيرة عند البخاري (2408) ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنَّى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه" رواه البخاري (6612)، ومسلم (2657)، واللفظ لمسلم.
وروى البخاري في صحيحه (10) عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمُ مَن سلم المسلمون من لسانه ويده"، ورواه مسلم في صحيحه (64) ولفظه: أنَّ رجلاً(22/14)
ص -16- ... سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال: "مَن سلم المسلمون من لسانه ويده".
وروى مسلمٌ أيضاً من حديث جابر (65) بلفظ حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري.
قال الحافظ في شرح الحديث: "والحديث عامٌّ بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأنَّ اللسانَ يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم! يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإنَّ أثرها في ذلك لعظيم".
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها(22/15)
ص -17- ... وروى البخاري في صحيحه (6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن يضمن لي ما بين لحْيَيْه وما بين رجليه أضمن له الجنَّة"، المراد بما بين اللّحْيَيْن والرِّجْلَين اللسانُ والفرْجُ.
وروى البخاري في صحيحه (6475) ومسلم في صحيحه (74) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" الحديث.
قال النووي في شرح الأربعين في شرح هذا الحديث: "قال الشافعي: معنى الحديث إذا أراد أن يتكلَّم فليُفكِّر، فإن ظهر أنَّه لا ضرر عليه تكلَّم، وإن ظهر أنَّ فيه ضرراً وشكَّ فيه أمسك"، ونقل عن بعضهم أنَّه قال: "لو كنتم تشترون الكاغَد للحفظة لسكتُّم عن كثير من الكلام".(22/16)
ص -18- ... قال الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه روضةُ العقلاء ونزهة الفضلاء (ص:45): "الواجبُ على العاقل أن يلزم الصمتَ إلى أن يلزمه التكلُّمُ، فما أكثرَ مَن ندم إذا نطق، وأقلَّ من يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسانٍ مطلقٍ، وفؤادٍ مطبقٍ".
وقال أيضاً (ص:47): "الواجبُ على العاقل أن يُنصف أذنيه من فيه، ويعلم أنَّه إنَّما جُعلت له أذنان وفم واحدٌ ليسمع أكثر مِمَّا يقول؛ لأنَّه إذا قال ربَّما ندم، وإن لَم يقل لَم يندم، وهو على ردِّ ما لَم يقل أقدر منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملكَتْه، وإن لَم يتكلَّم بها ملكها".
وقال أيضاً في (ص:49): "لسانُ العاقل يكون وراء قلبه، فإذا أراد القولَ رجع إلى القلب، فإن كان له قال، وإلاَّ فلا، والجاهلُ قلبُه في طرف(22/17)
ص -19- ... لسانه، ما أتى على لسانه تكلَّم به، وما عقل دينَه من لَم يحفظ لسانه".
وروى البخاري في صحيحه (6477) ومسلم في صحيحه (2988)، واللفظُ لمسلم عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب".
وفي آخر حديث وصيّة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ أخرجه الترمذي (2616) وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، قال صلى الله عليه وسلم: "وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخِرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم"، قاله جواباً لقول معاذ رضي الله عنه: "يا نبيَّ الله! وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟".
قال الحافظ ابن رجب في شرحه من كتابه جامع العلوم والحكم (2/147): "والمرادُ بحصائد(22/18)
ص -20- ... الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيِّئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمَن زرع خيراً مِن قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامة، ومن زرع شراًّ من قولٍ أو عملٍ حصد غداً الندامة".
وقال (2/146): "هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطَه وحبسَه هو أصل الخير كلِّه، وأنَّ مَن ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه".
ونقل (2/149) عن يونس بن عُبيد أنَّه قال: "ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلاَّ رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله"، وعن يحيى بن أبي كثير أنَّه قال: "ما صلح منطقُ رجل إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقُ رجل قطُّ إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله".
وروى مسلم في صحيحه (2581) عن أبي(22/19)
ص -21- ... هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون مَن المُفلِس؟ قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا دِرهم له ولا متاع، فقال: إنَّ المفلسَ من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيَتْ حسناتُه قَبْل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمَّ طُرح في النار".
وروى مسلم في صحيحه (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً طويلاً جاء في آخره: "بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعرضُه".
وروى البخاري في صحيحه (1739) ومسلم في صحيحه ـ واللفظُ للبخاري ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ(22/20)
ص -22- ... قالوا: بلدٌ حرامٌ، قال: "فأيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرامٌ، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومِكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً، ثم رفع رأسَه فقال: اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: فوالَّذي نفسي بيده! إنَّها لوصيَّتُه إلى أمَّته، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض".
وروى مسلم في صحيحه (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن دعا إلى هُدى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص(22/21)
ص -23- ... ذلك من آثامهم شيئاً".
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (1/65) تعليقاً على حديث "إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاَّ من إحدى ثلاث..." الحديث، قال: "وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مِمَّا يوجب الإثمَ، عليه وزره ووزر مَن قَرَأَه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لِمَا تقدم من الأحاديث (مَن سنَّ سُنَّةً حسنة أو سيِّئة)، والله أعلم".
وروى البخاري في صحيحه (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ قال: مَن عادَى لِي وَلِياًّ فقد آذنتُه بالحرب" الحديث.(22/22)
ص -24- ... الظنُّ والتجسُّس
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا}
ففي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب كثير من الظنِّ، وأنَّ منه إثماً، والنهي عن التجسُّس، والتجسُّسُ هو التنقيب عن عيوب الناس، وهو إنَّما يحصل تَبَعاً لإساءة الظنِّ.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكم والظنَّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخواناً" رواه البخاري (6064)، ومسلم (2563).
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ولا تظنَّنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلاَّ خيراً، وأنت تجد لها في الخير مَحملاً" ذكره ابن(22/23)
ص -25- ... كثير في تفسير آية سورة الحجرات.
وقال بكر بن عبد الله المزني كما في ترجمته من تهذيب التهذيب: "إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظنِّ بأخيك".
وقال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي كما في الحلية لأبي نعيم (2/285): "إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك؛ فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعلَّ لأخي عذراً لا أعلمه".
وقال سفيان بن حسين: "ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال: أغزوتَ الرومَ؟ قلت: لا، قال: فالسِّند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفَتسلَم منك الروم والسِّند والهند والترك، ولم يسلَمْ منك أخوك المسلم؟! قال:(22/24)
ص -26- ... فلَم أعُد بعدها". البداية والنهاية لابن كثير (13/121).
أقول: ما أحسن هذا الجواب من إياس بن معاوية الذي كان مشهوراً بالذكاء، وهذا الجواب نموذجٌ من ذكائه.
وقال أبو حاتم بن حبان البستي في روضة العقلاء (ص:131): "الواجبُ على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإنَّ من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنَه ولم يُتعب قلبَه، فكلَّما اطَّلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإنَّ من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه وتعذَّر عليه ترك عيوب نفسه".
وقال (ص:133): "التجسُّس من شعب(22/25)
ص -27- ... النفاق، كما أنَّ حسنَ الظنِّ من شعب الإيمان، والعاقل يحسن الظنَّ بإخوانه، وينفرد بغمومه وأحزانه، كما أنَّ الجاهلَ يُسيء الظنَّ بإخوانه، ولا يُفكِّر في جناياته وأشجانه".(22/26)
ص -28- ... الرِّفق واللِّين
وصف الله نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنَّه على خُلق عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ووصفه بالرِّفق واللِّين، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، ووصفه بالرحمة والرأفة بالمؤمنين، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
وأمر الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالرِّفق ورغَّب فيه، فقال: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا" أخرجه البخاري (69) ومسلم (1734) من حديث أنس، وأخرجه مسلم (1732) عن أبي موسى، ولفظه: "بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا"، وروى(22/27)
ص -29- ... البخاري في صحيحه (220) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد: "دَعوه، وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذنوباً من ماء؛ فإنَّما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين".
وروى البخاري (6927) عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا عائشة! إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ في الأمر كلِّه"، ورواه مسلم (2593) بلفظ: "يا عائشة! إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويُعطي على الرِّفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه"، وروى مسلم في صحيحه (2594) عن عائشة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيء إلاَّ زانه، ولا يُنزع عن شيء إلاَّ شانه"، وروى مسلم أيضاً (2592) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن(22/28)
ص -30- ... يُحرم الرِّفق يُحرم الخير".
وقد أمر الله النَّبيَّيْن الكريمين موسى وهارون ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أن يدعوا فرعون بالرِّفق واللِّين، فقال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، ووصف الله الصحابةَ الكرام بالتراحم فيما بينهم، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(22/29)
ص -31- ... موقف أهل السنَّة من العالم إذا أخطأ أنَّه يُعذر فلا يُبدَّع ولا يُهجَر
ليست العصمةُ لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يسلم عالِمٌ من خطأ، ومن أخطأ لا يُتابَع على خطئه، ولا يُتخذ ذلك الخطأ ذريعة إلى عيبه والتحذير منه، بل يُغتفر خطؤه القليل في صوابه الكثير، ومن كان من هؤلاء العلماء قد مضى فيُستفادُ من علمه مع الحذر من متابعته على الخطأ، ويُدعى له ويُترحَّم عليه، ومَن كان حيًّا سواء كان عالماً أو طالب علم يُنبَّه على خطئه برفق ولين ومحبَّة لسلامته من الخطأ ورجوعه إلى الصواب.
ومن العلماء الذين مَضوا وعندهم خلل في مسائل من العقيدة، ولا يستغني العلماء وطلبة العلم عن علمهم، بل إنَّ مؤلَّفاتهم من المراجع(22/30)
ص -32- ... المهمَّة للمشتغلين في العلم، الأئمة: البيهقي والنووي وابن حجر العسقلاني.
فأمَّا الإمام أحمد بن حسين أبو بكر البيهقي، فقد قال فيه الذهبي في السير (18/163 وما بعدها): "هو الحافظ العلامة الثبت الفقيه شيخ الإسلام"، وقال: "وبورك له في علمه، وصنَّف التصانيف النافعة"، وقال: "وانقطع بقريته مُقبلاً على الجمع والتأليف، فعمل السنن الكبير في عشر مجلدات، ليس لأحد مثله"، وذكر له كتباً أخرى كثيرة، وكتابه (السنن الكبرى) مطبوع في عشر مجلدات كبار، ونقل عن الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل كلاماً قال فيه: "وتواليفه تقارب ألف جزء مِمَّا لم يسبقه إليه أحد، جمع بين علم الحديث والفقه، وبيان علل الحديث، ووجه الجمع بين الأحاديث"، وقال الذهبي أيضا: ً"فتصانيف(22/31)
ص -33- ... البيهقي عظيمة القدر، غزيرة الفوائد، قلَّ مَن جوَّد تواليفه مثل الإمام أبي بكر، فينبغي للعالم أن يعتني بهؤلاء، سيما سننه الكبرى".
وأمَّا الإمام يحيى بن شرف النووي، فقد قال فيه الذهبي في تذكرة الحفاظ (4/259): "الإمام الحافظ الأوحد القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء... صاحب التصانيف النافعة"، وقال: "مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها، كان حافظاً للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله، رأساً في معرفة المذهب".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية (17/540): "ثم اعتنى بالتصنيف، فجمع شيئاً كثيراً، منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله، فمِمَّا كمَّل شرح مسلم والروضة والمنهاج والرياض والأذكار والتبيان(22/32)
ص -34- ... وتحرير التنبيه وتصحيحه وتهذيب الأسماء واللغات وطبقات الفقهاء وغير ذلك، ومِمَّا لم يتممه ـ ولو كمل لم يكن له نظير في بابه ـ شرح المهذب الذي سمَّاه المجموع، وصل فيه إلى كتاب الرِّبا، فأبدع فيه وأجاد وأفاد وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره، وحرَّر فيه الحديث على ما ينبغي، والغريب واللغة وأشياء مهمَّة لا توجد إلاَّ فيه... ولا أعرف في كتب الفقه أحسن منه، على أنَّه محتاجٌ إلى أشياء كثيرة تُزاد فيه وتُضاف إليه".
ومع هذه السعة في المؤلفات والإجادة فيها لم يكن من المعمَّرين، فمدَّة عمره خمس وأربعون سنة، ولد سنة (631هـ)، وتوفي سنة (676هـ).
وأمَّا الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فهو الإمام المشهور بتآليفه الكثيرة، وأهمُّها فتح(22/33)
ص -35- ... الباري شرح صحيح البخاري، الذي هو مرجع عظيم للعلماء، ومنها الإصابة وتهذيب التهذيب وتقريبه ولسان الميزان وتعجيل المنفعة وبلوغ المرام وغيرها.
ومن المعاصرين الشيخ العلاَّمة المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني، لا أعلم له نظيراً في هذا العصر في العناية بالحديث وسعة الاطِّلاع فيه، لَم يسلم من الوقوع في أمور يعتبرها الكثيرون أخطاء منه، مثل اهتمامه بمسألة الحجاب وتقرير أنَّ ستر وجه المرأة ليس بواجب، بل مستحب، ولو كان ما قاله حقًّا فإنَّه يُعتبر من الحقِّ الذي ينبغي إخفاؤه؛ لِمَا ترتَّب عليه من اعتماد بعض النساء اللاَّتي يهوين السفور عليه، وكذا قوله في كتاب صفة صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ وضع اليدين على الصدر بعد الركوع بدعةٌ ضلالة" وهي مسألة خلافية،(22/34)
ص -36- ... وكذا ما ذكره في السلسلة الضعيفة (2355) من أنَّ عدم أخذ ما زاد على القبضة من اللحية من البدع الإضافية، وكذا تحريمه الذهب المحلَّق على النساء، ومع إنكاري عليه قوله في هذه المسائل فأنا لا أستغني وأرى أنَّه لا يستغني غيري عن كتبه والإفادة منها، وما أحسن قول الإمام مالك رحمه الله: "كلٌّ يؤخذ من قوله ويُردُّ إلاَّ صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر النَّبيِ صلى الله عليه وسلم".
وهذه نقول عن جماعة من أهل العلم في تقرير وتوضيح اغتفار خطأ العالم في صوابه الكثير:
قال سعيد بن المسيب (93هـ): "ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلاَّ وفيه عيب، ولكن مَن كان فضلُه أكثرَ من نقصه ذهب نقصه لفضله، كما أنَّه من غلب عليه نقصانه ذهب فضله. وقال غيره: لا يسلم العالم من الخطأ، فمَن أخطأ قليلاً وأصاب(22/35)
ص -37- ... كثيراً فهو عالم، ومن أصاب قليلاً وأخطأ كثيراً فهو جاهل". جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/48).
وقال عبد الله بن المبارك (181هـ): "إذا غلبت محاسنُ الرَّجل على مساوئه لَم تُذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لَم تُذكر المحاسن". سير أعلام النبلاء للذهبي (8/352 ط. الأولى).
وقال الإمام أحمد (241هـ): "لَم يعبر الجسر من خراسان مثل إسحاق (يعني ابن راهويه)، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإنَّ الناسَ لم يزل يخالف بعضُهم بعضاً". سير أعلام النبلاء (11/371).
وقال أبو حاتم ابن حبان (354هـ): "كان عبد الملك ـ يعني ابن أبي سليمان ـ من خيار أهل الكوفة وحفاظهم، والغالب على من يحفظ(22/36)
ص -38- ... ويُحدِّث من حفظه أن يهم، وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبْتٍ صحَّت عدالتُه بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك للزمنا ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبة؛ لأنَّهم أهل حفظ وإتقان، وكانوا يحدِّثون من حفظهم، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في الروايات، بل الاحتياط والأولى في مثل هذا قبول ما يروي الثبت من الروايات، وترك ما صح أنَّه وهم فيها ما لم يفحش ذلك منه حتى يغلب على صوابه، فإن كان كذلك استحق الترك حينئذ". الثقات (7/97 ـ 98).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ): "ومِمَّا ينبغي أن يُعرف أن الطوائفَ المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدِّين والكلام على درجات، منهم مَن يكون قد خالف السنَّةَ في أصول عظيمة،(22/37)
ص -39- ... ومنهم مَن يكون إنَّما خالف السنَّةَ في أمور دقيقة.
وَمن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعدُ عن السنَّة منه، فيكون محموداً فيما ردَّه من الباطل وقاله من الحقِّ، لكن يكون قد جاوز العدل في ردِّه بحيث جحد بعضَ الحقِّ وقال بعضَ الباطل، فيكون قد ردَّ بدعةً كبيرة ببدعة أخفَّ منها، ورد باطلاً بباطل أخفَّ منه، وهذه حالُ أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنَّة والجماعة.
ومثل هؤلاء إذا لَم يَجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعةَ المسلمين يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأَهم في مثل ذلك.
ولهذا وقع في مثل هذا كثيرٌ من سلف الأمة وأئمتها لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، بخلاف مَن والى موافقَه(22/38)
ص -40- ... وعادى مخالفَه، وفرَّق بين جماعة المسلمين، وكفَّر وفسَّق مخالفَه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلَّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات". مجموع الفتاوى (3/348 ـ 349).
وقال (19/191 ـ 192): "وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنَّه بدعة، إمَّا لأحاديث ضعيفة ظنُّوها صحيحة، وإمَّا لآيات فهموا منها ما لَم يُرَد منها، وإمَّا لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتَّقى الرَّجل ربَّه ما استطاع دخل في قوله: َ{بَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وفي الصحيح أنَّ الله قال: "قد فعلتُ".
وقال الإمام الذهبي (748هـ): "ثم إن الكبير من أئمَّة العلم إذا كثر صوابُه، وعُلم تحرِّيه للحقِّ،(22/39)
ص -41- ... واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورعه واتِّباعه، يُغفر له زلَله، ولا نضلِّله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم! ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". سير أعلام النبلاء (5/271).
وقال أيضاً: "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قُمنا عليه وبدَّعناه وهجَرناه، لَمَا سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة" السير (14/39 ـ 40).
وقال أيضاً: "ولو أنَّ كلَّ من أخطأ في اجتهاده ـ مع صحَّة إيمانه وتوخِّيه لاتباع الحقِّ ـ أهدرناه وبدَّعناه، لقلَّ مَن يسلم من الأئمَّة معنا، رحم الله الجميعَ بمنِّه وكرمه". السير (14/376).(22/40)
ص -42- ... عليه، بل يشتغل بالعلم الذي يعود عليه وعلى غيره بالنفع العظيم، وهذه هي طريقة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
4 ـ لا يجوز أن يَمتحن أيُّ طالب علم غيرَه بأن يكون له موقف من فلان المردود عليه أو الرَّاد، فإن وافق سلم، وإن لم يُوافق بُدِّع وهُجر، وليس لأحد أن ينسب إلى أهل السنَّة مثل هذه الفوضى في التبديع والهجر، وليس لأحد أيضاً أن يصف من لا يسلك هذا المسلك الفوضوي بأنَّه مُميِّع لمنهج السلف، والهجرُ المفيد بين أهل السنَّة ما كان نافعاً للمهجور، كهجر الوالد ولده، والشيخ تلميذه، وكذا صدور الهجر مِمَّن يكون له منزلة رفيعة ومكانة عالية، فإنَّ هجرَ مثل هؤلاء يكون مفيداً للمهجور، وأمَّا إذا صدر الهجر من بعض الطلبة لغيرهم، لا سيما إذا كان في أمور لا يسوغ(22/41)
ص -43- ... الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلَّة هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين" إعلام الموقعين (3/295).
وقال ابن رجب الحنبلي (795هـ): "ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير من صوابه". القواعد (ص:3).(22/42)
ص -44- ... فتنة التجريح والهجر من بعض أهل السنَّة في هذا العصر، وطريق السلامة منها
حصل في هذا الزمان انشغال بعض أهل السنَّة ببعض تجريحاً وتحذيراً، وترتَّب على ذلك التفرُّق والاختلاف والتهاجر، وكان اللائقُ بل المتعيَّن التواد والتراحم بينهم، ووقوفهم صفًّا واحداً في وجه أهل البدع والأهواء المخالفين لأهل السنَّة والجماعة، ويرجع ذلك إلى سببين:
أحدهما: أنَّ من أهل السنَّة في هذا العصر من يكون دَيْدَنُه وشغلُه الشاغل تتبُّع الأخطاء والبحث عنها، سواء كانت في المؤلفات أو الأشرطة، ثم التحذير مِمَّن حصل منه شيءٌ من هذه الأخطاء، ومن هذه الأخطاء التي يُجرَّح بها الشخص ويُحذَّر منه بسببها تعاونه مثلاً مع إحدى الجمعيات بإلقاء(22/43)
ص -45- ... المحاضرات أو المشاركة في الندوات، وهذه الجمعية قد كان الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله يُلقيان عليها المحاضرات عن طريق الهاتف، ويُعاب عليها دخولها في أمر قد أفتاها به هذان العالمان الجليلان، واتِّهام المرء رأيه أولى من اتِّهامه رأي غيره، ولا سيما إذا كان رأياً أفتى به كبار العلماء، وكان بعضُ أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدما جرى في صلح الحُديبية يقول: يا أيُّها الناس! اتِّهموا الرأي في الدِّين.
ومن المجروحين مَن يكون نفعه عظيماً، سواء عن طريق الدروس أو التأليف أو الخطب، ويُحذَّر منه لكونه لا يُعرف عنه الكلام في فلان أو الجماعة الفلانية مثلاً، بل لقد وصل التجريح والتحذير إلى البقيَّة الباقية في بعض الدول العربية، مِمَّن نفعهم عميم وجهودهم عظيمة في إظهار السنَّة ونشرها(22/44)
ص -46- ... والدعوة إليها، ولا شكَّ أنَّ التحذير من مثل هؤلاء فيه قطع الطريق بين طلبة العلم ومَن يُمكنهم الاستفادة منهم علماً وخلقاً.
والثاني: أنَّ من أهل السنَّة مَن إذا رأى أخطاء لأحد من أهل السنَّة كتب في الردِّ عليه، ثم إنَّ المردودَ عليه يُقابل الردَّ بردٍّ، ثم يشتغل كلٌّ منهما بقراءة ما للآخر من كتابات قديمة أو حديثة والسماع لِمَا كان له من أشرطة كذلك؛ لالتقاط الأخطاء وتصيُّد المثالب، وقد يكون بعضُها من قبيل سبق اللسان، يتولَّى ذلك بنفسه، أو يقوم له غيرُه به، ثم يسعى كلٌّ منهما إلى الاستكثار من المؤيِّدين له المُدينين للآخر، ثم يجتهد المؤيِّّدون لكلِّ واحد منهما بالإشادة بقول من يؤيِّده وذم غيره، وإلزام من يلقاه بأن يكون له موقف مِمَّن لا يؤيِّده، فإن لم يفعل بدَّعه تبَعاً لتبديع الطرف الآخر،(22/45)
ص -47- ... وأتبع ذلك بهجره، وعَمَلُ هؤلاء المؤيِّدين لأحد الطرفين الذامِّين للطرف الآخر من أعظم الأسباب في إظهار الفتنة ونشرها على نطاق واسع، ويزداد الأمر سوءاً إذا قام كلٌّ من الطرفين والمؤيِّدين لهما بنشر ما يُذمُّ به الآخر في شبكة المعلومات (الانترنت)، ثم ينشغل الشباب من أهل السنَّة في مختلف البلاد بل في القارات بمتابعة الاطلاع على ما يُنشر بالمواقع التي تنشر لهؤلاء وهؤلاء من القيل والقال الذي لا يأتي بخير، وإنَّما يأتي بالضرر والتفرُّق، مِمَّا جعل هؤلاء وهؤلاء المؤيِّدين لكلٍّ من الطرفين يشبهون المتردِّدين على لوحات الإعلانات للوقوف على ما يجدُّ نشره فيها، ويُشبهون أيضاً المفتونين بالأندية الرياضية الذين يشجِّع كلٌّ منهم فريقاً، فيحصل بينهم الخصام والوحشة والتنازع نتيجة لذلك.(22/46)
ص -48- ... وطريق السلامة من هذه الفتن تكون بما يأتي:
أولاً: فيما يتعلَّق بالتجريح والتحذير ينبغي مراعاة ما يلي:
1 ـ أن يتقي اللهَ مَن أشغل نفسَه بتجريح العلماء وطلبة العلم والتحذير منهم، فينشغل بالبحث عن عيوبه للتخلُّص منها بدلاً من الاشتغال بعيوب الآخرين، ويحافظ على الإبقاء على حسناته فلا يضيق بها ذرعاً، فيوزِّعها على مَن ابتلي بتجريحهم والنَّيل منهم، وهو أحوجُ من غيره إلى تلك الحسنات في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاَّ مَن أتى اللهَ بقلب سليم.
2 ـ أن يشغل نفسه بدلاً من التجريح والتحذير بتحصيل العلم النافع، والجدِّ والاجتهاد فيه ليستفيد ويُفيد، وينتفع وينفع، فمن الخير(22/47)
ص -49- ... للإنسان أن يشتغلَ بالعلم تعلُّماً وتعليماً ودعوة وتأليفاً، إذا تَمكَّن من ذلك ليكون من أهل البناء، وألاَّ يشغل نفسه بتجريح العلماء وطلبة العلم من أهل السنَّة، وقطع الطريق الموصلة إلى الاستفادة منهم، فيكون من أهل الهدم، ومثل هذا المشتغل بالتجريح لا يخلِّف بعده إذا مات علماً يُنتفع به، ولا يفقدُ الناس بموته عالماً ينفعهم، بل بموته يسلمون من شره.
3 ـ أن ينصرف الطلبة من أهل السنَّة في كلِّ مكان إلى الاشتغال بالعلم، بقراءة الكتب المفيدة وسماع الأشرطة لعلماء أهل السنَّة مثل الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، بدلاً من انشغالهم بالاتصال بفلان أو فلان، سائلين: "ما رأيك في فلان أو فلان؟"، "وماذا تقول في قول فلان في فلان، وقول فلان في فلان؟".(22/48)
ص -50- ... 4 ـ عند سؤال طلبة العلم عن حال أشخاص من المشتغلين بالعلم، ينبغي رجوعهم إلى رئاسة الإفتاء بالرياض للسؤال عنهم، وهل يُرجع إليهم في الفتوى وأخذ العلم عنهم أو لا؟ ومَن كان عنده علم بأحوال أشخاص معيَّنين يُمكنه أن يكتب إلى رئاسة الإفتاء ببيان ما يعلمه عنهم للنظر في ذلك، وليكون صدور التجريح والتحذير إذا صدر يكون من جهة يُعتمد عليها في الفتوى وفي بيان مَن يؤخذ عنه العلم ويُرجع إليه في الفتوى، ولا شكَّ أنَّ الجهة التي يُرجع إليها للإفتاء في المسائل هي التي ينبغي الرجوع إليها في معرفة مَن يُستفتى ويُؤخذ عنه العلم، وألاَّ يجعل أحدٌ نفسه مرجعاً في مثل هذه المهمَّات؛ فإنَّ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.(22/49)
ص -51- ... ثانياً: فيما يتعلَّق بالردِّ على مَن أخطأ، ينبغي مراعاة ما يلي:
1 ـ أن يكون الردُّ برفق ولين ورغبة شديدة في سلامة المخطئ من الخطأ، حيث يكون الخطأ واضحاً جليًّا، وينبغي الرجوع إلى ردود الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ للاستفادة منها في الطريقة التي ينبغي أن يكون الردُّ عليها.
2 ـ إذا كان الخطأ الذي رد عليه فيه غير واضح، بل هو من الأمور التي يحتمل أن يكون الرادُّ فيها مصيباً أو مخطئاً، فينبغي الرجوع إلى رئاسة الإفتاء للفصل في ذلك، وأمَّا إذا كان الخطأ واضحاً، فعلى المردود عليه أن يرجع عنه؛ فإنَّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل.
3 ـ إذا حصل الردُّ من إنسان على آخر يكون قد أدَّى ما عليه، فلا يشغل نفسَه بمتابعة المردود(22/50)
ص -52- ... عليه، بل يشتغل بالعلم الذي يعود عليه وعلى غيره بالنفع العظيم، وهذه هي طريقة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
4 ـ لا يجوز أن يَمتحن أيُّ طالب علم غيرَه بأن يكون له موقف من فلان المردود عليه أو الرَّاد، فإن وافق سلم، وإن لم يُوافق بُدِّع وهُجر، وليس لأحد أن ينسب إلى أهل السنَّة مثل هذه الفوضى في التبديع والهجر، وليس لأحد أيضاً أن يصف من لا يسلك هذا المسلك الفوضوي بأنَّه مُميِّع لمنهج السلف، والهجرُ المفيد بين أهل السنَّة ما كان نافعاً للمهجور، كهجر الوالد ولده، والشيخ تلميذه، وكذا صدور الهجر مِمَّن يكون له منزلة رفيعة ومكانة عالية، فإنَّ هجرَ مثل هؤلاء يكون مفيداً للمهجور، وأمَّا إذا صدر الهجر من بعض الطلبة لغيرهم، لا سيما إذا كان في أمور لا يسوغ(22/51)
ص -53- ... الهجر بسببها، فذلك لا يُفيد المهجور شيئاً، بل يترتَّب عليه وجود الوحشة والتدابر والتقاطع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/413 ـ 414) في كلام له عن يزيد بن معاوية: "والصواب هو ما عليه الأئمَّة، من أنَّه لا يُخَصُّ بمحبة ولا يلعن، ومع هذا فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر للفاسق والظالم، لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّل جيش يغزو القسطنطينيَّة مغفورٌ له"، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه...
فالواجب الاقتصاد في ذلك، والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به؛ فإنَّ هذا من البدع المخالفة لأهل السنَّة والجماعة".(22/52)
ص -54- ... وقال (3/415):"وكذلك التفريق بين الأمَّة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم".
وقال (20/164): "وليس لأحد أن ينصب للأمَّة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويُوالي ويُعادي عليها غير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويُعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمَّة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرِّقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويُعادون".
وقال (28/15 ـ 16): "فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك نظر فيه: فإن كان قد فعل ذنباً شرعيًّا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنباً شرعيًّا لم يجز أن يُعاقب بشيء لأجل(22/53)
ص -55- ... غرض المعلم أو غيره.
وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البرِّ والتقوى، كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}"، قال الحافظ ابن رجب في شرح حديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" من كتابه جامع العلوم والحكم (1/288): "وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عَمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد ـ إمام المالكية في زمانه ـ أنَّه قال: جماعُ آداب الخير وأزمته تتفرَّع من أربعة أحاديث: قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وقوله للذي اختصر له في(22/54)
ص -56- ... الوصيَّة: (لا تغضب)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يُحبُّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه".
أقول: ما أحوج طلبة العلم إلى التأدُّب بهذه الآداب التي تعود عليهم وعلى غيرهم بالخير والفائدة، مع البُعد عن الجفاء والفظاظة التي لا تُثمر إلاَّ الوحشة والفُرقة وتنافر القلوب وتمزيق الشمل.
5 ـ على كلِّ طالب علم ناصح لنفسه أن يُعرضَ عن متابعة ما يُنشر في شبكة المعلومات الانترنت، عمَّا يقوله هؤلاء في هؤلاء، و هؤلاء في هؤلاء، والإقبال عند استعمال شبكة الانترنت على النظر في مثل موقع الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ ومطالعة بحوثه وفتاواه التي بلغت حتى الآن واحداً وعشرين مجلداً، وفتاوى اللجنة الدائمة التي بلغت حتى الآن عشرين مجلداً، وكذا موقع الشيخ محمد(22/55)
ص -57- ... بن عثيمين ـ رحمه الله ـ ومطالعة كتبه وفتاواه الكثيرة الواسعة.
وفي الختام أوصي طلبة العلم أن يشكروا اللهَ عزَّ وجلَّ على توفيقه لهم؛ إذ جعلهم من طلاَّبه، وأن يُعنوا بالإخلاص في طلبه، ويبذلوا النَّفس والنّفيس لتحصيله، وأن يحفظوا الأوقات في الاشتغال به؛ فإنَّ العلم لا يُنال بالأماني والإخلاد إلى الكسل والخمول، وقد قال يحيى بن أبي كثير اليمامي: "لا يُستطاع العلم براحة الجسم" رواه مسلم في صحيحه بإسناده إليه في أثناء إيراده أحاديث أوقات الصلاة، وقد جاء في كتاب الله آيات، وفي سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم أحاديث تدلّ على شرف العلم وفضل أهله، كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} وقوله: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقوله:(22/56)
ص -58- ... {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وقوله: {قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}، وأما الأحاديث في ذلك فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من يُرد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين" أخرجه البخاري (71) ومسلم (1037)، وقد دلَّ الحديثُ على أنَّ من علامة إرادة الله تعالى الخير بالعبد أن يفقِّهه في الدِّين؛ لأنه بفقهه في الدِّين يعبد الله على بصيرة، ويدعو غيره على بصيرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلّم القرآن وعلَّمه" رواه البخاري (5027)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" رواه مسلم (817)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأدّاها كما سمعها" وهو حديثٌ متواتر، جاء عن أكثر من عشرين صحابياً، ذكرت رواياتهم في كتابي"دراسة حديث (نضّر الله امرءا سمع مقالتي)(22/57)
ص -59- ... روايةً ودرايةً"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله عزَّ وجلَّ به طريقاً من طرق الجنّة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإنَّ العالِم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جَوف الماء، وإنَّ فضلَ العالِم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ورَّثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافر" وهو حديث حسن لغيره، أخرجه أبو داود (3628) وغيره، وانظر لتخريجه صحيح الترغيب والترهيب (70) والتعليق على مسند الإمام أحمد (21715)، وقد شرح الحافظ ابن رجب هذا الحديث في جزء مفرد، والجملة الأولى وردت في حديث في صحيح مسلم (2699)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان(22/58)
ص -60- ... انقطع عنه عملُه إلاَّ من ثلاثة: إلاَّ من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" رواه مسلم (1631)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" أخرجه مسلم (2674).
وأيضاً أوصي الجميع بحفظ الوقت وعمارته فيما يعود على الإنسان بالخير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحَّةُ والفراغ" رواه البخاري في صحيحه (6412)، وهو أوّل حديثٍ عنده في كتاب الرِّقاق، وقد أورد في هذا الكتاب (11/235 مع الفتح) أثراً عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكلِّ واحدةٍ منهما(22/59)
ص -61- ... بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإنَّ اليوم عملٌ ولا حسابٌ، وغداً حسابٌ ولا عمل".
وأوصي بالاشتغال بما يعني عمّا لا يعني؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" حديث حسن، رواه الترمذي (2317) وغيره، وهو الحديث الثاني عشر من الأربعين للنووي.
وأوصي بالاعتدال والتوسُّط بين الغلوّ والجفاء والإفراط والتفريط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إيّاكم والغلوّ في الدِّين؛ فإنّما هلك من كان قبلكم بالغلوِّ في الدِّين" وهو حديث صحيح، أخرجه النّسائي وغيره، وهو من أحاديث حجّة الوداع، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1283).
وأوصي بالحذر من الظلم؛ للحديث القدسي: "يا عبادي! إنِّي حرّمت الظلم على نفسي،(22/60)
ص -62- ... وجعلتُه بينكم محرَّماً فلا تظالَموا" رواه مسلم (2577)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "اتّقوا الظلمَ؛ فإنَّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة" رواه مسلم (2578).
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفِّق الجميع لِمَا فيه تحصيل العلم النافع والعمل به والدعوة إليه على بصيرة، وأن يجمعهم على الحقِّ والهدى، ويسلمهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.(22/61)
عنوان الكتاب:
شرح حديث جبريل في تعليم الدين
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
مطبعة سفير، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1424هـ/2003م(23/1)
ص -5- ... شرح حديث جبريل في تعليم الدِّين
تأليف: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلامَ ديناً، وأتَمَّ علينا النِّعمةَ وأكملَ لنا الدِّين، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، الملِك الحقّ المبين، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله الذي بعثه الله رحمة للعالَمين، فأدَّى الأمانة ونصح الأمَّة وبلَّغ البلاغَ المبين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فقد كنت منذ فترة طويلة راغباً في كتابة شرح مستقلٍّ لحديث جبريل المشتمل على بيان الإسلام والإيمان والإحسان، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في نهايته: "هذا جبريل أتاكم يعلِّمكم دينَكم"، وقد تحقَّق ذلك بفضل الله بإخراج هذا الشرح في هذا العام (1424هـ)، وقد جاء عن جماعة من أهل العلم بيان عظم شأن هذا الحديث، قال القاضي عياض كما في شرح النووي على صحيح مسلم (1/158): "وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إنَّ علومَ الشريعة كلَّها راجعةٌ إليه ومتشعِّبةٌ منه، قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألَّفنا كتابنا الذي سمَّيناه بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان؛ إذ لا يشذ شيءٌ من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة، والله أعلم".(23/2)
ص -6- ... وقال النووي (1/160): "واعلم أنَّ هذا الحديث يجمع أنواعاً من العلوم والمعارف والآداب واللطائف، بل هو أصل الإسلام، كما حكيناه عن القاضي عياض".
وقال القرطبي كما في الفتح (1/125): "هذا الحديث يصلح أن يُقال له أم السنَّة؛ لِمَا تضمَّنه من جُمل علم السنَّة".
وقال ابن دقيق العيد في شرح الأربعين: "فهو كالأمِّ للسنَّة، كما سُمِّيت الفاتحة أم القرآن؛ لِمَا تضمَّنته من جمعها معاني القرآن".
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/97): "وهو حديث عظيم يشتمل على شرح الدِّين كلِّه، ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخره: "هذا جبريل أتاكم يعلِّمكم دينكم"، بعد أن شرح درجة الإسلام ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان، فجعل ذلك كلَّه ديناً".
وقد سَمَّيته "شرح حديث جبريل في تعليم الدِّين".
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفع به، وأن يوفِّق الجميع لتحصيل العلم النافع والعمل به، إنَّه سميع مجيب.(23/3)
ص -7- ... روى الإمام مسلم في صحيحه (8) بإسناده عن يحيى بن يَعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد ابن عبد الرحمن الحميري حاجَّين أو معتمرَين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يَمينه والآخر عن شماله، فظننت أنَّ صاحبي سيَكِل الكلامَ إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قِبَلَنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلمَ، وذكر من شأنهم، وأنَّهم يزعمون أن لا قَدر، وأنَّ الأمرَ أُنُف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرْهم أنِّي بريء منهم، وأنَّهم بُرآء منِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنَّ لأحدهم مثل أُحُد ذهباً فأنفقه ما قَبل الله منه حتى يؤمنَ بالقدر، ثم قال: "حدَّثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طَلَعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسنَد ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، قال: صدقتَ، قال: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لَم تكن تراه فإنَّه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلمَ من السائل، قال: فأخبرني عن(23/4)
ص -8- ... أمَاراتِها؟ قال: أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان، قال: ثمَّ انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي: يا عمر أتدري مَن السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ حديث جبريل من هذه الطريق وبهذا اللفظ صدَّر به الإمام مسلم كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه، وأوَّل حديث في صحيح البخاري حديث عمر رضي الله عنه: "إنَّما الأعمال بالنيَّات"، وقد صدَّر البغوي كتابيه مصابيح السنة وشرح السنة بأوَّل حديث في صحيح البخاري، وثنَّى بهذا الحديث الذي هو أوَّل حديث في صحيح مسلم، وتبعه على ذلك النووي في الأربعين، وتقدَّم في المقدِّمة ذكر أقوال بعض أهل العلم في بيان منزلة هذا الحديث وعظم شأنه.
2 ـ الحديث من مسند عمر، انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، وخرَّجه أيضاً كما في التعليق على جامع العلوم والحكم (1/94)، ومسند الإمام أحمد (367): أبو داود (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي (8/97)، وابن ماجه (63)، وابن منده في الإيمان (1)، (14)، والطيالسي (ص:24)، وابن حبان (168)، (173)، والآجري في الشريعة (ص:188 ـ 189)، وأبو يعلى (242)، والبيهقي في دلائل النبوة (7/69 ـ 70)، وفي شعب الإيمان (3973)، والبغوي في شرح السنة (2)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (363 ـ 367)، وعبد الله ابن أحمد في السنة (901)، (908)، والبخاري في خلق أفعال العباد (190)، وابن خزيمة (2504).
واتفق البخاري (50) ومسلم (9) على إخراجه عن أبي هريرة،(23/5)
ص -9- ... وقد رواه أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسةٌ من الصحابة، ذكرهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/115 ـ 116)، وهم أبو ذر عند أبي داود والنسائي، وابن عمر عند أحمد والطبراني وأبي نعيم، وأنس عند البخاري في خلق أفعال العباد والبزار، وقال: "وإسناده حسن"، وجرير بن عبد الله البجلي عند أبي عوانة، وابن عباس وأبو عامر الأشعري عند أحمد، وقال: "وإسنادهما حسن".
3 ـ في القصَّة التي أوردها مسلم قبل سياق الحديث عن يحيى بن يَعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري فوائد:
الأولى: أنَّ بدعةَ القول بنفي القَدَر ظهرت بالبصرة في عصر الصحابة في حياة ابن عمر، وكانت وفاته سنة (73هـ).
الثانية: رجوع التابعين إلى الصحابة في معرفة حكم ما يقع من أمور مشكلة، سواء كان ذلك في العقائد أو غيرها، وهذا هو الواجب على كلِّ مسلم أن يرجع في أمور دينه إلى أهل العلم؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
الثالثة: أنَّه يُستحبُّ للحُجَّاج والمعتمرين أن يستغلُّوا مناسبة ذهابهم إلى الحرمين للتفقُّه في الدِّين والرجوع إلى أهل العلم في معرفة ما يُشكل عليهم من أحكام دينهم، كما حصل من يحيى بن يَعمر وحُميد بن عبد الرحمن الحميري في هذه القصة، ومن النتائج الطيِّبة التي يظفر بها مَن وفَّقه الله تفقهُه في الدِّين والسلامة من الوقوع في الشرِّ، كما في صحيح مسلم (191) عن يزيد الفقير قال: "كنتُ قد شَغَفَنِي رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عِصابةٍ ذوي عدد نريد أن نحجَّ، ثمَّ نخرجَ على(23/6)
ص -10- ... الناس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يُحدِّث القومَ ـ جالسٌ إلى ساريةٍ ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين، قال: فقلتُ له: يا صاحبَ رسول الله! ما هذا الذي تُحدِّثون؟ والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}، و{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}، فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأُ القرآنَ؟ قلتُ: نعم! قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام، يعني الذي يبعثه فيه؟ قلتُ: نعم! قال: فإنَّه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يُخرج اللهُ به مَن يُخرج. قال: ثمَّ نعتَ وضعَ الصِّراط ومرَّ الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنَّه قد زعم أنَّ قوماً يَخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنَّهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنَّة فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنَّهم القراطيس. فرجعنا، قلنا: وَيْحَكم! أَتَروْنَ الشيخَ يَكذِبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فرجعنا، فلا ـ والله! ـ ما خرج منَّا غيرُ رَجل واحد، أو كما قال أبو نعيم". وأبو نعيم هو الفضل بن دكين هو أحد رجال الإسناد.
فهذه العصابة جاؤوا إلى الحجِّ وقد ابتُلوا بفهم خاطئ، وهو أنَّ أصحابَ الكبائر لا يخرجون من النار، وحملوا الآيات التي وردت في الكفَّار على المسلمين أيضاً، وهذا من عقيدة الخوارج، وقد أرادت هذه العصابة أن تظهر على الناس بهذه العقيدة الباطلة بعد الحج، لكن في هذه الرحلة الميمونة وفَّقهم الله للالتقاء بجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، فأوضح لهم فساد فهمهم، فعدلوا عمَّا كانوا عزموا عليه، ولم يخرج منهم بهذا الباطل إلاَّ واحد منهم.(23/7)
ص -11- ... الرابعة: في هذه القصة أنواع من الأدب، منها اكتناف أحد هذين الرَّجلين عبد الله بن عمر، فصار واحدٌ منهما عن يمينه، وواحد عن يساره، وفي ذلك قُرب كلِّ واحد منهما منه للتمكُّن من وعي ما يقوله رضي الله عنه، ومنها مخاطبته بالكنية، وهو من حسن الأدب في الخطاب، ومنها مراعاة حقِّ الصاحب وعدم سبقه إلى الحديث إلاَّ إذا فهم منه ما يُشعر رضاه بذلك، ولعلَّ يحيى بن يَعمر رأى أنَّ صاحبَه سكت ولم يبدأ بالكلام مع عبد الله بن عمر، ففهم منه أنَّه ترك الحديث له.
الخامسة: أنَّ الاستفتاءَ وأخذَ العلم عن العالم كما يكون في حال جلوسه، يكون أيضاً في حال مشيه؛ لأنَّ هذين التابعيين سألاَ ابنَ عمر رضي الله عنهما وأجابهما على ما سألاَ وهو يمشي، وفي صحيح البخاري في كتاب العلم: "باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها"، و"باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار".
السادسة: في جواب ابن عمر رضي الله عنهما لهذين السائلَين بيان خطورة بدعة القول بنفي القدر السابق، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/103 ـ 104): "والإيمان بالقدر على درجتين:
إحداهما: الإيمانُ بأنَّ الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشرٍّ وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومَن هو منهم من أهل الجنَّة، ومن أهل النار، وأعدَّ لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنَّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنَّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.
والدرجة الثانية: أنَّ الله تعالى خلق أفعال عباده كلَّها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وشاءها منهم، فهذه الدرجة يثبتها أهل(23/8)
ص -12- ... السنَّة والجماعة، ويُنكرها القدرية، والدرجة الأولى أثبتها كثيرٌ من القدرية، ونفاها غلاتُهم، كمعبد الجهني، الذي سُئل ابنُ عمر عن مقالته، وكعمرو بن عُبيد وغيره.
وقد قال كثيرٌ من أئمَّة السلف: "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقرُّوا به خُصموا، وإن جحدوه فقد كفروا. يريدون أنَّ مَن أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأنَّ الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقيٍّ وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذَّب بالقرآن، فيكفر بذلك، وإن أقرُّوا بذلك وأنكروا أنَّ الله خلق أفعال عباده وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية، فقد خُصموا؛ لأنَّ ما أقرُّوا به حجَّة عليهم فيما أنكروه، وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء، وأمَّا مَن أنكر العلم القديم، فنصَّ الشافعي وأحمد على تكفيره، وكذلك غيرهما من أئمَّة الإسلام".
السابعة: أنَّ للشيطان في إضلال الناس وإغوائهم طريقين، فمَن كان منهم عنده تقصير وإعراض عن الطاعة حسَّن له الشهوات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات" رواه البخاري (6487)، ومسلم (2822)، ويُقال لهذا مرض الشهوة، ومنه قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، وأمَّا من كان من أهل الطاعة والعبادة، أتاه الشيطان عن طريق الغلوِّ فيها وإلقاء الشبهات عليه، قال الله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}، وفي صحيح البخاري (4547)، ومسلم (2665) عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ(23/9)
ص -13- ... النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقال: "إذا رأيتم الذين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم"، ويُقال لهذا مرض الشبهة، ومنه قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}، وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ}، وهؤلاء الذين سُئل عنهم ابن عمر وصفهم يحيى بن يعمر بأنَّهم أهل عبادة، فقال: "إنَّه ظهر قِبَلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم"، وهؤلاء وأمثالهم من أهل البدع يأتيهم الشيطان لإغوائهم وإضلالهم عن طريق الشبهات.
الثامنة: جَمْعُ المفتي بين ذكر الحكم ودليله؛ فإنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ذكر رأيَه في هؤلاء وبراءته منهم، ثم ساق مستدِلاًّ على ذلك حديث جبريل المشتمل على أنَّ من أصول الإيمان الإيمان بالقدر.
التاسعة: من طريقة الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ المحافظة على الألفاظ في الأسانيد والمتون، وذكر الحديث كما هو دون تقطيع أو اختصار، ولهذا ساق حديث جبريل هنا بتمامه ولم يختصره فيقتصر على ذكر الإيمان بالقدر، قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام مسلم في تهذيب التهذيب: "حصل لمسلم في كتابه حظٌّ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث إنَّ بعضَ الناس كان يفضِّله على صحيح محمد بن إسماعيل؛ وذلك لِمَا اختصَّ من جمع الطرق وجَودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريِّين فلم يبلغوا شأوه، وحفظتُ منهم أكثرَ من عشرين إماماً مِمَّن صنَّف المستخرج على مسلم، فسبحان المعطي الوهَّاب!".(23/10)
ص -14- ... 4 ـ قوله: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طَلَعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسنَد ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه"، ثم سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأماراتها، وقال بعد ذلك: "فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمكم دينَكم" فيه فوائد:
الأولى: جاء في صحيح البخاري (50) ومسلم (9) عن أبي هريرة قال: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بارزاً يوماً للناس"، وفي سنن أبي داود (4698) بإسناد صحيح عن أبي ذر وأبي هريرة قالا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيَّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلَ له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكاناً من طين، فجلس عليه، وكنَّا نجلس بجنبتيه"، وفي هذا دليلٌ على أنَّه ينبغي للمعلِّم أن يكون على مكان مرتفع لكي يُعرف وليراه الحاضرون جميعاً، لا سيما إذا كان الجمعُ كثيراً، فيتمكَّن الجميعُ من الاستفادة منه.
الثانية: أنَّ الملائكةَ تأتي إلى البشر على شكل البشر، ومثل ذلك ما جاء في القرآن من مجيء جبريل إلى مريم في صورة بشر، ومجيء الملائكة إلى إبراهيم ولوط في صورة بشر، وهم يتحوَّلون بقدرة الله عزَّ وجلَّ عن الهيئة التي خُلقوا عليها إلى هيئة البشر، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في خلق الملائكة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}، وفي صحيح البخاري (4857)، ومسلم (280) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح،(23/11)
ص -15- ... ومثل الملائكة في المجيء على هيئة البشر: الجنُّ، كما ثبت في صحيح البخاري (2311) عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصَّة الذي يأتي إليه ويحثو من الطعام، وكما تأتي الجنُّ على هيئة البشر؛ فإنَّها تأتي على هيئة الحيَّات، كما في صحيح مسلم (2236).
والملائكةُ والجنُّ وهم على هيئتهم يَرون البشرَ من حيث لا يرونهم، وقد قال الله عزَّ وجلَّ عن الجنِّ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}
الثالثة: ليس في مجيء جبريل على هيئة البشر دليلٌ لِمَا حدث في هذا الزمان من التمثيل الذي هو نوع من الكذب؛ لأنَّ جبريل تحوَّل بقدرة الله وإذنه عزَّ وجلَّ عن هيئته التي خُلق عليها وله ستمائة جناح إلى هيئة بشر.
الرابعة: في مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلوسه بين يديه بيان شيء من آداب طلبة العلم عند المعلِّم، وأنَّ السائلَ لا يقتصر سؤاله على أمور يجهل حكمها، بل ينبغي له أن يسأل غيرَه وهو عالِم بالحكم ليسمع الحاضرون الجواب، ولهذا نسب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث التعليم، حيث قال: "فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمكم دينكم"، والتعليم حاصلٌ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه هو المباشر له، ومضافٌ إلى جبريل؛ لكونه المتسبِّب فيه، وفي صحيح مسلم (10) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني، فهابوه أن يسألوه"، فجاء رجل فسأله، وفي آخره قال صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل أراد أن تعلَّموا إذ لَم تسألوا".
الخامسة: لم يَرِد في الصحيحين سلام جبريل عند مجيئه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي هريرة وأبي ذر عند أبي داود الذي أشرت إليه قريباً:(23/12)
ص -16- ... "فأقبل رجل ـ فذكر هيئته ـ حتى سلم من طرف السِّماط، فقال: السلام عليك يا محمد، قال: فردَّ عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم".
السادسة: قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/116 ـ 117): "فإن قيل: كيف عرف عمر أنَّه لم يعرفه أحدٌ منهم؟ أجيب بأنَّه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنِّه، أو إلى صريح قول الحاضرين، قلت: وهذا الثاني أولى، فقد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث، فإنَّ فيها: فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا"، وهذه الرواية في المسند للإمام أحمد (184).
السابعة: ذكر النووي في شرح مسلم (1/157) أنَّ الضمير في "فخذيه" يرجع إلى جبريل، وقال غيرُه: إنَّه يرجع إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ في الفتح (1/116): "وفي رواية لسليمان التيمي: ليس عليه سحناء السفر، وليس من البلد، فتخطَّى حتى برَك بين يدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما يجلس أحدُنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكذا في حديث ابن عباس وأبي عامر الأشعري: "ثم وضع يده على ركبتي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم" فأفادت هذه الرواية على أنَّ الضمير في قوله: (على فخذيه) يعود على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبه جزم البغوي وإسماعيل التيمي لهذه الرواية، ورجَّحه الطيبي بحثاً؛ لأنَّه نسق الكلام، خلافاً لِمَا جزم به النووي، ووافقه التوربشتي؛ لأنَّه حمله على أنَّه جلس كهيئة المتعلِّم بين يدي من يتعلَّم منه، وهذا وإن كان ظاهراً من السياق لكن وضعه يديه على فخذ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم صنيع منبِّه للإصغاء إليه، وفيه إشارة لِمَا ينبغي للمسؤول من التواضع والصَّفح عمَّا يبدو من جفاء السائل، والظاهر أنَّه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره ليقوى الظنُّ بأنَّه من جُفاة الأعراب، ولهذا تخطَّى(23/13)
ص -17- ... الناسَ حتى انتهى إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم"، وفي سنن النسائي (4991) أنَّه وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5 ـ قوله: "وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه"، فيه فوائد:
الأولى: أجاب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جبريل عندما سأله عن الإسلام بالأمور الظاهرة، وعندما سأله عن الإيمان، أجابه بالأمور الباطنة، ولفظَا الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمع بينها في الذِّكر فُرِّق بينها في المعنى، وقد اجتمعا هنا، ففُسِّر الإسلام بالأمور الظاهرة، وهي مناسبة لمعنى الإسلام، وهو الاستسلام والانقيادُ لله تعالى، وفسِّر الإيمان بالأمور الباطنة، وهي المناسبة لمعناه، وهو التصديق والإقرار، وإذا أُفرد أحدُهما عن الآخر شمل المعنيين جميعاً: الأمور الظاهرة والباطنة، ومن مجيء الإسلام مفرداً قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، ومن مجيء الإيمان مفرداً قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، ونظير ذلك كلمتَا الفقير والمسكين، والبر والتقوى وغير ذلك.
الثانية: أوَّل الأمور التي فُسِّر بها الإسلام شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وشهادة أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاتان الشهادتان متلازمتان، وهما لازمتان لكلِّ إنسيٍّ وجنيٍّ من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فمَن لم(23/14)
ص -18- ... يؤمن به صلى الله عليه وسلم كان من أصحاب النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار" رواه مسلم (240).
وشهادة أن لا إله إلاَّ الله معناها لا معبود حقٌّ إلاَّ الله، وكلمة الإخلاص تشتمل على ركنين: نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، ففي أوَّلها نفي العبادة عن كلِّ من سوى الله، وفي آخرها إثبات العبادة لله وحده لا شريك له، وخبر "لا" النافية للجنس تقديره "حق"، ولا يصلح أن يُقدَّر "موجود"؛ لأنَّ الآلهة الباطلة موجودةٌ وكثيرة، وإنَّما المنفيُّ الألوهية الحقَّة، فإنَّها منتفيَةٌ عن كلِّ من سوى الله، وثابتة لله وحده.
ومعنى شهادة أنَّ محمداً رسول الله، أن يُحبَّ فوق محبَّة كلِّ محبوب من الخلق، وأن يُطاع في كلِّ ما يأمر به، ويُنتهى عن كلِّ ما نهى عنه، وأن تُصدَّق أخباره كلُّها، سواء كانت ماضيةً أو مستقبلةً أو موجودةً، وهي غير مشاهدة ولا معاينة، وأن يُعبد الله طبقاً لِمَا جاء به من الحقِّ والهدى.
وإخلاصُ العمل لله واتّباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هما مقتضى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وكلُّ عمل يُتقرَّب به إلى الله لا بدَّ أن يكون خالصاً لله ومطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فُقد الإخلاصُ لم يُقبل العمل؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}، وقوله تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته(23/15)
ص -19- ... وشركه" رواه مسلم (2985)، وإذا فُقد الاتِّباع رُدَّ العمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718)، وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وهذه الجملة أعمُّ من الأولى؛ لأنَّها تشمل مَن فعل البدعة وهو مُحدثٌ لها، ومَن فعلَها متابعاً لغيره فيها.
ولا يُقال: إنَّ العمل إذا كان خالصاً لله، ولَم يكن مبنيًّا على سنَّة، وكان قصدُ صاحبه حسناً أنَّه محمود ونافعٌ لصاحبه، ومِمَّا يدلُّ على ذلك أنَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال للصحابيِّ الذي ذبح أضحيتَه قبل صلاة العيد: "شاتُك شاة لحم"، فلَم يعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحية؛ لأنَّها ذبحت قبل ابتداء وقت الذبح الذي يبدأ بعد صلاة العيد، والحديث أخرجه البخاري (5556) ومسلم (1961)، وقد قال الحافظ في شرحه في الفتح (10/17): "قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أنَّ العمل وإن وافق نيَّة حسنة لَم يصح إلاَّ إذا وقع على وفق الشرع".
وفي سنن الدارمي (1/68 ـ 69) أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقف على أناس في المسجد متحلِّقين وبأيديهم حصى، يقول أحدُهم: كبِّروا مائة، فيكبِّرون مائة، فيقول: هلِّلوا مائة، فيُهلِّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيُسبِّحون مائة، فقال: "ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعُدُّوا سيِّئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحكم يا أمَّة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابةُ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لَم تَبْلَ، وآنيته لم تُكسر، والذي نفسي بيده! إنَّكم لعلى مِلَّة هي أهدى من ملَّة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا(23/16)
ص -20- ... عبد الرحمن! ما أردنا إلاَّ الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يُصيبه"، وهذا الأثر أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (2005).
الثالثة: أهمُّ أركان الإسلام الخمسة بعد الشهادتين الصلاة، وقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّها عمود الإسلام، كما في حديث وصيَّته صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، وهو الحديث التاسع والعشرون من الأربعين النووية، وأخبر أنَّها آخر ما يُفقد من الدِّين، وأوَّل ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة، انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (1739)، (1358)، (1748)، وأنَّ بها التمييز بين المسلم والكافر، رواه مسلم (134).
ومِمَّا يدلُّ على أهميَّة شأن الصلاة أيضاً أنَّ الله فرض الصلوات الخمس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو في السماء، كما جاء ذلك في أحاديث الإسراء، وأنَّ أهلَ سَقَر يُجيبون عن أسباب دخولهم سقر بقولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} الآيات، وأنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وهي من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أمِّ سلمة: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: الصلاة وما ملكت أيمانكم، فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه"، وعن أنس بن مالك قال: "كانت عامة وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: الصلاة وما ملكت أيمانكم"، وعن علي بن أبي طالب قال: "كان آخر كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: الصلاة وما ملكت أيمانكم"، وهي أحاديث صحيحة، رواها ابن ماجه (1625)، (2697)، (2698)، وغيرُه.
وأيضاً فإنَّ الله لَمَّا ذكر صفات المؤمنين في سورتي المؤمنون والمعارج(23/17)
ص -21- ... بدأها بالصلاة وختمها بالصلاة، فقال في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، وقال في آخرها: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}، وقال في سورة المعارج: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}، وقال في آخرها: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
وإقامة الصلاة تكون على حالتين: إحداهما واجبة، وهو أداؤها على أقلِّ ما يحصل به فعل الواجب وتبرأ به الذِّمَّة، ومستحبَّة، وهو تكميلها وتتميمها بالإتيان بكلِّ ما هو مستحبٌّ فيها.
وهذه الصلوات الخمس لازمةٌ لكلِّ بالغ عاقل من الرِّجال والنساء، ما دامت الروح في الجسد، ويجب على الرِّجال أداؤها جماعة في المساجد، ويدلُّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطب فيُحطب، ثمَّ آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدُهم أنَّه يجد عرقاً سميناً أو مرماتَين حسنتين لشهد العشاء" رواه البخاري (644)، ومسلم (651) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أثقلَ صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْواً، ولقد هممتُ أن آمرَ بالصلاة فتُقام، ثمَّ آمرَ رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاةَ فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" رواه البخاري (657)، ومسلم (651) عن أبي هريرة.
وروى مسلم في صحيحه (654) عن ابن مسعود قال: "مَن سرَّه أن يلقى اللهَ غداً مسلماً فليُحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادَى(23/18)
ص -22- ... بهنَّ، فإنَّ الله شرع لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم سُنن الهدى، وإنَّهنَّ من سنن الهدى، ولو أنَّكم صلَّيتُم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتُم سنَّةَ نبيِّكم، ولو تركتم سنَّةَ نبيِّكم لضللتُم، وما من رجل يتطهَّر فيُحسن الطهور، ثم يعمدُ إلى مسجد من هذه المساجد إلاَّ كتب الله له بكلِّ خطوة يخطوها حسنة، ويرفعها بها درجة، ويحطُّ عنه بها سيِّئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلاَّ منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرَّجل يُؤتَى به يُهادى بين الرَّجلين حتى يُقام في الصفِّ".
وروى أيضاً في صحيحه (653) عن أبي هريرة قال: "أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله إنَّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرخِّصَ له فيُصلِّي في بيته، فرخَّص له، فلَمَّا ولَّى دعاه، فقال: هل تسمع النِّداء بالصلاة فقال: نعم! قال: فأجِب".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "كنَّا إ ذا فقدنا الرَّجلَ في صلاة العشاء الآخرة والصبح أسأنا به الظنَّ" رواه الحاكم في المستدرك (1/211)، وقال: "صحيح على شرطهما" ووافقه الذهبي.
ويدلُّ لوجوب صلاة الجماعة ورود نصوص الكتاب والسنَّة بأدائها حال الخوف، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}الآية، وورد في السنَّة أحاديث متعدِّدة تدلُّ على أداء صلاة الخوف على أوجه مختلفة.
الرابعة: الزكاة هي قرينة الصلاة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي(23/19)
ص -23- ... الدِّينِ}، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، وهي عبادةٌ مالية نفعها متعدٍّ، وقد أوجبها الله في أموال الأغنياء على وجه ينفع الفقير ولا يضرُّ الغنيَّ؛ لأنَّها شيء يسير من مال كثير.
الخامسة: صومُ رمضان عبادة بدنية، وهي سرٌّ بين العبد وبين ربِّه، لا يطَّلع عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ من الناس مَن يكون في شهر رمضان مفطراً وغيرُه يظنُّ أنَّه صائم، وقد يكون الإنسانُ صائماً في نفل وغيرُه يظنُّ أنَّه مُفطر، ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنَّ الإنسانَ يُجازَى على عمله، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزَّ وجلَّ: "إلاَّ الصوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به" رواه البخاري (1894)، ومسلم (164)، أي: بغير حساب، والأعمال كلُّها لله عزَّ وجلَّ، كما قال الله عزَّ وجلَّ:ُ {قلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، وإنَّما خُصَّ الصوم في هذا الحديث بأنَّه لله لِمَا فيه من خفاء هذه العبادة، وأنَّه لا يطَّلع عليها إلاَّ الله.
السادسة: حجُّ بيت الله الحرام عبادة ماليَّة بدنية، وقد أوجبها الله في العمر مرَّة واحدة، وبيَّن النَّبيُّ فضلَها بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن حجَّ هذا البيتَ فلَم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه" رواه البخاري (1820)، ومسلم (1350)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفَّارة لِما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة" رواه مسلم (1349).
والاستطاعة في الحجِّ تكون بدنية ومالية، ويُحجُّ عن الميت، وأمَّا الحي فلا يُحجُّ عنه إلاَّ في حالتَين:(23/20)
ص -24- ... إحداهما: أن يكون هرماً كبيراً لا يستطيع الركوب والسفر.
والثانية: أن يكو ن مريضاً مرضاً لا يُرجى برؤُه.
ومن الاستطاعة في حقِّ المرأة وجود المحرم إذا كان الحجُّ من غير مكة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأة إلاَّ ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلاَّ مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إنَّ امرأتي خرجت حاجَّة، وإنِّي اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحُجَّ مع امرأتك" رواه البخاري (3006)، ومسلم (1341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
السابعة: هذه الأركان الخمسة وردت في الحديث مرتَّبة حسب أهميَّتها، وبُدئ فيها بالشهادتين اللَّتين هما أساس لكلِّ عمل يُتقرَّب به إلى الله عزَّ وجلَّ، ثم بالصلاة التي تتكرَّر في اليوم والليلة خمس مرَّات، فهي صلة وثيقة بين العبد وبين ربِّه، ثم الزكاة التي تجب في المال إذا مضى عليه حَولٌ؛ لأنَّ نفعَها متعدٍّ، ثم الصيام الذي يجب شهراً في السنة، وهو عبادة بدنيَّة نفعها غير متعدٍّ، ثم الحج الذي لا يجب في العمر إلاَّ مرَّة واحدة.
الثامنة: قوله: "قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه" وجه التعجُّب أنَّ الغالبَ على السائل كونه غير عالِم بالجواب، فهو يسأل ليصل إلى الجواب، ومثله لا يقول للمسئول إذا أجابه: صدقتَ؛ لأنَّ السائلَ إذا صدَّق المسئول دلَّ على أنَّ عنده جواباً من قبل، ولهذا تعجَّب الصحابةُ من هذا التصديق من هذا السائل الغريب.(23/21)
ص -25- ... 6 ـ قوله: "قال: فأخبرني عن الإيمان قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لَم تكن تراه فإنَّه يراك".
فيه فوائد:
الأولى: هذا الجواب مشتملٌ على أركان الإيمان الستة، وأوَّل هذه الأركان الإيمان بالله، وهو أساس للإيمان بكلِّ ما يجب الإيمان به، ولهذا أُضيف إليه الملائكة والكتب والرسل، ومَن لَم يؤمن بالله لا يؤمن ببقيَّة الأركان، والإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأنَّه سبحانه وتعالى متَّصفٌ بكلِّ كمال يليق به، منَزَّهٌ عن كلِّ نقص، فيجب توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته.
وتوحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمور والتصرّف في الكون، وغير ذلك مِمَّا يتعلَّق بربوبيَّته.
وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وغيرها من أنواع العبادة التي يجب إفراده بها، فلا يُصرف منها شيء لغيره، ولو كان ملَكاً مقرَّباً أو نبيًّا مرسَلاً، فضلاً عمَّن سواهما.
وأمَّا توحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تكييف أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ(23/22)
ص -26- ... السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فجمع في هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، فالإثبات في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، والتنزيه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فله سبحانه وتعالى سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وهكذا يُقال في كلِّ ما ثبت لله من الأسماء والصفات.
وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عُرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويتَّضح ذلك بأوَّل سورة في القرآن، وآخر سورة؛ فإنَّ كلاًّ منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة.
فأمَّا سورة الفاتحة، فإنَّ الآيةَ الأولى فيها، وهي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مشتملةٌ على هذه الأنواع؛ فإنَّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيها توحيد الألوهية؛ لأنَّ إضافةَ الحمد إليه من العباد عبادةٌ، وفي قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو كون الله عزَّ وجلَّ ربَّ العالمين، والعالَمون هم كلُّ مَن سوى الله؛ فإنَّه ليس في الوجود إلاَّ خالقٌ ومخلوق، والله الخالقُ، وكلُّ مَن سواه مخلوق، ومن أسماء الله الرب، وقبله لفظ الجلالة في هذه الآية.
وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مشتملٌ على توحيد الأسماء والصفات، والرحمن والرحيم اسمان من أسماء الله يدُلاَّن على صفة من صفات الله، وهي الرَّحمة، وأسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، وليس فيها اسم جامد، وكلُّ اسم من الأسماء يدلُّ على صفة من صفاته.
و{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو سبحانه مالك الدنيا والآخرة، وإنَّما خصَّ يوم الدِّين بأنَّ اللهَ مالكُه؛ لأنَّ ذلك اليوم يخضعُ فيه الجميعُ لربِّ العالَمين، بخلاف الدنيا، فإنَّه وُجد فيها من عتا وتَجبَّر، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}(23/23)
ص -27- ... وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إثباتُ توحيد الألوهية، وتقديمُ المفعول وهو {إِيَّاكَ} يُفيد الحصرَ، والمعنى: نخصُّكَ بالعبادة والاستعانة، ولا نشرك معك أحداً.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فيه إثبات توحيد الألوهية؛ فإنَّ طلبَ الهداية من الله دعاءٌ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاءُ هو العبادة"، فيسأل العبدُ ربَّه في هذا الدعاء أن يَهديَه الصرطَ المستقيمَ الذي سلكه النبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالِحون، الذين هم أهل التوحيد، ويسأله أن يُجنِّبَه طريقَ المغضوب عليهم والضالِّين، الذين لَم يحصل منهم التوحيدُ، بل حصل منهم الشِّركُ بالله وعبادةُ غيره معه.
وأمَّا سورة الناس، فقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثباتُ أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذةَ بالله فيه توحيد الألوهيَّة.
و {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عزَّ وجلَّ في أول الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه إثباتُ الربوبيَّة والأسماء والصفات.
و {إِلَهِ النَّاسِ} فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات.
والنسبةُ بين أنواع التوحيد الثلاثة هذه أن يُقال: إنَّ توحيدَ الربوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهيَّة متضمِّنٌ لهما، والمعنى أنَّ مَن أقرَّ بالألوهيَّة فإنَّه يكونُ مُقرًّا بتوحيد الربوبيَّة وبتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنَّ مَن أقرَّ بأنَّ اللهَ هو المعبودُ وحده فخصَّه بالعبادة ولم يجعل له شريكاً فيها، لا يكون منكراً أنَّ(23/24)
ص -28- ... اللهَ هو الخالقُ الرازقُ المُحيي المميتُ، وأنَّ له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى.
وأمَّا مَن أقرَّ بتوحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، فإنَّه يلزمه أن يُقرَّ بتوحيد الألوهيَّة، وقد أقرَّ الكفَّارُ الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربُوبيَّة، فلَم يُدخلهم هذا الإقرارُ في الإسلام، بل قاتَلَهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى يَعبدوا اللهَ وحده لا شريك له، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن تقريرُ توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفَّارُ؛ لإلزامهم بالإقرار بتوحيد الألوهيَّة، ومن أمثلة ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
ففي كلِّ آية من هذه الآيات تقريرُ توحيد الربوبيَّة للإلزام بتوحيد الألوهيَّة، فيقول في كلِّ آية من هذه الآيات الخمس عقب تقرير توحيد الربوبيَّة {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}،(23/25)
والمعنى أنَّ مَن تفرَّد بهذه الأفعال التي هي من أفعال الله وحده، يجبُ أن يُخصَّ بالعبادة وحده؛ لأنَّ مَن اختصَّ بالخلْق والإيجاد وغيرها من أفعال الله يَجب أن يُخصَّ بالعبادة وحده، وكيف(23/26)
ص -29- ... يُعقل أن تكون المخلوقات التي كانت عَدَماً، وقد أوجدَها الله، كيف يُعقل أن يكون لها نصيبٌ من العبادة وهي مخلوقةٌ لله، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}
الثانية: الإيمان بالملائكة هو الإيمانُ بأنَّهم خَلقٌ من خلق الله، خُلقوا من نور، كما في صحيح مسلم (2996) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدم مِمَّا وُصف لكم"، وهم ذوو أجنحة كما في الآية الأولى من سورة فاطر، وجبريل له ستمائة جناح، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدَّم قريباً، وهم خلقٌ كثيرٌ لا يعلم عددَهم إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، ويدلُّ لذلك أنَّ البيتَ المعمور ـ وهو في السماء السابعة ـ يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملَك لا يعودون إليه، رواه البخاري (3207)، ومسلم (259)، وروى مسلم في صحيحه (2842) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتَى بجهنَّم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملَك يجرُّونها".
والملائكةُ منهم الموَكَّلون بالوحي، والموكَّلون بالقطر، والموكَّلون بالموت، والموكَّلون بالأرحام، والموكَّلون بالجنَّة، والموكَّلون بالنار، والموكَّلون بغير ذلك، وكلُّهم مستسلمون منقادون لأمر الله، {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقد سُمِّي منهم في الكتاب والسنة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك ومنكر ونكير، والواجب الإيمان بمَن سُمِّي منهم ومَن لَم يسمَّ، والواجب أيضاً الإيمان والتصديق بكلِّ ما جاء في الكتاب العزيز وصحَّت به السنَّة من أخبار عن الملائكة.
الثالثة: الإيمانُ بالكتب التصديق والإقرار بكلِّ كتاب أنزله الله على(23/27)
ص -30- ... رسول من رسله، واعتقاد أنَّها حقٌّ، وأنَّها منَزَّلة غير مخلوقة، وأنَّها مشتملة على ما فيه سعادة من أُنزلت إليهم، وأنَّ مَن أخذ بها سلم وظفر، ومن أعرض عنها خاب وخسر، ومن هذه الكتب ما سُمِّي في القرآن، ومنها ما لم يُسمَّ، والذي سُمِّي منها في القرآن التوراة والإنجيل والزبور وصُحف إبراهيم وموسى، وقد جاء ذكر صحف إبراهيم وموسى في موضعين من القرآن، في سورتَي النجم والأعلى، وزبور داود جاء في القرآن في موضعين، في النساء والإسراء، قال الله عزَّ وجلَّ فيهما: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً}، وأمَّا التوراة والإنجيل فقد جاء ذكرهما في كثير من سُوَر القرآن، وأكثرهما ذكراً التوراة، فلَم يُذكر في القرآن رسول مثل ما ذُكر موسى، ولم يُذكر فيه كتاب مثل ما ذُكر كتاب موسى، ويأتي ذكره بلفظ"التوراة"،و"الكتاب"،و"الفرقان"،و"الضياء"، و"الذِّكر".
ومِمَّا يمتاز به القرآن على غيره من الكتب السابقة أنَّه يجب الإيمانُ به تفصيلاً، فتُصدَّق أخبارُه، وتُمتثل أوامرُه، وتجتنب نواهيه، ويُتعبَّد الله طبقاً لِما جاء فيه وفي سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنَّه المعجزة الخالدة التي تُحدِّي أهل الفصاحة والبلاغة على أن يأتوا بسورة مثله، فعجزوا ولن يستطيعوا، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
ويمتاز أيضاً بتكفُّل الله بحفظه وسلامته من التحريف، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، ويمتاز بنزوله منجَّماً مفرَّقاً، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}.(23/28)
ص -31- ... وكونه مهيمناً على الكتب السابقة؛ قال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}، فهذه الآية تدلُّ على أنَّ القرآنَ مُهيمنٌ على الكتب السابقة، وسنَّة رسول الله شارحةٌ للكتاب وموضِّحة له، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، ولا بدَّ من العمل بما جاء في الكتاب والسُّنَّة، ومن كفر بالسُّنَّة فقد كفر بالقرآن، والله عزَّ وجلَّ فرض الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج، وبيانُها وبيان غيرها حصل بالسُّنَّة، فالله قد أمر بإقام الصلاة، وبيَّنت السُّنَّة أوقاتَ تلك الصلوات وعدد ركعاتها، وبيَّنت كيفياتها، وقال صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا كما رأيتُمونِي أُصلِّي" رواه البخاري (631).
وأمر بإيتاء الزكاة، وبيَّنت السُّنَّة شروطَ وجوبها، وأنصباءها ومقاديرها، وأمر بالصيام، وبيَّنت السُّنَّة أحكامَه ومُفطِّراته.
وأمر بالحجِّ، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم كيفياته، وقال: "لتأخذوا مناسككم، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا أحجُّ بعد حَجَّتِي هذه" رواه مسلم (1297).
والقرآن وما سُمِّي فيه من الكتب وما لَم يُسمَّ كلُّ ذلك من كلام الله، فاللهُ متَّصفٌ بصفة الكلام أزَلاً وأبداً، وهو متكلِّمٌ بلا ابتداء، ويتكلَّم بلا انتهاء؛ لأنَّه سبحانه وتعالَى لا بداية له ولا نهاية له، فلا بداية لكلامه ولا نهاية له، وصفةُ الكلام صفةٌ ذاتيَّة فعلية، فهي ذاتيَّةٌ باعتبار أنَّه لا بداية للاتِّصاف بها، وفعلية لكونها تتعلَّق بالمشيئة والإرادة، فكلامُه متعلِّقٌ بمشيئته، يتكلَّم إذا شاء، كيف شاء، وهو قديمُ النوع، حادثُ الآحاد، وقد كلَّم موسى في زمانه، وكلَّم نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ويُكلِّم أهلَ الجنَّة(23/29)
إذا دخلوا الجنَّة، وهذه من أمثلة آحاد الكلام(23/30)
ص -32- ... التي حصلت وتحصل في الأزمان التي شاء الله عزَّ وجلَّ حصولَها فيها، والله تعالى يتكلَّم بحرف وصوت، ليس كلامُه مخلوقاً ولا معنى قائماً بالذات، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}، ففي هذه الآية إثبات صفة الكلام لله عزَّ وجلَّ، وأنَّ كلامَه سَمعَه موسى منه، وقوله: {تَكْلِيماً} تأكيدٌ لحصول الكلام، وأنَّه منه سبحانه وتعالى، وكلام الله عزَّ وجلَّ لا بداية له ولا نهاية له، فلا حصرَ له، بخلاف كلام المخلوق، فإنَّ له بدايةً وله نهاية، فيكون كلامُه محصوراً، قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}، وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ففي هاتين الآيتين إثباتُ صفة الكلام لله عزَّ وجلَّ، وأنَّ كلامَه غيرُ محصور؛ لأنَّ البحورَ الزاخرةَ ولو ضوعِفَت أضعافاً مضاعفة، وكانت مداداً يُكتبُ به كلام الله، وكان كلُّ ما في الأرض من شجر أقلاماً يُكتبُ بها، فلا بدَّ أن تنفدَ البحورُ والأقلامُ؛ لأنَّها مخلوقةٌ محصورةٌ، ولا ينفدُ كلام الله الذي هو غير مخلوق ولا محصور، والقرآن من كلام الله، والتوراة والإنجيل من كلام الله، وكلُّ كتاب أنزله الله فهو من كلامه، وكلامُه غيرُ مخلوق، فلا يَحصل له الفناءُ الذي يحصل للمخلوقات، وهو صفة الخالق الذي لا نهاية له فلا ينفدُ كلامُه، والمخلوقون يَبيدون فينفدُ كلامُهم.
الرابعة: الإيمانُ بالرسُل التصديقُ والإقرار بأنَّ الله اصطفى من البشر رُسُلاً وأنبياء يهدون الناسَ إلى الحقِّ، ويُخرجونهم من الظلمات إلى النور، قال الله عزَّ وجلَّ: {للَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً(23/31)
وَمِنَ النَّاسِ}.(23/32)
ص -33- ... والجنُّ ليس فيهم رسُل، بل فيهم النُّذُر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، فلم يذكروا رسلاً منهم، ولا كتباً أنزلت عليهم، وإنَّما ذكروا الكتابين المنزلين على موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولم يأت ذكر الإنجيل مع أنَّه منَزَّلٌ من بعد موسى؛ وذلك أنَّ كثيراً من الأحكام التي في الإنجيل قد جاءت في التوراة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "ولم يذكروا عيسى؛ لأنَّ عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمِّم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}".
والرسلُ هم المكلَّفون بإبلاغ شرائع أنزلت عليهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}، والكتاب اسم جنس يُراد به الكتب، والأنبياء هم الذين أوحي إليهم بأن يُبلِّغوا شريعة سابقة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا(23/33)
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} الآية، وقد قام الرسل والأنبياء بتبليغ ما أُمروا بتبليغه على التمام والكمال، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى(23/34)
ص -34- ... إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، قال الزهري: "من الله عزَّ وجلَّ الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم" أورده البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، باب قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (13/503 ـ مع الفتح).
والرسلُ منهم من قُصَّ في القرآن، ومنهم من لم يُقصص، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ}، وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ}، والذين قُصوا في القرآن خمسة وعشرون، منهم ثمانية عشر جاء ذكرهم في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}
والسبعة الباقون: آدم، وإدريس، وهود، وصالح، وشعيب، وذو الكفل، ومحمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.
ورُسُلُ الله وأنبياؤُه من الرِّجال دون النِّساء، ومن الحاضرة دون البادية، كما قال الله(23/35)
عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ(23/36)
ص -35- ... مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "الذي عليه أهل السنَّة والجماعة ـ وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم ـ أنَّه ليس في النساء نبيَّة، وإنَّما فيهنَّ صدِّيقات، كما قال تعالى مخبراً عن أشرفهنَّ مريم بنت عمران، حيث قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}، فوصفها في أشرف مقاماتها بالصدِّيقية، فلو كانت نبيَّةً لذَكَر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صدِّيقة بنصِّ القرآن".
وقال: "وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، المراد بالقرى المدن، لا أنَّهم من أهل البوادي، الذين هم من أجفى الناس طبعاً وأخلاقاً، وهذا هو المعهود المعروف أنَّ أهل المدن أرقُّ طبعاً وألطفُ من أهل بواديهم، وأهل الريف والسواد أقربُ حالاً من الذين يسكنون في البوادي، ولهذا قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً}الآية، وقال قتادة في قوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}: لأنَّهم أعلم وأحلم من أهل العمود".
وهذا الذي جاء في هذه الآية من أنَّ الرسلَ من أهل القرى لا يُنافيه قول الله تعالى: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}؛ لأنَّه محمولٌ على أنَّ يعقوب نُبِّئ في المدن، وخرج بعد ذلك إلى البادية، أو أنَّه نزل في مكان يُقال له: بدا، أو أنَّ البدو الذي جاء منه يعقوب مستندٌ للحاضرة، فأُعطي حكمه، ذكر هذه الوجوه شيخنا محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في كتابه: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، عند هذه الآية من سورة يوسف.
وأمَّا الفرق بين النَّبيِّ والرسول فقد اشتهر أنَّ النَّبيَّ هو مَن أُوحي إليه بشرع ولم يُؤمَر بتبليغه، والرسولَ هو مَن أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه،(23/37)
ص -36- ... لكن هذا التفريق قد جاء في بعض الأدلَّة ما يدلُّ على عدم صحَّته، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ}، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، وذلك يدلُّ على أنَّ النَّبيَّ مرسَلٌ مأمورٌ بالتبليغ، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} الآية، فهذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ أنبياءَ بنِي إسرائيل من بعد موسى يَحكمون بالتوراة ويدعون إليها، وعلى هذا فيُمكن أن يُقال في الفرق بين الرسول والنَّبيِّ: إنَّ الرَّسولَ مَن أُوحي إليه بشرع وأُنزل عليه كتاب، والنَّبيَّ هو الذي أُوحي إليه بأن يُبلِّغ رسالةً سابقة، وهذا هو المتَّفق مع الأدلَّة، لكن يبقى عليه إشكال، وهو أنَّ من المرسَلين مَن وُصف بأنَّه نبِيٌّ رسول، كما قال الله عزَّ وجلَّ في نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}، وقال في موسى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}، وقال في إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}، ونبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم نَزَل عليه الوحيُ أوَّلاً ولم يُؤمَر بالتبليغ، ثم أُمر بعد ذلك بالتبليغ بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}، ولهذا قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في(23/38)
الأصول الثلاثة: "نُبِّئ بـ {اقْرَأْ}، وأُرسل بـ {الْمُدَّثِّرُ}"، وعلى هذا فيُقال: النَّبيُّ مَن أُوحي إليه ولم يُؤمَر بالتبليغ في وقت ما، أو أُمر بأن يبلِّغ شريعة سابقة، أو يُقال: النَّبيُّ يُطلق عليه الرسول، والرسول يُطلق عليه النَّبي.(23/39)
ص -37- ... وأولو العزم من الرسل خمسة، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، وهم: نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم وموسى ونوح وعيسى، وقد ذكرهم الله في آيتين من القرآن، في قوله في سورة الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، وفي قوله في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
وأعظمُ نعمة أنعم الله تعالى بها على الجنِّ والإنس في آخر الزمان أن بعث فيهم رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم، فدلَّهم على كلِّ خير، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، قال الله عزَّ وجلَّ: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} الآيات.
وأمَّةُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أمَّةُ دعوة وأمَّةُ إجابة، فأمَّةُ الدعوة كلُّ(23/40)
إنسيٍّ وجنِيٍّ من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأمَّة الإجابة هم الذين وفَّقهم الله للدخول في دينه الحنيف، فشريعتُه صلى الله عليه وسلم لازمةٌ للجنِّ والإنس، والدعوة إليها مُوجَّهةٌ لهم جميعاً، ليست لأحد دون أحد، بل هي(23/41)
ص -38- ... للجميع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمَّة: يهودي ولا نصراني، ثمَّ يموت ولم يُؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلاَّ كان من أصحاب النار" رواه مسلم (240).
فاليهود والنصارى بعد بعثة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا ينفعُهم زعمُهم أنَّهم أتباعُ موسى وعيسى، بل يتعيَّنُ عليهم الإيمانُ بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نسخت شريعتُه الشرائعَ قبلها، وخُتم به النبيُّون، قال الله عزَّ وجلَّ: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}.
ولأنَّ مَن كذَّب برسول واحد، فقد كذَّب بجميع الرسل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ}، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}، {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}، فقد كذَّب كلُّ أمة رسولَها، وأضاف إليها تكذيب المرسَلين؛ لأنَّ تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم، ومَن آمن برسول وكذَّب بغيره فهو مكذِّبٌ لذلك الرسول الذي يزعم أنَّه آمن به.
وقد دعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الجنَّ والإنسَ إلى الدِّين الحنيف والصراط المستقيم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فسبيلُ الهداية مقصورٌ على اتِّباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعبد الله إلاَّ بما جاء به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا طريق يوصل إلى الله إلاَّ باتِّباع ما جاء به صلى الله عليه وسلم.
وحاجةُ المسلم إلى(23/42)
الهداية إلى الصراط المستقيم أعظمُ من حاجته إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الطعامَ والشرابَ زادُه في الحياة الدنيا، والصراطَ(23/43)
ص -39- ... المستقيم زادُه للدار الآخرة، ولهذا جاء الدعاءُ لطلب الهداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، التي تجب قراءتُها في كلِّ ركعة من ركعات الصلاة، سواء كانت فريضةً أو نافلةً، قال الله عزَّ وجلَّ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، فالمسلمُ يدعو بهذا الدعاء باستمرار ليهديه ربُّه صراطَ المنعَم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وأن يُجنِّبَه طريق المغضوب عليهم والضالِّين، من اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الدِّين.
وهدايةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الجنَّ والإنسَ إلى الصراط المستقيم هو النور الذي وصفه الله عزَّ وجلَّ به في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}، فقد وصفه الله عزَّ وجلَّ في هذه الآية بأنَّه سراجٌ منير، يُضيء به للعباد الطريقَ إليه سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً هو معنى النور الذي وصف به القرآن في قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}، فنور القرآن ما اشتمل عليه من الهداية إلى الصراط المستقيم.
الخامسة: الإيمانُ باليوم الآخر التصديقُ والإقرار بكلِّ ما جاء في الكتاب والسنَّة عن كلِّ ما يكون بعد الموت، وقد جعل الله الدُّورَ دارين: دار الدنيا والدار الآخرة، والحدُّ الفاصل بين هاتين الدارين الموت والنفخ في الصور الذي يحصل به موت مَن كان حيًّا في آخر الدنيا، وكلُّ مَن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والحياة بعد الموت حياتان: حياة برزخية، وهي ما بين الموت والبعث، والحياة بعد الموت، والحياة البرزخية لا يعلم حقيقتها إلاَّ الله، وهي تابعة(23/44)
ص -40- ... للحياة بعد الموت؛ لأنَّ في كلٍّ منهما الجزاء على الأعمال.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بفتنة القبر ونعيمه وعذابه، وقد وردت الأحاديثُ في فتنة القبر والسؤال فيه ونعيمه وعذابه، فروى البخاري في صحيحه (86) عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، عن عائشة في قصة صلاة الكسوف، وفيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما من شيء لم أكن أُريتُه إلاَّ رأيتُه في مقامي، حتى الجنَّة والنار، فأُوحي إليَّ أنَّكم تُفتنون في قبوركم مثلَ أو قريباً ـ لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء ـ من فتنة المسيح الدجال، يُقال: ما عِلمُك بهذا الرَّجل فأمَّا المؤمن أو المُوقن ـ لا أدري بأيِّهما قالت أسماء ـ فيقول: هو محمدٌ هو رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهُدى، فأجبنا واتَّبعنا، هو محمد ثلاثاً، فيُقال: نَمْ صالِحاً، قد علمنا إن كنتَ لَمُوقناً به، وأمَّا المنافق أو المرتاب ـ لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء ـ فيقول: لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئاً فقُلتُه".
وروى البخاري في صحيحه (4699) عن البراء بن عازب رضىالله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمُ إذا سُئل في القبر يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}
وفي مسند الإمام أحمد بإسناد حسن عن البراء بن عازب رضىالله عنه في الحديث الطويل (18534)، وفيه: "فيأتيه ـ أي المؤمن ـ مَلَكان فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربُّك فيقول: ربِّي الله، فيقولان له: ما دينُك فيقول: دينِي الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرَّجل الذي بُعث فيكم فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفيه: "ويأتيه ـ أي الكافر ـ مَلَكان فيُجلسانه، فيقولان له: مَن(23/45)
ص -41- ... ربُّك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما دينُك فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما هذا الرَّجل الذي بُعث فيكم فيقول: هاه هاه لا أدري"، وفيه قوله في المؤمن: "فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوحها وطيبها، ويُفسَح له في قبره مدّ بصره"، وقوله في الكافر: "فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمومها، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه".
وفي مصنَّف عبد الرزاق (6744) عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير: أنَّه سَمع جابر بن عبد الله يقول: "إنَّ هذه الأمَّةَ تُبتَلَى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره، وتولَّى عنه أصحابُه، أتاه ملَكٌ شديد الانتهار، فقال: ما كنتَ تقول في هذا الرَّجل؟ فيقول المؤمن: أقول إنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبده، فيقول له المَلَكُ: اطَّلعْ إلى مقعدك الذي كان لك من النار، فقد أنجاك الله منه، وأبدَلَك مكانَه مقعدَك الذي ترى من الجنَّة، فيراهما كلتيهما، فيقول المؤمن: أُبشِّرُ أهلي؟ فيُقال له: اسكن؛ فهذا مقعدُك أبداً، والمنافق إذا تولَّى عنه أصحابُه يُقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرَّجل؟ فيقول: لا أدري، أقول ما يقول الناس، فيُقال له: لا دريت، انظر مقعدَك الذي كان لك من الجنَّة، قد أبدلك الله مكانه مقعدَك من النار"، وإسناده صحيح، وله حكم الرفع.
وروى مسلم في صحيحه (588) عن أبي هريرة رضىالله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهَّد أحدُكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ فتنة المسيح الدجال".(23/46)
ص -42- ... وفي صحيح البخاري (1377) عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".
وهذه الأمور الثلاثة التي يُسأل عنها في القبر ورد ذكرُها مجتمعة في حديث العباس بن عبد المطلب في صحيح مسلم (56) أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ذاق طعمَ الإيمان مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً"، وجاء ذكرُها أيضاً في أدعية الصباح والمساء، والدعاء عند الأذان، وقد بنَى عليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ رسالتَه النفيسة التي لا يستغنِي عنها عاميٌّ ولا طالب علم: "الأصول الثلاثة وأدلَّتُها"، فإنَّ مرادَه بالأصول الثلاثة: معرفة العبد ربّه ودينه ونبيّه صلى الله عليه وسلم.
وقال الله عزَّ وجلَّ في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}، فالآيةُ تدلُّ على أنَّهم يُعذَّبون في النار وهم في قبورهم، وإذا حصل البعث انتقلوا إلى عذاب أشدَّ.
وأمَّا النَّعيم فقد جاء في الحديث أنَّ أرواح الشهداء في أجواف طير خُضر، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرحُ من الجنَّة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، رواه مسلم (1887) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وروى الإمام أحمد في مسنده (15778) عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما نسَمة المؤمن طائرٌ يعلقُ في شجر الجنَّة حتى يُرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثُه"، وهو حديث(23/47)
ص -43- ... صحيح، في إسناده ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة لأهل السنَّة، قال الإمام ابن كثير في تفسيره عند قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}: "وقد رُوِّينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكلِّ مؤمن بأنَّ روحَه تكون في الجنَّة تسرَح أيضاً فيها وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النَّضرة والسرور، وتشاهدُ ما أعدَّ الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمَّة الأربعة أصحاب المذاهب المتَّبَعة" ثم ذكر سندَ الحديث ومتنَه.
وفي صحيح مسلم (2868) عن زيد بن ثابت: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ هذه الأمَّة تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ اللهَ أن يُسمعَكم من عذاب القبر الذي أسمعُ منه".
والأحاديث في عذاب القبر والاستعاذة بالله منه كثيرة، وهذه الأدلَّة تدلُّ على أنَّ المؤمنين يُنعَّمون في قبورهم، والكافرين يُعذَّبون فيها، والنَّعيمُ والعذابُ يكون للأرواح والأجساد.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بالبعث بعد الموت، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، وقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، وفي هذه الآية النصُّ على بعث مَن في القبور؛ لأنَّ الغالبَ على(23/48)
الناس أنَّهم يُدفنون في القبور، والبعثُ يكون لكلِّ مَن مات قُبر أو لم يُقبر، كما قال(23/49)
ص -44- ... الله عزَّ وجلَّ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وقَبرُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أوَّلُ القبور انشقاقاً عن صاحبه عند البعث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيِّدُ ولد آدم يوم القيامة، وأوَّلُ من ينشقُّ عنه القبر، وأوَّلُ شافع وأوَّل مشفّع" رواه مسلم (2278).
وكثيراً ما يأتي في القرآن تقريرُ أمر البعث ببيان ثلاثة أمور:
الأمر الأول: التنبيهُ بخلق الإنسان أوَّلَ مرَّة، قال الله عزَّ وجلَّ: {أَوَلَمْ يَرَ الإِِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ َضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم}، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، وقال سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}(، وقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً َلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ(23/50)
ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}
الأمر الثاني: التنبيه بإحياء الأرض بعد موتها، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ(23/51)
ص -45- ... شَيْءٍ قَدِيرٌ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}، وقال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، وقال تعالى: ({وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}
الأمر الثالث: التنبيهُ بخلق السموات والأرض وهو أعظم من خلق الناس، قال الله عزَّ وجلَّ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، وقال تعالى: {أَوَلَمْ(23/52)
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُوراً} ، وقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} الآيات.(23/53)
ص -46- ... والبعثُ يوم القيامة يكون بإعادة الأجساد التي كانت في الدنيا لتلقى مع الأرواح الثواب والعقاب، وليس لأجساد جديدة لم تكن موجودةً في الدنيا، وهذا هو الذي استبعده الكفَّارُ وأنكروه، قال الله عزَّ وجلَّ: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} ، فبيَّن سبحانه أنَّه عالِم بكلِّ ذَرَّة من ذرَّات أجسادهم التي تنقصها الأرض منهم، فيُعيدُها كما كانت فيبعث ذلك الميت بجسده الذي كان عليه في الدنيا، وقال تعالى: {وََإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، والمعنى كما ذكر ابن كثير عن جماعة من السلف أنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قطع الطيورَ الأربعة وخلط لحومَها، وجعل على كلِّ رأس جبل منها قطعة، ثم دعاهنَّ فتجمَّعت أجزاءُ كلِّ طائر، حتى عادت الطيورُ على ما كانت عليه، وأتت إليه سعياً.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا(23/54)
جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وهذه الآياتُ تدلُّ على أنَّ الأجسادَ التي في الدنيا هي التي أُعيدَت وشهدت الأسماعُ والأبصارُ والجلودُ بالمعاصي التي عملها أصحابُها.(23/55)
ص -47- ... ومثل هذه الآيات قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
ويدلُّ على ذلك من السُّنَّة حديث قصَّة الرَّجل الذي أوصى بَنِيه إذا مات أن يحرقوا جسدَه ويَرموا جزءاً من رماده في البَرِّ وجزءاً منه في البحر، فأمر الله عزَّ وجلَّ البحرَ بأن يُخرج ما فيه، والبَرَّ بأن يُخرج ما فيه، حتى عاد الجسدُ كما كان، والحديث رواه البخاري (7506)، ومسلم (2756) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بحشر الناس من قبورهم وغيرها على الموقف، واستشفاعهم إلى أولي العزم من الرسل لتخليصهم مِمَّا هم فيه من الشدَّة، وحصول الشفاعة العظمى لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود، ومجيء الله عزَّ وجلَّ لفصل القضاء بين العباد، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} ، وروى البخاري (6527)، ومسلم (2859) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُحشرون حُفاة عُراة غُرْلاً، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرِّجال والنساء ينظر بعضُهم إلى بعض فقال: الأمر أشدُّ من أن يهمَّهم ذاك"، ورواه أيضاً البخاري (6526، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال ابن كثير عند تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}: "يعني لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحداً بعد واحد، فكلُّهم يقول: لست(23/56)
ص -48- ... بصاحب ذاكم، حتى تنتهي النوبةُ إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، أنا لها، فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفِّعه الله في ذلك، وهي أوَّلُ الشفاعات، وهي المقام المحمود كما تقدَّم بيانه في سورة سبحان، فيجيء الرَّبُّ تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكةُ يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً".
ويُعرَض العبادُ على الله فيُحاسبُهم على أعمالهم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، وقال: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً}، وقال: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(23/57)
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} ، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ(23/58)
ص -49- ... ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن حوسب عُذِّب، قالت عائشة: فقلت: أوَليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}، قالت: فقال: إنَّما ذلكِ العَرْض، ولكن مَن نُوقش الحساب يهلك" رواه البخاري (103)، ومسلم (2876).
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بحوض نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، والأحاديث فيه متواترةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورد البخاري ـ رحمه الله ـ في باب: في الحوض، من كتاب الرقاق من صحيحه منها تسعة عشر طريقاً من (6575 ـ 6593)، وذكر الحافظ في الفتح أنَّ الصحابةَ فيها يزيدون على خمسين صحابيًّا، ذكر خمسة وعشرين منهم نقلاً عن القاضي عياض، وثلاثة نقلاً عن النووي، وزاد عليهما قريباً من ذلك، فزادوا على الخمسين صحابيًّا (11/468 ـ 469)، وأورد الإمامُ ابن كثير في كتاب النهاية أحاديثَ الحوض عن أكثر من ثلاثين صحابيًّا (2/29 ـ 65)، ذكرها بأسانيد الأئمَّة الذين خرَّجوها غالباً.
ومٍِمَّا جاء في صفة حوض النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قولُه صلى الله عليه وسلم: "حَوضِي مسيرة شهر، ماؤُه أبيضُ من اللَّبن، وريحُه أطيبُ من المسك، وكيزانُه كنجوم السماء، مَن شرب منها فلا يظمأ أبداً" رواه البخاري (6579) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه مسلمٌ في صحيحه (2292) ولفظُه: "حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤُه أبيضُ من الوَرِق، وريحُه أطيب من المسك، وكيزانُه كنجوم السماء، فمَن شرب منه فلا يظمأُ بعده أبداً".
وفي صحيح مسلم (2300) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفيه: "يشخبُ(23/59)
ص -50- ... فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لَم يظمأ، عرضُه مثل طوله، ما بين عمَّان إلى أيلة، ماؤه أشدُّ بياضاً من اللَّبن، وأحلَى من العسل".
ومن الناس مَن يُذادُ عن ورود الحوض، فقد روى البخاري في صحيحه (6576) عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أنا فرَطُكم على الحوض، وليُرفعَنَّ رجالٌ منكم، ثمَّ ليُختلَجنَّ دونِي، فأقول: يا ربِّ أصحابي! فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
والمراد بهؤلاء الأصحاب أُناسٌ قليلون ارتدُّوا بعد موت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقُتلوا على أيدي الجيوش المظفَّرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضىالله عنه لقتال المرتدِّين.
والرافضةُ الحاقدون على الصحابة تزعمُ أنَّ الصحابةَ ارتدُّوا بعد وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ نفراً يسيراً منهم، وأنَّهم يُذادون عن الحوض، والحقيقة أنَّ الرافضةَ هم الجديرون بالذَّود عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم لا يغسلون أرجلَهم في الوضوء، بل يمسحون عليها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ للأعقاب من النار" أخرجه البخاري (165) ومسلم (242) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليست فيهم سِيمَا التحجيل التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أمَّتِي يُدعون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء" أخرجه البخاري (136) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بوزن أعمال العباد، فإنَّها تُحصَى ثمَّ تُوزن، فمَن ثقلت موازينه نجا، ومن خفَّت موازينه هلك، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، وقال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(23/60)
ص -51- ... وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ}، وقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}، وقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ}
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطُّهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأُ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تَملآن أو تَملأ ما بين السموات والأرض" رواه مسلم (223)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" رواه البخاري (7563) ومسلم (2694).
والأعمالُ وإن كانت أعراضاً فالله يجعلها أجساماً توضَع في الميزان، والحكمة من وزن أعمال العباد إظهار عدل الله وإيقاف العبد على أعماله؛ فإنَّه سبحانه وتعالى عليمٌ بكلِّ شيء، ومن ذلك أعمال العباد وُزنت أو لَم تُوزَن.
والوزنُ كما يكون للأعمال يكون لصحائف الأعمال، كما في حديث البطاقة والسِّجِلاَّت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ سيُخلِّصُ رجلاً من أمَّتِي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ، كلُّ سجِلٍّ مثلُ مدِّ البصر، ثمَّ يقول: أتُنكرُ من هذا شيئاً أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ! فيقول: أَفَلَك عُذر فيقول: لا يا ربِّ! فيقول: بلى، إنَّ لك عندنا حسنة، فإنَّه لا ظُلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ(23/61)
ص -52- ... الله ورسولُه، فيقول: احضُر وزنك، فيقول: يا ربِّ! ما هذه البطاقة أمام السِّجِلات فقال: إنَّك لا تُظلَم، قال: فتُوضَع السِّجِلاَّت في كفَّة والبطاقة في كفَّة، فطاشت السِّجِلاَّت وثقلت البطاقةُ، فلا يثقُلُ مع اسم الله شيء" أخرجه الترمذي (2639) وحسَّنه، والحاكم (1/6) وصحَّحه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (135).
ويكون الوزنُ أيضاً للعامل لقوله صلى الله عليه وسلم عن ساقَي ابن مسعود رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لَهما أثقلُ في الميزان من أُحُد"، وهو حديث حسن، أخرجه أحمد (3991) وغيرُه.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بالصِّراط، وهو جسرٌ منصوبٌ على متن جهنَّم، يَمرُّ عليه المسلمون للوصول إلى الجنَّة على قَدْر أعمالهم، فمنهم مَن يَمُرُّ كالبرق، ومنهم مَن يَمُرُّ كالرِّيح، ومنهم مَن يَزحف زحفاً، ففي صحيح البخاري (806)، ومسلم (299) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: "فيُضربُ الصِّراطُ بين ظهرانَي جهنَّم، فأكون أوَّلَ مَن يجوز من الرُّسل بأمَّته، ولا يتكلَّمُ يومئذ أحدٌ إلاَّ الرُّسُل، وكلامُ الرُّسل يومئذ: اللَّهمَّ سلِّم سلِّم، وفي جهنَّم كلاليب مثل شَوك السَّعدان، هل رأيتُم شَوكَ السَّعدان؟ قالوا: نعم، قال: فإنَّها مثل شوك السَّعدان، غير أنَّه لا يَعلمُ قدر عِظَمها إلاَّ الله، تَخطفُ الناسَ بأعمالِهم، فمنهم مَن يُوبَقُ بعمله، ومنهم مَن يُخردَل ثم ينجو".
وفي صحيح مسلم (329) من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما، وفيه: "وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحم، فتقومان جنبَتَي الصِّراط يميناً وشمالاً، ويَمُرُّ أوَّلُكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمِّي أيُّ شيء(23/62)
ص -53- ... كمَرِّ البرق قال: أوَ لَم ترَوا إلى البرق كيف يَمُرُّ ويرجع في طرفة عين ثمَّ كمَرِّ الرِّيح، ثمَّ كمرِّ الطير وشدِّ الرِّجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيُّكم قائمٌ على الصِّراط يقول: ربِّ سلِّم سلِّم! حتى تعجز أعمالُ العباد، حتَّى يجيء الرَّجل فلا يستطيع السيرَ إلاَّ زحفاً، قال: وفي حافتَي الصِّراط كلاليب معلَّقة، مأمورةٌ بأخذ مَن أُمرت به، فمخدوشٌ ناجٍ، ومكدُوسٌ في النَّار".
وفي صحيح مسلم (302) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه: "ثمَّ يُضرَبُ الجسرُ على جهنَّم وتحلُّ الشفاعة، ويقولون: اللَّهمَّ سلِّم سلِّم، قيل: يا رسول الله وما الجسرُ قال: دحضٌ مزلَّة، فيه خطاطيفُ وكلاليبُ وحسك، تكون بنَجد فيها شُويْكةٌ يُقال لها السَّعدان، فيَمُرُّ المؤمنون كطرْف العين، وكالبرق، وكالرِّيح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مُسلَّمٌ، ومخدوشٌ مرسَل، ومكدوسٌ في نار جهنَّم".
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالشَّفاعات التي وردت في الكتاب والسنَّة، منها الشفاعة العظمى الخاصَّة بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم في تخليص أهل الموقف مِمَّا هم فيه، وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأوَّلون والآخرون، من لَدن آدم عليه السلام إلى الذين قامت عليهم الساعة، وقد مرَّت الإشارةُ إليها قريباً في كلام الإمام ابن كثير رحمه الله.
ومنها الشفاعة فيمَن استحقَّ النارَ ألاَّ يدخلها، ويدلُّ لذلك قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء على الصراط: "اللَّهمَّ سلِّم سلِّم"، وقد مرَّ الحديثان في ذلك قريباً عند المرور على الصراط.
ومنها الشفاعة في رفع درجات مَن يدخل الجنَّة فيها فوق ما كان(23/63)
ص -54- ... يقتضيه ثواب أعمالهم، ويدلُّ لذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، ومنه رفع درجات زوجاته صلى الله عليه وسلم إلى درجته.
ومنها الشفاعة لدخول الجنَّة بغير حساب، ويدلُّ له دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعكاشة بن محصن ليكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، رواه البخاري (5811) ومسلم (216).
ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب عن عمِّه أبي طالب حتى جُعل في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، أخرجه البخاري (3883) ومسلم (209)، وهذا التخفيف مخصِّصٌ لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}.
ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول الجنَّة، ويدلُّ له قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أوَّل الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثرُ الأنبياء تَبَعاً" رواه مسلم (196)، وفي لفظ له: "أنا أكثر الأنبياء تَبَعاً يوم القيامة، وأنا أوَّلُ مَن يقرعُ بابَ الجنَّة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنَّة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلك" رواه مسلم (197).
ومنها الشفاعة في إخراج أهل الكبائر من النار، وقد تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره شارح الطحاوية (ص:290)، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ، فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإنِّي اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمَّتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمَّتي لا يشركُ بالله شيئاً" رواه البخاري (6304) ومسلم (199)، واللفظ لمسلم.(23/64)
ص -55- ... وهذه الشفاعة تحصلُ من الملائكة والنَّبيِّين والمؤمنين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد في صحيح مسلم (183): "فيقول الله عزَّ وجلَّ: شفعت الملائكة، وشفع النَّبيُّون، وشفع المؤمنون، ولَم يبق إلاَّ أرحمُ الرَّاحمين ..." الحديث.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بالجنَّة والنار، وأنَّهما موجودتان الآن، وأنَّهما باقيتان إلى غير نهاية، فقد أعدَّ اللهُ الجنَّةَ لأوليائه، وأعدَّ النَّارَ لأعدائه، فمن الآيات التي فيها إعداد الجنَّة لأوليائه قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}
ومن الآيات التي فيها إعداد النار لأعدائه قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، وقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وقوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، ويدلُّ من السُّنَّة لكون الجنَّة والنَّار موجودتَين الآن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صلاة الكسوف، وفيه: "قالوا: يا رسول الله! رأيناك(23/65)
تناولتَ شيئاً في مقامك، ثم رأيناك كَعْكَعْتَ، قال صلى الله عليه وسلم: "إنِّي رأيتُ الجنَّةَ، فتناولتُ عنقوداً، ولو أصبته لأكلتُم منه ما بقيت الدنيا، وأُريتُ النار، فلَم أرَ منظَراً كاليوم(23/66)
ص -56- ... قطُّ أفظع، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء ..." الحديث، رواه البخاري (1052)، ومسلم (907).
وأمَّا ما جاء عن بعض المبتدعة كالمعتزلة من أنَّهما لا تُخلقان إلاَّ يوم القيامة؛ لأنَّ خلقَهما قبل ذلك عبثٌ، حيث إنَّهما تبقيان مدَّة طويلة دون أن ينتفع بالجنَّة أحدٌ ودون أن يتضرَّر بالنَّار أحد، فذلك قولٌ باطل، ويدلُّ لبطلانه وجوه:
الأول: ما جاء في الآيات والأحاديث الدَّالة على خَلْقِهما ووجودِهما قبل يوم القيامة، ومن ذلك ما تقدَّم قريباً.
الثاني: أنَّ وجودَ الجنَّة فيه ترغيبٌ بها وتشويقٌ إليها، ووجودَ النار فيه تحذيرٌ منها وتخويف.
الثالث: أنَّه قد جاء في نصوص الكتاب والسُّنَّة ما يدلُّ على حصول الانتفاع بنعيم الجنَّة قبل يوم القيامة، وما يدلُّ على التضرُّر بعذاب النار قبل يوم القيامة، وقد مرَّ عند ذكر نعيم القبر وعذابه بعض النصوص الدَّالة على ذلك.
وفي الجنَّة التي أُهبط منها آدم أقوال ثلاثة:
الأول: أنَّها جنَّة الخُلد، وهو أظهرها.
والقول الثاني: أنَّها جنَّة في مكان عالٍ من الأرض.
والقول الثالث: التوقُّف.
وقد ذكر ابن القيم الخلافَ وأدلَّةَ أصحاب القول الأول والثاني، وإجابةَ كلٍّ منهما عمَّا استدلَّّ به الآخر، ولَم يُرجِّح شيئاً، وذلك في كتابه حادي الأرواح (ص:16 ـ 32)، وفي قصيدته الميمية ما يدلُّ على ترجيحه القولَ الأول، حيث قال:(23/67)
ص -57- ... فحيَّ عل جنَّات عدن فإنَّها ... ولكنَّنا سَبي العدو فهل ترى
منازلك الأولَى وفيها المخيَّم ... نعود إلى أوطاننا ونسلَّم
الجنَّة والنَّارُ باقيتان لا تفنيان ولا تبيدان، وأهل الجنَّة منَعَّمون فيها إلى غير نهاية، والكفَّار مُعذَّبون في النار إلى غير نهاية، ومن الآيات التي جاءت في بقاء الجنَّة وخلودِ أهلها فيها قول الله عزَّ وجلَّ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}، وقوله: {إِِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
ومن الآيات التي جاءت في بقاء النار وخلود الكفار فيها قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا(23/68)
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}، وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، وقوله: {وََالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا(23/69)
ص -58- ... لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}
وبقاءُ الجنَّة والنَّار وخلودُ أهلهما فيهما إلى غير نهاية لا يُنافي كون الله عزَّ وجلَّ الآخرَ الذي ليس بعده شيء؛ لأنَّ بقاءَ الله عزَّ وجلَّ لازمٌ لذاته، وبقاءَ الجنَّة والنار وأهلهِما فيهما حصل بإبقاء الله لهما، وليس لهما إلاَّ الفناء لولا إبقاء الله لهما، ويجب الإيمانُ بكلِّ ما ورد في الكتاب والسنَّة من صفات الجنَّة والنار، وما يحصلُ في الجنَّة من النعيم، وما يحصل في النار من العذاب.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ برؤية المؤمنين ربَّهم في الدار الآخرة، وهي أكبر نعيم يحصل لهم في دار النَّعيم، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة والإجماع، فمن أدلَّة الكتاب قول الله عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، قال الشافعي رحمه الله: "لَمَّا حُجب هؤلاء في حال السخط، دلَّ على أنَّ المؤمنين يرونه في حال الرِّضَى"، وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الحُسنَى: الجنَّة، والزيادة: النَّظرُ إلى وجه الله عزَّ وجلَّ، فسَّرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم (297) عن صُهيب رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة، قال:(23/70)
يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدُكم فيقولون: ألَم تبيِّض وجوهَنا؟ ألَم تُدخلنا الجنَّة وتنجنا من النار قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطُوا(23/71)
ص -59- ... شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى ربِّهم عزَّ وجلَّ، ثم تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}".
وقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} وهو يدلُّ على إثبات الرؤية بدون إدراك، فهو يُرى ولا يُدرَك، أي: لا يُحاطُ به رؤيةً، كما أنَّه يُعلمُ ولا يُحاطُ به علماً، ونفيُ الإدراك وهو أخصُّ، لا يستلزم نفي الرؤية وهي أعمُّ.
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً}، وموسى عليه الصلاة والسلام سأل اللهَ أمراً مُمكناً، ولَم يسأله مستحيلاً، والله عزَّ وجلَّ شاء ألاَّ يُرَى إلاَّ في الدار الآخرة؛ لأنَّ رؤيتَه أكملُ نعيم يكون فيها، وقوله: {لَنْ تَرَانِي}، أي: في الدنيا، ويدلُّ لذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا أنَّه لا يرى أحدٌ منكم ربَّه عزَّ وجلَّ حتى يموت" رواه مسلم (2931).
وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذه الأدلَّة من الكتاب وغيرها في كتاب حادي الأرواح (ص:179 ـ 186)، ثم ذكر الأدلَّة من السُّنَّة عن سبعة وعشرين صحابيًّا، وساق أحاديثهم، ثم ذكر الآثارَ عن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من أهل السُّنَّة والجماعة، وهي تدلُّ على الاتِّفاق والإجماع على ذلك من الصحابة ومَن سار على طريقتهم.
السادسة: الإيمان بالقدر خيره وشرِّه، وقد جاء في القرآن آياتٌ كثيرةٌ، وفي السُّنَّة أحاديثُ عديدة تدلُّ على إثبات القَدر، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ(23/72)
ص -60- ... اللَّهُ لَنَا}، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، وأمَّا السُّنَّة فقد عقد كلٌّ من الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر، اشتملاَ على أحاديث عديدة في إثبات القدر، روى مسلم في صحيحه (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعُك، واستَعن بالله ولا تَعجَز، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقل: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدرُ الله وما شاء فعل؛ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان".
وروى مسلمٌ (2655) بإسناده إلى طاوس قال: "أدركتُ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كلُّ شيء بقَدر، قال: وسمعتُ عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلُّ شيء بقدر، حتى العَجز والكيس، أو الكيسُ والعجز".
والعجزُ والكيس ضدَّان، فنشاطُ النشيط وكسل الكَسول وعجزه، كلُّ ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث (16/205): "ومعناه أنَّ العاجزَ قد قُدِّر عجزُه، والكَيِّسُ قد قُدِّر كيسُه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلاَّ وقد كُتب مقعدُه من الجنَّة، ومقعدُه من النَّار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتَّكِلُ فقال: اعملوا فكلٌّ ميَسَّرٌ، ثمَّ قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله: {لِلْعُسْرَى}" رواه البخاري (4945) ومسلم (2647) من حديث عليّ رضي الله عنه.
والحديثُ يدلُّ على أنَّ أعمالَ العباد الصالحة مقدَّرَةٌ، وتؤدِّي إلى(23/73)
ص -61- ... حصول السعادة وهي مقدَّرَة، وأعمالُهم السيِّئة مقدرَّةٌ، وتؤدِّي إلى الشقاوة وهي مقدَّرةٌ، واللهُ سبحانه وتعالى قدَّر الأسباب والمسبّبات، وكلُّ شيءٍ لا يخرج عن قضاء الله وقدره وخلقه وإيجاده.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: يا غلام إنِّي أُعلِّمُك كلماتٍ: احفظ اللهَ يحْفظْكَ، احفظ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يَضُرُّوك بشيءٍ لَم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصُّحُف" رواه الترمذي (2516)، وقال: "هذا حديثٌ حسن صحيح".
والإيمانُ بالقدر له أربعُ مراتب لا بدَّ من اعتقادها:
المرتبةُ الأولى: عِلْمُ الله الأزلِيّ في كلِّ ما هو كائنٌ، فإنَّ كلَّ كائنٍ قد سبق به علمُ الله أزلاً، ولا يتجدَّد له علْمٌ بشيءٍ لَم يكن عالماً به أزلاً.
الثانية: كتابةُ كلِّ ما هو كائنٌ في اللَّوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كتب اللهُ مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلقَ اللهُ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشُه على الماء" رواه مسلم (2653) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
الثالثة: مشيئةُ الله وإرادتُه، فإنَّ كلَّ ما هو كائنٌ إنَّما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلاَّ ما أراده الله، فما شاء الله كان، وما لَم يشأ لم يكن، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.(23/74)
ص -62- ... الرابعة: إيجاد كلّ ما هو كائنٌ وخَلْقُه بمشيئة الله، وفقاً لما علِمَه أزَلاً وكتبه في اللَّوح المحفوظ؛ فإنَّ كلَّ ما هو كائنٌ من ذوات وأفعال هو بخلْق الله وإيجاده، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
والإيمانُ بالقدر هو من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله، ويُمكن أن يَعلَم الخلقُ ما هو مُقدَّرٌ بأحد أمرَين:
الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع شيءٌ عُلم بأنَّه مُقدَّر؛ لأنَّه لو لم يُقدَّر لَم يَقع، فإنَّه ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن.
الثاني: حصولُ الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور تقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدَّجَّال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى بن مريم، وغيرها من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبارُ تدلُّ على أنَّ هذه الأمور لا بدَّ أن تقع، وأنَّه سبق بها قضاءُ الله وقدَرُه، ومثل إخباره عن أمور تقع قرب زمانه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بَكرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن إلى جنبه، يَنظرُ إلى الناس مرَّة وإليه مرَّة، ويقول: "ابْنِي هذا سيِّد، ولعلَّ اللهَ أن يُصلحَ به بين فئتَين من المسلمين" رواه البخاري (3746).
وقد وقع ما أخبرَ به الرسول صلى الله عليه وسلم في عام (41هـ) حيث اجتمعت كلمةُ المسلمين، وسُمِّي عام الجماعة، والصحابةُ رضي الله عنهم وأرضاهم فَهموا من هذا الحديث أنَّ الحسن رضي الله عنه لن يموتَ صغيراً، وأنَّه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصُّلح، وهو شيءٌ مقدَّرٌ، علم الصحابةُ به قبل وقوعه.
والله سبحانه خالقُ كلِّ شيء ومُقدِّرُه، قال الله عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ خَالِقُ(23/75)
ص -63- ... كُلِّ شَيْءٍ}، وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}، فكلُّ ما هو كائنٌ من خير وشرٍّ هو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته، وأمَّا ما جاء في حديث عليٍّ رضي الله عنه في دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الطويل وفيه: "والخير كلُّه في يديك، والشرُّ ليس إليك" رواه مسلم (771)، فلا يدلُّ على أنَّ الشَّرَّ لا يقع بقضائه وخلقه، وإنَّما معناه أنَّ اللهَ لا يخلقُ شَرًّا محضاً لا يكون لحكمة، ولا يترتَّب عليه فائدةٌ بوجه من الوجوه، وأيضاً الشرُّ لا يُضاف إليه استقلالاً، بل يكون داخلاً تحت عمومٍ، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، فيُتأدَّب مع الله بعدم نسبة الشرِّ وحده إلى الله، ولهذا جاء فيما ذكره الله عن الجنِّ تأدُّبُهم بنسبة الخير إليه، وذكر الشرِّ على البناء للمجهول، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}
ومن مراتب القدر الأربع كما مرَّ قريباً مشيئة الله وإرادتُه، والفرق بين المشيئة والإرادة أنَّ المشيئة لَم تأت في الكتاب والسُّنَّة إلاَّ لمعنى كونيٍّ قدَري، وأمَّا الإرادة فإنَّها تأتي لمعنى كونِيٍّ ومعنى دينِيٍّ شرعيٍّ، ومن مجيئها لمعنى كونيٍّ قدَري قوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}
ومن مجيء الإرادة لمعنى شرعيٍّ قول الله عزَّ وجلَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ(23/76)
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، والفرقُ بين الإرادَتَين أنَّ الإرادةَ الكونيَّة تكون عامَّةً فيما يُحبُّه الله ويَسخطُه، وأمَّا الإرادةَ الشرعيَّة فلا تكون إلاَّ فيما يُحبُّه الله ويرضاه،(23/77)
ص -64- ... والكونيَّة لا بدَّ من وقوعها، والدينيَّة تقع في حقِّ مَن وفَّقه الله، وتتخلَّف في حقِّ مَن لم يحصل له التوفيقُ من الله، وهناك كلماتٌ تأتي لمعنى كونيٍّ وشرعي، منها القضاء، والتحريم، والإذن، والكلمات، والأمر وغيرها، ذكرها ابن القيم وذكر ما يشهد لها من القرآن والسنَّة في كتابه شفاء العليل، في الباب التاسع والعشرين منه.
وكلُّ شيء قدَّره الله وقضاه وكَتَبه في اللوح المحفوظ لا بدَّ من وقوعه، ولا تغييرَ فيه ولا تبديل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفعت الأقلام، وجَفَّت الصُّحف".
وأمَّا قول الله عزَّ وجلَّ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، فقد فُسِّر بأنَّ ذلك يتعلَّق بالشرائع، فينسخ اللهُ منها ما يشاء ويُثبتُ ما يشاء، حتى خُتمت برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، التي نَسخت جميع الشرائع قبلها، ويدلُّ لذلك قوله في الآية التي قبلها {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، وفُسِّر بالأقدار التي هي في غير اللَّوح المحفوظ، كالذي يكون بأيدي الملائكة، وانظر: شفاء العليل لابن القيم، في الأبواب: الثاني والرابع والخامس والسادس، فقد ذكر في كلِّ باب تقديراً خاصًّا بعد التقدير في اللَّوح المحفوظ.
وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَردُّ القضَاءَ إلاَّ الدعاءُ، ولا يزيد في العُمر إلاَّ البرُّ" أخرجه الترمذي (2139)، وحسنه، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (154)، فلا يدلُّ على تغيير ما في اللَّوح المحفوظ، وإنَّما يدلُّ على أنَّ اللهَ قدَّر السَّلامةَ من الشرور، وقدَّر أسباباً لتلك السَّلامة، والمعنى أنَّ اللهَ دفع عن العبد شرًّا؛ وذلك مقدَّرٌ بسببٍ يفعله(23/78)
وهو(23/79)
ص -65- ... الدّعاء، وهو مقدَّرٌ، وكذلك قدَّر أن يطولَ عُمرُ الإنسان، وقدَّر أن يحصلَ منه سببُ لذلك، وهو البِرُّ وصلة الرَّحم، فالأسبابُ والمسبَّباتُ كلُّها بقضاء الله وقدره، وكذلك يُقال في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سرَّه أن يُبسَط له في رزقه أو يُنسَأ له في أثره فليَصِلْ رَحِمَه" رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557)، وأجَلُ كلّ إنسان مُقدَّرٌ في اللوح المحفوظ، لا يتقدَّم عنه ولا يتأخَّر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}، وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}، وكلُّ مَن مات أو قُتل فهو بأجله، ولا يُقال كما قالت المعتزلة: إنَّ المقتولَ قُطع عليه أجلُه، وأنَّه لو لَم يُقتَل لعاش إلى أجل آخر؛ فإنَّ كلَّ إنسان قدَّر الله له أجلاً واحداً، وقدَّر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموتُ بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموتُ بالقتل، وهكذا.
ولا يجوز الاحتجاجُ بالقدر على ترك مأمور ولا على فعل محظور، فمَن فعل معصيةً لها عقوبة محدَّدة شرعاً، واعتذر عن فعله بأنَّ ذلك قدر، فإنَّه يُعاقَبُ بالعقوبة الشرعية، ويُقال له: إنَّ معاقبتَك بهذه العقوبة قدَرٌ، وأمَّا ما جاء في حديث مُحاجَّة آدم وموسى في القدر، فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنَّما هو على المصيبة التي كانت بسبب المعصية، فقد روى البخاري (3409)، ومسلم (2652) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجَّ آدمُ وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتْك خطيئتُك من الجنَّة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومُنِي على أمرٍ قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى، مرَّتين".(23/80)
ص -66- ... وقد عقد ابن القيم في كتابه شفاء العليل البابَ الثالث للكلام عن هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذَكَرَ الآيات التي فيها احتجاجُ المشركين على شركهم بالقدر، وأنَّ الله أَكذَبَهم؛ لأنَّهم باقون على شركهم وكفرهم، وما قالوه هو من الحقِّ الذي أُريد به باطل، ثم ذكر توجيهَين لمعنى الحديث، أوَّلهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال (ص:35 ـ 36): "إذا عرفتَ هذا، فموسى أعرفُ بالله وأسمائه وصفاته من أن يَلومَ على ذنب قد تاب منه فاعلُه، فاجتباه ربُّه بعده وهداه واصطفاه، وآدمُ أعرفُ بربِّه من أن يحتجَّ بقضائه وقدَره على معصيته، بل إنَّما لامَ موسى آدمَ على المصيبة التي نالت الذريَّة بخروجهم من الجنَّة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئةَ تنبيهاً على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذريَّةَ، ولهذا قال له: أخرجتَنا ونفسَك من الجنة، وفي لفظ (خيَّبتنَا)، فاحتجَّ آدمُ بالقدر على المصيبة، وقال: إنَّ هذه المصيبةَ التي نالت الذريَّة بسبب خطيئتِي كانت مكتوبةً بقدره قبل خلْقي، والقدرُ يُحتجُّ به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومُنِي على مصيبة قُدِّرت عليَّ وعليكم قبل خلْقي بكذا وكذا سنة، هذا جوابُ شيخنا رحمه الله، وقد يتوجَّه جوابٌ آخر، وهو أنَّ الاحتجاجَ بالقدر على الذنب ينفعُ في موضع ويضرُّ في موضع؛ فينفع إذا احتجَّ به بعد وقوعه والتوبة منه وترك مُعاودته، كما فعل آدمُ، فيكون في ذِكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الربِّ وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذَّاكر والسامع؛ لأنَّه لا يدفعُ بالقدر أمراً ولا نَهياً، ولا يُبطل به شريعةً، بل يُخبر بالحقِّ المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوَّة، يوضحه أنَّ آدمَ قال(23/81)
ص -67- ... لموسى: أتلومُنِي على أن عملتُ عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أُخلَق، فإذا أذنب الرَّجلُ ذنباً ثم تاب منه توبةً وزال أمرُه حتى كأن لم يكن، فأنَّبَه مُؤَنِّبٌ عليه ولاَمَه، حسُنَ منه أن يَحتجَّ بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمرٌ كان قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق، فإنَّه لم يَدفع بالقدر حقًّا، ولا ذكر حجَّةً له على باطل، ولا محذورَ في الاحتجاج به، وأمَّا الموضع الذي يضُرُّ الاحتجاجُ به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكبَ فعلاً محرَّماً أو يتركَ واجباً، فيلُومُه عليه لائمٌ، فيحتجَّ بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطلُ بالاحتجاج به حقًّا ويرتكبُ باطلاً، كما احتجَّ به المُصِرُّون على شركهم وعبادتهم غير الله، فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}، { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، فاحتجُّوا به مُصَوِّبين لِمَا هم عليه، وأنَّهم لم يَندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولَم يُقرُّوا بفساده، فهذا ضدُّ احتجاج مَن تبيَّن له خطأُ نفسه وندم وعزَم كلَّ العزم على أن لا يعودَ، فإذا لاَمَه لائمٌ بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله، ونُكتة المسألة أنَّ اللَّومَ إذا ارتفع صحَّ الاحتجاجُ بالقدر، وإذا كان اللَّومُ واقعاً فالاحتجاجُ بالقدر باطلٌ ...".
وقد ضلَّ في القضاء والقدر فرقتان: القدرية والجبرية، فالقدرية يقولون: إنَّ العبادَ يَخلقون أفعالَهم، وإنَّ اللهَ لم يُقدِّرها عليهم، ومقتضى قولهم هذا أنَّ أفعالَ العباد وقعت في مُلك الله وهو لم يُقدِّرها، وأنَّهم بخلقهم لأفعالِهم مُستغنون عن الله، وأنَّ الله ليس خالقاً لكلِّ شيء، بل العباد خلقوا أفعالَهم، وهذا من أبطل الباطل؛ فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالَى خالق العباد وخالق أفعال العباد، فهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، وقال:(23/82)
ص -68- ... {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
وأمَّا الجبرية، فهم الذين سَلَبُوا عن العبد الاختيارَ، ولَم يجعلوا له مشيئةً وإرداةً، وسَوَّوا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أنَّ كلَّ حركاتهم بمنْزلة حركات الأشجار، وأنَّ حركةَ الآكلِ والشارب والمصلِّي والصائم كحركة المُرتعش، ليس للإنسان فيها كسبٌ ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدةُ إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، ومن المعلوم قطعاً أنَّ للعبد مشيئةً وإرادةً، يُحمَد على أفعاله الحسنة، ويُثاب عليها، ويُذمُّ على أفعاله السيِّئة ويُعاقب عليها، وأفعالُه الاختيارية يُنسبُ إليه فعلُها وكسبُها، وأمَّا الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش فلا يُقال: إنَّها فعلٌ له، وإنَّما هي صفةٌ له، ولهذا يقول النَّحويُّون في تعريف الفاعل: هو اسمٌ مرفوعٌ يدلُّ على مَن حصل منه الحَدَث أو قام به، ومرادُهم بحصول الحَدَث: الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادُهم بقيام الحَدَث: ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أَكَلَ زيدٌ وشرب وصلَّى وصام، فزيدٌ فيها فاعلٌ حصل منه الحَدَث، الذي هو الأكل والشربُ والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيدٌ أو مات زيدٌ أو ارتعشت يدُه، فإنَّ الحدَثَ ليس من فعل زيد، وإنَّما هو وصفٌ قام به.
وأهل السُّنَّة والجماعة وسَطٌ بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة؛ فإنَّهم أثبتوا للعبد مشيئةً، وأثبتوا للربِّ مشيئةً عامَّة، وجعلوا مشيئةَ العبد تابعةً لمشيئة الله، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، فلا يقع في مُلك(23/83)
ص -69- ... الله ما لَم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إنَّ العبادَ يخلقون أفعالَهم، ولا يُعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة، كما هو قول الجبرية، وبهذا يُجابُ عن السؤال الذي يتكرَّر طرحُه، وهو: هل العبدُ مسيَّرٌ أو مُخيَّر؟ فلا يُقال: إنَّه مسَيَّرٌ بإطلاق، ولا مُخيَّرٌ بإطلاق، بل يُقال: إنَّه مُخيَّرٌ باعتبار أنَّ له مشيئةً وإرادةً، وأعماله كسب له يُثاب على حَسَنها ويُعاقَب على سيِّئها، وهو مسيَّرٌ باعتبار أنَّه لا يحصل منه شيءٌ خارجٌ عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده.
وكلُّ ما يحصلُ من هداية وضلال هو بمشيئة الله وإرادته، وقد بيَّن الله للعباد طريقَ السعادة وطريق الضلالة، وأعطاهم عقولاً يُميِّزون بها بين النافع والضار، فمَن اختار طريقَ السعادة فسلكه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته، التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضلٌ من الله وإحسان، ومَن اختار طريقَ الضلالة وسلكه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته، التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عدلٌ من الله سبحانه، قال الله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، أي: طريقَي الخير والشرِّ، وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}، وقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}
والهدايةُ هدايتان: هدايةُ الدَّلالة والإرشاد، وهذه حاصلةٌ لكلِّ أحد، وهداية التوفيق، وهي حاصلةٌ لِمَن شاء اللهُ هدايتَه، ومن أدلَّة الهداية الأولى قول الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، أي: أنَّك تدعو كلَّ أحد إلى الصراط المستقيم، ومن أدلَّة الهداية الثانية(23/84)
ص -70- ... قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وقد جمع الله بين الهدايتَين في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي: كلَّ أحد، فحُذف المفعول لإرادة العموم، وهذه هي هداية الدلالة والإرشاد، وقوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (أظهرَ المفعولَ لإفادة الخصوص، وهي هداية التوفيق.
السابعة: الإيمانُ عند أهل السُّنَّة والجماعة يتألَّف من اعتقاد بالقلب وقول باللِّسان وعمل بالجوارح، فهذه الأمورُ الثلاثة داخلةٌ عندهم في مُسمَّى الإيمان، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، ففي هذه الآيات دخول أعمال القلوب وأعمال الجوارح في الإيمان.
وروى مسلم في صحيحه (58) عن أبي هريرة رضىالله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمانُ بضعٌ وسبعون أو بضعٌ وستون شعبة، فأفضلُها قول لا إله إلاَّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان"، فقد دلَّ الحديثُ على أنَّ ما يقوم بالقلب واللِّسان والجوارح من الإيمان، وأمَّا ما جاء في القرآن من آيات كثيرة فيها عطف العمل الصالح على الإيمان، كما في قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(23/85)
أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}، فلا يدلُّ العطف على عدم(23/86)
ص -71- ... دخول الأعمال في مسمَّى الإيمان، بل هو من عطف الخاص على العام؛ وذلك أنَّ التفاوتَ بين الناس في الإيمان يكون غالباً لتفاوتهم في الأعمال، وفي الأقوال أيضاً؛ لأنَّ القولَ عملُ اللِّسان، بل إنَّهم يتفاوتون فيما يقوم بقلوبهم، قال الحافظ في الفتح (1/46) نقلاً عن النووي: "والأظهرُ المختار أنَّ التصديق يزيد وينقص بكثرة النَّظر ووضوح الأدلَّة، ولهذا كان إيمانُ الصدِّيق أقوى من إيمان غيره؛ بحيث لا يعتريه الشُّبهة، ويؤيِّده أنَّ كلَّ أحد يعلمُ أنَّ ما في قلبه يتفاضل، حتى إنَّه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكُّلاً منه في بعضها، وكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها".
والذين أخرجوا الأعمال من أن تكون داخلةً في مسمَّى الإيمان طائفتان: المرجئة الغلاة، الذين يقولون: إنَّ كلَّ مؤمن كاملُ الإيمان، وأنَّه لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا القول من أبطل الباطل، بل هو كفر.
ومرجئة الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، الذين قالوا بعدم دخول الأعمال في مسمَّى الإيمان، مع مخالفتهم للمرجئة الغلاة في أنَّ المعاصي تضرُّ فاعلَها، وأنَّه يُؤاخذُ على ذلك ويُعاقَب، وقولُهم غيرُ صحيح؛ لأنَّه ذريعةٌ إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي، كما في شرح الطحاوية (ص:470).
والإيمانُ يزيد بالطاعة وينقصُ بالمعصية، فمن أدلَّة زيادته قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ(23/87)
ص -72- ... الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}، وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}، وقوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}
ومن أدلَّة نقصانه قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان" رواه مسلم (78).
وما جاء في حديث الشفاعة من إخراج مَن في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان من النار، رواه البخاري (7439) ومسلم (302) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث وصف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للنساء بأنَّهنَّ ناقصاتُ عَقل ودين، أخرجه البخاري (304) ومسلم (132).
قال الحافظ في الفتح (1/47): "وروى ـ يعني اللالكائي ـ بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثرَ من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ، ويزيد وينقص. وأطْنَب ابن أبي حاتم واللاَّلكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكلِّ من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين، وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السُّنَّة والجماعة".
الثامنة: أهلُ السنَّة والجماعة وسَطٌ في مرتكب الكبيرة بين المرجئة والخوارج والمعتزلة، فالمرجئة فرَّطوا وجعلوه مؤمناً كامل الإيمان، وقالوا: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، والخوارج والمعتزلة أفرطوا فأخرجوه من الإيمان، ثمَّ حكمت الخوارج بكفره،(23/88)
ص -73- ... وقالت المعتزلة: إنَّه في منزلة بين المنزلتين، وفي الأخرة اتَّفقوا على تخليده في النار، وأهل السنَّة وصفوا العاصي بأنَّه مؤمن ناقص الإيمان، فلم يجعلوه مؤمناً كامل الإيمان كما قالت المرجئة، ولم يجعلوه خارجاً من الإيمان كما قالت الخوارج والمعتزلة، بل قالوا: هو مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، فلَم يُعطوه الإيمان المطلق، ولَم يسلبوا عنه مطلق الإيمان، وإنَّما ضلَّت المرجئة لأنَّهم أعملوا نصوصَ الوعد وأهملوا نصوصَ الوعيد، وضلَّت الخوارجُ والمعتزلة لأنَّهم أعملوا نصوصَ الوعيد وأهملوا نصوصَ الوعد، ووفَّق الله أهل السنَّة والجماعة للحقِّ، فأعملوا نصوصَ الوعد والوعيد معاً، فلَم يجعلوا مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، ولم يجعلوه خارجاً من الإيمان في الدنيا، وفي الآخرة أمرُه إلى الله؛ إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، وإذا عذَّبه فإنَّه لا يخلده في النار كما يخلِّد فيها الكفار، بل يُخرَجُ منها ويُدخل الجنَّة.
ويجتمع في العبد إيمانٌ ومعصية وحبٌّ وبغض، فيُحَبُّ على ما عنده من الإيمان، ويُبغَض على ما عنده من الفسوق والعصيان، وهو نظير الشيب الذي يكون محبوباً إذا نظر إلى ما بعده وهو الموت، وغير محبوب إذا نُظر إلى ما قبله وهو الشباب، كما قال الشاعر:
الشيبُ كرهٌ وكرهٌ أن نفارقه ... فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
التاسعة: الإحسانُ والإيمانُ والإسلام درجات، فأعلى الدرجات الإحسان، ودونه درجة الإيمان، ودون ذلك درجة الإسلام، فكلُّ محسن مؤمن مسلم، وكلُّ مؤمن مسلم، وليس كلُّ مؤمن محسناً، ولا كلُّ مسلم مؤمناً محسناً، ولهذا جاء في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}(23/89)
ص -74- ... وللتفاوت في هذه الدرجات فإنَّه يُستثنى في الإيمان عند أهل السنة، فإذا قيل للرَّجل: أنت مؤمن قال: إن شاء الله أو أرجو؛ لأنَّ في ذكر الإيمان بدون استثناء تزكية للنفس، ومَن جاء عنه من أهل السنة ترك الاستثناء في الإيمان، فإنَّ مقصودَه أصل الإيمان الذي هو الإسلام، وليس التزكية.
العاشرة: قوله صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: "أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"، والمعنى أن تعبدَه كأنَّك واقفٌ بين يديه تراه، ومن كان كذلك فإنَّه يأتي بالعبادة على التمام والكمال، وإن لم يكن على هذه الحال فعليه أن يستشعر أنَّ اللهَ مطَّلع عليه لا يخفى عليه منه خافية، فيحذر أن يراه حيث نهاه، ويعمل على أن يراه حيث أمره، قال ابن رجب في شرح هذا الحديث في كتابه جامع العلوم والحكم (1/126): "فقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: "أن تعبدَ الله كأنَّك تراه" إلخ يشير إلى أنَّ العبدَ يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه، وأنَّه بين يديه كأنَّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة (أن تخشى الله كأنَّك تراه)، ويُوجب أيضاً النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها"، وقال (1/128 ـ 129): "قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"، قيل: إنَّه تعليل للأول؛ فإنَّ العبدَ إذا أُمر بمراقبة الله في العبادة واستحضار قربه من عبده حتى كأنَّ العبد يراه، فإنَّه قد يشق ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بأنَّ الله يراه، ويطَّلع على سرِّه وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فإذا حقَّق هذا المقام سهُل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيَّته حتى كأنَّه يراه، وقيل: بل هو إشارة إلى أنَّ مَن شقَّ عليه أن يعبدَ(23/90)
ص -75- ... الله كأنَّه يراه، فليَعبُدِ اللهَ على أنَّ الله يراه ويطَّلع عليه، فليستحيي من نظره إليه".
وقال (1/130): "وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنَّدب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات"، وذكر جملة من الأحاديث، ثم قال: "ومَن فهم من شيء من هذه النصوص تشبيهاً أو حلولاً أو اتِّحاداً، فإنَّما أُتي من جهله وسوء فهمه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واللهُ ورسوله بريئان من ذلك كلِّه، فسبحان من ليس كمثله شيء وهو السَّميع البصير".
7 ـ قوله: "قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلمَ من السائل، قال: فأخبرني عن أمَاراتِها؟ قال: أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان، قال: ثمَّ انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي: يا عمر أتدري مَن السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم".
فيه فوائد:
الأولى: اختصَّ الله بعلم الساعة، فلا يعلم متى تقوم الساعة إلاَّ الله سبحانه وتعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، ومنها علم الساعة، ففي صحيح البخاري (4778) عن عبد الله بن عمر قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مفاتيح الغيب خمسة، ثم قرأ {إِِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}"، وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ(23/91)
ص -76- ... عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
وجاء في السنة أنَّ الساعة تقوم يوم الجمعة، أمَّا من أيِّ سنة وفي أيِّ شهر من السنة وفي أيِّ جمعة من الشهر فلا يعلم ذلك إلاَّ الله، ففي صحيح مسلم (854) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُدخلَ الجنَّة، وفيه أُخرجَ منها، ولا تقوم الساعةُ إلاَّ في يوم الجمعة".
ورواه أبو داود (1046) والنسائي (1430) بلفظ: "خيرُ يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابَّة إلاَّ وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقاً من الساعة إلاَّ الجنّ والإنس" الحديث، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين، وهذه الزيادة في آخره تدلُّ على أنَّ الساعةَ تقوم في أوَّل النهار قبل طلوع الشمس.
الثانية: تُطلق الساعة ويُرادُ بها الموت عند النفخ في الصور، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة إلاَّ على شرار الناس" رواه مسلم (2949)، وكلُّ مَن مات قبل ذلك فقد جاءت ساعته وقامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، وتُطلق ويُراد بها البعث، كما قال الله عزَّ وجلَّ في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}، وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، وهم إنَّما أنكروا البعث كما(23/92)
ص -77- ... قال الله عزَّ وجلَّ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
الثالثة: قوله: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" معناه أنَّ الخلق لا يعلمون متى تقوم، وأنَّ أيَّ سائل أو أي مسئول سواء في عدم العلم بها، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/135): "يعني أنَّ علمَ الخلق كلِّهم في وقت الساعة سواء، وهذا إشارة إلى أنَّ الله استأثر تعالى بعلمها".
الرابعة: تعدَّدت الأسئلة للرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُجيب مَن سأله ببيان بعض أماراتها، أو يُلفت نظر السائل إلى ما هو أهم من سؤاله.
ومِن الأول حديث أبي هريرة في صحيح البخاري (59) أنَّ أعرابيًّا سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال: متى الساعة فقال: "فإذا ضُيِّعت الأمانةُ فانتظر الساعة" الحديث.
وأمَّا الثاني، ففي صحيح البخاري (3688) ومسلم (2639) عن أنس رضي الله عنه: "أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة قال: وماذا أعددتَ لها؟ قال: لا شيء، إلاَّ أنِّي أحبُّ اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتَ مع مَن أحببتَ".
الخامسة: قوله: "فأخبرني عن أماراتها ..." إلخ، أماراتها: علاماتها، وعلامات الساعة تنقسمُ إلى قسمين: علامات قريبة من قيامها، كخروج الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء، وغيرها.(23/93)
ص -78- ... وعلامات قبل ذلك، ومنها العلامتان المذكورتان في هذا الحديث.
ومعنى قوله: "أن تلِدَ الأَمَةُ ربَّتها" فُسِّر بأنَّه إشارة إلى كثرة الفتوحات وكثرة السبي، وأنَّ من المسبيات مَن يطؤها سيِّدها فتلد له، فتكون أمَّ ولد، ويكون ولدُها بمنزلة سيِّدها، وفسِّر بتغيُّر الأحوال وحصول العقوق من الأولاد لآبائهم وأمَّهاتهم وتسلُّطهم عليهم، حتى يكون الأولاد كأنَّهم سادة لآبائهم وأمَّهاتهم، رجَّح هذا الحافظ ابن حجر في الفتح (1/123).
ومعنى قوله: "وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" أنَّ الفقراء الذين يرعون الغنم ولا يجدون ما يكتسون به تتغيَّر أحوالُهم، وينتقلون إلى سكنى المدن ويتطاولون في البنيان، وهاتان العلامتان قد وقعتا.
السادسة: قوله: "ثمَّ انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي: يا عمر أتدري مَن السائل قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم"، معنى مليًّا: زماناً فقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه عن السائل بأنَّه جبريل عقب انطلاقه، وجاء أنَّه أخبر عمر بعد ثلاث، ولا تنافي بين ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر الحاضرين ولم يكن عمر رضي الله عنه معهم، بل يكون انصرف من المجلس، واتَّفق له أنَّه لقي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث فأخبره.
السابعة: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابَه عن أشياء لِلَفْت أنظارهم إلى الاستعداد لجوابها، فيقولون: الله ورسوله أعلم، ثم يُجيبهم، كما في حديث عمر هذا، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أتدري ما حقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله قلت: الله ورسوله أعلم" الحديث رواه البخاري (2856) ومسلم (48).(23/94)
ص -79- ... ويُشرَع للمسئول إذا لم يكن عنده جواب أن يقول: لا أدري، أو الله أعلم؛ لصلاحية ذلك لكلِّ سؤال، بخلاف: الله ورسوله أعلم، فلا تصلح لكلِّ سؤال، فلو سأل سائل: متى تقوم الساعة تعيَّن في الجواب قول: الله أعلم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى تقوم الساعة.
وأيضاً فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يعلم بما يحصلُ لأمَّته من بعده؛ لحديث ابن مسعود رضىالله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أنا فرطُكم على الحوض، وليُرفعنَّ رجالٌ منكم ثم ليختلجنَّ دوني، فأقول: يا ربِّ أصحابي! فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك" رواه البخاري (6576) ومسلم (2297).
والمراد بالأصحاب المشار إليهم في الحديث الذين ارتدُّوا بعد موته صلى الله عليه وسلم وقُتلوا على أيدي الجيوش التي أرسلها أبو بكر رضىالله عنه لقتال المرتدِّين.
وإلى هنا انتهى شرح هذا الحديث العظيم، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(23/95)
عنوان الكتاب:
شرح شروط الصلاة وأركانها وواجباتها لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة الأولى 1425هـ(24/1)
ص -3- ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فهذا شرح لرسالة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله المشتملة على شروط الصلاة وأركانها وواجباتها؛ فأقول: قد اشتملت هذه الرسالة على شروط الصلاة التسعة وأركانها الأربعة عشر وواجباتها الثمانية، وعند ذكره رحمه الله الشرط الرابع من شروط الصلاة وهو رفع الحدث ذكر شروط الطهارة العشرة وفروض الوضوء الستة، وواجبه الذي هو التسمية مع الذكر ونواقضه الثمانية، وفي كلامه على أركان الصلاة فسر سورة الفاتحة باختصار وشرح ألفاظ الاستفتاح والتشهد.(24/2)
ص -4- ... شروط الصلاة
الشروط جمع شرط، والشرط هو الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود، والمعنى أنه يلزم من كون الإنسان غير متطهر ألا تصح له صلاة، لأن شرط الصلاة الطهارة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". رواه البخاري (6954) ومسلم (537) عن أبي هريرة.
وقد يتوضأ الإنسان ثم يحدث دون أن يصلي صلاة بذلك الوضوء، فلا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة.
قوله: "الشرط الأول: الإسلام، وضده الكفر، والكافر عمله مردود ولو عمل أي عمل، والدليل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17]، وقوله: {وَقَدِمْنَا(24/3)
ص -5- ... إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان: 23]
كل عمل يتقرب به إلى الله في هذه الأمة لا ينفع صاحبه إلاّ إذا كان مسبوقاً بشهادة ألا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، ومبنياً عليهما، فلابد من إخلاص العمل لله وهو مقتضى شهادة ألا إله إلا الله، ولابد من متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل عمل يعمله الكافر فإنه لا ينفعه عند الله عزّ وجلّ، لفقده شرط الإسلام، وقد استدل الشيخ رحمه الله لرد أعمال الكفار وعدم قبولها منهم بالآيتين من سورة التوبة وسورة الفرقان، لأن آية التوبة ختمت ببيان حبوط أعمال الكفار، وآية الفرقان بيّنت أن أعمالهم لا عبرة بها، وأنها مثل الهباء المنثور أي بطلت واضمحلت.
قوله: [الثاني: العقل، وضده الجنون، والمجنون مرفوع(24/4)
ص -6- ... عنه القلم حتى يفيق، والدليل حديث: "رفع القلم عن ثلاثة، النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ" ].
لابد للمصلي في صلاته أن يكون حاضر العقل ليس فاقداً له بجنون أو سكر، لأن المجنون مرفوع عنه القلم غير مكلف، والسكران أفقد نفسه عقله فألحقها بالمجانين، فلا يعقل صلاته، وقد استدل الشيخ رحمه الله بحديث "رفع القلم عن ثلاثة" وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود (4398) والنسائي (3432) وابن ماجه (2041) من حديث عائشة رضي الله عنها، وانظر إرواء الغليل للألباني (297).
قوله: [الثالث: التمييز، وضده الصغر، وحدّه سبع سنين، ثم يؤمر بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع" ].(24/5)
ص -7- ... إذا بلغ الصغير سن التمييز وهو سبع سنين أمر بالصلاة ليس على سبيل الإيجاب، لأن الوجوب إنما يكون بعد البلوغ، وأمره بالصلاة في هذه السن ليتعود على الصلاة والاتيان بها على الوجه المشروع، وإذا بلغ عشر سنين تأكّد أمره بها وأدّب على ذلك بالضرب غير المبرح لقوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع"، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد (6756) (6689) وأبو داود (495) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أبو داود (494) من حديث سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه وانظر إرواء الغليل (247).
قوله: [الشرط الرابع: رفع الحدث، وهو الوضوء المعروف، وموجبه الحدث].
الحدث: هو كل خارج من السبيلين وكذا أي ناقض للوضوء، والحدث هو الذي يوجب الوضوء،(24/6)
ص -8- ... والحدث حدثان: حدث أكبر وهو ما يوجب الغسل وهو الجنابة والحيض والنفاس، وحدث أصغر وهو ما يوجب الوضوء، ورفع الحدث يكون بالغُسل و الوضوء لمن وجد الماء أو قدر على استعماله، فإذا لم يوجد الماء أو وجد ولكن لم يُقدر على استعماله انتُقل إلى رفع كل من الحدث الأكبر والأصغر بالتيمم، وإذا تيمم للحدث الأكبر ثم وجد الماء اغتسل لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير". أخرجه الترمذي (124) وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وانظر إرواء الغليل (153)، وإذا اغتسل من عليه حدث أكبر ونوى رفع الحدث الأكبر والأصغر ارتفعا، أما إذا أفاض الماء على جسده في غسل الجمعة أو التبرد ونوى رفع الحدث الأصغر فإنه لا يرتفع، لأن هذا الاغتسال ليس فيه رفع حدث.(24/7)
ص -9- ... شروط الوضوء
قوله: [وشروطه عشرة: الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية، واستصحاب حكمها، بأن لا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، وانقطاع موجب، واستنجاء أو استجمار قبله، وطهورية ماء، وإباحته، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه].
تقدّم الكلام على شروط الإسلام والعقل والتمييز، وأما شرط النية فإنه عند وضوئه ينوي بقلبه رفع الحدث ولا يتلفظ بلسانه، وكذا في جميع العبادات ينوي بقلبه ولا يتلفظ بلسانه إلاّ في الحج والعمرة فله أن يتلفظ بما نواه فيقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجّاً أو لبيك حجّاً وعمرة، ولو غسل وجهه عند قيامه من النوم لا يريد الوضوء ثم بدا له أن يتوضأ فإنه يلزمه أن يغسل وجهه للوضوء ولا يكتفي بغسله السابق لعدم وجود نية الوضوء عند ذلك الغسل، ولو اغتسل(24/8)
ص -10- ... من عليه جنابة للتبرد ناسياً الجنابة فإنه لا يجزئه عن غُسل الجنابة لعدم وجود النية، ومع نية الطهارة يستصحب حكمها حتى تتم الطهارة، فلو نوى قطع النية في أثناء الوضوء ثم أراد إكمال الوضوء فليس له ذلك بل يتعين عليه البدء بالوضوء من أوله، ولا يكمل ما بقي عليه لأنه قد ألغى ما حصل منه، وهذا هو الشرط الخامس، والشرط السادس انقطاع موجب، أي انقطاع موجب الوضوء وهو الحدث، وذلك بأن ينتظر عند قضاء حاجته حتى انقطاع ما يخرج من السبيلين فلا يشرع في الوضوء قبل الانقطاع.
والشرط السابع: الاستنجاء أو الاستجمار قبل الوضوء، وهذا إذا كان الخارج من السبيلين بولاً أو غائطاً، أما خروج الريح فإنه لا استنجاء ولا استجمار فيه، والاستجمار يغني عن الاستنجاء إذا لم يتجاوز الخارج موضع العادة، فإن تجاوزه احتيج مع ذلك إلى الاستنجاء لإزالة النجاسة.(24/9)
ص -11- ... والشرط الثامن: طهورية ماء وإباحته وهما شيئان، والشيخ رحمه الله جعل الشروط عشرة وذكر بعد هذا شرطين، وعلى هذا يكون اعتبر الطهورية والإباحة شرطاً واحداً، ويشترط في ماء الوضوء أن يكون طهوراً فلا يتطهر بماء متنجس، وأن يكون الماء مباحاً ليس مغصوباً، وهذا الأخير محل خلاف وفي اشتراطه نظر، والأظهر أن من توضأ بماء مغصوب فالوضوء صحيح، وهو آثم على الغصب، ومثله من صلى في أرض مغصوبة، أو صلى في ثوب حرير فإن صلاته صحيحة، وهو آثم في الغصب وفي لبس الحرير.
والشرط التاسع: إزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة فلابد في الوضوء من وصول الماء إلى أعضاء الوضوء، ويجب إزالة مايمنع وصوله إليها كالطين والعجين والطلاء ونحو ذلك مما يغطي البشرة، أما ما يغير اللون ولا يغطي البشرة كالحناء فإن ذلك لا يؤثر.(24/10)
ص -12- ... والشرط العاشر: دخول وقت على من حدثه دائم لفرضه، والمعنى أن من كان به سلس بول أو تخرج منه الريح باستمرار وكذا المرأة المستحاضة، فإن هؤلاء يتوضؤون عند دخول الوقت لكل صلاة مفروضة، فلو توضأ أحدهم لصلاة الظهر بعد دخول وقتها وصلاها ثم دخل عليه وقت العصر، فلا يصلي العصر بوضوء الظهر، بل عليه أن يتوضأ بعد دخول العصر لصلاة العصر، ويدل لذلك أمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش - وكانت مستحاضة - أن تتوضأ لكلِّ صلاة، أخرجه البخاري (228) من حديث عائشة رضي الله عنها.
فروض الوضوء
قوله: [وأما فروضه فستة: غسل الوجه - ومنه المضمضة والاستنشاق - وحدّه طولاً: من منابت شعر الرأس إلى الذقن، وعرضاً: إلى فروع الأذنين،(24/11)
ص -13- ... وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح جميع الرأس - ومنه الأذنان - وغسل الرجلين إلى الكعبين والترتيب والموالاة، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ(} [المائدة:6]، ودليل الترتيب حديث: "ابدؤا بما بدأ الله به"، ودليل الموالاة حديث صاحب اللمعة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما رأى رجلاً في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره بالإعادة].
صفة الوضوء جاءت مبينة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي كتاب الله عزّ وجلّ جاءت في سورة المائدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ(} [المائدة:6]، ومعنى قوله: (إذا قمتم إلى الصلاة) أي: أردتم القيام لها وأنتم(24/12)
ص -14- ... على غير طهارة، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، أي: إذا أردت القراءة، وأما سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاءت من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك: عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوَضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسَلَهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثاً، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه". رواه البخاري (164) ومسلم (226)، وغسل الأعضاء ثلاثاً هو الوضوء الكامل، ولا يجوز الزيادة على ذلك، وقد جاء الوضوء مرتين مرتين ومرة مرة، والوضوء الواجب مرة واحدة(24/13)
ص -15- ... مستوعبة جميع أعضاء الوضوء، وفروض الوضوء ستة:
الأول: غسل الوجه، وحدّه طولاً من منابت شعر الرأس إلى ما استرسل من اللحية، وعرضاً: ما دون الأذنين، والأذنان في الوضوء من الرأس فتمسحان، وليستا من الوجه فتغسلان، وتخليل اللحية مستحب، والواجب في غسل الوجه غسل ما به المواجهة، فلا يدخل في ذلك تخليل اللحية، ويدخل في غسل الوجه المضمضة والاستنشاق، كما جاء ذلك مبيناً في حديث عثمان رضي الله عنه وغيره.
الثاني: غسل اليدين إلى المرفقين: وذلك من أطراف الأصابع إلى نهاية المرفقين، والمرفقان داخلان في الغسل، ولا يكفي في غسل الكفين في الوضوء غسلهما قبل بدء الوضوء، لأن ذلك مستحب إلاّ عند القيام من النوم، فإنه واجب، وغسل اليدين يكون بعد غسل الوجه، فلا يكفي ما كان قبله.(24/14)
ص -16- ... الثالث: مسح الرأس: ويكون مرّة واحدة يبدأ فيها من مقدّم رأسه إلى مؤخره ثم يعود إلى المكان الذي بدأ منه، وما استرسل من شعر المرأة فإنه لا يمسح، بل يكتفى بالمسح إلى مؤخر الرأس ويمسح مع الرأس الأذنان.
الرابع: غسل الرجلين إلى الكعبين: والكعبان داخلان في الغسل، وفي كل رجل كعبان، وليس المراد بالكعبين العظمين الناتئين في ظهر القدم كما يزعمه بعض فرق الضلال، فيمسحون إليهما، فإن فرض الرجلين الغسل وليس المسح، وقد دلت قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} بفتح اللام، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي بينت صفة الوضوء على ذلك، وأما قراءة الكسر في {وَأَرْجُلَكُمْ} فهي محمولة على الغسل الخفيف جمعاً بين القراءتين، والاعتماد عليها وترك غسل الرجلين الذي دلت عليه قراءة النصب، ودلت(24/15)
ص -17- ... عليه السّنّة هو من اتباع المتشابه وترك المحكم، ويكفي في معرفة ضلال من ضل عن الحق في مسألة غسل الرجلين والاكتفاء بمسح ظهورهما، أنهم حرموا أنفسهم سيما التحجيل التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء". أخرجه البخاري (136) ومسلم (580) عن أبي هريرة، وأنهم عرّضوا أنفسهم للوعيد الذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار". أخرجه البخاري (165) ومسلم (242) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخامس: الترتيب: فيجب غسل أعضاء الوضوء على الترتيب الذي جاء في الآية، وجاء في فعله صلى الله عليه وسلم في وضوئه فلا يجوز أن يقدم غسل اليدين على غسل الوجه، ولا مسح الرأس على غسل اليدين وهكذا، أما لو غسل اليد اليسرى قبل اليمنى أو الرجل اليسرى قبل اليمنى فإن الوضوء صحيح إجماعاً، وهو(24/16)
ص -18- ... خلاف الأولى، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/270): قال النووي: "قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدهما استحب فيه التياسر، قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنّة، من خالفها فاته الفضل وتمَّ وضوءه"، ثم نقل عن ابن قدامة في المغني أنه قال: لا نعلم في عدم الوجوب خلافاً.
وقد استدل الشيخ رحمه الله للترتيب بحديث: "ابدؤا بما بدأ الله به"، قال صلى الله عليه وسلم ذلك عندما بدأ بالصفا في سعيه، والحديث بلفظ الأمر جاء في سنن النسائي (2962) وهو في صحيح مسلم (2950) بلفظ الخبر وهو من حديث جابر الطويل في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، وفيه: "فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، "أبدأ بما بدأ الله به"، فبدأ(24/17)
ص -19- ... بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت"، وانظر إرواء الغليل (1120)، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما بدأ الله به" أن الله لما ذكر الصفا والمروة قدّم الصفا على المروة، فما بدأ الله به ذكراً بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسعي فعلاً.
السادس: الموالاة: وهو أن يوالي بين الأعضاء في الغسل فلا يغسل بعضها ثم ينشغل عن الاستمرار في الوضوء، إلاّ إذا كان الانشغال لعارض يسير كفتح باب قريب فإنه لا يؤثر، ويدل لوجوب الموالاة حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فأحسن وضوءك"، فرجع ثم صلّى". أخرجه مسلم (243)، وحديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء(24/18)
ص -20- ... والصلاة". أخرجه أبو داود (175) وانظر إرواء الغليل (86)، ووجه الاستدلال من هذين الحديثين على وجوب الموالاة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أبصر على قدمه شيئاً لم يصبه الماء بغسل ذلك الذي لم يصبه الماء بل أمره بإعادة الوضوء، ولو كانت الموالاة غير واجبة كفاه أن يغسل الموضع الذي لم يصبه الماء.
حكم التسمية في الوضوء
قوله: [وواجبه التسمية مع الذكر].
هذا أحد الأقوال في المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وممن قال به الحسن وإسحاق، والقول الثاني أن التسمية مستحبّة، وهو قول جمهور العلماء، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، ذكر ذلك في المغني (1/145)، وقد ورد في التسمية في الوضوء حديث: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". أخرجه أبو داود (101) وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الشيخ(24/19)
ص -21- ... الألباني أنه حسن وقال: "وقد قوّاه الحافظ المنذري والعسقلاني وحسّنه ابن الصلاح وابن كثير والعراقي"، انظر إرواء الغليل (81)، واختيار الشيخ القول بالوجوب مع الذكر، فيه الاحتياط والخروج من الخلاف، ونظير ذلك ما قاله رحمه الله في أدب المشي إلى الصلاة: "وتجزىء تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع، لفعل زيد بن ثابت وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، وإتيانه بهما أفضل، خروجاً من خلاف من أوجبه".(24/20)
ص -22- ... نواقض الوضوء
قوله: [ونواقضه ثمانية: الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش النجس من الجسد، وزوال العقل، ومس المرأة بشهوة، ومس الفرج باليد قبلاً كان أو دبراً، وأكل لحم الجزور، وتغسيل الميت، والردّة عن الإسلام - أعاذنا الله من ذلك -].
أوّل نواقض الوضوء، الخارج من السبيلين: وهو كل خارج منهما من غائط أو بول أو ريح أو دم أو مني أو مذي أو غير ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". أخرجه البخاري (6954) ومسلم (537) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والثاني: الخارج الفاحش النجس من الجسد: اختلف العلماء في الدم الخارج من غير السبيلين هل ينقض الوضوء أو لا؟ وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدم نقض الوضوء به لأنه لم يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض أهل العلم إلى حصول النقض بما كان كثيراً فاحشاً منه، وقد جاء ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وهو الذي اختاره الشيخ رحمه الله هنا، وهو أخذ بما فيه الاحتياط والخروج من الخلاف. انظر المغني (1/247)، ومجموع فتاوى الشيخ(24/21)
ص -23- ... ابن باز رحمه الله تعالى (10/159)، وفتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (5/261).
الثالث: زوال العقل: ينتقض الوضوء بزوال العقل بجنون أو سكر أو إغماء أو نوم مستغرق، أما إذا كان النوم نعاساً لا يذهب معه الإحساس كأن يكون جالساً أو قائماً، فحصل له نعاس فخفق رأسه ثم تنبّه فإن ذلك لا ينقض الوضوء، فقد روى مسلم في صحيحه (376) عن أنس رضي الله عنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون"، ولفظه عند أبي داود (200): "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون"، وهذا يدل على أن زوال العقل ليس حدثاً، بل هو مظنّة للحدث، ويدل لذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ". رواه أبو داود (203) عن علي(24/22)
ص -24- ... رضي الله عنه، وسنده حسن، وانظر إرواء الغليل (113) وقد نقل تحسينه عن النووي والمنذري وابن الصلاح.
الرابع: مس المرأة بشهوة: هذا الذي اختاره الشيخ، أحد الأقوال الثلاثة في المسألة، والقول الثاني: أنه ينقض مطلقاً، والثالث: أنه لا ينقض مطلقاً سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، إذا لم يخرج مع الشهوة شيء، وهذا القول أصح الأقوال لعدم ثبوت ما يدل على النقض به، وانظر فتاوى الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى (10/132-138).
الخامس: مس الفرج باليد قبلاً كان أو دبراً: هذا الذي اختاره الشيخ، هو قول جمهور العلماء، وهو الصحيح إذا كان المس بدون حائل، وسواء كان مس فرجه أو فرج غيره، وسواء كان الممسوس صغيراً أو كبيراً من الأحياء أو الأموات، لحديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مس(24/23)
ص -25- ... ذكره فليتوضأ". رواه الترمذي (82) وغيره، وقال حديث حسن صحيح، وانظر إرواء الغليل (116)، وفتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (5/263-266).
السادس: أكل لحم الجزور: في الوضوء من أكل لحم الإبل قولان للعلماء: أحدهما قول الجمهور، وهو أنه لا يتوضأ من أكل لحومها، والقول الثاني: وجوب الوضوء من ذلك وسواء كان اللحم نيئاً أو مطبوخاً، وأما ألبانها ومرق لحمها وكذلك الطعام الذي طبخ مع لحمها، فإن استعمال ذلك لا ينقض الوضوء، ويدل للوضوء من أكل لحوم الإبل حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ"، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم، فتوضأ من لحوم الإبل"، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: (نعم)، قال: أصلي في مبارك(24/24)
ص -26- ... الإبل؟ قال: (لا)". أخرجه مسلم (360) وحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "توضؤوا منها"، وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: "لا توضؤوا منها"، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: "لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين"، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: "صلوا فيها فإنها بركة". رواه أبو داود (184) وغيره، وإسناده صحيح، والأصل في الأمر الوجوب، وفي الوضوء الوضوء الشرعي، فلا يحمل الأمر على الاستحباب، ولا الوضوء على الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليدين والمضمضة، لعدم الصارف عن الأصل، وانظر إرواء الغليل (118)، وذكر النووي في شرح صحيح مسلم (4/49) خلاف العلماء في الوضوء من لحم الإبل، وقال: "قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن(24/25)
ص -27- ... راهويه في هذا - أي الوضوء من لحم الإبل - حديثان: حديث جابر وحديث البراء، وهذا المذهب أقوى دليلاً وإن كان الجمهور على خلافه". وانظر مجموع فتاوى الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى (10/156-158)، وفتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (5/273-277).
السابع: تغسيل الميت: اختلف العلماء في حكم الوضوء من تغسيل الميت على قولين: (أحدهما) وجوب الوضوء، (والثاني) استحبابه، ذكرهما ابن قدامة في المغني (1/256) ورجّح القول بالاستحباب، وقد روى أبو داود (3161) وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من غسّل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ". أورده الألباني في إرواء الغليل (144)، وفي كتاب أحكام الجنائز (53)، ونقل تصحيحه عن ابن القيم وابن القطان، وابن حزم وابن حجر العسقلاني، وذكر أنه محمول على الندب لا على(24/26)
ص -28- ... الوجوب، لحديثٍ حسنٍ في ذلك عن ابن عباس، وأثرٍ عن ابن عمر رضي الله عنهم.
وإذا لمس مَن غسّل الميت فرجه من غير حائل وجب عليه الوضوء لمسِّ الفرج لا لتغسيل الميت، وانظر فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى (10/165).
الثامن: قوله: الرّدّة عن الإسلام - أعاذنا الله من ذلك -: هذا الذي ذكره الشيخ رحمه الله من انتقاض الوضوء بالرّدّة هو الذي عزاه ابن قدامة في المغني (1/238) إلى مذهب الإمام أحمد، وعزا إلى الأئمة الثلاثة الباقين القول بعدم الانتقاض، فإذا توضأ شخص وارتدّ عن الإسلام ثم عاد إليه قبل أن يحصل منه ناقض للوضوء غير الرّدّة فهو باق على وضوئه على القول الثاني، لا يلزمه إعادة الوضوء، وتلزمه إعادة الوضوء على القول الأول، والذي ذكره الشيخ(24/27)
ص -29- ... فيه الاحتياط والخروج من الخلاف لقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
عود إلى بقية شروط الصلاة
قوله: [الشرط الخامس: إزالة النجاسة من ثلاث، من البدن والثوب، والبقعة، والدليل قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ].
والمعنى أن الإنسان قبل صلاته يزيل ما على بدنه وثيابه وفي البقعة التي يصلي فيها من نجاسة إن وجدت، وذلك بغسلها بالماء، فإن صلى وعليه نجاسة ولم يعلم إلاّ بعد فراغ الصلاة فإن صلاته صحيحة، وإن علم في أثناء الصلاة وأمكن خلع ما به النجاسة خلعه واستمر في صلاته، وإلاّ قطعها، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه وعليه نعلاه فخلعهما في أثناء الصلاة وأخبرهم بعد فراغها أن جبريل أخبره بأن فيهما قذراً،(24/28)
ص -30- ... رواه أبو داود (650) بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فقد دلّ استمراره صلى الله عليه وسلم في صلاته بعد خلع نعليه على صحّة صلاة من صلّى وعليه نجاسة ولم يعلم إلاّ بعد فراغ الصلاة، لأنها لو كانت لا تصحّ لاستُؤنفت الصلاة من أولها، وهذا بخلاف من صلّى وهو محدث فإنه إذا علم في أثنائها قطعها، وإن لم يعلم إلاّ بعد الفراغ منها أعادها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". رواه البخاري ومسلم، وقد تقدّم. وإذا وضع المصلي فراشاً على الأرض التي فيها نجاسة أو كان تحت الأرض التي يصلي فيها أماكن لقضاء الحاجة أو مجرى مياه متنجّسة فإن الصلاة صحيحة لعدم مباشرة النجاسة، وقد أورد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} نقولاً عن جماعة من السلف في تفسير ذلك بالطهارة من الذنوب والمعاصي، ثم قال: "قال محمد بن سيرين:(24/29)
ص -31- ... {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي اغسلها بالماء، وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه، وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه".
قوله: [الشرط السادس: ستر العورة، أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عرياناً وهو يقدر، وحد عورة الرجل من السرّة إلى الركبة، والأمة كذلك، والحرة كلها عورة إلاّ وجهها، والدليل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي: عند كل صلاة].
المطلوب في حال السعة أن يكون المسلم في صلاته وغيرها على هيئة حسنة في اللباس وغيره لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" رواه مسلم (147) وفي(24/30)
ص -32- ... حال الضيق يجب ستر العورة مطلقاً في الصلاة وغيرها بما لا يصف البشرة، إلاّ من الزوجة وملك اليمين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك إلاّ من زوجتك، أو مما ملكت يمينك" أخرجه الترمذي (2769) وغيره عن معاوية بن حيدة، وقال: حديث حسن، وانظر إرواء الغليل (1810)، وحد عورة الرجل ما فوق الركبة ودون السرّة لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره، فلا ينظر إلى ما دون السرّة وفوق الركبة" رواه أبو داود (496) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وإسناده حسن، والمعنى: أن السيد إذا زوّج خادمه وهو أمته، فليس لذلك الخادم وهو الأمة أن ينظر إلى عورة السيد لأنّه بتزويجها انتقلت منفعة الاستمتاع إلى الزوج، فخرج بذلك عن حكم قوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو مما ملكت يمينك"، ويدل لذلك أيضاً قوله(24/31)
ص -33- ... صلى الله عليه وسلم: "غطِّ فخذك فإنها من العورة" أخرجه الترمذي (2798) عن جرهد، وقال: حديث حسن، وقال البخاري في صحيحه: [باب ما يذكر في الفخذ ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الفخذ عورة" وقال أنس: حسر النبي صلى الله عليه وسلم عن فخذه، وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، حتى يخرج من اختلافهم]. صحيح البخاري مع الفتح (1/478).
والإجماع الذي ذكره الشيخ، حكاه ابن قدامة في المغني (2/284) عن ابن عبد البر، وقد جاءت السّنّة بأن المصلي مع ستر عورته يستر عاتقه في الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء" أخرجه البخاري (359) ومسلم (1151).
والمرأة عورة لقوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان" رواه الترمذي (1173)(24/32)
ص -34- ... عن عبد الله بن مسعود، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وانظر إرواء الغليل (273)، فيجب على المرأة ستر بدنها حتى وجهها عن الرجال الأجانب، قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان في تفسير سورة الأحزاب (6/596) عن هذا الحديث: "وما جاء فيه من كون المرأة عورة، يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة"، وذكر شيخنا أيضاً (6/585-586) أن حكم تغطية الوجه لأمهات المؤمنين مما أجمع عليه أهل العلم، وأن الآيات التي نزلت في أمرهن بالحجاب تشتمل على قرينتين تدلان على أن الحكم ليس خاصّاً بهن، بل لهن ولسائر نساء الأمة:
الأولى: تعليل الأمر بالحجاب بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وذلك(24/33)
ص -35- ... أنه إذا قيل ذلك فيهن مع ما أكرمهن الله به من الطهارة والبعد عن الريبة، فإن غيرهن من نساء الأمة اللاتي لم يظفرن بمثل ما ظفرت به أمهات المؤمنين من باب أولى.
والثانية: في قوله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]، لأن الأمر بالإدناء عليهن من الجلابيب، كما أُمر به أمهات المؤمنين فقد أُمر به بناته صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين، وهو يدل على أن الحكم ليس خاصّاً بأمهات المؤمنين بل لهن ولغيرهن".
وأشار بعد ذلك رحمه الله إلى أنه لو كان الحكم خاصاً بهن على سبيل الفرض فإنهن قدوة حسنة لغيرهن من النساء، فقال (6/592): "وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن(24/34)
ص -36- ... الرجال الأجانب، علمت أن القرآن دلّ على الحجاب، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامّة وعدم التدنس بأنجاس الريبة، فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم، من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، مريض القلب كما ترى".
ومن أوضح ما يستدل به من السّنّة على وجوب تغطية المرأة وجهها عن الرجال الأجانب، ما جاء فيها أن النساء يغطين أقدامهن، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمة: فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبراً"، فقالت:(24/35)
ص -37- ... إذن تنكشف أقدامهن. قال: "فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه". رواه أهل السنن وغيرهم، وقال الترمذي (1731) هذا حديث حسن صحيح.
فإن مجيء الشريعة بتغطية النساء أقدامهن يدل دلالة واضحة على أن تغطية الوجه واجب، لأنه موضع الفتنة والجمال من المرأة، وتغطيته أولى من تغطية الرجلين.
والمرأة الحرة في الصلاة تغطي جميع بدنها إلاّ وجهها، وهذا الذي ذكره الشيخ رحمه الله قد عزاه في المغني (2/326) إلى مذهب الإمام أحمد، وذكر له رواية أخرى، وهي جواز كشف الكفين أيضاً وعزاه إلى مالك والشافعي، وعزا إلى أبي حنيفة جواز كشف القدمين مع الوجه واليدين، وإذا كان عند المرأة رجال أجانب وهي تصلي فإنها تغطي وجهها، قال في المغني (2/331): "قال ابن عبد البر: وقد أجمعوا على أن على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام".(24/36)
ص -38- ... والاقتصار على كشف الوجه في الصلاة، وهو الذي أجمع عليه العلماء هو الأولى والأحوط.
وأما الأمَة فإنها إذا صلت مكشوفة الرأس فإن صلاتها صحيحة في قول عامة أهل العلم إلاّ الحسن كما حكاه في المغني (2/331) وفي كشف غير الرأس خلاف بين أهل العلم، والأولى للأمة أن تكون كالحرّة في الاحتشام والستر في جميع أحوالها في الصلاة وغيرها.
قوله: [الشرط السابع: دخول الوقت، والدليل من السّنّة حديث جبريل عليه السلام أنه أمّ النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت وفي آخره فقال: "يا محمد الصلاة بين هذين الوقتين" وقوله تعالى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]، أي: مفروضاً في الأوقات، ودليل الأوقات قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ(24/37)
ص -39- ... الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] " ].
يشترط لصحّة الصلاة أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، فلا يجوز أن تصلى قبل أوقاتها، وإن صليت وجب إعادتها ولا يجوز تأخيرها عن وقتها، فلو أخرها حتى خرج وقتها، فإن كان لنوم لا تفريط معه أو نسيان قضاها ولا إثم عليه، وإن كان لغير ذلك أثم وقضاها.
وحديث إمامة جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في يومين، جاء عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس وجابر وهو عند أبي داود (393-394)، والترمذي (149-150)، وانظر التعليق على حديث (3081) وحديث (11249) من مسند الإمام أحمد، ومن أوضح ما جاء في بيان أوقات الصلوات الخمس، حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في صحيح مسلم (612) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل(24/38)
ص -40- ... الرجل كطوله، ما لم تحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفرّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني الشيطان".
قوله: [الشرط الثامن: استقبال القبلة، والدليل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] ].
يشترط في أداء الصلوات أن تكون إلى جهة القبلة، وهي الكعبة المشرّفة، فإن كان في حضر أو كان لديه من يخبره بجهة القبلة وجب عليه السؤال عن جهتها، ولا يجوز له أن يصلي باجتهاد منه، ولديه من يخبره، فإن صلّى وكان إلى غير جهة القبلة وجب عليه(24/39)
ص -41- ... الإعادة، أما إن كان في سفر فإنه يجتهد في معرفة جهتها، فإن صلّى وتبيّن أن الصلاة إلى غير جهة القبلة، فإن صلاته صحيحة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ويجوز للمسافر أن يصلي النوافل كلها على مركوبه إلى غير جهة القبلة، وقد ثبتت السّنّة في ذلك عن جماعة من الصحابة منها: حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يسبّح، يومىء برأسه قبل أي وجه توجه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة" رواه البخاري (1097) ومسلم (701)، وإذا أراد المسافر النافلة على الدابة استقبل القبلة عند دخوله فيها ثم توجه إلى أي جهة يريد، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند أبي داود (1225): "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبّر ثم صلّى حيث وجهه ركابه"، قال الحافظ ابن حجر في البلوغ: وإسناده(24/40)
ص -42- ... حسن. وقال شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في حاشيته عليه (1/176): "هو كما قال المؤلف، رجاله ثقات لا بأس بهم، وبذلك يكون هذا الحديث مخصّصاً للأحاديث الأخرى المطلقة في استقباله صلى الله عليه وسلم جهة سيره في السفر".
قوله: [الشرط التاسع: النية، ومحلها القلب والتلفظ بها بدعة، والدليل حديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى" ].
النية في الصلاة وغيرها من العبادات شرط، فلا تصح الصلاة بدون نية، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907)، وبالنية يكون التمييز بين فرض وفرض، وفرض ونفل، وقد تقدّم عند ذكر شرط النية من شروط الوضوء أنه لا يجوز تلفظ الإنسان بما نواه، إلاّ في مناسك الحج فيجوز أن يتلفظ بما نواه فيقول: "لبيك عمرة أو لبيك حجّاً أو لبيك عمرة وحجّاً"(24/41)
ص -43- ... أركان الصلاة
قوله: [وأركان الصلاة أربعة عشر: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في جميع الأركان، والترتيب، والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليمتان].
ركن الشيء في اللغة جانبه الأقوى، والصلاة في اللغة الدعاء، وفي الشرع: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وأركان الصلاة من أجزائها، والفرق بين الشرط والركن، أن ركن الشيء جزء منه داخل فيه، وأما الشرط، فليس من أجزائه، بل هو إما متقدّم عليه ومصاحب له كالطهارة، أو مصاحب له كاستقبال القبلة.(24/42)
ص -44- ... قوله: [الركن الأول: القيام مع القدرة، والدليل قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ].
يجب في صلاة الفرض أن يصلي المرء قائماً إذا كان قادراً على القيام، ومن صلى جالساً مع قدرته عليه لم تصح صلاته، ويدل لذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب". رواه البخاري (1117).
أما في صلاة النافلة، فيجوز أن يصليها وهو جالس، وأجره على النصف من أجر القائم، والأفضل أن يصليها قائماً ليحصل الأجر كاملاً، لحديث عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في ذلك، أخرجه مسلم (735)، وإذا لم يستطع المريض أن يصلي قائماً، فصلى الفرض والنفل جالساً فله الأجر(24/43)
ص -45- ... كاملاً، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى رضي الله عنه: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً". رواه البخاري (2996).
قوله: [الثاني تكبيرة الإحرام، والدليل حديث: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" ].
تكبيرة الإحرام، أول تكبيرات الصلاة، وهي في الصلاة كالإحرام في الحج والعمرة، وإنما سميت تكبيرة الإحرام لأنه يحرم على المصلي إذا دخل في صلاته بهذه التكبيرة، أمورٌ كانت حلالاً له قبل ذلك كالأكل والشرب والكلام وغير ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم". رواه الترمذي وغيره عن علي رضي الله عنه وقال (3): هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن. وانظر إرواء الغليل (301).
قوله: [وبعدها الاستفتاح، وهو سنّة، قول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى(24/44)
ص -46- ... جدك، ولا إله غيرك". ومعنى (سبحانك اللهم): أي أنزهك التنزيه اللائق بجلالك. (وبحمدك): أي ثناء عليك. (وتبارك اسمك): أي البركة تنال بذكرك. (وتعالى جدك): أي جلّت عظمتك. (ولا إله غيرك): أي لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق سواك يا الله].
الاتيان بدعاء الاستفتاح سراً بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة من سنن الصلاة ومستحباتها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصيغ متعدّدة، يأتي المصلي بأحدها في صلاته، ولا يجمع بينها في صلاة واحدة، وهذا الذي ذكره الشيخ أحدها وهو عن عمر وعائشة وأبي سعيد رضي الله عنهم، وانظر إرواء الغليل (340) و(341)، ثم إن الشيخ رحمه الله شرح هذا الدعاء، وفي الجمع بين التسبيح والتحميد تنزيه الله عزّ وجلّ عن كلّ ما لا يليق به، وإثبات كل كمال يليق به، و(تبارك) على وزن تفاعل، من البركة، وكل خير(24/45)
ص -47- ... وبركة إنما ينال بذكره سبحانه وتعالى، كما قال الله عزّ وجلّ: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكر ربّه مثل الحي والميت". رواه البخاري (6407) من حديث أبي موسى رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون المراد بالاسم الأسماء، فيكون من قبيل إضافة المفرد إلى معرفة، فيعم، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}، و(تعالى جدك) هو مثل قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً}، وهذه الكلمات الثلاث، التي جاءت في هذا الدعاء وهي (سبحانك) و(تبارك) و(تعالى)، لا تقال إلاّ لله تعالى، فلا يقال لغيره: سبحانك، وتباركت، وتعاليت، ولا سبحانه وتبارك وتعالى.
قوله: [ (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم): معنى (أعوذ): ألوذ وألتجىء وأعتصم بك يا الله من(24/46)
ص -48- ... الشيطان الرجيم، المطرود، المبعد عن رحمة الله؛ لا يضرّني في ديني، ولا في دنياي].
وبعد الاستفتاح وقبل القراءة يأتي بالاستعاذة، وقد ذكرها الشيخ وشرحها، وقد قال الله عزّ وجلّ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، أي: إذا أردت قراءته، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " وهذا أمر ندب ليس بواجب، حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة".
قوله: [وقراءة الفاتحة ركن في كل ركعة، كما في حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وهي أم القرآن].
قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". رواه البخاري(24/47)
ص -49- ... (756) ومسلم (393). والمأموم يقرؤها خلف إمامه في الصلاة السرية والجهرية، ويدل لقراءتها خلفه في الجهرية حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تقرؤون خلف الإمام والإمام يقرأ"، قالوا: إنا لنفعل ذلك. قال: "فلا تفعلوا، إلاّ أن يقرأ أحدكم بأم الكتاب"، أو قال: "فاتحة الكتاب". رواه أحمد في مسنده (18070) بإسناد صحيح، وجاء مثل ذلك من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث، فأمن تدليسه، رواه أحمد في المسند (22745)، ويجمع بين هذا وبين ما جاء من حديث انتهاء الناس عن القراءة خلف الإمام، وحديث: "من كان له إمام فقراءته قراءة له"، وحديث: "وإذا قرأ فأنصتوا"، بحمل ذلك على قراءة غير الفاتحة.
ثم إن الشيخ رحمه الله فسّر الفاتحة تفسيراً موجزاً(24/48)
ص -50- ... فقال:
[{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: بركة واستعانة].
والمعنى أن المسلم يأتي بالبسملة تبركاً باسم الله ومستعيناً بالله في قراءته، وكذلك الحال في أي شيء يأتي بالتسمية قبله، يأتي بها تبركاً واستعانة، ويقرأ البسملة سرّاً، والبسملة آية من القرآن، وهل هي آية من كل سورة؟ أو آية مستقلة للفصل بين السور، وهل هي آية من سورة الفاتحة أو ليست منها؟ أقوال لأهل العلم، ويدل على أنها من القرآن أن الصحابة أدخلوها في المصحف، ولم يدخلوا فيه إلاّ ما هو قرآن، وجاء في سنن أبي داود بسند صحيح (788) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ".
ولا خلاف بين أهل العلم في أن البسملة بعض(24/49)
ص -51- ... آية في أثناء سورة النمل، وسورة الفاتحة سبع آيات، فمن قال من العلماء إنها آية من الفاتحة عدَّ البسملة في السبع، ومن قال إنها ليست من الفاتحة، جعل السابعة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "قال الله عزّ وجلّ: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي..." الحديث، رواه مسلم عن أبي هريرة (395)، فلم يذكر البسملة فيها.
قوله: [{الْحَمْدُ لِلَّهِ}: الحمد ثناء، والألف واللام لاستغراق جميع المحامد، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه مثل الجمال ونحوه: فالثناء به يسمى مدحاً لا حمداً].
حمد العباد ربّهم عبادةٌ، وهو من توحيد الألوهية(24/50)
ص -52- ... الذي هو توحيد الله بأفعال العباد، والله سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء على كل نعمة حصلت للعباد، سواء كان لأحد من العباد سبب فيها أو لم يكن، لأن الفضل في ذلك كلِّه لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك"، فجميع المحامد على الحقيقة لله فهو سبحانه وحده المحمود على كل حال، وأما العباد، فما كان منهم من جميل اختياري كالبر والإحسان وفعل المعروف فإنهم يحمدون ويثنى عليهم فيه، وما كان فيهم من جميل لا صُنع لهم فيه، كالجمال وحُسن الخِلقة فإنهم يُمدحون فيه ولا يحمدون عليه.
قوله: [{رَبِّ الْعَالَمِينَ}: الرب: هو المعبود، الخالق، الرازق، المالك، المتصرف، مربي جميع الخلق(24/51)
ص -53- ... بالنعم. "العالمين": كل ما سوى الله عالم وهو رب الجميع].
وهذا فيه توحيد ربوبيته وأسمائه وصفاته، فإن توحيد الربوبية، توحيده بأفعاله سبحانه وتعالى، فهو واحد في الخلق والرَّزق والإحياء والإماتة، لا شريك له في ربوبيته، ولا شريك له في ألوهيته، وله سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وقد جاء في هذه الآية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} اسمان من أسماء الله وهما "الله، والرب"، وقد قال الله عزّ وجلّ: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
قوله: [ {الرَّحْمَنِ}: رحمة عامة جميع المخلوقات. {الرَّحِيمِ}: رحمة خاصة بالمؤمنين، والدليل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ].
الرحمن والرحيم: اسمان من أسماء الله، وهما يدلان على صفة من صفاته وهي الرحمة، وأسماء الله(24/52)
ص -54- ... عزّ وجلّ كلّها مشتقة، تدل على معان هي الصفات، فيؤخذ من كل اسم من أسمائه صفة من صفاته، والرحمن أعم من الرحيم؛ وهو لا يطلق إلاّ على الله، فلا يقال لغيره رحمن، وأما الرحيم، فيطلق على الله وعلى غيره، وقد قال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
قوله [{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: يوم الجزاء والحساب، يوم كل يجازى بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 17-19]، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها(24/53)
ص -55- ... وتمنى على الله الأماني].
الله سبحانه وتعالى مالك كل شيء، وهو مالك الدنيا والآخرة، وإنما خصّ يوم الدين هنا بأن الله مالكه، لأنه اليوم الذي يخضع فيه الخلائق لرب العالمين، وهذا بخلاف الدنيا، فإنه وُجد فيها من عتى وتجبّر، وقال: (أنا ربكم الأعلى)، وقال: (ما علمت لكم من إله غيري)، والحديث الذي ذكره الشيخ أخرجه الترمذي (2459) وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف.
قوله: [{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: أي لا نعبد غيرك، عهد بين العبد وبين ربّه ألاّ يعبد إلاّ إياه. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: عهد بين العبد وبين ربّه ألاّ يستعين بأحد غير الله].
قال الله عزّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وتقديم المفعول وهو(24/54)
ص -56- ... (إياك) في العبادة والاستعانة، فيه قصر واختصاص، قصر العبادة على الله واختصاصه بها، فلا يُعبد إلاّ الله، ولا يُستعان إلاّ بالله، فلا يطلب العبد العون من الملائكة ولا الجن ولا الغائبين، أما طلبه العون من إنسان حاضر يقدر على إعانته ومساعدته في تحصيل نفع أو دفع ضرٍّ، فهذا سائغ لا محذور فيه.
قوله: [{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }: معنى {اهْدِنَا}: دلنا، وأرشدنا، وثبتنا، و{الصِّرَاطَ}: الإسلام، وقيل: الرسول، وقيل: القرآن، والكل حق، و{الْمُسْتَقِيمَ}: الذي لا عوج فيه].
حاجة العباد إلى الهداية إلى الصراط المستقيم فوق كل حاجة، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، وحاجتهم إليها أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب سبب بقائهم في هذه الحياة الدنيا، وأما هدايتهم الصراط المستقيم فهي(24/55)
ص -57- ... سبب فلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم يتضمن طلب الدلالة والإرشاد إلى طريق الحق والهدى، ويتضمن طلب التوفيق لسلوك الصراط المستقيم، وسؤال العبد ربّه في كل ركعة من ركعات الصلاة الهداية إلى الصراط المستقيم، يتضمن سؤال الله عزّ وجلّ تثبيته على ما حصل له من الهداية، ويتضمن طلب المزيد من الهداية كما قال عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17]، ولا تنافي بين تفسير (اهْدِنَا) بدُلّنا وأرشدنا وثبّتنا، وتفسير الصراط المستقيم بالإسلام، والرسول، والقرآن، لأن ذلك من قبيل اختلاف التنوع، وليس من قبيل اختلاف التضاد، ولهذا قال الشيخ: والكل حق، وتفسيرات السلف غالباً تكون من هذا القبيل، إما تفسيرٌ بألفاظ متقاربة كلها حق، ولا تنافي بينها كما هنا، وإما تفسير بالمثال وهو أن يفسر لفظ عام ببعض أجزائه، مثل(24/56)
ص -58- ... قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:201]، فإن تفسير حسنة الدنيا بالزوجة الصالحة أو الولد الصالح أو المال الطيب، لا منافاة بينها وهو من قبيل التفسير بالمثال.
قوله: [{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}: طريق المنعم عليهم، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}: وهم اليهود‘ معهم علم ولم يعملوا به، تسأل الله أن يجنبك طريقهم، {وَلا الضَّالِّينَ}: وهم النصارى؛ يعبدون الله على جهل وضلال، تسأل الله أن يجنبك طريقهم، ودليل الضالين، قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ(24/57)
ص -59- ... يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103]، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فمن" أخرجاه، والحديث الثاني: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلاّ واحدة".
قلنا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"].
الصراط المستقيم الذي يسأل المسلم ربه أن يهديه إياه، هو طريق المُنعم عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، كما قال عزّ وجلّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:(24/58)
ص -60- ... 153]، وهو يسأل الله عزّ وجلّ في كل ركعة من ركعات صلاته أن يهديه طريق الحق والهدى، وأن يجنّبه طريق أهل الضلالة والغواية من اليهود والنصارى، وحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم..."، رواه البخاري (7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد، وأوله عند البخاري بلفظ: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً"، وعند مسلم بلفظ: "لتتبعن الذين من قبلكم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراع".
وحديث افتراق الأمة جاء عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، انظر تخريجه في التعليق على الحديث رقم (16937) من مسند الإمام أحمد، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (203-204)، وقد نقل تصحيحه عن ابن تيمية والشاطبي والعراقي.
والمراد بالأمة في الحديث أمة الإجابة، وهذه الثلاث والسبعون فرقة مسلمون، فرقة ناجية وهم(24/59)
ص -61- ... الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واثنتان وسبعون فرقة متوعدون بالنار لانحرافهم عن طريق الحق، وأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم، وأما أمة الدعوة، فهم كل إنسي وجنّيّ من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ويدخل فيهم اليهود والنصارى، وسائر ملل الكفر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار". رواه مسلم (386) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر فتاوى شيخ الإسلام (7/218)، وفتاوى اللجنة الدائمة (2/157).
قوله: [والركوع والرفع منه، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والدليل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَ(24/60)
ص -62- ... ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم"، والطمأنينة في جميع الأفعال، والترتيب بين الأركان، والدليل حديث المسيء صلاته عن أبي هريرة قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل رجل فصلى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" فعلها ثلاثاً، ثم قال: والذي بعثك بالحق نبياً، لا أحسن غير هذا، فعلمني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" ].
هذه سبعة من أركان الصلاة كلها أفعال، وقد دلّ عليها جميعها حديث المسيء صلاته، رواه البخاري (757) ومسلم (397) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث(24/61)
ص -63- ... السجود على الأعضاء السبعة أخرجه البخاري (812) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر"، ورواه مسلم أيضاً (490).
والطمأنينة في الأركان: الهدوء وعدم العجلة، فلا ينقر هذه الأفعال، بل يطمئن فيها، سواء طال الاطمئنان أو قصر، وأما الترتيب فيأتي بها مرتّبة، القيام ثم الركوع، ثم الرفع منه، ثم السجود، ثم الجلوس بين السجدتين، فلو سجد ناسياً قبل أن يركع وجب عليه أن يرجع ليأتي بالركوع ثم السجود، ولا يعتدّ بالسجود الذي حصل منه سهواً.
قوله: [والتشهد الأخير ركن مفروض، كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول قبل أن(24/62)
ص -64- ... يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله من عباده، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، ومعنى "التحيات": جميع التعظيمات لله ملكاً واستحقاقاً، مثل: الانحناء والركوع، والسجود، والبقاء والدوام، وجميع ما يعظم به رب العالمين فهو لله، فمن صرف منه شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر، و"الصلوات" معناها: جميع الدعوات، وقيل: الصلوات الخمس، و"الطيبات لله": الله طيب، ولا يقبل من الأقوال والأعمال إلاّ طيبها، "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته": تدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة والرحمة(24/63)
ص -65- ... والبركة، والذي يدعى له ما يدعى مع الله، "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، تسلم على نفسك، وعلى كل عبد صالح في السماء والأرض، والسلام دعاء، والصالحون يدعى لهم ولا يدعون مع الله، "أشهد أن لا إله إلاّ الله" وحده لا شريك له، تشهد شهادة اليقين أن لا يعبد في الأرض ولا في السماء بحق إلاّ الله، وشهادة أن محمداً رسول الله: بأنه عبد لا يعبد، ورسول لا يكذّب، بل يطاع ويتّبع، شرفه الله بالعبودية، والدليل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ].
التشهد الذي يكون قبل السلام من كل صلاة ركن من أركان الصلاة، وهذا هو الركن الحادي عشر، والركن الثاني عشر: الجلوس له، فلو سلّم بعد السجود، ترك ركنين، ولو جلس ونسي أن يتشهد،(24/64)
ص -66- ... ترك ركناً واحداً، وتركهما معاً أو ترك التشهد وحده مبطل للصلاة، والتشهد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بصيغ متعدّدة، يحصل أداء الواجب بأي واحد منها ولا يجمع بينها في صلاة واحدة، والتشهد الذي ذكره الشيخ هو تشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد جاء في بعض رواياته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم إياه كما يعلمهم السورة من القرآن، وسمي تشهداً لأنه خُتم بأشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وهذا التشهد أخرجه البخاري (831) ومسلم (402)، وعند البخاري (6265) بعد ذكر التشهد زيادة: "وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا: السلام - يعني - على النبي صلى الله عليه وسلم" والمعنى: أن الصحابة كانوا يقولون: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" بكاف الخطاب، فلما توفي صاروا يقولون: "السلام على النبي" بالغيبة، لكن جاء في تشهد عمر بن الخطاب(24/65)
ص -67- ... رضي الله عنه في موطأ الإمام مالك (53) بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ، أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر، يعلّم الناس التشهد، يقول: قولوا: "التحيات لله"، وفيه: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، بكاف الخطاب.ففي هذا أن عمر رضي الله عنه كان يعلِّم التشهد وهو على المنبر، ومما علّمه هذه الصيغة.
وهو يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم جاء عنهم هذا وهذا، والأمر في ذلك واسع، فللمصلي أن يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وله أن يقول: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، وقد شرح الشيخ رحمه الله هذا التشهد بهذا الشرح الواضح، وقول الشيخ رحمه الله في معنى "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته": "تدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة والرحمة والبركة، والذي(24/66)
ص -68- ... يدعى له ما يدعى مع الله".
وقوله في معنى: "السلام على عباد الله الصالحين": "والسلام دعاء والصالحون يدعى لهم ولا يدعون مع الله".
في هذا تقرير توحيد الألوهية، وأن الدعاء عبادة، وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدعاء هو العبادة". رواه أبو داود (1479) وغيره بسند صحيح، فلا يدعى إلاّ الله، ولا يستغاث بأحد سواه، كما قال الله عزّ وجلّ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، والنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المرسلين، والملائكة والصالحين، يدعى لهم الله، ولا يدعون مع الله، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يدعى ويرجى، وغيره يدعى(24/67)
ص -69- ... له ولا يدعى، وقوله رحمه الله: "وشهادة أن محمداً رسول الله: بأنه عبد لا يعبد ورسول لا يكذّب، بل يطاع ويتّبع"، المعنى: أن من شأن العبد أن يكون عابداً لا معبوداً، ومن شأن الرسول أن يكون مصدَّقاً ومطاعاً ومتبوعاً، وقد قال رحمه الله في كتابه "الأصول الثلاثة": ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر وألاّ يعبد الله إلاّ بما شرع.
وقوله: [ومعنى "التحيات": جميع التعظيمات لله ملكاً واستحقاقاً، مثل الانحناء، والركوع، والسجود، والبقاء، والدوام، وجميع ما يعظم به رب العالمين فهو لله، فمن صرف منه شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر].
العبادة حق الله كما قال الله عزّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ(24/68)
ص -70- ... وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ...} [النحل:36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، فيجب صرف جميع أنواع العبادة لله، ولا يجوز صرف شيء منها لغيره تعالى، فالصلاة لله، والركوع والسجود لله، والاستغاثة بالله، والدعاء لله والتوكل على الله، والاستعاذة بالله، وهكذا جميع أنواع العبادة لله، قال الله عزّ وجلّ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]، ومن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، فهو مشرك كافر، وهذا الحكم إنما هو على الإطلاق وعلى من بلغته الحجة، وأما الشخص المعين فإذا حصل منه صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كدعاء الأموات والاستغاثة بهم، وهو جاهل فإنه يتوقّف في تكفيره حتى يُبَيَّن له وتقام عليه الحجّة، وهذا أحد(24/69)
ص -71- ... قولين في المسألة، ذكرهما شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله في جواب سؤال عن بعض أهل البدع، جاء فيه: "كذلك التوسل بالأولياء قسمان: الأول: التوسل بجاه فلان أو حق فلان، هذا بدعة وليس كفراً. التوسل الثاني:هو دعاؤه بقوله: يا سيدي فلان انصرني أو اشف مريضي، هذا هو الشرك الأكبر وهذا يسمونه توسلاً أيضاً، وهذا من عمل الجاهلية، أما الأول فهو بدعة، ومن وسائل الشرك، قيل له: وقولهم: إنما ندعوه لأنه ولي صالح وكل شيء بيد الله وهذا واسطة. قال: هذا عمل المشركين الأولين، فقولهم: مدد يا بدوي، مدد يا حسين، هذا جنس عمل أبي جهل وأشباهه، لأنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، هذا الدعاء كفر وشرك بالله عزّ وجلّ، لكن اختلف العلماء هل يكفر صاحبه أم ينتظر(24/70)
ص -72- ... حتى تقام عليه الحجّة وحتى يبيّن له، على قولين: أحدهما: أن من قال هذا يكون كافراً كفراً أكبر لأن هذا شرك ظاهر لا تخفى أدلّته، والقول الثاني: أن هؤلاء قد يدخلون في الجهل وعندهم علماء سوء أضلّوهم، فلابد أن يبين لهم الأمر ويوضح لهم الأمر حيث يتضح لهم، فإن الله قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، فإذا وضح لهم الأمر وقال لهم: هذا لا يجوز، قال الله كذا وقال الرسول كذا، بين لهم الأدلة، ثم أصروا على حالهم، كفروا بهذا، وفي كل حال فالفعل نفسه كفر شرك أكبر، لكن صاحبه هو محل نظر هل يكفر أم يقال: أمره إلى الله، قد يكون من أهل الفترة لأنه ما بيّن له الأمر فيكون حكمه حكم أهل الفترات، أمره إلى الله عزّ وجلّ، لأنه بسبب تلبيس الناس عليه من علماء السوء" انتهى. نقلاً من كتاب "سعة رحمة رب العالمين(24/71)
ص -73- ... للجهال المخالفين للشريعة من المسلمين" لسيد بن سعد الدين الغباشي، وفي أول الكتاب رسالة من الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله للمؤلف بتاريخ: 7/5/1403هـ، تتضمن إقرار الكتاب والإذن بطبعه.
والقول الثاني من القولين وهو التوقف في التكفير، قرّره كثيرون من العلماء، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الاستغاثة (2/731): "فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور،(24/72)
ص -74- ... وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلّة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلاّ تفطّن، وقال: هذا أصل الدين، وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين".
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل، سبحانك هذا بهتان عظيم". الدرر السنية (1/66)، وقال أيضاً: "بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا(24/73)
ص -75- ... بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله فهو المسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك". مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (3/34)، وقال أيضاً: "ما ذكر لكم عني أني أكفر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم: إني أقول: من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضاً من البهتان، إنما المراد اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت، ولكن نكفر من أقرّ بدين الله ورسوله ثم عاداه وصدّ الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعدما عرف أنه دين المشركين وزينه للناس، فهذا الذي أكفره وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلاّ رجلاً معانداً أو جاهلاً". مجموع مؤلفات الشيخ (3/33).
وقال أيضاً: "وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر(24/74)
ص -76- ... بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله". مجموع مؤلفات الشيخ (3/14).
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في كتاب "منهاج التأسيس والتقديس ص: 98-99": "والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر،حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها، قال في بعض رسائله: "وإذا كنا لا نقاتل من يعبد قبّة الكواز، حتى نتقدم بدعوته إلى إخلاص الدين لله، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا وإن كان مؤمناً موحداً". وقال: وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال، فقرر أن من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور".(24/75)
ص -77- ... وقال أيضاً رحمه الله في "مصباح الظلام ص: 499": "فمن بلغته دعوة الرسل إلى توحيد الله ووجوب الإسلام له، وفقه أن الرسل جاءت بهذا لم يكن له عذر في مخالفتهم وترك عبادة الله، وهذا هو الذي يجزم بتكفيره إذا عبد غير الله، وجعل معه الأنداد والآلهة، والشيخ وغيره من المسلمين لا يتوقفون في هذا، وشيخنا رحمه الله قد قرّر هذا وبينه وفاقاً لعلماء الأمة واقتداء بهم ولم يكفر إلاّ بعد قيام الحجة وظهور الدليل حتى إنه رحمه الله توقف في تكفير الجاهل من عباد القبور إذا لم يتيسر له من ينبهه، وهذا هو المراد بقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله: حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا حصل البيان الذي يفهمه المخاطب ويعقله فقد تبين له". وقال أيضاً في "مصباح الظلام ص: 516": "وشيخنا رحمه الله لم يكفر أحدا ابتداء بمجرد فعله وشركه، بل يتوقف(24/76)
ص -78- ... في ذلك حتى يعلم قيام الحجة التي يكفر تاركها، وهذا صريح في كلامه في غير موضع، ورسائله في ذلك معروفة".
وإنما أفضت بذكر النقول عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في تقرير هذه المسألة، وهي أن تكفير المعين الذي وقع في الشرك في العبادة لجهله، إنما يكون بعد البيان له وإقامة الحجة، لا قبل ذلك، لأن من الجاهلين والحاقدين عليه وعلى دعوته، المبنية على الكتاب والسّنّة، وما كان عليه سلف الأمّة، من يشنع عليه وينفّر من دعوته، برميه بتكفير المسلمين، والتكفير بالعموم، وهو إنما يكفر من قامت عليه الحجة، وبانت له المحجة، ولأن نفراً يسيراً من طلبة العلم من أهل السّنّة فيما علمت يعيبون على من يقرّر ذلك وهو عيب لما قرّره شيخا الإسلام، ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما من أهل(24/77)
ص -79- ... العلم، ومع ذلك فإن الخطأ في العفو في الأمور المشتبهة، خير من الخطأ في العقوبة، وهم في عيبهم القول الذي قرّره الشيخان والحرص على خلافه يفسحون المجال للمتربصين بأهل السّنّة الذين يصطادون في الماء العكر، فيردّدون صدى نعيق أعداء الإسلام والمسلمين، الذين يزعمون أن تطرف من ابتلي بالتفجير والتدمير، راجع إلى دراسة مناهج التعليم المبنية على كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من أهل السّنّة، وهو بهت وزور ممن افتراه أو ردّده، فإن الذين ردّدوا هذا النعيق من أهل هذه البلاد، قد درسوا كما درس غيرهم هذه المناهج، ولم يحصل لهم ضرر منها بل حصل النفع العظيم منها لكل من شاء الله هدايته وتوفيقه، وإنما حصل التطرف من هؤلاء المتطرفين لفهومهم الخاطئة التي شذّوا بها وخرجوا عن جماعة المسلمين، وقدوتهم في ذلك الخوارج الذين(24/78)
ص -80- ... شذّوا وخرجوا على الصحابة نتيجة لفهومهم الخاطئة، ولكل قوم وارث، والله المستعان.
قوله: [ "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد": الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، كما حكى البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاة الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، وقيل: الرحمة، والصواب الأول. ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدعاء].
الركن الثالث عشر من أركان الصلاة: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل كيفيات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الصلاة الإبراهيمية، التي علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إياها عند سؤالهم عن كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت على صيغ متعدّدة، عن جماعة من الصحابة، وأفضلها الكيفية التي جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيها بين الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - وآله، والصلاة على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -(24/79)
ص -81- ... وآله، ففي صحيح البخاري (3370) عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: بلى، فأهدها لي. فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله قد علّمنا كيف نسلم. قال: "قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وقد قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وقد علم الصحابة رضي الله عنهم منه كيفية السلام عليه بالتشهد الذي علّمهم النبي صلى الله عليه وسلم إياه، وفيه "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، فسألوه عن كيفية(24/80)
ص -82- ... الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فأجابهم بالصلاة الإبراهيمية، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " ومعنى قولهم: أما السلام عليك فقد عرفناه، هو الذي في التشهد الذي كان يعلمهم إياه كما كان يعلمهم السورة من القرآن وفيه: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وفي مسند الإمام أحمد (17072)، ومستدرك الحاكم (1/268) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن عنده، فقال: يا رسول الله! أما السلام عليك، فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا صلى الله عليك..." الحديث، وفي إسناده عندهما محمد بن إسحاق، وهو مدلّس، وقد صرّح بالتحديث عن محمد بن إبراهيم التيمي فقال: "وحدثني في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا المرء المسلم صلى عليه(24/81)
ص -83- ... في صلاته محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي"، وفي هذا دليل على أنه يجمع في آخر الصلاة بين السلام والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقل ابن كثير في تفسيره القول بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير عن الإمام الشافعي والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وحديث أبي مسعود رضي الله عنه الذي تقدّم، يدل على ذلك، كما قال ابن كثير رحمه الله، وجمهور العلماء على القول بعدم الوجوب.
وتعجبني قصة لأحد الفضلاء، وهو الشيخ ثاني المنصور رحمه الله من الجبيل في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية سمعتها ممن سمعها منه مضمونها: أنه زار إحدى الدول التي فتن بعض أهلها بالبناء على القبور والغلو في أصحابها، فلقي جماعة في مسجد فيه قبر لمزوه وأهل بلده بأنهم لا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل في بلادكم حانات للخمور وأماكن(24/82)
ص -84- ... للعهر والفجور؟ قالوا: نعم كثيرة!، فقال: إن بلادنا ليس فيها ولا محل واحد، وقال لهم أيضاً: ما حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عندكم في الصلاة؟ قالوا مستحبّة، قال: فإنها عندنا ركن، إذا لم يأت بها المصلي في صلاته، لا تصح صلاته، فمن يكون الأولى إذاً بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وما ذكره رحمه الله واضح في المسألة الأولى، وأما المسألة الثانية فالقول بالاستحباب، قول جمهور العلماء كما تقدّم، لكن ما ذكره لا بأس به، لكونه في مقام المجادلة، والاحتجاج على من لمز أهل السّنّة في هذه البلاد بما هم برآء منه براءة الشمس من اللمس، وأقول إضافة إلى ما ذكره، فإن القضاة في هذه البلاد، يقضون بأحكام الشريعة الرفيعة، وأما ذلك البلد وأكثر البلاد الأخرى، فالقضاة فيها يحكمون بالقوانين الوضعية الوضيعة، وفي هذه البلاد كليات عديدة باسم(24/83)
ص -85- ... كلية الشريعة، ومن خريجيها يختار القضاة، وأما البلاد الأخرى، فجلّها إن لم يكن كلها، إذا وجد فيها شيء من ذلك فإنه يطلق عليه اسم كلية الشريعة والقانون، وهذه التسمية تعادل اسم: كلية الحق والباطل.
وفي عام 1397هـ زرت الباكستان فدعاني جماعة من المحامين لإلقاء كلمة، فاقترحت عليهم فيها أن يبحثوا عن مهن أخرى طيبة غير مهنة المحاماة "الوكالة في الخصومة" في محاكم غير شرعية، وزرت الرئيس ضياء الحق رحمه الله وشكرته على الجهود التي كان يبذلها لتطبيق الشريعة الإسلامية، وكان مما قلته له: إن الفرق بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، كالفرق بين الله وخلقه، لأن الشريعة وحي من الله، والقوانين وضع من خلق الله، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يوفق المسلمين لتحكيم شريعة ربهم ليظفروا بسعادة الدنيا والآخرة، وقد قال الله عزّ وجلّ: {أَفَحُكْمَ(24/84)
ص -86- ... الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال في حق أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66]، وقال تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، وقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123-124]، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].
ولا شك أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون في قلب كل مسلم، فوق محبته لأبيه وأمّه وابنه وبنته، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". رواه البخاري (15) ومسلم (169) عن أنس رضي الله عنه، والعلامة.(24/85)
ص -87- ... الواضحة الجلية لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هي اتباعه والسير على نهجه، كما قال الله عزّ وجلّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
قوله: [ "وبارك..." وما بعدها: سننُ أقوالٍ وأفعالٍ].
والمعنى: أن المتعين التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأما (اللهم بارك على محمد) وما بعدها من الذكر، وكذلك الجلوس لهذا الذكر، فسننُ أقوالٍ وأفعالٍ، وسنن الأقوال والأفعال في الصلاة كثيرة، وقد ذكرت في كتب الفقه، ومنها (دليل الطالب) لمرعي بن يوسف (ص:35).
والركن الرابع عشر: التسليمتان، وبهما يكون الخروج من الصلاة، لحديث: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم"، وقد تقدّم.(24/86)
ص -88- ... وقد ذكر ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) (2/358): أن أحاديث الخروج من الصلاة بالتسليمتين جاءت عن خمسة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما بين صحيح وحسن، وذهب بعض أهل العلم إلى الاكتفاء بتسليمة واحدة، والقول بالتسليمتين هو الذي تظافرت عليه الأدلة، وفيه الاحتياط والخروج من الخلاف.
وهذه الأركان الأربعة عشر، خمسة منها قولية، وهي: تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والتشهد الأخير، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليمتان، والبقية فعلية، وقد ذكر الشيخ مرعي بن يوسف في كتابه "دليل الطالب" (33) أركان الصلاة الأربعة عشر وعدّ فيها: التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركناً واحداً، وعدّ فيها الاعتدال قائماً بعد الركوع، واعتباره ركناً جاء النص عليه في حديث المسيء في صلاته،(24/87)
ص -89- ... ففيه: "ثم ارفع حتى تعتدل قائماً"، والشيخ الإمام اعتبر الاعتدال قائماً بعد الركوع مع الرفع من الركوع ركناً واحداً، فكأنه يقول: والرفع منه حتى يعتدل قائماً.(24/88)
ص -90- ... واجبات الصلاة
قوله: [والواجبات ثمانية: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وقول: "سبحان ربي العظيم" في الركوع، وقول: "سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد، وقول: "ربنا ولك الحمد" للكل، وقول: "سبحان ربي الأعلى" في السجود، وقول: "رب اغفر لي" بين السجدتين، والتشهد الأول، والجلوس له].
هذه الواجبات كلها قولية إلاّ واحداً منها، فهو فعليّ، وهو الجلوس للتشهد الأول، وقد ذكر ابن قدامة في المغني (2/180) أن وجوب هذه السبعة القولية هو المشهور عن أحمد، وأن القول بعدم وجوبها قول أكثر الفقهاء، قال: "والمشهور عن أحمد أن تكبير الخفض والرفع، وتسبيح الركوع والسجود، وقول: سمع الله لمن حمده، وربنا ولك الحمد، وقول: ربي اغفر لي بين السجدتين، والتشهد الأول، واجب وهو قول(24/89)
ص -91- ... إسحاق وداود، وعن أحمد أنه غير واجب، وهو قول أكثر الفقهاء".
ومما استدل به ابن قدامة في المغني على الوجوب قوله: "وقد روى أبو داود عن عليّ بن يحيى بن خلاد عن عمه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ" إلى قوله: "ثم يكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حتى يستوي قائماً ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى يطمئن ساجداً، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته"، وهذا نص في وجوب التكبير". والحديث في سنن أبي داود (857) بإسناد صحيح.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله التسميع للإمام والمنفرد دون المأموم، وهو الصحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، وفيه قوله: "وإذا قال:(24/90)
ص -92- ... سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". أخرجه البخاري (732-734) عن أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديثين: "فقولوا: ربنا ولك الحمد"، ولم يقل: فقولوا: سمع الله لمن حمده، وذهب بعض أهل العلم إلى أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده، مستدلاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مالك بن الحويرث: "وصلوا كما رأيتموني أصلي". أخرجه البخاري (631)، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "سمع الله لمن حمده" فالمأمومون يقولون: سمع الله لمن حمده، لكن حديث: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد" مخصِّص لحديث: "وصلوا كما رأيتموني أصلي"، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن". رواه البخاري (611) ومسلم (383) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد خُصَّ من الحديث: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" فإنه يقال(24/91)
ص -93- ... عندهما: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله كما في صحيح مسلم (385) عن عمر رضي الله عنه.
قوله: [فالأركان: ما سقط منها سهواً أو عمداً بطلت الصلاة بتركه، والواجبات: ما سقط منها عمداً بطلت الصلاة بتركه، وسهواً جبره السجود للسهو، والله أعلم].
أركان الصلاة وواجباتها ومستحباتها، كلّها من أجزائها وهي داخلة تحت التعريف الشرعي للصلاة، وهو: "أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم"، وبين الأركان والواجبات والمستحبات فرق، فإن الأركان يتعيّن الاتيان بها، ولا تسقط إذا تركها سهواً أو عمداً، وأما الواجبات، فتعمد تركها يبطل الصلاة، وتركها سهواً يجبر بسجود السهو، وأما المستحبات، مثل دعاء الاستفتاح، والاستعاذة، فإن من أتى بها أثيب، ومن تركها لا(24/92)
ص -94- ... يعاقب إلاّ إذا كان تركه إياها رغبة عن السّنّة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن رغب عن سنّتي فليس منّي". رواه البخاري (5063) ومسلم (1401)، فإن لفظ السّنّة في هذا الحديث أوسع إطلاقات لفظ السّنّة، فإن المراد به طريقته وما كان عليه صلى الله عليه وسلم، ويشمل ذلك كل ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا آخر ما تيسّر تحريره في شرح شروط الصلاة وأركانها وواجباتها لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يغفر له ويجزل له الأجر والثواب على جهوده العظيمة في نصرة الدين والدعوة إلى التمسّك بالكتاب والسّنّة وما كان عليه سلف الأمّة، وأسأله تعالى أن يوفّق المسلمين للفقه في الدين والثبات على الحق إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(24/93)
ص -95- ... المحتويات
المقدمة 3
شروط الصلاة 4
شروط الوضوء 9
فروض الوضوء 12
حكم التسمية في الوضوء 20
نواقض الوضوء 21
عود إلى بقية شروط الصلاة 29
أركان الصلاة 43
واجبات الصلاة 90(24/94)
عنوان الكتاب:
عشرون حديثا من صحيح البخاري دراسة اسانيدها وشرح متونها
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
الأولى، 1409هـ(25/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى ى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذه دراسة لعشرين حديثا من كلام النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم انتقيتها من صحيح الإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، راعيت في انتقائها أن تكون أسانيدها ومتونها مشتملة على فوائد جمة، وجعلت الكلام في كل حديث مشتملا على أربعة مباحث:
المبحث الأول، تخريج الحديث: ذكرت فيه المواضع التي أورده البخاري فيها، وذكرت أسانيدها غالبا، وذكرت من خرجه من الأئمة سواه مع العزو إلى الكتاب المخرج فيه.
المبحث الثاني ، التعريف برجال الإسناد: أوردت فيه ترجمة موجزة لكل راو تشتمل غالبا على نسبه ووطنه وبعض الذين روى عنهم وبعض الذين رووا عنه وبعض ما نقل في توثيقه والثناء عليه وبيان من خرج حديثه وسنة وفاته، وعند الترجمة للصحابي الذي روى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذكر عدد ما له من الحديث في الصحيحين وكتب السنن الأربعة مع بيان المتفق عليه عند الشيخين منها وما انفرد به كل منهما على نحو ما ذكره الخزرجى في خلاصة تذهيب الكمال.
المبحث الثالث، لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث: وهو من أهم المباحث إذ هو بمثابة تطبيق لعلم مصطلح الحديث، وفيه نكت بديعة وطرائف حديثية ممتعة.(25/2)
ص -4- ... المبحث الرابع، شرح الحديث: حاولت في هذا المبحث إبراز الكثير من معاني المتن، وختمته بالحديث عن فقه الحديث وما يستنبط منه. وكثير من مادة هذا الكتاب مستفاد من مؤلفات الحافظ ابن حجر رحمه الله كتهذيب التهذيب، وتقريبه، وفتح الباري ومقدمته، وقد عزوت إليه غالبا ولم أعز إليه في بعض الأحيان للتصرف في عبارته بالزيادة أو النقص. وقد مهدت للكلام على هذه الأحاديث بذكر ترجمة مختصرة للإمام أبى عبد الله البخاري رحمه الله، وتعريف موجز بكتابه الجامع الصحيح.
والله أسأل أن يتقبل من المقل جهده، وينفع به طلاب العلم، إنه جواد كريم.
جمادى الأولى1390 هـ عبد المحسن بن حمد العباد(25/3)
ص -5- ... ترجمة موجزة للإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله
نسبه: هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَردِزبه الجعفي. فجده بزدزبه ضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وكسر الدال المهملة وسكون الزاى المعجمة وفتح الباء الموحدة بعدها هاء، قال الحافظ ابن حجر هذا هو المشهور في ضبطه، وبردزبه في الفارسية الزراع كذا يقول أهل بخارى، وكان بردزبه فارسيا على دين قومه انتهى.
وجده المغيرة بن بردزبه أسلم على يدي يمان البخاري والى بخارى ويمان جعفي فنسب إليه لأنه مولاه من فوق، عملا بمذهب من يرى أن من أسلم على يدي شخص كان ولاؤه له.
وجده إبراهيم، قال الحافظ ابن حجر إنه لم يقف على شيء من أخباره..
وأبو إسماعيل ترجم له ابن حبان في الثقات، وقال: إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري يروى عن حماد بن زيد ومالك، وروى عنه العراقيون، وترجم له الحافظ في تهذيب التهذيب.
متى وأين ولد: ولد رحمه الله في بخارى، وهي من أعظم مدن ما وراء النهر في يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة.(25/4)
ص -6- ... نشأته وبدؤه طلب العلم: توفي والده وهو صغير، فنشأ في حجر أمه، وأقبل على طلب العلم منذ الصغر، وقد تحدث عن نفسه فيما ذكره الفربري عن محمد بن أبى حاتم وراق البخاري قال: سمعت البخاري يقول: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ قال: عشر سنين أو أقل، إلى أن قال: فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، يعنى أصحاب الرأي، قال ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج- فلما طعنت في ثمان عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين، ثم صنفت التاريخ بالمدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتبه في الليالي المقمرة، قال: وقل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة، إلا إني كرهت أن يطول الكتاب.
رحلته في طلب العلم وسماعه الحديث: اشتغل وهو صغير في طلب العلم وسماع الحديث فسمع من أهل بلده من مثل محمد بن سلام ومحمد بن يوسف البيكنديين وعبد الله بن محمد المسندي وغيرهم، ثم حج هو وأمه وأخوه أحمد وهو أسن منه سنة عشر ومائتين، فرجع أخوه بأمه وبقى في طلب العلم، فسمع بمكة من الحميدي وغيره، وبالمدينة من عبد العزيز الأويسي وغيره، ثم رحل إلي أكثر محدثي الأمصار في خراسان والشام ومصر ومدن العراق وقدم بغداد مراراً واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علمي الرواية والدراية، وسمع ببلخ من مكي بن إبراهيم وغيره، وبمرو من على بن الحسن وعبد الله بن عثمان وغير هما، وبنيسابور من يحي بن يحي وغيره، وبالري من إبراهيم بن موسى وغيره، وببغداد من سريج بن النعمان وأحمد بن حنبل وغير هما، وبالبصرة من أبى عاصم النبيل ومحمد بن عبد الله الأنصاري وغير هما، وبالكوفة من طلق بن غنام وخلاد بن يحي وغير هما، وبمصر من سعيد بن كثير بن عفير وغيره، وسمع من أناس كثيرين غير هؤلاء، ونقل عنه أنه قال كتبت عن ألف وثمانين نفسا ليس فيهم إلا صاحب حديث. وقال أيضا لم أكتب إلا عمن قال الإيمان(25/5)
قول وعمل.(25/6)
ص -7- ... ذكاؤه وقوة حفظه: وكان رحمه الله قوي الذاكرة سريع الحفظ، ذكر عنه المطلعون على حاله ما يتعجب منه الأذكياء ذوو الحفظ والإتقان فضلا عمن سواهم، فقد قال عنه أبو بكر الكلوذاني: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل، كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الحديث من مرة واحدة.
وقال محمد بن أبى حاتم وراق البخاري: قلت لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل: تحفظ جميع ما أدخلته في المصنف قال: لا يخفي عليّ جميع ما فيه.
وقال محمد بن حمدويه: سمعت البخاري يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح.
وقال محمد بن الأزهر السجستاني: كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم ما له لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه.
ولعل من أعجب ما نقل عنه في ذلك ما قاله الحافظ أبو أحمد بن عدى - كما في تاريخ بغداد ووفيات الأعيان وغير هما- سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمداً بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن(25/7)
ص -8- ... آخر فقال: لا أعرفه، فما زال يلقى عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول لا أعرفه، فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل فهم، ومن كان منهم غير ذلك يقضى على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم، ثم انتدب رجل آخر من العشرة وسأله كما سأله الأول والبخاري رحمه الله يجيب بما أجاب به الأول، ثم الثالث والرابع حتى فرغ العشرة مما هيأوه من الأحاديث، فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فقلت: كذا، وصوابه كذا، وحديثك الثاني قلت: كذا، وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
وعند ذكر هذه القصة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: هنا يخضع للبخاري، فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة.
نماذج من ثناء الناس عليه رحمه انته: وقد كان البخاري رحمه الله موضع التقدير من شيوخه وأقرانه، تحدثوا عنه بما هو أهله وأنزلوه المنزلة التي تليق به، وكذلك غيرهم ممن عاصره أو جاء بعده.
وقد جمع مناقبه الحافظان الكبيران الذهبي وابن حجر العسقلاني في مؤلفين خاصين، كما ذكر ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ، وابن حجر في تهذيب التهذيب.
ولعل من المناسب هنا ذكر بعض النماذج من ذلك:
قال أبو عيسى الترمذي. كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير فقال له لما قام: يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة، فاستجاب الله تعالى له فيه.(25/8)
ص -9- ... ويقول الإمام البخاري: كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب يقول: بين لنا غلط شعبة.
وقال محمد بن أبى حاتم وراق البخاري سمعت يحي بن جعفر البيكندي يقول: لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت، فان موتى يكون موت رجل واحد وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم.
وقال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل، ولما بلغ على بن المديني قول البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند على بن المديني، قال لمن أخبره: دع قوله، ما رأى مثل نفسه.
وقال رجاء بن رجاء: هو- يعنى البخاري- آية من آيات الله تمشى على ظهر الأرض.
وقال أبو عبد الله الحاكم في تاريخ نيسابور: هو إمام أهل الحديث بلا خلاف بين أهل النقل.
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري.
ويقول الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: وكان رأسا في الذكاء، رأساً في العلم، رأسا في الورع والعبادة، ويقول في كتابه العبر: وكان من أوعية العلم يتوقد ذكاء، ولم يخلف بعده مثله رحمة الله عليه.
وقال الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: هو إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه، وقال: وقد كان(25/9)
ص -10- ... البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء والرغبة في الآخرة دار البقاء.
وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: هو إمام المسلمين وقدوة الموحدين وشيخ المؤمنين والمعول عليه في أحاديث سيد المرسلين وحافظ نظام الدين.
وقال محمد بن يعقوب بن الأخرم: سمعت أصحابنا يقولون: لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل على الخيل سوى من ركب بغلا أو حمارا وسوى الرجالة:
هذا غيض من فيض مما قيل في الإمام أبى عبد الله البخاري رحمه الله تعالى برحمته الواسعة.
مصنفاته: وقد اتحف الإمام البخاري رحمه الله المكتبة الإسلامية بمصنفات قيمة نافعة، أجلها وعلى رأسها كتابه الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي.
ومنها الأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة، والقراءة خلف الإمام، وبر الوالدين، والتأريخ الكبير والأوسط والصغير، وخلق أفعال العباد، والضعفاء، والجامع الكبير، والمسند الكبير، والتفسير الكبير، وكتاب الأشربة، وكتاب الهبة، وأسامي الصحابة، إلى غير ذلك من مؤلفاته الكثيرة التي أورد كثيرا مخها الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة فتح الباري..
عناية العلماء بترجمته ونقل أخباره رحمه الله: لما قام الإمام البخاري رحمه الله بالعناية التامة في تدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيتها من الشوائب، وتجريد(25/10)
ص -11- ... الأحاديث الصحيحة جعل الله له لسان صدق في الآخرين، فما زال الناس منذ عمره، ولا يزالون يثنون عليه ويترحمون عليه ويولون كتابه الجامع الصحيح العناية التامة، وما من مؤلف في التاريخ وتراجم الرجال إلا ويزين مؤلفه بذكر ترجمته والتنويه بشأنه ونقل أخباره رحمه الله.
فهذا الحافظ الذهبي رحمه الله يترجم له في تذكرة الحفاظ ويقول بعد نقل شيء من مناقبه قلت: قد أفردت مناقب هذا الإمام في جزء ضخم فيه العجب.
وهذا الحافظ ابن حجر يترجم له في تهذيب التهذيب، ويقول في ترجمته. قلت: مناقبه كثيرة جداً قد جمعتها في كتاب مفرد، ولخصت مقاصده في آخر الكتاب الذي تكلمت فيه على تعاليق الجامع الصحيح.
وقد ترجم له أيضاً في آخر كتابه هدى الساري مقدمة فتح الباري، ونقل شيئا من ثناء مشايخه وأقرانه عليه. ثم قال: ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفنى القرطاس ونفدت الأنفاس، فذاك بحر لا ساحل له.
وذكره الحافظ ابن كثير فما تاريخه البداية والنهاية في أعيان سنة ست وخمسين ومائتين وقال: وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه، ولنذكر ههنا نبذة يسيرة من ذلك فذكرها في ثلاث صفحات.
وترجم له ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، وعدد شيئا من مناقبه. ثم قال: واعلم أن مناقب أبى عبد الله كثيرة فلا مطمع نما استيعاب غالبها، والكتب مشحونة وفيما أوردناه مقنع وبلاغ.
ويجدر بهذه المناسبة أن أضع بين يدي القاريء جدولا يوضح بعض الكتب المطبوعة التي اشتملت على ترجمته، وتسمية مؤلفيها، مع ذكر تاريخ(25/11)
ص -12- ... وفياتهم، وعدد صفحات الترجمة وتعيينها من كل كتاب، ليكون راغب الوقوف على أخباره رحمه الله على علم بمظنتها، كما يدرك من ذلك أيضاً المطول منها والمختصر وذلك فيما يلي:
المؤلف وتاريخ وفاته ... اسم الكتاب ... عدد صفحات الترجمة ... الصفحة الأولى ... الجزء ... تاريخ الطبع ومكانه
1-الخطيب البغدادي 463هـ ... تاريخ بغداد ... 31 ... 4 ... 2 ... مصر 1349هـ
2- القاضي محمد بن أبي يعلى526هـ ... طبقات الحنابلة ... 9 ... 271 ... 1 ... مطبعة السنة المحمدية بمصر
3- ابن خلكان681هـ ... وفيات الأعيان ... 3 ... 329 ... 3 ... 1367هـ مصر
4- الحافظ الذهبي748هـ ... تذكرة الحفاظ ... 2 ... 134 ... 2 ... في حيدرأباد بالهند
5- ابن السبكي 771هـ ... طبقات الشافعية كبرى ... 18 ... 2 ... 2 ... 1324هـ مصر
6- الحافظ بن كثير774هـ ... البدايه والنهاية ... 3 ... 24 ... 11 ... مطبعة السعادة بمصر
7- الحافظ ابن حجر العسقلاني852هـ ... هدي الساري ... 17 ... 250 ... 2 ... 1383هـ مصر
8- الحافظ ابن حجر العسقلاني852هـ ... تهذيب التهذيب ... 9 ... 47 ... 9 ... 1326هـ حيدرآباد
9- العليمي الحنبلي927هـ ... المنهج الأحمد ... 4 ... 133 ... 1 ... 1382هـ مصر
10- ابن العماد الحنبلي1089هـ ... شذرات الذهب ... 2 ... 134 ... 2 ... 1350هـ مصر
11- صديق حسن خان1307هـ ... التاج المكلل ... 3 ... 106 ... 0 ... 1382هـ الهند(25/12)
وفاته ومدة عمره: توفي رحمه الله في خَرتَنَك قرية من قرى سمرقند ليلة السبت بعد صلاة العشاء وكانت ليلة عيد الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين.
ومدة عمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما، رحمه الله تعالى.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية: وقد ترك رحمه الله بعده علما نافعا لجميع المسلمين، فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به... " الحديث رواه مسلم.(25/13)
ص -13- ... تعريف موجز بصحيح البخاري
اسمه: اشتهر بين الناس قديما وحديثا تسمية الكتاب الذي ألفه الإمام البخاري رحمه الله في الحديث النبوي (صحيح البخاري).
أما اسمه عند البخاري رحمه الله فالجامع الصحيح كما ذكر ذلك في الباعث له على تأليفه وقد سماه "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه "، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري، وذكر ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث أنه سماه: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ".
السبب الباعث للإمام البخاري على تأليفه: ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري أسبابا ثلاثة دعت الإمام البخاري رحمه الله إلى تأليف كتابه الجامع الصحيح:
أحدها: أنه وجد الكتب التي ألفت قبله بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين، والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لغثه سمين، قال فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب في صحته أمين. كذا ولعله فلا يقال لغثه غث ولا لسمينه سمين.
الثاني: قال: وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهوية، وساق بسنده إليه أنه قال: كنا عند إسحاق بن راهوية فقال:" لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح".
الثالث: قال: وروينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس قال سمعت البخاري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأني واقف بين يديه وبيدي(25/14)
ص -14- ... مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.
مدى عنايته في تأليفه: ولم يأل البخاري رحمه الله جهدا في العناية، في هذا المؤلف العظيم يتضح مدى هذه العناية مما نقله العلماء عنه، فنقل الفربري عنه أنه قال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
ونقل عمر بن محمد البجيري عنه أنه قال: ما أدخلت فيه- يعنى الجامع الصحيح- حديثاً إلا بعد ما استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته.
ونقل عنه عبد الرحمن بن رساين البخاري أنه قال: صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة خرجته من ستمائة ألف حديث وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى.
موضوع الجامع الصحيح: والأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي موضوع كتابه الجامع الصحيح فهي التي وجه عنايته إليها وجعل كتابه مشتملا عليها ويدل لذلك أمور منها:
1- تسميته لكتابه: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.
2- تصريحه بذلك في نصوص كثيرة نقلت عنه، تقدم ذكر بعضها في السبب الباعث له على تأليفه وفي التنويه بمدى عنايته في تأليفه، ومن ذلك غير ما تقدم ما نقله الإسماعيلي عنه أنه قال لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً وما تركت من الصحيح أكثر وروى إبراهيم بن معقل عنه أنه قال: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح- وتركت من الصحيح حتى لا يطول.
محتويات الجامع الصحيح: وصحيح البخاري كما اشتمل على(25/15)
ص -15- ... الأحاديث الصحيحة التي هي موضوع الكتاب، فهو يشتمل أيضاً على ما في تراجم أبوابه من الاستنباط وذكر أقوال السلف ومن التعليقات والموقوفات وغير ذلك مما ليس داخلا في موضوع كتابه.
قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري بعد الإشارة إلى موضوع الكتاب: ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة انتهى.
وبذلك جمع الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح بين الرواية والدراية بين حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها.
التعليقات في صحيح البخاري: التعليق هو حذف راو أو أكثر من أول السند ولو إلى آخر الإسناد، وهو كثير في صحيح البخاري بخلاف صحيح مسلم فإنه فيه قليل جدا.
وقد ألف الحافظ ابن حجر في وصل تعليقات البخاري كتابا أسماه: "تغليق التعليق " واختصر هذا الكتاب في مقدمة الفتح في فصل طويل ذكر فيه تعاليقه المرفوعة والإشارة إلى من وصلها، وكذا المتابعات لالتحاقها بها في الحكم، قال في أوائل الفصل؟ وقد بسطت ذلك جميعه في تصنيف كبير سميته تغليق التعليق ذكرت فيه جميع أحاديثه المرفوعة وآثاره الموقوفة، وذكرت من وصلها بأسانيدي إلى المكان المعلق، فجاء كتابا حافلا وجامعا كاملا- إلى أن قال- وما علمت أحدا تعرض لتصنع في ذلك، وقال نص نهاية الفصل بعد ذكر آخر ما في الصحيح من الأحاديث المعلقة المرفوعة: وقد بينت ما وصله منها في مكان آخر من كتابه مع تعيينه، وما لم يصله هو في مكان آخر من كتابه، ووصله في مكان من كتبه التي هي خارج الصحيح بينته أيضاً، وما لم نقف عليه من طريقه بينت من وصله إلى من علق عنه من الأئمة في تصانيفه إلى آخر كلامه رحمه الله.(25/16)
ص -16- ... وحاصل الحكم على التعليقات أن ما كان منها بصيغة الجزء كقال وروى وجاء ونحو ذلك مما بنى الفعل فيه للمعلوم فهو صحيح إلى من علقه عنه، ثم النظر فيما بعد ذلك، وما كان منها بصيغة التمريض كقيل ورُوى ويُروى ويُذكر ونحو ذلك مما بنى الفعل فيه للمجهول، فلا يستفاد منها صحة ولا ينافيها أيضاً، ذكر معنى ذلك الحافظ ابن كثير في اختصاره لمقدمة ابن الصلاح وقال: لأنه قد وقع من ذلك كذلك وهو صحيح وربما رواه مسلم، وقال الحافظ في مقدمة الفتح بعد ذكر الصيغة الأولى: الصيغة الثانية وهي صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح.
عدد أحاديث صحيح البخاري: قد حرر الحافظ ابن حجر عدد الأحاديث المرفوعة في صحيح البخاري والمعلقة، وأوضح ذلك في مقدمة الفتح إجمالا وتفصيلا، وإليك خلاصة ما انتهي إليه في ذلك على سبيل الإجمال:
1- عدد الأحاديث المرفوعة الموصولة بما فيها المكررة 7397 حديثا
2- عدد الأحاديث المرفوعة المعلقة بما فيها المكررة 1341 حديثا
3- عدد ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات 344 حديثا
4- عدد ما فيه من الموصول والمعلق والمتابعات المرفوعة بالمكررة 9082 حديثا
5- عدد الأحاديث المرفوعة الموصولة بدون تكرار 2602 حديثا
6- عدد الأحاديث المعلقة بدون تكرار 159 حديثا
7- عدد الأحاديث المرفوعة موصولة أو معلقة بدون تكرار 2761 حديثا
وهذه الأعداد إنما هي في المرفوع خاصة دون ما في الكتاب من الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين ومن بعدهم.(25/17)
ص -17- ... وبعد ذكر الحافظ ابن حجر لجملة الأحاديث بدون تكرار قال: وبين هذا العدد الذي حررته والعدد الذي ذكره ابن الصلاح وغيره تفاوت كثير، ويعنى بذلك ما جاء عن ابن الصلاح حيث قال في علوم الحديث: وقد قيل إنها باسقاط المكررة أربعة آلاف حديث ثم إنه علل ذلك بقوله: يحتمل أن يكون العاد الأول الذي قلدوه في ذلك كان إذا رأى الحديث مطولا في موضع ومختصرا في موضع آخر يظن أن المختمر غير المطول إما لبعد العهد به أو لقلة المعرفة بالصناعة، ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير، وحينئذ يتبين السبب في تفاوت ما بين العددين والله الموفق، انتهي كلامه رحمه الله وغفر له وجزاه عن خدمته التامة للسنة وبخاصة أصح الكتب الحديثية خير الجزاء.
السر في إعادة البخاري الحديث الواحد في موضع أو مواضع من صحيحه: معلوم أن الإمام البخاري رحمه الله لم يرد الاقتصار في صحيحه على سرد الأحاديث الصحيحة. وإنما أراد مع جمع الحديث الصحيح استنباط ما اشتمل عليه من حكم وأحكام ولذلك يستنبط من الحديث الحكم ويجعله ترجمة. ثم يورد الحديث تحتها للاستدلال به عليها، ويستنبط منه حكما آخر يترجم به ويورد الحديث مرة أخرى للاستدلال به أيضا فيكون التكرار لغرض الاستدلال، على أنه إذا أعاد الحديث مستدلا به لا يخلى المقام من فائدة جديدة وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه من قبل، وذلك يفيد تعدد الطرق لذلك الحديث، ولهذا قال الحافظ أبو الفضل ابن طاهر المقدسي فيما نقل عنه الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح، وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وذكر الحافظ ابن حجر أن الذي وقع له من ذلك قليل جدا. وقال صاحب كشف الظنون، والتي ذكرها سندا ومتنا محادا ثلاثة وعشرون حديثا.
وللبخاري أغراض أخرى في إعادة الحديث في موضع أو مواضع ذكر كثيرا منها الحافظ في مقدمة الفتح.(25/18)
ص -18- ... تراجم صحيح البخاري: وصف الحافظ ابن حجر تراجم صحيح البخاري بكونها حيرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار، وبكونها بعيدة المنال منيعة المثال انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه، واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه، وقد فصل القول فيها في مقدمة الفتح وذكر أن منها ما يكون دالا بالمطابقة لما يورده تحتها، وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو بعضه أو معناه وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام حيث لا يجزم بأحد الاحتمالين، وكثيرا ما يترجم بأمر لا يتضح المقصود منه إلا بالتأمل كقوله: باب قوله الرجل ما صلينا، فإن غرضه الرد على من كره ذلك، وكثيرا ما يترجم بلفظ يوميء إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة، ويورد في الباب ما يؤدى معناه تارة بأمر ظاهر وتارة بأمر خفي ، وربما اكتفي أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معه أثراً أو آية فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على لشرطه.
لهذه الأمور وغيرها اشتهر عن جمع من الفضلاء قولهم: فقه البخاري في تراجمه.
شرط البخاري في صحيحه: روى الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح بسنده إلى الحافظ أبى الفضل بن طاهر المقدسي أنه قال: شرط البخاري أن يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بثمن الثقات الإثبات ولكون إسناده متصلا غير مقطوع وإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن، وإن لم يكن إلا راو واحد وصح الطريق إليه كفي انتهى. وهذا الذي رواه الحافظ عنه في مقدمة الفتح صرح. به المقدسي نفسه بلفظ قريب منه في أول كتابه بشروط الأئمة الستة.
وقال الحافظ في مقدمة الفتح وفي شرح نخبة الفكر في معرض ترجيح صحيحه على صحيح مسلم: أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن(25/19)
ص -19- ... يكون الراوي قد ثبت لي لقاء من روى عنه ولو مرة واكتفي مسلم بمطلق المعاصرة، وقال في شرح النخبة أيضاً في أثناء تعداد مراتب الصحيح: ثم يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ما وافقه شرطهما لأن المراد به رواتهما مع باقي لشروط الصحيح.
ثناء العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح مسلم بالقبول: قال الحافظ في مطلع مقدمة الفتح: وقد رأيت الإمام أبا عبد الله البخاري في جامعه الصحيح قد تصدى للاقتباس من أنوارهما البهية- يعنى الكتاب والسنة- تقريرا واستنباطا، وكرع من مناهلهما الروية انتزاعا وانتشاطا، ورزق بحسن نيته السعادة فيما جمع حتى أذعن له المخالف والموافق، وتلقى كلامه في الصحيح بالتسليم المطاوع والمفارق، إلى آخر كلامه رحمه الله.
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: وأجمع العلماء على قبوله - يعنى صحيح البخاري- وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام. وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، وأما كتابه الجامع الصحيح فأجل كتب الإسلام بعد كتاب الله.
وقال أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث بعد ذكره أن أول من صنف في الصحيح البخاري ثم مسلم. وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز، ثم قال: ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين صحيحاً وأكثر هما فوائد.
وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد الكتاب العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث انتهى.(25/20)
ص -20- ... وقال الحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه الكمال- فيما نقله في شذرات الذهب: الإمام أبو عبد الله الجعفي مولاهم البخاري صاحب الصحيح، إمام هذا الشأن والمقتدى به فيه والمعول على كتابه بين أهل الإسلام.
وقال الإمام الشوكاني في مطلع كتابه قطر الولي على حديث الولي ، وهو حديث "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " قال: ولا حاجة لنا في الكلام على رجال إسناده فقد أجمع أهل هذا الشأن أن أحاديث الصحيحين أو أحدهما كلها من المعلوم صدقه المتلقي بالقبول المجمع على ثبوته، وعند هذه الإجماعات تندفع كل شبهة ويزول كل تشكيك، وقد دفع أكابر الأئمة من تعرض للكلام على شيء مما فيهما وردوه أبلغ رد وبينوا صحته أكمل بيان، فالكلام على إسناده بعد هذا لا يأتي بفائدة يعتد بها، فكل رواته قد جاوزوا القنطرة، وارتفع عنهم القيل والقال، وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام، أو يتناولهم طعن طاعن، أو توهين موهن انتهى.
هذه أمثلة لكلام العلماء في صحيح البخاري، وبيان علو درجته وتلقى الأمة له ولصحيح مسلم بالقبول.
وجوه ترجيح صحيحه على صحيح مسلم: تقدم ذكر بعض أقوال الأئمة الدالة على تقديم الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم على غير هما وتلقى الأمة لهما بالقبول، وفي بعضها النص على تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم وهو أمر مشهور عند أهل العلم وذلك لأمور:
الأول: أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثون رجلا، المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلا، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا، المتكلم فيه بالضعف منهم مائة وستون رجلا، ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه وإن لم يكن ذلك الكلام قادحا.(25/21)
ص -21- ... الثاني والثالث: أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم، وأن أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز جيدها من موهومها بخلاف مسلم في ا لأمرين.
الرابع: أن البخاري اشترط ثبوت التلاقي بين الراوي ومن روى عنه ولو مرة واكتفي مسلم بمجرد المعاصرة وذلك واضح الدلالة على تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم لما فيه من شدة الاحتياط وزيادة التثبت.
الخامس: أن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم، ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر.
وهذه الوجوه بالإضافة إلى اتفاق العلماء على أن البخاري أعلم بهذا الفن من مسلم وأن مسلما تلميذه وخريجه، وكان يشهد له بالتقدم في هذا الفن والإمامة فيه والتفرد بمعرفة ذلك في عصره. وقد أوضح هذه الوجوه وغيرها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح، وفي شرحه لنخبة الفكر.
وهذا الترجيح لصحيح البخاري على صحيح مسلم المراد به: ترجيح الجملة على الجملة لا كل فرد من أحاديثه على كل فرد من أحاديث الآخر كما أشار إلى ذلك السيوطي في ألفيته بقوله:
وربما يعرض للمفوق ما ... يجعله مساويا أو قدما
ومن أمثلة ذلك كما في شرح النخبة للحافظ ابن حجر: أن يكون الحديث عند مسلم وهو مشهور قاصر عن درجة التواتر لكن حفته قرينة صار بها يفيد العلم فإنه يقدم على الحديث الذي يخرجه البخاري إذا كان فردا مطلقا..
أما ما نقل عن بعض العلماء من تقديم صحيح مسلم على صحيح البخاري فهو راجع إلى حسن السياق وجودة الوضع والترتيب لا إلى الأصحية كما قرر ذلك أهل هذا الشأن.(25/22)
ص -22- ... عدد شيوخ البخاري في الجامع الصحيح وطبقاتهم: ذكر صاحب كشف الظنون أن عدد مشايخ البخاري الذين خرج عنهم في الجامع الصحيح مائتان وتسعة وثمانون، وعدد الذين تفرد بالرواية عنهم دون مسلم مائة وأربعة وثلاثون.
وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن مشايخه منحصرون في خمس طبقات:
الطبقة الأولى: من حدثه عن التابعين مثل محمد بن عبد الله الأنصاري حدثه عن حميد، ومثل مكي بن إبراهيم حدثه عن يزيد بن أبى عبيد، ومثل أبى عاصم النبيل حدثه عن يزيد بن أبى عبيد أيضاً، ومثل عبيد الله بن موسى حدثه عن إسماعيل بن أبى خالد، ومثل أبى نعيم حدثه عن الأعمش، ومثل خلاد بن يحي حدثه عن عيسى بن طهمان، ومثل على بن عياش وعصام بن خالد حدثاه عن حريز بن عثمان، وشيوخ هؤلاء كلهم من التابعين.
الطبقة الثانية: من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين، كآدم بن أبى إياس، وأبى مسهر عبد الأعلى بن مسهر، وسعيد بن أبى مريم، وأيوب بن سليمان بن بلال وأمثالهم.
الطبقة الثالثة: هي الوسطى من مشايخه وهم من لم يلق التابعين بل أخذ عن كبار تبع الأتباع، كسليمان بن حرب وقتيبة بن سعيد ونعيم بن حماد وعلى بن المديني ويحي بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبى بكر وعثمان بن أبى شيبة وأمثال هؤلاء، وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم.
الطبقة الرابعة: رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلا كمحمد بن يحي الذهلي وأبى حاتم الرازي ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة وعبد بن حميد(25/23)
ص -23- ... وأحمد بن النضر وجماعة من نظرائهم، وإنما يخرج عن هؤلاء ما فاته من مشايخه أو ما أ يجده عند غيرهم.
الطبقة الخامسة: قوم في عداد طلبته في السن والإسناد سمع منهم للفائدة، كعبد الله بن حماد الآملي وعبد الله بن أبى العاص الخوارزمي وحسين ابن محمد القباني وغيرهم، وقد روى عنهم أشياء يسيرة وعمل في الرواية عنهم بما روى عثمان بن أبى شيبة عن وكيع قال: "لا يكون الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه"، وعن البخاري أنه قال: "لا يكون المحدث كاملا حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه..."
ثناء العلماء على الرواة المخرج لهم ؤ صحيح البخاري، وانتقاد بعض الحفاظ بعضهم والجواب على ذلك: تقدم في كلام الشوكاني على صحة حديث "من عادى لي وليا" قوله: فكل رواته قد جاوزوا القنطرة وارتفع عنهم القيل والقال وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام أو يتناولهم طعن طاعن أو توهين موهن.
وقال الحافظ في مقدمة الفتح: وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي
يقول في الرجل الذي خرج عنه في الصحيح: "هذا جاز القنطرة"، يعنى بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
وقال الحافظ في شرح نخبة الفكر: ورواتهما- يعنى الصحيحين- قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم، فهم مقدمون على غيرهم في رواياتهم وهذا أصل لا يخرج عند إلا بدليل انتهى.
وقد كان من دأب العلماء أحيانا عند إرادة التعريف ببعض الرواة: الاكتفاء بالقول: بأنه من رجال الصحيحين أو أحدهما.
هذا وقد انتقد بعض الحفاظ نحو الثمانين من رجال صحيح البخاري كما سبقت الإشارة إلى ذلك عند ذكر وجوه ترجيح صحيح البخاري على(25/24)
ص -24- ... صحيح مسلم، وقد عقد الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح فصلا ذكرهم فيه واحدا واحدا، وأجاب عما وجه إليهم من انتقادات، وقال في معرض تعداد الفصول العشرة التي اشتملت عليها المقدمة:- التاسع- في سياق أسماء جميع من طعن فيه من رجاله على ترتيب الحروف، والجواب عن ذلك الطعن بطريق الإنصاف والعدل والاعتذار عن المصنف في التخريج لبعضهم ممن يقوى جانب القدح فيه إما لكونه تجنب ما طعن فيه بسببه، وإما لكونه أخرج ما وافقه عليه من هو أقوى منه، وإما لغير ذلك من الأسباب، وقال في مطلع الفصل المشار إليه: وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولاسيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل تعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي أو في ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، ثم إنه ذكر الأسباب الخمسة التي عليها مدار الجرح وهي البدعة والمخالفة والغلط وجهالة الحال ودعوى الانقطاع في السند، وتكلم على كل منها بالنسبة لرجال الصحيح إجمالا ثم نبه على أمور قدح بها بعض العلماء وهي غير قادحة.
وقال الخطيب البغدادي - كما في قواعد التحديث للقاسمي: ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب.
وقال الحافظ الذهبي في جزء جمعه في الثقات الذين تكلم فيهم بما لا(25/25)
ص -25- ... يوجب ردهم ما نصه: وقد كتبت في مصنفي الميزان عددا كثيرا من الثقات الذين احتج البخاري ومسلم وغير هما بهم، لكون الرجل منهم قد دون اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك، وما زال يمر بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به إلى آخر كلامه رحمه الله.
انتقاد بعض الحفاظ بعض الأحاديث في صحيح البخاري والجواب عن ذلك: ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن الدارقطني وغيره من الحفاظ انتقدوا على الصحيحين مائتين وعشرة أحاديث، اشتركا في اثنين وثلاثين حديثا وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثا وانفرد مسلم عن البخاري بمائة حديث، وقد عقد فصلا خاصا للكلام على الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري أورد فيه الأحاديث على ترتيب الصحيح وأجاب عن الانتقادات فيها تفصيلا، وقد أجاب عنها في أول الفصل إجمالا حيث قال: والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصر هما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، ثم ذكر بعض ما يؤيد ذلك. ثم قال: فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عند هما فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غير هما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل فالأحاديث التي انتقدت عليهما تنقسم أقساما:
الأول: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد.
الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.
الثالث: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها.
الرابع: ما تفرد به الرواة ممن ضعف من الرواة.(25/26)
ص -26- ... الخامس: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله.
السادس: ما اختلف فيه بتعيين بعض ألفاظ المتن.
وفي ضمن ذكره لهذه الأقسام ذكر الجواب عن ذلك في الجملة وأشار إلى بعض الأحاديث المنتقدة التي فصل القول فيها بما يوضح الجواب الإجمالي. ثم قال: فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح وقد حررتها وحققتها وقسمتها وفصلتها، لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر. وقال في نهاية الفصل: هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد المطلعون على خفايا الطرق- إلى أن قال: فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه وجل تصنيفه في عينه وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم.
عناية العلماء بصحيح البخاري: وقصارى القول: أن صحيح البخاري أول مصنف في الصحيح المجرد وهو أصح كتاب بعد كتاب الله العزيز، ورجاله مقدمون في الرتبة على غيرهم وأحاديثه على كثرتها أ ينتقد الجهابذة المبرزون في هذا الفن منها إلا القليل مع عدم سلامة هذا النقد، ومع هذا كله جمع فيه مؤلفه رحمه الله بين الرواية والدراية، وهذه الميزات وغيرها هي السر في إقبال العلماء عليه واشتغالهم فيه وعنايتهم التامة به، فلقد بذل العلماء قديما وحديثاً فيه الجهود العظيمة، وصرفوا في خدمته الأوقات الثمينة، وأولوه ما هو جدير به من اهتمامهم، فكم شارح لجميع ما بين دفتيه بسطا واختصارا، ومقتصر على إيضاح بعض جوانبه، فألفوا في رجاله عموما وفي شيوخه خصوصا، وصنفوا في شرح تراجم أبوابه وغير ذلك من الجوانب التي أفردت بالتأليف.
وكان على رأس المبرزين في هذا الميدان الحافظ الكبير أحمد بن حجر العسقلاني المتوفي سنة 852 هـ، فقد أودع في كتابه العظيم فتح الباري بشرح(25/27)
ص -27- ... صحيح البخاري مع مقدمته ما في العجب، فكما أن مؤلفه رحمه الله أحسن في انتقائه وجمعه غاية الإحسان فقد أحسن الحافظ ابن حجر في خدمته والعناية به تمام الإحسان، وإن نسبته إلى غيره من الشروح كنسبة صحيح البخاري إلى غيره من المصنفات، فرحم الله الجميع برحمته الواسعة وجزاهم خير الجزاء.(25/28)
ص -28- ... الحديث الأول
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه: (باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).
حدثنا سعيد بن عفير قال حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: قال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيبا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطى، ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".
المبحث الأول، التخريج:
هذا الحديث رواه البخاري بتمامه نص ثلاثة مواضع هذا أحدها والثاني في كتاب فرض الخمس حيث قال: حدثنا حبان ابن موسى أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين والله المعطى وأنا القاسم ولا تزال هذه الأمة ظاهرة على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون"، والثالث في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة حيث قال: حدثنا إسماعيل حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أخبرني حميد قال: سمعت معاوية بن أبى سفيان يخطب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطى الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله".
ورواه مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه دون الجملة الأخيرة في موضعين قال نا الأول:
حدثنا أبو بكر بن أبى شيبه حدثنا زيد بن الحباب أخبرني معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يزيد الدمشقى عن عبد الله بن عامر اليحصبى قال(25/29)
ص -29- ... سمعت معاوية يقول إياكم وأحاديث إلا حديثا كان في عهد عمر فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهويقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك الله له فيه ومن أعطيته عن مسألة وشره كان كالذى يأكل ولا يشبع". وقال في الثاني: حدثني حرملة بن يحي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال سمعت معاوية بن أبى سفيان وهو يخطب يقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطى الله".
ورواه في كتاب الإمارة دون الجملة الوسطى فقال: حدثني اسحاق بن منصور أخبرنا كثير بن هشام حدثنا جعفر وهو ابن برقان حدثنا يزيد بن الأصم قال سمعت معاوية بن أبى سفيان ذكر حديثا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمعه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم على منبره حديثا غيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ولاتزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة".
وقد روى الشيخان الجملة الأخيرة فقط في أحاديث أخرى غير هذه الأحاديث المذكورة.
وقال الترمذي في جامعه: باب إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين، حدثنا على بن حجر حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني عبد الله بن سعيد بن أبى هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين". وفي الباب عن عمر وأبي هريرة ومعاوية، هذا حديث حسن صحيح انتهى.
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنه، ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبى هريرة رضي الله عنه بمثل الجملة الأولى عند(25/30)
ص -30- ... الشيخين والترمذى، ورواه أيضاً من خديث معاوية رضي الله عنه ولفظه: "الخير عادة والشر لجاجة ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
ورواه ابن حبان في صحيحه فقال: أخبرنا ابن قتيبة (وهو محمد بن الحسن) قال حدثنا حرملة بن يحي قال حدثنا ابن وهب قال أنبأنا يونس عن ابن شهاب قال أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبى سفيان يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
ورواه البخاري تعليقا في باب: العلم قبل القول والعمل من كتاب العلم فقال: وقال صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقهه وإنما العلم بالتعلم". قال الحافظ ابن حجر: كذا في رواية الأكثر وفي رواية المستملى يفهمه، ثم أشار إلى أن البخاري وصله باللفظ الأول، ثم قال: وأما اللفظ الثاني فأخرجه ابن أبى عاصم في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن عمر مرفوعا وإسناده حسن، والفقه هو الفهم قال الله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي لا يفهمون، والمراد الفهم في الأحكام الشرعية قال وقوله "وإنما العلم بالتعلم" هو حديث مرفوع أيضا أورده ابن أبى عاصم والطبراني من حديث معاوية أيضاً بلفظ: "يا أيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه"، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، إسناده حسن إلا أن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا. ورواه أبونعيم الأصبهاني مرفوعا، وفي الباب عن أبى الدرداء وغيره، فلا يغتر بقول من جعله من كلام البخاري، والمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم، انتهى.
وقال الحافظ أبو بكر الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن عمر بن الخطاب أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين". رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة وهوضعيف: وعن أبى هريرة(25/31)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقهه فأ الدين"، رواه الطبراني في الصغير ورجاله رجال الصحيح، وعن عبد الله يعنى ابن مسعود رضي الله عنه قال:(25/32)
ص -31- ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين وألهمه رشده"، رواه البزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون انتهى.
وأورد الحافظ المنذرى في كتابه الترغيب والترهيب حديث ابن مسعود هذا، وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به، وأورد حديث معاوية عند الشيخين وابن ماجه وقال: ورواه أبويعلى وزاد فيه: ومن لم يفقهه لم يبال به، وروى حديث معاوية رضي الله عنه أبو نعيم في الحلية في ترجمة رجاء بن حيوة من رواية رجاء بن حيوة عنه، وفي ترجمة محمد بن المبارك من رواية يونس بن ميسرة عنه، وفي ترجمة على بن عبد الحميد من رواية عبد الله ابن عامر عنه، ورواه بلفظ: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في ترجمة شقيق بن سلمة من رواية أبى بكر بن عياش عن الأعمش عن أبى وائل عنه، وقال: غريب من حديث الأعمش تفرد عنه به أبو بكر بن عياش.
وقال أبو عمر بين عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: باب قوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، ثم روى بسنده إلى ابن عمر مرفوعاً: "من يرد الله به خيراً يفقهه". ورواه بسنده عنه عن أبيه عمر رضي الله عنهما مرفوعا بلفظ: "من يرد الله أن يهديه يفقهه"، ثم قال: أخبرنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكشي، قال حدثنا سليمان بن داود الشاذكوني قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا معمر عن الزهري في سعيد بن المسيب عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، وفي هذا الباب حديث معاوية صحيح أيضاً حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثنا يحي القطان عن ابن عجلان قال حدثنا محمد بن كعب القرظي قال: كان معاوية ابن أبى سفيان(25/33)
يخطب بالمدينة يقول: "أيها الناس إنه لا مانع لما أعطي الله، ولا معطى لما منع الله، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".(25/34)
ص -32- ... سمعت هذه الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد. وأخبرنا عبد الرحمن بن يحي قال حدتنا على بن محمد قال حدثنا أحمد بن داود قال حدثنا سحنون قال أخبرنا عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال حدتنا محمد1 بن عبد الرحمن قال سمعت معاوية وخطبنا فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطى، ولن تزال هذه الأمة قائمة على الحق أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله"، وروى نحوه بسنده إلى الإمام البخاري ومنه عن شيخه سعيد بن عفير بمثل سنده في كتاب العلم من صحيحه. وروى بسنده إلى كثير بن هشام في سند الحديث الذي أورده الإمام مسلم في كتاب الإمارة ومنه بمثل سنده ومتنه عنده. وروى بسنده إلى عبد الله بن محيريز عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين" انتهى. ورواه أبو داود الطيالسي بسنده إلى محمد بن كعب القرطبي عن معاوية بنحو حديثه المتقدم ذكره عند ابن عبد البر.
خلاصة التخريج: والخلاصة أن الجملة الأولى التي ترجم بها الإمام البخاري رحمه الله وهي قول صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" رواها الشيخان وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وابن أبى عاصم والطبراني وأبو يعلى وأبو نعيم الأصبهاني وأبو عمر بن عبد البر وأبو داود الطيالسي من حديث معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه، ورواها الترمذي والإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه ورواها ابن ماجه والطبراني في الصغير وأبو عمر بن عبد البر من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، ورواها ابن أبى عاصم والطبراني في الأوسط وأبو عمر بن عبد البر من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواها أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ورواها البزار والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود(25/35)
رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا ولعله حميد بن عبد الرحمن.(25/36)
ص -33- ... من فوائد هذا التخريج:
1- الوقوف على كثرة طرق الحديث، ومعلوم أن كثرة الطرق تحصل بها زيادة القوة.
2- الوقوف على تصريح عبد الله بن وهب بالأخبار والأنباء كما في إحدى الروايات عند مسلم وكما عند ابن حبان، وعبد الله بن وهب قد وصفه ابن سعد بالتدليس كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري أن مدار أسباب الجرح على خمسة أشياء فذكر من بينها دعوى الانقطاع في السند بأن يدعى في الراوي أنه كان يدلس أو يرسل، ثم قال عند الجواب عن ذلك: وأما دعوى الانقطاع فمدفوعة عمن أخرج لهم البخاري لما علم من شرطه ومع ذلك فحكم من ذكر من رجاله بتدليس أو إرسال أن تسبر أحاديثهم الموجودة عنده- أي البخاري- بالعنعنة فإن وجد التصريح بالسماع فيها اندفع الاعتراض وإلاّ فلا..
وهذا الحديث قد رواه ابن وهب بالعنعنة عند البخاري وقد صرح بالأخبار عند مسلم والأنباء عند ابن حبان كما رأيت فاندفع الاعتراض بعد حصر الطرق والوقوف عليها.
3- معرفة المكان الذي خطب فيه معاوية رضي الله عنه وأنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كما أشارت إلى ذلك إحدى روايات مسلم وأوضحته رواية ابن عبد البر.
المبحث الثاني، التعريف برجال الإسناد بإيجاز:
الأول: أول رجال الإسناد سعيد بن عفير شيخ البخاري، وهو سعيد ابن كثير بن عفير بن مسلم بن يزيد بن الأسود الأنصاري مولاهم أبو عثمان المصري وقد ينسب إلى جده كما في إسناد هذا الحديث: روى عن الليث ومالك وابن وهب وغيرهم، وروى عنه البخاري في الصحيح والأدب المفرد.(25/37)
ص -34- ... وخرج حديثه مسلم وأبو داود في القدر والنسائي، قال الحافظ في التقريب: صدوق عالم في الأنساب وغيرها، وقال: وقد رد ابن عدى على السعدي في تضعيفه وقال في تهذيب التهذيب: وذكره ابن حبان في الثقات وقال إبراهيم ابن الجنيد وابن معين: ثقة لا بأس به، وقال النسائي: سعيد بن عفير صالح وابن أبى مريم أحب إلي منه. وقال الحاكم يقال إن مصر لم تخرج أجمع للعلوم منه. وقال في خلاصة تهذيب الكمال: قال ابن عدى صدوق ثقة، وقال الحافظ في هدى الساري: ونقل عن الدولابي عن السعدي قال: سعيد بن عفير فيه غير لون من البدع وكان مخلطا غير ثقة ثم تعقب ذلك ابن عدى فقال: هذا الذي قاله السعدي لا معنى له ولا بلغني عن أحد في سعيد كلام، وهو عند الناس ثقة ولم ينسب إلى بدع ولا كذب ولم أجد له بعد استقصائي على حديثه شيئا ينكر عليه سوى حديثين رواهما عن مالك فذكر هما وقال: لعل البلاء فيهما من ابنه عبيد الله لأن سعيد بن عفير مستقيم الحديث، ثم قال الحافظ: قلت: لم يكثر عنه البخاري وروى له مسلم والنسائي، وقال في تهذيب التهذيب ولد سنة 146 وتوفي سنة 226 هـ.
الثاني: ابن وهب وهو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري الفقيه ثقة حافظ عابد قاله الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب، روى عن عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح والليث بن سعد ويونس بن يزيد وغيرهم وروى عنه شيخه الليث بن سعد وعبد الرحمن بن مهدى وعلي بن المديني وحرملة بن يحي وغيرهم، قال فيه الإمام أحمد: كان ابن وهب له عقل ودين وصلاح، وقالت: ما أصح حديثه وأثبته، وقال أحمد بن صالح حدث ابن وهب بمائة ألف حديث، وقال ابن أبى خيثمة عن ابن معين: ثقة، وقالت ابن أبى حاتم عن أبى زرعة: نظرت في نحو ثلاثين ألفا من حديت ابن وهب بمصر وغير مصر لا أعلم إني رأيت له حديثا لا أول له وهو ثقة، وقال ابن سعد: عبد الله بن وهب كان كثير العلم ثقة فيما قال حدثنا، وكان يدلس، وقال العجلي: مصري(25/38)
ثقة صاحب سنة رجل صالح(25/39)
ص -35- ... صاحب آثار، وعن ابن وضاح قال: كان مالك يكتب إلى عبد الله بن وهب. فقيه مصر، قال وما كتبها مالك إلى غيره، ذكر ذلك وغيره الحافظ في تهذيب التهذيب وقال: وقال ابن يونس: حدثني أبى عن جدي قال سمعت ابن وهب يقول: ولدت سنة 125 وطلبت العلم وأنا ابن سبع عشرة سنة، وكانت وفاته سنة 197 رحمه الله وقد خرج حديثه الجماعة.
الثالث: يونس بن يزيد بن أبى النجاد الأيلي بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام أبو يزيد مولى معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا وفي غير الزهري خطأ قاله الحافظ في تقريب التهذيب، روى عن الزهري ونافع مولى ابن عمر وهشام بن عروة وغيرهم، وروى عنه الليث والأوزاعي وابن المبارك وابن وهب وغيرهم كما في تهذيب التهذيب، وقال الحافظ في هدى الساري: قلت: وثقه الجمهور مطلقا وإنما ضعفوا بعض روايته حيث يخالف أقرانه أو يحدث من حفظه فإذا حدث من كتابه فهو حجة، قال ابن البرقي: سمعت ابن المديني يقول: أثبت الناس في الزهري مالك وابن عيينة ومعمر وزياد بن سعد ويونس من كتابه، وقد وثقه أحمد مطلقا وابن معين والعجلي والنسائي ويعقوب بن شيبة والجمهور، واحتج به الجماعة، وقال في التقريب: مات سنة تسع وخسين أي بعد المائة على الصحيح، وقيل سنة ستين.
الرابع: ابن شهاب الزهري وهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، وكنيته أبو بكر الفقيه الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه قاله الحافظ في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب: الفقيه أبو بكر الحافظ المدني أحد الأئمة الأعلام وعالم الحجاز والشام انتهى.
وقد روى عن جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك وأبو الطفيل ومحمود بن الربيع، وروى عن الفقهاء السبعة(25/40)
ص -36- ... وغيرهم، وروى عنه عطاء بن أبى رباح وأبو الزبير المكي والأوزاعي وابن جريج ويونس بن يزيد والليث بن سعد وهشيم وسفيان بن عيينة وغيرهم. قال البخاري عن على بن المديني: له نحو ألفي حديث، وقال ابن سعد: قالوا وكان الزهري ثقة كثير الحديث والعلم والرواية فقيها جامعا، وقال ابن وهب عن الليث: كان ابن شهاب يقول ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته، وقال النسائي: أحسن أسانيد تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وذكر من بينها الزهري عن على بن الحسين عن أبيه عن جده، والزهري عن عبيد الله عن ابن عباس. ذكر ذلك وغيره الحافظ في تهذيب التهذيب، وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: هو أحد الفقهاء والمحدثين والأعلام التابعين بالمدينة رأى عشرة من الصحابة رضوان الله عليهم، وروى عنه جماعة من الأئمة منهم مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وقال: وقيل لمكحول: من أعلم من رأيت؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم قن؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب، وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة، وقال: وكان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يوما: والله لهذه الكتب أشد على من ثلاث ضرائر. وقال: وتوفي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة وقيل ثلاث وعشرين وقيل خمس وعشرين ومائة وهو ابن اثنتين وقيل ثلاث وسبعين سنة، وقيل مولده سنة إحدى وخمسين للهجرة والله أعلم انتهى. وقد خرج حديثه الجماعة رحمه الله.
وابن شهاب هو الذي قام بتدوين الحديث النبوي بأمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله لهذا يطلقون عليه رحمه الله أنه واضع علم الحديث رواية، ويقول السيوطي في ألفيته:
أول جامع الحديث والأثر ... ابن شهاب آمر له عمر
الخامس: حميد بن عبد الرحمن وهو حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني عن أمه أم كلثوم بنت عقبة وخاله عثمان وطائفة وعنه ابنه(25/41)
ص -37- ... عبد الرحمن وابن أخيه سعد والزهري وثقه أبو زرعة وقال: مات سنة خمس وتسعين قاله الخزرجى في خلاصة التذهيب، وقال الحافظ في التقريب: ثقة من الثانية، وقال في تهذيب التهذيب. إن كنيته أبو إبراهيم ويقال أبو عبد الرحمن ويقال أبو عثمان وقال: قال العجلي وأبو زرعة وأبو خراش: ثقة وقال: توفي سنة 95 وهو ابن ثلاث وسبعين سنة انتهى. وقد خرج حديثه الجماعة.
السادس: صحابي الحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قال الحافظ في التقريب: معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب ابن أمية الأموي أبو عبد الرحمن الخليفة صحابي أسلم قبل الفتح وكتب الوحي ومات في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين انتهى. وقال في تهذيب التهذيب: أسلم يوم الفتح وقيل قبل ذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبى بكر وعمر وأخته أم حبيبة وعنه جرير بن عبد الله البجلي والسأئب بن يزيد الكندي وابن عباس وسعيد بن المسيب وقيس بن أبى حازم وحميد بن عبد الرحمن بن عوف وأناس آخرون ذكرهم في تهذيب التهذيب ثم قال: ولاه عمر بن الخطاب الشام بعد أخيه يزيد فأقره عثمان مدة خلافته ثم ولى الخلافة، قال ابن اسحاق: كان معاوية أميراً عشرين سنة وخليفة عشرين سنة انتهى. وقال في الخلاصة: له مائة وثلاثون حديثا اتفقا- البخاري ومسلم- على أربعة وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة وقال الموفق ابن قدامة المقدسي في لمعة الاعتقاد: ومعاوية خال المؤمنين وكاتب وحى الله وأحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم وقال شارح الطحاوية وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه وهو خير ملوك المسلمين انتهى. وقد حصل بينه وبين أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه شيء من الخلاف وكل منهما قد اجتهد والمجتهد المصيب له أجران والمجتهد المخطىء له أجر واحد وخطؤه مغفور، والواجب على كل مسلم أن يصون لسانه عما جرى بينهما خصوصا وعما جرى بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عموما إلا بالكلام في الخير(25/42)
كما قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في(25/43)
ص -38- ... العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }، وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبا ما بلغ مذ أحدهم ولا نصيفه". وقال شارح الطحاوية: فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، وقال أيضا بعد الإشارة إلى ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما واعتذاره عنهما قال: ونقول في الجميع بالحسنى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } والفتن التي كانت في أيامه- أي أمير المؤمنين على رضي الله عنه- قد صان الله عنها أيدينا فنسأله تعالى أن يصون عنها ألسنتنا بمنع وكرمه انتهى. ويقول الطحاوي رحمه الله في عقيدته: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. وقال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، فقيل له فمعاوية، قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان على من على ورحم الله معاوية، وقال: قال أبو بكر بن أبى الدنيا: حدثني عباد بن موسى حدثنا على بن ثابت الجزري عن سعيد بن أبى عروبة عن عمر بن عبد العزيز قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينا أنا(25/44)
جالس إذ أتى بعلي ومعاوية فادخلا بيتا واجيب الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج غلى وهو يقول: قضى لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول ت غفر لي ورب الكعبة.
وروى ابن عساكر عن أبى زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية فقال له ولمن قال: لأنه قاتل عليا، فقال له أبو زرعة: ويحك إن رب(25/45)
ص -39- ... معاوية رحيم وخصم معاوية خصم كريم فايش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما. وسئل الإمام أحمد عما جرى بين على ومعاوية فقرأ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وكذا قال غير واحد من السلف. وقال الأوزاعي سئل الحسن عما جرى بين على وعثمان فقال: كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة، ولهذا قرابة ولهذا قرابة فابتلى هذا وعوفي هذا، وسئل عما جرى بين على ومعاوية فقال: كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة ولهذا سابقة ولم يكن لهذا سابقة فابتليا جميعا، وقال أيضاً: وقال محمد بن يحي بن سعيد: سئل ابن المبارك عن معاوية، فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده فقال خلفه: ربنا ولك الحمد، فقيل له أيهما أفضل هو أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز: وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره: سئل المعافي بن عمران: أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فغضب وقال للسائل أتجعل رجلا من الصحابة مثل رجل من التابعين؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحى الله: وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، "فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه"، وقال الميموني: قال لي أحمد بن حنبل يا أيا الحسن: "إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام"، وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي؟ فقال: إنه لم يجتريء عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحداً من الصحابة إلا وله داخلة سوء، وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: "ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسانا شتم معاوية فإنه ضربه أسواطا".. إلى غير ذلك(25/46)
من الكلمات الجميلة المأثورة عن سلف هذه الأمة في حق خيار الخلق بعد النبيين والمرسلين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين.(25/47)
ص -40- ... المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الستة خرج حديثهم الشيخان البخاري ومسلم بل قد خرج لهم أيضاً بقية أصحاب الكتب الستة ماعدا سعيد بن عفير شيخ البخاري فقد خرج له مع الشيخين النسائي وأبوداود في القدر ولم يخرج حديثه الباقون.
2- في سند الحديث تابعيان مدنيان قرشيان زهريان هما ابن شهاب الزهري وشيخه حميد بن عبد الرحمن بن عوف فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
3- في سند الحديث مصريان وهما شيخ البخاري سعيد بن عفير وشيخ شيخه عبد الله بن وهب.
4- نصف سند الحديث الأعلى قرشيون وهم معاوية رضي الله عنه وحميد بن عبد الرحمن وابن شهاب الزهري، ونصفه الأدنى من الموالى فسعيد ابن عفير مولى الأنصار وابن وهب مولى القرشيين ويونس بن يزيد مولى الأمويين.
5- يونس بن يزيد الأيلي مولى معاوية بن أبى سفيان الأموي رضي الله عنه كما في تهذيب التهذيب، ففي سند الحديث مولى من أعلى وهو معاوية رضي الله عنه ومولى من أسفل وهو يونس بن يزيد.
6- قول معاوية رضي الله عنه في الحديث: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" الخ. يسمى المرفوع من القول تصريحا.
7- إخبار حميد بن عبد الرحمن بالهيئة التي حصل فيها أداء الحديث من معاوية رضي الله عنه وهي كونه يخطب يدل على ضبطه وإتقانه لما رواه، ومثل هذا يعد من الطرق التي يستفاد بها ذلك في رواية الراوي وتحمله عند المحدثين.(25/48)
ص -41- ... 8- عبد الله بن وهب مدلس وقد صرح بالأخبار والأنباء كما تقدم إيضاح ذلك في فوائد التخريج، وابن شهاب الزهري وصفه الذهبي في ميزان الاعتدال بأنه يدلس نادرا، وهذا الحديث بصيغة (قال) الشبيهة (بعن) وقد صرح بالأخبار عند البخاري في كتاب الاعتصام وصرح بالتحديث عند مسلم في الزكاة وتقدم سياقهما في التخريج.
9- إن تتبعنا لطرق هذا الحديث يسمى مثله في علم مصطلح الحديث الاعتبار.
ورواية إسماعيل بن أبى أويس عند البخاري وحرملة بن يحي عند مسلم عن ابن وهب تسمى متابعة تامة لأن سعيد بن عفير توبع في رواية الحديث عن شيخه ابن وهب.
ورواية حبان بن موسى عن عبد الله عن يونس وكذا الروايات الأخرى التي تلتقي أسانيدها مع إسناد سعيد بن عفير في الرواية عن معاوية رضي الله عنه تسمى متابعة قاصرة.
أما الروايات التي ورد بها الحديث من طريق صحابة آخرين وهم عمر وابنه عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهم فتسمى شواهد.
10- قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر (ومن المهم في هذا الفن معرفة من اختلف في كنيته ومن كثرت كناه) وفي سند هذا الحديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال فيه الحافظ في تهذيب التهذيب: أبو إبراهيم ويقال أبو عبد الرحمن ويقال أبو عثمان.
11- وقال في نخبة الفكر أيضاً (ومن المهم معرفة من وافقت كيته اسم أبيه) وفي سند هذا الحديث شاهد لذلك فيونس الأيلي كنيته أبو يزيد واسم أبيه يزيد.(25/49)
ص -42- ... المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- هذا الحديث مشتمل على ثلاث جمل كل واحدة منها لها معنى قائم بنفسه والموافق للترجمة منها هو الجملة الأولى، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن الجمل الثلاث قد تتعلق جميعها بترجمة الباب من جهة إثبات الخير لمن تفقه في دين الله. وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتح الله عليه به، وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودا حتى يأتي أمر الله.
2- قوله: يفقهه في الدين. معناه يفمهه، يقال ففه بالضم إذا صار الفقه له سجية، وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه بالكسر إذا فهم والمراد به الفهم في الأحكام الشرعية أي الفهم الذي يثمر العمل ليكون فقهه وعلمه له لا عليه كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.. "والقرآن حجة لك أو عليك".
3- قال الحافظ في الفتح: ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير، وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية رضي الله عنه من وجه آخر ضعيف وزاد في آخره: ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به. والمعنى صحيح لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيها ولا طالب فقه فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير انتهى.
4- الحديث دال على ما دلت عليه الآيات الكثيرة والأحاديث المستفيضة من وصف الله بالإرادة، ومعلوم أن مذهب أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته تنزيهه عما نزه عنه نفسه وإثبات جميع ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسمان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بجلال الله بدون تكييف ولا تمثيل وبدون تأويل أو تعطيل كما قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأثبت لنفسه السمع والبصر بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ونفي مشابهة غيره له بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ(25/50)
ص -43- ... شَيْءٌ} وصفات الله تعالى كلها يقال في بعضها ما يقال في البعض الآخر دون فرق بين صفة وصفة فكل ما ثبت في الكتاب والسنة من العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام والقدرة واليدين والوجه والغضب والرضا والاستواء على العرش وغزير ذلك يجب إثباته له واعتقاده على النهج الواضح الذي بينه الله بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات فكذا صفاته الثابتة بالكتاب والسنة تثبت على الوجه اللائق بالله دون أن يكون فيها مشابها لخلقه، فإنه يقال في الصفات ما قيل في الذات سواء بسواء، كما أنه يقال في بعض الصفات ما قيل في البعض الآخر سواء بسواء.
وإرادة الله تعالى عند أهل السنة نوعان دل عليهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إحداهما بمعنى المشيئة الكونية القدرية. والثانية الإرادة الدينية الشرعية، والفرق بينهما أن الكونية القدرية شاملة لكل شيء لا فرق فيها بين ما يحبه الله وما يبغضه ولابد من وقوع ما تقتضيه وأما الدينية الشرعية فهي خاصة فيما يحبه الله ويرضاه ولا يلزم وقوع ذلك، فالله تعالى أراد من الإنس والجن شرعا ودينا أن يعبدوه وحده وذلك محبوب إليه ولذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل وأراد كونا وقدرا في بعض عباده الخير فاجتمع لهم الأمران الكوني والشرعي، وأراد في البعض الآخر غير ذلك فوقعت في حقه الكونية دون الدينية الشرعية فالذي أراده كونا وقدراً: أن يكون الناس فريقين فريقا في الجنة وفريقاً في السعير، ولابد من وقوع ذلك، ولو شاء غير ذلك لوقع، كما قال الله تعالى {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. وقال {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أما بيان الحق والدعوة إليه فهو حاصل للكل، قال تعالى: {أَلَمْ(25/51)
نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فحذف مفعول الفعل (يدعو) إشارة إلى العموم فيه والشمول، وأظهر مفعول الفعل (يهدى). المفيد الخصوص، فالدعوة إلى الحق عامة للجميع والهداية خاصة فيمن وفقه الله.(25/52)
ص -44- ... وما قدره الله وقضاه لابد من وقوعه كما تقدم بيانه ونحن لا نعلم ذلك إلا بواحد من أمرين أحدهما وقوع الشيء، فكل ما وقع علمنا أن الله قد شاءه لأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فأي حركة تجرى فهي بمشيئة الله، والثاني حصول الأخبار بالشيء الغائب عنا من الذي لا ينطق عن الهوى عظيم سواء كان ماضيا أو مستقبلا فإذا أخبر عن شيء ماض علمنا قطعا بأنه كان ووقع كما اخبر، وإذا أخبر عن شيء مستقبل علمنا قطعا بأنه لابد وأن يقع لأن الله قد شاءه، فالأخبار الماضية كأخبار بدء الخلق مثلا، والمستقبلة كأخبار آخر الزمان ونهاية الدنيا وغير ذلك.
وليس معنى المشيئة الشاملة والإرادة القدرية أن الإنسان مسلوب الإرادة مجبور على أفعاله لا مشيئة له ولا اختيار بل له مشيئة تابعة لمشيئة الله كما قال تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ولهذا ندرك الفرق بين الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش والحركات الاختيارية من العقلاء كالبيع والشراء وحصول الإحسان من البعض والإساءة من البعض الآخر، فالاضطرارية لا دخل للعبد فيها، والاختيارية تجرى بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته.
ومن أمثلة الإرادة الدينية في القرآن قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ومن أمثلة الكونية القدرية قوله تعالى { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من السنة قوله-صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"..
5- قوله إنما أنا قاسم والله يعطى. أعاد البخاري الحديث في كتاب فرض الخمس للاستدلال بهذه الجملة على أن قسمة الغنيمة إلى رسول الله صلى(25/53)
الله عليه وسلم وأنه قاسم للمال حيث أمره الله وساق مع هذا الحديث أحاديث أخرى منها(25/54)
ص -45- ... حديث أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "ما أعطيكم ولا أمنعكم إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت". والمعنى لا أعطى أحدا ولا أمنع أحداً إلا بأمر الله، وفي ذلك إثبات القضاء والقدر والإيمان بذلك وأنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطى لما منع الله وأن العباد يتصرفون في المال بحق وبغير حق بإرادتهم ومشيئتهم، وحصول قسمته بين الناس كما قسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مما قضاه الله كونا وقدرا، وأمر به شرعا ودينا.
6- قوله به.. ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
أعاد البخاري الحديث بتمامه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة للاستدلال بهذه الجملة على عدم خلو الأرض من معتصم بالكتاب والسنة حتى يأتي أمر الله، وأورد هذه الجملة فقط في كتاب المناقب مشيرا إلى أن ذلك من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو منقبة لهذه الأمة.
7- أمة محمد صلى الله عليه وسلم لها معنيان: معنى عام ومعنى خاص، فالأمة بالمعني العام هي أمة الدعوة وهم كل إنسان وكذا الجن من حين بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة فإن الدعوة موجهة إليهم كما قال صلى الله عليه وسلم في الخمس التي أعطيها دون من قبله: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة. ويدل للأمة بالمعنى العام قوله تعالى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }.
أما الأمة بالمعنى الخاص فهي أمة الإجابة وهم الذين أجابوا الدعوة وفي خلوا في دين الله، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية. وقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} الآية. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. "ولن تزال هذه الأمة" الخ.
8- قوله عنه ولن تزال هذه الأمة: هو من العام المراد به الخصوص فإن المراد به بعض الأمة كما دل(25/55)
على ذلك أدلة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة(25/56)
ص -46- ... من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
9- في المراد بالطائفة المنصورة أقوال جزم البخاري رحمه الله في صحيحه بأنهم أهل العلم بالآثار، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدرى من هم. وقال القاضي عياض: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث، وقال النووي: يحتمل أن تكون هذه الطائفة فرقة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد وفقيه ومحدث وزاهد وآمر بالمعروف وغير ذلك من أنواع الخير، ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد بل يجوز أن يكونوا متفرقين. ذكر هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
10- (أمر الله): ذكر في الجملة الأخيرة مرتين لكل منهما معنى فمعنى أمر الله في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله" شرع الله ودينه، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" ومعنى أمر الله في قوله: "حتى يأتي أمر الله" ما قدره الله وقضاه من خروج ريح في آخر الزمان تقبض روح كل من في قلبه شيء من الإيمان ويبقى شرار الناس الذين عليهم تقوم الساعة كما جاء ذلك في أحاديث صحيحة، منها ما رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن في ذكر الأمور التي تجري في آخر الزمان وفيه: بينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة.
والأمر كالإرادة يأتي لمعنى كوني قدري ومعنى ديني شرعي، وهذا الحديث فيه شاهد لكل من المعنيين.
11- من فقه الحديث وما يستنبط منه:
1- الترغيب في طلب العلم والحث عليه.
2- بيان فضل العلماء على سائر الناس.(25/57)
ص -47- ... 3- بيان فضل التفقه في الدين على سائر العلوم.
4- إثبات صفة الإرادة لله تعالى.
5- أن الفقه في الدين علامة لإرادة الله الخير بالعبد.
6- إرشاد الناس إلى السنة وإعلانها على المنابر.
7- الإيمان بالقضاء والقدر وأن المعطى المانع هو الله تعالى.
8- بشارة هذه الأمة بأن الخير باق فيها.
9- إخباره صلى الله عليه وسلم عما يستقبل وهو من الغيب الذي أطلعه الله عليه.
10- إخباره بهذا المغيب من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم حيث وقع كما أخبر مدة أربعة عشر قرنا الماضية ولابد من استمرار ذلك حتى يأتي أمر الله كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.
11- وجوب الإيمان بوقوع استمرار الحق وأنه لا ينقطع حتى يأتي أمر الله كما جاء ذلك عن الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.
12- هذا الإخبار منه صلى الله عليه وسلم عما يستقبل أحد طريقي العلم بالشيء الذي قدره الله والطريق الثانية الوقوع.
13- أن الطائفة المنصورة لها مخالفون ومناوؤن.
14- الحث على التمسك بالكتاب والسنة ليكون العبد من هذه الطائفة.
15- بيان أن أعداء هذه الطائفة لا يضرونها ولا يؤثرون على استمرار الحق.
16- أن استمرار الحق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم منقبة عظيمة لها.
17- أن الإجماع حجة.(25/58)
ص -48- ... الحديث الثاني:
قال الإمام البخاري رحمه الله في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري ح وحدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في خمسة مواضع من صحيحه هذا أحددها،
والثاني في كتاب الصيام: باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان. ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرنا ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة".
والثالث في كتاب بدء الخلق: باب ذكر الملائكة ولفظه: حدثنا محمد ابن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس،(25/59)
ص -49- ... وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن"، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وعن عبد الله حدثنا معمر بهذا الإسناد نحوه وروى أبو هريرة وفاطمة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن جبريل كان يعارضه القرآن".
والرابع في كتاب المناقب: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم رواه عن شيخه عبدان بسنده في هذا الحديث وبمثل لفظه عند بشر بن محمد إلا أنه بدون "كان " في قوله: وكان أجود ما يكون الخ..
والخامس في كتاب فضائل القرآن: باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: حدثنا يحي بن قزعة حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة".
وقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث في كتاب الفضائل من صحيحه، فقال: حدثنا منصور بن أبى مزاحم حدثنا إبراهيم- يعنى ابن سعد- عن الزهري ح وحدثني أبو عمران محمد بن جعفر بن زياد واللفظ له أخبرنا إبراهيم عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود مما يكون في شهر رمضان أن جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"، وحدثنا أبو بكر حدثنا ابن المبارك عن يونس ح وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد نحوه.(25/60)
ص -50- ... وروى قبل ذلك بحديثين بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، وأخرج الحديث البخاري في الأدب المفرد عن شيخه موسى بن إسماعيل بمثل حديثه عنه في كتاب الصيام سنداً ومتناً وأخرجه النسائي في كتاب الصوم: باب الفضل والجود في شهر رمضان عن شيخه سليمان بن داود عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس بنحو هذا الحديث عند البخاري، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من طرق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنه وأخرج الجملة الأخيرة منه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز بسنده إلى عمر عن عبيد الله عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود من الريح المرسلة إذا نزل عليه جبريل عليه السلام يدارسه القرآن"، ثم قال غريب من حديث عمر لم نكتبه إلا من هذا الوجه.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري في الإسناد الأول عبدان. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبى رواد واسمه ميمون، وقيل: أيمن الأزدي العتكي- مولاهم- أبو عبد الرحمن المروزي الحافظ الملقب عبدان. وقال الخزرجى في الخلاصة روى عن شعبة ومالك وابن المبارك وعنه البخاري والذهلي وخلق، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب قال أحمد بن عبدة: تصدق عبدان في حياته بألف ألف درهم وكتب كتب ابن المبارك بقلم واحد وذكر توثيقه عن أبى رجاء محمد بن حمدويه وقول الحاكم كان إمام أهل الحديث ببلده، وقال في التقريب: ثقة. حافظ من العاشرة مات سنة إحدى وعشرين نما شعبان، أي بعد المائتين، ورمز لكونه من رجاله الجماعة سوى ابن مات.
الثاني: شيخ البخاري في الإسناد الثاني بشر بن محمد قال الخزرجي(25/61)
ص -51- ... في الخلاصة: بشر بن محمد السختياني أبو محمد المروزي صدوق رمى بالإرجاء، عن ابن المبارك، وعنه البخاري وقال: مات سنة أربع وعشرين ومائتين، وذكره ابن حبان في الثقات كما في تهذيب التهذيب وهو من رجال البخاري دون بقية الجماعة.
الثالث: شيخ شيخي البخاري في الإسنادين عبد الله بن المبارك قال الحافظ في تهذيب التهذيب: عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي أحد الأئمة، وقال في تقريب التهذيب: ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد جمعت فيه خصال الخير من الثامنة مات سنة إحدى وثمانين أي بعد المائة وله ثلاث وستون سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في تهذيب التهذيب الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول ابن عيينة: نظرت في أصر الصحابة فما رأيت لهم فضلا على ابن المبارك إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع معمر بن راشد ويونس بن يزيد وغير واحد، وروى عنه عبد الرحمن بن مهدى ومسلم بن إبراهيم وغير واحد عند مسلم، وسرد في تهذيب التهذيب الكثير من أسماء شيوخه وتلامذته ومنهم شيخاه وتلميذاه في هذا الحديث، وقال الخزرجى في الخلاصة: وترجمته كبيرة في الحلية لأبى نعيم وتاريخ الحاكم.
الرابع: معمر بن راشد قال الحافظ في تقريب التهذيب: معمر بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري نزيل اليمن: ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئا وكذا فيما حدث به بالبصرة من كبار السابعة مات سنة أربع وخمسين أي بعد المائة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال في مقدمة الفتح: معمر بن راشد صاحب الزهري كان من أثبت الناس فيه وقال: أخرج له البخاري من روايته عن الزهري وابن طاووس وهمام بن منبه ويحي بن أبى كثير وهشام بن عروة وأيوب وثمامة بن أنس وعبد الكريم الجزري وغيرهم ولم يخرج له من رواية عن(25/62)
ص -52- ... قتادة ولا ثابت إلا تعليقا ولا من روايته عن الأعمش شيئا ولم يخرج له من رواية أهل البصرة عنه إلا ما توبعوا عليه عنه واحتج به الأئمة كلهم، ونقل في تهذيب التهذيب توثيقه عن ابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي وذكر كثيرا من ثناء الأئمة عليه.
الخامس والسادس: يونس بن يزيد الأيلي وشيخه ابن شهاب الزهري وقد تقدم التعريف بهما في رجال إسناد الحديث الأول.
السابع: عبيد الله بن عبد الله قال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أبو عبد الله الهذلي حليف بنى زهرة أحد الفقهاء السبعة سمع عبد الله بن عباس وزيد بن خالد وأبا هريرة وأم قيس بنت محصن وعائشة وأبا سعيد الخدري عند هما- أي في الصحيحين- وغير واحد عند مسلم، وروى عنه الزهري وصالح بن كيسان، وموسى بن أبى عائشة عند هما وغير واحد عند مسلم، وقال الحافظ في تقريب التهذيب: أبو عبد الله المدني ثقة فقيه ثبت من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثمان وقيل غير ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة، ونقل في تهذيب التهذيب ثناء كثير من الأئمة عليه وتوثيقهم له رحمه الله.
الثامن: صحابي الحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال الخزرجى في الخلاصة: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي أبو العباس المكي ثم المدني ثم الطائفي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وحبر الأمة وفقيهها وترجمان القرآن روى ألفا وستمائة وستين حديثا اتفقا- أي البخاري ومسلم- على خمسة وسبعين وانفرد البخاري بثمانية وعشرين ومسلم بتسعة وأربعين. وقال أيضاً: ابن عباس سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين حديثا وباقي حديثه عن الصحابة، واتفقوا على قبول مرسل الصحابي، وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري مائتي حديث وسبعة عشر حديثا. وقال في تقريب التهذيب: ولد قبل الهجرة بثلاث(25/63)
ص -53- ... سنين ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه، وقال: مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة ورمز لكون حديثه في الكتب الستة، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: روى عنه سعيد بن جبير وسعيد ابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة والقاسم بن محمد بن أبى بكر وجماعة من التابعين عند هما- أي في الصحيحين- وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: فائدة: روى عن غندر أن ابن عباس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا تسعة أحاديث، وعن يحي القطان عشرة، وقال الغزالي في المستصفي أربعة وفيه نظر، ففي الصحيحين عن ابن عباس مما صرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة وفيهما مما يشهد فعله نحو ذلك وفيهما مما له حكم الصريح نحو ذلك فضلا عما ليس في الصحيحين.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسنادين الثمانية خرج أصحاب الكتب الستة حديثهم إلا شيخ البخاري في الإسناد الأول عبدان فلم يرو له ابن ماجه وروى له الباقون. وشيخه في الإسناد الثاني بشر بن محمد فقد انفرد البخاري بإخراج حديثه.
2- في سند الحديث تابعيان مدنيان هما ابن شهاب الزهري وشيخه عبيد الله بن عبد الله فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
3- في سند الحديث ثلاثة مروزيون وهم شيخا البخاري: عبدان وبشر، وشيخ شيخيه: عبد الله بن المبارك.
4- في سند الحديث أرديان ولاء ولا شيح البخاري عبدان، ومعمر ابن راشد شيخ عبد الله بن المبارك.
5- حرف ح يفيد تحويل الإسناد من إسناد إلى آخر، والفائدة من ذلك(25/64)
ص -54- ... هي الاختصار وتلافي تكرار الأسماء، ومنتهي الإسنادين الزهري، ومنه يكون الإسناد واحدا هكذا:
قال البخاري: حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري ح: وحدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه. قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس الخ.
وإنما لم يجعل البخاري الطريقين طريقاً واحداً من عبد الله بن المبارك مع أنه هو ملتقى طريق عبدان بطريق بشر بن محمد لأن عبد الله بن المبارك حدث به عبدان عن يونس وحده وحدث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معا.
6- قول عبد الله بن المبارك في الإسناد الثاني: أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه: أي أن لفظ الحديث من رواية يونس وأما رواية معمر فهي بمعناه ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من فتح الباري، وقال في شرحه لحديث جابر رضي الله عنه في الخمس التي أوتيها صلى الله عليه وسلم في أوائل كتاب التيمم وهو الحديث الآتي، وفي إسناده تحويل قال: وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير والله أعلم انتهى. وعلى هذا فمتن الحديث لفظه من رواية بشر بن محمد شيخ البخاري في الإسناد الثاني كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر.
7- في سند الحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهو أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يرد إطلاق هذا الوصف عليهم كثيرا، قال النووي لي كتاب الإشارات إلى أسماء المبهمات: اعلم أن من أفضل التابعين وكبارهم وسادتهم الفقهاء السبعة فقهاء المدينة، فستة متفق عليهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق وخارجة بن زيد بن(25/65)
ص -55- ... ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسليمان بن يسار وفي السابع ثلاثة أقوال أحدها أنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف نقله الحاكم أبو عبد الله عن فقهاء الحجاز، والثاني أنه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قاله ابن المبارك، والثالث أنه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قاله أبو الزناد انتهى. وذكر هم ابن القيم في أوائل إعلام الموقعين على ما قاله أبو الزناد وقال: وقد نظمهم القائل فقال:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر ... روايتهم ليست عن العلم خارجه
فقل: هم عبيد الله، عروة، قاسم ... سعيد، أبو بكر، سليمان، خارجه
8- صحابي الحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو أحد العبادلة كما ذكر ذلك العلماء ومنهم ابن حجر كما تقدم النقل عنه من كتاب تقريب التهذيب، وقد قال العراقي في كتاب المستفاد من مبهمات المتن والإسناد: اعلم أن في الصحابة ممن يسمى عبد الله مائتين وعشرين رجلا لكن اشتهر إطلاق اسم العبادلة على أربعة منهم: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بن العاص كذا ذكرهم أهل الحديث وغيرهم.
9- في سند الحديث عبدان وهو لقب اشتهر به واسمه عبد الله بن عثمان، والزهري وهو محمد بن مسلم، وقد اشتهر بهذه النسبة كما أنه اشتهر أيضاً بالنسبة إلى جده شهاب فيطلق عليه كثيراً إما الزهري، وإما ابن شهاب.
10- قال الحافظ في نخبة الفكر: ومن المهم في هذا الفن معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه وفي سند هذا الحديث أربعة من هؤلاء هم عبد الله بن عباس رضي الله عنه كنيته أبو العباس وعبيد الله بن عبد الله كنيته أبو عبد الله ويونس به يزيد كنيته أبو يريد وبشر بن محمد كميته أبو محمد.
11- متن هذا الحديث من قبيل المرفوع من الفعل تصريحا.(25/66)
ص -56- ... المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- معنى أجود الناس: أكثر الناس جودا فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معنى، جاد بنفسه في سبيل الله فكسرت رباعيته وشج وجهه، وجاد بجاهه، وجاد بما أعطاه الله من المال، وجاد بالدلالة والإرشاد إلى كل ما ينفع العباد في الحال والمآل وتحذيرهم من كل ضار نص الحاضر والمستقبل.
2- قوله: وكان أجود ما يكون في رمضان: أجود بالرفع في أكثر الروايات وفي بعضها بالنصب، فالرفع على أن أجود اسم كان والخبر محذوف أو هو مبتدأ خبره في رمضان والجملة خبر كان واسمها ضمير، وأما النصب فعلى أنه خبر كان واسمها ضمير والتقدير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غديره.
3- قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس: في هذه الجملة احتراس بليغ لئلا يتخيل من قوله: وكان أجود ما يكون في رمضان، أن الأجودية خاصة منه برمضان فأثبت له الأجودية المطلقة أولا، ثم عطف عليها زيادة ذلك في رمضان.
4- الحكمة في زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن: أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والقرآن خلقه صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه، وأيضاً فرمضان موسم الخيرات وزيادة الجود والكرم وقد وصفه الله بأنه الذي أنزل فيه القرآن، فبمجموع ما ذكر من الوقت الفاضل وهو رمضان والمنزول به وهو القرآن والنازل به وهو جبريل ومدارسته معه حصل المزيد في الجود والله أعلم.
5- قوله: فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، هذه هي نتيجة مدارسة القرآن والمراد بالريح المرسلة ريح الرحمة التي يرسلها الله لإنزال الغيث العام كما قال الله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ(25/67)
ص -57- ... وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} الآية. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابا} الآية.
6- وصفت الريح المفضل عليها جوده الخير بالمرسلة لأمرين: الأول إشارة إلى عموم النفع بجوده صلى الله عليه وسلم كما تعم الريح المرسلة بل هو أعم وأشمل منها، والثاني احتراسا من الريح العقيم الضارة.
7- قدم معمول أجود وهو بالخير لنكتة لطيفة وهي أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة أي المرسلة بالخير وهو وإن كان لا يتغير به المعنى المراد من الوصف بالأجودية إلا أنه يفوت فيه التنصيص على مناط أجوديته صلى الله عليه وسلم التي سيق الكلام لإثباتها والتنويه بشأنها.
8- قوله: فيدارسه القرآن، لفظ المدارسة يفيد حصولها من الجانبين وحديث ابن عباس عند البخاري في كتاب فضائل القرآن يفيد حصولها من جانب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله فيه- يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ويدل لحصولها من جانب جبريل حديث أبى هريرة رضي الله عنه الذي أورده البخاري في كتاب فضائل القرآن عقب حديث ابن عباس حيث قال رضي الله عنه: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه.
9- هذا الحديث أورده البخاري في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في وجه المناسبة: وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان لأن نزوله إلى السماء جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان فليا كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة رضي الله عنها وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب والله أعلم بالصواب.(25/68)
ص -58- ... 10- من فقه الحديث وما يستنبط منه:
1- امتنان الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بجعله أجود الناس.
2- الترغيب في الجود في كل وقت.
3- الحث على الزيادة في الجود في شهر رمضان.
4- استحباب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان والإشارة إلى أنها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعله جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
5- استحباب زيارة الصلحاء وأهل الخير.
6- تكرار الزيارة إذا كان المزور لا يكره ذلك.
7- جواز أن يقال رمضان بدون ذكر شهر.
8- استعمال التشبيه وضرب الأمثلة في إيضاح ما يراد بيانه.
9- حصول قراءة القرآن من جبريل عليه السلام في غير الوقت الذي نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم.
10- أن القرآن يطلق على بعضه وعلى معظمه لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور.
11- تدارس القرآن بين القراء وهو من التعاون على البر والتقوى.
12- أن مداومة قراءة القرآن سبب في الزيادة في الخير وهو من ثواب الحسنة بحسنة بعدها.
13- مذاكرة الفاضل بالخير والعلم وإن كان لا يخفي عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ.
14- أن تحصيل العبد لفضل الزمان إنما هو بزيادة العبادة فيه.(25/69)
ص -59- ... 15- أن الثمرة العظمى لقراءة القرآن أن يظهر أثرها على القاريء في أخلاقه وأعماله كما جاء في هذا الحديث من زيادة النبي صلى الله عليه وسلم في الخير عند مدارسة القرآن مع جبريل، وكما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، تعنى أنه يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم التحذير من خلاف ذلك بقوله في الحديث الصحيح: "والقرآن خجة لك أو عليك ".
16- تعظيم شهر رمضان لوصف الله له بإنزال القرآن فيه ثم معارضته صلى الله عليه وسلم مع جبريل ما نزل منه فيه ويلزم من ذلك كثرة نزول جبريل فيه وفي كثرة نزوله الخير الكثير.
17- الإيمان بنزول جبريل من السماء وصعوده ومدارسته القرآن مع محمد صلى الله عليه وسلم وهو من الإيمان بالملائكة الذي هو أحد أركان الإيمان الستة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور.(25/70)
ص -60- ... الحديث الثالث
قال البخاري رحمه الله في أوائل كتاب التيمم من صحيحه:
حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم ح قال وحدثني سعيد ابن النضر قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا سيار قال حدثنا يزيد- هو ابن صهيب الفقير- قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة".
المبحث الأول: التخريج:
أورد البخاري هذا الحديث في كتاب التيمم عن شيخيه محمد بن سنان وسعيد بن النضر، وسياق المتن لفظ سعيد كل قال الحافظ ابن حجر في الفتح، وقد أعاد الحديث في كتاب الصلاة عن شيخه محمد بن سنان فقال: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم قال حدثنا له جار- هو أبو الحكم- قال حدثنا يزيد الفقير قال حدثنا جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأيما رجل مات أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم؟ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، وأعطيت الشفاعة"، وأورد طرفا منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم. "وأحلت لي الغنائم".. من رواية محمد بن سنان في كتاب فرض الخمس.(25/71)
ص -61- ... وأخرج الحديث بتمامه مسلم في صحيحه عن شيخيه يحيى بن يحي وأبى بكر بن أبى شيبة عن هشيم بمثل إسناده عند البخاري ولفظه: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسافة شهر، وأعطيت الشفاعة". وأخرج الخصلة الأولى وهي نصره صلى الله عليه وسلم بالرعب ضمن حديث من طرق عن أبى هريرة رضي الله عنه، وأخرج الخصلة الثانية من طريقين عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه، ومن طرق عن أبى هريرة رضي الله عنه، وأخرج الخصلة الثالثة من طريق عن أبى هريرة رضي الله عنه، وأخرج الخصلة الخامسة من طريق عن أبى هريرة رضي الله عنه بلفظ: "وأرسلت إلى الخلق كافة"..
وأخرجه النسائي عن شيخه الحسن بن إسماعيل بن سليمان عن هشيم بهذا الإسناد، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبى ذر رضي الله عنه.
وقال الحافظ في الفتح: ومدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد وله شواهد من حديث ابن عباس وأبى موسى وأبى ذر، ومن رواية عمرو بق شعيب عن أبيه عن جده رواها كلها أحمد بأسانيد حسان.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري في الإسناد الأول محمد بن سنان قال الحافظ في تهذيب التهذيب: محمد بن سنان الباهلي أبو بكر البصري المعروف بالعوقي والعوقة حي من الأزد نزل فيهم، وذكر أنه روى عن إبراهيم بن طهمان وفليح وهشيم وغيرهم، وأنه روي عنه البخاري وأبو داود وغيرهم، وذكر توثيقه عن جماعة منهم ابن معين والدارقطني؟ وقال في تقريب التهذيب: ثقة ثبت من كبار العاشرة مات سنة ثلاث وعشرين أي بعد المائتين ورمز لكونه من رجال البخاري وأبى داود وابن ماجه والترمذي.(25/72)
ص -62- ... الثاني: شيخ البخاري في الإسناد الثاني سعيد بن النضر قال الحافظ في تهذيب التهذيب: سعيد بن النضر البغدادي أبو عثمان سكن آمل جيحون، روى عن هشيم وعثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وغير هما، وعنه البخاري والفضل بن أحمد بن سهل الآملي ذكره ابن حبان في الثقات، وقال في تقريب التهذيب ثقة من العاشرة مات سنة أربع وثلاثين أي بعد المائتين ورمز لكونه من رجال البخاري وحده.
الثالث: هشيم، قال الحافظ في تقريب التهذيب: هشيم بالتصغير ابن بشير- بوزن عظيم- ابن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية ابن أبى خازم بمعجمتين الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي ، من السابعة مات سنة ثلاث وثمانين أي بعد المائة وقد قارب الثمانين، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: السلمي مولاهم الواسطي يكنى أبا معاوية أصله من بلخ، كان جده القاسم منها نزل واسط للتجارة، وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب كثيرا ممن روى عنهم وممن رووا عنه، وممن روى عنهم حميد الطويل وسيار أبو الحكم وخالد الحذاء والأعمش، ومن الذين رووا عنه ابن المبارك ووكيع ويزيد بن هارون وغيرهم، وقال في مقدمة الفتح: هشيم بن بشير الواسطي أحد الأئمة متفق على توثيقه إلا أنه كان مشهورا بالتدليس، وروايته عن الزهري خاصة لينة عندهم فأما التدليس فقد ذكر جماعة من الحفاظ أن البخاري كان لا يخرج عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث، واعتبرت أنا هذا في حديثه فوجدته كذلك إما أن يكون قد صرح به في نفس الإسناد أو صرح به من وجه آخر، وأما روايته عن الزهري فليس في الصحيحين منها شيء، واحتج به الأئمة كلهم والله أعلم انتهى. ولكونه مشهورا بالتدليس مثل به العراقي في ألفيته لوجود المدلسين في رجال الصحيح فقال:(25/73)
ص -63- ... وفي الصحيح عدة كالأعمش ... وكهشيم بعده وفتش
الرابع: سيار، قال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سيار ابن أبى سيار واسمه وردان أبو الحكم العنزي الواسطي، يقال هو أخو مساور الوراق سمع الشعبي وثابتا البناني ويزيد الفقير عند هما- أي في الصحيحين- وسليمان الأشجعي عند البخاري روى عنه شعبة وهشيم عند هما وقرة بن خالد عند مسلم، وذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب توثيقه عن الإمام أحمد وابن معين والنسائي وقال في تقريب التهذيب: وهو أخو مشاور الوراق لأمه، ثقة وليس هو الذي يروى عن طارق بن شهاب من السادسة مات سنة اثنتين وعشرين أي بعد المائة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
الخامس: يزيد الفقير، قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: يزيد بن صهيب الكوفي أبو عثمان المعروف بالفقير بفتح الفاء بعدها قاف، قيل له ذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره، ثقة من الرابعة، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى الترمذي، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وعنه سيار أبو الحكم عند هما- أي في الصحيحين- وقيس بن سليم وأبو عاصم محمد بن أيوب عند مسلم، وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب توثيقه عن ابن معين وأبى زرعة والنسائي وقال: قال أبو حاتم وابن خراش: صدوق، زاد ابن خراش جليل عزيز الحديث وقال: وذكره ابن حبان في الثقات انتهي ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
السادس: صحابي الحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال الحافظ في تقريب التهذيب: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بمهملة وراء، الأنصاري ثم السلمي بفتحتين صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة ورمز لكون حديثه في الكتب الستة، وقال الخزرجي في الخلاصة: أبو عبد الرحمن أو أبو عبد الله أو أبو محمد المدني صحابي مشهور له ألف وخمسمائة حديث وأربعون(25/74)
ص -64- ... حديثا، اتفقا- أي البخاري ومسلم- على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري تسعين حديتا.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- هذا الحديث رواه البخاري عن شيخه محمد بن سنان عن هشيم ثم أتى بحرف ح الدالة على التحويل إلى إسناد آخر فرواه عن شيخه سعيد ابن النضر عن هشيم، وقد مر التنبيه على بعض ها يتعلق بالتحويل في الكلام على الحديث الثاني وأضيف هنا: أن استعمال التحويل في الإسناد قليل عند البخاري بخلاف مسلم فإنه يستعمله كثيرا، والسر في ذلك أدن البخاري رحمه الله يفرق الحديث على الأبواب فيأتي به في موضح بإسناد للاستدلال به على حكم ثم يعيده مستدلا به على حكم آخر بإسناد آخر، أما مسلم رحمه الله فيجمع الروايات ويسوقها مساقا واحدا فلذا يكثر عنده استعمال التحويل.
2- استعمل البخاري وحمه الله التحويل في إسناد هذا الحديث ولم يجمح بين شيخيه مع كونهما حدثاه به عن هشيم لأنه سمعه منهما متفرقين وكأنه سمعه من محمد بن سنان مع غيره، فلذلك جمع فقال: حدثنا، وسمعه من سعيد وحده فلذا أفرد فقال: حدثني. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح .
3- صيغة الأداء من محمد بن سنان عن هشيم (حدثنا) ومن سعيد ابن النضر عن هشيم (أخبرنا) قال الحافظ في الفتح: وكأن محمدا سمعه من لفظ هشيم فلهذا قال: حدثنا، وكأن سعيدا قرأه أو سمعه تقرأ على هشيم، لهذا قال: أخبرنا، تم قال الحافظ بعد ذكوه هذا والذي قبله: ومراعاة هذا كله على سبيل الإصطلاح.
4- قال الحافظ في الفتح: ثم إن سياق المتن لفظ سعيد وقد ظهر(25/75)
ص -65- ... بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فان اللفظ يكون للأخير والله أعلم.
5- رجال الإسنادين في هذا الحديث اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا يزيد الفقير فلم يرو له الترمذي، وشيخ البخاري في الإسناد الأول محمد بن سنان فلم يرو له مسلم والنسائي، وشيخه في الإسناد الثاني سعيد بن النضر فلم يرو له سوى البخاري.
6- قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر: ومن المهم معرفة من نسب
إلى غير ما يسبق إلى الفهم انتهى. وفي إسناد هذا الحديث شاهدان لذلك: الأول محمد بن سنان الباهلي المعروف بالعوقي، والعوقة حي من الأزد نسب إليهم لكونه نزل فيهم وليس منهم. الثاني يزيد الفقير فإن المتبادر إلى الفهم أنه من الفقر وليس كذلك وإنما كان يشكو فقار ظهره فقيل له الفقير لذلك.
7- في سند الحديث واسطيان وهما: هشيم بن بشير وشيخه سيار أبو الحكم.
8- في سند الحديث هشيم بن بشير وهو من المشهورين بالتدليس وقد صرح بالأخبار في هذا الإسناد، بل قد ذكر الحافظ ابن حجر أن كل ما في صحيح البخاري له مما صرح فيه بالسماع كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
9- في سند الحديث راويان نسبتهما (السلمي) وهما جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي، والثاني هشيم بن بشير السلمي. قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: (السلمي) بالضم كثير وبالفتح في الأنصار فقط انتهى. وقال النووي في التقريب (السلمي) في الأنصار بفتحهما ويجوز في لغية كسر اللام وبضم السين في بنى سليم.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
ا- لم يبين في هذا الحديث متى قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين أنه(25/76)
ص -66- ... في غزوة تبوك في الحديث الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده حيث قال حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلى فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى وانصرف إليهم فقال لهم: "لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي" الخ الحديث. وهذا من الشواهد لرواية هشيم بن بشير التي أشار إليها الحافظ ابن حجر فيما تقدم.
2- قوله "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي" مفهوم الحديث أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة وقد عدد الحافظ ابن حجر في فتح الباري خصائص أخرى غيرها فبلغت بها سبع عشرة وقال: يمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقال: وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب شرف المصطفي أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة. وقد أشار السيوطي في شرحه لسنن النسائي إلى كلام الحافظ ابن حجر هذا وأن ذلك دعاه إلى تتبعها وأنه أفردها بمؤلف سماه: أنموزج اللبيب في خصائص الحبيب، قسمها فيه إلى قسمين ما خص به عن الأنبياء وما خص به عن الأمة وبلغت عدة القسمين أكثر من ألف خصيصة.
وقال الحافظ ابن حجر في الجمع بين هذا المفهوم وبين الأدلة الدالة على الخصائص الأخرى: وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله.
3- قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وظاهر الحديث يقتضى أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله وهو كذلك ولا يعترض بأن نوحاً عليه السلام كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه وقد كان مرسلا إليهم، لأن هذا العموم لم يكن من اصل بعثته وإنما اتفق بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق بالموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل(25/77)
البعثة فثبت اختصاصه بذلك،(25/78)
ص -67- ... وأما قول أهل الموقف لنوع كما صح ؤ حديث الشفاعة: أنت أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته بل إثبات أولية رسالته وعل تقدير أن يكون مراداً فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
4- قوله "نصرت بالرعب مسيرة شهر" الرعب الوجل والخوف والفزع قال الحافظ ابن حجر: مفهومه أنه أ يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب "ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهرا" فالظاهر اختصاصه به مطلقا وإنما جعل الغاية شهراً لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده من غير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال. وقال العراقي في طرح التثريب: وأما النصر بالرعب فهو أن الله تعالى كان يقذف الرعب في قلوب أعدائه لتخذيلهم وورد في بعض طرقه أنه كان يسير الرعب بين يديه شهرا، معناه أنه كان إذا توجه إلى وجه من الأرض ألقى الله الرعب على من أمامه إلى مسيرة شهر.
5- قوله "وجعلت لي الأرض مسجدا" أي موضع سجود ويخص من هذا العموم ما تيقنت نجاسته وما دل دليل على منع الصلاة فيه كالمقبرة. قال العراقي في طرح التثريب: اختلف في بيان ما خصص به على الأمم قبله في ذلك فقيل إن الأمم الماضية لم تكن تباح الصلاة لهم إلا في مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس، وقيل كانوا لا يصلون إلا فيما يتيقنون طهارته من الأرض وخصصت هذه الأمة بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنت نجاسته حكاما القاضي عياض. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: والأظهر ما قاله الخطابي وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: "وكان من قبلي إنما يصلون في(25/79)
ص -68- ... كنائسهم" وهذا نص في محل النزاع فثبتت الخصوصية ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب. وفيه: ولم يكن من الأنبياء أحد يصلى حتى يبلغ محرابه.
6- قوله "وطهورا" الطهور بفتح الطاء أي المطهر لغيره لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية والحديث إنما سيق لإثباتها وهو يدل على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض ويؤيده رواية أبى أمامة عند البيهقي: "فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء وجد الأرض طهورا ومسجداً".. وعند أحمد "فعنده طهوره ومسجده" وفي رواية عمرو بن شعيب "فأين أدركتني الصلاة تمسحت وصليت" وخص بعض العلماء اسم بالتراب مستدلا بذكر لفظ (التراب) عند ابن خزيمة عن جابر وفي حديث على عند البيهقي وأحمد كما أشار إلى ذلك كله وغيره الحافظ ابن حجر في الفتح، ونقل العراقي في طرح التثريب عن القرطبي ما معناه: أن ذكر التراب من قبيل ذكر الخاص محكوما عليه بحكم العام وهو لا يسقط عمومه ثم تعقب ذلك.
7- قوله "فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" أي بعد أن يتيمم حيث لا ماء، وذكر "الرجل " لا مفهوم له أي وكذلك النساء وهو نظير قوله نسيه: لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه. وقوله: من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء. والغرض من ذكر هذه الجملة بعد التي قبلها دفع توهم اختصاصه بذلك كما اختص بالشفاعة.
8- قوله "وأحلت لي المغانم و! تحل لأحد قبلي" المغانم جمع مغنم وفي رواية محمد بن سنان (الغنائم) وهي جمع غنيمة وهي ما أخذ من الكفار في الحرب قال الخطابي: "من تقدم علي ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته"، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في(25/80)
ص -69- ... صحيحه تعليقا: جعل وزقي تحت ظل ومحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري. ومجيء النار وإحراقها الغنائم في الأمم السابقة ثبت في صحيح البخاري
9- قوله: "وأعطيت الشفاعة": الشفا على أنواع منها ما يختص به صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يشاركه فيها غيره، والذي اختصر بها منها الشفاعة العظمى في إراحة الناس من الموقف وهى المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون حيث يتخلى عنها آدم وأولو العزم من الرسل فتنتهي إليه فيقول: أنا لها ثم يشفع فيشفعه الله صلوات الله وسلامه عليه. وهنها الشفاعة في عمه أبى طالب في تخفيف عذابه في النار فانه مخصص لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} ومنها الشفاعة في خروج من ليس له عمل صالح سوى التوحيد من النار لأن غيره يشفع لمن عنده أكثر من ذلك قال الحافظ ابن حجر بعد عد هذه من خصائصه: وقد وقع في حديث ابن عباس: وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي فهي لمن لا يشرك بالله شيئا. وفى حديث عمرو بن شعيب: فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله، انتهى. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة. فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا".
10- قوله: "وبعثت إلى الناس عامة" دال على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}. وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم(25/81)
في صحيحه: "لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".. والمراد بالناس كل من(25/82)
ص -70- ... كان موجوداً من الإنس من حين بعث صلوات الله وسلامه عليه إلى قيام الساعة، ويدل لشمولها للجن عموم قوله في رواية أبى هريرة رضي الله عنه عند مسلم: وأرسلت إلى الخلق كافة. وما ذكره الله تعالى عن استماعهم للقرآن وإيمانهم به في سورتي الأحقاف والجن، ثم ذهابهم إلى قومهم منذرين محذرين من مخالفته وعدم إجابته.
11- من فقه الحديث وما يستنبط منه:
1- امتنان الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بخصائص يختص بها عن غيره.
2- تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين.
3- تحدث الإنسان بنعم الله تعالى عليه.
4- تفضل الله على نبيه بنمره على أعدائه بالرعب الذي يقذفه في قلوبهم مسيرة شهر.
5- أن النصر بيد الله إذا شاءه حصل ولو بدون أسباب ظاهرة.
6- أن الأصل في الأرض الطهارة فلا تخص الصلاة فيها بموضع دون آخر ما أ تتيقن نجاسة البقعة.
7- أن المراد بالطهور هو المطهر لغيره لأنه لو كان المراد به في الحديث الطاهر لم تثبت الخصوصية.
8- أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في وصف الطهورية.
9- أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض.
10- كون الغنائم حلالا في حق هذه الأمة
11- إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
12- عموم رسالة محمد عتم ه.
13- تيسير الله تعالى على هذه الأمة ورفعه الحرج والإصر عنها.(25/83)
ص -71- ... 14- وجوب الإيمان بالمغيبات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ماضيها كعدم حل الغنائم للماضين ومستقبلها كإعطائها صلى الله عليه وسلم الشفاعة.
15- أنه لايجوز تأخير الصلاة عن وقتها.
16- إظهار كرامة الآدمي إذا خلق من ماء وتراب وتراب وكل منهما طهور.
17- أن الصلاة والطهارة لها في الجملة شرع لمن قبلها.(25/84)
ص -72- ... الحديث الرابع
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الكفالة:
حدثنا أبو عاصم في يزيد بن أبى عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي جنازة ليصلي عليها فقال: "هل عليه من دَينٌ؟" قالوا: لا، "فصلى عليه "ثم أتي بجنازة أخرى فقال "هل عليه من دين؟ "قالوا: نعم. قال: "فصلوا على صاحبكم"، قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، "فصلى عليه".
المبحث الأول, التخريج:
انفرد البخاري عن مسلم بإخراج هذا الحديث، وقد أورده في موضعين أحدهما هذا في باب: من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع. والثاني في كتاب الحوالة في باب: إذا أحال دين الميت على رجل جاز، ولفظه: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبى عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة فقالوا: صل عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئا؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا يا رسول الله صل عليها فقال: هل عليه دين؟ قيل: نعم، قال: فهل ترك شيئاً، قالوا: ثلاثة دنانير فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قال: هل ترك شيئا؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دين، قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: صل. عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه".
ورواه النسائي في سننه ولفظه: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقالوا: يا نبي الله صل عليها، قال: هل ترك عليه دينا، قالوا: نعم، قال: هل ترك من شيء، قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال رجل من الأنصار يقال له(25/85)
ص -73- ... أبو قتادة: صل عليه وعلي دينه، فصلى عليه"، ورواه الترمذي والنسائي عن أبى قتادة رضي الله عنه بإسناد واحد واللفظ عند النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل من الأنصار ليصلى عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم فان عليه دينا، قال أبو قتادة هو علي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بالوفاء؟، قال: بالوفاء، فصلى عليه، ورواه أبو داود والنسائي عن جابر رضي الله عنه ولفظه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلى على رجل مات وعليه دين فأتى بميت، فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة الأنصاري؟ هما على يا رسول الله"، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلى وفاؤه ومن ترك مالا فلورثته". وروى أبو هريرة رضي الله عنه نحوا من حديث جابر هذا أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي، وأورد المنذري في الترغيب والترهيب حديث جابر رضي الله عنه بلفظ أطول من هذا، وقال: رواه أحمد بإسناد حسن والحاكم والدارقطني، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ورواه أبو داود وابن حبان في صحيحه باختصار.
وقال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار وإسناده حسن،
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وعن أسماء بنت يزيد قالت "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة رجل من الأنصار، فلما وضع السرير تقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه ثم التفت، فقال: "على صاحبكم دين؟" قالوا: نعم يا رسول الله، ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: أنا بدينه يا نبي الله فصلى عليه"، رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.(25/86)
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري أبو عاصم وهو كما قال الحافظ في تقريب التهذيب. الضحاك بن مخلد بن مسلم الشيباني أبو عاصم النبيل البصري ثقة ثبت من التاسعة، مات سنة اثنتي عشرة أو بعدها أي بعد المائتين. وقال(25/87)
ص -75- ... بضع وأربعين أي مائة ورمز لكونه من رجال الجماعة.
الثالث: صحابي الحديث سلمة بن الأكوع وهو سلمة بن عمرو بن الأكوع واسم الأكوع سنان الأسلمى، قال الحافظ في تهذيب التهذيب: أبو مسلم ويقال: أبو إياس ويقال: أبو عامر وقال: شهد بيعة الرضوان روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبى بكر وعمر وعثمان وطلحة وعنه ابنه إياس ومولاه يزيد بن أبى عبيد وأناس آخرون سماهم ثم قال: كان شجاعا راميا، ويقال: كان يسبق الفرس شدا على قدميه، وقال الخزرجى في الخلاصة: له سبعة وسبعون حديثا اتفقا على ستة عشر وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بتسعة. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري عشرين حديثا انتهى. وكانت وفاته سنة أربع وسبعين، وقد خرج حديثه الجماعة.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الثلاثة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم.
2- في سند الحديث رجل اشتهر بكنيته ولقبه وهو شيخ البخاري أبو عاصم النبيل فان اسمه الضحاك بن مخلد.
3- في سند الحديث رجل روى عنه راو متقدم وراو متأخر، وهو أبو عاصم النبيل قال الخطيب: روى عنه جرير بن حازم ومحمد بن حبان وبين وفاتيهما مائة وإحدى وثلاثون سنة انتهى. وذلك من شواهد النوع المعروف في المصطلح بالسابق واللاحق وهو أن يشترك اثنان في الرواية عن شيخ أحدهما فوق الشيخ المروى عنه في المرتبة مع تباعد ما بين وفاتيهما أي الراويين عن الشيخ.
4- في هذا الإسناد مولى من أعلى وهو سلمى بن الأكوع رضي الله عنه، ومولى من أسفل وهو يزيد بن أبى عبيد.(25/88)
ص -76- ... 5- ومن اللطائف في رجال الإسناد أن أبا عاصم النبيل قد ولدته أمه وسنها اثنتا عشرة سنة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك فيما نقله المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين عن عمرو بن على.
6- ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يقف على تسمية صاحب الجنازة الأول والثاني وهو من مبهمات المتن.
7- حديث أبى عاصم النبيل هذا وحديث مكي بن إبراهيم المذكور في التخريج من ثلاثيات صحيح البخاري والإسناد الثلاثي أعلى ما يكون عند البخاري فان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثة أشخاص فقط: صحابي وتابعي وتابع تابعي، وقد حصل العلو في إسناد هذا الحديث. لأن وفاة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه كانت سنة أربع وسبعون، وقد عاش مولاه يزيد بن أبى عبيد الذي روى الحديث عنه بعده نحوا من سبعين سنة إذ كانت وفاته سنة بضع وأربعين ومائة، وعاش أبو عاصم النبيل الذي روى الحديث عن يزيد ابن أبى عبيد بعده أكثر من ستين سنة حيث كانت وفاته سنة اثنتي عشرة بعد المائتين.(25/89)
ص -77- ... فوائد تتعلق بالثلاثيات
الأولى: الإسناد الثلاثي إسناد عال، والعلو في الإسناد مرغوب فيه عند المحدثين لكونه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ، لأنه ما من راو من رجال السند إلا والخطأ جائز عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند كثرت مظان تجويز الخطأ، وكلما قلت قلت، ومن أجل ذلك لم يرو البخاري عن الشافعي من طريق أصحابه الذين لقي الكثير منهم لأنه عاصر كثيرا من أقران الشافعي فروى عنهم مباشرة ما شاركهم الشافعي في روايته رغبة منه في علو الإسناد. وإن كان قد ذكر الشافعي في موضعين من صحيحه في باب: وفي الركاز الخمس، وفي باب: تفسير العرايا كما أشار إلى ذلك ابن السبكي في ترجمة البخاري من كتابه طبقات الشافعية الكبرى.
الثانية: عدد الأحاديث الثلاثية في صحيح البخاري اثنان وعشرون حديثا قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه مرفوعا: من يقل على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار. قال: وهذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري وليس فيه أعلى من الثلاثيات. وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثا انتهى. وقال في كشف الظنون: ووقع له اثنان وعشرون حديثا ثلاثيات الإسناد، وقال المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي: وأما في صحيح البخاري فاثنان وعشرون ثلاثيا قد أفردها العلماء بالتأليف كعلي القاري الهروي وغيره انتهى. وهذه العدة إنما هي بالأحاديث المكررة وبإسقاط التكرار تكون ستة عشر حديثا وقد طبعت ثلاثيات البخاري مفردة ومشروحة.
الثالثة: عدد الصحابة الذي روى البخاري من طريقهم الأحاديث الثلاثية ثلاثة الأول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه له منها سبعة عشر حديثا، والثاني أنس بن مالك رضي الله عنه له منها أربعة أحاديث، والثالث عبد الله ابن بسر رضي الله عنه، له منها حديث واحد أما شيوخه الذين روى عنهم(25/90)
ص -78- ... هذه الثلاثيات فعدتهم خمسة وهم: مكي بن إبراهيم وأبو عاصم النبيل وعصام بن خالد ومحمد بن عبد الله الأنصاري وخلاد بن يحي وهم من أتباع التابعين. وأما شيوخ شيوخه فيها فعدتهم أربعة وهم يزيد بن أبى عبيد وحميد الطويل وحريز بن عثمان وعيسى بن طهمان وهم من التابعين.
الرابعة: (1) في جامع الترمذي ثلاثي واحد أورده في كتاب الفتن فقال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ابن ابنة السدي الكوفي حدثنا عمر ابن شاكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر هذا حديث غريب من هذا الوجه انتهى. قال المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي: اعلم أنه ليس في جامع الترمذي ثلاثي غير حديث أنس المذكور. وقال: وليعلم أن بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسناد ثلاثي الترمذي المذكور اثنين وعشرين واسطة فذكرهم وكانت وفاة المباركفوري سنة 1353هـ رحمه الله، وعمر بن شاكر انفرد الترمذي بإخراج حديثه عن بقية أصحاب الكتب الستة، وقال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب إنه ضعيف.
(ب) في سنن ابن ماجه خمسة أحاديث ثلاثيات الإسناد كلها من طريق جبارة بن المغلس عن كثير بن سليم عن أنس رضي الله عنه ثلاثة منها في كتاب الأطعمة، وفي كتاب الزهد واحد، وواحد في كتاب الطب، وجبارة وكثير انفرد ابن ماجه عن بقية أصحاب الكتب الستة بإخراج حديثهما، وقال عنهما الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: إنهما ضعيفان.
(ب) ذكر المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي نقلا عن كتاب الحطة أنه ليس في صحيح مسلم ولا في سنن أبى داود والنسائي شيء من الأحاديث الثلاثيات الإسناد، فأعلى ما يكون عندهم الأحاديث الرباعيات الإسناد.
(ج) ذكر المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي نقلا عن كتاب الحطة أنه ليس في صحيح مسلم ولا في سنن أبي داود والنسائي شيء من الأحاديث الثلاثيات الإسناد, فأعلى ما يكون عندهم(25/91)
الأحاديث الرباعيات الإسناد.(25/92)
ص -79- ... (د) ذكر المباركفوري أيضاً نقلا عن كتاب الحطة أن ثلاثيات الدارمي أكثر من ثلاثيات البخاري، وقال صاحب كشف الظنون: ثلاثيات الدارمي هي خمسة عشر حديثا وقعت في مسنده بسنده.
(هـ) ثلاثيات مسند الإمام أحمد عددها واحد وثلاثون وثلاثمائة قد أفردت من المسند وشرحها الشيخ محمد السفاريني شرحا نفيسا في مجلدين كبيرين.
(و) ثلاثيات مسند عبد بن حميد عددها واحد وخمسون حديثا1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تنبيه: الحديث الثلاثي عند الترمذي، والخمسة عند ابن ماجه، وثلاثيات الدارمي وعددها خمسة عشر حديثا، وثلاثيات عبد بن حميد وعددها واحد وخمسون توجد مخطوطة بخط جميل ضمن مجموعة (رقم 44) مجاميع في مكتبة عارف حكمت في المدينة المنورة.(25/93)
المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- أورد البخاري الحديث في كتاب الكفالة في باب: من تكفل عن ميت ذينا فليس له أن يرجع. ووجه مطابقة الحديث للترجمة كما ذكر الحافظ في فتح الباري: أنه لو كان لأبى قتادة أن يرجع عن الكفالة لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل المدين حتى يوفي أبو قتادة الدين، لاحتمال أن يرجع فيكون النبي ع!مم صلى على مدين دينه باق عليه، فدل على أنه ليس له أن يرجع، وأورده أيضاً في كتاب الحوالة من طريق مكي بن إبراهيم في باب: إذا أحال دين الميت على رجل جاز، ووجهه كما نقل الحافظ في الفتح عن ابن بطال أنه قال: إنما ترجم بالحوالة فقال: إن احال دين الميت. ثم أدخل حديث سلمة وهو في الضمان لأن الحوالة والضمان عند بعض العلماء متقاربان، وإليه ذهب أبو ثور لأنهما ينتظمان في كون كل منهما نقل ذمة رجل إلى ذمة رجل آخر، والضمان في هذا الحديث نقل ما في ذمة الميت إلى ذمة الضامن فصار كالحوالة سواء.
2- قوله: إذ أتي بجنازة. قال في القاموس: الجنازة الميت ويفتح، أو بالكسر الميت وبالفتح السرير أو عكسه، وبالكسر السرير مع الميت انتهى. وقد أعيد الضمير مؤنثا في قوله: ليصلى عليها. باعتبار لفظ الجنازة وهو مؤنث، ومذكرا في قوله: هل عليه من دين ة باعتبار المعنى وهو الميت، وقد زيدت "من " قبل المبتدأ المنكر في قوله: هل عليه من دين لتأكيد إفادة(25/94)
ص -80- ... العموم في جنس الدين، أي هل عليه دين، أيّ دين كان، قليلا كان أو كثيراً.
3- اشتمل هذا الحديث على ذكر جنازتين: سليم من الدين صلى عليه ومدين أراد ترك الصلاة عليه لو لم يتحمل عنه دينه، وقد ذكر جنازة ثالثة في طريق مكي بن إبراهيم المذكور في التخريج وهو من عليه دين وترك وفاء له وقد صلى عليه.
4- لم يبين في الحديث قدر الدين وقد بين في طريق مكي بن إبراهيم بأنه ثلاثة دنانير قال الحافظ في الفتح: وفي حديث جابر عند الحاكم ديناران، وأخرجه أبو داود من وجه آخر عن جابر نحوه، وكذلك أخرجه الطبراني من حديث أسماء بنت يزيد يجمع بينهما بأنه كان دينارين وشطرا فمن قال ثلاثة جبر الكسر ومن قال ديناران ألغاه أو كان أصلهما ثلاثة فوفي قبل موته دينارا وبقى عليه ديناران، فمن قال ثلاثة فباعتبار الأصل، ومن قال ديناران فباعتبار ما بقي من الدين والأول أليق. ووقع عند ابن ماجه من طريق أبى قتادة. ثمانية عشر درهما، وهذا دون دينارين، وفي مختصر المزني من حديت أبى سعيد الخدري درهمين يجمع إن ثبت بالتعدد. ورجح الشوكاني في نيل الأوطار القول بتعدد القصة مطلقا. وقال الحافظ في الفتح أيضاً: وقد وقعت هذه القصة مرة أخرى. فروى الدارقطني من حديث عليّ "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل ويسأل عن دينه فان قيل عليه دين كف وإن قيل ليس عليه دين صلى، فأتى بجنازة، فلما قام ليكبر سأل هل عليه دين؟ فقالوا ديناران فعدل عنه فقال عليّ: هما علي يا رسول الله وهو بريء منهما فصلى عليه، ثم قال لعلى: "جزاك الله خيراً وفك الله رهانك"، الحديث.
5- لم يبين في هذا الحديث سبب السؤال عن الميت هل عليه دين وقد بين ذلك في حديث أبى هريرة رضي الله عنه عند الشيخين قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه وفاء فان حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى وإلاّ قال للمسلمين(25/95)
صلوا على صاحبكم فلما(25/96)
ص -81- ... فتح الله عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلى قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته".
6- قال الحافظ في الفتح: قال العلماء كأن الذي فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه أو جائزة؟ وجهان. قال النووي: الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما في حديث مسلم وحكى القرطبي أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من استدان دينا غير جائز وأما من استدان لأمر هو جائز فما كان يمتنع وفيه نظر لأن في حديث الباب- يعنى حديث أبى هريرة- ما يدل على التعميم حيث قال: من توفي وعليه دين ولو كان الحال مختلفا لبينه، ثم أورد حديثا عن ابن عباس فيه التفصيل بين التحمل في البغي والإسراف والتحمل في الحاجة وقال وهو ضعيف وقال: قال القرطبي بعد أن أخرجه: لا بأس به في المتابعات، وقال: وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمرا وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك وأنه السبب في قوله: من ترك دينا فعلى، وقال الشوكاني في نيل الأوطار، قال ابن بطال: هذا يعنى من ترك دينا فعلى. ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقد حكى القرطبي إجماع الأمة على ذلك.
7- أبو قتادة الذي تحمل الدين في الحديث: هو الحارث ويقال عمرو ويقال النعمان بن ربعي الأنصاري السلمي بفتحتين المدني، شهد أحدا وما بعدها ولم يصح شهوده يدرآ، ومات سنة أربع وحسين وقيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في التقريب ورمز لكون حديثه مخرجا في الكتب الستة.
8- هم الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الصلاة على من عليه الذين، في الحديث حصل فيه فائدتان إحداهما تعود إلى المتوفى وهي أن أبا قتادة رضي الله عنه رق له فتحمل دينه فبرئت ذمته بذلك، والثانية تعود(25/97)
إلى الأحياء وهي التحذير من(25/98)
ص -82- ... الدين والتحريض على قضائه قبل الموت لئلا تترك الصلاة عليهم.
9- صلاة الجنازة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، والمتوفى. أحوج ما يكون إلى ذلك الحق فجدير بالمسلم أن يحرص على بذل هذا الحق لإخوانه المسلمين لأنه يحب ذلك لنفسه وقد قال صلى الله عليه وسلم: ومن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلأته منيته وهو يؤمن بالته واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ولما في ذلك من الفائدة للمتوفى وللمصلى، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صلى على الجنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراط يا رسول الله؟ قال: مثل جبل احد.
10- من فقه الحديث وما يستنبط منه:
1- وجوب صلاة الجنازة وهي من حق المسلم على أخيه المسلم لقوله: فصلوا على صاحبكم.
2- أن صلاة الجنازة فرض كفاية حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم التخلي عنها لو لم يتحمل الذين عن الميت.
3- أنه ينبغي لذوى الميت الاهتمام بشهود أهل الفضل والصلاح الصلاة على ميتهم.
4- سؤال الإمام عن أحوال الرعية.
5- مشروعية الضمان.
6- جواز تحمل الدين عن الميت.
7- براءة ذمة الميت بأداء غيره ما وجب عليه.
8- التنفير من الدين والتحذير من تعاطيه إلا مع الضرورة.
9- حث المدينين على قضاء ديونهم، وتحريضهم على المبادرة إلى التخلص من تبعتها.(25/99)
ص -83- ... 10- الاكتفاء في لزوم الضمان على الضامن بمجرد التزامه وإن تأخر الأداء.
11- أن الضامن ليس له الرجوع عن التزامه ما تكفل به.
12- أن تفويت الإنسان على الناس حقوقهم قد يكون سببا في تفويت حقه عليه.
13- أن درأ المفاسد العامة مقدم على جلب المصالح الخاصة.
14- أن الجزاء من جنس العمل وأنه كما يدين الإنسان يدان.
15- أنه ليس للضامن الرجوع في مال الميت إن ظهر أن له مالا.
16- بيان ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الأخلاق الفاضلة: من الرأفة والشفقة والرحمة بعضهم لبعض، فتحمل أبى قتادة رضي الله عنه الدين مثال واقعي لما وصفهم الله به في قوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
17- تأخير البيان إلى وقت الحاجة.(25/100)
ص -84- ... الحديث الخامس
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد: باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة.
حدثنا مطر بن الفضل حدثنا يزيد بن هارون حدثنا العوام حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي قال: سمعت أبا بردة واصطحب هو ويزيد بن أبى كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة: سمعت أبا موسى مرارا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا".
المبحث الأول: التخريج:
انفرد البخاري عن مسلم بإخراج هذا الحديث فأورده في هذا الموضع من صحيحه. وقد رواه في الأدب المفرد فقال: باب يكتب للمريض ما كان يعمل وهو صحيح، حدثنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن القاسم بن مخيمرة عن عبد. الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يمرض إلا كتب له مثل ما كان يعمل وهو صحيح".
وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز من سننه فقال: باب إذا كان الرجل يعمل عملا صالحا فشغله عنه مرض أو سفر: حدثنا محمد بن عيسى ومسدد المعنى قالا: حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي عن أبى بردة عن أبى موسى قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول: "إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله عنه مرض أو سفر كتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم"، ورواه أحمد في مسنده. وورد بمعناه أحاديث فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحد(25/101)
ص -85- ... من الناس يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه فقال: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وثاقي"، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجال أحمد رجال الصحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه فقال: على شرطهما، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو القيه إليّ"، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وإسناده صحيح، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: وإسناده حسن، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتلى الله عز وجل العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله عزوجل للملك: أكتب له صالح عمله الذي كان يعمله، فإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه"، قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وأحمد، ورجاله ثقات انتهى. ورواه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، وعن شقيق بن عبد الله قال: مرض عبد الله ابن مسعود فعدناه، فجعل يبكى فعوتب فقال: إني لا أبكى لأجل المرض لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المرض كفارة"، وأنا أبكى أنه أصابني على فترة ولم يصبني في حال اجتهاد، لأنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل أن يمرض فمنعه منه المرض"، أخرجه رزين كما في جامع الأصول لابن الأثير وكما في مشكاة المصابيح، وذكر الحافظ في الفتح أن الإسماعيلي أخرج حديث أبى موسى هذا من رواية هشيم عن العوام بن حوشب وقال فيه أيضاً: ولرواية إبراهيم السكسكي عن أبى بردة متابع أخرجه الطبراني من طريق سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن جده بلفظ "إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته مادام في وثاقه". الحديث وفي(25/102)
حديت عائشة عند النسائي: "ما من امرىء تكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم أو وجع إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقه". وذكر حديث أبى(25/103)
ص -86- ... هريرة رفعه: "من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر، لا ينقص ذلك من أجره شيئا"، وقال: أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وإسناده قوى انتهى.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري مطر بن الفضل: قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: مطر بن الفضل المروزي ثقة من الحادية عشرة، قال الفربري مات عندنا أي بعد الخمسين انتهى. والمراد من قول الفربري المشار إليه أنه مات في فربر بعد المائتين والخمسين، وقال في خلاصة تذهيب الكمال: مطر بن الفضل المروزي عن وكيع وغيره وعنه البخاري، قال ابن حبان: مستقيم الحديث. وقال أبو الفضل ابن طاهر المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع يزيد بن هارون وشبابة وروح بن عبادة روى عنه البخاري في الصلاة والجهاد وهجرة النبي ء صلى الله عليه وسلم انتهى. وهو من رجال البخاري دون بقية أصحاب الكتب الستة.
الثاني: يزيد بن هارون: وهو يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي ثقة متقن عابد من التاسعة، مات سنة ست ومائتين وقد قارب التسعين، قاله الحافظ في تقريب التهذيب. وقال في الخلاصة: أحد الأعلام الحفاظ المشاهير عن سليمان التيمي وحميد الطويل والجريري وداود بن أبى هند وخلق، وعنه بقية وابن المديني وأحمد وإسحاق وعبد بن حميد وخلق، قال أحمد: كان حافظا متقنا، وقال العجلي: ثقة ثبت، وقال أبو حاتم: إمام لا يسأل عن مثله انتهى. وقد أثنى عليه أئمة آخرون غير هؤلاء، وقال في الجمع بين رجال الصحيحين: قال أحمد بن حنبل: ولد سنة ثمان عشرة ومائة، وقال ابن سعد: مات بواسط في غرة شهر ربيع الأول سنة ست ومائتين انتهى. وقد خرج حديثه الجماعة.(25/104)
ص -87- ... الثالث: العوام: وهو ابن حوشب بن يزيد الشيباني أبو عيسى الواسطي ثقة ثبت فاضل من السادسة، مات سنة ثمان وأربعين أي بعد المائة، قاله في تقريب التهذيب، وذكر في تهذيب التهذيب أنه روى عن أبى إسحاق السبيعي ومجاهد وسعيد بن جهمان وإبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي وغيرهم، وروى عنه سفيان بن حبيب وحفص بن عمر الرازي وهشيم ويزيد ابن هارون وغيرهم، وذكر أيضاً توثيق الإمام أحمد وابن معين وأبى زرعة والعجلي وابن سعد والحاكم له، وقد خرج حديثه الجماعة.
الرابع: إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي ت وهو إبراهيم بن عبد الرحمن ابن إسماعيل السكسكي أبو إسماعيل الكوفي مولى صخير قاله الحافظ في تهذيب التهذيب، وقال: روى عن عبد الله بن أبى أوفي وأبى بردة بن أبى موسى وأبى وائل وغيرهم، وعنه العوام بن حوشب ومسعر وأبو خالد الدالاني وغيرهم، وقال في مقدمة فتح الباري: قال أحمد: ضعيف، وقال النسائي: يكتب حديثه وليس بذلك القوى، وقال ابن عدى: لم أجد له حديثا منكر المتن وهو إلى الصدق أقرب، وقال الحاكم: قلت للدارقطني يرص ترك مسلم حديثه؟ فقال تكلم فيه يحي بن سعيد، قلت بحجة؟ قال: هو ضعيف، ثم ذكر الحافظ أن له في الصحيح حديثين أحدهما عن عبد الله بن أبى أوفي في نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}!هو أخرجه في التفسير وغيره وهذا له أصل من حديث ابن مسعود فهو شاهد له: والثاني من حديثه عن أبى بردة عن أبيه: إذا مرض العبد أو سافر، الحديث وقال في تهذيب التهذيب: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في تقريب التهذيب: صدوق ضعيف الحفظ من الخامسة. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال: كوفي صدوق، لينه شعبة والنسائي ولم يترك انتهى، وقد روى له أيضاً أبو داود والنسائي ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته..
الخامس: أبو بردة، وهو أبو بردة بن أبى موسى الأشعري، قيل اسمه عامر وقيل الحارث ثقة من الثالثة،(25/105)
مات سنة أربع ومائة وقيل غير ذلك وقد(25/106)
ص -88- ... جاوز الثمانين، قاله الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب، وقال في تهذيب التهذيب: روى عن أبيه وعلى وحذيفة وعبد الله بن سلام وعن أناس آخرين سماهم، ثم قال: وعنه أولاده سعيد وبلال وحفيده أبو بردة يزيد بن عبد الله بن أبى بردة والشعبي وهو من أقرانه، وعاصم بن كليب وإبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي وأناس آخرون سماهم، ثم ذكر توثيق ابن سعد والعجلي وابن خراش وابن حبان له، وحديثه نحرجه الجماعة.
أما يزيد بن أبى كبشة فليس من رواة الحديث كما هو معلوم وإنما أورد أبو بردة الحديث من أجل صيامه في السفر وقد قال الحافظ في فتح الباري: ويزيد بن أبى كبشة هذا شامي واسم أبيه حيوبل بفتح المهملة وسكون التحتانية وكسر الواو وبعدها تحتانية أخرى ساكنة ثم لام وهو ثقة ولى خراج السند لسليمان بن عبد الملك ومات في خلافته وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع انتهى.
السادس: صحابي الحديث أبو موسى الأشعري: وهو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة أبو موسى الأشعري صحابي مشهور أمره عمر ثم عثمان وهو أحد الحكمين بصفين مات سنة خمسين وقيل بعدها قاله الحافظ في تقريب التهذيب، وقال الخزرجى في الخلاصة له ثلاثمائة وستون حديثا اتفقا على خمسين وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة وعشرين، وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن عدة أحاديثه عند البخاري سبعة وخمسون حديثا، وقال في تهذيب التهذيب: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبى بكر وعمر وعلى وابن عباس وأبن بن كعب وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وعنه أولاده إبراهيم وأبو بكر وأبو بردة وموسى وامرأته أم عبد الله وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأناس آخرون سماهم، وقال أيضاً: ومناقبه كثيرة: وقال في كتابه الإصابة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن كزبيد وعدن وأعمالهما واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة فافتتح الأهواز ثم أصبهان(25/107)
ثم استعمله عثمان على الكوفة ثم كان أحد(25/108)
ص -89- ... الحكمين بصفين ثم اعتزل الفريقين. وقال أيضاً: وكان حسن الصوت بالقرآن وفي الصحيح المرفوع: لقد أوتى مزمارا من مزامير آل داود انتهى. وحديثه في الكتب الستة.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ الدارقطني على البخاري، وقد تقدم أن جملة الأحاديث التي انتقدها الحفاظ على الإمام البخاري مائة وعشرة أحاديث، انفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثا، وشاركه مسلم في إخراج اثنين وثلاثين، ووجه الانتقاد في هذا الحديث من الدارقطني أنه قال: أ يسنده غير العوام بن حوشب وخالفه مسعر فرواه عن إبراهيم السكسكي عن أبى بردة قوله ولم يذكر أبا موسى ولا النبي صلى الله عليه وسلم انتهى، وقد أجاب الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح عن هذا الانتقاد بجوابين قال فيهما: قلت مسعر أحفظ من العوام بلا شك إلا أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع، وفي السياق قصة تدل على أن العوام حفظه، فان فيه: اصطحب يزيد بن أبى كبشة وأبو بردة في سفر فكان يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة: أفطر فإني سمعت أبا موسى مراراً يقول فذكره، وقد قال أحمد بن حنبل إذا كان في الحديث قصة دل على أن راويه حفظه والله أعلم انتهي كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله.
وهناك جوابان آخران أحدهما: أنه ورد مسنداً من غير طريق العوام بن حوشب عند البخاري في الأدب المفرد، وقد تقدم سندا ومتنا في التخريج، الثاني: أن الحكم في تعارض الرفع والوقف والوصل والإرسال لمن أرسله أو وقفه إذا كان أحفظ إنما هو قول لبعض العلماء وقد رجح كثير من العلماء أن الحكم لمن وصله أو رفعه قال النووي في التقريب: والصحيح أن الحكم لمن وصله أو رفعه سواء كان المخالف له مثله أو أكثر لأن ذلك زيادة ثقة وهى(25/109)
ص -90- ... مقبولة، وقال السيوطي في التدريب: إنه الصحيح عند أهل الحديث والفقه والأصول، وقال أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث في معرض تعداد الأقوال في المسألة: ومنهم من قال الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا فيقبل خبره وإن خالفه غيره سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة، قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح، ثم قال ابن الصلاح. قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله وسئل البخاري عن حديث: "لا نكاح إلا بولي" فحكم لمن وصله وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، فقال البخاري هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان وهما جبلان لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية، ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله وصله في وقت وأرسله في وقت، وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفه بعضهم على الصحابي، أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضاً في وقت آخر، فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع، لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه لأنه علم ما خفي عليه انتهى. وقال العراقي في ألفيته:
واحكم لوصل ثقة في الأظهر
وبهذه الأجوبة تتضح سلامة هذا الحديث من الانتقاد الذي وجهه الدارقطني إليه.
2- رجال الإسناد الستة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ البخاري مطر بن الفضل فقد انفرد البخاري بإخراج حديثه وإلاّ إبراهيم السكسكي فلم يرو له مع البخاري سوى أبى داود والنسائي، وقد أخرج له البخاري حديثين كما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري.
3- العوام في الإسناد غير منسوب وهو ابن حوشب ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من اسمه العوام غيره بل جملة من اسمه العوام عند أصحاب الكتب الستة ثلاثة هذا أحدهم وقد اتفقوا على إخراج حديثه، والثاني العوام بن حمزة المازني البصري، وهو من رجال الترمذي(25/110)
ص -91- ... وحده، والثالث العوام بن عباد الواسطي وهو من رجال ابن ماجه وحده.
4- هذا الحديث رواه أبو بردة بن أبى موسى الأشعري عن أبيه. أبى موسى رضي الله عنه فهو من رواية الأبناء عن الآباء.
5- في سند هذا الحديث واسطيان وهما يزيد بن هارون وشيخه العوام ابن حوشب.
6- يزيد بن أبى كبشة الذي أورد أبو بردة الحديث من أجل صيامه معه في السفر ليس له ذكر في صحيح البخاري إلا في هذا الموضع كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- هذا الحديث أورده البخاري في كتاب الجهاد لأن الجهاد لابد فيه من السفر غالبا.
2- معنى الحديث: إذا مرض العبد المسلم وكان يعمل عملا صالحاً قبل مرضه ومنعه منه المرض ونيته لولا المانع إدامته، أو سافر سفرا مباحاً ومنعه السفر مما قطعه على نفسه من الطاعة ونيته المداومة عليه كتب له من الأجر قدر ثواب عمله في حال إقامته وفي حال صحته.
3- في الحديث شاهد لما يعرف في علم البلاغة باللف والنشر المقلوب لأنه ذكر المرض والسفر أولا ثم ذكر الإقامة والصحة ثانيا، فالإقامة في مقابل السفر والصحة في مقابل المرض ومن أمثلته في الكتاب العزيز قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ومن أمثلة اللف والنشر المرتب في الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} و ومن أمثلته في السنة قوله صلى الله عليه وسلم:(25/111)
ص -92- ... "أحلت لنا ميتان ودمان، فأما الميتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال".
4- في الحديث شاهد لنوعي الفعل المسند إلى الفاعل، قال ابن هشام معرفا الفاعل في شذور الذهب: هو ما قدم الفعل أو شبهه عليه وأسند إليه على جهة قيامه به أو وقوعه منه انتهي فان الفعل "سافر" يسند إلى العبد لكون السفر وقع منه والفعل "مرض " يسند إلى العبد لكون المرض قام به.
5- من فقه الحديث وما يستنبط منه:
1- ما كان عليه سلف هذه الأمة من إتباع السنة وإرشاد الناس إليها.
2- المذاكرة في العلم والعناية بالأدلة.
3- إثبات كتابة أعمال العباد.
4- أن العبد المسلم إذا كان يعمل عملا في حال صحته فمنعه المرض كتب له مثل عمله في حال الصحة.
5- أن المسافر يكتب له مثل ما كان يعمل في حال الإقامة كذلك.
6- تفضل الله على عباده وإنعامه عليهم بإثابتهم على ما فعلوه من الخير وما لم يتمكنوا من فعله.
7- بيان ضعف المخلوق وأنه لا يخرج عن كونه عبداً لله فلا يجوز أن يصرف له ما لا يستحقه.
8- أن من مظاهر ضعف العبد طروء المرض عليه.
9- حاجة الإنسان إلى السفر، وأفضله السفر في الجهاد ومن أجل
ذلك أورد البخاري هذا الحديث في كتاب الجهاد.
10- الرد على من زعم أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة تسقط الكراهة والإثم خاصة من غير أن تكون محصلة للفضيلة.(25/112)
ص -93- ... 11- الترغيب في المداومة على الطاعة في الصحة والإقامة ليخطي العبد في ثواب فيهما وفي حال المرض والسفر(25/113)
ص -94- ... الحديث السادس
قال البخاري رحمه الله في كتاب فضائل الصحابة رضوان الله عليهم:
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي " صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فما فرحنا بشيء فزحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن أ أعمل بمثل أعمالهم ".
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في أربعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والثاني في كتاب الأدب: باب ما جاء في قول الرجل: ويلك ولفظه:
حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة قائمة؟ فقال؟ "ويلك وما أعددت لها؟" قال: ما أعددت لها إلا إني أحب الله ورسوله، فقال: "إنك مع من أحببت". فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: نعم، ففرحنا يومئذ فرحا شديداً فمر غلام للمغيرة- وكان من أقراني- فقال: إن أخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، واختصره شعبة عن قتادة: سمعت أنساً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثالث في كتاب الأدب: باب علامة الحب في الله ولفظه: حدثنا عبدان أخبرنا أبى عن شعبة عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبى الجعد عن أنسى بن(25/114)
ص -95- ... مالك أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله؟ فقال: "ما أعددت لها؟" قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، فقال: "أنت مع من أحببت".
والرابع في كتاب الأحكام: باب القضاء والفتيا في الطريق ولفظه: حدثنا
عثمان بن أبى شيبة حدثنا جرير عن منصور عن سالم بن أبى الجعد حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال بينما أنا والنبي صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عن سدة المسجد فقال يا رسول الله متى الساعة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها؟" فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام ولا صلاة ولا صدقة وإني أحب الله ورسوله. قال: "أنت مع من أحببت".
وأخرج الحديث مسلم في كتاب البر والصلة من صحيحه عن عبد الله ابن مسلمة القعنبي وعن أبى بكر بن أبى شيبة وعمرو والناقد وزهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نمير وابن أبى عمرو عن محمد بن رافع وعبد بن حميد وعن أبى الربيع العتكي وعن محمد بن عبيد الغبري وعن عثمان بن أبى شيبة واسحاق بن إبراهيم وعن محمد بن يحي بن عبد العزيز اليشكري وعن قتيبة وابن المثنى وابن بشار وأبى غسان المسمعي.
وأخرجه الترمذي في الزهد من جامعه عن ابن حجر.
وأخرج طرفا منه وهو قوله أنت مع من أحببت بلفظ "المرء مع من أحب " البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من طرق متعددة بل قد حكى بعض العلماء تواتر ذلك، قال ابن كثير في تفسير سورة الشورى: وقد روى من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد وفي بعض الفاظه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه فقال يا محمد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته: هاؤم، فقال له: متى الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ويحك، إنها كائنة فما أعددت لها؟" فقال: حب الله ورسوله، فقال(25/115)
ص -96- ... صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت"، فقوله في الحديث "المرء مع من أحب " هذا متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها 1هـ. وقال الحافظ في الفتح عند الكلام على حديث "المرء مع من أحب ": وقد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه "كتاب المحبين مع المحبوبين " وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم بهذا اللفظ وفي بعضها بلفظ أنس.
المبحث الثاني ، التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري سليمان بن حرب قال الحافظ في تهذيب التهذيب: سليمان بن حرب بن بجيل الأزدي الواشحي أبو أيوب المصري وواشح من الأزد سكن مكة وكان قاضيها، وقال الخزرجى في الخلاصة: أحد الأعلام الحفاظ عن شعبة والحمادين وجرير بن حازم وطبقتهم، وعنه البخاري وأبوداود وعمرو بن على وأحمد وابن راهوية، ومن القدماء يحي القطان ومحمد ابن جعفر وخلق انتهى.
وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب توثيقه عن أبى حاتم ويحي بن أكثم ويعقوب بن شيبة والنسائي وابن خراش وابن حبان وابن قانع وابن عدى وابن سعد وقال عنه في تقريب التهذيب: ثقة إمام حافظ من التاسعة، مات سنة أربع وعشرين أي بعد المائتين وله ثمانون سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة.
الثاني: حماد بن زيد، قال الحافظ في تهذيب التهذيب: حماد بن زيد ابن درهم الأزدي الجهضمي أبو إسماعيل البصري الأزرق مولى آل جرير بن حازم، وقال في تقريب التهذيب: ثقة ثبت فقيه قيل إنه كان ضريرا ولعله طرأ عليه لأنه صح أنه كان يكتب، من كبار الثامنة مات سنة تسع وسبعين أي بعد المائة وله إحدى وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقد روى عن ثابت البناني وأنس بن سيرين وعبد العزيز بن صهيب وعاصم الأحول وغيرهم ذكرهم في تهذيب التهذيب وذكر كثيرا ممن رووا عنه ومنهم ابن المبارك(25/116)
ص -97- ... وابن مهدى وابن وهب والقطان وابن عيينة وهو من أقرانه، والثوري وهو أكبر منه وعارم ومسدد وسليمان بن حرب ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك قول عبد الرحمن بن مهدى: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وجماد بن زيد بالبصرة، وقال وكيع وقيل له أيهما أحفظ؟ أي الحمادين حماد بن زيد وحماد بن سلمة، فقال: حماد بن زيد ما كنا نشبهه إلا بمسعر، وقال يحي بن يحي النيسابوري: ما رأيت أحفظ منه انتهى. وكانت وفاته في السنة التي مات فيها الإمام مالك بن أنس رحمه الله. وهو أحد الحمادين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما في الطبقة روى عنه الحمادان وفي ترجمة من دونهما روى عن الحمادين والثاني منهما حماد بن سلمة ابن دينار.
الثالث: ثابت وهو ثابت بن أسلم البناني بضم الموحدة وبنونين مولاهم أبو محمد البصري أحد الأعلام، عن ابن عمر وعبد الله بن مغفل وأنس وخلق من التابعين، وعنه شعبة والحمادان ومعمر قاله الخزرجى في الخلاصة، وقال الحافظ في تقريب التهذيب: ثقة عابد من الرابعة مات سنة بضع وعشرين أي بعد المائة وله ست وثمانون سنة، وذكر في تهذيب التهذيب توثيقه عن العجلي والنسائي وابن سعد، وقال أبو الفضل ابن طاهر في الجمع بين رجال الصحيحين: ويقال بنانة الذين منهم ثابت هم بنو سعد بن لؤي بن غالب وقد خرج حديثه الجماعة.
الرابع: صحابي الحديث أنس، وهو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين صحابي مشهور مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة قاله الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب، وقال في تهذيب التهذيب أبو حمزة المدني خادم رسول الله عامله نزيل البصرة. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن أبى بكر الصديق ومعاذ وأبى ذر وعدة من الصحابة(25/117)
ص -98- ... رضي الله عنهم عند هما أي في الصحيحين، وروى عنه الزهري ويحي بن سعيد والحسن وقتادة وثابت وحميد وغير واحد من التابعين عند هما: وقال: وكان آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: ومناقب أنس وفضائله كثيرة جدا وقال خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المكثرين من الرواية عنه وذكر في مقدمة الفتح: أن له عند البخاري مائتين وثمانية وستين حديثا، وقال الخزرجى في الخلاصة له ألف ومائتا حديث وستة وثمانون حديثا اتفقا- أي البخاري ومسلم- على مائة وثمانية وستين وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين ومسلم بأحد وسبعين انتهى. وحديثه في الكتب الستة.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الأربعة بصريون فهو مسلسل بالرواة البصريين وهو من رباعيات البخاري.
2- رجال الإسناد الأربعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم.
3- ومن اللطائف في ذلك أن كلا من رواته يلي من روى عنه في مقدار العمر فأنس رضي الله عنه عمره جاوز المائة والراوي عنه ثابت البناني وعمره ست وثمانون سنة، وعنه حماد بن زيد وعمره إحدى وثمانون سنة وعنه سليمان بن حرب وعمره ثمانون سنة وعنه الإمام البخاري وعمره اثنتان وستون سنة. ومن جهة أخرى أن كل واحد من رواته قد بدىء اسمه بحرف متقدم في الترتيب على الذي يليه من الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه حتى الإمام البخاري محمد بن إسماعيل رحمه الله الهمزة ثم الثاء ثم الحاء ثم السين ثم الميم فالباحث عن تراجمهم في كتب الرجال يجدهم في الكتب حسب ترتيبهم في هذا الإسناد.(25/118)
ص -99- ... 4- قال الخزرجى في الخلاصة في ترجمة ثابت البناني: روى عنه الحمادان وقال في ترجمة سليمان بن حرب روى عن الحمادين، والمراد بهما حماد بن زيد وحماد بن سلمة وطبقتهما واحدة وهما بصريان، ولم يخرج البخاري لحماد بن سلمة في صحيحه في الأصول بل في التعليق.
5- ثابت هو ابن أسلم البناني، وقد روى عن أنس غيره من التابعين ممن يشاركه في الاسم إلا أنه مشهور في الرواية عنه وقد لازمه سنوات عديدة تبلغ أربعين سنة كما في تهذيب التهذيب.
6- أنس هو ابن مالك الأنصاري رضي الله عنه ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من الصحابة ممن يسمى أنساً سواه وقد نسب في الإسناد في بعض الطرق عند البخاري كما تقدم في التخريج.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- قوله: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، وفي بعض روايات حديث أنس عند البخاري أن رجلا من أهل البادية، وهذا الرجل نص الحافظ في الفتح أنه ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد وقال إن حديثه بذلك مخرج عند الدارقطني انتهى. والحديث عند الدارقطنى: عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير فقال يا محمد متى الساعة فقال: "وما أعددت لها "قال: لا والذي بعثك بالحق نبيا ما أعددت لها من كبير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله قال: "فإنك مع من أحببت". قال: فذهب الشيخ فأخذ يبول في المسجد الخ.
2- قوله: وماذا أعددت لها، أي ما العمل الصالح الذي أعددته لتلقى جزاءه إذا قامت الساعة. قال الحافظ: قال الكرماني: سلك مع السائل أسلوب الحكيم وهو تلقى السائل بغير ما يطلب مما يهمه أو هو أهم.
3- قوله: أنت مع من أحببت، قال الحافظ في الفتح: أي ملحقبهم حتى تكون من زمرتهم وبهذا يندفع إيراد أن منازلهم متفاوتة فكيف تصح(25/119)
ص -100- ... المعية؟ فيقال: إن المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعية وإن تفاوتت ا لدرجات.
4- قول أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي وعتق أنت مع من أحببت، وفي صحيح مسلم قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي ! فإنك مع من أحببت.
5- قوله: فأنا أحب النبي مجرم وأبا بكر وعمر، جمع أنس رضي الله عنه بين النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في المحبة، ومحبتهما رضي الله عنهما من محبة الرسول يا لأن المحبة الصادقة تقتضى موافقة المحبوب في محبة ما يحبه وبغض ما يبغضه، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما حبيباه وصاحباه رضي الله عنهما، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقد جمع الله بين النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما في الدنيا وفي التربة في البرزخ وهما معه في الجنة، وهما أفضل من ولدته النساء بعد الأنبياء والمرسلين، وأفضلهما الصديق رضي الله عنه وبعد عمر في الفضل عثمان رضي الله عنه، ثم على رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين.
6- من فقه الحديث وما يستنبط منه:
1- الرجوع إلى العلماء وسؤالهم عن أمور الدين.
2- رفق العالم بالسائل وتوجيه عنايته إلى ما يعود عليه بالفوائد العظيمة.
3- كمال نصح الرسول هشيم وشفقته على أمته وإرشادهم إلى ما فيه فوزهم وسعادتهم.
4- أن من حسن إسلام المرء اشتغاله بما يعنيه وتركه ما لا يعنيه.
5- أن الاستعداد للدار الآخرة والعمل لما بعد الموت هو الشيء المهم الذي يجب أن تصرف إليه الهمم.(25/120)
ص -101- ... 6- احتقار الإنسان لعمله وعدم اغتراره به وتيقنه أنه دائما محل التقصير.
7- عظم شأن محبة الله ورسوله، وفي الحديث الصحيح: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، الحديث.
8- حسن تصرف السائل وتسديده في الإجابة لما أعيد عليه السؤال.
9- توجيه عناية المسلم إلى محبة الحق وأهله ليحظى بالسعادة، لأن المرء مع من أحب.
10- عظم قدر الصحابة رضوان الله عليهم وحرصهم على الخير وبعدهم عن الشر وذلك في شدة فرحهم رضوان الله عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت.
11- أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للواحد خطاب للجميع ما لم يدل دليل على التخصيص.
12- فضل أبى بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما، ومن أجل ذلك أورد البخاري هذا الحديث في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
13- تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لأبى بكر وعمر رضي الله عنهما ومحبتهم لهما ومعرفتهم قدرهما رضي الله عن الجميع.
14- في قول أنس رضي الله عنه: وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، دلالة على توسل الإنسان إلى الله بعمله الصالح، وقد دل على ذلك أيضاً حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار.(25/121)
ص -102- ... الحديث السابع
قال الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه:
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا حبان حدثنا همام حدثنا ثابت حدثنا أنس قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا قال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
المبحث الأول، التخريج:
أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث في ثلاثة مواضع من صحيحه
هذا أحدها في باب قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}, والثاني في باب مناقب المهاجرين وفضلهم في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: حدثنا محمد بن سنان حدثنا همام عن ثابت عن أنس عن أبى بكر رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما"، والثالث في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ولفظه: حدثنا موسى ابن إسماعيل حدثنا همام عن ثابت عن أنس عن أبى بكر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم فقلت يا نبي الله لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما.
وأخرج الحديث مسلم في صحيحه وهو أول حديث عنده في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم فقال: حدثني زهير بن حرب وعبد بن حميد وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال عبد الله: أخبرنا، وقال الأخران: حدثنا حبان بن هلال حدثنا همام حدثنا ثابت حدثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار(25/122)
ص -103- ... فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في الغار وقال مرة ونحن في الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال: فقال "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
ورواه الترمذي في التفسير من جامعه عن زياد بن أيوب البغدادي عن عفان بمثل سنده ومتنه في مسند الإمام أحمد. وقال هذا حديث حسن صحيح غريب إنما يعرف من حديث همام تفرد به وقد روى هذا الحديث حبان بن هلال وغير واحد عن همام نحو هذا.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: تنبيه: اشتهر أن حديث الباب تفرد به همام عن ثابت وممن صرح بذلك الترمذي والبزار وقد أخرجه ابن شاهين في الأفراد من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت بمتابعة همام وقد قدمت له شاهدا من حديث حبشي بن جنادة- يشير بذلك إلى ما أخرجه ابن عساكر عنه- ووجدت له آخر عن ابن عباس أخرجه الحاكم في الإكليل انتهى.
وقال الشوكاني في تفسيره: وأخرج ابن شاهين وابن مردويه وابن عساكر عن حبشي بن جنادة قال: "قال أبو بكر يا رسول الله لو أن أحداً من المشركين رفع قدمه لأبصرنا فقال: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا".
المبحث الثاني ، التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري عبد الله بن محمد، قال المقدسي في الجمع بين رحال الصحيحين؟ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان أبو جعفر الجعفي البخاري المعروف بالمسندي وإنما عرف به لأنه كان وقت الطلب يتبع الأحاديث المسندة ولا يرغب في المقاطيع والمراسيل، سمع سفيان بن عيينة(25/123)
ص -104- ... ويحي بن آدم وحرمي بن عمارة وأناسا آخرين سماهم وقال: وروى عنه البخاري في مواضع. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: وقال أبو حاتم صدوق وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان متقنا، وقال أحمد بن سيار: من المعروفين بالعدالة والصدق صاحب سنة عرف بالإتقان والضبط وقد رأيته بواسط حسن القامة أبيض الرأس واللحية ورجع إلى بخارى ومات بها، وقال: قال الحاكم: سمي المسندي لأنه أول من جمع مسند الصحابة بما وراء النهر وإمام الحديث في عصره هناك بلا مدافعة، وقال الخليلي: "ثقة متفق عليه"، وقال في تقريب التهذيب؟ أبو جعفر البخاري المعروف بالمسندي بفتح النون ثقة حافظ جمع المسند من العاشرة مات سنة تسع وعشرين أي بعد المائتين ورمز لكونه من رجال البخاري والترمذي.
الثاني: حبان بفتح الحاء قال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: حبان بن هلال الباهلي ويقال الكناني البصري يكنى أبا حبيب سمع همام بن يحي عند هما أي في الصحيحين، ثم ذكر جماعة سمع منهم عند البخاري وجماعة سمع منهم عند مسلم ثم قال روى عنه أحمد والدارمى عند هما وعبد الله المسندي ويحي بن محمد بن السكن وعلى بن مسلم عند البخاري، أو قال الحافظ في تهذيب التهذيب: وقال أحمد بن حنبل: إليه المنتهي في التثبت بالبصرة، ونقل توثيقه عن ابن معين والترمذي والنسائي وابن سعد والعجلي والبزار والخطيب، وقال في تقريب التهذيب: ثقة ثبت من التاسعة، مات سنة ست عشرة ومائتين ورمز لكونه من رجال الجماعة.
الثالث: همام قال الحافظ في تهذيب التهذيب: همام بن يحمى بن دينار الأزدي العوذي المحلمي مولاهم أبو عبد الله ويقال أبو بكر البصري، روى عن عطاء بن أبى رباح واسحاق بن أبى طلحة وزيد بن أسلم وثابت البناني وجماعة آخرين سماهم، ثم قال: وعنه الثوري وهو من أقرانه وابن المبارك وابن علية ووكيع وابن مهدى وحبان بن هلال ويزيد بن هارون وأناس آخرون سماهم، ونقل توثيقه عن أحمد وابن معين وأبى حاتم(25/124)
والعجلي والحاكم وقال(25/125)
ص -105- ... الحافظ في تقريب التهذيب: ثقة ربما وهم من السابعة، مات سنة أربع أو خس وستين أي بعد المائة، ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال في مقدمة الفتح: همام بن يحي البصري أحد الأثبات. وقال أيضاً: تكلم في بعض حديثه من حفظه، وقال الذهبي في الميزان: أحد علماء البصرة وثقاتها.
الرابع والخامس: ثابت البناني وأنس بن مالك رضي الله عنه وق تقدم التعريف بهما في رجال إسناد الحديث السادس.
السادس: أبو بكر رضي الله عنه وهو أبو بكر الصديق بن أبى قحافة اسمه عبد الله واسم أبيه عثمان قال الحافظ في تقريب التهذيب: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمى أبو بكر بن أبى قحافة الصديق الأكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون سنة ورمز لكون حديثه في الكتب الستة، وقال الخزرجى في الخلاصة: روى مائة واثنين وأربعين حديثاً اتفقا- أي البخاري ومسلم- على ستة وانفرد البخاري بأحد عشر ومسلم بحديث وعنه ولداه عبد الرحمن وعائشة وعمر وعلى وخلق. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن له عند البخاري اثنين وعشرين حديثا. وقال الحافظ في الإصابة: ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر وصحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طول إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات وكانت الراية معه يوم تبوك وحج في الناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع واستقر خليفة في الأرض بعده، ولقبه المسلمون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أسلم أبوه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر جماعة ممن رووا عنه من الصحابة وكبار التابعين وقال: قال سعيد بن منصور: حدثني صالح بن موسى حدثنا معاوبة بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: اسم أبى بكر الذي سماه به أهله عبد الله ولكن غلب عليه اسم عتيق، وقال(25/126)
الحافظ أيضاً: وقال ابن إسحاق في السيرة الكبرى: كان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا وكان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كان منها من(25/127)
ص -106- ... خير وشر وكان تاجراً ذا خلق ومعروف، وكانوا يألفونه لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به، فأسلم على يديه عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وذكر شيئا من محاسنه وبذله المال في سبيل الله وإعتاق العبيد، ثم قال: وأخرج الدارقطني في الأفراد من طريق أبى اسحاق عن أبى يحي قال؟ لا أحصى كم سمعت عليا يقول على المنبر: إن الله عزوجل سمي أبا بكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صديقاً، ومناقب أبى بكر رضي الله عنه كثيرة جدا وقد أفرده جماعة بالتصنيف، وترجمته في تاريخ ابن عساكر قدر مجلدة، ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فان المراد بصاحبه أبو بكر بلا نزاع، وقال: وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وهما في الغار: "ما ظنك باثنين، الله ثالثهما". والأحاديث في كونه معه في الغار كثيرة شهيرة ولم يشركه في هذه المنقبة غيره. وقال: وقد أطنب أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة الصديق حتى أن ترجمته في تاريخه على كبره تجيء قدر ثمن عشره وهو مجلد من ثمانين مجلدا، وقال في فتح الباري في أوائل كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر أنه كان يسمى عتيقا: واختلف هل هو اسم له أصلى أو قيل له ذلك لأنه ليس في نسبه ما يعاب به، أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام، أو قيل له ذلك لحسنه أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد فلما ولد استقبلت البيت وقالت: "اللهم هذا عتيقك من الموت، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله أعتقه من النار"، وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي. وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار وصححه ابن حبان وزاد فيه: وكان اسمه قبل ذلك(25/128)
عبد الله ابن عثمان وعثمان اسم أبى قحافة لم يختلف في ذلك كما لم يختلف في كنية الصديق، ولقب الصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء، وروى الطبراني من حديث على أنه كان يحلف بأن الله أنزل اسم أبى بكر من السماء الصديق رجاله ثقات. وأما نسبه(25/129)
ص -107- ... فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كدب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة ابن كعب وعدد أبائهما إلى مرة سواء وأم أبى بكر سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر بن عامر بن عمرو المذكور أسلمت وهاجرت وذلك معدود من مناقبه لأنه انتظم إسلام أبويه وجميع أولاده..
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: وقد ذكرنا ترجمة الصديق رضي الله عنه وسيرته وأيامه وما روى من الأحاديث وما روى عند من الأحكام في مجلد ولله الحمد والمنة..
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الستة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة ماعدا شيخ البخاري فانه لم يرو عنه مع البخاري سوى الترمذي.
2- الإسناد مسلسل بصيغة من صيغ الأداء وهي صيغة التحديث، وقد قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر: وان اتفق الرواة في صيغ الأداء أو غيرها من الحالات فهو المسلسل.
3- أربعة من رجال الإسناد بصريون على نسق وهم حبان وهمام وثابت وأنس.
4- في الإسناد صحابيان فالحديث من رواية صحابي عن صحابي.
5- عبد الله بن محمد شيخ البخاري وقد أكثر من الرواية عنه، وجده اليمان الجعفي البخاري هو الذي أسلم على يديه جد الإمام البخاري المغيرة ابن بردزبة ونسب إلى الجعفيين لذلك، فجد البخاري المغيرة استفاد من جد عبد الله بن محمد الدلالة على الدخول في الإسلام، والبخاري استفاد من عبد الله بن محمد شيخه معرفة الأحاديث الصحيحة المسندة إلى خير الأنام عليه الصلاة والسلام.(25/130)
ص -108- ... 6- عبد الله بن محمد شيخ البخاري يقال له المسندي بفتح النون وفي أصل هذه النسبة لطيفة من اللطائف وهي أنه كان وقت الطلب معنيا بالأحاديث المسندة دون المرسلة والمنقطعة فقيل له المسندي لذلك.
7- قال الحافظ ابن حجر: عبد الله بن محمد هو الجعفي وفي شيوخه عبد الله بن محمد جماعة منهم أبو بكر بن أبى شيبة ولكن حيث يطلق ذلك فالمراد به الجعفي لاختصاصه به وإكثاره عنه انتهى. وهذا النوع يسمى في علم المصطلح المهمل وهذه الطريقة التي ذكرها الحافظ رحمه الله مما يتبين به ا لمرا د.
8- حبان بفتح الحاء وهو ابن هلال وقد نسب في الإسناد عند مسلم ولا لبس في عدم نسبته إذ ليس في رجال البخاري حبان بفتح الحاء غيره ولا يلتبس بحبان بكسر الحاء أيضا وهو ابن موسى لأنه لم يدرك هماما كما أشار إلى هذا الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح.
9- همام هو ابن يحي، ولا لبس في عدم نسبته لأن ما في رجال البخاري ممن يسمى هماما سواه اثنان همام بن الحارث وهمام بن منبه وليسا في طبقته.
10- ثابت هو ابن أسلم البناني، وقد روى عن أنس غيره من التابعين ممن يسمى ثابتا إلا أن البناني أخص به إذ هما معا بصريان وقد صحبه أربعين سنة كما في تهذيب التهذيب.
11- أنس: هو ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من الصحابة ممن يسمى أنسا سواه وقد نسب في الإسناد عند مسلم كما تقدم في التخريج.
12- روى البخاري هذا الحديث ئ التفسير نازلا إذ بينه وبين همام واسطتان المسندي وحبان أما الموضعان الآخران المذكوران في التخريج فالإسناد فيهما عال إذ ليس بينه وبين همام فيهما إلا واسطة واحدة، ولعل(25/131)
ص -109- ... الغرض من ذلك الإشارة إلى تعدد الطرق إلى همام، وأمر آخر وهو أن الثلاثة الذين رووا الحديث عن همام وهم حبان بن هلال ومحمد بن سنان وموسى بن إسماعيل بصريون، وحبان أشدهم تثبتا، قال فيه الإمام أحمد كما في تهذيب التهذيب: إليه المنتهي في التثبت بالبصرة انتهى. وقد روى الحديث عنه عبد الله بن محمد المسندي شيخ البخاري وقد قال عنه الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: وهو من نبلاء مشايخه وإن كان قد لقي من هو أعلى إسنادا منه.
13- صحابي الحديث هو أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين. وقد اشتهر بكنيته كما اشتهر أبوه بالكنية فهو يعرف بأبي بكر بن أبى قحافه واسمه عبد الله واسم أبيه عثمان. وقد أسلم أبواه وأولاده رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان.(25/132)
المبحث الرابع، شرح الحديث:
1- قول أبى بكر رضي الله عنه "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار" هو غار في جبل ثور، وذلك حين هاجرا من مكة إلى المدينة وقد نوه الله بذلك في كتابه العزيز فقال: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وقد ورد ذكر ذلك في عدة أحاديث غير هذا الحديث منها حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وفيه قالت: فلحق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال، ومنها حديث أبى سعيد في قصة بعث أبى بكر إلى الحج، أخرجه ابن حبان وفيه: "أنت أخي وصاحبي في الغار". ومنها حديث ابن عباس في قصته مع ابن الزبير أخرجه البخاري في التفسير وفيه قول ابن عباس يعنى ابن الزبير: وأما جده فصاحب الغار، يريد أبا بكر رضي الله عنه ح ومنها حديث ابن عباس أيضاً أخرجه أحمد والحاكم من طريق عمرو بن ميمون عنه قال: كان المشركون يرمون عليا وهم يظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر فقال: يا رسول الله فقال له على: إنه انطلق(25/133)
ص -110- ... نحو بئر ميمون فأدركه قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار وروى عبد الله ابن أحمد في زيادات المسند عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار. الحديث ورجاله ثقات كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وقد ذكر جميع هذه الأحاديث فيه. وقال في ترجمته في الإصابة: والأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة ولم يشركه في هذه المنقبة غيره.
2- قوله: فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال الحافظ. في الفتح: فيه مجيء "لو" الشرطية للاستقبال خلافا للأكثر واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها كقوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} وعلى هذا فيكون قاله حالة وقوفهم على الغار وعلى القول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكراً لله تعالى على صيانتهما منهم.
3- قوله: "ما ظنك باثنين، الله ثالثهما". قال الحافظ في الفتح: ومعنى ثالثهما ناصر هما ومعينهما وإلاّ فالله ثالث كل اثنين بعلمه، وقال النووي في شرح صحيح مسلم: معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
4- من فقه الحديث وما يستنبط منه:
1- في الحديث منقبة عظيمة لأبى بكر الصديق رضي الله عنه، قال النووي: وهي من أجل مناقبه، والفضيلة من أوجه: منها هذا اللفظ- يعنى ما ظنك باثنين الله ثالثهما- ومنها بذله نفسه ومفارقة أهله في طاعة الله تعالى ورسوله وملازمته النبي لصلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه، وصنها جعله نفسه وقاية عنه، وغير ذلك.
2- بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه تعالى.(25/134)
ص -111- ... 3- بيان مدى شدة عداوة المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائهم له وحرصهم على قتله
4- الأخذ بأسباب السلامة والاحتياط في ذلك، حيث كمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار.
5- اتخاذ الرفيق في السفر واختياره من ذوى الفضل والصلاح.
6- عناية الصاحب بصاحبه وطمأنته إياه وإدخاله السرور عليه.
7- تسلية المقتفين لآثار المصطفي صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الصبر على ما يلاقونه في سبيل نشر الدعوة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
8- أن الداعي إلى الحق عرضة للأذى، وأن طريق الحق ليس مفروشا بالورد، بل الأمر كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات.
9- أن العاقبة لمن اتقى الله وأن الله ناصر من نصر دينه وأن الله مع أوليائه بالنصر والتأييد.
10- تأدب أبى بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عبر "بمع " الدالة على التبعية في قوله رضي الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.
11- تحدث الإنسان عما يجرى له ولأصحابه في السفر وغيره وذلك فيما إذا لم يكن هناك ما يستدعى الكتمان.
12- في الحديث إثبات المعية لله تعالى، وهي على نوعين: معية عامة شاملة لجميع المخلوقات وهي المعية بالعلم، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} النوع الثاني معية خاصة وهي معية الله لرسله وأوليائه بالنصر والتأييد وأدلة هذا النوع كثيرة منها قوله تعالى فيما حكاه عن نبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وقوله تعالى:(25/135)
ص -112- ... { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
وهذه النصوص لا تنافي النصوص الكثيرة الدالة على علوه وفوقيته فهو مع المخلوقات بعلمه ومع أوليائه بنصره وتأييده، وهو مستو على عرشه استواء يليق به، وقد جمع الله بين الاستواء على العرش ومعيته بعلمه لخلقه في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.(25/136)
ص -113- ... الحديث الثامن
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الحج من صحيحه:
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في ثلاثة مواضع من كتاب الحج من صحيحه هذا أولها في باب ما ذكر في الحجر الأسود، والثاني في باب الرمل في الحج والعمرة ولفظه: حدثنا سعيد بن أبى مريم أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: "أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك، فاستلمه، ثم قال: ما لنا وللرمل، إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه". والثالث في باب تقبيل المجر الأسود ولفظه حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد ابن هارون أخبرنا ورقاء أخبرنا زيد بن أسلم عن أبيه قال "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال لولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك"..
ورواه مسلم في صحيحه من طرق فقال: وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس وعمرو ح وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثني ابن وهب أخبرني عمرو عن ابن شهاب عن سالم أن أباه حدثه قال "قبّل عمر بن الخطاب الحجر. ثم قال والله لقد علمت أنك حجر ولولا إني(25/137)
ص -114- ... رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". زاد هارون في روايته. قال عمرو وحدثني بمثلها زيد بن أسلم عن أبيه أسلم وحدثنا محمد بن أبى بكر المقدمي حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن عمر قبل الحجر وقال: "إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم و يقبلك": حدثنا خلف بن هشام والمقدمي وأبو كامل وقتيبة بن سعيد كلهم عن حماد قال خلف: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصيلع يعنى عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول: "والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك". وفي رواية المقدمي وأبى كامل: رأيت الأصيلع. وحدثنا يحي بن يحي وأبو بكر بن أبى شيبة وزهير بن حرب وابن نمير جميعا عن أبى معاوية قال يحي أخبرنا معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: "إني لأقبلك وأعلم أنك حجر، ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك، وحدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وزهير بن حرب جميعا عن وكيع قال أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة قال: "رأيت عمر قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا". وحدثنيه محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن عن سفيان بهذا الإسناد قال: "ولكني رأيت أبا القاسم بك حفيا ولم يقل: والتزمه".
ورواه أبو داود في سننه بمثل الإسناد الأول عند البخاري عن عمر أنه جاء إلى الحجر فقبله، فقال: "إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك"، وأخرجه النسائي فقال: أخبرنا محمود بن غيلان قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة "أن عمر قبل الحجر وإلتزمه وقالت: رأيت أبا القاسم صلى الله(25/138)
عليه وسلم لك حفيا"، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا عيسى بن يونس وجرير عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال: "رأيت عمر جاء إلى الحجر فقال إني لأعلم أنك حجر ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم دنا(25/139)
ص -115- ... منه فقبله"، أخبرنا عمرو بن عثمان قال حدثنا الوليد بن حنظلة قال: رأيت طاووسا يمر بالركن فان وجد عليه زحاما مر ولم يزاحم هان رآه خاليا قبله ثلاثا، ثم قال رأيت ابن عباس فعل مثل ذلك، وقال ابن عباس رأيت عمر بن الخطاب فعل مثل ذلك ثم قال: "إنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك ثم قال عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك"، ورواه الترمذي في جامعه فقال حدثنا هناد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة قال رأيت عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول إني أقبلك وأعلم أنك حجر ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك قال: وفي الباب عن أبى بكر وابن عمر قال أبو عيسى حديث عمر حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه في سننه فقال حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وعلى بن محمد قالا حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال رأيت الأصيلع عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول: "إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا إني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، وروى مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت للركن الأسود: إنما أنت حجر ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك ثم قبله وأخرج الحديث الدارمي في سننه عن مسدد وأبى عاصم باسنادين عن ابن عمر عن عمر وعن ابن عباس رضي الله عنهم، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن ابن عباس عن عمر وعن سويد بن غفلة عن عمر وعن عبد الله بن سرجس عن عمر، ورواه الإمام أحمد في المسند من طرق نذكر منها طريقا واحدة وهي قوله: حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا زهير عن سليمان الأعمش حدثنا إبراهيم عن عابسا بن ربيعة قال رأيت عمر نظر إلى الحجر فقال: "أما والله لولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم(25/140)
قبله"، وقد صرح الأعمش بالتحديث في هذه الطريق عند الإمام أحمد فانتفي احتمال تدليسه.. وأخرج الحديث ابن الجارود في المنتفي والحميدي في مسنده..(25/141)
ص -116- ... المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري محمد بن كثير قال الحافظ في تقريب التهذيب: محمد بن كثير العبدي البصري ثقة لم يصب من ضعفه من كبار العاشرة، مات سنة ثلاث وعشرين أي بعد المائتين وله تسعون سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: محمد بن كثير أبو عبد الله البصري أخو سليمان سمع أخاه سليمان وشعبة والثوري عند البخاري روى عنه البخاري في مواضع وروى مسلم عن عبد الله الدارمي عنه عن أخيه حديثاً في الرؤيا، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال ابن معين لم يكن بثقة وقال أحمد ثقة وقال أبو حاتم صدوق وذكره ابن حبان في الثقات.
الثاني: سفيان: وهو الثوري كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقد قال فيه في تقريب التهذيب: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة وكان ربما دلس، مات سنة إحدى وستين أي بعد المائة وله أربع وستون ورمز لكونه من رجال الجماعة وقال في تهذيب التهذيب: روى عن أبيه وأبى إسحاق الشيباني وأبى إسحاق السبيعي وعبد الملك بن عمير والأعمش وأناس آخرين سماهم ثم قال وروى عنه خلق لا يحصون ذكر كثيرا منهم ومن بينهم الأوزاعي ومالك ومسعر من أقرانه وابن مهدى وابن المبارك ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك قول شعبة وابن عيينة وأبى عاصم وابن معين وغير واحد من العلماء: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وقول ابن المبارك كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان، وقول الخطيب: كان إماما من أئمة المسلمين وعلما من أعلام الدين مجمعا على إمامته بحيث يستغنى عن تزكيته مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد، وقول النسائي: "هو أجل من أن يقال فيه ثقة وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون الله ممن جعله للمتقين إماما"، وقال الذهبي في الميزان سفيان بن سعيد الحجة الثبت متفق(25/142)
عليه مع أنه كان يدلس عن الضعفاء، ولكن له نقد وذوق ولا عبرة لقول(25/143)
ص -117- ... من قال: يدلس ويكتب عن الكذابين انتهى. وهو أحد السفيانين فيما إذا قيل في ترجمة من فوقهما في الطبقة روى عنه السفيانان، وفي ترجمة من دونهما روى عن السفيانين، والثاني منهما سفيان بن عيينة.
الثالث: الأعمش: قال الحافظ في التقريب: سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي أبو محمد الكوفي الأعمش ثقة حافظ عارف بالقراءة ورع لكنه يدلس، من الخامسة مات سنة سبع وأربعين أو ثمان أي بعد المائة، وكان مولده أول إحدى وستين ورمز لكونه من رجال الجماعة وقال في تهذيب التهذيب: الأسدي الكاهلي مولاهم وذكر كثيرا ممن روى عنهم من بينهم عامر الشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد بن جبر وكثيراً ممن رووا عنه ومنهم شعبة والسفيانان وابن المبارك وهشيم ونقل كثيرا من ثناء الأئمة عليه ونقل توثيقه عن ابق معين والنسائي والعجلي ، وقال وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال الذهبي في الميزان: أحد الأئمة الأثبات عداده في صغار التابعين ما نقموا عليه إلا التدليس وقال: قلت وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدرى به فمتى قال حدثنا فلا كلام ومتى قال: "عن " تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وابن أبى وائل وأبى صالح السمان فان روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
الرابع: إبراهيم وهو النخعي كما صرح به الحافظ في فتح الباري وقال في تهذيب التهذيب: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة ابن ذهل النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه روى عن خاليه الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد ومسروق وعلقمة وابن معمر وهمام بن الحارث وشريح القاضي وسهم بن منجاب وجماعة وروى عن عائشة ولم يثبت سماعه منها، روح عنه الأعمش ومنصور وابن عون وزبيد اليامي وحماد بن أبى سليمان ومغيرة بن مقسم الضبي وخلق، وقال: وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: هو(25/144)
ص -118- ... مكثر من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود وقال في التقريب: ثقة إلا أنه يرسل كثيراً، وقال مات سنة ست وتسعين وهو ابن خمسين أو نحوها ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الذهبي في الميزان: إبراهيم بن يزيد النخعي أحد الأعلام يرسل عن جماعة وقد رأى زيد بن أرقم وغيره ولم يصح له سماع من صحابي، وقال: قلت استقر الأمر على أن إبراهيم حجة وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود أو غيره فليس ذلك بحجة انتهى..
الخامس: عابس بن ربيعة قال في التقريب: عابس بموحدة مكسورة ثم مهملة ابن ربيعة النخعي الكوفي ثقة مخضرم من الثانية ورمز لكونه من رجال الجماعة وقال في تهذيب التهذيب: روى عن عمر وعلى وحذيفة وعائشة وعنه أولاده عبد الرحمن وإبراهيم وأسماء وأبو إسحاق السبيعي وإبراهيم بن يزيد النخعي وذكر توثيقه عن النسائي وابن سعد وقال: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: قلت: قال أبو نعيم؟ في الصحابة انتهي ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
السادس: صحابي الحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الحافظ في تقريب التهذيب عمر بن الخطاب بن نفيل- بنون وفاء مصغراً- ابن عبد العزي بن رياح- بتحتانية- ابن عبد الله بن قرط- بضم القاف- بن رزاح- براء ثم زاي خفيفة- بن عدى بن كعب القرشي العدوى أمير المؤمنين مشهور جم المناقب استشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وولى الخلافة عشر سنين ونصفا ورمز لكون حديثه في الكتب الستة وذكر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري ستين حديثا. وقال الخزرجى في الخلاصة: عمر بن الخطاب ابن نفيل بن عبد الحري الحدوي أبو حفص المدني أحد فقهاء الصحابة ثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سمي أمير المؤمنين، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا اتفقا على عشرة وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر، وعنه أبناؤه عبد الله وعاصم وعبيد الله(25/145)
ص -119- ... وعلقمة ابن وقاص وغيرهم، شهد بدرا والمشاهد، وولى أمر الأمة بعد أبى بكر رضي الله عنهما وفتح في أيامه عدة أمصار أسلم بعد أربعين رجلا، عن ابن عمر مرفوعا إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، ولما دفن قال ابن مسعود ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين ودفن في أول سنة أربع وعشرين وهو ابن ثلاث وستين وصلى عليه صهيب ودفن في الحجرة النبوية ومناقبه جمة، انتهى.
وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن النبي تمر وعن أبى بكر وأبى بن كعب روى عنه أولاده عبد الله وعاصم وحفصة وعثمان وعلى وأناس آخرون من الصحابة ومن التابعين سماهم ثم ذكر كثيرا من مناقبه في الجاهلية والإسلام ثم قال: ومناقبه وفضائله كثيرة جدا، وترجم له الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وذكر الكثير من مناقبه ثم قال في ختام ترجمته: وقد ذكر ابن جرير ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب وكذلك أطال ابن الجوزي في سيرته وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخه، وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد وأفردنا لما أسنده وروى عنه من الأحكام مجلدا آخر كبيراً مرتبا على أبواب الفقه وللة الحمد. ثم ذكر بعض حوادث سنة ثلاث وعشرين نقلا عن تاريخ الذهبي ثم قال: ثم ذكر- يعنى الذهبي- ترجمة عمر بن الخطاب فأطال فيها وأكثر وأطنب وأتى بمقاصد كثيرة مهمة وفوائد جمة وأشياء حسنة فأثابه الله الجنة انتهى. وذكر ترجمته المحب الطبري في الرياض النضرة في خمسين ورقة..
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيفية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الستة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم.
2- في الإسناد ثلاثة من التابعين يروى بعضهم عن بعض وهم الأعمش وإبراهيم النخعي وعابس بن ربيعة.(25/146)
ص -120- ... 3- في الإسناد أربعة كوفيون على نسق وهم سفيان الثوري والأعمش وإبراهيم النخجي وعابس بن ربيعة.
4- في الإسناد نخعيان وهما إبراهيم وعابس.
5- في الإسناد اثنان ممن وصفوا بالتدليس وهما سفيان الثوري والأعمش، وقد صرح الأعمش بالتحديث كما في مسند الإمام أحمد وتقدم في التخريج ولم أقف لسفيان على تصريح بالسماع.
6- إبراهيم بن يزيد النخعي من أصحاب المراسيل من التابعين كما تقدم في ترجمته وهو من فقهاء التابعين ومن أولياته كما جاء في زاد المعاد لابن القيم عند الكلام على حديث غمس الذباب في الطعام إذا وقع فيه: التعبير عن الذباب وما يشبهه بما لا نفس له سائله قال ابن القيم: وأول من حفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة فقال: ما لا نفس له سائلة إبراهيم النخعي وعنه تلقاه الفقهاء.
7- في إسناد الحديث رجل من الذين وصفوا بأنهم أمراء المؤمنين في الحديث وهو سفيان الثوري وصفه بذلك شعبة وابن عيينة وأبو عاصم وابن معين وغير واحد من العلماء كما في تهذيب التهذيب.
8- في الإسناد رجل من المخضرمين وهو عابس بن ربيعة، والمخضرمون هم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم معدودون في كبار التابعين.
9- الأعمش لقب لقّب به سليمان بن مهران وقد اشتهر بلقبه كما اشتهر باسمه ومعرفة مثل ذلك من الأمور المهمة لئلا يظن الواحد اثنين إذا ذكر في موضع بالاسم وفي آخر باللقب.
10- أول المتن سياقه كلام عابس بن ربيعة الراوي عن عمر رضي الله عنه لا كلام عمركما قد يتوهم من ذكر "عن عمر" والمعنى: عن عابس(25/147)
ص -121- ... أن عمر جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال الخ.. ولما ذكر المنذري هذا الحديث في مختصره لسنن أبى داود قال: عن عابس ابن ربيعة عن عمر أنه جاء إلى الحجر الخ.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- هذا الحديث أورده البخاري في باب ما ذكر في الحجر الأسود، ولم يذكر غيره من الأحاديث في هذا الباب قال الحافظ ابن حجر في شرحه: وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك وقد وردت فيه أحاديا فذكر بعضها ومنها حديث ابن عباس مرفوعا "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم"، أخرجه الترمذي وصححه وفيه عطاء ابن السائب وهو صدوق لكنه اختلط وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها، وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختمراً ولفظه "الحجر الأسود من الجنة"، وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وفي صحيح ابن خزيمة أيضا عن ابن عباس مرفوعا: إن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق، وصححه أيضاً ابن حبان والحاكم وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضاً انتهى..
2- قوله: لا تضر ولا تنفع. قال الحافظ ابن حجر: أي إلا بإذن الله، وقد روى الحاكم من حديث أبى سعيد أن عمر لما قال هذا قال له على ابن أبى طالب إنه يضر وينفع، وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد". وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جدا انتهى. وقد أشار إلى حديث أبى سعيد هذا الشوكاني في نيل الأوطار وقال: ولكنه يشد عضده حديث ابن عباس يعنى الحديث الذي تقدم في حكاية كلام الحافظ ابن حجر.(25/148)
ص -122- ... 3- قوله: إني أعلم أنك حجر الخ، خاطب عمر رضي الله عنه الحجر ليسمع الحاضرين فهو من باب إياك أعنى واسمعي يا جارة قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل بالجاهلية فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه إتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده بالأوثان انتهى..
4- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- مشروعية تقبيل الحجر الأسود.
2- المنع من تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله.
3- بيان السنن بالقول والفعل.
4- أن الأصل في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم التشريع للأمة ما لم يدل دليل على التخصيص به.
5- وجوب التسليم للشارع في أمور الدين والتعويل على ما يثبت عنه في ذلك.
6- أن التسليم للشارع لا يتوقف على معرفة حكمة الأمر أو النهى.
7- بيان أن الحجر الأسود ليس مصدرا للنفع أو الضر لذاته.
8- أن على الإمام أو العالم إذا خشي أن يفهم من فعل الشيء المشروع فهما خاطئاً أن يبادر إلى بيان الحق وإزالة اللبس.
9- كمال نصح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه للأمة وشفقته على المسلمين.
10- تأكيد الكلام إذا اقتضى حال المبين لهم ذلك فان عمر رضي(25/149)
ص -123- ... الله عنه صدر كلامه بأن المؤكدة في هذا الحديث وفي بعض روايات الحديث زيادة التأكيد بالقسم واللام.
11- العناية في بيان الحق وخاصة ما يتعلق بأمر العقيدة.
12- مدى حكمة الفاروق رضي الله عنه في بيانه لسنة المصطفي صلى الله عليه وسلم وتوفيق الله له وتسديده وهذا مصداق قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون فان يك في أمتي أحد فإنه عمر".
الحديث التاسع
قال الإمام البخاري رحمه الله في أواخر كتاب الإيمان من صحيحا:
حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس ابن أبى حازم عن جرير بن عبد الله قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم".(25/150)
ص -124- ... المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أخرجه البخاري في سبعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"،
والثاني في كتاب مواقيت الصلاة باب البيعة على إقام الصلاة قال فيه: حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا يحي قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا قيس عن جرير بن عبد الله قال: فذكره،
والثالث في كتاب الزكاة باب البيعة على إيتاء الزكاة قال: حدثنا ابن نمير قال حدثني أبى حدثنا إسماعيل عن قيس قال قال جرير بن عبد الله فذكره،
والرابع في كتاب البيوع باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر، وهل يعينه أو ينصحه؟ قال: حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان عن إسماعيل عن قيس سمعت جريرا رضي الله عنه يقول: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والسمع والطاعة والنصح لكل مسلم، والخامس في كتاب الشروط باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة، قال حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال سمعت جريرا رضي الله عنه يقول: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترط على: "والنصح لكل مسلم"، والسادس يلي هذا الحديث عن مسدد بمثل سنده ومتنه هنا سواء بسواء، والسابع في كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس؟ قال حدثنا يعقوب(25/151)
ص -125- ... ابن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي عن جرير بر عبد الله قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم عل السمع والطاعة فلقنني: "فيما استطعت والنصح لكل مسلم".
وأخرج الحديث مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه فقال: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة عن إسماعيل بن أبى خالد عن قيس عن جرير قال بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وزهير بن حرب وابن نمير قالوا حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة سمع جرير بن عبد الله يقول بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، حدثنا سريج بن يونس ويعقوب الدورقي قالا حدثنا هشيم عن سيار عن الشعبي عن جرير قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: "فيما استطعت والنصح لكل مسلم"، قال يعقوب في روايته قال حدثنا سيار، وأخرجه أبو داود في سننه في كتاب الأدب باب في النصيحة قال: حدثنا عون بن عمرو وحدثنا خالد عن يونس عن عمرو بن سعيد عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير قال بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم، قال "وكان إذا باع الشيء أو اشتراه قال أما إن الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر"، وأخرجه النسائي في سننه في كتاب البيعة باب البيعة على النصح لكل مسلم قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد قال حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة عن جرير قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن يونس عن عمرو بن سعيد عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير قال جرير بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم. و باب البيعة فيما يستطيع الإنسان قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم قال حدثنا سيار عن الشعبي عن جرير بن عبد الله قال بايعت النبي(25/152)
صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت والنصح لكل مسلم.(25/153)
ص -126- ... المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري مسدد قال الحافظ في التقريب: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مستورد الأسدي البصري أبو الحسن ثقة حافظ يقال إنه أول من صنف المسند بالبصرة من العاشرة، مات سنة ثمان وعشرين أي بعد المائتين، ويقال اسمه عبد الملك بن عبد العزيز ومسدد لقبه ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى مسلم وابن ماجه، وقال في تهذيب التهذيب: روى عن عبد الله بن يحي بن أبى كثير وهشيم ووكيع والقطان وابن علية وأناس آخرين سماهم، وروى عنه البخاري وأبو داود وغيرهم ثم ذكر كثيرا من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك قول جعفر بن أبى عثمان قلت لابن معين عمن أكتب بالبصرة؟ قال "اكتب عن مسدد فإنه ثقة ثقة"س، وقال محمد بن هارون الفلاس عن ابن معين: صدوق، وقال النسائي: ثقة وقال العجلي: مسدد بن مسرهد ابن مسربل بن مستورد الأسدي البصري ثقة كان يملى على حتى أضجر قال: أبا الحسن أكتب فيملى على بعد ضجرى خمسين حديثا، قال فأتيت في الرحلة الثانية فأصبت عليه زحاما فقلت: قد أخذت بحظي منك قال: وكان أبو نعيم يسألنى عن نسبه فأخبره فيقول: يا أحمد هذه رقية العقرب، وقال ابن أبى حاتم عن أبيه: ثقة وقال ابن قانع كان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات.
الثاني: يحي وهو القطان قال الخزرجى في الخلاصة: يحي بن سعيد ابن فروخ التميمي أبو سعيد الأحول القطان البصري الحافظ الحجة أحد أئمة الجرح والتعديل، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: مولى بنى تميم، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عن سليمان التيمى وحميد الطويل وإسماعيل بن أبى خالد وكيرهم سماهم ثم قال: وعنه ابنه محمد بن يحي بن سعيد وحفيده أحمد بن محمد وأحمد وإسحاق وعلى بن المديني ويحي ابن معين وعمرو بن على الفلاس ومسدد وغيرهم، ثم ذكر كثيرأ من ثناء الأئمة عليه في ورقتين ومن ذلك: قال على بن المديني: ما رأيت أثبت من يحي القطان، وقال إبراهيم بن محمد التيمى: ما(25/154)
رأيت أعلم بالرجال من يحي(25/155)
ص -127- ... القطان، وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبى يقول حدثني يحي القطان وما رأت عيناي مثله، وقال أحمد: كان إليه المنتهي في التثبت بالبصرة، وقال ابن خزيمة عن بندار: حدثنا يحي بن سعيد إمام أهل زمانه، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا رفيعا حجة، وقال العجلي: بصري ثقة في الحديث كان لا يحدث إلا عن ثقة، وقال أبو زرعة: كان من الثقات الحفاظ، وقال أبو حاتم: حجة حافظ، وقال النسائي: ثقة ثبث مرضي، وكان الثوري يتعجب من حفظه واحتج به الأئمة كلهم وقالوا: من تركه يحي تركناه، وقال الحافظ في التقريب: ثقة متقن حافظ إمام قدوة من كبار التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين أي بعد المائة وله ثمان وسبعون سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة.
الثالث: إسماعيل وهو ابن أبى خالد، قال الحافظ في تقريب التهذيب: إسماعيل بن أبى خالد الأحمسي مولاهم البصري ثقة ثبت من الرابعة، مات سنة ست وأربعين أي بعد المائة ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: إسماعيل بن أبى خالد الأحمسي البجلي مولاهم الكوفي واسم أبى خالد سعد ويقال هرمز ويقال كثير يكنى أبا عبد الله وذكر في تهذيب التهذيب أنه روى عن جماعة من الصحابة ومن التابعين سماهم، وقال روى عن قيس بن أبى حازم وأكثر عنه ثم قال: وعنه شعبة والسفيانان وزائدة وابن المبارك وهشيم ويحي القطان ويزيد بن هارون وعبيد الله بن موسى وهو آخر ثقة حدث عنه ويحي بن هاشم السمسار أحد المتروكين وهو آخر من حدث عنه مطلقا. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك قال ابن المبارك عن الثوري: حفاظ الناس ثلاثة إسماعيل وعبد الملك بن أبى سليمان ويحي بن سعيد الأنصاري وهو يعنى إسماعيل أعلم الناس بالشعبي وأثبتهم فيه ونقل توثيقه عن ابن مهدى وابن معين والنسائي والحجلي ويحقوب بن أبى شيبة وأبى حاتم ويحقوب بن سليمان.
الرابع: قيس بن أبى حازم، قال الحافظ في التقريب: قيس بن أبى حازم البجلي أبو عبد(25/156)
الله الكوفي ثقة من الثانية مخضرم ويقال له رؤية وهو(25/157)
ص -128- ... الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروى عن العشرة، مات بعد التسعين أو قبلها، وقد جاوز المائة وتغير ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال في تهذيب التهذيب: قيس بن أبى حازم واسمه حصين بن عوف ويقال عوف بن عبد الحارث ويقال عبد عوف بن الحارث بن عوف البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي أدرك الجاهلية ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه فقبض وهو في الطريق، وأبو له صحبة ويقال إن لقيس رؤية ولم يثبت ثم ذكر جماعة كثيرين من الصحابة روى عنهم ثم ذكر جماعة رووا عنه ومنهم إسماعيل بن أبى خالد، ونقل توثيقه عن جماعة وقال: قال ابن خراش كوفي جليل وليس في التابعين أحد روى عن العشرة إلا قيس بن أبى حازم، وقال الذهبي في الميزان: ثقة حجة كاد أن يكون صحابيا وثقه ابن معين والناس وقال: اجمعوا على الاحتجاج به ومن تكلم فيه آذى نفسه.
الخامس: صحابي الحديث: جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال الحافظ في تقريب التهذيب: جرير بن عبد الله بن جابر البجلي صحابي مشهور مات سنة إحدى وخمسين وقيل بعدها ورمز لكون حديثه في الكتب الستة وذكر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري عشرة أحاديث وقال الخزرجى في الخلاصة: له مائة حديث اتفقا على ثمانية وانفرد البخاري بحديث ومسلم بستة وقال: ويلقب بيوسف هذه الأمة أي لجماله، وقال في تهذيب التهذيب: جرير بن عبد الله بن جابر وهو السليل بن مالك بن نضر بن ثعلبة بن جشم بن عوف البجلي القسري أبو عمرو وقيل: أبو عبد الله اليمإني روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر ومعاوية، وعنه أولاده المنذر وعبيد الله وأيوب وإبراهيم وابن ابنه أبو زرعة بن عمرو وأنس وأبو وائل وزيد بن وهب وزياد بن علاقة والشعبي وقيس بن أبى حازم وغيرهم سماهم وقال: قال عبد الملك بن عمر رأيت جرير بن عبد الله وكأن وجهه شقة قمر وقال عمر بن الخطاب يرحمك الله نعم السيد كنت في الجاهلية ونعم السيد أنت في الإسلام وقال في الإصابة: وكان(25/158)
جرير جميلا قال عمر: هو يوسف هذه الأمة وقدمه عمر في حروب العراق على جميع(25/159)
ص -129- ... بجيلة، وكان الم أثر عظيم في فتح القادسية ثم سكن جرير الكوفة وأرسله على رسولا إلى معاوية ثم اعتزل الفريقين وسكن فرقيسيا حتى مات سنة إحدى وقيل أربع وخمسين وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ذي الخلصة فهدمها.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ البخاري مسددا فلم يرو له مسلم ولا ابن ماجه وروى له الباقون.
2- شيخ البخاري مسدد وشيخ شيخه يحي بن سعيد القطان بصريان.
3- ثلاثة من رجال الإسناد وهم جرير وقيس وإسماعيل اتفقوا في أربعة أشياء.
1- كلهم بجليون. 2- ثلاثتهم كوفيون. 3- كل منهم يكنى أبا عبد الله 40- خرج أصحاب الكتب الستة حديثهم.
4- إسماعيل بن أبى خالد روى عنه الحكم بن عتيبة ويحي بن هاشم
وبين وفاتيهما نحو من مائة وعشر سنوات قاله الخطيب كما نقله الحافظ في تهذيب التهذيب وهذا النوع يسمى في علم المصطلح السابق واللاحق وتقدم نظيره في لطائف إسناد الحديث الثالث.
5- قيس بن أبى حازم من المخضرمين وهو التابعي الوحيد الذي يقال إنه اجتمع له أن يروى عن العشرة المبشرين بالجنة كما في التقريب وغيره.
6- صحابي الحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال فيه الحافظ في الإصابة: وكان جرير جميلا قال عمر: هو يوسف هذه الأمة.
7- شيخ البخاري هو مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مستورد بن(25/160)
ص -130- ... مرعبل، وقد قال أبو نعيم لما ذكر له نسبه هذا هذه رقية العقرب كما في تهذيب التهذيب والجمع بين رجال الصحيحين.
8- قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح نقلا عن ابن طاهر المقدسي: وقلما يورد- يعنى البخاري- حديثا واحداً في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد وقال في شرح حديث كفران العشير في كتاب الإيمان من صحيح البخاري: فلا يوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعدا إلا نادراً انتهى. وهذا الحديث هن ذلك النادر فانه أورده سنداً ومتناً في موضعين أحدهما في أواخر كتاب الإيمان والثاني في كتاب الشروط باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- قوله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الحافظ في الفتح: والمراد بالبيعة البيعة على الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة لأنها رأس العبادات البدنية ثم أداء الزكاة لأنها رأس العبادات المالية ثم يعلم كل قوم ما حاجتهم إليه أمس فبايع جريراً على النصيحة لأنه كان سيد قومه فأرشده إلى تعليمهم بأمره بالنصيحة لهم، وبايع وفد عبد القيس على أداء الخمس لكونهم كانوا أهل محاربة مع من يليهم من كفار مضر.
2- قوله: والنصح لكل مسلم: قال الحافظ في الفتح: قال المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته يقال نصح الشيء إذا خلص ونصح له القول إذا أخلصه له، أو مشتقة من النصح، وهي الخياطه بالمنصحة وهي الإبرة والمعنى أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المنصحة، ومنه التوبة النصوح كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه.
3- قوله: والنصح لكل مسلم: قال الحافظ في الفتح: التقييد بالمسلم للأغلب وإلاّ فالنصح للكافر معتبر بأن يدعى إلى الإسلام ويشار عليه بالصواب إذا استشار.(25/161)
ص -131- ... 4- قوله: والنصح لي مسلم: في هذه الجملة التعميم في النصح وفي المنصوح له فيشمل كل ما يفيد المنصوح له ويعود عليه بالنفع الدنيوي والأخروي وأما المنصوح له فتحته صنفان الأول ولاة أمور المسلمين منهم، والثاني عامة المسلمين، فالنصح لولاة أمور المسلمين يكون بالسمع والطاعة لهم بالمعروف وإعانتهم على الخير وتحذيرهم من الشر والدعاء لهم بالتوفيق والتسديد وأن يجعلهم الله هداة مهتدين وأن يعز بهم الإسلام ويقمع بهم المبطلين والنصح لعامة المسلمين يكون بإرشادهم إلى الخير وتحذيرهم من الشر وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها.
5- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- مبايعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام.
2- بيان أهمية الصلاة والزكاة وعظم شأنهما في الإسلام.
3- قرنه صلى الله عليه وسلم بين الصلاة والزكاة في الحديث كما فرن بينهما في الكتاب العزيز.
4- تقديم الصلاة على الزكاة وأنها أعظم أركان الإسلام بعد التوحيد.
5- بيان عظم شأن النصح للمسلمين واهتمام الشارع به.
6- بذل المسلم النصيحة وتعميمها.(25/162)
ص -132- ... الحديث العاشر
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الأدب من صحيحه:
حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا سعيد بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة". قالوا: فان لم يجد قال: "فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق"، قالوا: فان لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: "فيعين ذا الحاجة الملهوف"، قالوا: فان لم يفعل؟ قال: "فليأمر بالخير أو قال بالمعروف"، قال: فان لم يفعل؟ قال: "فليمسك عن الشر فانه له صدقة"..
المبحث الأول: التخريج:
أورد البخاري هذا الحديث في موضعين من صحيحه هذا أحدهما في باب: كل معروف صدقة والثاني في كتاب الزكاة باب على كل مسلم صدقة فمن لم يجد فليعمل بالمعروف ولفظه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة حدثنا سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم صدقة"، قالوا يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق"، قالوا: فان لم يجد؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملفوف"، قالوا: فان لم يجد؟ قال: "فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فانها له صدقة".
وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه فقال: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا أبو أسامة عن شعبة عن سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "على كل مسلم صدقة" قيل أرأيت إن لم يجد؟ قال "يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق"، قال: قيل أرأيت إن لم يستطع؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف"، قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال:" يأمر بالمعروف أو(25/163)
ص -133- ... الخير"، قال: أرأيت إن أ يفعل؟ قال "يمسك عن الشر فإنها له صدقة". وحدثنا لمحمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدى حدثنا شعبة بهذا الإسناد، ورواه النسائي في كتاب الزكاة باب صدقة العبد فقال: أخبرني محمد بن عبد الأعلى قال حدثنا خالد قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني ابن أبى بردة قال سمعت أبى يحدث عن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم صدقة" قيل أرأيت إن لم يجدها؟ قال: "يعتمل بيده فينفع نفسه ويتصدق" قيل أرأيت إن أ يفعل؟ قال "يعين ذا الحاجة الملهوف"، قيل: فان لم يفعل قال: "يأمر بالخير" قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: "يمسك عن الشر فإنها صدقة"، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة وفيه: على كل مسلم صدقة في كل يوم، وفيه قال: يأمر بالمعروف ولنهي عن المنكر، أي بزيادة: في كل يوم، ولنهي عن المنكر: على ما في الصحيحين، وأخرج الحديث الإمام أحمد في المسند عن شعبة بطريقين إليه. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد.
المبحث الثاني، التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري: آدم وهو ابن أبى إياس واسمه عبد الرحمن العسقلاني أصله خراساني يكنى أبا الحسن نشأ ببغداد ثقة عابد من التاسعة مات سنة إحدى وعشرين ومائتين ذكر ذلك في تقريب التهذيب ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى مسلم وابن ماجه. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: إن أباه اسمه عبد الرحمن بن محمد بن الحسن مولى تيم أو تميم أصله من خراسان سكن عسقلان سمع شعبة وابن أبى ذئب والليث وشيبان ابن عبد الرحمن وإسرائيل بن يونس وحفص بن ميسرة روى عنه البخاري في غير موضع وقال في تهذيب التهذيب: نشأ ببغداد وارتحل في الحديث فاستوطن عسقلان إلى أن مات وقال: قال أبو داود: ثقة، وقال أحمد؟ كان مكينا عند شعبة وقال أحمد: كان من الستة أو السبعة الذين يضبطون الحديث عند شعبة، وقال ابن معين: ثقة ربما حدث عن قوم ضعفاء وقال أبو حاتم: ثقة(25/164)
ص -134- ... مأمون متعبد من خيار عباد الله، وقال ابن سعد: سمع من شعبة سماعا كثيرا وقال العجلي ثقة وذكره ابن حبان في الثقات.
الثاني: شعبة قال في تهذيب التهذيب: شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي مولاهم أبو بسطام الواسطي ثم البصري ثم ذكر جماعة روى عنهم سرد أسماءهم في خمس صفحات تقريبا وذكر جماعة رووا عنه ثم ذكر ثناء الأئمة عليه ومن ذلك قول الإمام أحمد كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن يعنى في الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته للرجال، وقال ابن مهدى: كان الثوري يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث، وقال وكيع: إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات لذبّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا ثبتا حجة صاحب حديث، وقال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة ثم تبعه القطان ثم أحمد ويحي، وقال أبو بكر بن منجويه، وكان من سادات أهل زمانه حفظا واتقانا وورعا وفضلا، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين وصار علما يقتدي به وتبعه عليه بعده أهل العراق، وقال الحاكم: شعبة إمام الأئمة في معرفة الحديث بالبصرة رأى أنس بن مالك وعمرو بن سلمة الصحابيين وسمع من أربعمائة من التابعين، وقال في تقريب التهذيب: ثقة حافظ متقن وقال: وكان عابدا من السابعة مات سنة ستين أي بعد المائة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: كان مولده سنة ثلاث وثمانين مات سنة ستين ومائة في أولها وله يوم مات سبع وسبعون سنة قال على ابن المديني: كان أكبر من سفيان الثوري بعشر سنين رحمهم الله..
الثالث: سعيد بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري، قال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع أباه عند هما- أي في الصحيحين- وأنس بن مالك عند مسلم روى عنه شعبة عند هما وأبو إسحاق الشيباني عند البخاري وعمرو بن دينار وزيد بن أبى أنيسة وزكريا بن أبى زائدة ومجمع بن(25/165)
ص -135- ... يحي وقتادة عند مسلم. وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب توثيقه عن ابن معين والعجلي وأبى حاتم والنسائي وقال: وذكره ابن حبان في الثقات وقال: قال ابن أبى حاتم ؤ المراسيل: لم يسمع ابن أبى بردة من ابن عمر شيئا إنما يروى عن أبيه عنه وروايته عن جده منقطعة أ يسمع منه شيئا، وقال في تقريب التهذيب سعيد بن أبى بردة بن أبى موسى الأشعري الكوفي ثقة ثبت وروايته عن ابن عمر مرسلة من الخامسة ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال في تهذيب التهذيب وقال الصريفني مات سنة 168 كذا بخط مغلطاي ولعله وثلاثين بدل وستين انتهى.
الرابع والخامس: أبو بردة وأبو موسى الأشعري وقد سبق التعريف بهما في رجال إسناد الحديث الخامس..
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم إلا شيخ البخاري آدم بن أبى إياس فلم يرو له مسلم ولا ابن ماجه وروى له الباقون.
2- ثلاثة من رجاله كوفيون وهم أبو موسى رضي الله عنه وابنه وحفيده.
3- روى الحديث سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن جده قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: وجمع الحافظ صلاح الدين العلائي من المتأخرين مجلدا كبيرا في معرفة من روى عن أبيه عن جده عن النبي يكن وقال وقد لخصت كتابه المذكور وزدت عليه تراجم كثيرة جدا وأكثر ما وقع فيه ما تسلسلت فيه الرواية عن الآباء بأربعة عشر أباً. انتهى.
4- آدم هو ابن أبى إياس ولم ينسبه البخاري لانتفاء اللبس إذ ليس(25/166)
ص -136- ... في شيوخه من يسمى آدم سواه بل ليسن في رجال صحيحه غيره إلا رجلا واحداً وهو آدم بن على العجلي وهو من التابعين وقد روى له هو والنسائي وقد انفرد البخاري عن مسلم بالرواية لهذين كما انفرد مسلم عن البخاري بالرواية لآدم ابن سليمان القرشي الكوفي ولم يرو له إلا حديثا واحدا في كتاب الإيمان من صحيحه في الآيتين من آخر سورة البقرة، فليس في صحيح مسلم من يسمى آدم سواه ولم يرد ذكره إلا في موضع واحد من صحيحه، وقد روى له الترمذي والنسائي.
وهؤلاء الثلاثة هم جملة من يسمى آدم في رجال الكتب الستة..
5- شعبة هو ابن الحجاج ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من يسمى شعبة غيره.
6- في الإسناد رجل وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث وهو شعبة بن الحجاج وصفه بذلك سفيان الثوري كما في تهذيب التهذيب..
المبحث الرابع، شرح الحديث:
1- قوله: على كل مسلم صدقة، ورد في مسند الطيالسي تقييد ذلك في كل يوم كما تقدم في التخريج وهذه الصدقة قال الحافظ في الفتح على سبيل الاستحباب المتأكد أو على ما هو أعم من ذلك والعبارة صالحة للإيجاب والاستحباب كقوله صلى الله عليه وسلم: "على المسلم ست خصال"، فذكر منها ما هو مستحب اتفاقا انتهى.
2- قوله: قالوا فان لم يجد، أي ما يتصدق به قال الحافظ كأنهم فهموا من لفظ الصدقة العطية فسألوا عمن ليس عنده شيء فبين لهم أن المراد بالصدقة ما هو أعم من- ذلك ولو بإغاثة الملهوف والأمر بالمعروف.
3- قوله: فيعين ذا الحاجة الملهوف، أي المستغيث سواء كان عاجزا أو مظلوما فيعينه بالفعل أو بالقول أو بهما معا.(25/167)
ص -137- ... 4- قوله: فليأمر بالخير- أو قال- بالمعروف، أي وينهي عن المنكر لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متلازمان وقد جاء الجمع بينهما في رواية أبى داود الطيالسي في مسنده كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في التخريج.
5- قوله: فليمسك عن الشر فإنه له صدقة، المراد بالشر ما منعه الشرع والضمير في "فانه " يعود إلى الإمساك، وفي الرواية الأخرى فإنها له صدقة: بالضمير المؤنث باعتبار الخصلة من الخير التي هي الإمساك والضمير في له يعود إلى المسلم الممسك عن الشر.
6- قوله: فليمسك عن الشر فانه له صدقة، قال الزين بن المنير كما في الفتح: إنما يحصل ذلك للممسك عن الشر إذا نوى بالإمساك القربة بخلاف محض الترك، والإمساك أعم من أن يكون عن كيره فكأنه تصدق عليه بالسلامة منه فان كان شره لا يتعدى نفسه فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم. انتهى.
7- وقال الزين بن المنير كما في الفتح أيضا: وليس ما تضمنه الخبر عن قوله "فان لم يجد" ترتيبا وإنما هو للإيضاح لما يفعله من عجز عن خصلة من الخصال المذكورة فانه يمكنه خصلة أخرى فمن أمكنه أن يعمل جمده فيتصدق وأن يغيث الملهوف وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويمسك عن الشر فليفعل الجميع..
8- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- الحث على الصدقة.
2- أن الصدقة كما تطلق على إنفاق المال تطلق على جميع أفعال الخير.
3- التنبيه على العمل والتكسب للاستفادة والإفادة.
4- الحث على فعل الخير مهما أمكن.
5- أن من قصد فعل خصلة من خصال الخير فتعسر عليه ذلك فلينتقل إلى فعل غيرها.(25/168)
ص -138- ... 6- أن أعمال الخير تنزل منزلة الصدقات في الأجر ولاسيما في حق من لا يقدر عليها.
7- أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل من الأعمال القاصرة.
8- في الحديث تسلية للعاجز عن فعل المندوبات إذا كان عجزه عن ذلك عن غير اختيار.
9- أن الأحكام تجرى على الغالب لأن في المسلمين من يأخذ الصدقة المأمور بصرفها وقد قال: على كل مسلم صدقة.
10- مراجعة العالم في تفسير المجمل وتخصيص العام.
11- فضل التكسب وعمل الإنسان بيده لما فيه من الإغناء عن ذل السؤال، وإفادة الغير.
12- تقديم النفس والبدء بالأهم فالمهم لقوله "فينفع نفسه ويتصدق".
13- أن كل شيء يفعله المرء أو يقوله من الخير يكتب له صدقة.
14- أن الصدقة بمعناها العام لا تختص بأهل اليسار بل كل واحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال بغير مشقة.
15- أن خصال الخير تتفاضل وبعضها أولى من بعض.
16- الحث على إعانة المحتاج ولاسيما الملهوف.
17- الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
18- أن الترك عمل وكسب للعبد يثاب عليه إذا كان من أجل الله.
19- أن الإحسان إلى الغير والشفقة على الخلق متأكد وهو إما بحال حاصل أو ممكن التحصيل أو بغير مال وذلك إما فعل وهو الإعانة، أو قول وهو الأمر بالمعروف، أوترك وهو الإمساك عن الشر مع قصد القربة.(25/169)
ص -139- ... 20- حرص الصحابة رضوان الله عليهم علي معرفة الحق وتبين درجات الخير.
21- أن إمساك المسلم عن الشر صدقة منه على نفسه أو على غيره مع نفسه.
22- أنه لا أقل من الإمساك عن الشر إن لم يحصل من المسلم فعل الخير مع ذلك.(25/170)
ص -140- ... الحديث الحادي عشر
قال البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه:
حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا الليث عن يزيد عن أبى الخير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
المبحث الأول: التخريج:
أورد البخاري هذا الحديث في ثلاثة مواضع من صحيحه هذا أولها في باب إطعام الطعام من الإسلام، والثاني في كتاب الإيمان أيضا في باب إفشاء السلام من الإسلام ولفظه: حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مثله، والثالث في كتاب الاستئذان باب السلام للمعرفة وغير المعرفة ولفظه: حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث قال حدثني يزيد عن أبى الخير عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير: قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف".
ورواه مسلم في صحيحه فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث ح وحدثنا محمد بن رمح بن المهاجر أخبرنا الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عبد الله بن عمرو مثله، ورواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن قتيبة بن سعيد عن الليث بمثل إسناده ومتنه، وأخرجه النسائي في كتاب الإيمان من سننه بمثل سنده ومتنه عند أبى داود، ورواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب إطعام الطعام فقال: حدثنا محمد بن رمح أنبأنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل(25/171)
ص -141- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". ورواه الإمام أحمد ؤ المسند فقال: حدثنا حجاج وأبو النضر قالا: حدثنا ليث حدثني يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال خير: قال: "أن تطعم الطعام وتقرأ السلام علي من عرفت ومن لم تعرف".
والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد باب التسليم بالمعرفة وغيرها عن شيخه قتيبة بن سعيد بمثل إسناده ومتنه في الصحيح وفي باب من كره تسليم الخاصة عن عبد الله بن صالح عن الليث بمثل إسناده ومتنه، ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبى بكر بن خلاد عن الحارث بن أبى أسامة عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث بمثل إسناده ومتنه، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة حامد بن سعدان بإسناده إليه عن ابن رمح وابن زغبة عن الليث بمثل سنده ومتنه.
المبحث الثاني ، التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري عمرو بن خالد قال الحافظ في التقريب: عمرو بن خالد بن فروخ بن سنعيد التميمي ويقال الخزاعي أبو الحسن الحراني نزيل مصر ثقة من العاشرة مات سنة تسع وعشرين أي بعد المائتين، ورمز لكونه من رجال البخاري وابن ماجه، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع الليث بن سعد وزهير بن معاوية روى عنه البخاري في مواضع، وقال: مات بممر سنة تسع وعشرين ومائتين، وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب توثيقه عن العجلي والدارقطنى ومسلمة. وقال: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبي في الميزان: ثقة مشهور
الثاني: الليث وهو ابن سعد قال الحافظ في التقريب: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت فقيه إمام مشهور من السابعة،(25/172)
ص -142- ... من السابعة، مات في شعبان سنة خمس وسبعين أي بعد المائة ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال الخزرجي في الخلاصة: الفهمي مولاهم الإمام عالم مصر وفقيهها ورئيسها. وقال الذهبي في الميزان: أحد الأعلام والأئمة الأثبات ثقة حجة بلا نزاع. وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب توثيقه عن أحمد وابن سعد وابن معين وابن المديني والعجلي والنسائي ويعقوب بن شيبة وقال: قال ابن حبان في الثقات: كان من سادات أهل زمانه فقها وورعا وعلما وفضلا وسخاء، وقال ابن أبى مريم: ما رأيت أحدا من خلق الله أفضل من الليث وما كانت خصلة يتقرب بها إلى الله إلا كانت تلك الخصلة في الليث، وقال أبو يعلى الخليلي: كان إمام وقته بلا مدافعة، وقال النووي في شرح صحيح مسلم مبينا فضل الليث ومكانته: وأما الليث بن سعد رضي الله عنه فإمامته وجلالته وصيانته وبراعته وشهادة أهل عصره بسخائه وسيادته وغير ذلك من جميل حالاته أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر، ويكفي في جلالته شهادة الإمامين الجليلين الشافعي وابن بكير رحمهما الله تعالى أن الليث أفقه من مالك رضي الله عنهم أجمعين، فهذان صاحبا مالك رحمه الله وقد شهدا بما شهدا، وهما بالمنزلة المعروفة من الإتقان والورع وإجلال مالك ومعرفتهما بأحواله، هذا كله مع ما قد علم من جلالة مالك وعظم فقهه رضي الله عنه. قال محمد بن رمح كان دخل الليث ثمانين ألف دينار ما أوجب الله تعالى عليه زكاة قط، وقال قتيبة: لما قدم الليث أهدى له مالك من طرف المدينة فبعث إليه ألف دينار، وكان الليث مفتى أهل مصر في زمانه انتهى. وقد أفرد الحافظ ابن حجر ترجمته في جزء سماه الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية، قال: ورتبتها على ثمانية أبواب على عدد أبواب الجنة.
الثالث: يزيد وهو ابن أبى حبيب قال الحافظ في التقريب: يزيد بن أبى حبيب المصري أبو رجاء واسم أبيه سويد واختلف في ولائه ثقة فقيه وكان يرسل. من الخامسة مات سنة ثمان وعشرين أي بعد(25/173)
المائة وقد قارب الثمانين،(25/174)
ص -143- ... ورمز لكونه من رجال الجماعة. وذكر في تهذيب التهذيب بعفر ثناء الأئمة عليه وتوثيقه عن ابن سعد وأبى زرعة والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن أبي حاتم عن أبيه يزيد بن أبى حبيب عن عقبة بن عامر مرسل. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وأما يزيد بن أبى حبيب فكنيته أبو رجاء وهو تابعي، قال ابن يونس: وكان مفتى أهل مصر في زمانه، وكان حليما عاقلا، وكان أول من أظهر العلم بمصر والكلام في الحلال والحرام، وقبل ذلك كانوا يتحدثون بالفتن والملاحم والترغيب بالخير انتهى.
الرابع: أبو الخير قال الحافظ في التقريب: مرثد بن عبد الله اليزني بفتح التحتانية والزاي بعدها نون أبو الخير المصري ثقة فقيه من الثالثة مات سنة تسعين ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال المقدسي في الجمع بينا رجال الصحيحين: ويزن بطن من حمير سمع عقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو وأبا عبد الله الصنابحي وعبد الرحمن بن عسيلة عند هما- أي في الصحيحين- وعبد الرحمن بن وعلة عند مسلم روى عنه يزيد بن أبى حبيب عند هما وجعفر ابن ربيعة وعبد الرحمن بن شماسة عند مسلم، وقال الحافظ. في تهذيب التهذيب: قال ابن يونس: كان مفتى أهل مصر في زمانه، وقال العجلي: تابعي ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة وله فضل وعبادة، ووثقه يعقوب بن سفيان.
الخامس: صحابي الحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال في التقريب: عبد الله بن عمرو بن العاص عن وائل بن هاشم بن سعيد بالتصغير بن سعد بن سهم السهمي أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليال الحرة على الأصح بالطائف على الراجح ورمز لكون حديثه في الكتب الستة. وقال الخزرجى في الخلاصة: عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي أبو محمد بينه وبين أبيه إحدى عشرة سنة له سبعمائة حديث اتفقا على سبعة عشر وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بعشرين، وقال المقدسي في الجمع بين(25/175)
ص -144- ... رجال الصحيحين: كان بينه وبين أبيه ثلاث عشرة سنة، وقال إنه أسلم قبل أبيه، وكان يسكن مكة ثم خرج إلى الشام وانتقل إلى مصر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق عند هما، وروى عنه مسروق وأبو الخير مرثد وحميد بن عبد الرحمن وأبو العباس الشاعر وغزير واحد، قال يحي بن بكير مات سنة خمس وستين وقائل يقول سنة ثمان وستين وسنه اثنتان وتسعون. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري ستة وعشرين حديثا، وقال في تهذيب التهذيب: ولم يكن بينه وبين أبيه في السن سوى إحدى عشرة سنة، وأسلم قبل أبيه، وكان مجتهداً في العبادة غزير العلم. وقال في الإصابة: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وعن عمر وأبى الدرداء ومعاذ وابن عوف وعن والده عمرو وقال أبو نعيم: حدث عنه من الصحابة ابن عمر وأبو أمامة والمسور والسائب بن يزيد وأبو الطفيل وعدد كثير من التابعين، وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: فأما عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فجلالته وفقهه وكثرة حديثه وشدة ورعه وزهادته وإكثاره من الصلاة والصيام وسائر العبادات وغير ذلك من أنواع الخير فمعروفة مشهورة لا يمكن استقصاؤها فرضي الله عنه..
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الخمسة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم ماعدا شيخ البخاري فلم يرو له منهم مع البخاري سوى ابن ماجه.
2- رجال الإسناد الخمسة مصريون، فهو مسلسل بالرواة المصريين، والتسلسل بالرواة المصريين قليل، قال النووي في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم: وقد رواه مسلم عن شيخه محمد بن رمح عن الليث بمثل إسناده عند البخاري- قال: وهذا من عزيز الأسانيد في مسلم بل في غيره،(25/176)
ص -145- ... فان اتفاق جميع الرواة في كونهم مصريين في غاية القلة، ويزداد قلة باعتبار الجلالة، ثم أخذ يبين جلالة كل منهم وفضله.
3- ومن اللطائف في ذلك أن أربعة من أصحاب الكتب الستة وهم البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي اتفقوا في رواية هذا الحديث سنداً ومتنا وشيخهم جميعاً فيه قتيبة بن سعيد.
4- ذكر الحافظ في الفتح أنه لا يعرف اسم الرجل السائل في هذا الحديث فهو يعتبر من مبهمات المتن.
5- في الإسناد ثلاثة كل منهم مفتى ممر في زمانه وهم أبو الخير ويزيد ابن أبى حبيب والليث بن سعد.
6- أبو الخير ويزيد بن أبى حبيب تابعيان، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
7- عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أحد العبادلة الفقهاء الأربعة في الصحابة وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على الحديث الثاني.
8- من اللطائف في ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ما ذكر من أن بينه وبين أبيه إحدى عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- قوله: أي الإسلام خير؟ معناه أي خصال الإسلام خير؟ وخير أفعل تفضيل حذفت الهمزة من أوله، وكما يرد أفعل تفضيل كما هنا يرد اسما في مقابلة الشر، وقد جمع الله تعالى بينهما في قوله تعالى في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُم} فالأولى ما يقابل الشر والثانية أفعل تفضيل.(25/177)
ص -146- ... 2- قوله: أي الإسلام خير؟ مقول لقول محذوف أي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الإسلام خير وقد صرح بذلك في سنن ابن ماجه حيث قال: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الإسلام خير؟. وتقدم في التخريج.
3- قوله: تطعم الطعام الخ، قال الحافظ في الفتح: هو في تقدير المصدر أي أن تطعم ومثله تسمع بالمعيدي انتهى. وقد ورد ذكر "أن " قبل الفعل في مسند الإمام أحمد كما تقدم في التخريج.
4- قوله: تطعم الطعام، قال في الفتح: ذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة أو غيرها.
5- قوله: وتقرأ السلام، قال في الفتح: وتقرأ بلفظ مضارع القراءة بمعنى تقول، قال أبو حاتم السجستاني: تقول اقرأ عليه السلام ولا تقول: أقرئه السلام، فإذا كان مكتوبا قلت: أقرئه السلام أي اجعله يقرأه ا هـ. ولعل هذا باعتبار الغالب، فقد ورد لفظ أقرئه السلام في غير المكتوب كما في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمحمد صلى الله عليه وسلم أقرىء أمتك منى السلام الحديث.
6- قوله: على من عرفت ومن لم تعرف، قال في الفتح: أي لا تخص به أحدا تكبرا أو تصنعا بل تعظيما لشعائر الإسلام ومراعاة لأخوة المسلم، فان قيل اللفظ عام فيدخل الكافر والمنافق والفاسق، أجيب بأنه خص بأدلة أخرى أو أن النهي متأخر وكان هذا عاما لمصلحة التأليف، وأما من شك فيه فالأصل البقاء على العموم حتى يثبت الخصوص، وقال في موضع آخر قال النووي: وهذا العموم مخصوص بالمسلم فلا يبتدىء السلام على كافر. قلت: قد تمسك به من أجاز ابتداء الكافر بالسلام، ولا حجة فيه لأن الأصل مشروعية السلام للمسلم، فيحمل قوله (من عرفت) عليه، وأما (من لم تعرف) فلا دلالة فيه. بل إن عرف أنه مسلم فذاك وإلاّ فلو سلم احتياطا لم يمتنع حتى يعرف أنه كافر، وقال ابن بطال: في مشروعية السلام على غير(25/178)
ص -147- ... المعرفة استفتاح للمخاطبة للتأنيس ليكون المؤمنون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد، وفي التخصيص ما قد يوقع في الاستيحاش ويشبه صدود المتهاجرين المنهي عنه انتهى.
7- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الخير ومعرفة الحق.
2- الرجوع إلى العلماء وسؤالهم عن أمور الدين.
3- إثبات تفاضل خصال الإسلام.
4- البحث عن الفاضل من خصال الخير لإيلائه مزيد العناية.
5- إخلاص العمل لله رجاء مثوبته.
6- استعمال التواضع والإرشاد إليه.
7- الحث على إفشاء السلام وأنه من خير خصال الإسلام.
8- الحث على إطعام الطعام وأنه من خير خصال الإسلام.
9- فيه دلالة على إكرام الضيف.
10- بذل السلام للمعرفة وغير المعرفة.
11- أنه لو ترك السلام على من لم يعرف احتمل أن يظهر أنه من معارفه فقد يوقعه في الاستيحاش منه.
12- الإرشاد إلى أسباب تآلف القلوب واستجلاب ما يؤكد ذلك بين المؤمنين بالقول والفعل من التهادى وإطعام الطعام وإفشاء السلام وغير ذلك.(25/179)
ص -148- ... الحديث الثاني عشر
قال البخاري رحمه الله في كتاب فرض الخمس من صحيحه:
حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عمرو قال سمعت أبا وائل قال: حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده الإمام البخاري في أربعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في باب: من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره،
والثاني في كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالما جالساً، ولفظه: حدثنا عثمان قال أخبرنا جرير عن منصور عن أبى وائل عن أبى موسى قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله فان أحدنا يقاتل غضبا ويقاتل حمية؟ فرفع إليه رأسه قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل".
والثالث في كتاب الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولفظه: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو عن أبى وائل عن أبى موسى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
والرابع في كتاب التوحيد باب: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، ولفظه: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبى وائل عن أبى موسى قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(25/180)
ص -149- ... الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الجهاد من صحيحه فقال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت أبا وائل قال حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلا أعرابيا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله". حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وابن نمير وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن العلاء قال إسحاق أخبرنا وقال الآخرون حدثنا أبو. معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أبى موسى قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن شقيق عن أبى موسى قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله: الرجل يقاتل منا شجاعة فذكر مثله، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن منصور عن أبى وائل عن أبى موسى الأشعري أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في سبيل الله عزوجل فقال: الرجل يقاتل غضبا ويقاتل حمية قال فرفع رأسه إليه وما رفع رأسه إليه إلا أنه كان قائما فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
ورواه أبو داود في سننه في كتاب الجهاد باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. فقال: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبى وائل عن أبى موسى أن أعرابيا جاء إلى رسول الله لمجير فقال: إن(25/181)
الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل حتى تكون كلمة الله هي أعلى فهو في سبيل الله عزوجل"، حدثنا على بن مسلم حدثنا أبو داود(25/182)
ص -150- ... عن شعبة عن عمرو قال: سمعت من أبى وائل حديثا أعجبني فذكر معناه.
وأخرجه النسائي في الجهاد من سننه باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فقال: أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال حدثنا خالد قال حدثنا شعبة أن عمرو بن مرة أخبرهم قال سمعت أبا وائل قال حدثنا أبو موسى الأشعري قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل".
ورواه الترمذي في جامعه في أبواب الجهاد باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا فقال: حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق بن سلمة عن أبى موسى قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل. رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". قال أبو عيسى: وفي الباب عن عمر وهذا حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه في كتاب الجهاد من سننه باب النية في القتال فقال: حدثنا محمد بن عبد الله ابن نمير حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أبى موسى قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن مرة وفي ترجمة سفيان الثوري.
وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده.(25/183)
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ البخاري محمد بن بشار قال الحافظ في التقريب: محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري أبو بكر بندار ثقة من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين أي بعد المائتين وله بضع وثمانون سمة ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: يلقب بندارأ لأنه كان بندارا في الحديث جمع حديث البصرة، وكان ممن يحفظ حديثه، سمع(25/184)
ص -151- ... محمد بن جعفر غندراً وابن أبى عدى محمداً وعبد الوهاب الثقفي وغير واحد عند هما، روى عنه البخاري ومسلم وأكثر ولد سنة سبع وستين ومائة في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة، وقال الخزرجى في الخلاصة ة روى عنه الجماعة وابن خزيمة وابن صاعد وخلق، وقال عنه أبو بكر البصري: الحافظ بندار أحد أوعية العلم ونقل الحافظ في مقدمة الفتح توثيقه عن العجلي والنسائي وابن خزيمة وسماه إمام أهل زمانه والفرهياني والذهلي ومسلمة وأبى حاتم الرازي، وقال الذهبي في الميزان: قد احتج به أصحاب الصحاح كلهم وهو حجة بلا ريب وقال: كان من أوعية العلم.
الثاني: غندر واسمه محمد بن جعفر قال الحافظ في تهذيب التهذيب: محمد بن جعفر الهذلي مولاهم أبو عبد الله البصري المعروف بغندر صاحب الكرابيس روى عن شعبة فأكثر وجالسه نحوا من عشرين سنة وكان ربيبه وذكر جماعة روى عنهم ثم ذكر بعض الذين رووا عنه ومنهم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ويحي بن معين وعلى بن المديني وبندار، وقال في تقريب التهذيب: ثقة صحيح الكتاب إلا أن فيه غفلة من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين أي بعد المائة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: أحد الأثبات المتقنين من أصحاب شعبة اعتمده الأئمة كلهم حتى قال على بن المديني: هو أحب إلى من عبد الرحمن بن مهدى في شعبة، وقال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في شعبة فكتاب غندر حكم بينهم لكن قال أبو حاتم: يكتب حديثه عن غير شعبة ولا يحتج به قلت: أخرج البخاري له عن شعبة كثير أو أخرج له حديثا عن معمر وآخر عن عبد الله بن سعيد بن أبق هند توبع فيهما، وروى له الباقون انتهى. وقال الذهبي في الميزان: أحد الأثبات المتقنين ولاسيما في شعبة وقال: وقال يحي بن معين: كان غندر أصح الناس كتابا أراد بعض الناس أن يخطئه فلم يقدر أخرج إلينا كتابا وقال: اجهدوا أن تخرجوا فيه خطأ. فما وجدنا شيئا، وكان يصوم يوما ويفطر يوما منذ(25/185)
خمسين سنة.(25/186)
ص -152- ... الثالث: شعبة وهو ابن الحجاج تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.
الرابع: عمرو وهو ابن مرة كما في الإسناد عند مسلم وتقدم في التخريج، قال في تقريب التهذيب: عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي بفتح الجيم والميم المرادي أبو عبد الله الكوفي الأعمى ثقة عابد كان لا يدلس ورمى بالإرجاء من الخامسة، مات سنة ثمان عشرة ومائة وقيل قبلها ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: أحد الأثبات من صغار التابعين متفق على توثيقه إلا أن بعضهم تكلم فيه لأنه كان يرى الإرجاء، وقال شعبة: كان لا يدلس، وقد احتج به الجماعة. ونقل في تهذيب التهذيب ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول مسعر: لم يكن بالكوفة أحب إلى ولا أفضل منه، وقوله: كان عمرو من معادن الصدق.
الخامس: أبو وائل وهو شقيق بن سلمة قال الحافظ في تقريب التهذيب: شقيق بن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي ثقة مخضرم مات في خلافة عمر بن عبد العزيز وله مائة سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال الخزرجى في الخلاصة: أحد سادة التابعين مخضرم عن أبى بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاذ بن جبل وطائفة وعنه الشعبي وعمرو بن مرة ومغيرة بن مقسم ومنصور وزبيد. وذكر في تهذيب التهذيب توثيق الأئمة له وثناءهم عليه ومن ذلك قول ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله وقول ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة.
السادس: صحابي الحديث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الخامس.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الستة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج(25/187)
ص -153- ... حديثهم، فهو مسلسل بالرواة الذين خرج لهم البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
2- النصف الأعلى. من رجال الإسناد كوفيون وفم: أبو موسى وأبو وائل وعمرو بن مرة، والنصف الأدنى بصريون وهم: شعبة وغندر وبندار.
3- شيخ البخاري محمد بن بشار يلقب بنداراً، وقد اشتهر بلقبه وهو شيخ لبقية أصحاب الكتب الستة أيضاً كل منهم روى عنه مباشرة.
4- شيخ شيخ البخاري غندر وهو لقب اشتهر به كما اشتهر باسمه أيضاً، وهو محمد بن جعفر وقد ذكر هنا باللقب كما يذكر في مواضع من صحيح البخاري بالاسم أيضاً وقد ذكر بالاسم في سند هذا الحديث عند مسلم كما تقدم في التخريج.
5- أبو وائل الراوي عن أبى موسى اسمه شقيق بن سلمة وقد اشتهر بكنيته كما اشتهر باسمه وقد جاء ذكره في رجال إسناد هذا الحديث عند مسلم بالاسم وبالكنية كما تقدم في التخريج كما ورد ذكر؟ بالاسم في إسناد هذا الحديث عند الترمذي. وابن ماجه كما في التخريج أيضاً، ومعرفة مثل ذلك من الأمور المهمة في مصطلح الحديث، قال الحافظ في شرحه لنخبة الفكر: ومن المهم في هذا الفن معرفة كنى المسمين ممن اشتهر باسمه وله كنية لا يؤمن أن يأتي في بعض الرواية مكنيا لئلا يظن أنه آخر، ومعرفة أسماء المكنين وهو عكس الذي قبله انتهى.
6- في الإسناد تابعيان وهما أبو وائل وعمرو بن مرة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
7- هذا الحديث رواه البخاري من طريقين إلى شعبة، في كتاب الجهاد بينه وبين شعبة سليمان بن حرب، وفي كتاب فرض الخمس بينه وبينه واسطتان محمد بن بشار وغندر وإنما رواه نازلا هنا مع روايته له عاليا في كتاب الجهاد إشارة إلى تعدد الطرق إلى شعبة ولأن الطريق النازلة فيها ميزة وهي أن(25/188)
ص -154- ... الراوي فيها عن شعبة محمد بن جعفر الملقب بغندر وهو أثبت الناس في شعبة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أقوال الأئمة في ترجمته، وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث أورده البخاري في كتاب الإيمان من طريقين في باب ظلم دون ظلم، روى الحديث في إحدى الطريقين عاليا بينه وبين شعبة أبو الوليد الطيالسي، ورواه نازلا في الطريق الأخرى بينه وبين شعبة بشر بن خالد ومحمد بن جعفر المعروف بغندر قال الحافظ: وغندر أثبت الناس في شعبة ولهذا أخرج المؤلف روايته مع كونه أخرج الحديث عاليا عن أبى الوليد انتهى.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- الأعرابي السائل في هذا الحديث قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يصلح أن يفسر بلاحق بن ضميرة وحديثه عند أبى موسى المديني في الصحابة. من طريق عفير بن معدان سمعت لاحق به ضميرة الباهلي قال: وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر فقال لا شيء له، الحديث. وفي إسناده ضعف انتهى.
2- قوله: يقاتل للمغنم أي لطلب الغنيمة. والرجل يقاتل ليذكر، أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة وفي بعض روايات هذا الحديث: ويقاتل شجاعة، وقوله: ويقاتل ليرى مكانه: وفي رواية: ويقاتل رياء، وفي رواية: ويقاتل حمية، وفي رواية: ويقاتل غضبا: قال الحافظ ابق حجر بعد الإشارة إلى تلك الروايات فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء طلب المغنم وإظهار الشجاعة والرياء والحمية والغضب. وكل منها يتناوله المدح والذم فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي.
3- قوله: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، قال الحافظ في الفتح: المراد بكلمة الله: دعوة الله إلى الإسلام ويحتمل أن يكون المراد أنه لا(25/189)
ص -155- ... يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أن لو أضاف إلى ذلك سببا من الأسباب المذكورة أخل بذلك، ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمنا لا أصلا ومقصودا وبذلك صرح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك وبذلك قال الجمهور لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبى أمامة بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال: لا شيء له فأعادها ثلاثا كل ذلك يقول: لا شيء له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه"، ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معا على حد واحد فلا يخالف المرجح أولا فتصير المراتب خمسا أن يقصد الشيئين معا أو يقصد أحدهما صرفا أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء فقد يحصل الإعلاء ضمنا وقد لا يحصل ويدخل تحته مرتبتان وهذا ما دل عليه حديث أبى موسى ودونه أن يقصد هما معا فهو محذور أيضا على ما دل عليه حديث أبى أمامة والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفا، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل ففيه مرتبتان أيضا قال ابن آبى جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه انتهى، ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمنا لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم فرجعنا ولم نغنم شيئا فقال: "اللهم لا تكلهم إلى"، الحديث.
4- (كلمة الله) في هذا الحديث بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"، وهو من(25/190)
إطلاق الكلمة مرادا بها الكلام ومنه قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}الآية.(25/191)
ص -156- ... 5- قوله: فهو في سبيل الله: سبيل الله الطريق الموصلة إليه وتطلق على كل ما شرعه الله كما تطلق مرادا بها الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام ومن الأول قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ومن الثاني هذا الحديث.
6- في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم السائل بقوله: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله شاهد لما يعرف في فق البلاغة بأسلوب الحكيم فان هذا الجواب.مشتمل على إجابته عما سأل عنه وزيادة مع اختصاره وإيجازه وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله احتمل أن يكون ماعدا ذلك كله في سبيل الله وليس كذلك فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "فهو" راجعا إلى القتال الذي في ضمن قاتل أي فقتاله قتال في سبيل الله، واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه وطلب ثوابه وطلب دحض أعدائه وكلها متلازمة، قال ذلك الحافظ ابن حجر، وقال: قال ابن بطال: إنما عدل النبي عبيد عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع فأفاد دفع الإلباس وزيادة الإفهام.
7- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- الرجوع إلى العلماء وسؤالهم عن أمور الدين.
2- بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، والحديث شاهد لحديث إنها الأعمال بالنيات.
3- أن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
4- جواز السؤال عن العلة.(25/192)
ص -157- ... 5- تقدم العلم على العمل.
6.- ذم الحرص على الدنياء وعلى القتال لخط النفس في غير الطاعة.
7- إطلاق الكلمة مرادا بها الكلام.
8- أن من حسن إجابة المفتي أن تكون فتواه وفية بغرض السائل وزيادة.(25/193)
ص -158- ... الحديث الثالث عشر:
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه:
حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن النبي عظيم ح. وحدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم. "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"..
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده الإمام البخاري في صحيحه في موضع واحد في باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، أورده عقب حديث أبى هريرة رضي الله عنه ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده".
وروى مسلم حديث أنس هذا في كتاب الإيمان من صحيحه فقال: وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية ح وحدثنا شيبان بن أبى شيبة حدثنا عبد الوارث كلاهما عن عبد العزيز عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد". وفي حديث عبد الوارث " الرجل " حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين"، حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد ابن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين
ورواه النسائي في باب علامة الإيمان فقال: أخبرنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر- يعنى ابن المفضل- قال: حدثنا شعبة عن قتادة أنه سمع أنسا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". أخبرنا الحسين بن حريث قال: أنبأنا إسماعيل عن(25/194)
ص -159- ... عبد العزيز ح. وأنبأنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين".
ورواه ابن ماجه في أوائل شنه فقال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"..
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:
أول رجال الإسناد الأول: شيخ البخاري يعقوب بن إبراهيم، قال الحافظ في التقريب: يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن أفلح العبدي مولاهم أبو يوسف الدورقي ثقة من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين أي بعد المائتين وله ست وتسعون سنة وكان من الحفاظ ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجى في الخلاصة: روى عن يحي بن أبى زائدة ومعتمر بن سليمان وعبد العزيز بن أبى حازم وخلق وعنه الجماعة، قال الخطيب: كان حافظا متقنا صنف المسند، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: العبدي مولى عبد القيس أبو يوسف الدورقي الحافظ البغدادي. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: يكنى أبا يوسف أخو أحمد القيسي مولى لعبد القيس وليس من بلد دورق وإنما كانوا يلبسون قلانس تسمى الدورقية فنسبوا إليها. وقال: قال أبو العباس السراج. ولد يعقوب سنة ست وستين ومائة وكان بينه وبين أخيه أحمد سنتان ومات سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
الثاني: ابن علية قال الحافظ في التقريب: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم أبو بمضر البصري المعروف بابن عليه ثقة حافظ من الثامنة مات سنة ثلاث وتسعين أي بعد المائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين:(25/195)
ص -160- ... الأسدي البصري مولى بنى أسد بن خزيمة يكنى أبا بشر وأمه علية مولاة لبنى أسد ونقل في تهذيب التهذيب توثيق الأئمة له وثناءهم عليه ومن ذلك قول شعبة: إسماعيل بن علية ريحانة الفقهاء وقوله أيضا: ابن علية سيد المحدثين وقول أحمد: إليه المنتهي في التثبت بالبصرة، وقول ابن المديني: ما أقول إن أحداً أثبت في الحديث من ابن علية انتهى. وقال الذهبي في الميزان: وكان حافظا فقيها كبير القدر.
الثالث: عبد العزيز بن صهيب قال الحافظ في التقريب: عبد العزيز ابن صهيب البناني بموحدة ونونين البصري ثقة من الرابعة مات سنة ثلاثين أي بعد المائة ورمز لكونه من رجال الجماعة وقال الخزرجى في الخلاصة: عبد العزيز بن صهيب البناني بنانة بن سعد بن لؤي بن غالب مولاهم البصري عن أنس وشهر وعنه شعبة والحمادان وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: البناني مولاهم البصري الأعمى ونقل توثيقه عن أحمد وابن معين وابن سعد والنسائي والعجلي.
الرابع: صحابي الحديث في الإسنادين أنس بن مالك رضي الله عنه وتقدم في رجال إسناد الحديث السادس.
أما بقية رجال الإسناد الثاني فأولهم: شيخ البخاري آدم بن أبى إياس وقد تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.
الثاني: شعبة بن الحجاج وتقدم في رجال إسناد الحديث العاشر أيضا.
الثالث: قتادة قال في التقريب: قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري ثقة ثبت يقال ولد أكمه وهو رأس الطبقة الرابعة مات سنة بضع عشرة أي بعد المائة ورمز لكونه من رجال الجماعة وقال الخزرجى في الخلاصة: أبو الخطاب البصري الأكمه أحد الأئمة الأعلام حافظ مدلس روى عن أنس وابن المسيب وابن سيرين وخلق وعنه أيوب وحميد وحسين(25/196)
ص -161- ... المعلم والأوزاعي وشعبة وعلقمة انتهى. وقال الذهبي في الميزان: حافظ ثقة ثبت لكفه مدلس ورمى بالقدر قال يحي بن معين: ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح لاسيما إذا قال: حدثنا، مات كهلا انتهى. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قتادة بن دعامة البصري التابعي الجليل أحد الأثبات المشهورين كان يضرب به المثل في الحفظ إلا أنه كان ربما دلس، وقال ابن معين: رمى بالقدر وذكر ذلك عن جماعة، وأما أبو داود فقال: لم يثبت عندنا عن قتادة القول بالقدر والله أعلم واحتج به الجماعة انتهى، وترجم له في تهذيب التهذيب بأكثر من خمس صفحات، ومما ذكره من الثناء عليه قول ابن سيرين: قتادة هو أحفظ الناس، وقول بكير بن عبد الله المزني: ما رأيت الذي هو أحفظ منه ولا أجدر أن يؤدى الحديث كما سمعه، ونقل عن بعض العلماء وصفه بالتدليس، ونقل عن بعضهم أنه روى عن جماعة لم يسمع منهم فهو متصف بالإرسال والتدليس.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث
1- رجال الإسنادين السبعة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ البخاري في الإسناد الثاني آدم بن أبى إياس فلم يرو له مسلم وابن ماجه.
2- رجال الإسنادين السبعة بصريون إلا شيخي البخاري يعقوب فهو بغدادي وآدم عسقلاني نشأ ببغداد.
3- يعقوب بن إبراهيم الدورقي شيخ البخاري وقد توفي قبله بأربع سنوات وقد شاركه في الرواية عنه مباشرة بقية أصحاب الكتب الستة.
ومما يحسن ذكره هنا أن يعقوب بن إبراهيم هذا ومحمد بن بشار الملقب بنداراً ومحمد بن المثنى الملقب الزمن قد ماتوا في سنة واحدة وهي سنة اثنتين(25/197)
ص -162- ... وخمسين ومائتين، وكل واحد منهم شيخ لأصحاب الكتب الستة، وقد اتفقوا أيضا في سنة الولادة إلا أن يعقوب ولد قبلهما بسنة واحدة حيث كانت ولادته سنة ست وستين ومائة، أما محمد بن بشار ومحمد بن المثنى فقد ولدا في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة أي سنة سبع وستين ومائة، ولهذا لما ذكر الحافظ ابن حجر محمد بن المثنى في التقريب قال وكان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة، وللبخاري شيخ رابع توفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين أيضا وهو زياد بن أيوب الطوسي البغدادي وولد في السنة التي ولد فيها يعقوب بن إبراهيم.
4- رجال الإسناد الأول كلهم من الموالى إلا الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه وابن علية أسدى ولاء من جهة أبيه وأمه.
5- ابن علية هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم وعلية اسم أمه اشتهر بالنسبة إليها، وكان يقول: من قال لي ابن علية فقد اغتابني، ومعرفة مثل هذه النسبة من الأمور المهمة في علم مصطلح الحديث، قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: ومن المهم معرفة من نسب إلى غير أبيه كالمقداد بن الأسود نسب إلى الأسود الزهري لكونه تبناه وإنما هو مقداد بن عمرو أو إلى أمه كابن علية وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم أحد الثقات وعلية اسم أمه اشتهر بها وكان لا يحب أن يقال له ابن علية، ولهذا كان يقول الشافعي: أنبأنا إسماعيل الذي يقال له ابن علية انتهى.
فإذا ذكر مع اسمه اسم أبيه أو اسم أبيه وجده ثم ذكر منسوبا إلى أمه فانه يتعين شيئان أحدهما أن يعرب " ابن " في النسبة إلى أمه إعراب " ابن " في نسبته إلى أبيه، والثاني أن تثبت الألف في "ابن " في ن!سبته إلى أمه، وقد نبه على هذا النووي في شرحه لصحيح مسلم في كتاب الإيمان لما جاء ذكر المقداد ابن عمرو بن الأسود الكندي وقال: ولهذا الاسم نظائر منها عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم وعبد الله بن أبى ابن سلول، وعبد الله بن مالك ابن بحينة ومحمد بن على ابن الحنفية، وإسماعيل(25/198)
بن إبراهيم ابن علية وإسحاق ابن(25/199)
ص -163- ... إبراهيم ابن راهوية، ومحمد بن يزيد ابن ماجه فكل هؤلاء ليس الأب فيهم ابنا لمن كده فيتعين أن يكتب " ابن " بالألف وان يعرب بإعراب الابن المذكور أولا، فأم مكتوم زوجة عمرو، وسلول زوجة أبى، وبحينة زوجه مالك وأم عبد الله، وكذلك الحنفية زوجة على رضي الله عنه، وعلية زوجة إبراهيم، وراهويه هو إبراهيم والد إسحاق، وكذلك ماجه هو يزيد، فهما لقبان والله أعلم، ثم أشار إلى وجه ذكر النسبة إلى الأب والنسبة إلى الأم معا في بعض الأحوال فقال: ومرادهم في هذا كله تعريف الشخص بوصفيه ليكمل تعريفه فقد يكون الإنسان عارفا بأحد وصفيه دون الآخر فيجمعون بينهما ليتم التعريف لكل أحد.
6- قتادة هو ابن دعامة ولا لبث في عدم نسبته في الإسناد لأنه ليس في رجال البخاري من يسمى قتادة سواه إلا قتادة بن النعمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7- ذكر الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر أن أرفع مراتب التعديل الوصف بأفعل كأوثق الناس أو أثبت الناس أو إليه المنتهي في التثبت انتهى. وفي رجال هذا الإسناد من وصف بذلك فابن علية قال فيه الإمام أحمد: إليه المنتهي في التثبت في البصرة، وقال فيه ابن المديني: ما أقول إن أحدا أثبت في الحديث من ابن علية، وقتادة بن دعامة قال فيه ابن سيرين: قتادة هو أحفظ الناس، وقال بكير بن عبد الله المزني: ما رأيت الذي هو أحفظ منه ولا أجدر أن يؤدى الحديث كما سمعه.
8- قتادة من المعروفين بالتدليس والراوي عنه في هذا الحديث شعبة ابن الحجاج وهو لا يروى عنه إلا ما سمعه، وقد صرح بالسماع في روايته لهذا الحديث كما في سنن النسائي، وتقدم في التخريج، قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه لهذا الحديث: ورواية شعبة عن قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة لأنه كان لا يسمع منه إلا ما سمعه وقد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النسائي انتهى..(25/200)
ص -164- ... 9- المتن المسوق رواية قتادة عن أنس وهو قريب من سياق حديث أبى هريرة وفيه زيادة عليه: والناس أجمعين، أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح وقال: واقتصر يعنى البخاري على سياق قتادة لموافقته لسياق حديث أبى هريرة رضي افه عنه.
10- قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ولفظ عبد العزيز مثله يعنى مثل لفظ قتادة إلا أنه قال كما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن يعقوب شيخ البخاري بهذا الاسناد (من أهله وماله) بدل (من والده وولده) وكذا لمسلم من طريق ابن علية، وكذا للاسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه: لا يؤمن الرجل، وهو أشمل من جهة و(أحدكم) أشمل من جهة. وأشمل منهما رواية الأصيلي (لا يؤمن أحد) فان قيل: فسياق عبد العزيز مغاير لسياق قتادة، وصنيع البخاري يوهم اتحاد هما في المعنى وليس كذلك، فالجواب أن البخاري يصنع مثل هذا نظرا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه انتهى.
11- ساق البخاري رحمه الله الإسناد الأول إلى أخره، ثم عطف عليه الإسناد الثاني ولم يحول الإسناد قبل الوصول إلى أنس رضي الله عنه وهو المروى عنه في الاسنادين معا، ولعل السر في ذلك تغاير صيغة الرواية من أنس رضي الله عنه، فسياق روايته عن رسول الله به من طريق عبد العزيز ابن صهيب: عن النبي !، وسياق روايته من طريق قتادة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم.
12- الإسنادان من أولهما إلى أنس رضي الله عنه متحدان سياقا، فالبخاري يقول في الرواية عن كل من شيخيه: حدثنا وكل من شيخيه يقول عن شيخه: حدثنا، وشيخا شيخيه ابن علية وشعبة كل منهما يقول عن شيخه: عن، وقتادة وعبد العزيز يقولان: عن أنس رضي الله عنه.
المبحث الرابع: شرح الحديث
1- قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه" الخ، قال الحافظ(25/201)
ص -165- ... ابن حجر أي إيمانا كاملا، قال الشيخ عبد الرؤف المناوي في فيض القدير: أي إيمانا كاملا، وقال في قوله: حتى أكون أحب إليه. غاية لنفي كمال الإيمان، ومن كمل إيمانه علم أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بترجيح حبه على حب كل من ولده ووالده والناس أجمعين.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: لا يؤمن أحدكم: أي الإيمان الواجب والمراد كماله، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين. بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه كما في الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر: فانك الآن أحب إلي من نفسي فقال: الآن يا عمر"، رواه البخاري، فمن قال: إن المنفي هو الكمال فان أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قاله شيخ الإسلام رحمه الله، فمن ادعى محبة النبي صلى الله عليه وسلم بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} " فنفي الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن كل مسلم يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لابد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق لآن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه تيسير العزيز الحميد: لا يؤمن أحدكم أي لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه(25/202)
من أهله وولده ووالده والناس أجمعين، بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه أيضا كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه فساقه، وقال: فمن لم يكن كذلك فهو من أصحاب الكبائر إذا لم يكن(25/203)
ص -166- ... كافرا، فانه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب.. وقال أيضا: وأكثر الناس يدعى أن الرسول عامله أحب إليه مما ذكر فلابد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له وإلاّ فالمدعى كاذب، فان القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحسبها كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
2- قوله: حتى أكون أحب إليه من والده وولده، ورد في بعض الروايات عند مسلم وغيره (من أهله وماله) بدل (من والده وولده) قال الحافظ ابن حجر: وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لانهما أعز على العاقل من الأهل والمال بل ربما يكونان أعز من نفسه.
3- قوله: من والده، لفظ الوالد يشمل الوالدة إن أريد به من له الولد، أو يقال اكتفي بذكر أحدهما كما يكتفي عن أحد الضدين بالآخر قاله الحافظ ابن حجر في الفتح.
4- قوله: والناس أجمعين، من العام المراد به الخصوص، وذكره بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص، وهل يشمل النفس؟ قال الحافظ في الفتح: الظاهر دخولاً انتهى. وتقدم حديث عمر الذي هو نص في نفس الإنسان، ويدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فان النفس مما سواهما.
5- قوله: من والده وولده، قدم الوالد على الولد في رواية أنس هذه ورواية أبى هريرة عند البخاري، والسر في ذلك تقدمه في الزمان والإجلال، أو للأكثرية لأن كل أحد له والد من غير عكس، وقدم الولد على الوالد في رواية النسائي لمزيد الشفقة.
6- وهل الحكم الذي اشتمل عليه هذا الحديث يكون لسائر الأنبياء والمرسلين أيضا؟ قال الحافظ في الفتح: محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن(25/204)
ص -167- ... الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7- قال الحافظ في الفتح: ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كانت ممكنة، فان كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة ومن لا فلا، وليس ذلك محصورا في الوجود والفقد بل يأتي مثله في نصر سنته والذبّ عن شريعته وقمع مخالفيها. ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونقل عن النووي أنه قال: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فان من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس انتهى. ومعنى ذلك أن لو تعارض عند الإنسان فعل شيء يحبه الله ورسوله قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، ونفسه الأمارة بالسوء لا ترتاح إلى فعله، فان قدم فعل ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تهواه نفسه حصل له الاتصاف بالأحبية المذكورة في الحديث، وإن قدم ما تهواه نفسه كان بالعكس.. وقال الكرمإني: ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم إرادة طاعته وترك مخالفته وهو من واجبات الإسلام.. وقال ابن القيم في النونية:
فهو المطاع وأمره العالى على ... أمر الورى وأمر ذى السلطان
وهو المقدم في محبتنا على الـ ... أهلين والأزواج والولدان
وعلى العباد جميعهم حتى على الـ ... ـنفس التي قد ضمها الجنبان(25/205)
8- السر في الأحبية الثابتة في الحديث كونه صلى الله عليه وسلم سبب هداية الناس الذين بعثه الله إليهم إذ أخرجهم الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، فلما كان سبب المحبة بين المحب والمحبوب ما يحصل من النفع للمحب كانت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدمة على محبة أعز الناس إلى الإنسان؟ لأن النفع الذي حصل للمسلم بسبب الرسول لكن هو بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، ولهذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم أجر عمله ومثل أجور من آمن به من حين بعثه الله إلى(25/206)
ص -168- ... قيام الساعة لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي دل الناس على الخير ومن دل على هدى كان له من الأجر مثل أجور من فعله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- وجوب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على أعز الناس إلى الإنسان.
2- أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة وهي تابعة لمحبة الله لازمة لها.
3- أن الأعمال من الإيمان لأن المحبة عمل القلب.
4- أنه قد ينفي الإيمان عن شخص ولا يخرج بذلك عن الإسلام.
5- أنه إذا كان هذا شأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فما الظن بمحبة الله؟
6- الإشارة إلى ما يجب للوالد من التوقير والإجلال وما يجب للولد من الشفقة.
7- البدء بالأهم فالمهم.
8- الإشارة إلى أهمية التفكر لأن الأحبية المذكورة تعرف به وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد بقاءها سالمة من الآفات، هذا حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومآلا فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الإنتفاعات فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه ولاشك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم من هذا المعنى أتم لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم والله الموفق قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله في مؤلفه العظيم فتح الباري..(25/207)
ص -169- ... الحديث الرابع عشر:
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإكراه من صحيحه:
حدثنا محمد بن عبد انته بن حوشب الطائفي حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن أبى قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
المبحث الأول: التخريج.
أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث في أربعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر،
والثاني في كتاب الإيمان باب حلاوة الإيمان رواه عن شيخه محمد بن المثنى بمثل روايته عن محمد بن عبد الله بن حوشب متنا وسندا وسياقا إلا أن فيه نسبة عبد الوهاب (الثقفي ) وأنس رضي الله عنه يقول فيه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والثالث في كتاب الإيمان أيضا باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان، ولفظه: حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ انقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"،
والرابع في كتاب الأدب باب الحب في الله ولفظه: حدثنا آدم حدثنا شعرة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.(25/208)
ص -170- ... ورواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن يحي بن أبى عمرو محمد بن بشار جميعا عن الثقفي قال ابن أبى عمر حدثنا عبد الوهاب عن أيوب عن أبى قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؟ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يقذف في النار".
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجه حلاوة الإيمان: من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه". حدثنا إسحاق بن منصور أنبأنا النضر ابن شميل أنبأنا حماد عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم غير أنه قال: "من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا".
ورواه الترمذي في كتاب الإيمان من جامعه عن ابن أبى عمر عن عبد الوهاب بمثل إسناده ومتنه عند مسلم إلا أن فيه بدل (حلاوة الإيمان) (طعم الإيمان) وقال قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وقد رواه قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه النسائي في كتاب الإيمان أيضاً فقال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا جرير عن منصور عن طلق بن حبيب عن أنس بن مالك قال قال رسول الله عتمة: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وطعمه، أن يكون الله عزوجل ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب في الله ويبغض في الله، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئاً"، أخبرنا سويد ابن نصر قال حدثنا عبد الله عن شعبة عن قتادة قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد(25/209)
حلاوة الإيمان، من أحب المرء لا يحبه إلا لثه عزوجل، ومن كان الله عزوجل ورسوله(25/210)
ص -171- ... أحب إليه مما سواهما، ومن كان أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إن أنقذه الله منه". أخبرنا على بن حجر قال حدثنا إسماعيل عن حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار"،
ورواه الإمام أحمد في المسند عن عبد الوهاب بإسناده وفيه كما يكره أن يوقد له نار فيقذف فيها.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية قبيل ترجمة الصديق رضي الله عنه، وفي ترجمة أبى قلابة.
وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة محمد بن الحسن المؤذن الأنباري.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد.
الأول: شيخ البخاري محمد بن عبد الله بن حوشب الطائفي قال الحافظ ابن حجر في التقريب: محمد بن عبد الله بن حوشب بمهمله ثم معجمة بوزن جعفر الطائفي نزيل الكوفة صدوق من العاشرة ورمز لكونه من رجال البخاري. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع إبراهيم بن سعد وهشيما وعبد الوهاب الثقفي روى عنه البخاري في تفسير سورة النساء ومواضع، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال ابن شاهين في الثقات: قال ابن معين: ليس به بأس انتهي ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
الثاني: عبد الوهاب وهو الثقفي كما ورد منسوبا في رواية محمد بن المثنى عند البخاري، قال الحافظ في التقريب: عبد الوهاب بن عبد المجيد ابن الصلت الثقفي أبو محمد البصري ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين من الثامنة مات سنة أربع وتسعين أي بعد المائة عن نحو من ثمانين سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع أيوب السختياني ويحي بن سعيد وخالد الحذاء وعبيد الله بن عمر عند هما أي(25/211)
ص -172- ... في الصحيحين وغير واحد عند مسلم روى عنه بندار وأبو موسى عند هما وذكر جماعة رووا عنه عند البخاري وجماعة عند مسلم ونقل في تهذيب التهذيب توثيقه عن ابن معين والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات وقال على بن المديني: ليس في الدنيا كتاب عن يحي يعنى ابن سعيد الأنصاري أصح من كتاب عبد الوهاب وكلى كتاب عن يحي فهو عليه كل، وقال الترمذي: سمعت قتيبة يقول: ما رأيت مثل هؤلاء الأربعة مالك والليث وعبد الوهاب الثقفي وعباد بن عباد. وقال في مقدمة الفتح: أحد الأثبات، وقال بعد نقل تغيره عن بعض المحدثين قلت: احتج به الجماعة ولم يكثر البخاري عنه والظاهر أنه إنما أخرج له عمن سمع منه قبل اختلاطه كعمرو بن على وغيره، بل نقل العقيلي أنه لما اختلط حجبه أهله فلم يرو في الاختلاط شيئاً والله أعلم.
الثالث: أيوب وهو السختياني قال الحافظ في التقريب: أيوب بن أبى تميمة كيسان السختياني بفتح المهملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون أبو بكر البصري ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد من الخامسة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة وله خمس وستون ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في تهذيب التهذيب: أبو بكر البصري مولى عنزة ويقال مولى جهينة رأى أنس بن مالك وروى عن عمرو بن سلمة الجرمي وحميد بن هلال وأبى قلابة وأناس آخرين سماهم وعنه الأعمش وهو من أقرانه وقتادة وهو من شيوخه والحمادان والسفيانان وشعبة وعبد الوارث ومالك وابن إسحاق وسعيد بن أبى عروبة وابن علية وخلق كثير، ونقل في تهذيب التهذيب توثيقه والثناء عليه عن كثيرين، ومن ذلك قول شعبة: حدثني أيوب وكان سيد الفقهاء، وقول ابن عيينة: ما لقيت مثل أيوب، وقول ابن سعد: كان ثقة ثبتا في الحديث جامعا كثير العلم حجة عدلا، وقول مالك: كان من العالمين العاملين الخاشعين.
الرابع: أبو قلابة قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن زيد بن عمرو(25/212)
ص -173- ... أو عامر الجرمي أبو قلابة البصري ثقة فاضل كثير الإرسال، قال العجلي فيه نصب يسير من الثالثة، مات بالشام هاربا من القضاء سنة أربع ومائة وقيل بعدها ورمز لكونه من رجال الجماعة انتهى. روى عن جماعة من الصحابة وأرسل عن آخرين ذكرهم في تهذيب التهذيب ونقل توثيقه عن ابن سعد والعجلي وابن خراش.
الخامس: الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.
1- رجال الإسناد الخمسة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ البخاري محمد بن عبد الله بن حوشب الطائفي فلم يرو له منهم سوى البخاري.
2- رجال الإسناد كلهم بصريون إلا شيخ البخاري فإنه طائفي ثم كوفي.
3- شيخ شيخ البخاري عبد الوهاب وهو ابن عبد المجيد الثقفي لم ينسبه في الإكراه ونسبه في الإيمان، ولا لبس في عدم نسبته لأنه ليس في رجال البخاري من يسمى عبد الوهاب سواه.
4- عبد الوهاب بن عبد المجيد تغير قبل وفاته بثلاث سنين، والحكم في رواية المختلط عند المحدثين أن ما حدث به قبل الاختلاط إذا تميز قبل، وإذا لم يتميز توقف فيه، وعبد الوهاب الثقفي لم يحدث بعد اختلاطه، قال الذهبي في الميزان بحد أن نقل عن بعض المحدثين تغيره: قلت لكنه ما ضر تغيره حديثه، فانه ما حدث بحديث في زمن التغير قال العقيلي: حدثنا الحسين بن عبد الله الذارع حدثنا أبو داود قال: تغير جرير بن حازم وعبد الوهاب الثقفي فحجب الناس عنهم انتهى.(25/213)
ص -174- ... في تهذيب التهذيب: قيل إنه مولى بنى شيبان وقيل من أنفسهم روى عن يزيد ابن أبى عبيد وابن أبى ذئب وابن جريج والأوزاعي وأناس آخرين سماهم وعنه جرير بن حازم وهو من شيوخه، والأصمعي والخريبي وهما من أقرانه، وأحمد وإسحاق وعلى بن المديني وغيرهم ثم قال: قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة وقال العجلي ثقة كثير الحديث وكان له فقه، وقال أبو حاتم صدوق وهو أحب إلى من روح بن عبادة، وقال ابن سعد كان فقيها وقال عمر ابن شبة: والله ما رأيت مثله. وقال ابن خراش: لم ير في يده كتاب قط، وقال الخليلي: متفق عليه زهدا وعلما وديانة واتقانا، وقال ابن طاهر المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: قال عمرو بن على سمعت أبا عاصم يقول: ولدت سنة اثنتين وعشرين ومائة، ومات سنة اثنتي عشرة ومائتين وهو ابن تسعين سنة وأربعة أشهر، وقال أيضا: ولدت أمي في سنة عشر ومائة وولدت سنة اثنتين وعشرين ومائة يعنى ولدتني أمي في اثنتي عشر سنة انتهى. ونقل عنه الخزرجى في الخلاصة أنه قال: من طلب الحديث فقد طلب أعلى الأمور فيجب أن يكون خير الناس. وقال ة قال الخطيب: روى عنه جرير بن حازم ومحمد بن حبان وبين وفاتهما مائة وإحدى وثلاثون سنة، وقد خرج حديثه الجماعة.
الثاني: يزيد بن أبى عبيد وهو يزيد بن أبى عبيد الحجازي أبو خالد الأسلمي مولى سلمة بن الأكوع روى عن مولاه، وعمير مولى لآبى اللحم، وهشام بن عروة وهو أكبر منه روى عنه بكير بن الأشج ومات قبله ويحي القطان وحاتم بن إسماعيل والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي ويحي بن راشد وحماد بن مسعدة وصفوان بن عيسى ومكي بن إبراهيم وأبو عاصم وغيرهم، قاله الحافظ في تهذيب التهذيب وقال الآجري على أبى داود: ثقة وذكره ابن حبان في الثقات، وقال اسحاق بن منصور عن ابن معين ثقة، وقال العجلي: حجازي تابعي ثقة، وقال ابن سعد: وكان ثقة كثير الحديث، ذكر ذلك عنهم الحافظ في تهذيب التهذيب، وقال في تقريب التهذيب: ثقة من(25/214)
الرابعة مات سنة
5- في الإسناد تابعيان وهما أيوب السختياني وشيخه أبو قلابة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.
6- أبو قلابة كنية أشتهر بها عبد الله بن زيد الجرمي وهو من التابعين، وهناك رجل آخر اشتهر بأبي قلابة أيضا إلا أنه متأخر عن هذا وهو بصري يكنى أبا محمد ويلقب بأبي قلابة، وهو من شيوخ ابن ماجه ولم يرو له الباقون مات سنة ست وسبعين ومائتين وهو عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الملك الرقاشي.
المبحث الرابع: شرح الحديث.
1- قوله: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، ثلاث مبتدأ وخبره الجملة بعده وجاز الابتداء بالنكرة لأن التنوين عوض عن المضاف إليه أي ثلاث خصال، (وكن فيه) يحتمل أن تكون تامة أي وجدن فيه، ويحتمل أن تكون ناقصة والتقدير: من كن مجتمعة فيه.
2- معنى حلاوة الإيمان قال النووي: استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في رضي الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ذلك على عرض الدنيا.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وص وره وغذائه وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في فتح المجيد: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى، قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريعها ودفع ضدها، فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما،(25/215)
ص -175- ... سواهما قال: وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار انتهى.
3- قوله: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله أكد عليه من حق أبيه وأمه وزوجه وجميع الناس، لأن الهدى من الضلال والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله، ومن علامات محبته نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته والتخلق بأخلاقه، وقال النووي: ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: ومحبة الله تستلزم محبة طاعته فانه يحب من عبده أن يطيعه والمحب يحب محبوبه ولابد، ومن لوازم محبة الله أيضا محبة أهل طاعته كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، وقال أيضا: ومن علامات محبة الله ورسوله أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع، ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله، وبمتثل أمره ويترك نهيه، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهي عنه فذلك عقم على عدم محبته لله ورسوله، فان محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه ومن لا فلا كما في آية المحنة ونظائرها انتهى. ويعنى بآية المحنة قوله تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} فقد قال رحمه الله عند الكلام عليها، وهذه تسمى آية المحنة قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} إشارة إلى(25/216)
دليل المحبة وثمرتها وفائدتها فدليلها وعلامتها: إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفائدتها محنة المرسل لكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة ومحبته لكم منتفية،(25/217)
ص -176- ... وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فانه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول انتهى.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: المراد في الحديث: أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما حبا قلبيا كما في بعض الأحاديث "أحبوا الله بكل قلوبكم" فيميل بكليته إلى الله وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده، وإنما يحب من سواه تبعاً لمحبته كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم ربه سبحانه، وذلك موجب لمحبة ما يحبه سبحانه وكراهة ما يكره وإيثار مرضاته على ما سواه والسعى فيما يرضيه ما استطاع وترك ما يكره، فهذه علامات المحبة الصادقة ولوازمها.
وقال ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم في شرحه لحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" ما ملخصه: معنى الحديث أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها فيحب ما أمر به ويكره ما نهي عنه وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ(25/218)
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وذم سبحانه من كره ما أحب الله وأحب ما كرهه الله، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحب الله محبة توجب له(25/219)
ص -177- ... الإتيان بما وجب عليه منه فان زادت المحبة حتى أتي بما ندب إليه منه كان ذلك فضلا، وأن يكره ما كرهه تعالى كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فان زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا، والمحبة الصحيحة تقتضى المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات، فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ويكره ما كرهه الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فان عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أوترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة، فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله انتهى.
هذه بعض النقول عن العلماء في بيان المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم التي تطابق فيها القول والعمل، والتي هي سبب لمحبة الله تعالى للعبد. وإذا أراد الإنسان أن يقف يقينا على مقدار ما في قلبه من المحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فليعرض أقواله وأفعاله على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فان وافقت الشرع المحمدي كان ذلك دليلا على صدق المحبة، وإن خالفته دل على أن دعوى المحبة كاذبة، ولو أن إنسانا مثلا ادعى أنه بار بوالديه محب لهما ثم أمراه أو أحدهما بأمر هو هين عليه وليس معصية لله ولرسوله بما فتلكأ وعصى أمرهما ظهر لكل عاقل أن دعواه كاذبة، ويكون صادقا إذا طابقت أعماله أقواله.
4- في قوله "مما سواهما" شيئان، أحدهما: التعبير "بما" دون "من " والسر في ذلك ليعم من يعقل ومن لا يعقل. والثاني: الضمير المثنى عائد إلى الله ورسوله، وهو يدل على جواز مثل هذه التثنية، وشمتفاد من قوله صلى الله عليه وسلم للخطيب الذي قال في خطبته "ومن يعصهما" بئس خطيب القوم أنت، وأمره بأن يقول: ومن(25/220)
يعص الله ورسوله، أن ذلك ممنوع منه، ووجه الجمع بين(25/221)
ص -178- ... الحديثين: أن الخطب يراد بها الإيضاح بخلاف ما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ، وقيل: إن تثنية الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما فانها وحدها لا غية إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعى حب الله مثلا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك. أما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية. وهناك وجوه أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح، وهذان الوجهان من أحسن ما قيل في الجمع بين الحديثين.
5- قوله صلى الله عليه وسلم: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قد دل القرآن العزيز على ما ثبت في هذا الحديث مع الوعيد لمن أخل بذلك، وذلك في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }.
6- قوله: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لثه، وذلك من لوازم محبة الله تعالى قال شارح الطحاوية: فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في اطه لا مع الله، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغض ويوالى من يواليه ويعادى من يعاديه ويرضي لرضاه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به وينهي عما ينهي عنه، فهو موافق لحبوبه في كل حال، والله يحب المحسنين ويحب المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ونحن نحب(25/222)
من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين ولا يحب المفسدين ولا يحب المستكبرين ونحن لا نحبهم أيضا ونبغضهم موافقة له سبحانه وتعالى، فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته انتهى.(25/223)
ص -179- ... 7- قوله: وأن يكره أن يعو في الكفر، قال الحافظ ابن حجر: فان قيل فلم عدى العود "بفي" ولم يعد "بالى"؟ فالجواب أنه ضمنه معنى الاستقرار، وكأنه قال: يستقر فيه، ومثله قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا}.
8- قوله: وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار، وفي رواية آدم عند البخاري في كتاب الأدب: وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، قال الحافظ ابن حجر: وهي أبلغ من لفظ حديث الباب لأنه سوى فيه بين الأمرين وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى.
9- قوله في رواية آدم في كتاب الأدب: (بعد إذ أنقذه الله منه) قال الحافظ في الفتح: والانقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله: يعود. على معنى الصيرورة بخلاف الثاني فان العود فيه على ظاهره.
10- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- وجوب تقديم محبة الله ورسوله على كل ما سواهما.
2- أن للإيمان حلاوة يجدها من وجدت فيه الخصال الثلاث المذكورة في الحديث.
3- أن من لوازم محبة الله الحب في الله والبغض في الله.
4- أن تمكن محبة الله في قلب المؤمن يقتضى كراهة الكفر بالله وأهله.
5- أن الوقوع في نار الدنيا أحب إلى العبد المؤمن حقا من العود في الكفر لأنه يؤدى إلى دخول نار الآخرة والخلود فيها.(25/224)
ص -180- ... 6- في الحديث إشارة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل فالخصلتان الأولى والثانية من الأول، والثالثة من الثاني.
7- في الحديث دليل على أنه لا بأس في الجمع بين الله ورسوله في ضمير تثنية.
8- التنفير من الكفر بالله والتحذير منه.
9- استعمال التشبيه وضرب الأمثلة.
10- في الحديث دليل على تفاضل الناس في الإيمان وانه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ذلك أن من وجدت فيه الخصال الثلاث وجد حلاوة الإيمان بخلاف غيره.(25/225)
ص -181- ... الحديث الخامس عشر:
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب أحاديث الأنبياء من صحيحه:
حدثنا الحميدي حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري يقول أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله".
المبحث الأول: التخريج:
هذا الحديث أورده البخاري في باب قول الله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} وأورده ضمن خطبة خطبها عمر رضي الله عنه وذلك في كتاب المحاربين في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، وسنده: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن. عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، وسياق محل الشاهد منه قول عمر رضي الله عنه: ألا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرى عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله". وهذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم،
وأخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان بهذا الإسناد ومتنه: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده ورسوله".
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن هشيم عن الزهري وعن عبد الرراق عن معمر عن الزهري وعن إسحاق بن عيسى الطباخ عن مالك بن أنس عن الزهري مطولا وعن سفيان بن عيينة عن الزهري كلها عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما وسياق رواية سفيان: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبده ورسوله".
وقد أشار الحافظ ابن كثير في تفسيره في آخر سورة النساء إلى أن على بن المديني(25/226)
ص -182- ... رواه عن سفيان بن عيينة عن الزهري بمثل رواية أحمد في مسنده وقال وقال على بن المديني: هذا حديث صحيح مسند انتهى.
ورواه الدارمي في سننه في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تطروني، فقال أخبرنا عثمان بن عمر حدثنا مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما تطرى النصارى عيسى بن مريم، ولكن قولوا عبد الله ورسوله".
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد
الأول: شيخ البخاري الحميدي، قال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: عبد الله. بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن الزبير بن عبد الله ابن حميد وإليه ينسب أبو بكر الحميدي القرشي المكي سمع سفيان بن عيينة وكان من أثبت الناس فيه وقال جالسته تسع عشرة سنة أو نحوها والوليد بن مسلم ووكيعا ومروان بن معاوية وبشر بن بكير روى عنه البخاري في أول كتابه حديث: الأعمال بالنيات وغير موضع، وقال فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: ثقة حافظ فقيه أجل أصحاب ابن عيينة من العاشرة مات سنة تسع عشرة أي بعد المائتين وقيل بعدها، قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غديره ورمز لكونه من رجال البخاري وأبى داود والنسائي والترمذي ومسلم في مقدمة صحيحه وابن ماجه في التفسير، وقال الحافظ في شرحه لأول حديث في صحيح البخاري: هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى منسوب إلى حميد بن أسامة بطن من بنى أسد ابن عبد العزى بن قصى رهط خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع معها في أسد يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم رو في قصى وهو إمام كبير مصنف رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر ورجع بحد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين، وفي تهذيب التهذيب لابن حجر قال أحمد: الحميدي عندنا. إمام، وقال أبو حاتم: هو أثبت الناس في ابن عيينة(25/227)
ص -183- ... وهو رئيس أصحابه وهو ثقة إمام، وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا الحميدي وما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه وفيه غير ذلك من ثناء الأئمة عليه رحمه الله.
الثاني: سفيان وهو ابن عيينة قال والحافظ في تقريب التهذيب: سفيان ابن عيينة بن أبى عمران ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره وكان ربما دلس لكن عن الثقات من رؤوس الطبقة الثامنة وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار مات في رجب سنة ثمان وتسعين أي بعد المائة وله إحدى وتسعون سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في شرحه لأول حديث في صحيح البخاري: هو سفيان بن عيينة بن أبى عمران الهلالي أبو محمد المكي أصله ومولده الكوفة، وقد شارك مالكاً في كثير من شيوخه وعاش بعده عشرين سنة، وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: يكنى أبا محمد الهلالي سكن مكة وقيل اسم جده أبى عمران ميمون مولى بنى عبد الله بن رويبة من بنى هلال بن عامر سمع الزهري وعمرو بن دينار وغير واحد من التابعين وغيرهم عند هما أي في الصحيحين، وروى عنه أبو نعيم الفضل وأبو الوليد الطيالسي وعبد الله بن موسى والحميدي وعلى بن المديني وغيرهم عند البخاري وسعيد بن منصور وقتيبة وبشر بن الحكم ويحي بن يحي وغير واحد عند مسلم، وقال الذهبي في الميزان: أحد الأثبات الأعلام أجمعت الأمة على الاحتجاج به وكان يدلس لكن المعهود منه أنه لا يدلس إلا عن ثقة وكان قوى الحفظ وما في أصحاب الزهري أصغر سنا منه ومع هذا فهو من أثبتهم ونقل عن ابن عمار عن يحي القطان أن ابن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة فمن سمع منه فيها فسماعه لا شيء ثم ذكر الذهبي أنه سمع منه فيها محمد بن عاصم صاحب الجزء العالي وقال: ويغلب على ظني أن سائر شيوخ الأئمة الستة سمعوا منه قبل سنة سبع، فأما سنة ثمان وتسعين ففيها مات ولم يلقه أحد فيها لأنه توفي قبل قدوم(25/228)
الحاج بأربعة أشهر. ونقل في(25/229)
ص -184- ... تهذيب التهذيب الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك قول ابن حبان في الثقات: كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع والدين، وقول اللالكائي: هو مستغن عن التزكية لتثبته وإتقانه وأجمع الحفاظ أنه أثبت الناس في عمرو بن دينار، وقول ابن مهدى: كان أعلم الناس بحديث أهل الحجاز، وقول ابن وهب: ما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله من ابن عيينة، وقال أبو مسلم المستملى: سمعت ابن عيينة يقول: سمعت من عمرو بن دينار ما لبث نوح في قومه.
وذكر ابن حبان في مقدمة صحيحه أنه لا يحتج بأخبار الثقات العدول من المدلسين إلا ما بينوا السماع فيما رووا ثم قال: اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنه ما دلس قط إلا عن ثقة فإذا كان كذلك قبلت روايته وإن لم يبين السماع وهذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده فانه كان يدلس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا وجد ذلك الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه انتهى..
الثالث: الزهري محمد بن مسلم بن شهاب تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
الرابع: عبيد الله بن عبد الله وهو ابن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة تقدم في رجال إسناد الحديث الثاني.
الخامس: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة من فقهاء الصحابة وتقدم في رجال إسناد الحديث الثاني ، وأضيف هنا أن العبادلة الأربعة نظمهم السيوطي في ألفيته فقال:
والبحر وابنا عمر وعمرو ... وابن الزبير في اشتهار يجرى
دون ابن مسعود لهم عبادلة ... وغلطوا من غير هذا مال له
السادس: عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الصحابي الجليل أحد العشرة المبشرين بالجنة وثاني الخلفاء الراشدين صاحب المناقب العظيمة(25/230)
ص -185- ... الذي لا يسلك فجا إلا وهرب الشيطان من ذلك الفج بشهادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تقدم في رجال الحديث الثامن.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الستة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ البخاري فان مسلما لم يخرج له في الصحيح وروى له في المقدمة وابن ماجه روى له في التفسير.
2- شيخ البخاري وشيخ شيخه مكيان وبقية رجال الإسناد مدنيون.
3- في الإسناد صحابيان وتابعيان فالحديث من رواية صحابي عن صحابي وهو أيضا من رواية تابعي عن تابعي.
4- اجتمع في الإسناد أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهو عبد الله ابن عباس وأحد الفقهاء السبعة من التابعين وهو عبيد الله بن عبد الله بن عتمة ابن مسعود.
5- اشتمل هذا الإسناد على أربع من صيغ الأداء وهي التحديث والسماع والإخبار والعنعنة.
6- هذا الإسناد مماثل في الجملة لإسناد أول حديث أخرجه البخاري في صحيحه وهو حديث إنما الأعمال بالنيات فالصحابي فيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشيخ البخاري وشيخ شيخه فيهما الحميدي وسفيان بن عيينة.
7- سفيان بن عيينة من المدلسين وهو معروف بالتدليس عن الثقات خاصة وقد تقدم قول ابن حبان فيه: وهذا يعنى التدليس عن الثقات خاصة، ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده فانه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا وجد ذلك الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه انتهى. وهذا الحديث(25/231)
ص -186- ... قد صرح في روايته له بالسماع من الزهري في هذا الإسناد.
8- ابن شهاب الزهري: وصفه الذهبي في الميزان بأنه يدلس نادرا، وقد صرح بالأخبار في رواية هذا الحديث عن عبيد الله فانتفي احتمال التدليس.
9- شيخ البخاري اشتهر بالنسبة إلى جده حميد ولهذا يذكره البخاري وغيره مقتصرين على النسبة، وقد اشتهر بهذه النسبة رجل آخر من رجال الحديث لكنه متأخر كثيرا عن هذا، وهو أبو عبد الله محمد بن فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الحميدي الأندلسي المتوفى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة مؤلف كتاب الجمع بين الصحيحين وكتاب جذوة المقتبس وغير هما.
10- سفيان بن عيينة: هو أحد السفيانين فيما إذا قيل في ترجمة رجل دونهما روى عن السفيانين أو رجل فوقهما روى عنه السفيانان، والثاني منهما سفيان الثوري وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الثامن.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم"، الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. والمعنى لا تمدحوني بالباطل أو لا تجاوزوا الحد في مدحي فتغلوا كما غلت النصارى في عيسى فادعوا ألوهيته.
2- قوله: "فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله"، أي صفوني بذلك كما وصفني به ربى وقولوا عبد الله ورسوله، وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في أشرف المقامات فقال في ذكر الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة ولذلك يقول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يوم القيامة إذا طلبوا منه الشفاعة بعد غيره من الأنبياء: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته(25/232)
ص -187- ... لله تعالى، فاله شارح الحاوية.
3- قوله: "كما أطرت النصارى ابن مريم"، قد بين الله تعالى في كتابه العزيز ما كان عليه النصارى من الغلو وحذرهم من ذلك ومن ذلك قوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}.
4- قوله: فقولوا عبد الله ورسوله، جمع صلى الله عليه وسلم بين وصفه بكونه عبد الله ووصفه بكونه رسوله دفعا للإفراط والتفريط، دفعا للإفراط والإطراء والغلو لأنه عبد الله تعالى، ودفعا للتقصير والتفريط بترك متابعته وعدم الأخذ بسنته والسير على نهجه الذي أرسله الله به، ورحم الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إذ يقول: عبد لا يُعبد ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع، وهذا هو مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، فان معناها كما قال رحمه الله: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهي وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شارع.
5- لما كان أهل الكتاب بالنسبة لعيسى عليه الصلاة والسلام طرفي نقيض النصارى في جانب الإفراط حيث غلوا فيه ورفعوه إلى المنزلة التي لا يستحقها والتي لا تليق إلا بالله وحده لا شريك له، وفي جانب التفريط أيضا حيث حرفوا وبدلوا وخالفوا الشريعة التي جاء بها عيسى صلى الله عليه وسلم ، وفي جانب التفريط أيضا اليهود الذين يقتلون الأنبياء ويتنقصون عيسى صلى الله عليه وسلم ويصفونه وأمه بما هم برءاء منه لما كان أهل الكتاب في الطرفين المتناقضين، حذرنا الله من سلوك سبيلهم وأمرنا في كل(25/233)
ركعة من ركعات الصلاة أن نسأله الهداية للصراط المستقيم صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير الطريق التي سلكها أعداؤه من المغضوب عليهم والضالين. وقد جمع صلى الله عليه وسلم بينه وبين عيسى صلى الله عليه وسلم في وصف كل منهما بأنه عبد الله(25/234)
ص -188- ... ورسوله حيث قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" وسر الجمع بينهما عليهما الصلاة والسلام ووصفهما بكونهما عبدي الله ورسوليه بيان أن عقيدة الإسلام في حق عيسى عليه الصلاة والسلام أنه عبد الله ورسوله فلا يغلى فيه غلو النصارى من جانب ولا يقصر في حقه كما قصرت النصارى من جانب آخر وكما جفت اليهود لعنة الله عليهم، وبيان أن الواجب في حق محمد صلى الله عليه وسلم وصفه بذلك وعدم الإفراط والتفريط، وان وصفه بأنه عبد الله يقتضى اعتقاد أنه لا يستحق أن يصرف له شيء مما لا يستحقه إلا الله تعالى، ووصفه بأنه رسول الله يقتضى تصديقه في جميع ما يخبربه من أخبار في الماضي وفي المستقبل وفي ما هو موجود غير مشاهد لنا، ويقتضى طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، وتقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والوالد والولد والناس أجمعين، وأن لا يعبد الله إلا على وفق ما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه، هذه عقيدة المسلمين في عيسى عليه الصلاة والسلام وفي محمد صلى الله عليه وسلم وسط بين طرفي الإفراط والتفريط. ولقد أحسن الشاعر إذ يقول:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم(25/235)
6- قوله: "لا تطروني" الخ، هذا منه صلى الله عليه وسلم سد للذرائع التي تؤدى إلى الشرك بالله فالرسول صلى الله عليه وسلم ما من خير إلا دل الأمة عليه وما من شر إلا حذرها منه، وكل ما كان الشيء أخطر كانت العناية به أعظم، فالشرك لما كان أعظم الذنوب وأظلم الظلم على الإطلاق، وهو الذنب الذي لا يغفره الله والذي حرم الله على صاحبه الجنة ومأواه النار، لما كان بهذه الخطورة حذر منه صلى الله عليه وسلم غاية التحذير ومنع من أي وسيلة تؤدى إليه كما منع من إطرائه في هذا الحديث لئلا يفضى ذلك إلى أعظم محذور، وكما لعن صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى في اتخاذهم قبور(25/236)
ص -189- ... أنبيائهم مساجد وهو في شدة المرض الذي مات فيه، كل ذلك حماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد وسد للطرق التي تنتهي إلى الشرك، فصلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان على البشير النذير والسراج المنير الذي أرشد الناس إلى كل خير وحذرهم من كل شر.
7- مدح الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم. فالمحمود هو أن يوصف بكل كمال يليق بالإنسان، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأنصحهم وأخشاهم لله وأتقاهم وأفصحهم لسانا وأقواهم بيانا وأرجحهم عقلا وأكثرهم أدبا وأوفرهم حلما وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة وأكرمهم نفسا وأعلاهم منزلة، وكل وصف هو كمال في حق الإنسان فلسيد ولد ادم صلوات الله وسلامه عليه منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف يعتبر نقصا في الإنسان فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه، فلقد اتصف بكل خلق كريم، وسلم من أدنى أي وصف ذميم، وحسبه شرفا قول الله تعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، قد والله بلغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة على أكمل وجه، ونصح للأمة غاية النصح، ببيان ليس وراءه بيان، ونصح يفوق نصح أي إنسان، فكل ثناء على سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل فهو حق مع الحذر من تجاوز الحد والخروج عن الحق، وما أحلى وأجمل وصفه صلى الله عليه وسلم بكونه عبد الله ورسوله تحقيقا لرغبته عليه الصلاة والسلام وامتثالا لأمره في قوله في هذا الحديث (وقولوا عبد الله ورسوله).
والمدح المذموم هو الذي يتجاوز فيه الحد ويقع به المادح في المحذور الذي لا يرضاه الله ولا رسوله يكن وذلك أن يوصف صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز أن يوصف به إلا الله تبارك وتعالى أو أن يصرف له صلى الله عليه وسلم ما لا يستحقه إلا الباري جل وعلا. ومن ذلك بعض الأبيات التي قالها البوصيري في البردة مثل قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم(25/237)
فهذا المعنى الذي اشتمل عليه هذا البيت لا يجوز أن يصرف لغير الله عز وجل، ولا يستحقه إلا هو وحده لا شريك له، فهو الذي يعاذ به ويلاذ به(25/238)
ص -190- ... ويلتجأ إليه ويعتصم بحبله ويعول عليه وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم مبينا تفضله وامتنانه على عباده وانه ما بهم من نعمة فمنه تفضلا وامتنانا "لن يدخل أحدكم بعمله الجنة، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي لا أحد سواه يكون كذلك لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا فضلا عمن سواهما. وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيَّاهُ} وقال: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} والحاصل أن المدح الذي اشتمل عليه هذا البيت مدح بالباطل الذي حذر منه الرسول كل، ويكون حقا لو قال مناديا ربه:
يا خالق الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
ومثل قوله أيضا يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
فان من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم(25/239)
وهذا لا يليق إلا بمن بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى فهو القائل عن نفسه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، والقائل عنه نبيه صلى الله عليه وسلم "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك" الحديث، فهو وحده الذي من جوده الدنيا والآخرة، وهو وحده الذي من علمه علم اللوح والقلم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهولا يملك إلا ما أعطاه الله ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه عليه، وقد أمره الله أن يقول {لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}، الآية.
وقال له {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً}، وثبت في الصحيحين أنه عن لما نزل عليه قوله تعالى{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، قال: "يا معشر(25/240)
ص -191- ... قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا بنى عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي لا أغنى عنك من الله شيئا". وروى البخاري في صحيحه عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك"، الحديث.
8- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- نشر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلانها على المنابر.
2- كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته وبلاغه البلاغ المبين.
3- سد الذرائع التي تؤدى إلى الشرك.
4- بيان ما وقع فيه النصارى من الغلو في عيسى عليه الصلاة والسلام.
5- تحذير هذه الأمة أن تقع فيما وقعت فيه النصارى.
6- الجمع بين الأمر والنهى، وأن على المفتى إذا أرشد إلى المنع من محذور أن يدل على مأمور به هو خير.
7- وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله ورسوله امتثالا لأمره.
8- الإشارة في الجمع بين وصفه بكونه عبد الله ووصفه بكونه رسوله إلى دفع الإفراط والتفريط.
9- بيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن أن يكون عبداً لله تعالى حيث قال: إنما أنا عبده.(25/241)
ص -192- ... الحديث السادس عشر:
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الرقاق من صحيحه:
حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال: يا معاذ قلت لبيك يا رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل قلت لبيك رسول الله وسعديك قال: "هل تدرى ما حق الله على عباده"؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"، ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ بن جبل قلت لبيك رسول الله وسعديك قال: "هل تدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوه"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق العباد على الله أن لا يعذبهم"..
المبحث الأول: التخريج:
أورد البخاري في صحيحه هذا الحديث في خمسة مواضع هذا أحدها في باب من جاهد نفسه في طاعة الله،
والثاني في كتاب الجهاد باب اسم الفرس والحمار ولفظه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم سمع يحي بن آدم حدثنا أبو الأحوص عن أبى إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي عن على حمار يقال له عفير فقال: "يا معاذ هل تدرى ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فان حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" فقلت يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال لا(25/242)
ص -193- ... تبشرهم فيتكلوا".
والثالث في كتاب اللباس باب إرداف الرجل خلف الرجل وسياق سنده ومتنه مماثل تماما لما في باب من جاهد نفسه في طاعة الله إلا أنه بدون حرف النداء في الجملة الأولى أي قال معاذ مجيبا النبي صلى الله عليه وسلم لبيك رسول الله وسعديك.
والرابع في كتاب الاستئذان باب من أجاب بلبيك وسعديك ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن قتادة عن أنس عن معاذ قال: أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معاذ" قلت لبيك وسعديك ثم قال مثله ثلاثا "هل تدرى ما حق الله على العباد"؟ قلت: لا، قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"، ثم سار ساعة فقال: "يا معاذ": قلت لبيك وسعديك، قال "هل تدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم". حدثنا هدبة حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس عن معاذ بهذا.
والخامس في كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى ولفظه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبى حصين والأشعث بن سليم سمعا الأسود بن هلال عن معاذ بن جبل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد"؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدرى ما حقهم عليه"؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: "أن لا يعذبهم".
وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن شيخه هداب بن خالد الأزدي بمثل إسناده ومتنه عند البخاري في كتاب اللباس، ورواه عن أبى بكر بن أبى شيبة عن أبى الأحوص بمثل إسناده ومتنه عند البخاري في كتاب الجهاد، ورواه عن محمد بن المثنى وابن بشار عن محمد بن جعفر بمثل إسناده ونحو متنه عند البخاري في كتاب التوحيد، ورواه عن شيخه القاسم ابن زكريا عن حسين عن زائدة عن أبى حصين بنحو حديث شيوخه المذكورين.
وروى أبو داود في سننه في كتاب الجهاد باب في الرجل يسمى دابته عن شيخه هناد بن(25/243)
السري بإسناده إلى معاذ قوله: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير،
وأخرجه الترمذي في آخر كتاب الإيمان من جامعه(25/244)
ص -194- ... فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود حدثنا سفيان عن أبى إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرى ما حق الله على العباد"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فان حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، قال: أتدرى ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك": قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن لا يعذبهم"، هذا حديث حسن صحيح وقد روى من غير وجه عن معاذ بن جبل.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد.
الأول: شيخ البخاري هدبة بن خالد قال الحافظ ابن حجر في التقريب: هدبة بضم أوله وسكون الدال بعدها موحدة بن خالد بن الأسود القيسي أبو خالد البصري ويقال له هداب بالتثقيل وفتح أوله ثقة عابد تفرد النسائي بتليينه من صغار التاسعة، مات سنة بضع وثلاثين أي بعد المائتين ورمز لكونه من رجال الشيخين وأبى داود، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: هدبة بن خالد بن الأسود بن هدبة أبو خالد القيسي البصري أخو أمية ويقال هداب سمع هماما عند هما أي في الصحيحين- وحماد بن سلمة وسليمان بن المغيرة عند مسلم روى عنه البخاري ومسلم مات سنة ست أو سبع أو ثمان وقيل خمس وثلاثين ومائتين انتهى، ونقل في تهذيب التهذيب توثيقه عن ابن معين ومسلمة بن القاسم، وقال الذهبي في الميزان: هدبة بن خالد القيسي البصري ولقبه هداب ثقة عالم صاحب حديث ومعرفة وعلو إسناد شهد جنازة شعبة وروى عن جرير بن حازم وحماد بن سلمة وأبان بن يزيد، وعنه البخاري ومسلم وأبو داود والفريابي وأبو يعلى والبغوي والناس، وثقه ابن معين وكيره وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن عدى بعد أن ذكره في الكامل: لا أعرف له حديثا منكرا، وأما النسائي فقال. ضعيف وقواه مرة أخرى، وقال عبدان الأهوازي: كنا لا نصلى خلف هدبة من طول صلاته يسبح في السجود نيفا وثلاثين تسبيحه، وكان أشبه خلق الله بهشام بن عمار(25/245)
ص -195- ... لحيته ووجهه وكل شيء منه حتى صلاته، توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين. وقال الحافظ في مقدمة الفتح بعد ذكر تضعيف النسائي له: قلت لعله ضعفه في شيء خاص وقد أكثر عنه مسلم ولم يخرج عنه البخاري سوى أحاديث يسيرة من روايته عن همام انتهى. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وقد ذكره مسلم في مواضع من الكتاب يقول في بعضها هدبة وفي بعضها هداب، واتفقوا على أن أحدهما اسم والآخر لقب، ثم اختلفوا في الاسم منهما فذكر الخلاف، وقال: وذكره البخاري في تاريخه فقال هدبة بن خالد، ولم يذكره هدابا، فظاهره أنه اختار أن هدبة هو الإسم، والبخاري أعرف من غيره، فانه شيخ البخاري ومسلم رحمهم الله أجمعين والله أعلم انتهى.
الثاني: همام وهو ابن يحي الأزدي البصري تقدم في رجال إسناد الحديث السابع.
الثالث: قتادة وهو ابن دعامة بن قتادة السدوسي البصري تقدم في رجال إسناد الحديث الثالث عشر.
الرابع: أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه تقدم في
رجال إسناد الحديث السادس.
الخامس: صحابي الحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجى أبو عبد الرحمن من أعيان الصحابة شهد بدرا وما بعدها وكان إليه المنتهي في العلم بالأحكام والقرآن، مات بالشام سنة ثمان عشرة مشهور ورمز لكون حديثه في الكتب الستة، وقال الخزرجى في الخلاصة: أبو عبد الرحمن المدني أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة وشهد بدرا والمشاهد، له مائة وسبعة وخمسون حديثا اتفقا أي البخاري ومسلم على حديث وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بحديث وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أنه له عند البخاري ستة أحاديث، وقال الحافظ في ترجمته في الإصابة: الإمام المقدم في علم الحلال(25/246)
ص -196- ... والحرام، وقال: شهد بدرا وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، والحديث بذلك في الصحيح من رواية ابن عباس عنه، وقال: وفي سنن أبى داود عن معاذ بن جبل قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأحبك"، الحديث في القول بعد كل صلاة، وعده أنس بن مالك فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصحيح. وفيه عن عبد الله بن عمر ورفعه اقرأوا القرآن من أربعة فذكره فيهم، وقال: وقال أبو نعيم في الحلية: إمام الفقهاء وكنز العلماء شهد العقبة وبدرا والمشاهد، كان من أفضل شباب الأنصار حلما وحياء وسخاء، وكان جميلا وسيما، وقال الحافظ ابن حجر أيضا: وفي حديث أبى قلابة عن أنس عند الترمذي وغيره في ذكر بعض الصحابة مرفوعا: وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وفي مرسل أبى عون الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي معاذ يوم القيامة أمام الناس برتوة"، أخرجه محمد بن عثمان بن أبى شيبة في تاريخه، وأورده ابن عساكر من طريق عن محمد بن الخطاب، وقال: ومناقبه كثيرة جدا وقدم من اليمن في خلافة أبى بكر، وكان وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها وهو قول الأكثر، وعاش أربعا وثلاثين سنة وقيل غير ذلك انتهى.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
1- رجال الإسناد الستة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ البخاري فلم يرو له مع البخاري سوى مسلم وأبى داود.
2- رجال الإسناد كلهم بصريون إلا معاذ بن جبل رضي الله عنه فانه مدني.
3- في الإسناد صحابيان معاذ بن جبل وأنس بن مالك رضي الله عنهما فالحديث من رواية صحابي عن صحابي.(25/247)
ص -197- ... 4- صيغة الأداء في الإسناد التحديث إلا في رواية أنس عن معاذ رضي الله عنهما فهي العنعنة.
5- قتادة من المعروفين بالتدليس وقد صرح في هذا الإسناد بالتحديث فأمن بذلك احتمال تدليسه.
6- قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر: ومن المهم معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، وفي هذا الإسناد شاهد لذلك فهدبة شيخ البخاري كنيته أبو خالد واسم أبيه خالد.
7- معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل. ومثل هذا من الصيغ التي يستدل بها على أن الراوي قد ضبط ما رواه، قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح قوله (ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل). وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه ليكون أوقع في نفس سامعة أنه ضبط ما رواه.
8- معاذ بن جبل رضي الله عنه رديف النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث، ومن الأمور اللطيفة التي تدل على عناية سلف هذه الأمة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وتقريرا ما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح عن ابن منده حيث قال في شرحه لهذا الحديث في كتاب اللباس: وقد أفرد ابن منده أسماء من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فبلغوا ثلاثين نفسا.
9- قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: تنبيه. هذا من الأحاديث التي أخرجها البخاري في ثلاثة مواضع عن شيخ واحد بسند واحد، وهي قليلة في كتابه جدا ولكنه أضاف إليه في الإستئذان موسى بن إسماعيل، وقد تتبع بعض من لقيناه ما أخرجه في موضعين بسند فبلغ عدتها زيادة على العشرين وفي بعضها يتصرف في المتن بالاختصار منه انتهى. وقد مر في لطائف إسناد الحديث التاسع وهو قول جرير رضي الله عنه: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"، أنه منها.(25/248)
ص -198- ... ومنها أيضا حديث حذيفة رضي الله عنه نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال، الحديث. أورده البخاري في كتاب الرقاق وفي كتاب الفتن بإسناد واحد مع الاتفاق في المتن أيضا، وتقدم في المقدمة ما ذكره صاحب كشف الظنون أن التي ذكرها البخاري سندا ومتنا معادا ثلاثة وعشرون حديثا.
المبحث الرابع: شرح الحديث.
1- هذا الحديث أول حديث أورده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه: كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وذلك لاشتمال هذا الحديث بوضوح على بيان حق الله على عباده، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"، وهذا الحق الذي بينه الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث مشتمل على النفي والإثبات الذي اشتملت عليه (لا إله إلا الله)، فان قوله: أن يعبدوه إثبات، وقوله: ولا يشركوا به شيئا نفي ، والمراد بذلك نفي جميع أنواع العبادة عن كل ما سواه وإثباتها لته وحده لا شريك له، فكما أنه سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق والإيجاد والإحياء والإماتة فيجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا النفي والإثبات الذي اشتملت عليه هذه الجملة التي بين بها الرسول الكريم عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم حق الله على عباده جاء في آيات كثيرة أورد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه المذكور كثيرا منها قبيل إيراد هذا الحديث ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فقوله (أن اعبدوا الله) إثبات وهو بمعنى: إلا الله، وقوله (واجتنبوا الطاغوت) نفي وهو بمعنى: لا إله، فتحصل من النفي والإثبات معنى (لا إله إلا الله) التي هي كلمة الإخلاص، ومنها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ} الآية فهي بمعنى (لا إله إلا الله)، ومنها قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا(25/249)
بِهِ شَيْئاً} فجملة الأمر(25/250)
ص -199- ... إثبات وجملة النهي نفي فهي بمعنى لا إله إلا الله، وتنكير (شيئا) لإفادة عدم الإشراك به أي شيء كان، وأن يخص بالعبادة وحده لا شريك له. ومنها قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} هو الآية أقن أن تخصوه بالعبادة وحده دون أن تجعلوا له شريكا في شيء منها، وختمت هذه الآيات بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فقوله (فاتبعوه) إثبات (ولا تتبعوا السبل) نهي مؤداه النفي فهي بمعنى: لا إله إلا الله، أما الآية التي افتتح بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذلك المؤلف العظيم في توحيد الله تعالى فهي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أو وقد اشتملت على بيان الحكمة في خلق الثقلين الجن والإنس وهي أن يعبدوا الله وحده ويخصوه بجميع أنواع العبادة ولا يصرفوا لغيره شيئا منها.
2- قوله: "بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ في الفتح: الردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء مؤخره، وأصله الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي ركب صدر الدابة، وردفت الرجل إذا ركبت وراءه، وأردفته إذا أركبته وراءك.
3- قوله: "ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل" قال الحافظ في الفتح: الرحل للبعير كالسرج للفرس، وآخرة بالمد وكسر المعجمة بعدها راء هي العود الذي يجعل خلف الراكب يستند إليه، وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه ليكون أوقع في نفس سامعه أنه ضبط ما رواه، وقال الحافظ: ووقع في رواية عمرو ابن ميمون عن معاذ: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، ووقع عند أحمد من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار يقال له يعفور رسنه من ليف، قال: ويمكن(25/251)
الجمع بأن المراد بآخرة الرحل موضع آخرة الرحل للتصريح هنا بكونه كان على حمار، وإلى ذلك أشار النووي، ومشى ابن الصلاح على أنهما قضيتان انتهى.
4- قوله: "لبيك"، المراد به: إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة قاله(25/252)
ص -200- ... الحافظ ابن حجر في الفتح. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: والأظهر أن معناها إجابة لك بعد إجابة للتأكيد.
5- قوله: "وسعديك"، قال النووي: ومعنى سعديك. أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة، وقال ابن هشام في أوضح المسالك (وسعديك) بمعنى إسعادا لك بعد إسعاد. وقال في باب الإضافة بعد أن قسم المضاف إلى المضمر إلى قسمين وذكر ما يضاف إلى كل مضمر وهو (وحد) قال: وما يختص بضمير المخاطب وهو مصادر مثناة لفظا ومعناها التكرار وهي لبيك بمعنى إقامة على إجابتك بعد إقامة وسعديك بمعنى إسعادا لك بعد إسعاد ولا تستعمل إلا بعد لبيك انتهى. ثم ذكر ألفاظا أخرى تختص بالإضافة إلى ضمير المخاطب أيضا. وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في كتاب العلم من صحيح البخاري قوله: قال لبيك يا رسول الله وسعديك، اللب بفتح اللام معناه هنا الإجابة والسعد المساعدة كأنه قال: لباً لك وإسعادا لك ولكنهما ثنيا على معنى التأكيد والتكثير أي إجابة بعد إجابة وإسعادا بعد إسعاد انتهى.
6- قوله: "هل تدري ما حق الله على العباد؟" قال الحافظ في الفتح: الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة، ويقال للكلام الصدق حق لأن وقوعه متحقق لا تردد فيه، وكذا الحق المستحق على الغير إذا كان لا تردد فيه، والمراد هنا ما يستحقه الله على عباده مما جعله محتما عليهم قاله ابن التيمي في التحرير، وقال القرطبي: حق الله على عباده هو ما وعدهم به من الثواب وألزمهم إياه بخطابه.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه تيسير العزيز الحميد. قوله: "أتدرى ما حق الله على العباد"، الدراية هي المعرفة، وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فنهم المتعلم، فان الإنسان إذا سئل عن مسألة لا يعلمها ثم أخبر بها بعد الامتحان(25/253)
ص -201- ... بالسؤال عنها فان ذلك أدعى لفهمها وحفظها، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم.
7- قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"، قال الحافظ في الفتح: المراد بالعبادة عمل الطاعة واجتناب المعاصي وعطف عليها عدم الشرك لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى فاشترط نفي ذلك، والجملة حالية والتقدير يعبدونه في حال عدم الإشراك به. قال ابن حبان: عبادة الله إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح ولهذا قال في الجواب: فما حق العباد إذا فعلوا ذلك فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول.
8- قوله: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟" أي إذا فعلوا حقه تعالى فالضمير يرجع إلى قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا".
9- قوله: "حق العباد على الله أن لا يعذبهم" قال الحافظ في الفتح: قال القرطبي: حق العباد على الله ما وعدهم به من الثواب والجزاء فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد: وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة لأنه قد وعدهم ذلك جزاء على توحيده، ووعده حق إن الله ل! يخلف الميعاد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في تيسير العزيز الحميد: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائداً على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب(25/254)
ص -202- ... هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه أوجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه دون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك انتهى.
10- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- بيان حق الله على عباده.
2- بيان حق العباد على الله إذا أدوا حقه.
3- جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة.
4- فضل معاذ بن جبل رضي الله عنه.
5- تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الدواب مع الإرداف عليها.
6- الإرشاد إلى الطريقة المفيدة في التعليم وهي إخراج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أبلغ في النفس وأوقع في فهم المتعلم.
7- تكرار السؤال لتأكيد الاهتمام بما يخبر به المعلم.
8- حسن أدب معاذ بن جبل رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9- أن على المسئول إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يكل العلم إلى عالمه وهو أولى من قوله: لا أدرى، لأن قوله: الله أعلم يفيد ما يفيده لا أدرى مع اشتماله على الثناء على الله سبحانه.(25/255)
ص -203- ... الحديث السابع عشر:
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الأيمان والنذور من صحيحه:
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب- وهو يسير في ركب يحلف بأبيه- فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت".
المبحث الأول: التخريج.
أورد البخاري هذا الحديث في خمسة مواضع من صحيحه هذا أحدها في باب لا تحلفوا بآبائكم،
والثاني في كتاب الشهادات باب كيف يستحلف؟ ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية قال ذكر نافع عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان حالفا فليحلف بالته أو ليصمت"،
والثالث في كتاب مناقب الأنصار باب أيام الجاهلية ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله"، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: "لا تحلفوا بآبائكم".
والرابع في كتاب الأدب في باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلا ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله وإلاّ فليصمت".
والخامس في كتاب التوحيد باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، ولفظه: حدثنا أبو نعيم حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفا فليحلف بالله".(25/256)
ص -204- ... ورواه مسلم عن تسعة من مشايخه بأسانيده إلى نافع بمثل رواية البخاري في كتاب الأدب، ورواه عن أربعة من مشايخه عن إسماعيل عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بمثل رواية البخاري في أيام الجاهلية،
ورواه الترمذي في جامعه في كتاب النذور والإيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر وهو يقول وأبي وأبي فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، فقال عمر: فو الله ما حلفت به بعد ذلك ذاكرا ولا آثرا قال وفي الباب عن ثابت بن الضحاك وابن عباس وأبى هريرة وقتيلة وعبد الرحمن بن سمرة قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح قال أبو عيسى قال أبو عبيد: معنى قوله ولا آثرا أي لم آثره عن غيري يقول لم أذكره عن غيري، حدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله مج صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ليحلف حالف بالله أو ليسكت"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي في باب التشديد في الحلف بغير الله تعالى فقال: أخبرنا على بن حجر عن إسماعيل وهو ابن جعفر قال حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله"، وكانت قريش تحلف بآبائها فقال لا تحلفوا بآبائكم، أخبرني زياد بن أيوب قال حدثنا ابن علية قال حدثنا يحي بن أبى إسحاق قال حدثني رجل من بنى غفار في مجلس سالم بن عبد الله قال سالم بن عبد الله سمعت عبد الله- يعنى ابن عمر- وهو يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، ورواه في باب الحلف بالآباء عن شيخيه عبيد الله بن سعيد وقتيبة بن سعيد بمثل رواية قتيبة بن سعيد عند الترمذي،
ورواه ابن ماجه في(25/257)
كتاب الكفارات باب من حلف له بالله فليرض، ولفظه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بأبيه فقال: "لا تحلفوا بآبائكم،(25/258)
ص -205- ... من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله".
ورواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر ومتنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت".
ورواه البخاري في صحيحه عن سعيد بن عفير بسنده إلى سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر عن عمر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكرا ولا آثرا". وروى نحوه النسائي وابن ماجه.
وللحديث شواهد كثيرة منها: ما رواه النسائي وأبو داود بإسناده إلى أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون". وقال الحافظ في الفتح: ووقع في مصنف ابن أبى شيبة من طريق عكرمة قال قال عمر: حدثت قوما. فقلت: لا وأبى، فقال رجل من خلفي: "لا تحلفوا بآبائكم، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم". قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهده.
ومنها ما رواه الترمذي في جامعه حيث قال: حدثنا قتيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وفسر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: فقد كفر أو أشرك على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يقول: وأبى وأبي فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"،(25/259)
وحديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال في حلفه: واللات والعزى فليقل:(25/260)
ص -206- ... لا إله إلا الله". قال أبو عيسى: هذا مثل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الرياء شرك"، وقد. فسر بعض أهل العلم هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} الآية. قال لا يُرائِي. ورواه أبو داود في سننه فقال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس قال سمعت الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة قال سمع ابن عمر رجلا يحلف والكعبة فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد أشرك".(25/261)
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد.
الأول: شيخ البخاري عبد الله بن مسلمة وهو القعنبي قال الحافظ ابن حجر في التقريب: عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي أبو عبد الرحمن البصري أصله من المدينة وسكنها مدة ثقة عابد كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحداً من صغار التاسعة مات في أول سنة إحدى وعشرين أي بعد المائتين ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي التيمي المدني سكن البصرة يكنى أبا عبد الرحمن سمع مالك بن أنس وإبراهيم بن سيد وغير واحد روى عنه البخاري ومسلم وأكثرا انتهى، ونقل في تهذيب التهذيب توثيقه والثناء عليه ومن ذلك قول عبد الله بن داود الخريبي: حدثنا القعنبي عن مالك وهو والله عندي خير من مالك. وقول ابن سعد: كان عابدا فاضلا قرأ عن مالك كتبه، وقول العجلي. بصري ثقة رجل صالح قرأ مالك عليه نصف الموطأ وقرأ هو على مالك النصف. الباقي، وقول أبى زرعة: مما كتبت عن أحد أجل في عيني منه. وقول الحنيني: كنا عند مالك فقيل قدم القعنبي، فقال مالك: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض انتهى. وقال الذهبي في العبر: وهو أوثق من روى الموطأ.
الثاني: مالك وهو ابن أنس قال الحافظ في التقريب: مالك بن أنس ابن مالك بن أبى عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه إمام دار(25/262)
ص -207- ... الهجرة رأس المتقين وكبير المثبتين حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. من السابعة مات سنة تسع وسبعين أي بعد المائة وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وقال الواقدي بلغ تسعين سنة ورمز لكونه من رجال الجماعة، ونقل في تهذيب التهذيب الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول ابن عيينة: ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم، وقول الشافعي: مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين. وقول النسائي: ما عندي بعد التابعين أنبل من مالك ولا أجل منه ولا أوثق ولا آمن على الحديث منه ولا أقل رواية عن الضعفاء، ما علمناه حدث عن متروك إلا عبد الكريم وقول ابن حبان في الثقات: كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يكن يروى إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة مع الفقه والدين والفضل والنسك وبه تخرج الشافعي. وقول ابن مهدى: ما رأيت رجلا أعقل من مالك، ثم قال في ختام ترجمته: ومناقبه كثيرة جداً لا يحتمل هذا المختصر استيعابها وقد أفردت بالتصنيف. وقال الذهبي في العبر: قال معن القزاز وجماعة: حملت بمالك أمه ثلاث سنين، وقال: قال ابن عيينة وبلغه موت مالك: ما ترك على ظهر الأرض مثله، وترجم له في تذكرة الحفاظ وقال: قد كنت أفردت ترجمة مالك في جزء وطولتها في تاريخي الكبير،اهـ.
الثالث: نافع مولى عبد الله بن عمر قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة مات سنة سبع عشر ومائة أو بعد ذلك ورمز لكونه من رجال الجماعة، وقال في تهذيب التهذيب: نافع الفقيه مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني أصابه ابن عمر في بعض مغازيه، ونقل توثيق الأئمة له وثناءهم عليه، ومن ذلك قول البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. وقول مالك: كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالى أن لا أسمعه من غديره. وقول الخليلي:(25/263)
نافع من أئمة التابعين بالمدينة إمام في العلم متفق عليه صحيح(25/264)
ص -208- ... الرواية، منهم من يقدمه على سالم ومنهم من يقارنه به ولا يعرف له خطأ في جميع ما رواه.
الرابع: صحابي الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوى أبو عبد الرحمن ولد بعد المبعث بيسير واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة وكان من أشد الناس إتباعا للأثر مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي بعدها ورمز لكون حديثه في الكتب الستة. وقال الخزرجى في الخلاصة: له ألف 1 وستمائة حديث وثلاثون حديثا اتفقا- أي البخاري ومسلم- على مائة وسبعين وانفرد البخاري بأحد وثمانين ومسلم بأحد وثلاثين. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح: أن له عند البخاري مائتين وسبعين حديثا وقال ابن كثير في ترجمته في البداية والنهاية: أبو عبد الرحمن المكي ثم المدني أسلم قديما مع أبيه ولم يبلغ الحلم وهاجرا وعمره عشر سنين وقد استصغر يوم أحد فلما كان يوم الخندق أجازه وهو ابن خمس عشرة سنة فشهدها وما بعدها وهو شقيق حفصة بنت عمر أم المؤمنين أمهما زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون وذكر كثيراً من أخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة رضي الله عنه وعن أبيه وأخته وسائر الصحابة أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا ولعله ألفا حديث، كما سيأتي في لطائف إسناد الحديث العشرين.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.
1- رجال الإسناد الأربعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم ماعدا شيخ البخاري عبد الله بن مسلمة القعنبي فلم يرو له ابن ماجه.
2- رجال الإسناد الأربعة مدنيون، وابن عمر رضي الله عنه مكي ثم مدني وشيخ البخاري مدني ثم بصري.(25/265)
ص -209- ... 3- رجال الإسناد الأربعة: كنية اثنين منهم أبو عبد الله وهما: مالك ابن أنس وشيخه نافع مولى ابن عمر، وكنية اثنين منهم أبو عبد الرحمن وهما ابن عمر رضي الله عنه وعبد الله بن مسلمة القعنبي.
4- نافع هو مولى عبد الله بن عمر من أسفل وعبد الله مولى نافع من أعلى، فالحديث من رواية مولى من أسفل عن مولى من أعلى.
5- هذا الإسناد مشتمل على السلسلة التي وصفها البخاري بأنها أصح الأسانيد على الإطلاق وهي رواية مالك عن نافع عن ابن عمر. ويقال لها السلسلة الذهبية. وفي تهذيب التهذيب: قال محمد بن إسحاق الثقفي: سئل محمد بن إسماعيل عن أصح الأسانيد فقال: مالك عن نافع عن ابن عمر.
6- صيغ الأداء في جميع الإسناد (عن) إلا في رواية البخاري عن شيخه فهي التحديث. وش!مى مثل ذلك الإسناد المعنعن. والحكم في الإسناد المعنعن حمله على السماع متى كان الذي روى بالعنعنة سالما من التدليس، أما إذا كان مدلسا فالحكم فيه التوقف لأنه يحتمل السماع ويحتمل أن هناك واسطة بينه وبين من روى عنه بالعنعنة، فان صرح بالسماع قبل وزال احتمال التدليس.
7- عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة في الصحابة وسبقت الإشارة إليهم في إسناد الحديث الثاني ، وهو أحد المكثرين فيهم من الرواية عن رسول الله عظيم ويأتي في الدرجة التالية بعد أبى هريرة رضي الله عنه.
8- شيخ البخاري مشتهر باسمه ونسبته فيقال له عبد الله بن مسلمة ويقال له القعنبي وليس في رجال الكتب الستة من اسم أبيه مسلمة كلن يسمى عبد الله سواه.(25/266)
ص -210- ... المبحث الرابع: شرح الحديث.
1- قوله: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" ورد النهي عن الحلف بغير الله على صيغ مختلفة هذا أحدها.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم".
ومنها قوله: "ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله".
ومنها قوله: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون".
ومنها قول ابن عمر رضي الله عنه: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك".
2- قوله: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" قال في الفتح: قال العلماء السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضى تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصة لكن قد اتفق الفقهاء أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية وقال: وكأن المراد بقوله (بالله) الذات لا خصوص لفظ الله.
3- السر في التنصيص على الآباء و منع الحلف بهم مع أن الحكم شامل ولغيرهم أن الحلف بالآباء هو سبب الحديث، ولكونه عادة جاهلية كما في رواية البخاري في باب أيام الجاهلية ولفظه "ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله"، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: "لا تحلفوا بآبائكم".
4- النهي عن الحلف بغير الله لا يعارضه ما ورد في القرآن من إقسامه تعالى ببعض مخلوقاته، فذاك خاص له سبحانه فهو سبحانه يقسم في كتايه بنفسه وبما شاء.من مخلوقاته وليس لغيره أن يقسم إلا به "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت".(25/267)
ص -211- ... 5- النهي عن الحلف بغير الله قد يعارضه ما ورد في حديث "أفلح وأبيه إن صدق"؟ والجواب عن ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر في الفتح بعد إشارته إلى الحديث المشار إليه قال فان قيل ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب بأن ذلك كان قبل النهي أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم عقري حلقي. وما أشبه ذلك ثم ذكر وجوها أخرى وقال: وأقوى الأجوبة الأولان.
6- جاء عن سلف هذه الأمة ما يبين سلامتهم من الحلف بغير الله وبعدهم عن التعلق بغيره سبحانه وبيان خطورة هذا الأمر، فأمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول بعد أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكرا ولا آثرا.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال الشعبي: لأن أقسم بالله فأحنث أحب إلى من أن أحلف بغيره فأبر، ثم قال: وجاء مثله عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، في باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال: وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا
وقال حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتاب فتح المجيد: ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود بالنار كدعوة غير الله والاستغاثة به والرغبة إليه وإنزال حوائجه به.
وقال حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله في كتاب تيسير العزيز الحميد: وإنما رجح ابن مسعود رضي الله عنه الحلف بالله كاذبا على الحلف بغيره صادقا لأن الحلف بالله توحيد والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة(25/268)
ص -212- ... الشرك، ذكره شيخ الإسلام يعنى ابن تيمية، ثم قال: وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقا أعظم من اليمين الغموس، وفيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهى: ارتكاب أقل الشرين ضررا إذا كان لابد من أحدهما انتهى.
وهذا الأثر الذي أورده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قد ذكره الحافظ المنذري في كتاب الترغيب والترهيب في باب الترهيب من الحلف بغير الله فقال: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره وأنا صادق، ثم قال: رواه الطبراني موقوفا ورواته رواة الصحيح.
7- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- النهي عن الحلف بالآباء وبكل من سوى الله.
2- وجوب قمر الحلف على أن يكون بالله.
3- قضاء الإسلام على العادات المذمومة في الجاهلية.
4- الإشارة إلى عدم الإكثار من اليمين حيث قال: من كان حالفا.
5- أن الإنسان عند الحلف أمامه أمران لا ثالث لهما: إما الحلف
بالله،. وإما السكوت وعدم الحلف بغيره ولو كان ذلك الغير بالغا من التعظيم اللائق به ما بلغ كأنبياء الله ورسله وملائكته والكعبة فلا يجوز أن يقول المسلم ق حلفه: والنبي، وجبريل، والكعبة، وبيت الله، وحياتي، وحياتك، وحياة فلأن وغير ذلك من المخلوقات لأن الحلف بغير الله لا يرضاه الله ولا يرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم بل جاءت سنة المصطفي صلوات الله وسلامه عليه بتحريمه والتحذير منه وتقدم في الكلام على هذا الحديث ذكر بعض الأحاديث الصريحة في ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقد نهانا صلوات الله وسلامه عليه أن نحلف بغير الله فيتحتم علينا(25/269)
ص -213- ... الإنتها عن ذلك, وقال سبحانه وتعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الهم أرنا الحق حقا ًووفقنا لإتباعه وارنا باطلا ووفقنا لاجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.(25/270)
ص -214- ... الحديث الثامن عشر:
قال البخاري رحمه الله في كتاب فضائل القرآن من صحيحه:
حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني علقمة بن مرثد سمعت سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال. وذلك الذي أقعدني مقعدي هذا، حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبى عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه".
المبحث الأول: التخريج.
انفرد البخاري عن مسلم في إخراج هذا الحديث فرواه من هذين الطريقين في باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
ورواه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة باب في ثواب قراءة القرآن ولفظه: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
ورواه الترمذي في جامعه في أبواب فضائل القرآن باب ما جاء في تعليم القرآن فقال: حدثنا محمود بن غيلأن حدثنا أبو داود أنبأنا شعبة أخبرني علقمة ابن مرثد قال سمعت سعد بن عبيدة يحدث عن أبى عبد الرحمن عن عثمان ابن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وعلم القرآن في زمن عثمان(25/271)
ص -215- ... حتى بلغ الحجاج بن يوسف، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، حدثنا محمود بن غيلان حدثنا بشر بن السرى حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبى عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم أو أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"، هذا حديث حسن صحيح، هكذا روى عبد الرحمن بن مهدى وغير واحد عن سفيان الثوري عن علقمة ابن مرثد عن أبى عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم وسفيان لا يذكر فيه (عن سعد بن عبيدة)، وقد روى يحي بن سعيد القطان هذا الحديث عن سفيان وشعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان عن النبي بمقيم حدثنا بذلك محمد بن بشار، وحدثنا يحي بن سعيد عن سفيان وشعبة قال محمد بن بشار وهكذا ذكره يحي بن سعيد عن سفيان وشعبة غير مرة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال محمد بن بشار: وأصحاب سفيان لا يذكرون فيه: عن سفيان عن سعد بن عبيدة، قال محمد بن بشار: وهو أصح، قال أبو عيسى: وقد زاد شعبة في إسناد هذا الحديث سعد بن عبيدة، وكأن حديث سفيان أصح، قال على بن عبد الله قال يحي بن سعيد: ما أحد يعدل عندي شعبة وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان، قال أبو عيسى: سمعت أبا عمار يذكر عن وكيع قال قال شعبة: سفيان أحفظ منى وما حدثني سفيان عن أحد بشيء فسألته إلا وجدته كما حدثني. وفي الباب عن على وسعد.
ورواه ابن ماجه في أوائل سننه في باب فضل من تعلم القرآن وعلمه فقال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحي بن سعيد القطان حدثنا شعبة وسفيان عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال شعبة خيركم, وقال سفيان. "أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"، حدثنا على بن محمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبى عبد الرحمن السلمي عن عثمان(25/272)
بن عفان(25/273)
ص -216- ... قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه".
ورواه الدارمي ق سننه في كتاب فضائل القرآن باب خياركم من تعلم القرآن وعلمه بمثل الإسناد الأول عند البخاري ومتنه: "إن خيركم من علم القرآن أو تعلمه" قال: أقرأ أبو عبد الرحمن في ، إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: ذلك أقعدني مقعدي هذا.
ورواه الإمام أحمد في المسند فقال: حدثنا وكيع حدثنا سفيان وعبد الرحمن عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبى عبد الرحمن عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"، وقال: حدثنا محمد ابن جعفر وحجاج قالوا حدثنا شعبة قال: سمعت علقمة بن مرثد يحدث عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن خيركم من علم القرآن أو تعلمه"، قال محمد بن جعفر وحجاج فقال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني هذا المقعد، قال حجاج قال شعبة: ولم يسمع أبو عبد الرحمن من عثمان ولا من عبد الله ولكن قد سمع من على قال عبد الله بن أحمد: قال أبى وقال بهز عن شعبة قال علقمة بن مرثد: أخبرني، وقال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، حدثنا عفان حدثنا شعبة أخبرني علقمة بن مرثد وقال فيه: من تعلم القرآن أو علمه، وقال حدثنا يحي بن سعيد عن سفيان وشعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سفيان: أفضلكم وقال شعبة: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
وأخرجه أبو داود الطيالسي ق مسنده عن شعبة بمثل إسناد البخاري ومتنه وقال فيه: قال أبو عبد الرحمن فذاك أقعدني مقعدي هذا.
وأخرجه الخطية البغدادي في ترجمة أحمد بن محمد الأدمي بإسنادين إلى أبى نعيم الفضل بن دكين عن موسى الفراء عن علقمة بن مرثد عن أبى عبد الرحمن عن عثمان ولفظه: "خياركم أو أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"، ورواه(25/274)
ص -217- ... في ترجمة أحمد بن الحسين أبى زرعة الرازي بإسناده إلى أبى حنيفة ومسعر وسفيان وشعبة وقيس وغيرهم عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان ولفظه: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، وفي ترجمة عبد الوهاب بن عثمان المخبزي بإسناده إلى قيس بن الربيع عن علقمة عن سعد ابن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان بلفظ الذي قبله.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى عبد الرحمن السلمي بإسنادين إلى شعبة عن علقمة عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان رواه عن شعبة فيهما سليمان بن حرب وحجاج ويعلى بن عباد وداود بن المحبر ولفظه: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، ثم قال أبو نعيم: هذا حديث صحيح متفق عليه، رواه عن شعبة يحي بن سعيد القطان ويزيد بن زريع ويعقوب الحضرمي والناس، ورواه الثوري عن علقمة، واختلف فيه فرواه وكيع وعبد الرحمن بن مهدى وعبد الرزاق وأبو نعيم والفريابي وعامة أصحابه عن علقمة عن أبى عبد الرحمن من دون سعد، ورواه يحي بن سعيد القطان عنه مقرونا بشعبة بإدخال سعد بين علقمة وأبى عبد الرحمن، وممن وافق شعبة والثوري عليه قيس بن الربيع ومحمد بن أبان الجعفي ومسعر من رواية خلف بن ياسين عن أبيه عنه، وممن رواه عن علقمة من دون سعد عمرو بن قيس الملائي والجراح ابن الضحاك ومسعر بن كدام من رواية محمد بن بشر عنه، وعبد الله بن عيسى بن أبى يعلى والربيع بن المركس وموسى الفراء وعمرو بن النعمان الحضرمي وأبو اليسع وسعدان بن يزيد اللخمى وأيوب عن جابر وسلمة بن صالح وعثمان بن مقسم البرى، وممن رواه عن أبى عبد الرحمن السلمي سوى سعد وعلقمة الحسن بن عبد الله النخعي وأبو عبد الأعلى الثعلبي وعبد الملك ابن عمير وعبد الكريم وعطاء بن السائب وعاصم بن أبى النجود، واختلف على عاصم فيه فرواه أبو نعيم ويحي السحيلي وغير هما عن شريك عن عاصم عن أبى عبد الرحمن عن(25/275)
عبد الله بن مسعود، ورواه حيوة بن المغلس عن(25/276)
ص -218- ... شريك عن عاصم عن أبى عبد الرحمن عن عثمان.
وللحديث شواهد من حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه الخطيب في ترجمة أحمد بن إبراهيم أبى بكر البزار ومن حديث على رضي الله عنه أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند والترمذي في جامعه والدارمي في سننه. ومن حديث سعد بن أبى وقاص أخرجه ابن ماجه والدارمي في سننه. ومن شواهده أيضا ما ذكره أبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى عبد الرحمن السلمي بعد إيراد من رواه منتهيا إلى أبى عبد الرحمن قال: وممن رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عثمان وعلى وسعد بن أبى وقاص وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وأبو أمامة وأنس بن مالك، ورواه عن على النعمان والحسين بن سعد، ورواه عن سعد بن أبى وقاص ابنه مصعب، ورواه عن أبى هريرة أبو سلمة، ورواه عن أبى أمامة الشعبي، ورواه عن أنس سليمان التيمي وأبو هدبة انتهى.
ومن شواهده أيضاً ما أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس رضي الله عنه في ترجمة سليمان بن طرخان التيمي، وأخرجه الطبراني في الصغير ذكره في مجمع الزوائد وقال: وفيه محمد بن سنان القزاز وثقه الدارقطني وضعفه جماعة، ومنها ما أخرجه الخطيب البغدادي من حديث عبد الله بن مسعود في ترجمة محمد بن بكير بن واصل الحضرمي وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط ذكره في مجمع ا أش وائد وقال: وإسناده فيه شريك وعاصم وكلاهما ثقة وفيهما ضعف.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد.
الأول: شيخ البخاري في الإسناد الأول حجاج بن منهال قال الحافظ في التقريب ة حجاج بن المنهال الأنماطي أبو محمد السلمي مولاهم البصري ثقة فاضل من التاسعة مات سنة ست عشرة أو سبع عشرة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في تهذيب التهذيب: روى عن جرير بن حازم والحمادين وشعبة وعبد العزيز الماجشون وهمام ويزيد بن إبراهيم التستري وغيرهم وعنه(25/277)
ص -219- ... البخاري، وروى له الباقون بواسطة الدارمي، وبندار وأبو موسى وصاعقة والخلال وأناس آخرون سماهم، ونقل توثيقه عن أحمد وأبى حاتم والعجلي والنسائي وابن سعد وابن قانع.
الثاني: شعبة وهو ابن الحجاج أبو بسطام البصري تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.
الثالث: علقمة بن مرثد قال الحافظ في التقريب: علقمة بن مرثد بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثلثة الحضرمي أبو الحارث الكوفي ثقة من السادسة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الحزرجي في الحلاصة: روى عن أبى عبد الرحمن السلمي وسويد بن غفلة وعنه مسعر وشعبة والثوري، وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سمع سعد بن عبيدة عند هما - يعنى البخاري ومسلم- ونقل في تهذيب التهذيب توثيقه عن النسائي ويعقوب بن سفيان وذكره ابن حبان في الثقات ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته، وإنما قال الحافظ في تهذيب التهذيب: وقال خليفة بن خياط: توفي في آخر ولاية خالد القسري على العراق انتهى. وكانت نهاية ولايته على العراق سنة عشرين ومائة كما في البداية والنهاية لابن. كثير.
الرابع: سعد بن عبيدة قال الحافظ في التقريب: سعد بن عبيدة السلمي أبو حمزة الكوفي ثقة من الثالثة مات في ولاية عمر بن هبيرة على العراق ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: سعد بن عبيدة أبو حمزة السلمي ختن أبى عبد الرحمن سمع ابن عمر والبراء بن عازب وأبا عبد الرحمن عند هما والمستورد عند مسلم روى عنه منصور والأعمش وحصين بن عبد الرحمن وعلقمة بن مرثد عند هما. ونقل الحافظ في تهذيب التهذيب توثيقه عن ابن معين والنسائي وابن سعد والعجلي ، ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.
الخامس: أبو عبد الرحمن السلمي اسمه عبد الله بن حبيب قال الحافظ(25/278)
ص -220- ... قال التقريب: عبد الله بن حبيب بن ربيعة بفتح الموحدة وتشديد الياء أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي المقري مشهور بكنيته، وأبيه صحبة ثقة ثبت في الثانية مات بعد السبعين. ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في تهذيب التهذيب: روى عن عمر وعثمان وعلى وسعد وعن جماعة من الصحابة سماهم، وعنه إبراهيم النخعي وعلقمة بن مرثد وسعد بن عبيدة وأناس آخرون سماهم. ونقل توثيقه عن العجلي والنسائي ومحمد بن عمر، وقول ابن عبد البر: هو عند جميعهم ثقة، وقال في تهذيب التهذيب: قال أبو إسحاق السبيعي: اقرا القرآن في المسجد أربعين سنة، وقال عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن: صمت لله ثمانين رمضان.
السادس: صحابي الحديث أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال الحافظ في التقريب: عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أمير المؤمنين ذو النورين أحد السابقين الأولين والخلفاء الأربعة والعشرة المبشرة استشهد في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة وعمره ثمانون وقيل أكثر وقيل أقل، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة، وقال الخزرجى في الخلاصة: أبو عمرو المدني ذو النورين وأمير المؤمنين ومجهز جيش العسرة وأحد العشرة وأحد الستة هاجر الهجرتين له مائة وستة وأربعون حديثا اتفقا على ثلاثة وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بخمسة، وعنه أبناؤه أبان وسعيد وعمرو وأناس ومروان بن الحكم وخلق، غاب عن بدر لتمريض ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم، قال ابن عمر: كنا نقول عك عهد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكرثم عمرثم عثمان، وقال ابن سيرين: كان يحي الليل كله بركعة، وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن له عند البخاري تسعة أحاديث. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: أبو عبد الله يكنى بابنه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال أبو عمرو،(25/279)
وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس أسلمت، وأمها البيضاء(25/280)
ص -221- ... بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وكان ربعة حسن الوجه رقيق البشرة عظيم اللحية بعيد ما بين المنكبين، وقال: وزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته رقية عثمان وماتت عنده في أيام بدر فزوجه بعدها أختها أم كلثوم، فلذلك كان يلقب ذا النورين، وقال: وجاء من أوجه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة وعده من أهل الجنة وشهد له بالشهادة، وروى أبو خيثمة في فضائل الصحابة من طريق الضحاك عن النزال بن سبرة: قلنا لعلى حدثنا عن عثمان قال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، وقال: وهو أول من هاجر إلى الحبشة ومعه زوجته رقية، تخلف عن بدر لتمريضها فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وتخلف عن بيعة الرضوان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى مكة فأشيع أنهم قتلوه فكان ذلك سبب البيعة فضرب إحدى يديه على الأخرى وقال: هذه عن عثمان، وقال ابن مسعود لما بويع: بايعنا خيرنا ولم نأل، وقال على: كان عثمان أوصلنا للرحم وكذا قالت عائشة لما بلغها قتله: قتلوه وإنه لأوصلهم للرحم وأتقاهم للرب. وقد قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: ذو النورين، ومن تستحي منه الملائكة، ومن جمع الأمة على مصحف واحد وقت الاختلاف، ومن افتتح نوابه إقليم خراسان وإقليم المغرب، وكان من السابقين الصادقين القائمين الصائمين المنفقين في سبيل الله، وممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وزوجه بابنتيه رقية وأم كلثوم رضي الله عنهم أجمعين، وقال: وكان ممن جمع بين العلم والعمل والصيام والتهجد والإتقان والجهاد في سبيل الله وصلة الأرحام انتهى.
أما بقية رجال الإسناد الثاني ممن لم يتقدم في الإسناد الأول:
فالأول: شيخ البخاري أبو نعيم وهو الفضل بن دكين قال الحافظ في التقريب: الفضل بن دكين الكوفي واسم دكين عمرو بن حماد بن زهير التيمي مولاهم الأحول أبو نعيم(25/281)
الملائي بضم الميم مشهور بكنيته ثقة ثبت من التاسعة مات سنة ثمان عشرة وقيل تسع عشرة أي بعد المائتين وكان مولده سنة ثلاثين أي بعد المائة وهو من كبار شيوخ البخاري ورمز لكونه من رجال(25/282)
ص -222- ... الجماعة، وترجمته في تهذيب التهذيب تبلغ ست صفحات فيها الكثير من ثناء الأئمة عليه، وقال الحافظ في مقدمة الفتح: الفضل بن دكين أبو نعيم الكوفي أحد الأثبات قرنه أحمد بن حنبل في التثبت بعبد الرحمن بن مهدى وقال: كان أعلم بالشيوخ من وكيع، وقال مرة: كان أقل خطأ من وكيع، والثناء عليه في الحفظ والتثبت يكثر إلا أن بعض الناس تكلم فيه بسبب التشيع ومع ذلك فصح عنه أنه قال: ما كتبت على الحفظة أنني سببت معاوية احتج به الجماعة.
والثاني: سفيان وهو الثوري، تقدم في رجال إسناد الحديث الثامن.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.
1- رجال الإسنادين الثمانية خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة.
2- رجال الإسنادين الثمانية كوفيون إلا عثمان رضي الله عنه فهو مدني، وإلاّ حجاج بن منهال وشيخه شعبة فهما بصريان.
3- ثلاثة من رجال الإسناد الأول نسبة كل منهم (السلمي)، وحجاب بن منهال مولاهم، وسعد بن عبيدة كما أنه يوافق شيخه أبا عبد الرحمن السلمي في هذه النسبة يوافقه أيضاً في كونه مثله من أهل الكوفة وهو زوج ابنة أبى عبد الهـ صت السلمي.
4- أبو عبد الرحمن السلمي اشتهر بكنيته واسمه عبد الله بن حبيب ابن ربيعة كما تقدم.
5- الإسناد الأول: اشتمل على أربع من صيغ الأداء وهي التحديث والإخبار والسماع والعنعنة، والإسناد الثاني: اشتمل على صيغتي التحديث والعنعنة.
6- علقمة بن مرثد له في صحيح البخاري ثلاثة أحاديث فقط هذا(25/283)
ص -223- ... أحدها والثاني في كتاب الجنائز والثالث في مناقب الصحابة، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث في فتح الباري.
7- في الإسناد تابعيان وهما أبو عبد الرحمن السلمي وصهره سعد بن عبيدة والراوي عن سعد هو علقمة بن مرثد وقد قال عنه الحافظ في الفتح: وهو من ثقات أهل الكوفة من طبقة الأعمش انتهى. والأعمش من صغار التابعين، وقد أدرك علقمة زمن الصحابة إذ كانت وفاته في آخر ولاية خالد القسري على العراق وكان آخر ولايته سنة عشرين بعد المائة، فان ثبت لقاؤه أحداً من الصحابة كان عدد التابعين في هذا الإسناد ثلاثة.
8- هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحفاظ على البخاري في صحيحه والبالغ عددها مائة وعشرة أحاديث كما تقدم. وقد انتقده الدارقطني من وجهين: أحدهما كون شعبة زاد في الإسناد الأول سعد بن عبيدة بين علقمة وأبى عبد الرحمن، ورواه سفيان عن علقمة عن أبى عبد الرحمن دون زيادة سعد، قال الدارقطني كما في مقدمة الفتح: أخرج البخاري حديث الثوري عن علقمة بن مرثد عن أبى عبد الرحمن السلمي عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، وأخرجه أيضاً من حديث شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن عثمان وقال فيه: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال الدارقطني: فقد اختلف شعبة والثوري في إسناده فأدخل شعبة بين علقمة وبين أبى عبد الرحمن سعد بن عبيدة وقد تابع شعبة على زيادته من لا يحتج به، وتابع الثوري جماعة ثقات.
الوجه الثاني من وجهي الانتقاد: ما ذكر من أن أبا عبد الرحمن السلمي لم يسمع أن عثمان كما تقدم عن الترف ذي في التخريج قال الدارقطني كما في مقدمة الفتح أيضا: وقال حجاج بن محمد عن شعبة: لم يسمع أبو عبد الرحمن من عثمان شيئا.(25/284)
ص -224- ... وقد أشار إلى هذين الوجهين الحافظ في الفتح فقال: قوله عن سعد بن عبيدة، كذا يقول شعبة، يدخل بين علقمة بن مرثد،أبى عبد الرحمن سلم ابن عبيدة، وخالفه سفيان الثوري فقال: عن علقمة عن أبى عبد الرحمن ولم يذكر سعد بن عبيدة، وقد أطنب الحافظ أبو العلأء العطار في كتابه(الهادي في القرآن) في تخريج طرقه فذكر ممن تابع شعبة ومن تابع سفيان جمعا كثيرا، وأخرجه أبو بكر بن أبى داود في أول الشريعة له وأكثر من تخريج طرقه أيضا، ورجح الحفاظ رواية الثوري وعدوا رواية شعبة من المزيد في متصل الأسانيد. وقال الترمذي: كأن رواية سفيان أصح من رواية شعبة، وقال: وقد قال أحمد حدثنا حجاج بن محمد عن شعبة قال أيسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان، ونقل ابن أبى داود عن يحي بن معين مثل ما قال شعبة، وذكر الحافظ أبو العلاء أن مسلما سكت عن إخراج هذا الحديث في صحيحه انتهى. والجواب عن الوجه الأول ما قاله الحافظ ابن حجر في الفتح: وأما البخاري فأخرج الطريقين فكأنه ترجح عنده أنهما جميعا محفوظان، فيحمل على أن علقمة سمعه أولا من سعد ثم لقي أبا عبد الرحمن فحدثه به، أو سمعه مع سعد بن أبى عبد الرحمن فثبته فيه سعد، وقد أجاب بنحو هذا في مقدمة الفتح أيضا.
والجواب عن الوجه الثاني من وجوه:
الأول: قال الحافظ في مقدمة الفتح: وأما كون أبى عبد الرحمن لم يسمع من عثمان فيما زعم شعبة فقد أثبت غيره سماعه عنه وقال البخاري في التاريخ الكبير: سمع من عثمان والله أعلم.
الثاني: قال الحافظ في الفتح: قلت قد وقع في بعض الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبى عبد الرحمن، وذلك فيما أخرجه ابن عدى في ترجمة عبد الله بن محمد بن أبى مريم من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن أبى عبد الرحمن حدثني عثمان وفي إسناده مقال.(25/285)
ص -225- ... الثالث: قال الحافظ في الفتح عقب ذكر الذي قبله مباشرة: لكن ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبى عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور، فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان رضي الله عنه، ولاسيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبى النجود وغيره، فكان هذا أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه.
المبحث الرابع: شرح الحديث.
1- قوله "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" خيركم: أفعل تفضيل حذفت الهمزة من أوله وقد تقدم في الحديث الحادي عشر أنها تأتى اسما في مقابل الشر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، وترد أفعل تفضيل! ومنه قول السائل في الحديث الحادي عشر: أي الإسلام خير؟ ومثله قوله هنا: خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
2- قوله: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. قال المناوي في فيض القدير: أي خير المتعلمين والمعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن إذ خير الكلام كلام الله فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل به.
وقال القاري في المرقاة كما نقله المباركفوري في تحفة الأحوذي: ولا يتوهم أن العمل خارج عنهما لأن العلم إذا لم يكن مورثا للعمل ليس علما في الشريعة إذ أجمعوا على أن من عصى الله فهو جاهل انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: لا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدى ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من غنى سبحانه وتعالى بقوله { وَمَنْ أَحْسَنُ(25/286)
ص -226- ... قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وهو والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} فان قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقريء أفضل من الفقيه؟ قلنا: لا، لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدرى من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك، لا من كان قارئا أو مقرئا محضاً لا يفهم شيئا من معاني ما يقرؤه أو يقرئه، فان قيل فيلزم أن يكون المقري أفضل ممن هو أعظم غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا؟ قلنا: حرف المسألة يدور على النفع المتعدى فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل فلعل "من " مضمرة في الخبر، ولابد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر علي نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينا انتهى.
3- قوله قال: "وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج" أي حتى ولى الحجاج عل العراق، قال الحافظ ابن حجر: بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر وبين آخر خلافة عثمان وأول ولاية الحجاج للعراق ثمان وثلاثون سنة ولم أقف علي تعيين ابتداء إقراء أبى عبد الرحمن وآخره فالله أعلم بمقدار ذلك، ويعرف من الذي ذكرته أقصى المدة وأدناها، والقائل: وأقرأ أبو(25/287)
عبد الرحمن هو سعد بن عبيدة فانني لم أر هذه الزيادة إلا هن رواية شعبة عن علقمة انتهى.
4- قوله قال: "وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا"القائل هو أبو(25/288)
ص -227- ... عبد الرحمن السلمي، والمعنى أن الحديث الذي حدث به عثمان في أفضلية من تعلم القرآن وعلمه حمل أبا عبد الرحمن أن قعد يعلم الناس القرآن لتحصيل تلك الفضيلة، قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
5- من فقه الحديث: وما يستنبط منه:
1- الحث على تعلم القرآن وتعليمه.
2- بيان فضل من تعلم القرآن وعلمه.
3- تنبيه العالم إلى نفع غيره بما علمه.
4- بيان ما كان عليه سلف هذه الأمة من إتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بالعلم إذ أن أبا عبد الرحمن جلس لإقراء القرآن عملا بهذا الحديث الذي بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبله أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه راوي هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فان من أعظم مناقبه جمع القرآن ليتيسر للناس قراءته وإقراؤه، وكان تاليا لكتاب الله حتى في آخر لحظاته رضي الله عنه، فان الأوباش الذين قتلوه قتلوه وهو يتلو القرآن، وذكر أنه كان عند قوله تعالى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} كما في الأثر الذي أورده ابن كثير في تفسيره لهذه الآية من سورة البقرة.(25/289)
ص -228- ... الحديث التاسع عشر:
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب التفسير من صحيحه:
حدثنا ادع حدثنا شعبة عن الأعمش قال سمعت سعد بن عبيدة يحدث عن أبى عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فأخذ شيئا فجعل ينكت به الأرض فقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة"، قالوا يا رسول الله: أفلا نتكل علي كتابنا وندع العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } الآية.
المبحث الأول: التخريج.
أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث في عشرة مواضع من صحيحه ستة منها تفسير سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} هذا أحدها، والثاني: رواه عن شيخه أبى نعيم عن سفيان عن الأعمش عن سعد بن عبيدة، والثالث: رواه عن شيخه مسدد عن عبد الواحد عن الأعمش عن سعد بن عبيدة، والرابع: عن شيخه بشر بن خالد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن سعد بن عبيدة، والخامس: عن شيخه يحي عن وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة، والسادس: عن شيخه عثمان بن أبى شيبة عن جرير عن منصور عن سعد بن عبيدة، والسابع: في كتاب الجنائز باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله رواه عن شيخه عثمان بن أبى شيبة بمثل إسناده ومتنه في كتاب التفسير، والثامن: في كتاب الأدب باب الرجل ينكت الشيء بيده في(25/290)
ص -229- ... الأرض، رواه عن شيخه محمد بن بشار عن ابن أبى عدى عن شعبة عن سليمان وهو الأعمش ومنصور عن سعد بن عبيدة، والتاسع: في كتاب القدر باب وكان أمر الله قدرا مقدورا، رواه عن شيخه عبدان عن أبى حمزة عن الأعمش عن سعد بن عبيدة، العاشر: في كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} وسنده: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن منصور والأعمش سمعا سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن على رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذه الأسانيد العشرة تنتهي إلى سعد بن عبيدة، والمتن في بعضها مختصر، وفي البعض الآخر مطول، ورواية آدم عن شعبة المثبتة هنا من أتمها سياقا.
ورواه مسلم في كتاب القدر من صحيحه عن شيوخه عثمان بن أبى شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم عن جرير عن منصور عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن عن على ومتنه قريب من متن رواية عثمان بن أبى شيبة عند البخاري في الجنائز والتفسير، ورواه عن شيخه أبى بكر بن أبى شيبة وهناد بن السري عن أبى الأحوص عن منصور بمثل إسناد الذي قبله وبنحو متنه، ورواه عن أبى بكر بن أبى شيبة وزهير بن حرب وأبى سعيد الأشج عن وكيع، وعن شيخه ابن نمير عن أبيه عن الأعمش، وعن شيخه أبى كريب عن أبى معاوية عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن السلمي عن على، ومتنه أخصر من رواية عثمان بن أبى شيبة، ورواه بإسناد آخر بنحو الذي قبله فقال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور والأعمش أنهما سمعا سعد بن عبيدة يحدثه عن أبى عبد الرحمن السلمي عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
ورواه أبو داود في سننه في كتاب السنة باب في القدر فقال: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر قال سمعت منصور بن المعتمر مجدت عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن حبيب أبى عبد الرحمن السلمي عن على عليه السلام قال: كنا في(25/291)
جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس(25/292)
ص -230- ... ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه فقال: "ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من النار أومن الجنة، إلا قد كتبت شقية أو سعيدة"، قال فقال رجل من القوم: يا نبي الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقوة ليكونن إلى الشقوة، قال: "اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقوة فييسرون للشقوة"، ثم قال نبي الله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
ورواه الترمذي في جامعه في تفسير سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدى عن زائدة بن قدامة عن منصور بن المعتمر عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن السلمي عن على رضي الله عنه بنحو ما تقدم عند أبى داود وقال: هذا حديت حسن صحيح، ورواه في أبواب القدر عن الحسن بن على الحلواني عن عبد الله بن نمير ووكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن السلمي عن على رضي الله عنه، ومتنه أخمر من الذي قبله، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه في أوائل سننه فقال: حدثنا عثمان بن أبى شيبة حدثنا وكيع ح وحدثنا على بن محمد حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبى عبد الرحمن السلمي عن على قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عود فنكت في الأرض، ثم رفع رأسه، فقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، قيل يا رسول الله أفلا نتكل، قال. "لا، اعملوا ولا تتكلوا، فكل ميسر لما خلق له"، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(25/293)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
ورواه الإمام أحمد في المسند.(25/294)
ص -231- ... المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد.
الأول: شيخ البخاري آدم وهو ابن أبى إياس العسقلاني تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.
الثاني: شعبة وهو ابن الحجاج بن الورد البصري تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر أيضا.
الثالث: الأعمش وهو سليمان بن مهران الكوفي تقدم في إسناد الحديث الثامن.
الرابع والخامس: سعد بن عبيدة وشيخه أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي تقدما في رجال إسناد الحديث الثامن عشر.
السادس: صحابي الحديث أمير المؤمنين وابن عم سيد الأولين والآخرين ورابع الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأمر إليهم شورى من بعده أبو الحسن على بن أبى طالب رضي الله عنه. قال الحافظ في التقريب: على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته، من السابقين الأولين، المرجح أنه أول من أسلم، وهو أحد العشرة، مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذ أفضل الأحياء من بنى آدم بالأرض بإجماع أهل السنة، وله ثلاث وستون سنة على الأرجح، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة. وقال الخزرجى في الخلاصة: على بن أبى طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أبو الحسن بن عم النبي صلى الله عليه وسلم وختنه على بنته، أمير المؤمنين يكنى أبا تراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت هاشميا له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثا اتفقا على عشرين وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر، شهد بدرا والمشاهد كلها، روى عنه أولاده الحسن والحسين ومحمد وفاطمة وعمر وابن عباس(25/295)
ص -232- ... والأحنف وأمم، قال أبو جعفر: كان شديدة الأدمة ربعة إلى القمر، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعا بين الأقوال، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى"، وفضائله كثيرة، استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض، وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري تسعة وعشرين حديثا وقال ابن حجر في الإصابة: أبو الحسن أول الناس إسلاما في قول كثير من أهل العلم، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك فقال له بسبب تأخيره بالمدينة: "ألا ترضي أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى"؟ وزوجه بنته فاطمة، وكان اللواء بيده في أكبر المشاهد، ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له: أنت أخي، ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلى، وتتبع النسائي ما خص به من دون الصحابة فجمع من ذلك شيئا كثيرا بأسانيد أكثرها جياد، وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: أبو الحسن ا الهاشمي قاضى الأئمة وفارس الإسلام وختن المصطفي صلى الله عليه وسلم ، كان ممن سبق إلى الإسلام ولم يتلعثم، وجاهد في الله حق جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقال: "من كنت مولاه فعلى مولاه"، وقال له: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى"، وقال: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"، ومناقب هذا الإمام جمة أفردتها في مجلد وسميته بفتح المطالب في مناقب على بن أبى طالب رضي الله عنه. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: ومن خصائص على قوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: "لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوا كلهم يرجو(25/296)
أن يعطاها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ""أين على بن أبى طالب؟" فقالوا هو يشتكى عينيه، فأتى به فبصق في عينيه، فدعا له فبرأ، فأعطاه الراية" أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد انتهى. وقد روى هذا الحديث غير سهل أكثر من اثني عشر صحابيا ذكرهم في تهذيب التهذيب.(25/297)
ص -233- ... المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.
1- رجال الإسناد الستة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ البخاري آدم بن أبى إياس فلم يخرج له مسلم وابن ماجه.
2- رجال الإسناد كوفيون إلا شيخ البخاري فهو عسقلاني وشيخ شيخه فانه بصري.
3- الأعمش من المعروفين بالتدليس كما تقدم التنويه بذلك، وقد صرح بالسماع في إسناد هذا الحديث فأمن احتمان تدليسه، وقد صرح بالسماع في رواية البخاري في كتاب التوحيد، وفي بعض الطرق عند مسلم كما تقدم في التخريج.
4- هذا الحديث أورده البخاري عن شيخه عثمان بن أبى شيبة في كتاب الجنائز، ثم أعاده في تفسير والليل إذا يغشى بمثل إسناده وفتنه في الجنائز، فيكون هذا من المواضع النادرة في صحيح البخاري كما تقدم التنبيه على ذلك في لطائف إسناد الحديث التاسع والحديث السادس عشر.
5- رجال هذا الإسناد تقدم ذكرهم في بعض الأحاديث المتقدمة إلا الصحابي أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه وتقدم بعض اللطائف المتعلقة بهم فأغنى عن إعادتها.
6- ذكر الحافظ في مقدمة الفتح: أنه لم يقف على اسم صاحب الجنازة المذكور في الحديث، فهو من مبهمات المتن.
المبحث الرابع: شرح الحديث.
1- قوله "كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فأخذ شيئا فجعل ينكت به الأرض" جاء في بعض الروايات كما تقدم في التخريج أن ذلك كان في بقيع الغرقد، وجاء في بعضها بيان ذلك الشيء الذي ينكت به الأرض وأنه عود، وفي(25/298)
ص -234- ... بعضها مخضرة وهي العصا سميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالباً للاتكاء عليها, ومعنى ينكت: يخط يسيرا مرة بعد مرة وذلك فعل المفكر المفهوم.
2- قوله "قالوا يا رسول الله أفلا نتكل" ورد في بعض النصوص تعيين السائلين، ففي بعضها سراقة بن مالك بن جعشم، وفي بعضها شريح بن عامر الكلابي، وفي بعضها عمر رضي القه عنه، وفي بعضها أبو بكر رضي الله عنه قال الحافظ ابن حجر بعد ذكرها: والجمع بينها تعدد السائلين عن ذلك.
3- قوله: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال الحافظ ابن حجر: والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره: "فإذا كان كذلك أفلا نتكل"؟ وحاصل السؤال: ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلا ما قدر علينا؟ وحاصل الجواب: لا مشقة لأن كلا ميسر لما خلق له وهو يسير على من يسره الله، قال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم: منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة فلا يجعلوا العباده وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار، بل هي علأمات فقط انتهى.
4- هذا الحديث أصل في باب القضاء والقدر وأنه قد سبق قضاء الله تعالى بكون المكلفين فريقين فريقا في الجنة وفريقا ؤ السعير. قال النووي قال الإمام أبو المظفر السمدإني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه ؤ بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب، لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار، اختص الله به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم، لما علمه من الحكمة، و واجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم(25/299)
ص -235- ... القدر عن العالم، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب انتهى.
وقال الطحاوي في عقيدة أهل السنة ة وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فان الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، وقال: فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنا لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد أ يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وقال: فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما، وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما..
5- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- مشروعية إتباع الجنازة.
2- أن متبع الجنازة عليه أن يتذكر الآخرة وأن يظهر عليه أثر ذلك.
3- موعظة العالم أصحابه عند القبور.
4- إثبات القدر، وأنه ما شاء الله كان، وما أ يشأ! يكن.
5- مراجعة العالم والاستفسار منه عما قد يشكل.
6- أن السعادة والشقاوة بتقدير الله وقضائه.
7- الرد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر لأن الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له.
8- الرد على القدرية لأن أفعال العباد وان صدرت عنهم فقد سبق علم الله بوقوعها بتقديره سبحانه وتعالى.(25/300)
ص -236- ... 9- أن العمل الطيب أمارة على الخير, والعكس بالعكس.
10- النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر, بل تجب الأعمال و التكاليف التي ورد الشرع بها, وكل ميسر لما خلق له.
11- أن السنة تبين القرآن وتوضيحه وتدل عليه.
الحديث العشرون:
قال الإمام البخاري في آخر كتاب التوحيد من صحيحه:
حدثني أحمد بن إشكاب حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".(25/301)
ص -237- ... المبحث الأول: التخريج.
أورد البخاري هذا الحديث فالثلاثة مواضع من صحيحه هذا أحدها وهو آخر حديث في صحيح البخاري في باب قول الله تعالى{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}،
والثاني في كتاب الدعوات باب فضل التسبيح ولفظه: حدثنا زهير ابن حرب حدثنا ابن فضيل عن عمارة عن أبى زرعة عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده"،
والثالث في كتاب الأيمان والنذور باب إذا قال والله لا أتكلم اليوم، فصلى أو قرأ أو سبح أو حمد أو هلل فهو على نيته ولفظه: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة عن أبى هريرة قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
ورواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء من صحيحه فقال ت حدثنا محمد ابن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب وأبو كريب ومحمد بن طريف البجلي قالوا حدثنا ابن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان عل اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
وأخرجه الترمذي في أبواب الدعاء من جامعه باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد ولفظه: حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا محمد بن الفضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال(25/302)
ص -238- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". قال هذا حديث حسن غريب صحيح.
ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الأدب باب فضل التسبيح فقال: حدثنا أبو بشر وعلى بن محمد قالا حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبى زرعة عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
ورواه الإمام أحمد في المسند عن شيخه محمد بن فضيل بمثل إسناده ومتنه عند البخاري في كتاب الأيمان والنذور.
المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد.
الأول: شيخ البخاري أحمد بن إشكاب قال الحافظ في التقريب: أحمد بن إشكاب الحضرمى أبو عبد الله الصفار واسم إشكاب مجمع وهو بكسر الهمزة بعدها معجمة ثقة حافظ من الحادية عشرة مات سنة سبع عشرة أو بعدها أي بعد المائتين ورمز لكونه من رجال البخاري وحده. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: أحمد بن إشكاب أبو عبد الله الصفار الكوفي سكن مصر سمع محمد بن فضيل بن غزوان روى عنه البخاري وقال: آخر ما لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومائتين. ونقل الحافظ في تهذيب التهذيب توثيقه عن يعقوب بن شيبة وأبى حاتم والعجلي.(25/303)
ص -239- ... الثاني: محمد بن فضيل قال الحافظ في التقريب: محمد بن فضيل بن غزوان بفتح المعجمة وسكون الزاى الضبي مولاهم أبو عبد الرحمن الكوفي صدوق عارف رمى بالتشيع من التاسعة مات سنة خمس وتسعين أي بعد المائة ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: محمد بن فضيل بن غزوان الكوفي أبو عبد الرحمن الضبي من شيوخ أحمد وله تصانيف وثقه العجلي وابن معين وقال أحمد: كان شيعيا حسن الحديث، وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم، وقال النسائي: لا بأس به، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقا كثير الحديث شيعيا وبعضهم لا يحتج به، قلت أي الحافظ ابن حجر إنما توقف فيه من توقف لتشيعه، وقد قال أحمد بن على الأبار: حدثنا أبو هاشم سمعت ابن فضيل يقول: رحم الله عثمان ولا رحم الله من لا يترحم عليه، قال: ورأيت عليه آثار أهل السنة والجماعة رحمه الله، احتج به الجماعة انتهى.
الثالث: عمارة بن القعقاع قال الحافظ في التقريب: عمارة بن القعقاع ابن شبرمة بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة الضبى بالمعجمة والموحدة الكوفي الثقة أرسل عن ابن مسعود وهو من السادسة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. ونقل في تهذيب التهذيب توثيقه عن ابن معين والنسائي وابن سعد ويعقوب بن سفيان.
الرابع: أبو زرعة قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: أبو زرعة ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي قيل اسمه هرم وقيل عمرو وقيل عبد الله وقيل عبد الرحمن وقيل جرير ثقة من الثالثة ورمز لكونه من رجال الجماعة. ونقل في تهذيب التهذيب توثيقه عن ابن معين وابن خراش. وقال المقدسي في الجمع بين رجال الصحيحين: هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله أبو زرعة البجلي الكوفي سمع أبا هريرة وجده جرير بن عبد الله عند هما وقال روى عنه أبو حيان التيمي وعلى بن مدرك وعمارة بن القعقاع عند هما.(25/304)
ص -240- ... الخامس: صحابي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه قال الحافظ في تقريب التهذيب: أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل حافظ الصحابة اختلف في اسمه واسم أبيه قيل عبد الرحمن بن صخر ثم ذكر أقوالا قال بعدها واختلف في أيها الأرجح؟ فذهب الأكثرون إلى الأول، وذهب جمع من النسابين إلى عمرو بن عامر مات سنة سبع وقيل سنة ثمان وقيل سنة تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة، وقال الخزرجى في الخلاصة: أبو هريرة اسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي الحافظ له خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين وانفرد البخاري بتسعة وسبعين ومسلم بثلاثة وتسعين. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري أربعمائة وستة وأربعين حديثا. وترجم له الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في اثنتي عشرة صفحة وذكر الكثير من مناقبه رضي الله عنه وقال: وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب، وكان من حفاظ الصحابة، وروى عن أبى بكر وعمر وأبى بن كعب وأسامة بن زيد ونضرة بن أبى نضرة والفضل بن العباس وكعب الأحبار وعائشة أم المؤمنين وحدث عنه خلائق من أهل العلم وقال: قال البخاري: روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم، وقال: وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم.
المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث.
1- رجال الإسناد الخمسة خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلا شيخ البخاري أحمد بن إشكاب فقد انفرد البخاري بإخراج حديثه.
2- رجال الإسناد كوفيون إلا الصحابي فانه مدني.(25/305)
ص -241- ... 3- الصحابي والتابعي في الإسناد كل منهما اشتهر بكنيته وكل منهما اختلف في اسمه.
4- الصحابي في هذا الإسناد هو أكثر الصحابة حديثا على الإطلاق، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في الإصابة: وقد أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثا. وقال النووي في التقريب: وأكثرهم حديثا أبو هريرة ثم ابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعائشة، وقد بين السيوطي في شرحه تدريب الراوي عدد ما لكل واحد منهم من الحديث فذكر عدد ما لأبى هريرة رضي الله عنه وهو يوافق العدد الذي تقدم ذكره نقلا عن الخلاصة للخزرجى، وذكر أن الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثا والذي رواه أنس رضي الله عنه ألفا حديث ومائتان وستة وثمانون حديثا 1 والذي رواه ابن عباس رضي الله عنه ألف وستمائة وستون حديثا، والذي رواه جابر ألف وخمسمائة وأربعون حديثا. والذي روته عائشة رضي الله عنها ألفان ومائتا حديث وعشرة أحاديث، ثم قال السيوطي: وليس في الصحابة من يزيد حديثه على ألف غير هؤلاء إلا أبا سعيد فانه روى ألفا ومائة وسبعين حديثا. وقد نظم السيوطي هؤلاء الصحابة السبعة الذين زاد حديث كل منهم على ألف حديث في ألفيته في علوم الحديث فقال:
والمكثرون في رواية الأثر ... أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والبحر كالخدري ... وجابر وزوجة النبي
5- هذا الحديث من أمثلة الفرد المطلق، فقد تفرد في روايته أبو هريرة رضي الله عنه، وتفرد في روايته عن أبى هريرة أبو زرعة وتفرد به عن أبى زرعة عمارة بن القعقاع، وتفرد به عن عمارة محمد بن فضيل، ثم كثر رواته عن محمد بن فضيل، وذكر الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث أنه لم ير هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم النقل عن الخلاصة للخزرجى ص 91، وهو يخالف هذا، والظاهر صحة ما هنا(25/306)
ص -242- ... الحديث إلا من طريق محمد بن فضيل بهذا الإسناد، ولما ذكر تخريج الترمذي له وقوله عقبه: حسن صحيح غريب قال الحافظ ابن حجر: قلت وجه الغرابة فيه ما ذكرته من تفرد محمد بن فضيل وشيخه وشيخ شيخه وصحابيه انتهى. ومثل هذا الحديث في ذلك الحديث الذي جعله البخاري رحمه الله فاتحة كتابه وهو حديث: إنما الأعمال بالنيات، فانه فرد مطلق أيضا، تفرد بروايته عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، وتفرد به عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد به عن محمد بن إبراهيم يحي بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر عن يحمى ابن سعيد، ففاتحة صحيح البخاري فرد مطلق وخاتمته فرد مطلق.
6- حديث أبى هريرة رضي الله عنه هذا هو آخر حديث أورده البخاري في الجامع الصحيح، فهو خاتمة صحيحه، وقد تبعه بعض المصنفين في الحديث: في جعله خاتمة كتبهم، ومن هؤلاء الحافظ المنذري ختم به كتابه الترغيب والترهيب، ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني ختم به كتابه بلوغ المرام من أدلة الأحكام.
المبحث الرابع: شرح الحديث.
1- قوله: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن الخ" كلمتان خبر مقدم مبتدؤه. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ، وكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه، لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقا، قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
2- أوصاف الخبر الثلاثة حبيبتان وخفيفتان وثقيلتان.. الأول حبيبة بمعنى محبوبة والثاني والثالث فعيلة بمعنى فاعلة.
3- قوله: "حبيبتان إلى الرحمن" قال الحافظ ابن حجر: وخص لفظ الرحمن بالذكر لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده حيث يجازى على العمل القليل بالثواب الجزيل.
4- قوله: "خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان" قال الحافظ ابن(25/307)
ص -243- ... حجر: وصفهما بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب.
5- قوله: "ثقيلتان في الميزان" هو من نصوص الوعد التي يعول عليها المرجئة معرضين عن نصوص الوعيد، ويقابلهم الخوارج والمعتزلة الذين يغلبون نصوص الوعيد ويغفلون عن نصوص الوعد، ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين الطرفين المتناقضين، طرف الإفراط وطرف التفريط، فهم يأخذون بنصوص الوعد والوعيد معا، يجمعون بين الخوف والرجاء، ولا يقولون كما تقول المرجئة: إنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ولا يقولون كما تقول الخوارج والمعتزلة بخروج مرتكب الكبيرة من الإيمان في الدنيا وخلوده في النار في الآخرة وإنما يرون أن العاصي مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فليس عندهم من أهل الإيمان المطلق (الكامل) ولا يمنعونه مطلق الاسم، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، هذا حكمه عندهم في الدنيا، أما في الآخرة فكل ذنب دون الشرك فأمر صاحبه إلى الله إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار عقوبة لجريمته ثم يخرجه منها ويدخله الجنة، فماله إلى الجنة ولابد، ولهذا يجمع الله بين الترغيب والترهيب في كتابه العزيز فيقول {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} ويقول {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ويقول {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } يرشد بذلك عباده إلى أن يخافوه ويرجوه، فلا يأمنون مكر الله لرجائهم المجرد عن الخوف، ولا يقنطون من رحمته لخوفهم المجرد عن الرجاء، بل كما قال الله تعالى عن أوليائه {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}
وقد(25/308)
نقل الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث عن ابن بطال أنه قال: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال كالطهارة من الحزام والمعاصي العظام فلا تظن أن من أدمن الذكر(25/309)
ص -244- ... وأصر على ما شاءه من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح انتهى.
6- قوله: "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" المعنى أنزه الله عن كل،مما لا يليق به قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وسبحان اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف تقديره: سبحت الله سبحانا كسبحت الله تسبيحا، ولا يستعمل غالبا إلا مضافا وهو مضاف إلى المفعول أي سبحت الله، ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل أي نزه الله نفسه، والمشهور الأول، وقد جاء غير مضاف في الشعر كقوله: سبحانه ثم سبحانا أنزهه
وقال في قوله: "وبحمده" قيل الواو للحال والتقدير أسبح الله متلبسا بحمدي له من أجل توفيقه، وقيل عاطفة، والتقدير أسبح الله وأتلبس بحمده.
7- قوله: "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عن شيخه أبى حفص عمر البلقيني في أواخر مقدمة الفتح قال: وهاتان الكلمتان معنا هما جاء في ختام دعاء أهل الجنان لقوله تعالى {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
8- من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1- الحث على المواظبة على هذا الذكر والتحريض على ملازمته.
2- إثبات صفة المحبة لله تعالى.
3- الجمع بين تنزيه الله تعالى والثناء عليه في الدعاء.(25/310)
ص -245- ... 4- بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته الأسباب التي تقربهم إلى الله وتثقل موازينهم في الدار الآخرة.
5- إثبات الميزان وجاء في بعض النصوص إثبات أن له كفتين.
6- إثبات وزن أعمال العباد.
7- التنبيه على سعة رحمة الله حيث يجازى على العمل القليل بالثواب الجزيل.
8- الإشارة بخفة هاتين الكلمتين على اللسان إلى أن التكاليف شاقة
على النفس، ومن أجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات.
وقد جاء عن بعض السلف التعليل لثقل الحسنة وخفة السيئة فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فلذلك ثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت، فلا تحملنك خفتها على ارتكابها.
9- إطلاق الكلمة مراداً بها الكلام.
10- جواز السجع إذا وقع بغير كلفة.
11- إيراد الحكم المرغب في فعله بلفظ الخبر لأن المقصود من سياق هذا الحديث الأمر بملازمة الذكر المذكور.
12- الإشارة إلى امتثال قوله تعالى{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك}.
هذا ما يسر الله صلى الله عليه وسلم وتحريره من الكلام على عشرين حديثا من صحيح الإمام أبى عبد الله محمد لن إسماعيلي البخاري، والتمهيد لها بتحريف موجز بالإمام البخاري وصحيحه والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكان الفراغ من ذلك في يوم السبت الموافق الحادي عشر من شهر صفر(25/311)
ص -246- ... سنة تسعين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
اللهم اجعلنا ممن أردت به الخير ففقهته في دينك, فسار على النهج القويم الذي بعثت به رسولك الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم, اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن واختم لنا هذه الحياة بخاتمة السعادة, واجعلنا اللهم ممن يثقل ميزنه بالحسنات, إنك جواد كريم ملك بر رؤوف رحيم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(25/312)
عنوان الكتاب:
عقيدة أهل السنة والأثر في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة الرابعة - العدد الثاني - 1391/ 1971م(26/1)
ص -20- ... عقيدة أهل السنة والأثر في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم
بقلم الشيخ عبد المحسن العباد - المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
من رحمة الله بعباده وإحسانه إليهم وفضله عليهم أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليبلغهم رسالة ربهم ويرشدهم إلى كل ما ينفعهم ويحذرهم كل ما يضرهم وقد قام صلى الله عليه وسلم بما أرسل به على التمام والكمال فدل أمته على كل خير وحذرها من كل شر ونصح غاية النصح وقد اختار الله لصحبته وتلقي الشريعة عنه قوما هم أفضل هذه الأمة التي هي خير الأمم فشرَّفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وخصَّهم في الحياة الدنيوية بالنظر إليه وسماع حديثه من فمه الشريف وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقد بلَّغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعثه الله به من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها فكان لهم الأجر العظيم لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه في سبيل الله وأعمالهم الجليلة في نشر الإسلام ولهم مثل أجور من بعدهم لأنهم الواسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجر من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز وأثنى عليهم رسول الله صلى الله(26/2)
ص -21- ... عليه وسلم في سنته المطهرة وحسبهم ذلك فضلا وشرفا قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}. وقال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وقال تعالى في بيان مصارف الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والَّذِينَ(26/3)
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ..هذه ثلاث آيات من سورة الحشر الأولى منها في المهاجرين والثانية في الأنصار والثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار مستغفرين لهم سائلين الله تعالى أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم وليس وراء هذه الأصناف الثلاثة إلا الخذلان والوقوع في حبائل الشيطان ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير بشأن بعض هؤلاء المخذولين: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فسبُّوهم" أخرجه مسلم في أواخر صحيحه وقال النووي في شرحه بعد ذكر آية الحشر: "وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنهم لأن الله إنما جعله لمن جاء من بعدهم يستغفر لهم"، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه(26/4)
ص -22- ... الآية: "وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. وقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" والله أعلم ذكر الثالث أم لا. وأخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: " القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث" وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم"، وروى ابن بطة بإسناد صحيح - كما في منهاج السنة لابن تيمية - عن ابن عباس أنه قال: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة يعني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة " وفي رواية وكيع: "خير من عمل أحدكم عمره". ولما ذكر سعيد بن زيد رضي الله عنه العشرة المبشرين بالجنة قال: "والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه(26/5)
وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمِّر عُمْر نوح" أخرجه أبو داود والترمذي، وعن جابر رضي الله عنه قال: "قيل لعائشة أن أناسا يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر(26/6)
ص -23- ... وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر" أخرجه رزين كما في جامع الأصول لابن الأثير ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". وروى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" وأخرج من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ولفظه: "كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" ، فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه مع أن الكل تشرف بصحبته صلى الله عليه وسلم فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار، إن البون لشاسع وإن الشقة لبعيدة فما أبعد الثرى عن الثريا بل وما أبعد الأرض السابعة عن السماء السابعة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
هذه بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على فضل أولئك الأخيار الذين ما كانوا ولا يكونون رضي الله عنهم.
وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول بتعديل الله تعالى لهم وثنائه عليهم وثناء(26/7)
رسوله صلى الله عليه وسلم. قال النووي في التقريب الذي شرحه السيوطي في تدريب الراوي(26/8)
ص -24- ... : "الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به" انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة" انتهى. ولهذا لا تضر جهالة الصحابي فإذا قال التابعي: "عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم" لم يؤثر ذلك في المروي لأن الجهالة في الصحابة لا تضر لأنهم كلهم عدول قال الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره في نص القرآن". ثم ساق بعض الآيات والأحاديث في فضلهم ثم قال: "على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين" وروى بإسناده عن أبي زرعة قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدوا أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة". ومذهب أهل السنة والجماعة فيهم وسط بين طرفيها الإفراط والتفريط وسط بين المفرطين الغالين الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى ما لا يليق إلا بالله أو برسله وبين المفرِّطين الجافين الذين ينقصونهم ويسبونهم فهم وسط بين الغلاة والجفاة يحبونهم جميعا وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل(26/9)
والإنصاف فلا يرفعونهم إلى ما لا يستحقون ولا يقصرون بهم عما يليق بهم فألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل اللائق بهم(26/10)
ص -25- ... وقلوبهم عامرة بحبهم وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون إما مصيبون فلهم أجر الاجتهاد والإصابة وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم ولهم من الله المغفرة والرضوان، وكتب أهل السنة مملوء ببيان هذه العقيدة الصافية النقية في حق هؤلاء الصفوة المختارة من البشر لصحبة خير البشر صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين ومن ذلك قول الطحاوي في عقيدة أهل السنة: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان" وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي في مقدمة رسالته المشهورة: "وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب. وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب السنة: "ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين والكف عن الذي جرى بينهم فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدا منهم فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة" .وقال: "لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ثم يستتيبه فإن تاب قبل منه وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويرجع" .وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتاب عقيدة(26/11)
السلف وأصحاب الحديث: "ويرون الكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه(26/12)
ص -26- ... وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبا أو نقصا فيهم ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم ألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ويفضِّلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وبأنه لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ويشهدون بالجنَّة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم يثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما - بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل فقدَّم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي وقدَّم قوم عليّاً وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي وإن كانت هذه المسألة - مسألة(26/13)
عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلَّلُ المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ومن طعن في خلافة(26/14)
ص -27- ... أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله". ثم ذكر محبتهم لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوليهم لهم وحفظهم فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وتولِّيهم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين وإيمانهم بأنهنَّ أزواجه في الآخرة ثم قال: "ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما جرى بين الصحابة ويقولون أن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيّر عن وجهه الصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله". ثم ذكر محبتهم لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوليهم لهم وحفظهم فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وتولِّيهم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين وإيمانهم بأنهنَّ أزواجه في الآخرة ثم قال: "ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما جرى بين الصحابة ويقولون أن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيّر عن وجهه الصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق ومن الفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب(26/15)
منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفَّر به عنه فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله".
هذه خمسة نماذج من أقوال السلف الصالح فيما يجب اعتقاده في حق
بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق ومن الفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفَّر به عنه فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان(26/16)
ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله".
هذه خمسة نماذج من أقوال السلف الصالح فيما يجب اعتقاده في حق(26/17)
ص -28- ... خيار الخلق بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه ورضي الله عن الصحابة أجمعين. ومما ينبغي التفطن له أن القدح في هؤلاء الصفوة المختارة رضي الله عنهم قدح في الدين لأنه لم يصل إلى من بعدهم إلا بواسطتهم وتقدم في كلام أبي زرعة قوله: "وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة" يعني الذين ينتقَّصون أحدا من الصحابة، وأن القدح فيهم لا يضرهم شيئا بل يفيدهم كما في حديث المفلس ولا يضر القادح إلا نفسه فمن وجد في قلبه محبة لهم وسلامة من الغل لهم وصان لسانه عن التعرض لهم إلا بخير فليحمد الله على هذه النعمة وليسأل الله الثبات على هذا الهدى ومن كان في قلبه غلٌّ لهم وأطلق لسانه بذكرهم بما لا يليق بهم فليتق الله في نفسه وليقلع عن هذه الجرائم وليتب إلى الله ما دام باب التوبة مفتوحا أمامه قبل أن يندم حيث لا ينفعه الندم. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.(26/18)
عنوان الكتاب:
عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة الأولى ، العدد الثالث ، ذو القعدة 1388هـ/شباط 1969م(27/1)
ص -126- ... عقيدة أهل السنة والأثرفي المهدي المنتظر
للشيخ عبد المحسن العبادالمدرس في الجامعة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمد الله على نعمه ونسأله المزيد من فضله وكرمه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعملنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وقال مخاطبا له: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله إلى الناس كافة بين يدي الساعة بشير و نذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أتم الله به خبرا وأمرا، فأحكامه عدل وأخباره صدق، لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. .
أخبر أمته عن الأمم الماضية بأخبار لا بد في الإيمان من التصديق بها وإنها وقعت وفق خبره صلى الله عليه وسلم وبذلك كانوا شهداء على الناس كما أخبر عن أمور مستقبلة لا بد من التصديق بها واعتقاد أنها ستقع على وفق ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وما من شيء يقرب إلى الله إلا وقد دل الأمة عليه ورغبها فيه، وما من شر إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى آله وأصحابه الذين شرفهم الله بصحبته وإكرام أبصارهم في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته وأتم عليهم النعمة بأن جعلهم حملة سنته وعلى من حذا حذوهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فلما كان من بين الأمور المستقبلة التي تجرى في آخر الزمان عند نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء خروج رجل من أهل بيت النبوة من ولد الحسن بي علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوافق اسمه اسم الرسول صلى الله عليه(27/2)
ص -127- ... وسلم واسم أبيه اسم أبيه ويقال له المهدي يتولى أمرة المسلمين ويصلي عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم خلفه وذلك لدلالة الأحاديث الكثيرة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تلقتها الأمة بالقبول واعتقدت موجبها إلا من شذ رأيت أن يكون الكلام حول هذا الأمر موضوع محاضرتي وذلك لأمرين:
الأول:- أن الأحاديث الواردة في المهدي لم ترد في الصحيحين على وجه التفصيل بل جاءت مجملة، وقد وردت في غيرهما مفسرة لما فيهما فقد يظن ظان أن ذلك يقلل من شأنها وذلك خطأ واضح فالصحيح بل والحسن في غير الصحيحين مقبول معتمد عند أهل الحديث.
الثاني:- أن بعض الكتاب في هذا العصر أقدم على الطعن في الأحاديث الواردة في المهدي بغير علم بل بجهل أو بالتقليد لأحد لم يكن من أهل العناية بالحديث وقد اطلعت على تعليق لعبد الرحمن محمد عثمان على كتاب تحفة الأحوذي الذي طبع أخيرا في مصر قال في الجزء السادس في باب ما جاء في الخلفاء، قال في تعليقه: "يرى الكثيرون من العلماء أن كل ما ورد من أحاديث عن المهدي إنما هي موضع شك وأنها لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إنها من وضع الشيعة"، انتهى. وقال معلقا بشأن المهدي في باب ما جاء في تقارب الزمن وقصر الأمل في الجزء المذكور: "ويرى الكثيرون من العلماء الثقاة الأثبات أن ما ورد من أحاديث خاصة بالمهدي ليست إلا من وضع الباطنية والشيعة وأضرابهم وأنها لا تصح نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم"، انتهى بل لقد تجرأ بعضهم إلى ما هو أكثر من ذلك فنجد محي الدين عبد الحميد يقول في تعليقه على الحاوي للفتاوى للسيوطي، يقول في آخر جزء في العرف الوردي في أخبار المهدي ص 166من الجزء الثاني: "يرى بعض الباحثين أن كل ما ورد عن المهدي وعن الدجال من الاسرائيليات"، انتهى. وأخطر من ذلك و أطم تعليق أبو رية رئيس بعثة الأزهر في لبنان في العام الماضي على كتاب النهاية لابن كثير بما معناه أن(27/3)
ما جاء من الأحاديث في شأن المهدي ونزول عيسى بن مريم والدجال إنما هو رمز لانتصار الحق على الباطل.
لهذين الأمرين ولكون الواجب على كل مسلم ناصح لنفسه أن لا يتردد في تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به رأيت أن يكون الكلام حول هذا الأمر موضوع محاضرتي كما قلت وقد جعلت عنوانها عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر. .
ولكي تكون أيها المستمع على علم مقدما بعناصر المحاضرة أسوقها لك فيما يلي:(27/4)
ص -128- ... الاول:- ذكر اسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني:- ذكر اسماء الأئمة الذين خرجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي في كتبهم.
الثالث:- ذكر الذين أفردوا مسألة المهدي بالتأليف من العلماء.
الرابع:- ذكر الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي وحكاية كلامهم في ذلك.
الخامس:- ذكر بعض ما ورد في الصحيحين من الأحاديث التي لها تعلق بشأن المهدي.
السادس:- ذكر بعض الأحاديث في شأن المهدي الواردة في غير الصحيحين مع الكلام عن أسانيد بعضها.
السابع:- ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها وحكاية كلامهم في ذلك.
الثامن:- ذكر من وقفت عليه ممن حكى عنه إنكارأحاديث المهدي أو التردد فيها مع مناقشة كلامه باختصار.
التاسع:- ذكر بعض ما يظن تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهدي والجواب عن ذلك.
العاشر:-كلمة ختامية.
أسماء الصحابة الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث المهدي:
جملة ما و قفت عليه من اسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون هم:-
1- عثمان بن عفان رضي الله عنه.
2- علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
3- طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
4- عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
5- الحسين بن علي رضي الله عنه.
6- أم سلمة رضي الله عنها.
7- أم حبيبة رضي الله عنها.
8- عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
9- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
10- عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
11- عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
12- أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
13- جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
14- أبو هريرة رضي الله عنه.
15- أنس بن مالك رضي الله عنه.
16- عمار بن ياسر رضي الله عنه.
17- عوف بن مالك رضي الله عنه.
18- ثوبان مولى رسول الله رضي الله عنه.
19- قرة بن إياس رضي الله عنه.
20- علي الهلالي رضي الله عنه.
21- حذيفة بن اليمان(27/5)
رضي الله عنه.
22- عبد الله بن الحارث بن حمزة رضي الله عنه.
23- عوف بن مالك رضي الله عنه.
24- عمران بن حصين رضي الله عنه.
25- أبو الطفيل رضي الله عنه.
26- جابر الصدفي رضي الله عنه.(27/6)
ص -129- ... أسماء الأئمة الذين خرجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي في كتبهم:
وأحاديث المهدي خرجها جماعة كثيرون من الأئمة في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد وغيرها قد بلغ عدد الذين وقفت على كتبهم أو اطلعت على ذكر تخريجهم لها ثمانية وثلاثين هم:
1- أبو داود في سننه.
2- الترمذي في جامعه.
3- ابن ماجه في سننه.
4- النسائي ذكره السفاريني في لوامع الأنوار البهية و المناوي في فيض القدير وما رأيته في الصغرى ولعله في الكبرى.
5- أحمد في مسنده.
6- ابن حبان في صحيحه.
7- الحاكم في المستدرك.
8- أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف.
9- نعيم بن حماد في كتاب الفتن.
10- الحافظ أبو نعيم في كتاب المهدي وفي الحلية.
11- الطبراني في الكبير والأوسط والصغير.
12- الدار قطني في الأفراد.
13- البارودي في معرفة الصحابة.
14- أبو يعلى الموصلي في مسنده.
15- البزار في مسنده.
16-الحارث بن أبي أسامة في مسنده.
17- الخطيب في تلخيص المتشابه وفي المتفق والمفترق.
18- ابن عساكر في تاريخه.
19- ابن منده في تاريخ أصبهان.
20- أبو الحسن الحربي في الأول من الحربيات.
21- تمام الرازي في فوائده.
22- ابن جرير في تهذيب الآثار.
23- أبو بكر بن المقري في معجمه.
24- أبو عمرو الداني في سننه.
25- أبو غنم الكوفي في كتاب الفتن.
26- الديلمي في مسند الفردوس.
27- أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار.
28-أبو الحسين بن المناوي في كتاب الملاحم.
29- البيهقي في دلائل النبوة.
30- أبو عمرو المقري في سننه.
31- ابن الجوزي في تاريخه.
32- يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده.
33-الروياني في مسنده.
34- ابن سعد في الطبقات.
35- ابن خزيمة.
36- الحسن بن سفيان.
37- عمر بن شبه.
38- أبو عوانة.
وهؤلاء الأربعة ذكر السيوطي في العرف الوردي كونهم ممن خرج أحاديث المهدي دون عزو التخريج إلى كتاب معين.
ذكر لبعض الذين ألفوا كتبا في شأن المهدي:
وكما اعتنى علماء هذه الأمة(27/7)
بجميع الأحاديث الواردة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم تأليفا وشرحا كان للأحاديث المتعلقة بأمر المهدي(27/8)
ص -130- ... قسطها الكبير من هذه العناية فمنهم من أدرجها ضمن المؤلفات العامة كما في السنن و المسانيد وغيرها ومنهم من أفردها بالتأليف. . كل ذلك حصل منهم-رحمهم الله وجزاهم خيرا- حماية لهذا الدين وقياما بما يجب من النصح للمسلمين فمن الذين أفردوها بالتأليف:
1- أبو بكر ابن خيثمة زهير بن حرب قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه ولقد توغل أبو بكر ابن أبي خيثمة على ما نقل السهيلي عنه في جمعة للأحاديث الواردة في المهدي:
2- ومنهم الحافظ أبو نعيم ذكره السيوطي في الجامع الصغير وذكره في العرف الوردي بل قد لخص السيوطي الأحاديث التي جمعها أبو نعيم في المهدي وجعلها ضمن كتابه العرف الوردي وزاد عليها فيه أحاديث وآثارا كثيره جدا.
3- ومن الذين أفردوا أحاديث المهدي بالتأليف السيوطي فقد جمع فيه جزاء سماه العرف الوردي في أخبار المهدي وهو مطبوع ضمن كتابه الحاوى للفتاوى في الجزء الثاني منه قال في أوله “الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى هذا جزء جمعت فيه الأحاديث و الآثار الواردة في المهدي لخصت فيه الأربعين التي جمعها الحافظ أبو نعيم وزدت عليه ما فاته ورمزت عليه صورة”ك”.
والأحاديث والآثار التي أوردها السيوطي في شأن المهدي تزيد على المائتين تلك الأحاديث والآثار فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع وإذا أورد الحديث الواحد أضافه إلى كل من الذين خرجوه فيقول مثلا في الحديث الواحد أخرج أبو داوود وابن ماجة و الطبراني والحاكم عن أم سلمة سمعت رسول الله سلى الله عليه وسلم يقول: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة".
4- ومنهم الحافظ عماد الدين ابن كثير قال رحمه الله في كتابه الفتن والملاحم “وقد أفردت في ذكر المهدي جزءا على حدة ولله الحمد والمنة”.
5- ومنهم الفقيه بن حجر المكي وقد سمى مؤلفه ““القول المختصر في علامات المهدي المنتظر”“ ذكر ذلك البرزنجي في الإشاعة ونقل منه وكذلك السفاريني في لوامع الأنوار البهية وغيرهما.
6-(27/9)
ومنهم علي المتقي الهندي صاحب كنز العمال فقد ألف في شأن المهدي رسالة ذكرها البرزنجي في الإشاعة وذكر ذلك قبله أيضا ملا علي قاري الحنفي في المرقاة شرح المشكاة، وذكره شارح راموز الحديث.
7- ومن الذين ألفوا في شأن المهدي ملا علي قاري وسمىمؤلفه ““المشرب الوردي في مذهب المهدي”“ ذكره في الإشاعة ونقل جملة كبيرة منه.
8- ومنهم مرعي بن يوسف الحنبلي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين بعد الألف، وسمىمؤلفه ““فوائد(27/10)
ص -131- ... الفكر في ظهور المهدي المنتظر”“ ذكره السفاريني في لوامع الأنوار البهية وذكره صديق حسن في الإذاعة وغيرها.
9- ومن الذين ألفوا في شأن المهدي بالإضافة إلى مسألتي نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وخروج المسيح الدجال القاضي محمد بن علي الشوكاني وسمى مؤلفه ““التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح”“ ذكر ذلك صديق حسن في الإذاعة ونقل جملة منه و الشوكاني ممن ألف بشأنه، وحكى تواتر الأحاديث الواردة فيه.
10- ومنهم الأمير محمد بن اسماعيل الصنعاني صاحب سبل السلام المتوفى سنة 1182هـ قال صديق حسن في الإذاعة:
وقد جمع السيد العلامة بدر الملة المنير محمد بن اسماعيل الأمير اليماني الأحاديث القاضية بخروج المهدي وأنه من آل محمد صلى الله عليه وسلم وأنه يظهر في آخر الزمان ثم قال: “ولم يأت تعيين زمنه إلا أنه يخرج قبل خروج الدجال” انتهى.
ذكر بعض الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي ونقل كلامهم في ذلك
1 - من الذين حكوا على أحاديث المهدي بأنها متواترة الحافظ أبو الحسن محمد ابن الحسين الآبري السجزي صاحب كتاب مناقب الشافعي المتوفى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من الهجرة قال رحمه الله في محمد بن خالد الجندي راوي حديث "لا مهدي إلا عيسى ابن مريم" “ محمد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأن عيسى عليه السلام يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه” نقل ذلك عنه ابن القيم في كتابه المنار المنيف وسكت عليه ونقل عنه أيضا الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة محمد بن خالد الجندي وسكت عليه ونقل عنه ذلك وسكت عليه أيضا في فتح الباري في باب نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ونقل ذلك عنه أيضا السيوطي في آخر جزء العرف الوردي(27/11)
في أخبار المهدي وسكت عليه ونقل ذلك عنه مرعي بن يوسف في كتابه ““فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر”“ كما ذكر ذلك صديق حسن في كتابه ““الإذاعة لما كان و ما يكون بين يدي الساعة”“0
2- ومنهم محمد البر زنجي المتوفى سنة ثلاث بعد المائة والألف في كتابه الإشاعة لأشراط الساعة قال: “الباب الثالث في الأشراط العظام والأمارات القريبة التي تعقبها الساعة وهي أيضا كثيرة فمنها المهدي(27/12)
ص -132- ... وهو أولها واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر-إلى أن قال: ثم الذي في الروايات الكثيرة الصحيحة الشهيرة أنه من ولد فاطمة-إلى أن قال: تنبيه قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة بلغت حد التواتر المعنوي فلا معنى لإنكارها وقال في ختام كتابه المذكور- بعد الإشارة إلى بعض أمور تجري في آخر الزمان- :وغاية ماثبت بالأخبار الصحيحة الكثيرة الشهيرة التي بلغت التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي منها بل أولها خروج المهدي وأنه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما”.
3- ومن الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي الشيخ محمد السفاريني المتوفى سنة ثمان وثمانين بعد المائة والألف، في كتابه ““لوامع الأنوار البهية”“ قال: “وقد كثرت بخروجه-يعني المهدي-الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم -ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي واسماء بعض الصحابة الذين رووها- ثم قال: وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة”.
4- ومنهم القاضي محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة خمسين بعد المائتين والألف وهو صاحب التفسير المشهور ومؤلف نيل الأوطار قال في كتابه ““التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح”“ “والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك و لا شبهة بل يصدق وصف المتواتر على ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة جدا لها حكم(27/13)
الرفع إذ لا مجال للإجتهاد في مثل ذلك”، انتهى. وقال في مسألة نزول المسيح صلى الله عليه وسلم: “فتقرر أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة والأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام متواترة”0
5- ومنهم الشيخ صديق حسن القنوجي المتوفى سنة سبع بعد الثلاثمائة والألف قال في كتابه الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة “والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حد التواتر المعنوي وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم و المسانيد-إلى إن قال- لاشك(27/14)
ص -133- ... أن المهدي يخرج آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام لما تواتر من الأخبار في الباب واتفق عليه جمهور الأمة خلفا عن سلف إلا من لا يعتد بخلافه-إلى أن قال-فلا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود المنتظر المدلول عليه بالأدلة بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حد التواتر”.
6- وممن حكى تواتر أحاديث المهدي من المتأخرين الشيخ محمد بن جعفر الكتاني المتوفى سنة خمس وأربعين بعد الثلاثمائة و الألف قال في كتابه ““نظم المتناثر من الحديث المتواتر”“ “وقد ذكروا أن نزول سيدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ثم قال: والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة وكذا الواردة في الدجال وفي نزول سيدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام”.
ذكر بعض ما ورد في الصحيحين من الأحاديث مما له تعلق بشأن المهدي.
1- روى البخاري في صحيحه في باب نزول عيسى بن مريم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم".
2- وروى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثل حديثه عن البخاري، ورواه أيضا عن أبي هريرة بلفظ: "كيف أنتم إذا نزل بن مريم فيكم فأمكم" ورواه أيضا عن أبي هريرة بلفظ: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم فأمكم منكم" وفيه تفسير ابن أبي ذئب راوي الحديث لقوله "وأمكم منكم" بقوله فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
3- وروى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الامة".
فهذه الأحاديث التي وردت في الصحيحين تدل على(27/15)
أمرين:
أحدهما: أنه عند نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء يكون المتولي لأمرة المسلمين رجل منهم،
والثاني: أن حضور أميرهم للصلاة وصلاته بالمسلمين وطلبه من عيسى عليه الصلاة والسلام عند نزوله أن يتقدم ليصلي لهم يدل على صلاح في هذا الأمير وهدى، وهي وإن لم يكن فيها التصريح بلفظ المهدي إلا أنها تدل على صفات رجل صالح يؤم المسلمين في ذلك الوقت وقد جاءت الأحاديث في السنن و المسانيد وغيرها مفسرة لهذه الأحاديث التي في الصحيحين ودالة على أن ذلك الرجل الصالح يسمى محمد ابن عبد الله من ولد الحسن بن علي ويقال له(27/16)
ص -134- ... المهدي والسنة يفسر بعضها بعضا ومن الأحاديث الدالة على ذلك الحديث الذي رواه الحارث ابن أبي أسامة الذي في مسنده بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا فيقول: لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة" وهذا الحديث قال فيه ابن القيم في المنار المنيف إسناده جيد. انتهى. وهو دال على أن ذلك الأمير المذكور في صحيح مسلم الذي طلب من عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أن يتقدم للصلاة يقال له المهدي، وقد أورد الشيخ صديق حسن في كتابه الإذاعة جملة كبيرة من أحاديث المهدي جعل آخرها حديث جابر المذكور عند مسلم ثم قال عقبه: “وليس فيه ذكر المهدي ولكن لا محمل له ولأمثاله من الأحاديث إلا المهدي المنتظر كما دلت على ذلك الأخبار المتقدمة والآثار الكثيرة، ولما كان المقام لا يتسع لإيراد الكثير من الأحاديث الواردة في غير الصحيحين في شأن المهدي والكلام عليها رأيت الاقتصار هنا على إيراد بعضها مع الكلام على بعض أسانيدها:
ذكر بعض الأحاديث في المهدي الواردة في غير الصحيحين
1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبشركم بالمهدي يبعث على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحا" قال له رجل ما صحاحا قال "بالسوية ويملأ الله قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم غناء ويسعهم عدله" إلى آخر الحديث قال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد بأسانيد أبو يعلى باختصار كثير ورجالهما ثقات.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم المهدي فقال: "إن قصر فسبع وإلا فثمان وإلا فتسع وليملأن الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلما" قال الهيثمي رواه البزار ورجاله ثقات وفي بعضهم بعض الضعف.
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه(27/17)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع و إلا فثمان وإلا فتسع تنعم أمتي فيها نعمة لم ينعموا مثلها يرسل السماء عليهم مدرارا ولا تدخر الأرض شيئا من النبات والمال كدوس يقوم الرجل فيقول يا مهدي أعطني فيقول خذ" قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
4- عقد أبو داود في سننه كتابا قال في أوله: أول كتاب المهدي وقال في آخره آخر كتاب المهدي جعل تحته بابا واحدا أورد فيه ثلاثة عشر حديثا وصدر هذا الكتاب بحديث جابر ابن سمرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال هذا(27/18)
ص -135- ... الدين قائما حتى يكون عليكم إثنا عشر خليفة" الحديث قال السيوطي في آخر جزء العرف الوردي في أخبار المهدي إن في ذلك إشارة إلى ما قاله العلماء أن المهدي أحد الإثنى عشر وقد ذكر ذلك أيضا ابن كثير في تفسيره لقوله تعإلى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} في سورة المائدة كما يجيء ذكر كلامه، ويرى جماعة من العلماء ومنهم شارح الطحاوية أن الإثني عشر هم الخلفاء الراشدون و ثمانية انتهى.
5- ما رواه أبو داود في سننه من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي زرعة عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا". وهذا الحديث سكت عليه أبو داود و المنذري وكذا ابن القيم في التهذيب السنن وقد أشار إلى صحته في المنار المنيف وصححه ابن تيميه في منهاج السنة النبوية وقد أورده في مصابيح السنة في فصل الحسان وقال عنه الألباني في تخريج أحاديث المشكاة “وإسناده حسن”، انتهى.
والحديث مداره على عاصم بن أبي النجود وقد لخص في عون المعبود شرح مسند سنن أبي داود الأقوال التي قيلت فيه فقال: “وعاصم هذا هو ابن أبي النجود واسم أبي النجود بهدلة أحد القراء السبعة” قال: “أحمد بن حنبل كان رجلا صالحا وأنا اختار قراءته” وقال أحمد وأبو زرعة أيضا: “ثقة” وقال أبو حاتم: “محله عندي محل الصدق صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ” وقال أبو جعفر العقيلي: “لم يكن فيه إلا سوء الحفظ” وقال الدار قطني: “في حفظه شيء” وأخرج له البخاري في صحيحه مقرونا وأخرج له مسلم قال الذهبي: “ثبت في القراءة وهو في الحديث دون التثبت صدوق يهم وهو حسن الحديث” والحاصل أن عاصم بن بهدلة ثقة على رأي أحمد وأبي زرعة وحسن الحديث صالح الإحتجاج على رأي غيرهما ولم يكن فيه إلا سوء(27/19)
الحفظ فرد الحديث بعاصم ليس من دأب المنصفين على أن الحديث قد جاء من غير طريق عاصم أيضا فارتفعت عن عاصم مظنة الوهم والله أعلم. انتهى.
والحديث ذكره ابن خلدون في مقدمة تاريخه وقدح فيه من جهة عاصم ابن أبي النجود ملاحظا ما قيل فيه من سوء الحفظ وقال إن الجرح مقدم على التعديل وقد أنكر عليه ذلك، قال الشيخ أحمد شاكر في تخريج أحاديث المسند: “إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين إن الجرح مقدم على التعديل ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئا مما قال وقال أيضا إن عاصم ابن أبي النجود من أئمة القراء المعروفين ثقة في(27/20)
ص -136- ... الحديث أخطأ في بعض حديثه ولم يغلب خطؤه على روايته حتى ترد” قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: “أخبرنا عبك الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال سألت أبي عن عاصم ابن بهدلة فقال ثقة رجل صالح خير ثقة والأعمش أحفظ منه وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن عاصم بن بهدلة فقال هو صالح هو أكثر حديثا من أبي قيس الأودي وأشهر منه وأحب إلي من أبي قيس وقال سئل إلي عن عاصم بن أبي النجود وعبد الملك بن عمير فقال قدم عاصما على عبد الملك عاصم أقل اختلافاً عندي من عبد الملك، وقال سألت أبا زرعة عن عاصم بن بهدلة فقال ثقة قال فذكرته لأبي فقال ليس محله هذا أن يقال ثقة وقد تكلم فيه ابن علية فقال كأن كل من كان اسمه عاصما سيء الحفظ” قال الشيخ أحمد شاكر: “وهذا أكثر ما قيل فيه من الجرح، أفمثل هذا يطرح حديثه ويجعل سبيلا لإنكار شيء ثبت بالسنة الصحيحة من طرق متعددة من حديث كثير من الصحابة حتى لا يكاد يشك في صحته أحد كما ورد في روايته من عدل وصدق لهجة ولارتفاع احتمال الخطأ فمن كان في حفظ شيء بما ثبت عن غيره ممن هو مثله في العدل والصدق وقد يكون أحفظ منه ما هكذا تعلل الأحاديث” انتهى.
6- وقال أبو داود في سننه حدثنا سهل بن تمام بن بديع حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ويملك سبع سنين"، قال ابن القيم في المنار المنيف رواه أبو داود بإسناد جيد وأورده في مصابيح السنة في فصل الحسان وقال الألباني في تخريج أحاديث المشكاة وإسناده حسن ورمز لصحته السيوطي في الجامع الصغير.
7- وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي اسماء الرحبي عن(27/21)
ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلا لم يقتله قوم-ثم ذكر شيئا لا أحفظه- فقال فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله المهدي"، قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه: في الزوائد: “هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين”، انتهى. وقد أورد هذا الحديث بسنده الحافظ ابن كثير في كتاب الفتن والملاحم وقال: “وهذا إسناد قوي صحيح، ثم أورد(27/22)
ص -137- ... حديثا عن الترمذي فيه ذكر الرايات السود أيضا ثم قال وهذه الرايات ليست هي الرايات التي أقبل بها أبو مسلم الخرساني فاستلب بها دولة بني أمية في سنة اثنتين وثلاثين ومائة بل رايات سود أخر تأتي بصحبة المهدي وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني رضي الله عنه” انتهى.
8- قال أبو داود في سننه: حدثنا حمد بن إبراهيم حدثنا عبد الله جعفر الرقي حديثا أبو المليح الحسن بن عمر عن زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة. ." وأخرجه ابن ماجه عن سعيد ابن المسيب قال كنا عند أم سلمة فتذاكرنا المهدي فقالت سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: "المهدي من ولد فاطمة" وقد أورد هذا الحديث السيوطي في الجامع الصغير ورمز لصحته وأورده في مصابيح السنن في فصل الحسان وقال الألباني في تخريج أحاديث المشكاة وإسناده جيد.
9- قال ابن القيم في المنار المنيف وقال الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدثنا اسماعيل بن عبد الكريم حدثنا إبراهيم بن عقيل عن أبيه عن وهب بن منبه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا فيقول لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة" قال ابن القيم وهذا إسناد جيد، انتهى.
وبالرجوع إلى ما قاله أهل هذا الفن في سند الحديث وجدت أن السند متصل من أوله إلى آخره لا نقطاع فيه أما ما قيل عن كل راو من رواته:
فاسماعيل بن عبد الكريم قال عنه الحافظ في التقريب: “اسماعيل بن عبد الكريم ابن معقل بن منبه صدوق من التسعة” وذكر في تهذيب التهذيب أنه روى عن ابن عمه إبراهيم بن عقيل وعن غير إبراهيم بن عقيل هذا هو الذي روى عنه اسماعيل هذا الحديث في المهدي وذكر أنه روى عن اسماعيل المذكور جماعة منهم أحمد بن حنبل والحارث ابن أبي أسامة وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب أيضا(27/23)
قال النسائي: “ليس به بأس” وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن معين: “ثقة رجل صدق” وقال الحافظ ابن حجر: “وأما قول ابن القطان الفاسي لا يعرف فمردود عليه” وقال مسلمة بن قاسم: “جائز الحديث ولم يزد في خلاصة تهذيب الكمال عن قول ابن معين فيه ثقة صدوق وقال قال ابن سعد توفي سنة عشر ومائتين” انتهى. وهو من رجال أبي داود في سننه وابن ماجه في التفسير كما رمز لذلك الحافظ في تقريب التهذيب.
والثاني من رجال سند الحديث إبراهيم بن عقيل بن معقل الصنعاني ابن عم اسماعيل المتقدم ذكره قال الحافظ في التقريب: “صدوق من الثامنة” ورمز لكونه من رجال أبي داود وقال(27/24)
ص -138- ... في تهذيب التهذيب: “روى عن أبيه وعنه أحمد بن حنبل وابن عمه اسماعيل بن عبد الكريم وغيرهم قال ابن معين لم يكن به بأس وقال المعجلي ثقة وقال الحافظ قلت وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه وكذا ابن حبان والحاكم وذكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين قال إبراهيم ثقة وأبوه ثقة وقال ابن أبيه وهب بن منبه” انتهى.
الثالث من رجال سند الحديث عقيل بن معقل قال الحافظ في التقريب: “هو ابن أخي وهب بن منبه وقال صدوق من السابعة” ورمز لكونه من رجال أبي داود ذكر في تهذيب التهذيب أنه روى عن عميه همام ووهب وعنه إبنه إبراهيم وأناس آخرون سماهم وذكر أنه وثقة أحمد بن حنبل وابن معين وقال وذكره ابن حبان في الثقات وعلق له البخاري عن جابر في تفسير سورة النساء أثرا في الكهان وقد جاء موصولا من رواية عقيل هذا عن وهب وعنه إبنه إبراهيم وعبد الرزاق قال أحمد ثقة قرأ التوراة والإنجيل” انتهى.
الرابع من رجال سند الحديث وهب بن منبه بن كامل اليماني قال في التقريب: “ثقة من الثالثة” ورمز لكونه من رجال الصحيحين وأبي داود و الترمذي والنسائي وابن ماجه في التفسير.
وقال في تهذيب التهذيب روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وابن عمرو ابن شعيب وأبي خلفية البصري و أخيه همام ابن منبه وغيرهم وذكر أنه روى عنه ابناه عبد الله وعبد الرحمن وابناء أخيه عبد الصمد وعقيل بن معقل بن منبه وقال قال: “عبد الله ابن أحمد بن حنبل عن أبيه كان من ابناء فارس” وقال العجلي: “تابعي ثقة وكان على قضاء صنعاء” وقال أبو زرعة و النسائي: “ثقة” وذكره ابن حبان في الثقات، انتهى. وقال أحمد ابن حنبل “وكان يهتم بشيء من القدر ثم رجع عنه” وقال الحافظ في تهذيب التهذيب ايضا روى له البخارى حديثا واحدا من روايته عن أخيه عن أبي هريرة “ليس أحد أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب ولا أكتب” وقال قلت: “وقال عمرو بن علي الغلاس كان ضعيفا” انتهى. أقول(27/25)
وذكر شارح الطحاوية عن وهب ابن منبه أنه قال: “نظرت في القدر فتحيرت ثم نظرت فيه فتحيرت ووجدت أن أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به”
أما الحارث ابن أبي أسامة صاحب المسند فقد ترجم له الذهبي في الميزان وقال فيه: “وكان حافظا عارفا بالحديث عالي الإسناد بالمرة تكلم فيه بلا حجة”، قال الدار قطني: “قد اختلف فيه وهو عندي صدوق” وقال ابن حزم: “ضعيف ولينه بعض البغاددة لكونه يأخذ على(27/26)
ص -139- ... الرواية” انتهى. وترجم له الذهبي أيضا في تذكرة الحفاظ وسمى جماعة روى عنهم وجماعة رووا عنه ثم قال: “وثقة إبراهيم الحربي مع علمه بأنه يأخذ الدراهم وأبو حاتم وابن حبان وقال الدار قطني صدوق وأما أخذ الدراهم على الرواية فقد كان فقيرا كثير البنات وقال أبو الفتح الأزدي وأبي حزم ضعيف” انتهى.
“وقال ابن العماد في شذرات الذهب وفيها أي في سنة 282هـ توفي الحافظ أبو محمد الأحرث أبي أسامة التهمي البغدادي صاحب المسند يوم عرفة وله 96سنة سمع عن ابن عاصم وعبد الرحمن بن عطاء وطبقتهما قال الدار قطني صدوق وقيل فيه لين كان لفقره يأخذ على الحديث أجرا”
هؤلاء سند الحديث من أوله إلى جابر رضي الله عنه وهو متصل ولفظ حديث جابر هذا قريب من لفظ حديثه عند مسلم في صحيحه حيث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعال صلى لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الامة"، فهذا الحديث الذي أورده ابن القيم من مسند الحارث ابن أبي أسامة بالسند الذي قال عنه إنه جيد وقد سمعتم حاصل ما ذكر عن رجاله أقول هذا الحديث فيه وصف الأمير المذكور بأنه المهدي فيكون هذا الحديث وغيره من الأحاديث الكثيرة الدالة على خروج المهدي آخر الزمان مفسرة للمراد بهذا الحديث الذي أورده مسلم وللأحاديث الأخرى التي في معناه عند البخاري ومسلم كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
7- ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها وحكاية كلامهم في ذلك.
قال الحافظ أبو جعفر العقيلى المتوفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة “إن في المهدي أحاديث جياد” قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة على بن نفيل بن زارع النهدي قلت “ذكره العقيلي في كتابه وقال لا يتابع على حديثة في المهدي ولا يعرف إلا به قال وفي المهدي أحاديث جياد من غير(27/27)
هذا الوجه” انتهى.
ويرى الإمام ابن حبان البستي المتوفى سنة354 أن الأحاديث الواردة في المهدي مخصصة لحديث لا يأتي عليكم زمان إلا و الذي بعده شر منه قال الحافظ بن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن وهو حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" “قال واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي وأنه يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما” انتهى.(27/28)
ص -140- ... وقال الخطابي 388هـ رحمه الله في الكلام على حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان وتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة الخ. ." قال “ويكون ذلك في زمن المهدي أو عيسى عليهما الصلاة والسلام أو كليهما” ذكر ذلك ملا علي قاري في المرقاة شرح المشكاة وقال” والأخير هو الأظهر لظهور هذا الأمر في خروج الدجال وهو في زمنهما” وذكر ذلك المبارك فوري صاحب تحفة الاحوذى في الكلام على شرح هذا الحديث.
وقال الإمام البيهقي المتوفى سنة 458هـ بعد كلامه على تضعيف حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" قال والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح البتة إسنادا نقل ذلك عنه الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة محمد بن خالد الجندي راوي حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" ونقله عنه أيضا ابن القيم في المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف.
وقد عقد القاضي عياض المتوفى 544 هـ في كتابه الشفاء بابا لمعجزاته صلى الله عليه وسلم يشتمل على ثلاثين فصلا قال في القسم الأول من كتابه المذكور: “الباب الرابع فيما أظهره الله على يديه صلى الله عليه وسلم من المعجزات وشرفه به من الخصائص والكرامات قال في أوائل الكلام في هذا الباب: أمنيتنا أن نثبت في هذا الباب أمهات معجزاته ومشاهير آياته لتدل على عظيم قدره عند ربه وأتينا منها بالمحقق والصحيح الإسناد أكثره مما بلغ القطع أو كاد وأضفنا إليه بعض ما وقع في كتب مشاهير الأئمة ثم قال في الفصل الثالث والعشرين فصل ومن ذلك ما اطلع عليه من الغيوب ومايكون. . قال في أوله: والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره ولا ينزف غمره، أورد في هذا الفصل جملة كبيرة من الأمور المستقبلة التي أخبر بها الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وذكر من بينها خروج المهدي”.
وقال الإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي صاحب التفسير المشهور المتوفى(27/29)
سنة 671هـ في كتابه التذكرة في أمور الآخرة بعد ذكر حديث "ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم" “قال إسناده ضعيف والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث فالحكم بها دونه وقال يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم "ولا مهدي إلا عيسى بن مريم" أي لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى قال وعلى هذا تجتمع الأحاديث ويرتفع التعارض، نقل ذلك عنه السيوطي في آخر جزء العرف الوردي في أخبار المهدي” وقال شيخ الإسلام ابن تيميه 728 هـ في كتابه منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية”ج4-211”.(27/30)
ص -141- ... “فصل وأما الحديث الذي رواه-أي الرافضي الذي ألف كتابه للرد عليه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم- "يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا" وذلك هو المهدي، في الجواب أن الأحاديث التي يحتج بها على الخروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود و الترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة وفيه المهدي من عترتي من ولد فاطمة ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه "يملك الأرض سبع سنين" ورواه عن علي رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن وقال إن أبني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض قسطا وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا مهدي إلا عيسى ابن مريم" وهذا الحديث ضعيف وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه، ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد بن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به وليس في مسند الشافعي وقد قيل إن الشافعي لم يسمعه من الجندي وإن يونس لم يسمعه من الشافعي، الثاني أن الإثنى عشرية الذين ادعوا إن هذا مهديهم اسمه محمد بن الحسن والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله ولهذا حذفت طائفة لفظ الأب حتى لا يناقض ما كتبت وطائفة حرفته وقالت جده الحسين وكنيته أبو عبد الله فمعناه محمد ابن أبي عبد الله وجعلت الكنية اسما وممن سلك(27/31)
هذا ابن طلحة في كتابه الذي سماه غاية السول في مناقب الرسول ومن له أدنى نظر يعرف أن هذا تحريف صميم وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يفهم أحد من قوله يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي إلا أن اسم أبيه عبد الله وهل يدل هذا اللفظ على أن جده كنيته أبو عبد الله ثم أي تمييز يحصل له بهذا فكم من ولد الحسين من اسمه محمد وكل هؤلاء يقال في أجدادهم محمد بن أبي عبد الله كما قيل في هذا وكيف يعدل من يريد البيان إلى من اسمه محمد بن الحسين فيقول اسمه محمد بن عبد الله ويعني بذلك أن جده أبو عبد الله وهذا كان تعريفه بأنه محمد بن الحسن أو ابن(27/32)
ص -142- ... أبي الحسن لأن جده على كنيته أبو الحسن أحسن من هذا وأبين لمن يريد الهدى والبيان وأيضا فإن المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين كما تقدم لفظ حديث علي رضي الله عنه”.
وقد عقد ابن القيم رحمه الله في آخر كتابه المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف فصلا في الكلام على أحاديث المهدي وخروجه والجمع بينها وبين حديث لا مهدي إلا عيسى ابن مريم، قال فيه:
“فأما حديث لا مهدي إلا عيسى ابن مريم فرواه ابن ماجه في سننه عن يوسف ابن عبد الأعلى عن الشافعي عن محمد بن خالد الجندي عن إبان بن صاح عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما تفرد به محمد بن خالد قال أبو الحسين محمد بن الحسين الآبري في كتاب مناقب الشافعي: محمد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه، وقال البيهقي تفرد به محمد بن خالد هذا وقد قال الحاكم أبو عبد الله هو مجهول وقد اختلف عليه في إسناده فروي عنه عن إبان ابن أبي عياش عن الحسن مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول-عن إبان بن أبي عياش-وهو متروك-عن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم-وهو منقطع-والأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادا، قال ابن القيم قلت كحديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجل مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن صحيح قال-يعني الترمذي-وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة وقال حسن صحيح(27/33)
انتهى ثم قال ابن القيم وفي الباب عن حذيفة ابن اليمان وأبي أمامة الباهلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص وثوبان وأنس بن مالك وجابر وابن عباس وغيرهم ثم أورد عدة أحاديث رواها بنص أهل السنن و المسانيد وغيرها منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف أورده للإستئناس به.
ثم قال: وهذه الأحاديث أربعة أقسام صحاح وحسان وغرائب وموضوعة وقد اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال:
أحدها: أنه المسيح ابن مريم-وهو المهدي على(27/34)
ص -143- ... الحقيقة-واحتج أصحاب هذا تحديث محمد بن خالد الجندي المتقدم وقد بينا حاله وأنه لا يصح ولو صح لم يكن به حجة لأن عيسى أعظم مهدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الساعة وقد دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على نزوله على المنارة البيضاء شرقي دمشق وحكمه بكتاب الله وقتله اليهود والنصارى ووضعه الجزية وإهلاك أهل الملل في زمانه فيصح أن يقال لا مهدي في الحقيقة سواه وإن كان غيره مهديا كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا ما وفى وجه صاحبه كما يصح أن يقال إنما المهدي عيسى بن مريم يعني المهدي بالكامل المعصوم.
القول الثاني: أنه المهدي الذي ولي من بني العباس وقد انتهى زمانه ثم ذكر حديثين منهما ذكر مجيء الرايات السود من قبل المشرق من جهة خراسان وأشار إلى ضعفهما ثم قال مشيرا إلى أولها وثانيها وهذا والذي قبله لو صح لم يكن فيه دليل على المهدي الذي تولىمن بني العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان بل هو مهدي من جملة المهديين وعمر بن عبد العزيز كان مهديا بل هو أولى باسم المهدي منه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أن عمر بن عبد العزيز منهم ولا ريب أنه كان راشدا مهديا ولكن ليس بالمهدي الذي يخرج في آخر الزمان فالمهدي في جانب الخير والرشد كالدجال في جانب الشر والضلال وكما أن بين يدي الدجال الأكبر صاحب الخوارق دجالون كذابون فكذلك بين يدي المهدي الأكبر مهديون راشدون.
القول الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من ولد الحسن ابن علي يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورا وظلما فيملأها قسطا وعدلا وأكثر الأحاديث على هذا تدل وفي كونه من ولد الحسن سر لطيف وهو أن الحسن رضي الله عنه ترك الخلافة لله فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق المتضمن للعدل الذي يملأ(27/35)
الأرض وهذه سنة الله في عباده أنه من ترك شيئا لأجله أعطاه الله وأعطى ذريته أفضل منه وهذا بخلاف الحسين رضي الله عنه فإنه حرص عليها وقاتل عليها فلم يظفر بها والله أعلم ثم أورد بعض الأحاديث في خروج المهدي ثم قال وأما الرافضة الإمامية فلهم قول رابع وهو أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار الذي يورث العصا ويختم الغضا دخل سرداب سامرا طفلا صغيرا من أكثر من خمسمائة(27/36)
ص -144- ... سنة-بالنسبة لزمان ابن القيم المتوفى عام752هـ-فلم تره بعد ذلك عين ولم يحس فيه بخبر ولا أمر وهم ينتظرونه كل يوم يقفون بالخيل على باب السرداب ويصيحون به أن يخرج إليهم أخرج يا مولانا، ثم يرجعون بالخيبة والحرمان فهذا دأبهم ودأبه ولقد أحسن من قال:
ما آن للسرداب أن يلد الذي ... كلمتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... كلمتم العنقاء و الغيلانا
ولقد أصبح هؤلاء عارا على بني آدم وضحكة ليسخر منهم كل عاقل” انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وقال ابن القيم أيضا في كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: "ومن تلاعبه-يعني الشيطان بهم-يعني اليهود-أنهم ينتظرون قائما من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الظلالة الدجال فهم أكثر اتباعه وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم عليه الصلاة و السلام يقتلهم ولا يبقي منهم أحدا ثم قال والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء، لكسر الصليب وقتل الخنزير وقتل أعدائه من اليهود وعباده من النصارى وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة يملا الأرض عدلا كما ملئت جورا" انتهى.
وقال أبو الحسن السمهودي المتوفى سنة 911هـ "ويتحصل مما ثبت في الأخبار عنه-أي المهدي- أنه من ولد فاطمة وفي أبي داود أنه من ولد الحسن والسر فيه ترك الحسن الخلافة لله شفقة على الأمة فجعل القائم بالخلافة-الحق-عند شدة الحاجة وامتلاء الأرض ظلما-من ولده، وهذه سنة الله في عباده أنه يعطي لمن ترك شيئا من أجله أفضل مما ترك أو ذريته وقد بالغ الحسن في ترك الخلافة ونهى أخاه عنها وتذكر ذلك ليلة مقتله فترحم على أخيه وما روي من كونه من ولد الحسين فواه جدا" انتهى. بواسطة نقل المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي.
وقال ابن حجر المكي المتوفى سنة 974هـ في كتابه القول المختصر في علامات(27/37)
المهدي المنتظر، "الذي يتعين اعتقاده ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي المنتظر الذي يخرج الدجال وعيسى في زمانه ويصلي عيسى خلفه وأنه المراد حيث أطلق المهدي" انتهى. بواسطة نقل البرزنجي في الإشاعة لأشراط الساعة.
وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير رحمه الله في كتاب الفتن والملاحم "فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان وهو أحد الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين وليس هو(27/38)
ص -145- ... بالمنتظر الذي تزعم الرافضة وترتجي ظهوره من سرداب سامراء فإن ذلك مالا حقيقة له و لا عين ولا أثر ويزعمون أنه محمد بن الحسن العسكري وأنه دخل السرداب وعمره خمس سنين، وأما ما سنذكره فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يكون في آخر الدهر وأظن ظهوره يكون قبل نزول عيسى بن مريم كما دلت على ذلك الأحاديث ثم ساق عدة أحاديث من السنن وغيرها منها بعض أحاديث الرايات السود وحديث علي رضي الله عنه في ابنه الحسن وأنه يخرج من صلبه رجل يسمى باسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ففي هذا السياق إشارة إلى ملك بني العباس كما تقدم التنبيه على ذكر ذلك عند ابتداء ذكر ولايتهم في سنة اثنين وثلاثين ومائة وفيه دلالة على أنه يكونها لمهدي بعد دولة بني العباس وأنه يكون من أهل البيت من ذرية فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد الحسن لا الحسين كما تقدم النص على ذلك في الحديث المروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإنه أعلم ثم قال وقال ابن ماجه حدثنا محمد بن يحي وأحمد بن يوسف قالا حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلا لم يقتله أحدا ثم ذكر شيئا لا أحفظه فقال فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله المهدي" تفرد به ابن ماجه وهذا إسناد قوي صحيح والمراد به بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة يقتتل عنده ليأخذوه ثلاثة من أولاد الخلفاء حتى يكون آخر الزمان فيخرج المهدي ويكون ظهوره من بلاد المشرق لا من سرداب سامراء كما يزعمه جهلة الرافضة من أنه موجود فيه الآن وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان فإن هذا نوع من الهذيان وقسط كبير من الخذلان شديد من الشيطان إذ(27/39)
لا دليل على ذلك ولا برهان لامن كتاب ولا سنة ولا معقول صحيح ولا استحسان، وقال الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا رشيد بن سعد عن يونس عن ابن شهاب الزهري عن قتيبة بن ذؤيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شيء حتى تنصب بايليا" هذا الحديث غريب وهذه الرايات ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلب بها دولة بني أمية في سنة اثنين وثلاثين ومائة بل رايات سود أخر تأتي صحبة المهدي وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني رضي الله عنه يصلحه الله في ليلة واحدة أي(27/40)
ص -146- ... يتوب عليه ويوفقه و يلهمه ويرشده بعد أن لم يكن كذلك ويؤيده بناس من أهل الشرق ينصرونه ويقيمون سلطانه وتكون راياتهم سودا أيضا وهو زين عليه الوقار لأن راية الرسول صلى الله عليه وسلم سوداء يقال لها العقاب وقد ركزها خالد بن الوليد رضي الله عنه على الثنية التي شرقي دمشق حتى أقبل من العراق فعرفت بها الثنية فهي إلى الآن يقال لها ثنية العقاب.
وقد كانت عقابا على الكفار من نصارى الروم ولمن كان معهم وبعدهم إلى يوم الدين ولله الحمد، وكذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إلى مكة وعلى رأسه المغفر وكان أسود وجاء في الحديث أنه كان متعمما بعمامة سوداء فوق البياض صلوات الله وسلامه عليه، والمقصود أن المهدي الممدوح الموعود بوجوده في آخر الزمان يكون أصل ظهوره وخروجه من ناحية المشرق ويبايع له عند البيت كما دل على ذلك بعض الأحاديث وقد أفردت في ذكر المهدي جزءا على حدة ولله الحمد والمنة، وقال ابن ماجه أيضا حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا محمد بن مروان العقيلي حدثنا عمارة ابن أبي حفصة عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع والا فتسع تنعم فيه أمتي نعمة لم يسمعوا مثلها تؤتي الأرض أكلها ولا تدخر منه شيئا والمال يومئذ كدوس يقوم الرجل فيقول يا مهدي أعطني فيقول خذ".
وقال الترمذي حدثنا محمد جعفر حدثنا شعبة سمعت زيد العمي سمعت الصديق الناجي يحدث عن أبي سعيد الخدري قال خشينا أن يكون بعد نبينا حدث فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن في أمتي المهدي يخرج فيعيش خمسا أو سبعا أو تسعا-زيد الشاك-قال قلنا وما ذاك قال سنين قال يجيء إليه الرجل فيقول يا مهدي أعطني قال فيجيء له في ثوبه ما استطاع أن يحمله" هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو الصديق الناجي اسمه بكر بن(27/41)
عمرو ويقال بكر بن قيس وهذا دليل على أن أكثر مدته تسع وأقلها خمس أو سبع ولعله هو الخليفة الذي يحثي المال حثيا والله أعلم.
وفي زمانه تكون الثمار كثيرة و الزروع غزيرة والمال وافر والسلطان قاهر والدين قائم والعدو راغم والخير في أيامه دائم ثم أورد حديثين أحدهما عن الإمام محمد الثاني عن ابن ماجه ثم قال فأما الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه حيث قال رحمه الله تعإلى حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا محمد ابن إدريس الشافعي حدثني محمد بن خالد الجندي عن إبان بن(27/42)
ص -147- ... صالح عن الحسن عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا إلا إدبارا ولا الناس إلا شحا ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ولا المهدي إلا عيسى بن مريم" فإنه حديث مشهور عن ابن خالد الجندي الصنعاني المؤذن شيخ الشافعي وروى عنه غير واحد أيضا وليس هو بمجهول كما زعمه الحاكم بل قد روي عن ابن معين أنه وثقه ولكن من الرواة من حدث به عنه عن إبان بن أبي عياش عن الحسن البصري مرسلا وذكر ذلك شيخنا في التهذيب عن بعضهم أنه رأى الشافعي في المنام وهو يقول كذب علي يونس بن عبد الأعلى ليس هذا من حديثي قلت: يونس بن عبد الأعلى الصدفي من الثقات لا يطعن فيه بمجرد منام، وهذا الحديث فيما يظهر بادي الرأي مخالف للأحاديث التي أوردناها في إثبات مهدي غير عيسى بن مريم أما قبل نزوله كما هو الأظهر والله أعلم، وأما بعده وعند التأمل لا ينافيها بل يكون المراد من ذلك أن المهدي حق المهدي هو عيسى بن مريم ولا ينفي ذلك أن يكون غيره مهديا أيضا والله أعلم" انتهى ما نقلته من كتاب الفتن والملاحم لابن كثير رحمه الله.
وقال في تفسيره عند تفسير قوله تعالى في سورة المائدة: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} بعد ذكره الكلام عن هؤلاء النقباء قال: "وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة كان منهم اثنا عشر نقيبا ثلاثة من الأوس وهم أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر ويقال بدله أبو الهيثم ابن التيهان رضي الله عنه وتسعة من الخزرج وهم أمامة أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك بن العجلان والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن حرام والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم وقد ذكرهم كعب ابن مالك في شعر له كما أورد ابن اسحاق رحمه الله والمقصود أن(27/43)
هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.
قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة قال عبد الله ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال: نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل" هذا حديث غريب(27/44)
ص -148- ... من هذا الوجه وأصل الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي فسألت أبي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلهم من قريش" وهذا وهذا لفظ مسلم ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحا يقيم الحق ويعدل فيهم ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنه يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامر فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية بل هو من هوس العقول السخفية وتوهم الخيالات الضعيفة وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم وفي التوراة البشارة باسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن يقيم من صلبه اثني عشر عظيما وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة وببعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر فيتشيع كثير منهم جهلا وسفها لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى.
وقال الشيخ ملا علي قاري الحسيني المتوفى سنة 1014في شرحه للفقه الأكبر. . للإمام أبي حنيفة عند قول أبي حنيفة رحمه الله، وخروج الدجال و يأجوج و مأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام قال: “وفي نسخة(27/45)
قدم طلوع الشمس على البقية وعلى كل تقرير فالواو لمطلق الجمع وإلا فترتيب القضية أن المهدي عليه السلام يظهر أولا في أرض الحرمين ثم يأتي بيت المقدس فيأتي الدجال ويحصره في ذلك الحال فينزل عيسى عليه الصلاة والسلام من المنارة الشرقية في دمشق الشام ويجيء إلى قتال الدجال فيقتله بضربة في الحال فإنه يذوب كالملح عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء فيجتمع عيسى عليه الصلاة والسلام بالمهدي رضي الله عنه وقد أقيمت الصلاة فيشير المهدي لعيسى بالتقدم فيمتنع معللا(27/46)
ص -149- ... بأن هذه الصلاة أتيحت لك فأنت أولى بأن تكون الإمام في هذا المقام ويقتدي به ليظهر متابعة لنبينا صلى الله عليه وسلم-إلى أن قال وفي شرح العقائد الأصح أن عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل وإمامته أولى" انتهى قال علي قاري: "ولا ينافي ما قدمناه كما لا يخفى ثم ذكر الأمور الأخرى مرتبة وهي خروج يأجوج و مأجوج وموت المؤمنين وطلوع الشمس من مغربها ورفع القرآن".
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي صاحب فيض القدير شرح الجامع الصغير المتوفى سنة 1032هـ قال في كتابه المذكور "وأخبار المهدي كثيرة شهيرة أفردها غير واحد في التأليف-إلى أن قال-تنبيه: أخبار المهدي لا يعارضها خبر"لا مهدي إلا عيسى ابن مريم" لأن المراد به كما قال القرطبي لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى بن مريم وقال المناوي عند حديث: "لن تهلك أمة أنا في أولها وعيسى بن مريم في آخرها والمهدي في وسطها" أراد بالوسط ما قبل الآخر لأن نزوله عليه السلام لقتل الدجال يكون في زمن المهدي ويصلي عيسى خلفه كما جاءت به الأخبار، وجزم به جمع من الأخيار وذكر عند حديث "منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه" أنه بعد نزوله يجيء فيجد الإمام المهدي يريد الصلاة فيتأخر ليتقدم فيقدمه عيسى عليه الصلاة والسلام ويصلي خلفه قال فأعظم به فضلا وشرفا لهذه الأمة ثم قال ولا ينافي ما ذكر في هذا الحديث ما اقتضاه بعض الآثار من أن عيسى هو الإمام بالمهدي وجزم به السعد التفتازاني وعلله بأفضليته لإمكان الجمع بأن عيسى يقتدي بالمهدي أولا ليظهر أنه نزل تابعا لنبينا حاكما بشرعه ثم بعد ذلك يقتدي المهدي به على أصل القاعدة من اقتداء المفضول بالفاضل" انتهى وقال الشيخ محمد السفاريني في كتابه: لوامع الأنوار البهية و سواطع الأسرار الأثرية الذي شرح فيه نظمه في العقيدة المسمى "الدرة المعنية في عقد الفرقة المرضية":(27/47)
وما أتى بالنص من أشراط ... فكله حق بلا شطاط
منها الإمام الخاتم النصيح ... محمد المهدي والمسيح
منها أي من أشراط الساعة التي وردت بها الأخبار وتواترت في مضمونها الآثار أي من العلامات العظمى وهي أولها أن يظهر الإمام المقتدى بأقواله وأفعاله الخاتم للأئمة فلا إمام بعده كما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الخاتم للنبوة والرسالة فلا نبي ولا رسول بعده، الفصيح اللسان لأنه من صحيح العرب أهل الفصاحة والبلاغة.-ثم قال- وقوله محمد المهدي،هذا اسمه وأشهر أوصافه فأما اسمه فمحمد جاء ذلك في عدة أخبار وفي بعضها أن اسمه واسم(27/48)
ص -150- ... أبيه عبد الله فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي" رواه أبو نعيم من حديث أبي هريرة ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من النهار إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" وروى نحوه الترمذي وأبو داود و النسائي و البيهقي وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفي رواية من حديث ابن مسعود أيضا "لا تذهب الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما" أخرجه الطبراني في معجمه الصغير و أخرجه الترمذي ولفظه: "حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي" وقال حديث حسن صحيح، وكذلك أخرجه أبو داود في سننه وروى ابن مسعود أيضا رضي الله عنه رفعه اسم المهدي محمد، وفي مرفوع حذيفة محمد بن عبد الله ويكنى أبا عبد الله ومن اسمائه أحمد بن عبد الله كما في بعض الروايات-إلى أن قال: وأما تسميته ووصفه في عدة أخبار-إلى أن قال- وأما كنيته فأبو عبد الله وأما نسبة فإنه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن الروايات الكثيرة و الأخبار الغزيرة ناطقة أنه ولد فاطمة البتول ابنة النبي الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وعن أولادها الطاهرين وجاء في بعض الأحاديث أنه من ولد العباس والأول أصح قال ابن حجر في كتابه القول المختصر: "وأما ماروي "أن المهدي من ولد العباس عمي" فقال الدار قطني حديث غريب تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم قال ولا ينافيه خبر الرافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا "ألا أبشرك يا عم إن من ذريتك الأصفياء ومن عترتك الخلفاء ومنك المهدي في آخر الزمان به ينشر الله الهدى و يطفي نيران الضلالة إن الله فتح بنا هذا الأمر وبذريتك يختم"-ثم أورد ابن حجر عدة أخبار في هذا المعنى-ثم قال "فهذه الأخبار كلها لا تنافي أن(27/49)
المهدي من ذرية رسول الله سلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة الزهراء لأن الأحاديث التي فيها أن المهدي من ولدها أكثر وأصح بل قال بعض حفاظ الأمة وأعيان الأئمة أن كون المهدي من ذريته صلى الله عليه وسلم مما تواتر عنه ذلك فلا يسوغ العدول ولا الإلتفات إلى غيره وقال ابن حجر يمكن الجمع بأن يكون من ذريته صلى الله عليه وسلم وللعباس فيه ولادة من جهة أن في أمهاتها عباسية".(27/50)
ص -151- ... والحاصل أن للحسن في المهدي الولادة العظمى لأن أحاديث كونه من ذريته أكثر وللحسين فيه ولادة أيضا وللعباس فيه ولادة أيضا ولا مانع من اجتماع ولادات وتعددات في شخص واحد من جهات مختلفة وبالله التوفيق. ثم ذكر الشيخ السفاريني رحمه الله أن خمس فوائد تكلم على كل واحدة منها الأولى في حليته وصفته والثانية في سيرته والثالثة في علامات ظهوره والرابعة في الإشارة إلى بعض الفتن الواقعة قبل خروجه والخامسة في مولده وبيعته ومدة ملكه ومتعلقات ذلك ثم قال بعد الإنتهاء من الكلام على الفوائد الخمس: “تنبيه قد كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل لا مهدي إلا عيسى والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه سلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي واسماء بعض الصحابة الذين رووها ثم قال وقد روي عما ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم روايات متعددة وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعة العلم القطعي فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة”.
وقال الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي المتوفى سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف في كتابه صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان قال: “وبعد انقراض قرن الصحابة أتى أمته ما يوعدون من الحوادث والبدع وكلما أحدثت بدعة رفع مثلها من السنة ولكن في قرن التابعين واتباع التابعين لم تظهر البدع ظهورا فاشيا وأما بعد قرن اتباع التابعين فقد تغيرت الأحوال تغيرا فاحشا وغلبت البدع وصارت السنة غريبة واتخذ الناس البدعة سنة والسنة بدعة ولا تزال السنة في المستقبل غريبة إلا ما استثني من زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام إلى أن تقوم الساعة على شرار الناس” انتهى.
وقال الشيخ شمس الحق العظيم أبادي(27/51)
المتوفى سنة1329 في حاشيته المسماة عون المعبود على سنن أبي داود قال:
“وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم أبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم و الطبراني وأبو يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي وابن عباس وابن عمر و طلحة وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث ابن جزء، رضي الله عنهم وإسناد أحاديث هؤلاء بين صحيح وحسن وضعيف وقد بالغ(27/52)
ص -152- ... الإمام المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها ولم يصب بل أخطأ" انتهى. وقال الشيخ محمد أنور شاه الكشميري 1352هـ في كتابه عقيدة الإسلام "فائدة" "أخرج مسلم في نزول عيسى عليه السلام عن جابر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق الظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة" قال الكشميري المراد به أنه لا يؤم في تلك الصلاة حتى لا يتوهم أن الأمة المحمدية سلبت الولاية فبعد تقرير ذلك في أول مرة يكون الإمام هو عيسى عليه الصلاة والسلام لكونه أفضل من المهدي فالجواب الأصلي لأمير المسلمين هو قوله: "لا فإنها لك أقيمت" كما عند ابن ماجه وغيره عن أبي أمامة وبعد إن كانت أقيمت له لو تقدم عيسى صلى الله عليه وسلم أوهم عزل الأمير بخلاف ما بعد ذلك وهذا كإشارة نبينا صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه بعد ما كان شرع في الصلاة أن لا يتأخر يعني أؤم في هذه الصلاة لأنها لك أقيمت ثم ذكر قوله "تكرمة الله هذه الأمة" لفائدة زائدة وهي أن الأمة على ولايتها وعيسى عليه السلام أيضا حينئذ منهم لا التعليل لعدم إمامته حتى يتوهم استمرار عدمها" انتهى.
وقال الشيخ عبد الرحمن المباركفوري 1353في تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي في باب ما جاء في المهدي:
قلت: الأحاديث الواردة في خروج المهدي كثيرة جدا ولكن أكثرها ضعاف ولا شك في أن حديث عبد الله بن مسعود الذي في هذا الباب لا ينحط عن درجة الحسن وله شواهد كثيرة من بين حسان وضعاف فحديث عبد الله بن مسعود هذا مع شواهده وتوابعه صالح الإحتجاج بلا مريه فالقول بخروج المهدي وظهوره هو الحق والصواب والله أعلم.
هذه بعض الكلمات التي وفقت عليها لبعض أهل السنة والأثر في شأن المهدي والإحتجاج(27/53)
بالأحاديث الواردة فيه، وأعني بأهل السنة والأثر أهل الحديث ومن سار على منوالهم ممن جعل مستنده في الإعتقاد كتاب الله وما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم دون الاعتراض على ذلك بخيال يسميه صاحبه معقولا، وليس كل الذين نقلت كلامهم فيما تقدم بهذه المثابة بل منهم من هو على المعتقد الذي رجع عنه أبو الحسن الأشعري رحمه الله وبعض هؤلاء ممن له عناية بالآثار وتمييز صحيحها من ضعيفها وذلك أن الحق يقبل من كل من جاء به وليعلم أن الأحاديث في المهدي قد تلقتها الأمة من أهل السنة والأشاعرة بالقبول إلا من شذ.(27/54)
ص -153- ... 8- ذكر من وقفت عليه ممن حكي عنه إنكار أحاديث المهدي أو التردد في شأنه مع مناقشة كلامه باختصار. فإن قال قائل:قد أكثرت من النقل عن أهل العلم في إثبات خروج المهدي في آخر الزمان فلماذا؟ وهل وقفت على ذكر إنكار أحد لخروج المهدي أو التردد في شأنه على الاقل؟.
والجواب عن السؤال الأول هو: أنني أوردت بعض ما وقفت عليه من كلام أهل العلم بشأن خروج المهدي في آخر الزمان لتزداد أيها المستمع ثباتا ويقينا بأن اعتقاد خروجه آخر الزمان هو الجادة المسلوكة ولتعلم أنه الحق الذي لا يسوغ العدول عنه والإلتفات إلى غيره وعمدة أهل العلم في ذلك الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك إذ لا مجال للرأي في مثل هذا الأمر بل سبيله الوحيد هو الوحي لأنه من الأمور الغيبية.
أما الجواب عن السؤال الثاني فهو أني لم أقف على تسمية أحد في الماضين أنكر أحاديث المهدي أو تردد فيها سوى رجلين اثنين أما أحدهما فهو أبو محمد بن الوليد البغدادي الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة وقد مضى حكاية كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة وقد مضى حكاية كلام شيخ الإسلام عنه وأنه قد اعتمد على حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" وقال ابن تيميه "وليس مما يعتمد عليه لضعفه" انتهى وسبق في أثناء كلام الذين نقلت عنهم أنه لو صح هذا الحديث فالجمع بينه وبين أحاديث المهدي ممكن، ولم أقف على ترجمة لأبي محمد المذكور.
وأما الثاني فهو عبد الرحمن بن خلدون المغربي المؤرخ المشهور وهو الذي اشتهر بين الناس عنه تضعيف لأحاديث المهدي وقد رجعت إلى كلامه في مقدمة تاريخه فظهر لي منه التردد لا الجزم بالإنكار، وعلى كل حال فإنكارها أو التردد في التصديق بما دلت عليه شذوذ عن الحق ونكوب عن الجادة المطروقة وقد تعقبه الشيخ صديق حسن في كتابه الإذاعة حيث قال: "لاشك أن المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام لما تواتر من(27/55)
الأخبار في الباب واتفق عليه جمهور الأمة خلفا عن سلف إلا من لا يعتد بخلافه-وقال: لا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود والمنتظر المدلول عليه بالأدلة بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حد التواتر" انتهى.
ولي ملاحظات على كلام ابن خلدون أرى أن أشير إليها هنا:
الأولى: أنه لو حصل التردد في أمر المهدي من رجل له خبرة بالحديث لاعتبر ذلك زللا منه فكيف إذا كان من الإخباريين الذين هم ليسوا من أهل الاختصاص وقد أحسن الشيخ أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند حيث قال: "أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم واقتحم قحما لم يكن من رجالها وقال إنه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمة للمهدي تهافتا(27/56)
ص -154- ... عجيبا وغلط أغلاطا واضحة وقال إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين. "الجرح مقدم على التعديل" ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئا مما قال"
الثانية:صدر ابن خلدون الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي بقوله:"اعلم أن في المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره أن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتل ويأتم بالمهدي في صلاته ويحتجون في الشأن بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك وربما عارضوها ببعض الأخبار".
أقول: هذه الشهادة التي شهدها ابن خلدون هي أن اعتقاد خروج المهدي هو المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، إلا يسعه في ذلك ما وسع الناس على ممر الأعصار كما ذكر ابن خلدون نفسه، وهل ذلك الشذوذ بعد معرفة أن الكافة على خلافه وهل هؤلاء الكافة اتفقوا على الخطأ والأمر ليس اجتهاديا وإنما هو غيبي لا يسوغ لأحد إثباته إلا بدليل من كتاب الله أو سنه نبيه صلى الله عليه وسلم والدليل معهم وهم أهل الإختصاص.
الثالثة: أنه قال قبل إيراد الأحاديث: "ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وقال في نهايتها: فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان وقال في موضع آخر بعد ذلك وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا". وأقول إنه قد خانه الشيء الكثير كما يتضح ذلك بالرجوع إلى ما أثبته السيوطي في العرف الوردي في أخبار المهدي عن الأئمة، بل إن مما فاته الحديث الذي ذكره ابن القيم في المنار المنيف عن الحارث ابن أبي أسامة وقال إسناده جيد وتقدم ذكره بسنده وحاصل ما قيل في رجاله.
الرابعة: وقال "إن(27/57)
جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي فذكرهم وذكر الصحابة الذين أسندوها إليهم ثم قال ربما يعرض لأسانيدها المنكرون كما نذكره إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل فإذا وجدنا طعنا ببعض رجال الأسانيد بغفلة أو سوء حفظ أو ضعف أوسوء رأي تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها ولا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين، فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعا وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك فقد نجد مجالا للكلام في أسانيدها بما تقل عن أئمة الحديث في ذلك" انتهى.
أقول: إن ابن خلدون أورد بعض الأحاديث(27/58)
ص -155- ... وقدح فيها برجال في أسانيدها من رجال الصحيحين أو أحدهما وذلك تناقض يخالف المبدأ الذي رسمه لنفسه وهو قوله: "ولا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق لرجال الصحيحين"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صحة ما ذكره عنه الشيخ أحمد شاكر حيث قال: "أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس به علم واقتحم قحما لم يكن من رجالها"، ومما أورده من الأحاديث وقدح فيه برجال هم من رجال الصحيحين أو أحدهما قوله: وخرج الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه من رواية أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال له: "هيهات ثم عقد بيده سبقا فقال ذلك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قتل إلى آخر" الحديث قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، انتهى ثم قال ابن خلدون "وإنما هو على شرط مسلم فقط فإن فيه عمار الدهني ويونس بن أبي اسحاق لم يخرج لهما البخاري وفيه عمرو بن محمد العنقري ولم يخرج له البخاري احتجاجا بل استشهادا مع ما ينضم إلى ذلك من تشيع عمار الدهني وهو وإن وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي وغيرهم فقد قال علي ابن المديني عن سفيان إن بشر ابن مروان قطع عرقوبية قلت في أي شيء قال في التشيع" انتهى وهؤلاء الثلاثة الذين قدح في الحديث من أجلهم من رجال مسلم، وذلك مناقض للخطة التي رسمها أولا كما هو واضح.
الخامسة: أن ابن خلدون نفسه قد اعترف بسلامة بعض أحاديث المهدي من النقد حيث قال بعد إيراد الأحاديث في المهدي: "فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل منه" انتهى وأقول إن القليل الذي يسلم من النقد يكفي للإحتجاج به ويكون الكثير الذي لم يسلم عاضدا له ومقويا على أنه قد سلم الشيء الكثير كما تقدم ذلك في حكاية كلام القاضي محمد بن علي الشوكاني الذي حكى تواترها وقال إن فيها خمسين حديثا فيها(27/59)
الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، ثم إنه في آخر البحث ذكر ما يفيد تردده في أمر المهدي وذلك يفيد عدم ثبات رأيه لكونه تكلم فيه بما ليس بإختصاصه.
هذه بعض الملاحظات على كلام ابن خلدون في شأن المهدي سأستوفي الكلام فيها مع ملاحظات أخرى عليه في الرسالة التي أنا بصدد تأليفها في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.
وقد اطلعت على رسالة لأبي الأعلى المودودي اسمها "البيانات" تكلم فيها عن ظهور المهدي لاحظت فيها أمور لا يتسع الوقت لاستيفائها جميعها ولكني أشير إلى ثلاثة منها.
الأول: في قوله: "والأحاديث في هذه المسألة على نوعين أحاديث فيها(27/60)
ص -156- ... الصراحة بكلمة المهدي وأحاديث إنما أخبر فيها بخليفة يولد في آخر الزمان ويعلي كلمة الإسلام وليس سند أي رواية من هذين النوعين من القوة حيث يثبت أمام مقياس الإمام البخاري لنقد الروايات فهو لم يذكر منها أي رواية في صحيحه وكذلك ما ذكر منها الإمام مسلم إلا رواية واحدة في صحيحه ولكن ما جاءت فيها أيضا الصراحة بكلمة المهدي" انتهى، أقول: إن أحاديث المهدي وإن لم ترد في الصحيحين بالتفصيل الذي جاء في غيرهما فعدم ورودها فيهما لا يقدح فيها لما كانت قد ثبتت في غيرهما ومعلوم أن غير الصحيح من السنن والمسانيد والأجزاء فيها الصحاح والحسان والضعاف وعلماء الحديث قد قبلوها واحتجوا بها واعتقدوا موجبها.
وكتب الأصول والفروع مملوءة من الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين يوردونها للاستدلال بها وبهذه المناسبة أرى أن أذكر بعض الأحاديث التي وردت في السنن و المسانيد وغيرهما و التي يستدل بها في كتب العقائد وذلك على سبيل التمثيل:
1- الحديث المشتمل على العشرة المبشرين في الجنة رضي الله عنهم فإنه في السنن ومسند الإمام أحمد و غيره وليس في الصحيحين و مع ذلك اعتقدت الأمة موجبه وقل أن يوجد مؤلف في العقائد و لو كان مختصرا إلا وهو متضمن التنصيص على ذكرهم والشهادة لهم بالجنة بناء على الأحاديث الواردة فى ذلك فى غير الصحيحين كما أن هناك أناسا آخرين من الصحابة شهد لهم بالجنة لكن اختص هؤلاء بلفظ العشرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في حديث فقال: " أبو بكر في الجنة و عمر فى الجنة و عثمان فى الجنة و علي في الجنة و طلحة فى الجنة و الزبير بن العوام فى الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة و سعد بن أبي وقاص في الجنة و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فى الجنة و أبو عبيده بن الجراح في الجنة" وقد وردت الشهادة لبعضهم في الجنة في الصحيحين لكن الجمع بينهم جميعهم إنما جاء في غير الصحيحين رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في(27/61)
زمرتهم وثبتنا على السنة حتى نلحق بهم.
2- الحديث الدال على أن نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة لم يرد في الصحيحين وقد اعتقد الناس موجبه واستدلوا به وأورده شارح الطحاوية وغيره وقد أورده ابن كثير في تفسيره لقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} فقال: "وقد روينا في مسند الإمام أحمد بن حنبل حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها من النضرة و السرور وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي(27/62)
ص -157- ... رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" ونسأل الله الذي جمعهم في سند هذا الحديث أن يجمع أرواحهم فيما يقتضيه متنه وإيانا بمنه وكرمه، وهذا إنما هو بالنسبة لغير الشهداء أما الشهداء فقد جاء في صحيح مسلم وغيره أن أرواحهم في أجواف طير خضر".
3- حديث البراء ين عازب رضي الله عنه الطويل في نعيم القبر الذي وصف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجري عند الموت حتى البعث وهو في مسند الإمام أحمد وغيره ولبعضه شواهد في الصحيح وقد أورده شارح الطحاوية وقال عقب إيراده وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة و الحديث وكذا الحديث الذي فيه تسمية الملكين السائلين في القبر بالمنكر و النكير لم يرد في الصحيحين وقد اعقد بموجبه أهل السنة وأورده شارح الطحاوية مستدلا به.
4- الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره الدال على وزن الأعمال وهو حديث البطاقة والسجلات لم يرد في الصحيحين واعتقد أهل السنة موجبة وأورده شارح الطحاوية للاستدلال به على أن ميزان الأعمال له كفتان وعلى وزن صحائف الأعمال، ولا يتسع المقام لإيراد الكثير من الأمثلة في ذلك فأكتفي بهذا القدر.
والحاصل أن الأحاديث إذا كانت صحيحة يجب العمل بموجبها سواء كانت في الصحيحين أو في غيرهما ومن ذلك أحاديث المهدي.
الثاني: من الأمور التي لاحظتها في كلمة أبي الأعلى المودودي عن المهدي في كتابه البيانات في قوله "ولا يمكن بتأويل مستبعد أن في الاسلام يأتي تأويل مستبعد أن في الإسلام منصبا دينيا يعرف بالمهدوية يجب على كل مسلم أن يؤمن به ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا و الآخرة". أقول بل الذي لاشك فيه أنه يستنبط من الأحاديث الصحيحة في شأن المهدي(27/63)
حصول الإخبار من الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم بوجود إمام للمسلمين عند نزول عيسى بن مريم يوافق اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبي الرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بيته ويقال له المهدي والواجب على كل مسلم أن يصدق أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم التي يخبر بها عن أمور مغيبة مطلقا بما في ذلك أخبار المستقبل كإخباره عن المهدي وعن الدجال وما إلى ذلك من الأخبار.
الثالث: في قوله "ومما يناسب ذكره بهذا الصدد أنه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد".
أقول من عقائد أهل السنة التصديق(27/64)
ص -158- ... بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار ومن ذلك إخباره بشأن المهدي، وكتب العقائد عند أهل السنة قد أوضحت ذلك فقد قال الشيخ محمد السفاريني المتوفى سنة 1188هـ في نظمه لعقيدة السلف المسمى "الدرة المعنية في عقد الفرقة المرضية".
وما أتى بالنص من أشراط ... فكله حق بلا شطاط
منها الإمام الخاتم الفصيح ... محمد المهدي والمسيح
ثم إنه أوضح ذلك في شرحه المسمى بلوامع الأنوار البهية فقال "تنبيه: قد كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل لا مهدي إلا عيسى بن مريم والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى بن مريم عليه السلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم" ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي وأسماء بعض الصحابة الذين رووها ثم قال "وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعة العلم القطعي فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة" انتهى.
وكما أنه مدون في كتب العقائد عند أهل السنة والجماعة فهو أيضا مدون في كتب العقائد التي تمسك أربابها بمذهب أبي الحسن الأشعري قبل رجوعه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد تقدم نص كلام الشيخ ملا علي قاري الحنفي الذي هو على مذهب الأشاعرة والذي نقلته من شرحه على الفقه الأكبر وفيه ترتيبه لأشراط الساعة القريبة من قيامها وجعله خروج المهدي أولها وأن عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي خلفه وفيه قوله: وفي شرح العقائد: "الأصح أن عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل وإمامته أولى" انتهى.
وكذا تقدم في كلام الشيخ عبد الرؤوف المناوي قوله بعد ذكر إئتمام عيسى بالمهدي: "ولا(27/65)
ينافي ما ذكر في هذا الحديث ما اقتضاه بعض الآثار من أن عيسى هو الإمام بالمهدي وجزم به السعد التفتازاني بأفضليته وعلله لإمكان الجمع بأن عيسى يقتدي بالمهدي أولا ليظهر أنه نزل تابعا لنبينا حاكما بشرعه ثم بعد ذلك يقتدي المهدي به على أصل القاعدة من اقتداء المفضول بالفاضل" انتهى.
ذكر بعض ما قد يظن تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهدي مع الجواب عن ذلك:
1- تقدم في أثناء كلام الأئمة الذين حكيت كلامهم أن حديث لا مهدي إلا عيسى بن مريم لا يتعارض مع الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي لضعفه ولإ مكان الجمع بينها لو صح بأن يكون معناه لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى بن مريم صلى الله عليه(27/66)
ص -159- ... وسلم وذلك ينفي أن يكون غيره مهديا غير معصوم كالمهدي الذي دلت عليه الأحاديث.
2- إن ما دلت عليه أحاديث المهدي من قيام المهدي بنصرة الدين وامتلاء الأرض في زمانه من العدل لا ينافيه وجود الدجال وأتباعه في زمانه ومعاداتهم للمسلمين وكذا الأدلة الدالة على بقاء الأشرار مع الأخيار حتى تخرج الريح اللينة التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ولا يبقى بعد ذلك الأشرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة، لأن المراد مما جاء في أحاديث المهدي كثرة الخير وقوة أهل الإسلام وحصول الغلبة لهم وقهرهم لغيرهم وهذا لا ينفي وجود أشرار مغمورين في زمانه كما أننا نعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين رضي الله عنهم قد ملئوا الأرض عدلا ومع ذلك في الأرض في زمانهم من أعدائهم الكثير قل فلله الحجة البالغة فلوشاء لهداكم أجمعين.
3- إن ما دلت عليه أحاديث المهدي من امتلاء الأرض ظلما وجورا قبل خروجه لا يدل على خلو الأرض من أهل الخير قبل زمانه فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في أحاديث صحيحة بأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله ومنها الحديث الذي رواه مسلم عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعال صلى لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الامة"، وهذه الأحاديث وأحاديث المهدي تدل على أن الحق مستمر لا ينقطع لكنه في بعض الأزمان يكون لأهله الغلبة ويحصل له الانتشار كما في زمن الرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وكما في زمن المهدي وعيسى بن مريم وفي بعض الأزمان يتضاءل هذا الانتشار ويضعف أهله أما أن الحق يتلاشى ويضمحل فهذا ما لم يكن فيما مضى منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكون في المستقبل حتى خروج الريح التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما أخبر بذلك الذي(27/67)
لا ينطق عن الهوى صلوات وسلامه عليه فما من زمن في الماضي إلا وقد هيأ الله لهذا الدين من يقوم به وفي هذا الزمن الذي تكالب اعداء الإسلام عليه وغزوه بأعدائه لم تخل الأرض من إقامة شعائر الدين الإسلامي ومن ذلك ما امتن به على حكومة البلاد المقدسة من التوفيق لتحكيم الشريعة وتعميم المحاكم الشرعية في مدن المملكة وقراها يتحاكم الناس فيها إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه لا نظير له في سائر أنحاء الأرض فيما نعلم فيرجم الزاني المحصن ويجلد البكر ويحد شارب الخمر وتقطع يد السارق ويقتل القاتل وغير ذلك وما حصل في هذه(27/68)
ص -160- ... البلاد من الأمن والإستقرار ورغد العيش إنما هو من الثواب المعجل على القيام بالدين زادها الله من كل خير وحماها من كل شرور وفق المسلمين جميعا في سائر انحاء الأرض لما فيه عزهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم.
كلمة ختامية:
إن أحاديث المهدي الكثيرة التي ألف فيها مؤلفون وحكى تواترها جماعة واعتقد موجبها أهل السنة والجماعة وغيرهم من الأشاعرة تدل على حقيقة ثابتة بلا شك هي حصول مقتضاها في آخر الزمان ولا صلة البتة لهذه الحقيقة الثابتة عند أهل السنة بالعقيدة الشيعية فإن ما يعتقده الشيعة من خروج مهدي منتظر يسمى محمد بن الحسن العسكري من نسل الحسين رضي الله عنه لا حقيقة له ولا أصل وعقيدتهم بالنسبة لمهديهم في الحقيقة عقيدة موهومة كما أن إمامة الأئمة الماضين عندهم في الحقيقة إمامة موهومة لا حقيقة لها ولا وجود إلا إمامة علي بن أبي طالب وابنه الحسن رضي الله عنهما وهما بريئان منهم ومن اعتقادهم بلا شك أما أهل السنة فمعتقدهم في الماضي حقيقة موجودة وسادات الأئمة عندهم هم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وقد تولوا الإمامة حقا وكانوا أحق بها وأهلها ومعتقدهم في المستقبل عند نزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم حقيقة ثابتة بلا شك أيضا فلا عبرة بقول من قفا ما ليس له به علم وقال إن الأحاديث في المهدي لا تصح نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها من وضع الشيعة كما تقدمت الإشارة إلى هذا في أول المحاضرة.
وإذا فإن أحاديث المهدي على كثرتها وتعدد طرقها وإثباتها في دواوين أهل السنة يصعب كثيرا القول بأنه لا حقيقة لمقتضاها إلا على جاهل أو مكابر أو من لم يمعن النظر في طرقها وأسانيدها ولم يقف على كلام أهل العلم المعتد بهم فيها، والتصديق بها داخل في الإيمان بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من الإيمان به صلى الله عليه سلم تصديقه فيم أخبر به وداخل في الإيمان بالغيب الذي امتدح الله المؤمنين به(27/69)
بقوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وداخل في الإيمان بالقدر فإن سبيل علم الخلق بما قدره الله أمران:
أحدهما: وقوع الشيء فكل ما كان ووقع علمنا أن الله قد شاءه لأنه لا يكون ولا يقع إلا ما شاءه الله و ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.(27/70)
ص -161- ... الثاني: الإخبار بالشيء الماضي الذي وقع وبالشيء المستقبل قبل وقوعه من الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فكل ماثبت إخباره به من الأخبار في الماضي علمنا بأنه كان على وفق خبره صلى الله عليه وسلم وكل ماثبت إخباره عن مما يقع في المستقبل نعلم بأن الله قد شاءه وأنه لابد وأن يقع على وفق خبره صلى الله عليه وسلم كإخباره صلى الله عليه ولاسلام بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان وإخباره بخروج المهدي وبخروج الدجال وغير ذلك من الأخبار فإنكارأحاديث المهدي أو التردد في شأنه أمر خطير نسأل الله السلامة والعافية والثبات على الحق حتى الممات، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــ
وبعد انتهاء المحاضر من إلقاء هذه المحاضرة قام فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فعلق على المحاضرة بالكلمة التالية نقلت من شريط التسجيل وعرضت على فضيلته بعد نقلها فأذن بنشرها.
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فإنا نشكر محاضرنا الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد على هذه المحاضرة القيمة الواسعة فلقد أجاد فيها وأفاد واستوفى المقام حقا فيما يتعلق بالمهدي المنتظر مهدي الحق، ولا مزيد على ما بسطه من الكلام فقد بسط واعتنى وذكر الأحاديث، وذكر كلام أهل العلم في هذا الباب وقد وفق للصواب وهدي إلى الحق، فجزاه الله عن محاضرته خيرا وجزاه عن جهوده خيرا وضاعف له المثوبة وأعانه على التكميل والإتمام لرسالته في هذا الموضوع، وسوف نقوم-إن شاء الله- بطبعها بعد انتهائه منها لعظم فائدتها ومسيس الحاجة إليها والخلاصة التي أعلقها على هذه المحاضرة القيمة أن أقول:
إن الحق والصواب هو ما أبداه فضيلته في هذه المحاضرة كما بينه أهل العلم فأمر المهدي أمر(27/71)
معلوم والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم: تواترها،كما حكاه الأستاذ في هذه المحاضرة وهي متواترة تواترا معنويا لكثرة طرقها، واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها(27/72)
ص -162- ... فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق وهو "محمد بن عبد الله العلو الحسني من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه" وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان يخرج فيقيم العدل والحق ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلا وهداية وتوفيقا وإرشادا للناس.
وقد اطلعت على كثير من أحاديثه فرأيتها كما قال الشوكاني وغيره وكما قال ابن القيم وغيره:فيها الصحيح وفيها الحسن، وفيها الضعيف المنجبر، وفيها أخبار موضوعة، ويكفينا من ذلك ما استقام سنده سواء كان صحيحا لذاته أو لغيره وسواء كان حسنا لذاته أو لغيره، وهكذا الأحاديث الضعيفة إذا انجبرت وشد بعضها بعضا فإنها حجة عند أهل العلم.
فإن المقبول عندهم أربعة أقسام: صحيح لذاته،وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره، هذا ماعدا المتوتر، أما المتواتر فكله مقبول سواء كان تواتره لفظيا أو معنويا فأحاديث المهدي من هذا الباب متواترة معنويا، فتقبل بتواترها من جهة اختلاف ألفاظها ومعانيها وكثرة طرقها وتعدد مخارجها، ونص أهل العلم الموثوق بهم على ثبوتها وتواترها وقد رأينا أهل العلم اثبتوا أشياء كثيرة بأقل من ذلك، والحق أن جمهور أهل العلم بل هو الإتفاق على ثبوت أمر المهدي وأنه حق وأنه سيخرج في آخر الزمان أما من شذ عن أهل العلم في هذا البال فلا يلتفت إلى كلامه في ذلك وأما ما قاله الحافظ اسماعيل بن كثير رحمه الله عليه في كتابه التفسير في سورة المائدة عند ذكر النقباء، وأن المهدي: يمكن أن يكون أحد الأئمة الاثنى عشر فهذا: محل نظر، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لا يزال أمر هذه الأمة قائما ما ولى عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" فقوله: "لا يزال أمر هذه الامة قائما"، يدل على أن الدين في زمانهم قائم، والأمر نافذ، والحق ظاهر ومعلوم أن هذا إنما كان قبل انقراض دولة بني أمية، وقد جرى في آخرها اختلاف(27/73)
تفرق بسببه الناس، وجعل نكبة على المسلمين وانقسم أمر المسلمين إلى خلافتين: خلافة في الأندلس وخلافة في العراق، وجرى من الخطوب والشرور ما هو معلوم،(27/74)
ص -163- ... والرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لا يزال أمر هذه الامة قائما" ثم جرى بعد ذلك أمور عظيمة حتى اختل نظام الخلافة وصار على كل جهة من جهات المسلمين أمير وحاكم وصارت دويلات كثيرة وفي زماننا هذا أعظم وأكثر.
والمهدي حتى الآن لم يخرج فكيف يصح أن يقال إن الأمر قائم إلى خروج المهدي هذا لا يمكن أن يقوله من تأمل ونظر.
والأقرب في هذا كما قاله جماعة من أهل العلم: أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث "لا يزال أمر هذه الأمة قائما ما ولي عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" أن مراده من ذلك: الخلفاء الأربعة ومعاوية رضي الله عنه وابنه يزيد، ثم عبد الملك ابن مروان وأولاده الأربعة وعمر بن عبد العزيز هؤلاء اثنا عشر خليفة والمقصود أن الأئمة الاثني عشر في الأقرب و الأصوب ينتهي عددهم بهشام بن عبد الملك، فإن الدين في زمانهم قائم والإسلام منتشر والحق ظاهر والجهاد قائم وما وقع بعد موت يزيد من الإختلاف والإنشقاق في الخلافة وتولي مروان في الشام وابن الزبير في الحجاز لم يضر المسلمين في ظهور دينهم فدينهم ظاهر وأمرهم قائم وعدوهم مقهور مع وجود هذا الخلاف الذي جرى ثم زال بحمد الله بتمام البيعة لعبد الملك واجتماع الناس بعد ما جرى من الخطوب على يد الحجاج وغيره وبهذا يتبين أن هذا الأمر الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم قد وقع ومضى وانتهى، وأمر المهدي يكون في آخر الزمان وليس له تعلق بحديث جابر بن سمرة، أما كون المهدي يكون عند نزول عيسى فقد قال ابن كثير في الفتن والملاحم: أظنه يكون عند نزول المسيح، والحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة يرشد إلى هذا ويدل على هذا لأنه قال أميرهم المهدي فهو يرشد إلى أنه يكون عند نزول عيسى ابن مريم كما يرشد إليه بعض روايات مسلم وبعض الروايات الأخرى لكن ليست بالصريحة فهذا هو الأقوم والأظهر ولكنه ليس بالأمر القطعي، أما كونه سيخرج أو يوجد في آخر الزمان كما قال النبي(27/75)
صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معلوم والأحاديث ظاهرة في ذلك والحق كما قاله الأئمة والعلماء في ذلك أنه لابد من خروجه وظهوره.
وأما أمر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وأمر المسيح الدجال فأمرهما أظهر وأظهر فالأمر فيها قطعي وقد أجمع على ذلك علماء(27/76)
ص -164- ... الأمة وبينوا للناس أن المسيح نازل في آخر الزمان كما أن الدجال خارج في آخر الزمان وقد تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلها صحيحة متواترة بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان وحكمه بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال مسيح الضلالة.
هذا حق وهكذا خروج الدجال حق أما من أنكر ذلك وزعم أن نزول المسيح ابن مريم ووجود المهدي إشارة إلى ظهور الخير، وأن وجود الدجال و يأجوج و مأجوج ما أشبه ذلك إشارة إلى ظهور الشر فهذه أقوال فاسدة بل باطلة في الحقيقة لا ينبغي أن تذكر فأهلها قد حادوا عن الصواب وقالوا أمرا منكرا، وأمرا خطيرا لا وجه له في الشرع و لا وجه له في الأثر و لا في النظر والواجب تلقي ما قاله الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والإيمان به والتسليم، فمتى صح الخبر عن رسول الله فلا يجوز لأحد أن يعارضه برأيه واجتهاده بل يجب التسليم كما قال الله عز وجل:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر عن الدجال وعن المهدي وعن عيسى المسيح بن مريم ووجب تلقي ما قاله بالقبول والإيمان بذلك والحذر من تحكيم الرأي والتقليد الأعمي الذي يضر صاحبه ولا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما فيه رضاه وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات على الحق حتى نلقى ربنا سبحانه وتعالى وأعود أيضا فأشكر فضيلة الأستاذ على محاضرته القيمة الواسعة وأسأل الله له المعونة على الإتمام والإكمال حتى تطبع وتنشر فينتفع بها الناس وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(27/77)
عنوان الكتاب:
فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار ابن القيم، الدمام المملكة العربية السعودية
الأولى، 1424هـ/2003م(28/1)
ص -5- ... فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمَّة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله
تأليف: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مجزل العَطاء ومسبغ النِّعم، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ذو الفضل والإحسان والجود والكرم، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله سيِّد العرب والعجم، المخصوص من ربِّه بجوامع الكلم، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله أهل المكارم والشِّيَم، وعلى أصحابه مصابيح الدُّجَى والظُّلَم، الذين أكرمهم الله فجعلهم خير أمَّة هي خير الأمم، وعلى كل مَن جاء بعدهم مقتفياً آثارهم، وقد خلا قلبُه من الغلِّ للمؤمنين وسلِم.
أمَّا بعد، فإنَّ من الموضوعات التي ألَّف فيها العلماء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث الأربعين، وهي جمع أربعين حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لحديث ورد في فضل حفظ أربعين حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر النووي في مقدمة الأربعين له وروده عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمَّاهم، وقال: "واتَّفق الحفاظ على أنَّه حديث ضعيف وإن كثُرت طرقُه"، وذكر أنَّ اعتمادَه في تأليف الأربعين ليس عليه، بل على أحاديث أخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ليبلِّغ الشاهد منكم الغائب"، وقوله: "نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها" الحديث، وذكر ثلاثة عشر من العلماء ألَّفوا في الأربعين، أولهم عبد الله بن المبارك، وآخرهم أبو بكر البيهقي، وقال بعد ذكرهم: "وخلائق لا يُحصون من المتقدِّمين والمتأخرين"، وقال: "ثم مِن العلماء مَن جمع الأربعين في أصول الدِّين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد(28/2)
ص -6- ... وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلُّها مقاصد صالحة رضي الله تعالى عن قاصديها، وقد رأيتُ جمع أربعين أهم من هذا كلِّه، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكلُّ حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدِّين، قد وصفه العلماء بأنَّ مدارَ الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك، ثم التزمتُ في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم، وأذكرها محذوفة الأسانيد ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها إن شاء الله ... وينبغي لكلِّ راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لِمَا اشتملت عليه من المهمَّات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لِمَن تدبَّره".
والأحاديث التي جمعها النووي رحمه الله اثنان وأربعون حديثاً، قد أطلق عليها أربعين تغليباً مع حذف الكسر الزائد، وقد رُزق هذا الكتاب للنووي مع كتابه "رياض الصالحين" القبول عند الناس، وحصل اشتهارهما والعناية بهما، وأوَّلُ كتاب ينقدح في الأذهان يُرشَد المبتدئون في الحديث إليه هذه الأربعون للإمام النووي رحمه الله، وقد زاد ابن رجب الحنبلي رحمه الله عليها ثمانية أحاديث من جوامع الكلم، فأكمل بها العدَّة خمسين، وشرحها بكتاب سَمَّاه: "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم"، وقد كثرت شروح الأربعين للإمام النووي، وفيها المختصر والمطوَّل، وأوسع شروحها شرح ابن رجب الحنبلي رحمه الله، وقد رأيتُ شرح هذه الأربعين مع زيادة ابن رجب شرحاً متوسِّطاً قريباً من الاختصار، يشتمل شرح كلِّ(28/3)
ص -7- ... حديث على فقرات، وفي ختامه ذكر شيء مِمَّا يُستفاد من الحديث، وقد استفدت في هذا الشرح من شروح النووي وابن دقيق العيد وابن رجب وابن عثيمين للأربعين، ومن فتح الباري لابن حجر العسقلاني، وسمَّيتُه: فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمَّة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله، والمتين من أسماء الله، قال الله عزَّ وجلَّ في سورة الذاريات: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، ومعناه: شديد القوة، كما جاء في كتب التفسير، وإنِّي أوصي طلبة العلم بحفظ هذه الأحاديث الخمسين، التي هي من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بأصله، إنَّه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيِّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(28/4)
ص -8- ... الحديث الأول
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
رواه إمامَا المحدِّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحُّ الكتب المصنَّفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرُهم، وقد تفرَّد بروايته عن عمر: علقمة بنُ وقاص الليثي، وتفرَّد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرَّد عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر الآخذون عنه، فهو من غرائب صحيح البخاري، وهو فاتحته، ومثله في ذلك خاتمته، وهو حديث أبي هريرة "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ..." الحديث، وهو أيضاً من غرائب الصحيح.
2 افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبَهم به، منهم الإمام البخاري افتتح صحيحه به، وعبد الغني المقدسي افتتح كتابه عمدة الأحكام به، والبغوي افتتح كتابيه مصابيح السنة وشرح السنة به، وافتتح السيوطي كتابه الجامع الصغير به، وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه (1/35): "فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع(28/5)
ص -9- ... الأعمال البارزة والخفية"، أورد فيه ثلاث آيات من القرآن، ثم حديث "إنَّما الأعمال بالنيَّات"، وقال: "حديث صحيح متفق على صحته، ومجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو إحدى قواعد الإيمان وأول دعائمه وآكد الأركان، قال الشافعي رحمه الله: يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه، وقال أيضاً: هو ثلث العلم، وكذا قاله أيضاً غيرُه، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدِّها، فقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: اثنان، وقيل: حديث، وقد جمعتها كلَّها في جزء الأربعين، فبلغت أربعين حديثاً، لا يستغني متديِّن عن معرفتها؛ لأنَّها كلَّها صحيحة، جامعة قواعد الإسلام، في الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإنَّما بدأت بهذا الحديث تأسيًّا بأئمَّتنا ومتقدِّمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث بلا مدافعة أبو عبد الله البخاري صحيحه، ونقل جماعة أنَّ السلف كانوا يستحبُّون افتتاح الكتب بهذا الحديث؛ تنبيهاً للطالب على تصحيح النيَّة وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفيَّة، ورُوينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال: لو صنَّفت كتاباً بدأت في أوَّل كلِّ باب منه بهذا الحديث، ورُوينا عنه أيضاً قال: مَن أراد أن يصنِّف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث، وقال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم رحمه الله تعالى: كان المتقدِّمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث "الأعمال بالنيات" أمام كلِّ شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها".
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/61): "واتَّفق العلماء(28/6)
ص -10- ... على صحَّته وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابَه الصحيح، وأقامه مقام الخُطبة له؛ إشارة منه إلى أنَّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة".
3 قال ابن رجب: "وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدِّين عليها، فروي عن الشافعي أنَّه قال: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفقه، وعن الإمام أحمد قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: "الأعمال بالنيات"، وحديث عائشة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وحديث النعمان بن بشير: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن".
وقال أيضاً (1/71) في توجيه كلام الإمام أحمد: "فإنَّ الدِّين كلَّه يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات، والتوقف عن الشبهات، وهذا كلُّه تضمَّنه حديث النعمان بن بشير، وإنَّما يتمُّ ذلك بأمرين:
أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنَّة، وهذا هو الذي تضمَّنه حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد".
والثاني: أن يكون العمل في باطنه يُقصد به وجه الله عزَّ وجلَّ، كما تضمَّنه حديث عمر: "الأعمال بالنيات".
وأورد بن رجب نقولاً (1/61 63) عن بعض العلماء في الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، وأنَّ منهم من قال: إنَّها اثنان، ومنهم مَن قال: أربعة، ومنهم من قال: خمسة، والأحاديث التي ذكرها عنهم بالإضافة إلى الثلاثة الأولى حديث: "إنَّ أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه"، وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"،(28/7)
ص -11- ... وحديث: "إنَّ الله طيِّب لا يقبل إلاَّ طيِّباً"، وحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"، وحديث: "لا ضرر ولا ضرار"، وحديث: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم"، وحديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس"، وحديث: "الدِّين النصيحة".
4 قوله: "إنَّما الأعمال بالنيَّات"، (إنَّما): أداة حصر، و(ال) في (الأعمال) قيل: إنَّها خاصة في القُرَب، وقيل: إنَّها للعموم في كلِّ عمل، فما كان منها قُربة أثيب عليه فاعله، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب والنوم فإنَّ صَاحبَه يُثاب عليه إذا نوى به التقوِّي على الطاعة، والألف واللاَّم ب(النيات) بدلاً من الضمير (ها)، أي: الأعمال بنيَّاتها، ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره معتبرة، أي: أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها، والنيَّة في اللغة: القصد، وتأتي للتمييز بين العبادات، كتمييز فرض عن فرض، أو فرض عن نفل، وتمييز العبادات عن العادات، كالغسل من الجنابة والغسل للتبرُّد والتنظُّف.
5 قوله: "وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى"، قال ابن رجب (1/65): "إخبارٌ أنَّه لا يحصل له من عمله إلاَّ ما نواه، فإن نوى خيراً حصل له خير ٌ، وإن نوى شرًّا حصل له شرٌّ، وليس هذا تكريراً مَحضاً للجملة الأولى، فإنَّ الجملة الأولى دلَّت على أنَّ صلاحَ العمل وفسادَه بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلَّت على أنَّ ثوابَ العامل على عمله بحسب نيَّتِه الصالحة، وأنَّ عقابه عليه بحسب نيَّته الفاسدة، وقد تكون نيَّتُه مباحةً فيكون العملُ مباحاً، فلا يحصل له به ثوابٌ ولا(28/8)
ص -12- ... عقاب، فالعملُ في نفسه: صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه المقتضية لوجوده، وثوابُ العامل وعقابُه وسلامته بحسب نيته التي بها صار العملُ صالحاً أو فاسداً أو مباحاً".
6 قوله: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدُنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه".
الهجرة من الهَجر وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة.
وقوله: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" اتَّحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّة وقصداً، فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، فافترقا، قال ابن رجب (1/72): "لَمَّا ذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ الأعمالَ بحسب النيَّات، وأنَّ حظَّ العامل من عمله نيته من خير أو شرٍّ، وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليَّتان، لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صورتُها واحدة، ويختلف صلاحُها وفسادُها باختلاف النيَّات، وكأنَّه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال".
وقال أيضاً (1/73): "فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه الهجرة تختلف باختلاف النيَّات والمقاصد بها، فمَن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا لله ورسوله، ورغبةً في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه(28/9)
ص -13- ... في دار الشرك، فهذا هو المهاجرُ إلى الله ورسوله حقًّا، وكفاه شرَفاً وفخراً أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأنَّ حصولَ ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدنيا والآخرة.
ومَن كانت هجرتُه من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأوَّل تاجرٌ، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.
وفي قوله: "إلى ما هاجر إليه" تحقيرٌ لِمَا طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكره بلفظه، وأيضاً فالهجرةُ إلى الله ورسوله واحدةٌ، فلا تعدُّدَ فيها، فلذلك أعاد الجوابَ فيها بلفظ الشرط، والهجرةُ لأمور الدنيا لا تَنحصر، فقد يهاجرُ الإنسانُ لطلب دنيا مباحة تارة ومحرَّمة أخرى، وأفراد ما يُقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يعني كائناً ما كان".
7 قال ابن رجب (1/74 75): "وقد اشتهر أنَّ قصةَ مهاجر أمِّ قيس هي كانت سببَ قولِ النبَّيِّ صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها" وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخرين في كُتُبهم، ولَم نرَ لذلك أصلاً بإسناد يَصحُّ، والله أعلم".
8 النيَّة محلُّها القلب، والتلفُّظ بها بدعة، فلا يجوز التلفُّظ بالنيَّة في أيِّ قُربة من القُرَب، إلاَّ في الحجِّ والعمرة، فله أن يُسمِّي في تلبيته ما نواه من قران أو إفراد أو تمتُّع، فيقول: لبَّيك عمرة وحجًّا، أو لبَّيك حجًّا، أو لبَّيك عمرة؛ لثبوت السنَّة في ذلك دون غيره.(28/10)
ص -14- ... مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 أنَّه لا عمل إلاَّ بنيَّة.
2 أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها.
3 أنَّ ثواب العامل على عمله على حسب نيَّته.
4 ضرب العالم الأمثال للتوضيح والبيان.
5 فضل الهجرة لتمثيل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها، وقد جاء في صحيح مسلم (192) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أمَا علمتَ أنَّ الإسلامَ يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يهدم ما كان قبله؟".
6 أنَّ الإنسانَ يُؤجرُ أو يؤزر أو يُحرم بحسب نيَّته.
7 أنَّ الأعمال بحسب ما تكون وسيلة له، فقد يكون الشيء المباح في الأصل يكون طاعةً إذا نوى به الإنسان خيراً، كالأكل والشرب إذا نوى به التقوِّي على العبادة.
8 أنَّ العمل الواحد يكون لإنسان أجراً، ويكون لإنسان حرماناً.(28/11)
ص -15- ... الحديث الثاني
عن عمر رضي الله عنه أيضاً قال: "بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طَلَعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسنَد ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقتَ، فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لَم تكن تراه فإنَّه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلمَ من السائل، قال: فأخبرني عن أمَاراتِها؟ قال: أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان، ثمَّ انطلق فلبث مليًّا ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم" رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث جبريل هذا عن عمر رضي الله عنه انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، واتَّفقا على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والإمام النووي رحمه الله بدأ أحاديث الأربعين بحديث عمر "إنَّما الأعمال بالنيات"، وهو أوَّل حديث في صحيح البخاري، وثنَّى بحديث عمر في قصة مجيء جبريل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو أوَّل حديث في صحيح مسلم،(28/12)
ص -16- ... وقد سبقه إلى ذلك الإمام البغوي في كتابيه شرح السنة ومصابيح السنَّة، فقد افتتحهما بهذين الحديثين.
وقد أفردت هذا الحديث بشرح مستقل أوسع من شرحه هنا.
2 هذا الحديث هو أوَّل حديث في كتاب الإيمان من صحيح مسلم، وقد حدَّث به عبد الله بن عمر، عن أبيه، ولتحديثه به قصة ذكرها مسلم بين يدي هذا الحديث بإسناده عن يحيى بن يَعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد ابن عبد الرحمن الحميري حاجَّين أو معتمرين،, فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنَّ صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قبلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنَّهم يزعمون أن لا قَدر وأنَّ الأمر أُنُف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرْهم أنِّي بريء منهم، وأنَّهم بُرآء منِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنَّ لأحدهم مثل أُحُد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمنَ بالقدر، ثم قال: حدَّثني أبي عمر بن الخطاب"، وساق الحديث من أجل الاستدلال به على الإيمان بالقدر، وفي هذه القصة أنَّ ظهور بدعة القدرية كانت في زمن الصحابة، في حياة ابن عمر، وكانت وفاته سنة (73ه) رضي الله عنه، وأنَّ التابعين يرجعون إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في معرفة أمور الدِّين، وهذا هو الواجب، وهو الرجوع إلى أهل العلم في كلِّ وقت؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {فَاسْأَلوا أَهْلَ(28/13)
ص -17- ... الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وأنَّ بدعةَ القدرية من أقبح البدع؛ وذلك لشدَّة قول ابن عمر فيها، وأنَّ المفتي عندما يذكر الحكم يذكر معه دليله.
3 في حديث جبريل دليل على أنَّ الملائكةَ تأتي إلى البشر على شكل البشر، ومثل ذلك ما جاء في القرآن من مجيء جبريل إلى مريم في صورة بشر، ومجيء الملائكة إلى إبراهيم ولوط في صورة بشر، وهم يتحوَّلون بقدرة الله عزَّ وجلَّ عن الهيئة التي خُلقوا عليها إلى هيئة البشر، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في خلق الملائكة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}، وفي صحيح البخاري (4857)، ومسلم (280) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح.
4 في مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلوسه بين يديه بيان شيء من آداب طلبة العلم عند المعلِّم، وأنَّ السائلَ لا يقتصر سؤاله على أمور يجهل حكمها، بل ينبغي له أن يسأل غيره وهو عالم بالحكم ليسمع الحاضرون الجواب، ولهذا نسب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث التعليم، حيث قال: "فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمكم دينكم"، والتعليم حاصل من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّه المباشر له، ومضاف إلى جبريل؛ لكونه المتسبِّب فيه.
5 قوله: "قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً"، أجاب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جبريل عندما سأله عن الإسلام بالأمور(28/14)
ص -18- ... الظاهرة، وعندما سأله عن الإيمان، أجابه بالأمور الباطنة، ولفظَا الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمع بينها في الذِّكر فُرِّق بينها في المعنى، وقد اجتمعا هنا، ففُسِّر الإسلام بالأمور الظاهرة، وهي مناسبة لمعنى الإسلام، وهو الاستسلام والانقيادُ لله تعالى، وفسِّر الإيمان بالأمور الباطنة، وهي المناسبة لمعناه، وهو التصديق والإقرار، وإذا أُفرد أحدُهما عن الآخر شمل المعنيين جميعاً: الأمور الظاهرة والباطنة، ومن مجيء الإسلام مفرداً قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، ومن مجيء الإيمان مفرداً قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، ونظير ذلك كلمتَا الفقير والمسكين، والبر والتقوى وغير ذلك.
وأوَّل الأمور التي فُسِّر بها الإسلام شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وشهادة أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاتان الشهادتان متلازمتان، وهما لازمتان لكلِّ إنسيٍّ وجنيٍّ من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فمَن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم كان من أصحاب النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار"رواه مسلم (240).
وشهادة أن لا إله إلاَّ الله معناها لا معبود حقٌّ إلاَّ الله، وكلمة الإخلاص تشتمل على ركنين: نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، ففي أوَّلها نفي العبادة عن كلِّ من سوى الله، وفي آخرها إثبات العبادة لله وحده لا شريك له، وخبر"لا"النافية للجنس تقديره"حق"، ولا(28/15)
ص -19- ... يصلح أن يُقدَّر"موجود"؛ لأنَّ الآلهة الباطلة موجودةٌ وكثيرة، وإنَّما المنفيُّ الألوهية الحقَّة، فإنَّها منتفيَةٌ عن كلِّ من سوى الله، وثابتة لله وحده.
ومعنى شهادة أنَّ محمداً رسول الله، أن يُحبَّ فوق محبَّة كلِّ محبوب من الخلق، وأن يُطاع في كلِّ ما يأمر به، ويُنتهى عن كلِّ ما نهى عنه، وأن تُصدَّق أخباره كلُّها، سواء كانت ماضيةً أو مستقبلةً أو موجودةً، وهي غير مشاهدة ولا معاينة، وأن يُعبد الله طبقاً لِمَا جاء به من الحقِّ والهدى.
وإخلاصُ العمل لله واتّباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هما مقتضى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وكلُّ عمل يُتقرَّب به إلى الله لا بدَّ أن يكون خالصاً لله ومطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فُقد الإخلاصُ لم يُقبل العمل؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}، وقوله تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"رواه مسلم (2985)، وإذا فُقد الاتِّباع رُدَّ العمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718)، وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وهذه الجملة أعمُّ من الأولى؛ لأنَّها تشمل مَن فعل البدعة وهو مُحدثٌ لها، ومَن فعلَها متابعاً لغيره فيها.
وستأتي الإشارة إلى شيء مِمَّا يتعلَّق بالصلاة والزكاة والصيام والحج في حديث ابن عمر: "بُني الإسلام على خمس"، وهو الحديث الذي يلي هذا الحديث.(28/16)
ص -20- ... 6 قوله: "قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه!"وجه التعجُّب أنَّ الغالبَ على السائل كونه غير عالِم بالجواب، فهو يسأل ليصل إلى الجواب، ومثله لا يقول للمسئول إذا أجابه: صدقتَ؛ لأنَّ السائلَ إذا صدَّق المسئول دلَّ على أنَّ عنده جواباً من قبل، ولهذا تعجَّب الصحابةُ من هذا التصديق من هذا السائل الغريب.
7 قوله: "قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، هذا الجواب مشتملٌ على أركان الإيمان الستة، وأوَّل هذه الأركان الإيمان بالله، وهو أساس للإيمان بكلِّ ما يجب الإيمان به، ولهذا أُضيف إليه الملائكة والكتب والرسل، ومَن لَم يؤمن بالله لا يؤمن ببقيَّة الأركان، والإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأنَّه سبحانه وتعالى متَّصفٌ بكلِّ كمال يليق به، منَزَّهٌ عن كلِّ نقص، فيجب توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته.
وتوحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمور والتصرّف في الكون، وغير ذلك مِمَّا يتعلَّق بربوبيَّته.
وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وغيرها من أنواع العبادة التي يجب إفراده بها، فلا يُصرف منها شيء لغيره، ولو كان ملَكاً مقرَّباً أو نبيًّا مرسَلاً، فضلاً عمَّن سواهما.
وأمَّا توحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجلاله،(28/17)
ص -21- ... دون تكييف أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فجمع في هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، فالإثبات في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والتنزيه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}ٌ، فله سبحانه وتعالى سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وهكذا يُقال في كلِّ ما ثبت لله من الأسماء والصفات.
والإيمان بالملائكة الإيمانُ بأنَّهم خَلقٌ من خلق الله، خُلقوا من نور، كما في صحيح مسلم (2996) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدم مِمَّا وُصف لكم"، وهم ذوو أجنحة كما في الآية الأولى من سورة فاطر، وجبريل له ستمائة جناح، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدَّم قريباً، وهم خلقٌ كثيرٌ لا يعلم عددَهم إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، ويدلُّ لذلك أنَّ البيتَ المعمور وهو في السماء السابعة يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملَك لا يعودون إليه، رواه البخاري (3207)، ومسلم (259)، وروى مسلم في صحيحه (2842) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتَى بجهنَّم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملَك يجرُّونها".
والملائكةُ منهم الموَكَّلون بالوحي، والموكَّلون بالقطر، والموكَّلون بالموت، والموكَّلون بالأرحام، والموكَّلون بالجنَّة، والموكَّلون بالنار، والموكَّلون بغير ذلك، وكلُّهم مستسلمون منقادون لأمر الله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون، وقد سُمِّي منهم في الكتاب والسنة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك ومنكر ونكير، والواجب الإيمان بمَن(28/18)
ص -22- ... سُمِّي منهم ومَن لَم يسمَّ، والواجب أيضاً الإيمان والتصديق بكلِّ ما جاء في الكتاب العزيز وصحَّت به السنَّة من أخبار عن الملائكة.
والإيمانُ بالكتب التصديق والإقرار بكلِّ كتاب أنزله الله على رسول من رسله، واعتقاد أنَّها حقٌّ، وأنَّها منَزَّلة غير مخلوقة، وأنَّها مشتملة على ما فيه سعادة من أُنزلت إليهم، وأنَّ مَن أخذ بها سلم وظفر، ومن أعرض عنها خاب وخسر، ومن هذه الكتب ما سُمِّي في القرآن، ومنها ما لم يُسمَّ، والذي سُمِّي منها في القرآن التوراة والإنجيل والزبور وصُحف إبراهيم وموسى، وقد جاء ذكر صحف إبراهيم وموسى في موضعين من القرآن، في سورتَي النجم والأعلى، وزبور داود جاء في القرآن في موضعين، في النساء والإسراء، قال الله عزَّ وجلَّ فيهما: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورا}ً ، وأمَّا التوراة والإنجيل فقد جاء ذكرهما في كثير من سُوَر القرآن، وأكثرهما ذكراً التوراة، فلَم يُذكر في القرآن رسول مثل ما ذُكر موسى، ولم يُذكر فيه كتاب مثل ما ذُكر كتاب موسى، ويأتي ذكره بلفظ"التوراة"، و"الكتاب"، و"الفرقان"، و"الضياء"، و"الذِّكر".
ومِمَّا يمتاز به القرآن على غيره من الكتب السابقة كونه المعجزة الخالدة، وتكفُّل الله بحفظه، وسلامته من التحريف، ونزوله منجَّماً مفرَّقاً.
والإيمانُ بالرُّسل التصديق والإقرارُ بأنَّ الله اصطفى من البشر رسُلاً وأنبياء يهدون الناسَ إلى الحقِّ، ويُخرجونهم من الظلمات إلى النور، قال الله عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}(28/19)
ص -23- ... والجنُّ ليس فيهم رسُل، بل فيهم النُّذُر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، فلم يذكروا رسلاً منهم، ولا كتباً أنزلت عليهم، وإنَّما ذكروا الكتابين المنزلين على موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولم يأت ذكر الإنجيل مع أنَّه منَزَّلٌ من بعد موسى؛ وذلك أنَّ كثيراً من الأحكام التي في الإنجيل قد جاءت في التوراة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "ولم يذكروا عيسى؛ لأنَّ عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمِّم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}
والرسلُ هم المكلَّفون بإبلاغ شرائع أنزلت عليهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} والكتاب اسم جنس يُراد به الكتب، والأنبياء هم الذين أوحي إليهم بأن يُبلِّغوا شريعة سابقة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا(28/20)
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} الآية، وقد قام الرسل والأنبياء بتبليغ ما أُمروا بتبليغه على التمام والكمال، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى(28/21)
ص -24- ... إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال الزهري: "من الله عزَّ وجلَّ الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم"أورده البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، باب قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (13/503 مع الفتح).
والرسلُ منهم من قُصَّ في القرآن، ومنهم من لم يُقصص، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} ، وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}، والذين قُصوا في القرآن خمسة وعشرون، منهم ثمانية عشر جاء ذكرهم في سورة الأنعام في قوله تعالى:.{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}
والسبعة الباقون: آدم، وإدريس، وهود، وصالح، وشعيب، وذو الكفل، ومحمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.
والإيمانُ باليوم الآخر التصديقُ والإقرار(28/22)
بكلِّ ما جاء في الكتاب والسنَّة عن كلِّ ما يكون بعد الموت، وقد جعل الله الدُّورَ دارين: دار(28/23)
ص -25- ... الدنيا والدار الآخرة، والحدُّ الفاصل بين هاتين الدارين الموت والنفخ في الصور الذي يحصل به موت مَن كان حيًّا في آخر الدنيا، وكلُّ مَن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والحياة بعد الموت حياتان: حياة برزخية، وهي ما بين الموت والبعث، والحياة بعد الموت، والحياة البرزخية لا يعلم حقيقتها إلاَّ الله، وهي تابعة للحياة بعد الموت؛ لأنَّ في كلٍّ منهما الجزاء على الأعمال، وأهل السعادة منعمون في القبور بنعيم الجنَّة، وأهل الشقاوة معذَّبون فيها بعذاب النار.
ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالبعث والحشر والشفاعة والحوض والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك مِمَّا جاء في الكتاب والسنَّة.
والإيمان بالقدر الإيمانُ بأنَّ الله قدَّر كلَّ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، وله مراتب أربعة:
علم الله أزلاً بكلِّ ما هو كائن.
وكتابته المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
ومشيئته كلّ مقدَّر.
وخلق الله وإيجاده لكلِّ ما قدَّره طبقاً لِمَا علمه وكتبه وشاءه.
فيجب الإيمانُ بهذه المراتب واعتقاد أنَّ كلَّ شيء شاءه الله لا بدَّ من وجوده، وأنَّ كلَّ شيء لم يشأه الله لا يُمكن وجوده، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك"، وسيأتي في الحديث التاسع عشر.(28/24)
ص -26- ... 8 قوله: "فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"، الإحسان أعلى الدرجات، ودونه درجة الإيمان، ودون ذلك درجة الإسلام، وكلُّ مؤمن مسلم، وكلُّ محسن مؤمن مسلم، وليس كلُّ مسلم مؤمناً محسناً، ولهذا جاء في سورة الحجرات: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، وجاء في هذا الحديث بيان علوِّ درجة الإحسان في قوله: "أن تعبد الله كأنَّك تراه" أي: تعبدَه كأنَّك واقفٌ بين يديه تراه، ومَن كان كذلك فإنَّه يأتي بالعبادة على التمام والكمال، وإن لَم يكن على هذه الحال فعليه أن يستشعر أنَّ الله مطَّلعٌ عليه لا يخفى منه خافية، فيحذرَ أن يراه حيث نهاه، ويعمل على أن يراه حيث أمرَه.
9 قوله: "قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل"، اختصَّ الله بعلم الساعة، فلا يعلم متى تقوم الساعة إلاَّ الله سبحانه وتعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو}، ومنها علم الساعة، ففي صحيح البخاري (4778) عن عبد الله بن عمر قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مفاتيحُ الغيب خمسة، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}"، وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا(28/25)
عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(28/26)
ص -27- ... وجاء في السنَّة أنَّ الساعةَ تقوم يوم الجمعة، أمَّا من أيِّ سنة؟ وفي أيِّ شهر من السنة؟ وفي أيِّ جمعة من الشهر؟ فلا يعلم ذلك إلاَّ الله، ففي سنن أبي داود (1046) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلاَّ وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقاً من الساعة إلاَّ الجنّ والإنس" الحديث، وهو حديث صحيح رجاله رجال الكتب الستة، إلاَّ القعنبي فلم يخرج له ابن ماجه.
وقوله: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"معناه أنَّ الخلق لا يعلمون متى تقوم، وأنَّ أي سائل وأيَّ مسئول سواء في عدم العلم بها.
10 قوله: "قال: فأخبرني عن أمَاراتِها؟ قال: أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان"، أماراتها: علاماتها، وعلامات الساعة تنقسم إلى قسمين: علامات قريبة من قيامها، كخروج الشمس من مغربها، وخروج الدجَّال، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء وغيرها، وعلامات قبل ذلك، ومنها العلامتان المذكورتان في هذا الحديث.
ومعنى قوله: "أن تلد الأَمَة ربَّتها" فُسِّر بأنَّه إشارة إلى كثرة الفتوحات وكثرة السبي، وأن من المسْبيات مَن يطؤها سيِّدُها فتلد له، فتكون أمَّ ولد، ويكون ولدها بمنزلة سيِّدها، وفسِّر بتغير الأحوال وحصول العقوق من الأولاد لآبائهم وأمَّهاتهم وتسلُّطهم عليهم، حتى يكون الأولاد كأنَّهم سادة لآبائهم وأمَّهاتهم.(28/27)
ص -28- ... ومعنى قوله: "وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان" أنَّ الفقراء الذين يرعون الغنم ولا يجدون ما يَكتسون به تتغيَّر أحوالهم وينتقلون إلى سكنى المدن ويتطاولون فيها بالبنيان، وهاتان العلامتان قد وقعتَا.
11 قوله: "ثمَّ انطلق فلبث مليًّا ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم" معنى مليًّا: زماناً، فقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه عن السائل بأنَّه جبريل عقب انطلاقه، وجاء أنَّه أخبر عمر بعد ثلاث، ولا تنافي بين ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر الحاضرين ولم يكن عمر رضي الله عنه معهم، بل يكون انصرف من المجلس، واتَّفق له أنَّه لقي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث فأخبره.
12 مِمَّا يُستفادُ من الحديث:
1 أنَّ السائلَ كما يسأل للتعلُّم، فقد يسأل للتعليم، فيسأل مَن عنده علم بشيء من أجل أن يسمع الحاضرون الجواب.
2 أنَّ الملائكةَ تتحوَّل عن خِلقتِها، وتأتي بأشكال الآدميِّين، وليس في هذا دليل على جواز التمثيل الذي اشتهر في هذا الزمان؛ فإنَّه نوعٌ من الكذب، وما حصل لجبريل فهو بإذن الله وقدرته.
3 بيان آداب المتعلِّم عند المعلِّم.
4 أنَّه عند اجتماع الإسلام والإيمان يُفسَّر الإسلام بالأمور الظاهرة، والإيمان بالأمور الباطنة.
5 البدء بالأهمِّ فالأهمِّ؛ لأنَّه بُدىء بالشهادَتين في تفسير الإسلام، وبدىء بالإيمان بالله في تفسير الإيمان.(28/28)
ص -29- ... 6 أنَّ أركان الإسلام خمسة، وأنَّ أصولَ الإيمان ستة.
7 أنَّ الإيمان بأصول الإيمان الستة من جملة الإيمان بالغيب.
8 بيان التفاوت بين الإسلام والإيمان والإحسان.
9 بيان علوِّ درجة الإحسان.
10 أنَّ علم الساعة مِمَّا استأثر الله بعلمه.
11 بيان شيء من أمارات الساعة.
12 قول المسئول لِمَا لا يعلم: الله أعلم.
الحديث الثالث
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجِّ البيت، وصوم رمضان" رواه البخاري ومسلم.
1 قوله: "بُني الإسلام على خمس": فيه بيان عظم شأن هذه الخمس، وأنَّ الإسلام مبنيٌّ عليها، وهو تشبيه معنويٌّ بالبناء الحسي، فكما أنَّ البنيان الحسي لا يقوم إلاَّ على أعمدته، فكذلك الإسلام إنَّما يقوم على هذه الخمس، والاقتصار على هذه الخمس لكونها الأساس لغيرها، وما سواها فإنَّه يكون تابعاً لها.
2 أورد النووي هذا الحديث بعد حديث جبريل وهو مشتملٌ(28/29)
ص -30- ... على هذه الخمس لِمَا اشتمل عليه هذا الحديث من بيان أهميَّة هذه الخمس، وأنَّها الأساس الذي بُني عليه الإسلام، ففيه معنى زائد على ما جاء في حديث جبريل.
3 هذه الأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام، أولها الشهادتان، وهما أسُّ الأسُس، وبقية الأركان وغيرها تابع لها، فلا تنفع هذه الأركان وغيرها من الأعمال إذا لم تكن مبنيَّةً على هاتين الشهادتين، وهما متلازمتان، لا بدَّ من شهادة أنَّ محمداً رسول الله مع شهادة أن لا إله إلاَّ الله، و مقتضى شهادة (أن لا إله إلاَّ الله) ألاَّ يُعبد إلاَّ الله، ومقتضى شهادة "أنَّ محمداً رسول الله" أن تكون العبادةُ وفقاً لِمَا جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان أصلان لا بدَّ منهما في قبول أيِّ عمل يعمله الإنسان، فلا بدَّ من تجريد الإخلاص لله وحده، ولا بدَّ من تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 قال الحافظ في الفتح (1/50): "فإن قيل: لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مِمَّا تضمَّنه سؤال جبريل عليه السلام؟ أُجيبَ بأنَّ المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات، وقال الإسماعيلي ما محصله: هو من باب تسمية الشيء ببعضه، كما تقول: قرأت الحمد، وتريد به جميع الفاتحة، وكذا تقول مثلاً: شهدت برسالة محمد، وتريد جميع ما ذكر، والله أعلم".
5 أهمُّ أركان الإسلام الخمسة بعد الشهادتين الصلاة، وقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّها عمودُ الإسلام، كما في حديث وصيَّته صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، وهو الحديث التاسع والعشرون من هذه الأربعين، وأخبر أنَّها(28/30)
ص -31- ... آخر ما يُفقد من الدِّين، وأوَّل ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة، انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (1739)، (1358)، (1748)، وأنَّ بها التمييز بين المسلم والكافر، رواه مسلم (134)، وإقامتها تكون على حالتين: إحداهما واجبة، وهو أداؤها على أقلِّ ما يحصل به فعل الواجب وتبرأ به الذِّمَّة، ومستحبَّة، وهو تكميلها وتتميمها بالإتيان بكلِّ ما هو مستحبٌّ فيها.
6 الزكاة هي قرينة الصلاة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {َإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وهي عبادةٌ مالية نفعها متعدٍّ، وقد أوجبها الله في أموال الأغنياء على وجه ينفع الفقير ولا يضرُّ الغنيَّ؛ لأنَّها شيء يسير من مال كثير.
7 صومُ رمضان عبادة بدنية، وهي سرٌّ بين العبد وبين ربِّه، لا يطَّلع عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ من الناس مَن يكون في شهر رمضان مفطراً وغيرُه يظنُّ أنَّه صائم، وقد يكون الإنسانُ صائماً في نفل وغيرُه يظنُّ أنَّه مُفطر، ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنَّ الإنسانَ يُجازَى على عمله، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزَّ وجلَّ: "إلاَّ الصوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به"رواه البخاري (1894)، ومسلم (164)، أي: بغير حساب، والأعمال كلُّها لله عزَّ وجلَّ، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، وإنَّما(28/31)
ص -32- ... خُصَّ الصوم في هذا الحديث بأنَّه لله لِمَا فيه من خفاء هذه العبادة، وأنَّه لا يطَّلع عليها إلاَّ الله.
8 حجُّ بيت الله الحرام عبادة ماليَّة بدنية، وقد أوجبها الله في العمر مرَّة واحدة، وبيَّن النَّبيُّ فضلَها بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن حجَّ هذا البيتَ فلَم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه" رواه البخاري (1820)، ومسلم (1350)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفَّارة لِما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة" رواه مسلم (1349).
9 هذا الحديث بهذا اللفظ جاء فيه تقديم الحجِّ على الصوم، وهو بهذا اللفظ أورده البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، وبنى عليه ترتيب كتابه الجامع الصحيح، فقدَّم كتاب الحجِّ فيه على كتاب الصيام.
وقد ورد الحديث في صحيح مسلم (19) بتقديم الصيام على الحجِّ، وتقديم الحجِّ على الصيام، وفي الطريق الأولى تصريح ابن عمر بأنَّ الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقديم الصوم على الحجِّ، وعلى هذا يكون تقديم الحجِّ على الصوم في بعض الروايات من قبيل تصرُّف بعض الرواة والرواية بالمعنى، وسياقه في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "بُني الإسلام على خمسة: على أن يوحَّد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحجِّ، فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟ قال: لا! صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
10 هذه الأركان الخمسة وردت في الحديث مرتَّبة حسب أهميَّتها، وبدىء فيها بالشهادتين اللَّتين هما أساس لكلِّ عمل يُتقرَّب به إلى الله(28/32)
ص -33- ... عزَّ وجلَّ، ثم بالصلاة التي تتكرَّر في اليوم والليلة خمس مرَّات، فهي صلة وثيقة بين العبد وبين ربِّه، ثم الزكاة التي تجب في المال إذا مضى عليه حَولٌ؛ لأنَّ نفعَها متعدٍّ، ثم الصيام الذي يجب شهراً في السنة، وهو عبادة بدنيَّة نفعها غير متعدٍّ، ثم الحج الذي لا يجب في العمر إلاَّ مرَّة واحدة.
11 ورد في صحيح مسلم أنَّ ابن عمر رضي الله عنهما حدَّث بالحديث عندما سأله رجل، فقال له: ألا تغزو؟ ثم ساق الحديث، وفيه الإشارة إلى أنَّ الجهاد ليس من أركان الإسلام، وذلك أنَّ هذه الخمس لازمة باستمرار لكلِّ مكلَّف، بخلاف الجهاد، فإنَّه فرض كفاية ولا يكون في كلِّ وقت.
12 مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 بيان أهميَّة هذه الخمس لكون الإسلام بُني عليها.
2 تشبيه الأمور المعنوية بالحسيَّة لتقريرها في الأذهان.
3 البدء بالأهمِّ فالأهم.
4 أنَّ الشهادتين أساس في نفسهما، وهما أساس لغيرهما، فلا يُقبل عمل إلاَّ إذا بُني عليهما.
5 تقديم الصلاة على غيرها من الأعمال؛ لأنَّها صلة وثيقة بين العبد وبين ربِّه.(28/33)
ص -34- ... الحديث الرابع
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي اله تعالى عنه قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: "إنَّ أحدَكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملَك فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنَّة، حتى ما يكون بينه وبينها إلاَّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدَكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاَّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" رواه البخاري ومسلم.
1 قوله: "وهو الصادق المصدوق"معناه الصادق في قوله، المصدَّق فيما جاء به من الوحي، وإنَّما قال ابن مسعود هذا القول؛ لأنَّ الحديث عن أمور الغيب التي لا تُعرف إلاَّ عن طريق الوحي.
2 قوله: "يُجمع خلقه في بطن أمِّه"، قيل: يُجمع ماء الرجل مع ماء المرأة في الرَّحم، فيُخلق منهما الإنسان، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}، وقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} والمراد بخلقه ما يكون منه خلق الإنسان، وقد جاء في صحيح مسلم (1438): "ما من كلِّ المنيِّ يكون الولد".
3 في هذا الحديث ذكر أطوار خلق الإنسان، وهي: أوَّلاً: النطفة، وهي الماء القليل، وثانياً: العلقة، وهي دم غليظ متجمِّد، وثالثاً: المضغة،(28/34)
ص -35- ... وهي القطعة من اللحم على قدر ما يمضغه الآكل، وقد ذكر الله هذه الثلاث في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ومعنى {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} مصورة وغير مصوَّرة، وأكثر ما جاء فيه بيان أطوار خلق الإنسان قول الله عزَّ وجلَّ في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}
4 في الحديث أنَّه بعد مضيِّ هذه الأطوار الثلاثة وقدرها مائة وعشرون يوماً تُنفخ فيه الروح، فيكون إنساناً حيًّا، وقبل ذلك هو ميت، وقد جاء في القرآن الكريم أنَّ الإنسانَ له حياتان وموتتان، كما قال الله عزَّ وجلَّ عن الكفَّار: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ، فالموتة الأولى ما كان قبل نفخ الروح، والحياة الأولى من نفخ الروح إلى بلوغ الأجل، والموتة الثانية من بعد الموت إلى البعث، وهذه الموتة لا تنافي الحياة البرزخية الثابتة بالكتاب والسنة، والحياة الثانية الحياة بعد البعث، وهي حياة دائمة ومستمرَّة إلى غير نهاية، وهذه الأحوال الأربع للإنسان بيَّنها الله بقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ}، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وإذا وُلد بعد نفخ الروح فيه ميتاً(28/35)
تجري عليه أحكام الولادة، من تغسيله والصلاة عليه والخروج من العدة وكون الأمَة أم ولد، وكون أمِّه نفساء، وإذا سقط قبل ذلك فلا تجري عليه هذه الأحكام.(28/36)
ص -36- ... 5 بعد كتابة الملَك رزقه وأجله وذكر أو أنثى وشقي أو سعيد، لا تكون معرفة الذكورة والأنوثة من علم الغيب الذي يختصُّ الله تعالى به؛ لأنَّ الملَك قد علم ذلك، فيكون من الممكن معرفة كون الجنين ذكراً أو أنثى.
6 أنَّ قدرَ الله سبق بكلِّ ما هو كائن، وأنَّ المعتبرَ في السعادة والشقاوة ما يكون عليه الإنسان عند الموت.
7 أحوال الناس بالنسبة للبدايات والنهايات أربع:
الأولى: مَن بدايتُه حسنة، ونهايته حسنة.
الثانية: مَن كانت بدايتُه سيِّئة، ونهايتُه سيِّئة.
الثالثة: مَن كانت بدايتُه حسنة، ونهايته سيِّئة، كالذي نشأ على طاعة الله، وقبل الموت ارتدَّ عن الإسلام ومات على الردَّة.
الرابعة: مَن بدايتُه سيِّئة، ونهايتُه حسنة، كالسحرة الذين مع فرعون، الذين آمنوا بربِّ هارون وموسى، وكاليهودي الذي يخدم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وعاده النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مرضه، وعرض عليه الإسلام فأسلم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي أنقذه من النار"، وهو في صحيح البخاري (1356).
والحالتان الأخيرتان دلَّ عليهما هذا الحديث.
8 دلَّ الحديث على أنَّ الإنسانَ يعمل العملَ الذي فيه سعادته أو شقاوته بمشيئته وإرادته، وأنَّه بذلك لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، وهو مخيَّرٌ باعتبار أنَّه يعمل باختياره، ومسيَّرٌ بمعنى أنَّه لا يحصل منه شيء لم يشأه الله، وقد دلَّ على الأمرين ما جاء في هذا الحديث من أنَّه قبل(28/37)
ص -37- ... الموت يسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنَّة أو يعمل بعمل أهل النار.
9 أنَّ الإنسانَ يجب أن يكون على خوف ورجاء؛ لأنَّ من الناس مَن يعمل الخير في حياته ثم يختم له بخاتمة السوء، وأنَّه لا ينبغي له أن يقطع الرجاء؛ فإنَّ الإنسان قد يعمل بالمعاصي طويلاً، ثم يَمنُّ اللهُ عليه بالهدى فيهتدي في آخر عمره.
10 قال النووي في شرح هذا الحديث: "فإن قيل: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}، ظاهر الآية أنَّ العملَ الصالح من المخلص يُقبل، وإذا حصل القبول بوعد الكريم أمن مع ذلك من سوء الخاتمة، فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك معلَّقاً على شروط القبول وحسن الخاتمة، ويُحتمل أن من آمن وأخلص العمل لا يُختم له دائماً إلاَّ بخير.
ثانيهما: أنَّ خاتمة السوء إنَّما تكون في حقِّ من أساء العمل أو خلطه بالعمل الصالح المشوب بنوع من الرياء والسمعة، ويدلُّ عليه الحديث الآخر: "إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس"، أي فيما يظهر لهم من إصلاح ظاهره مع فساد سريرته وخبثها، والله تعالى أعلم".
11 مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 بيان أطوار خلق الإنسان في بطن أمِّه.
2 أنَّ نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وبذلك يكون إنساناً.(28/38)
ص -38- ... 3 أنَّ من الملائكة مَن هو موَكَّل بالأرحام.
4 الإيمان بالغيب.
5 الإيمان بالقدر، وأنَّه سبق في كلِّ ما هو كائن.
6 الحلف من غير استحلاف لتأكيد الكلام.
7 أنَّ الأعمال بالخواتيم.
8 الجمع بين الخوف والرجاء، وأنَّ على من أحسن أن يخاف سوء الخاتمة، وأنَّ مَن أساء لا يقنط من رحمة الله.
9 أنَّ الأعمالَ سببُ دخول الجنة أو النار.
10 أنَّ مَن كُتب شقيًّا لا يُعلم حاله في الدنيا، وكذا عكسه.
الحديث الخامس
عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ" رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: "مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
1 هذا الحديث أصل في وزن الأعمال الظاهرة، وأنَّه لا يُعتدُّ بها إلاَّ إذا كانت موافقة للشرع، كما أنَّ حديث"إنَّما الأعمال بالنيات" أصلٌ في الأعمال الباطنة، وأنَّ كلّ عملٍ يتقرّب فيه إلى الله لا بدَّ أن يكون خالصاً لله، وأن يكون معتبراً بنيّته.(28/39)
ص -39- ... 2 إذا فُعلت العبادات كالوضوء والغسل من الجنابة والصلاة وغير ذلك، إذا فُعلت على خلاف الشرع فإنَّها تكون مردودة على صاحبها غير معتبرة، وأنَّ المأخوذ بالعقد الفاسد يجب ردّه على صاحبه ولا يُملك، ويدلُّ لذلك قصةُ العسيف الذي قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبيه: "أمَّا الوليدة والغنم فردٌّ عليك" رواه البخاري (2695) ومسلم (1697).
3 ويدلُّ الحديثُ على أنَّ من ابتدع بدعة ليس لها أصل في الشرع فهي مردودة، وصاحبها مستحق للوعيد، فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المدينة: "من أحدث فيها حدَثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" رواه البخاري (1870) ومسلم (1366).
4 الرواية الثانية التي عند مسلم أعمّ من الرواية التي في الصحيحين؛ لأنّها تشمل من عمل البدعة، سواء كان هو المحدث لها أو مسبوقاً إلى إحداثها وتابع من أحدثها.
5 معنى قوله في الحديث: "ردّ" أي مردودٌ عليه، وهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، مثل: خَلْق بمعنى مخلوق، ونَسْخ بمعنى منسوخ، والمعنى: فهو باطل غير معتد به.
6 لا يدخل تحت الحديث ما كان من المصالح في حفظ الدين، أو موصلاً إلى فهمه ومعرفته، كجمع القرآن في المصاحف، وتدوين علوم اللغة والنحو، وغير ذلك.
7 الحديث يدلّ بإطلاقه على ردِّ كلِّ عملٍ مخالفٍ للشرع، ولو كان قصدُ صاحبه حسناً، ويدل عليه قصّة الصحابي الذي ذبح أضحيته قبل صلاة العيد، وقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "شاتُك شاة لحم" رواه البخاري (955) ومسلم (1961).(28/40)