عنوان الكتاب:
أثر العبادات في حياة المسلم
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار المغني
الأولى، 1423هـ/2002م
[ الترقيم الصحيح للصفحات هو ما يظهر بشكل ص-رقم الصفحة- داخل الكتاب ]
موقع روح الإسلام
www.islamspirit.com(1/1)
ص -3- ... أثر العبادات في حياة المسلم
محاضرة ألقاها عبر الهاتف عبد المحسن بن حمد العباد البدر في جمعية إسلامية في أمريكا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدِّين كلِّه، فبلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمَّةَ، اللَّهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
أما بعد: فالسلام عليكم أيها الإخوة المسلمون المستمعون في أمريكا ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله عز وجل لي ولكم العونَ والتسديدَ، وأن يوفِّقنا جميعاً لِمَا يُرضيه.(1/2)
ص -4- ... وحديثي معكم في الموضوع الذي رغبتم الحديثَ فيه؛ وهو أثرُ العبادات في حياة المسلم، فأقول: العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا هو أحسن ما قيل في تعريف العبادة، وللعبادة أهميةٌ عُظمى؛ وذلك أنَّ الله عز وجل خلق الخَلقَ وأرسل الرسلَ وأنزلَ الكتبَ للأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي: خلقهم الله لأمرهم بعبادته ونهيهم عن معصيته، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فقال سبحانه : {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
والعبادة أنواعٌ كثيرة؛ منها الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة والاستعانة والاستغاثة(1/3)
ص -5- ... والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة.
ومن العبادات؛ أركان الإسلام وهي التي اشتمل عليها حديث جبريل المشهور، حيث سأل النَبِيَّ صلى الله عيه وسلم عن الإسلام فقال: "أن تشهدَ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عمر رضى الله عنه، وهو أوَّلُ حديث عنده في كتاب الإيمان (8).
وجاءت في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال عليه الصلاة والسلام: "بُنِيَ الإسلامُ على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان " وهو أوَّلُ حديث عند البخاري في كتاب الإيمان (8)، وهو في صحيح مسلم (19).(1/4)
ص -6- ... ثمَّ إنَّ العبادة لا بدَّ في قبولها من شرطين؛ أحدهما: إخلاص العمل لله، والثاني: تجريد المتابعة لرسول الله ، فلا بدَّ من تجريد الإخلاص لله وحده، فلا يُشرَكُ مع الله غيره، ولا يُصرفُ من أنواع العبادة شيء لغير الله سبحانه وتعالى، و لا بد من تجريد المتابعة للرسول ، فلا يُعبد الله إلاَّ وفقاً لما جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أنَّ محمداً رسول الله؛ لأنَّ مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله إخلاص العمل لله وحده، فلا يُصرف شيء من أنواع العبادة لغيره، بل تكون العبادات كلُّها خالصةً لوجهه سبحانه وتعالى، ومقتضى أشهد أن محمداً رسول الله أن تكون العبادةُ وفقاً لِمَا جاء عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فلا يُعبد الله بالبدع والمحدثات والمنكرات التي ما أنزل الله تعالى بها(1/5)
ص -7- ... من سلطان، بل تكون العبادة وفقاً للسنة، ولما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
والحاصلُ أنَّ مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله إخلاص العمل لله، ومقتضى أشهد أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا بدَّ في أيِّ عملٍ من الأعمال أن يكون لله خالصاً وأن يكون لسنة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم موافقاً ومطابقاً، فإذا اختلَّ أحَدُ هذين الشرطين بأن فُقد الإخلاصُ، أو فُقدت المتابعةُ، أو فُقِدَا معاً فإنَّ العملَ مردودٌ على صاحبه، ولا يقبل عند الله عز وجل، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} في بيان ردّ العمل بسبب عدم الإخلاص: وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في بيان ردِّ العمل إذا كان مبنياً على بدعة: "مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ" رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث(1/6)
ص -8- ... عائشة رضي الله عنها، وفي لفظ لمسلم: "مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"
وقال عليه الصلاة والسلام: "فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين تَمسَّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607)،والترمذي (2676) من حديث العرباض ابن سارية، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"
وقد بَيَّن عليه الصلاة والسلام في حديث الثلاث وسبعين فرقة الذين يَدخل منهم النار اثنتان وسبعون فرقة، وفرقةٌ واحدة تنجو،بَيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ هذه الفرقة الناجية هم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(1/7)
ص -9- ... وقال الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: "لن يصلح آخر هذه الأمّة إلاَّ بما صلح به أوّلها "، وقال رحمه الله: "مَن ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أنَّ محمداً خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لَم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً ".الاعتصام للشاطبي (1/28).
ولا يكفي أن يقول الإنسانُ أنا أعمل بهذا العمل وإن لَم يأتِ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ قصدي طيبٌ وقصدي حسنٌ، والدليل على هذا أنَّ النَبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا بلغه أنَّ رجلاً من أصحابه الكرام ذبح أُضحيتَه قبل صلاة العيد قال له عليه الصلاة والسلام: "شاتُك شاةُ لحم" أي: ليست أضحية؛ لأنَّها لم تقع طبقاً للسُّنَّة، إذ إنَّ السُّنَّةَ أن يبدأ ذبح الأضاحي بعد صلاة العيد، أما الذبح قبل الصلاة فإنَّه يكون في غير وقته فلا يعتبر، والحديث أخرجه(1/8)
ص -10- ... البخاري (5556)، ومسلم (1961)، وقال الحافظ في شرحه في الفتح (10/17): "قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أنَّ العمل وإن وافق نيَّةً حسنة لم يصح إلاَّ إذا وقع على وفق الشرع ".
ومِمَّا يوضح ذلك أيضاً أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب الرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أُناس وقد تَحلَّقوا في المسجد، ومع كل واحد منهم عدد من الحصى، وفيهم رجل يقول سبِّحوا مائة، هلِّلوا مائة، كبِّروا مائة، فيعدون بالحصى حتى يأتوا بهذا الذِّكر، يعدونه بذلك الحصى، فوقف على رؤوسهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: "ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبيرَ والتهليلَ والتسبيحَ، قال: فعُدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمّة محمد! ما(1/9)
ص -11- ... أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابُه لم تَبْلَ، وآنيتُه لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلَى مِلَّة هي أهدى من مِلَّة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه "،هذا الأثر رواه الدارمي في سننه (1/68–69)،وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (2005).
وأمّا الآثار المترتبة على العبادات فمنها؛ انشراحُ الصدر، وراحةُ البال، وسَعةُ الرزق، وسلامةُ الإنسان وارتياحُه واطمئنانُه.
وقد جاء في القرآن آياتٌ كثيرة، وفي السنة النبوية أحاديث عديدة، تدلّ على تلك الآثار، وعلى أنَّ تقوى الله عز وجل والأعمال الصالحة يترتب عليها سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.(1/10)
ص -12- ... قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فإنَّ هذه الآيةَ الكريمة اشتملت على ذِكر العبادة، وعلى ذِكر الأثر المترتب عليها في حياة المسلم، وهي أنَّ من اتقى الله عز وجل وآمن به فإنَّ الله تعالى يُثيبُه ويعطيه في الحياة الدنيا من الرزق، ويفتح عليه من بركات السماء والأرض وذلك بإنزال الأمطار، وإخراج النبات والكنوز من الأرض.
وقال عز وجل في أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يعني من الأرزاق التي يُنْزِلُها الله عز وجل إليهم من السماء بسبب المطر، وكذلك مِن تحت أرجلهم مِمَّا ينبته الله عز وجل في الأرض من(1/11)
ص -13- ... النبات والزروع، وكذلك مِمَّا يخرجه الله عز وجل من الكنوز، وما ذكره الله في هاتين الآيتين عن أهل القرى، وأهل الكتاب، هو من الثواب الدنيوي على الإيمان والتقوى، وأمّا الثواب الأخروي للمؤمنين المتقين فقد ذكره الله تعالى في قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.
وقال عز وجل :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} وهذه عبادة، ثم ذكر الأثر المترتب على ذلك بقوله: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}، فإنَّ إصلاحَ الأعمال، ومغفرةَ الذنوب في الآخرة، من الآثار المترتبة على العبادة، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة، على ذكر آثار تترتب على العبادة في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا إصلاح الأعمال والتوفيق(1/12)
ص -14- ... والسداد، وأن يكون الإنسان يسير إلى الله عز وجل على بصيرة، وفي الآخرة مغفرة الذنوب،وتكفير السيِّئات.
وقال الله عز وجل: {مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} فهذه الآية الكريمة فيها أنَّ تقوى الله عز وجل وهي عبادتُه وطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يترتب عليها الإخراج من المآزق ومن الشدائد، وكذلك يرزق الله عز وجل مَن أطاعه واتقاه من حيث لا يحتسب.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} فإنَّ من الآثار المترتبة على تقوى الله عز وجل أن ييسِّر له الأذمور، وأن يهيِّئ له سبل الخير، وأن يفتح الطرقَ التي توصله إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} وهذا من الثواب الأخروي المترتب(1/13)
ص -15- ... على تقوى الله سبحانه وتعالى
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فهذه الآية الكريمة تدل على أنَّ مَن اتقى الله عز وجل، وعمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم يجعل له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، ويسير إلى الله عز وجل على بصيرة وعلى هدى وهذا في الدنيا، وأمّا في الآخرة فيثيبه بتكفير السيِّئات ومغفرة الذنوب، ومثل قول الله عز وجل في صدر هذه الآية {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} قول الله تعالى في آخر آية الدين: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}
وقال تعالى فيما حكاه عن نوح وقومه: {قُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً َيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} فإنَّ هذه الأمور من الآثار المترتبة(1/14)
ص -16- ... على العبادة، فالعبادة هنا هي الاستغفار والآثار المترتبة عليها في هذه الآية هي أنه يرسل السماء عليهم مدراراً، ويُمددهم بالأموال والبنين، ويجعل لهم جنات ويجعل لهم أنهاراً.
ومثل هذه الآية ما ذكره الله عن هود وقومه في قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ومثلها أيضاً ما ذكره الله عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقومه في قوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ففي الآية الكريمة أنَّ الإيمان والعمل الصالح يترتب عليهما أن يحي الإنسان(1/15)
ص -17- ... حياة طيبة سعيدة، معمورة بتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، مع ما يحصله من الثواب الجزيل في الآخرة.
ومِمَّا جاء في السنة المطهرة في بيان ما يترتب على العبادات من الآثار الطيبة في حياة المسلم ما جاء في وصية النَبِيِّ الكريم لابن عباس رضي الله عنهما حيث قال عليه الصلاة والسلام في تلك الوصية العظيمة النفيسة: "احفَظ الله يحفظك،احفظ الله تَجده تجاهك … " رواه الترمذي (2516) وقال: "حديث حسن صحيح ". وفي لفظ آخر عند الإمام أحمد (2803): "احفظ الله يحفظك،احفظ الله تجده أمامك تعرَّف إليه في الرَّخاء يعرفك في الشدة " وهذا الحديث هو الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية وجاء في شرحها للحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم معانٍ نفيسه في شرح(1/16)
ص -18- ... هذا الحديث استفدت منه في بيان معاني هذه الجمل من الحديث،وحفظ الله عز وجل لعبده يدخل فيه نوعان: حفظه في بدنه وماله وأولاده وأهله،وكذلك حفظه في دينه بأن يَسلم من الشبهات المضلَّة ومن الشهوات المحرمة،فيكون بذلك على سداد وعلى استقامة في أمور دينه ودنياه، وهذا من حفظ الله عز وجل لِمَن حفظه، فالعبدُ يحفظ اللهَ عز وجل بحفظ حدوده والقيام بأوامره واجتناب نواهيه، واللهُ تعالى يثيبه على ذلك الحفظ حفظاً من جنس عمله، والجزاء من جنس العمل.
فإنَّ قوله: "يحفظك" هذا جزاء، وهو من الآثار المترتبة على العمل الصالح،وهو جزاء من جنس العمل، وقوله: "احفظ الله تجده تجاهك " أي: أنَّك تجد الله عز وجل أمامك فيحوطك ويرعاك، ويحفظك من كلِّ سوء، وقوله عليه الصلاة والسلام:(1/17)
ص -19- ... "تعرَّف إليه في الرخاء يعرِفْك في الشدَّة " أي: أنَّك إذا لزمت طاعةَ الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حال رخائك، وفي حال سعتك، فإنَّ الله عز وجل يُثيبك بأن يحفظَك في الشدائد وفي حال وقوعك في المآزق.ومِمَّا يوضح أنَّ مَن تَعرَّف إلى الله عز وجل في الرخاء عرَفَه الله تعالى في الشدَّة ما جاء في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت عليهم صخرةٌ، وسدَّت بابَ الغار فلم يستطيعوا أن يخرجوا، فصاروا في قبرٍ وهم أحياء فتذاكروا فيما بينهم، فرأوا أنَّ السببَ الذي يخلصهم الله عز وجل به مما هم فيه من الشدة، أن يبحثوا عن أعمال صالحة عملوها لله عز وجل في حال الرخاء، فيتوسلوا بها إلى الله عز وجل في هذه الشدَّةِ التي وقعوا فيها؛ فتوَسَّلَ أحدُهم إلى الله عز وجل بِبِرِّه لوالديه، وتوسَّلَ الثاني بتَركه الزنى مع قُدرَتِه عليه، وتوسَّل الثالثُ بحفظ حق أجيره(1/18)
ص -20- ... وتنميته له لَمَّا ذهب قبل أخذه، فكلُّ واحد منهم توسَّل إلى الله عز وجل بعمل صالح عمله لله عز وجل في حال رخائه، فأزاح الله تعالى تلك الصخرة، وخرجوا يمشون.
وقصة هؤلاء الثلاثة جاءت في صحيح البخاري (2215)، ومسلم (2743) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ثم إنَّ من العبادات الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكلُّ واحدة منها لها آثار طيبة في حياة المسلم.
فالصلاةُ هي عمود الإسلام، وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي صلةٌ وثيقةٌ بين العبد وبين ربِّه،فإذا حافظ الإنسانُ على الصلوات في المساجد جماعة مع المسلمين فإنَّه تقوى صلته بالله عز وجل، لأنَّه يكون على صلة بالله دائماً وأبداً في اليوم والليلة،(1/19)
ص -21- ... يصلي لله خمس مرات صلوات مفروضة، وكذا ما يأتي به من النوافل فإنَّ الله سبحانه وتعالي يثيبه على ذلك كلِّه،فيبعده عن الفحشاء والمنكر؛لأنَّه إذا همَّ بمعصية وهمَّ بأمر منكر، تذكَّر لماذا يصلي؟ ولماذا يلازم الصلاة؟ إنَّه يفعل ذلك رغبة فيما عند الله من الثواب وخوفاً مما عنده من العقاب، فإنَّ صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فيكون بعيداً عن الفحشاء وبعيداً عن المنكر، قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}
ثم إنَّ الزكاةَ آثارُها عظيمة؛ فهي تطَهِّر النفسَ من الشُّح والبخل، وتطهر المال، وتكون سبباً في نمائه وكثرته، ويحصل بها ما يسمى في هذا الزمان (بالتكافل الاجتماعي) وهو أنَّ الأغنياءَ عندما يخرجون زكاة أموالهم ويعطونها للفقراء، فإنَّ الفقراء تنسد بذلك حاجاتهم ويحصل لهم القوت بسبب هذا(1/20)
ص -22- ... الحق الذي فرضه الله عز وجل في أموال الأغنياء، وقد جاء في حديث معاذ بن جبل المتفق على صحته قوله :صلى الله عليه وسلم "فإن هم أجابوا لذلك - أي استجابوا للصلاة - فأَعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تُؤخذ من أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم" ففي إخراج الزكاة نفعٌ كبير للأغنياء حيث تتطَهَّر نفوسُهم، وتنمو أموالُهم، ويُثابون على إحسانهم إلى إخوانِهم المسلمين، الذين حصل لهم الفقر، وحصلت لهم الفاقةُ والشِّدَّةُ، فيحصل إغناؤهم بهذه الصدقة التي تَسدُّ حاجتهم، وتقضي عوزَهم، والله عز وجل فرض الزكاةَ في أموال الأغنياء على وجه ينفع الفقير، ولا يضر الغني، فهي جزءٌ يسيرٌ من مالٍ كثير تفضَّل الله عز وجل به وجاد، وأوجب ذلك القسط القليل الذي لا يؤثر على الغني إخراجه وهو ينفع ذلك الفقير الذي أعدم ولم يحصل له شيء من المال.(1/21)
ص -23- ... ومن الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة والإحسان إلى المساكين ما جاء في صحيح مسلم (2984) من حديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجلٌ بفلاة من الأرض، فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقةَ فلان، فتنحَّى ذلك السحاب فأفرغ ماءَه في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ من تلك الشِّرَاج قد استوعبت ذلك الماء كلَّه، فتتبَّع الماءَ فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقة يحوّل الماء بِمِسْحَاتِه، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله لِمَ تسألني؟ فقال: إنِّي سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أمّا إذ قلت هذا، فإنِّي أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدّق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأردّ فيها ثلثه ". وفي رواية له: "وأجعل ثلثَه في المساكين والسائلين وابن السبيل".(1/22)
ص -24- ... وأمّا الصيامُ فإنَّ آثارَه عظيمةٌ، ونتائجَه كبيرةٌ، وذلك أنَّ في الصيام جُنَّةً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيامُ جُنَّة" رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151)، فهو جُنَّةٌ من النار، ووقايةٌ منها في الدار الآخرة، وهو جُنَّةٌ من المعاصي؛ إذ إنَّ فيه إضعاف قوة الشهوة في النفس، فيكبح جِماحَها، ويحول بينها وبين أن تقع في المزالق، وتقع في الأمور المحرمة، بسبب التمتع بالنعم والتلذذ بها، فإنَّّ النفس قد تقدم بسبب ذلك على ما لا تحمد عقباه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال النَبِيُّ الكريم عليه الصلاة والسلام:"حُفَّت الجنّة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات" رواه البخاري (6487) ومسلم (2822)، واللفظ لمسلم، فالطريق إلى الجنّة يحتاج إلى صبر على طاعة الله عز وجل، ويحتاج إلى صبر عن المعاصي، والطريق إلى النار محفوفٌ بالشهوات،(1/23)
ص -25- ... فإذا ابتعد الإنسانُ عن تلك الشهوات ظفر بالسلامة، وإذا أقدم على الشهوات فإنَّ ذلك قد يوقعه في الأمور المحرمة، وتكون لذة عاجلة ولكن يعقبها حسرةٌ وندامةٌ وخزيٌ وعارٌ في الدنيا والآخرة، وقد جاء في الحديث المتفق على صحته عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"يا معشرَ الشباب مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّج، فإنَّّه أحصنُ للفرج، وأغضُّ للبصر، ومن لَم يستطع فعليه بالصومِ، فإنَّه له وِِجَاء"، فقد بيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ الإنسان إذا كان قادراً على الزواج، فعليه أن يبادرَ إليه ليُعفَّ نفسه، وليعفَّ غيره، وإذا كان غيرَ قادر فإنَّه يتعاطى هذا العلاج النبوي الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وهو الصيام؛ لأنَّه حميةٌ ووقايةٌ من أن يقعَ الإنسانُ في المعاصي، وذلك لما يحصل في الصوم(1/24)
ص -26- ... من إضعاف النفس وعدم تمكنها من الأمور التي كانت تتمكَّن منها في حال التنعم في المآكل والمشارب.
والحاصل أنَّ هذا توجيهٌ نبويٌّ كريم من الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم للشباب أن يقدموا على الزواج إذا تمكنوا من ذلك وقدروا عليه، وإذا لم يستطيعوا فإنَّهم يكبحون جماح نفوسهم بالصيام.
وفي صيام الأغنياء إحساسهم بألم الجوع، فيتذكرون نعمةَ الله عليهم بالغنى فيشكرون الله عز وجل ويشعرون بأنَّ لهم إخواناً يتألَّمون من الجوع من غير صيام؛ لأنَّهم لا يجدون ما يسُدُّ رَمَقَهم فيكون ذلك حافزاً لهم على الإحسان إلى المساكين والبذل للمُعوزين والمحتاجين.(1/25)
ص -27- ... وأمّا الحجُّ فإنَّه عبادة عظيمة، افترضها الله عزَّ وجلَّ على عباده في العمر مرة واحدة، وهي تشتمل على أمور تتعلَّق بالمال، وأمور تتعلَّق بالبدن، ولها آثارٌ طيبة، ونتائج حميدة في حياة الإنسان، وقد جاء عن النَبِيِّ الكريم عليه الصلاة والسلام: "العمرةُ إلى العمرة كفارةٌ لِمَا بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاء إلاَّ الجنّة" رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349) عن أبي هريرة رضى الله عنه، وسُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال: "الإيمانُ بالله ورسوله، قيل: ثمَّ ماذا ؟ قال: الجهادُ في سبيل الله، قيل: ثمَّ ماذا ؟ قال: حَجٌّ مبرور" رواه البخاري (26)، ومسلم (83) عن أبي هريرة رضى الله عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَن حَجَّ لله فلم يرفث ولَم يفسق رجع كيوم ولَدته أمُّه" رواه البخاري (1521)، ومسلم (1350) عن أبي هريرة رضى الله عنه، والحجُّ المبرورُ هو الذي يأتي به الإنسان(1/26)
ص -28- ... مطابقاً لسنة النَبِيِّ الكريم عليه الصلاة والسلام، وعلامتُه أن يكون بعد الحجِّ أحسنَ منه قبل الحجّ، فإذا تحوَّلت حالُ الإنسان بعد الحجِّ من حال سيِّئةٍ إلى حال حسنة، أو من حال حسنة إلى حال أحسن فهي العلامةُ الواضحةُ لكون حجِّه مبروراً.
ثمّ أيضاً يترتب على أداء الحجّ والعمرة أنَّه يتقرَّب إلى الله عز وجل بعبادات لا وجود لها إلاَّ في ذلك المكان، مثل الطواف، فإنَّ الطوافَ عبادةٌ جعلها الله من خصائص بيته العتيق، فإذا وصل إلى مكة طاف بالبيت العتيق، وتقرَّب إلى الله عز وجل بعبادة لو لم يصل إلى مكة لما تقرّب إليه بها؛ لأنَّه لا وجود لها إلاَّ حول الكعبة المشرّفة، ويستذكر بذلك ويستشعر أنَّ أيَّ طواف يكون في أي مكان من الأرض ليس مِمَّا شرعه الله عز وجل، فلا يجوز لأحد أن يطوفَ بضريح من الأضرحة، أو بأيِّ بقعة من الأرض سوى(1/27)
ص -29- ... الكعبة المشرّفة. ومن ذلك تقبيل واستلام الحجر الأسود، واستلام الركن اليماني، فإنَّ الله عز وجل لَم يشرع للمسلمين أن يتقربوا إليه بتقبيل حجارة أو استلامها إلاَّ في هذين الموضعين، ولهذا لَمَّا جاء عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه إلى الحجر الأسود وقبَّلَه قال: "إنِّي أعلم أنَّك حجرٌ لا تَضرُّ ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيتُ رسولَ الله يُقَبِّلُك ما قَبَّلْتُك" رواه البخاري (1597)، ومسلم (1270).
ومن الآثار المترتبة على الحجّ والعمرة أنَّ المُحرِمَ عندما يتَجَرَّد من ثيابه ويلبس إزاراً ورداءً يستوي فيه الغنِيُّ والفقير، يتذكر بهذا اللباس لباسَ الأكفان عند الموت، فيستعد له بالأعمال الصالحة التي هي خير زاد كما قال تعالى: {تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}(1/28)
ص -30- ... ومن ذلك أيضاً أنّ في اجتماع الحجّاج في عرفة تذكيراً باجتماع الناس في الموقف يوم القيامة فيكون ذلك حافزاً للاستعداد لذلك اليوم بالأعمال الصالحة.
وفي الحجّ يلتقي المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فيتعارفون، ويتناصحون، ويعرف بعضُهم أحوالَ بعض، فيتشاركون في الأفراح والمسرَّات، كما يشارك بعضهم بعضاً في آلامه، ويرشده إلى ما ينبغي له فعله، ويتعاونون جميعاً على البر والتقوى كما أمرهم الله سبحانه بذلك.
والحاصل أنّ هذه العبادات العظيمة التي شرعها الله عز وجل، وبنَى عليها دينَه الحنيف، تترتب عليها آثار طيبة في حياة المسلم الدنيوية، وآثار عظيمة في حياته الأخروية.(1/29)
ص -31- ... وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جَميعاً لما يرضيه، وأن يجعلنا مِمَّن يستمع القولَ فيتبع أحسنه، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، إنَّه سبحانه جوادٌ كريم، وصلَّى الله وسلم وبارك وأنعم على خير أنبيائه ورسله نبيِّنا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهداه، والحمد لله ربّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/30)
عنوان الكتاب:
أغلو في بعض القرابة وجفاء في الأنبياء والصحابة
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار المغني، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1425هـ/2004م(2/1)
ص -3- ... أَغلُوٌّ في بعض القرابة وجفاء في الأنبياء والصحابة؟!
إعداد: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالَمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فقد اطَّلعتُ على تفريغ لشريطٍ لرجلٍ من الكويت ممتلئ قلبه حقداً على خير هذه الأمَّة بعد النَّبيِّين والمرسَلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، يُدعَى ياسر الحبيب، وليس له من اسمه نصيب، بل هو عاسر بغيض، تفوَّه فيه بكلام من أقبح الكلام في الغلوِّ في بعض أهل البيت، والجفاء في الأنبياء وفي أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، ولا أريد بهذه الكتابة الرد عليه؛ فإنَّ مجرَّد حكاية كلامه القبيح يُغني عن الردِّ عليه، وهو من النماذج الواضحة الجليَّة لزيغ القلوب وعمى البصائر، فأنا أذكر كارهاً مضطرًّا نماذج من كلامه وكلام مَن سبقه من أسلافه؛ لنشر خزيهم(2/2)
ص -4- ... في هذه الحياة الدنيا، وبيان اشتعال الحقد في قلوبهم على الصحابة الكرام، مع الغلوِّ المتناهي في بعض أهل البيت، مع تعليقات يسيرة والإشارة إلى مقارنة بينهم وبين أهل السنَّة في العقيدة في الصحابة والقرابة، وقد استمعت إلى بعض ما اشتمل عليه الشريط، فوجدتُه مطابقاً للتفريغ، وما أوردته منه هنا من كلام هذا الحاقد الجديد مطابق لِمَا في الشريط.
ومن كلامه الذي غلا فيه في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وتسعة من أولاد الحسين، وهم الأئمة الاثنا عشر عندهم، ففضَّلهم على الأنبياء والمرسَلين، وفي مقدِّمتهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، قوله: "نحن الشيعة نعتقد بأنَّ أفضل أولياء الله عزَّ وجلَّ بعد المعصومين الأربعة عشر عليهم الصلاة والسلام هو سيدنا إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، حسب تحقيق العلماء فإنَّ أفضل الخلق هو نبيُّنا صلى الله عليه وآله، ثم أمير المؤمنين والزهراء(2/3)
ص -5- ... صلوات الله وسلامه عليهما في مرتبة واحدة، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم مولانا الإمام المهدي صلوات الله عليه، ثم الأئمَّة من ذريَّة الحسين، من السجاد إلى العسكري في مرتبة واحدة، ثم إبراهيم الخليل صلوات الله عليهم!!!".
وكلامُه هذا شبيه بكلام زعيمهم في هذا العصر الخميني، فقد قال في كتابه "الحكومة الإسلامية" (ص 52) من منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى بطهران: "وثبوت الولاية والحاكمية للإمام (ع) لا تعني تجرّده عن منزلته التي هي له عند الله، ولا تجعله مثل مَن عداه من الحكام؛ فإنَّ للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرَّات هذا الكون، وإنَّ من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمَّتنا مقاماً لا يبلغه ملكٌ مقرَّب ولا نبي مرسَل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث، فإنَّ الرسول الأعظم (ص) والأئمة (ع) كانوا قبل هذا(2/4)
ص -6- ... العالم أنواراً، فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلاَّ الله، وقد قال جبرائيل كما ورد في روايات المعراج: لو دنوت أنملة لاحترقت، وقد ورد عنهم (ع): إنَّ لنا مع الله حالات لا يسعها ملَك مقرَّب ولا نبي مرسَل"!!!
ومِن المعلوم أنَّ تفضيلَ أحد من البشر على الأنبياء والمرسَلين جفاء فيهم.
ومن غلوِّهم في أئمَّتهم الاثني عشر ما جاء في كتاب "أصول الكافي" للكليني، وهو من كتبهم المعتمدة، وقد اشتمل على أبواب تشتمل على أحاديث من أحاديثهم، ومن هذه الأبواب قوله:
ـ باب: أنَّ الأئمة عليهم السلام خلفاء الله عزَّ وجلَّ في أرضه، وأبوابُه التي منها يُؤتى (1/193).
ـ باب: أنَّ الأئمة عليهم السلام هم العلامات التي ذكرها عزَّ وجلَّ في كتابه (1/206):
وفي هذا الباب ثلاثة أحاديث من أحاديثهم تشتمل(2/5)
ص -7- ... على تفسير قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، بأنَّ النَّجمَ: رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن العلامات الأئمَّة.
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام نور الله عزَّ وجلَّ (1/194).
ويشتمل على أحاديث من أحاديثهم، منها حديث ينتهي إلى أبي عبد الله (وهو جعفر الصادق) في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قال ـ كما زعموا ـ: "{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}: فاطمة عليها السلام، {فِيهَا مِصْبَاحٌ}: الحسن، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}: الحسين، {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}: فاطمة كوكب دُرِيٌّ بين نساء أهل الدنيا، {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ}: إبراهيم عليه السلام، {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}: لا يهودية ولا نصرانية، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ}: يكاد العلم ينفجر بها، {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ}: إمام منها بعد(2/6)
ص -8- ... إمام، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}: يهدي الله للأئمَّة مَن يشاء ...".
ـ باب: أنَّ الآيات التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه هم الأئمَّة (1/207).
وفي هذا الباب تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} بأنَّ الآيات: الأئمَّة!!
وفيه تفسير قوله تعالى: {كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا} بأنَّ الآيات: الأوصياء كلُّهم!!!
ومعنى ذلك أنَّ العقابَ الذي حلَّ بآل فرعون سببُه تكذيبهم بالأوصياء الذين هم الأئمَّة!!
ـ باب: أنَّ أهلَ الذِّكر الذين أمر اللهُ الخلقَ بسؤالِهم هم الأئمَّة عليهم السلام (1/210).
ـ باب: أنَّ القرآن يهدي للإمام (1/216).
وفي هذا الباب تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ(2/7)
ص -9- ... هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} بأنَّه يهدي إلى الإمام!!
وفيه تفسيرُ قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} بأنَّه إنَّما عنى بذلك الأئمَّة عليهم السلام، بهم عقَّد الله عزَّ وجلَّ أيمانكم!!
ـ باب: أنَّ النِّعمة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه الأئمَّة عليهم السلام (1/217).
وفيه تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} بالزعم بأنَّ عليًّا رضي الله عنه قال: "نحن النِّعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز مَن فاز يوم القيامة"!!
وفيه تفسير قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قال: "أبالنَّبِيِّ أم بالوصيِّ تكذِّبان؟!!".
ـ باب: عرض الأعمال على النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله، والأئمَّة عليهم السلام (1/219).(2/8)
ص -10- ... ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزَّ وجلَّ، وأنَّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتِها (1/227).
ـ باب: أنَّه لَم يجمع القرآنَ كلَّه إلاَّ الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّهم يعلَمون علمَه كلَّه (1/228).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون جميعَ العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرُّسل عليهم السلام (1/255).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنَّهم لا يموتون إلاَّ باختيارٍ منهم. (1/258).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون علمَ ما كان وما يكون، وأنَّه لا يخفى عليهم الشيءُ صلوات الله عليهم (1/260).
ـ باب: أنَّ الله عزَّ وجلَّ لَم يُعلِّم نبيَّه علماً إلاَّ أمره أن يُعلِّمَه أمير المؤمنين عليه السلام، وأنَّه كان شريكَه في العلم (1/263).(2/9)
ص -11- ... ـ باب: أنَّه ليس شيءٌ من الحقِّ في يد الناسِ إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كلَّ شيء لم يخرج من عندهم فهو باطلٌ (1/399).
وهذه الأبوابُ تشتمل على أحاديث من أحاديثهم، وهي منقولةٌ من طبعة الكتاب، نشر مكتبة الصدوق بطهران، سنة (1381هـ).
ويُعتبَرُ الكتابُ مِن أجَلِّ كتبِهم إن لَم يكن أجَلَّها، وفي مقدِّمة الكتاب ثناءٌ عظيمٌ على الكتاب وعلى مؤلِّفِه، وكانت وفاتُه سنة (329هـ)، وهذا الذي نقلتُه منه نماذج من غلوِّ متقدِّميهم في الأئمَّة.
وأكثرُ كلام هذا الحاقد الجديد المسجَّل في هذا الشريط في ذمِّ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو ذمٌّ بوقاحة وخسَّة، دون حياء من الله ومن الناس، ومنه قوله: "أفضلُ أنواع الانتقام في هذا العصر
هو الانتقام الإعلامي، أبو بكر وعمر ـ لعنة الله(2/10)
ص -12- ... عليهما!! ـ مقدَّسان في أعين هؤلاء الجهلة وفي أذهانهم، مقدَّسان يُؤخذ منهم الشرع، تُطبَّق أقوالهم، تطبَّق تعاليمهم ويُمجَّدون، تُرفع أسماؤهم ويُرفع ذكرُهم على المنابر وفي وسائل الإعلام، وتُسمَّى الشوارع والمؤسسات والمباني والأفراد بأسمائهم، ذِكرُهم مخلَّد شئنا أم أبينا، صحيح هم ظلمة، وصحيح أنَّهم قتلة ومجرمون، ولكن ذكرهم مخلَّد مع الأسف، ولكن هذين الملعونين أساس الظلم لا يزالان واقعان يعيشان بيننا، أبو بكر وعمر لَم ينتهيا، صحيح هما الآن في عالَم البرزخ، أو في جهنَّم يذوقان من العذاب ما لا يمكن وصفه، ولكن بالنتيجة العالم يهتف باسميهما مع الأسف الشديد، ومع الأسف الشديد، ومع حرقة القلب أيضاً أنَّ مجرمين كهؤلاء يُهتف باسمهما!! نحن جئنا ونسأل من الله عزَّ وجلَّ أن نكون من هؤلاء المنتقمين، الذين يحرقون ذكر أبي بكر وعمر، ويُعيدون الناسَ إلى صوابهم!!!".(2/11)
ص -13- ... وقوله: "هذا، ومع أنَّ كلَّ جرائم صدام لا تأتي عشر معشار جرائم أبي بكر وعمر في الواقع!!!".
وقوله: "ولكن في الواقع، الذين لا يريدون أن ينتقموا من أبي بكر وعمر، أو من ذولاَ اللِّي ما ندري إيش نسميهم، أو اللِّي يترحَّمون على أبي بكر وعمر يترضون عليهم، هذا إنسان التشيع لم يدخل قلبه، بأي عنوان خصوصاً في هذا الزمان يقول لك: تقية ما تقية، كله باطل، كله كذب في كذب، لا تقية في هذا الزمن!!!".
وقوله: "لدينا في بعض الروايات أنَّ الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال لسلمان المحمدي، قال له: أتريد أن أريك أبو بكر الآن؟ قال: إيه! بطريقة معينة كما هو وارد في الرواية، والإمام أشار بطريقة، فانكشفت الحجب، وإذا بأبو بكر في أغلال، وفي قعر جهنَّم، هنا قال له أبو بكر: يا أمير المؤمنين! أرجِعني(2/12)
ص -14- ... إلى الدنيا وسأعترف بولايتك، وأُرجِع الحق لك، وأعترف على نفسي، وأقول: أنا ظالم، حتى عموم المسلمين كلهم هاذولا اللِّي الآن يتبعونك، ويعرفون أنَّني كنت ظالم، وهذا الحكم كان حكم غير شرعي، وأنَّني قتلت امرأتك، وأنَّني كذا وكذا وكذا، فأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ التفت إلى الملَكين اللَّذين هما موَكّلان بتعذيب أبي بكر، وقال لهما: ضاعفَا عليه العذاب؛ ولو رددناه لازداد غيًّا، كذاب!!
وفي الواقع إذا سألتم أنفسَكم: لماذا أبو بكر وعمر في الواقع أخبث الخبثاء، وأكبر المخلوقات إجراماً وكفراً ونفاقاً؟ لأنَّهما بقية ظلمة الأنبياء، فرعون، النمرود، وغيرهم، هؤلاء كانوا إلى حد ما هو يشعر بأنَّه كافر، وأنَّه يعمل ضد الله عزَّ وجلَّ، لكن عنده نسبة من تأنيب الضمير التي جعلت فرعون حينما رأى برهان ربِّه يؤمن، صحيح وإلاَّ لا؟ فرعون حينما انطبق البحر عليه تشهَّد، ثق تماماً أنَّ عمر وأبو بكر لو(2/13)
ص -15- ... كانا في ذلك الموضع لَما تشهَّدا، ولَما ألانا أبداً؛ والدليل أيضاً لدينا في الروايات: عمر وهو على فراش الهلاك ـ لعنة الله عليه ـ طلب من ابنه أن يستدعي أمير المؤمنين صلوات الله عليه، بأي طريقة ائتني بأبي الحسن، ذهب هذا ابنُ عمر طلب من أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه عمر يريد أن يراك وهو على فراش الاحتضار، أمير المؤمنين عليه السلام قَبِل، قَبِل للغاية، وهو أنَّه يصل هذا الخبر إلينا، وإلاَّ أمير المؤمنين لا يُلبي دعوة هذا النجس، وصل إليه، فقال له: يا علي! اغفر لي، أنا أتوب إلى الله عزَّ وجلَّ، فاسأل من الله عزَّ وجلَّ أن يتوب عليَّ؛ فإنِّي أرى النارَ أمامي، عمر وهو على فراش الموت، الله عزَّ وجلَّ كشف عن الحجب أمامه، فكان يرى الملائكة وموضعه في جهنَّم، كلهم مستعدين، يقولون: هيَّا تعال! فشاف، يعني رأى برهان ربِّه، شوف تخيل، ولذلك استدعى أمير المؤمنين حتى يتوب، وإلاَّ ما كان يستدعيه، صحيح وإلاَّ لا؟(2/14)
ص -16- ... أمير المؤمنين عليه السلام قال له: نعم، أغفر لك وأشفع لك عند الله بشرط واحد، الآن تقف بالمسجد وتعلن أمام الناس أنَّك ظلمتنا أهل البيت ... فكَّر عمر، شوف تخيَّل، الإنسان يرى جهنَّم أمامه، بما فيها من العذاب وموضعه، وكل الملائكة والموكَّلين بتعذيبه، كلهم منتظرينه، يقولون: تعال! خلاص على مقربة من العذاب ... ما فيه حل، وهو في الساعات الأخيرة من حياته، فكر شوي، وإلاَّ يقول: لا! لولا أن يُقال أنَّ ابن الخطاب رضخ، أن يُقال أنَّه اعتذر (النار ولا العار) بالضبط، شوف الخبث والدهاء، إنسان، بل ليس إنسان، سافل إلى أبعد درجة، وضيع، لهذا ثق تَماماً أنَّه لو كان في ذلك الموضع أحد ظلمة الأنبياء لكان تاب، ولذلك أبو بكر وعمر هما أنجس وأخسُّ ملعونين، ولذلك حتى إبليس ـ كما عندنا في الروايات ـ في جهنَّم، جهنَّم طبقات ومراتب، إبليس في المرتبة التي أعلا من أبو بكر وعمر، إبليس الذي أغوى الناس(2/15)
ص -17- ... وضلل الناس هذا إبليس نفسه، هذا المخلوق فوق مرتبة أبو بكر وعمر، أبو بكر وعمر في قعر قعر جهنَّم، وأبو بكر وعمر هما أسوأ مخلوقين في الكون منذ بدء الخليقة، مش كذا؟ إحنا عندنا أشرف المخلوقات هم محمد وآله، اللهمَّ صل على محمد وعلى آل محمد، أبو بكر وعمر هم أسوأ المخلوقات، أعدا أعداء الله، يعني مقابل الله مَن؟ إبليس؟ ما هو إبليس، مقابل الله: أبو بكر وعمر، بَعْدِين إبليس تلميذهم!!!".
هذه مقاطع من كلام هذا العاسر البغيض، أثبتها كما هي بلحنها وإحَنِها، وعُجرها وبُجرها، وغيظها وأضغانها، وحقدها وإلحادها، وظُلمها وظلامها، ولو فتَّش مفتِّش عن كلام يطابق هذيان المجانين لم يجد أقربَ من هذه الكلمات وما اشتملت عليه من الروايات، وإنَّ كتباً تشتمل على مثل هذه الروايات المكذوبة حقيقةٌ بالإتلاف والإحراق، وإنَّ عقيدة تُبنى على مثل هذه الأساطير والخرافات جديرةٌ أن يتبرَّأ(2/16)
ص -18- ... منها مَن وفَّقهم الله من أصحابها، وأن ينبذوها رغبة عنها نبذ النواة، ولا شكَّ أنَّ الأئمَّة الذين افتُري عليهم مثل هذه الروايات بريئون منها ومِمَّن افتراها أو تابَع مَن افتراها.
ومِمَّن وفَّقهم الله للتخلص من الابتلاء ببغض الصحابة وذمِّهم، والظَّفَر بسلامة القلوب والألسنة من ذلك، ومحبَّتهم والثناء عليهم: الشريف أبو طالب بن عمر العلوي، فقد ذكر أبو طاهر السِّلفي في المشيخة البغدادية عند ذكر شيخه الشريف أبي منصور أحمد بن عبد الله بن الدَّبخ الهاشمي، عن شيخه الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن العلوي: أنَّ أبا طالب بن عمر العلوي كان على سبِّ الصحابة رافضيًّا، فتاب وأناب إلى الله تعالى مِمَّا سبق، وقال: "عشتُ أربعين سنة أسبُّ الصحابةَ، أشتهي أن أعيش مثلها حتى أذكرَهم بخير".(2/17)
ص -19- ... ومَن لم يهتد من هؤلاء، وتعدَّى على جَناب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كهذا الحاقد الجديد، فلَن يجد أمامه إلاَّ إظهار خزيه ودحض باطله؛ انتصاراً للصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، الذين هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عرف الناسُ الكتابَ والسنة والهدى والضلال إلاَّ عن طريق أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، والقدح في الناقل قدحٌ في المنقول، كما قال أبو زرعة الرازي رحمه الله: "إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنَّة، والجرحُ بهم أولى، وهم زنادقةٌ"، أورده عنه الخطيب البغدادي بإسناده إليه في كتابه الكفاية (ص 49).(2/18)
ص -20- ... ولا أدري هل فكَّر هذا الحاقد أو لم يفكِّر أنَّ خزيَه هذا لن يُنشر، وأنَّه سيبقى سبَّة عليه، وعلى كلِّ مَن كان على شاكلته من متقدِّمي أسلافه ومتأخريهم، وسواء فكَّر أو لم يفكِّر، فإنَّ هذيانه هذا من أعظم الإجرام، وفَقْدُ الحياء يُؤدِّي إلى كلِّ بلاء، وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِمَّا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لَم تستح فاصنع ما شئت" رواه البخاري (3483)، وإذا لَم يهتد قبل الموت هذا المجرم الأفَّاك الذي يزعم أنَّ أبا بكر رضي الله عنه في النار، وأنَّه أشدُّ من إبليس عذاباً في نار جهنَّم، فسيجمع الله له إلى خزي الدنيا عذاب الآخرة.
وأمَّا عثمان بن عفان رضي الله عنه فلَم يسلم من حاقد آخر جديد من القطيف يُدعى حسن الصفار، فقد قال في شريط له: "فإذا أوَّل سمة من سمات التاريخ الشيعي هي سمة العطاء، هي سمة العمل، هي سمة النشاط، وكان الشيعة في كلِّ العصور في عصور(2/19)
ص -21- ... الخلفاء حتى في عهد الخليفة أبي بكر وعمر، لم يكن الشيعة جامدين وإنَّما كانوا يعملون حتى استطاعوا أن يفجروا الثورة الكبرى في عهد عثمان، وأن يأخذوا الخلافة والحكم إلى الإمام علي، في مشكلة ... كثير من الناس لا يعرفون أنَّ الثورةَ التي حدثت على الخليفة عثمان إنَّما كانت بتخطيط شيعي، وقد شارك فيها عمار بن ياسر، بل كان هو المخطِّط لها عمار بن ياسر، إنَّما لأنَّ معاوية جعل مقتل عثمان كالقميص ضد الإمام علي، وحارب الإمام علي بتهمة قتل عثمان.
الإمام علي بشكل طبيعي ما كان إِلُهْ يد مباشرة في العمل في مقتل عثمان، لذلك الشيعة يتبرَّؤون من هذه القضية حتى لا يأخذ أهل السنة مستمسك عليهم، وإلاَّ فالشيعة هم الذين قتلوا عثمان جزاهم الله خيراً، فكان عندهم عمل، في عهد بني أمية، كان عندهم عمل، كان عندهم عمل في عهد بني العباس، كان عندهم عمل، ثورات متتالية، متتابعة كانت في تاريخ(2/20)
ص -22- ... الشيعة .. هذه السمة الأولى العطاء"!!!
وقد ذكر هذا الحاقد أنَّ الشيعة فجَّروا الثورة الكبرى في عهد عثمان، وأنَّهم قتلوه، ودعا لهم على قتلهم إيَّاه، وأنَّ هذا من عطائهم، وأمَّا عمار بن ياسر رضي الله عنه فهو بريء مِمَّا نسبه إليه براءة الذئب من دم يوسف عليه الصلاة والسلام.
وهذا العاسر البغيض التائه الذي شوى الحقدُ قلبَه وأحرق فؤادَه حتى كاد يتميز من الغيظ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما له أسلافٌ تفوَّهوا بمثل كلامه القبيح، منهم نعمة الله بن عبد الله بن محمد بن حسين الحسيني الجزائري (من جزائر البصرة)، ذكره صاحب معجم المؤلفين (13/110)، وكانت وفاته سنة (1112هـ)، فقد جاء في كتابه الأنوار النعمانية، طبعة مطبعة شركة جاب تبريز بإيران، من الجفاء في أبي بكر(2/21)
ص -23- ... وعمر رضي الله عنهما قوله: (1/81 ـ 82): "وإنَّما الإشكال في تزويج علي عليه السلام أم كلثوم لعمر ابن الخطاب وقت تخلفه؛ لأنَّه ظهرت منه المناكير، وارتدَّ عن الدِّين ارتداداً أعظم من كلِّ مَن ارتدَّ، حتى إنَّه قد وردت روايات الخاصة أنَّ الشيطان يغل بسبعين غلاًّ من حديد جهنَّم، ويُساق إلى المحشر، فينظر ويرى رجلاً أمامه تقوده ملائكة العذاب، وفي عنقه مائة وعشرون غلاًّ من أغلال جهنَّم، فيدنو الشيطان إليه، ويقول: ما فعل الشقي حتى زاد عليَّ في العذاب، وإنَّما أغويت الخلق وأوردتهم موارد الهلاك؟! فيقول عمر للشيطان: ما فعلتُ شيئاً سوى أنِّي غصبت خلافة علي بن أبي طالب!!
والظاهر أنَّه استقلَّ سبب شقاوته ومزيد عذابه، ولم يعلم أنَّ كلَّ ما وقع في الدنيا إلى يوم القيامة من الكفر والطغيان واستيلاء أهل الجور والظلم، إنَّما هو من فَعْلَته هذه!!!".(2/22)
ص -24- ... وأفحشُ من ذلك وأقبح قوله (2/278): "ووجه آخر لهذا، لا أعلم إلاَّ أنِّي رأيته في بعض الأخبار، وحاصله أنَّا لم نجتمع معهم على إله، ولا على نبي، ولا على إمام؛ وذلك أنَّهم يقولوا (كذا): إنَّ ربَّهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وآله نبيَّه، وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الربِّ، ولا بذلك النبي، بل نقول: إنَّ الربَّ الذي خليفةُ نبيِّه أبو بكر ليس ربنا، ولا ذلك النَّبي نبينا!!!".
وهذا الكلام من هذا الجزائري لَم يَدَع فيه مجالاً للقائلين منهم عند لقائهم بعض أهل السنَّة: كلُّنا مسلمون، الرَّبُّ واحد، والنَّبيُّ واحد، والقبلة واحدة، والمذهب الجعفري كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي!
وقد أثنى يوسف بن أحمد البحراني على هذا الجزائري وكتابه، فقال في كتابه لؤلؤة البحرين في(2/23)
ص -25- ... الإجازات وتراجم رجال الحديث (ص 111) نشر دار الأضواء ببيروت: "وكان هذا السيِّد فاضلاً محدِّثاً مدقِّقاً، واسع الدائرة في الاطِّلاع على أخبار الإمامية، وتتبع الآثار المعصومية!!"، ووَصَف كتابه الأنوار النعمانية بأنَّه كبير مشتمل على كثير من العلوم والتحقيقات!!
وقد وُصف هذا البحراني على طرة كتابه بالعلاَّمة المحدِّث الشهير!
وفي ترجمة الجزائري المذكورة في مقدمة كتابه الأنوار النعمانية (صفحة: ي ـ ل) ثناء سبعة من علمائهم عليه، آخرهم هذا البحراني.
ومنهم كاظم الأزري وهو من علمائهم بين القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري، فقد أنشأ قصيدة هائية طويلة تبلغ ألف بيت، فيها غلوٌّ في بعض أهل البيت، وجفاء في الصحابة الكرام رضي الله عنهم(2/24)
ص -26- ... عموماً، وفي الشيخين الجليلين والخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خصوصاً، وقد وقفت على أبيات من هذه القصيدة في كتاب الأستاذ محمود الملاَّح، وعنوانه: "الرزية في القصيدة الأزرية"، وله تعليقات جيدة على ما أورده من أبياتها، فجزاه الله خيراً، وقد قال (ص 32): "القصيدة الأزرية الهائية، التي تستحق أن تسمى بـ (هاء) الهاوية، معروفة في الأوساط المختلفة، كنَّا نسمع منها نبذاً منبوذة، وطالَما تشوَّقنا إلى لقائها الكريه! فنزلت في هذه الأيام إلى الأسواق سافرة غير محتجبة، كما نزل غيرها من الموبقات السافرة! وهي مِمَّا نشرته المطبعة الحيدرية في النجف، وهي إحدى المطابع التي أخذت على عاتقها تحقيق منهاج معيَّن، ينكشف لنا أوَّلاً فأولاً! وكان طبعها سنة (1370هـ").
وذكر أنَّ لها مقدمة بقلم محمد رضا المظفر، وقال: "ومِمَّا جاء في المقدمة قوله في صفحة (40): (وكان(2/25)
ص -27- ... لدى علماء عصره مبجَّلاً محترَماً، لا سيما عند السيد بحر العلوم، وتُنقل إلى اليوم على ألسنة الناس مبالغات في احترامه وتقدير ألفيته، خاصة لدى العلماء! حتى يُنقل عن الشيخ صاحب الجواهر أنَّه كان يتمنَّى أن تكتب في ديوان أعماله القصيدة الأزرية مكان كتابه جواهر الكلام").
إلى أن قال صاحب المقدمة: "وهي ينبغي أن تُعدَّ كتاباً دينيًّا لا قصيدة؛ فإنَّها تُمثِّل رأي الإمامية في النبوة والإمامة، وفيه كثير من المباحث الكلامية وإقامة الحجج عليها، تغني بجملتها عن مجلدات ضخمة!!".
وهذا الشاعر كاظم بن محمد بن مراد بن المهدي التميمي الأزري البغدادي، ذكره صاحب معجم المؤلفين (8/139)، وذكر أنَّ وفاته سنة (1212هـ)، ومِمَّا جاء في قصيدته الأزرية في الجفاء في الصحابة عموماً البيت في (ص 45):(2/26)
ص -28- ... أنَبيٌّ بلا وصي؟!! تعالى اللـ ... ـه عمَّا يقوله سفهاها!!!
ويعني بالسفهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل السنَّة الذين ساروا على نهجهم!
وأسوأ من ذلك البيت في (ص 51):
أهم خير أمَّة أخرجت للنَّا ... س؟! هيهات ذاك بل أشقاها!!!
فهو يُنكر أن يكون الصحابة خير أمَّة أُخرجت للناس، ويزعم أنَّهم شرُّ أمَّة أُخرجت للناس، وفي هذا مقابلة ومعارضة ومناقضة لقول الله عزَّ وجلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، وقد نطق هذا الأزري بالوزر العظيم وصرَّح بما أشار إليه ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية بقوله (ص 469): "فمَن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غِلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النَّبيِّين، بل قد فضَلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: مَن خير أهل ملَّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: مَن(2/27)
ص -29- ... خير أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: مَن شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، ولم يستثنوا منهم إلاَّ القليل، وفيمَن سبُّوهم مَن هو خير مِمَّن استثنوهم بأضعاف مضاعفة".
ومن جفائه في أبي بكر رضي الله عنه البيتان في (ص 47، 79):
أولا ينظرون ماذا دهتهم ... قصة الغار من مساوي دهاها
وكذا في براءة لَم يبسمل ... حيث جلت بذكره بلواها
فإنَّ هذا التائه جعل منقبة أبي بكر رضي الله عنه في دخوله الغار مع النَّبي صلى الله عليه وسلم مذمَّة، وأسوأ من ذلك زعم هذا الأفَّاك أنَّ سورةَ براءة خلت من البسملة؛ لأنَّ أبا بكر رضي الله عنه ذكِر فيها، وأنَّ هذا الذِّكر عظمت به المصيبة وجلَّت به البلوى!!
ومِن ذمِّه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وجفائه فيهما البيتان في (ص 52):(2/28)
ص -30- ... أي مرقى من الفخار قديماً ... وحديثاً أصابه شيخاها؟!
أي أكرومة ولو أنَّها قلـ ... ـت ودقَّت إليهما منتماها
وفي مقابل هذا الجفاء في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يأتي بالغلو الشديد في علي رضي الله عنه، مع جفاء في الرسل والأنبياء، ومنه هذه الأبيات في (ص 34، 35، 36).
وهو الآية المحيطة في الكو ... ن ففي عين كلِّ شيء تراها
الفريد الذي مفاتيح علم الـ ... واحد الفرد غيره ما حواها
واسأل الأنبياء تنبيك عنه ... إنَّه سرُّها الذي نبَّاها
جمع الله فيه جامعة الرسـ ... ـل وآتاه فوق ما آتاها!
لك كف من أبحر الله تجري ... أنهر الأنبياء من مجراها!
ورأت قسوراً لو اعترضته الـ ... إنس والجن في وغى أفناها!
وتعليقي على هذه الأبيات التي هي غاية في الغلو، أقول: إنَّه يصدق عليها الوصف المشهور: يضحك النمل في قراها، والنحل في خلاياها!(2/29)
ص -31- ... وبعد أن أوردتُّ كارهاً مضطرًّا فيما تقدَّم من كلام هذا الحاقد الجديد وبعض أسلافه من المتقدِّمين والمتأخرين كلماتٍ مظلمة موحشة في الغلوِّ في بعض القرابة والجفاء في الأنبياء والصحابة، وعلى الأخصِّ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنِّي أوردُ هنا كلمات مشرقة مضيئة مُؤنسة من كلام خير الصحابة والقرابة بعضهم في بعض.
فمِمَّا قاله خيرُ القرابة وأفضل هذه الأمَّة بعد الخلفاء الثلاثة قبله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما:
1 ـ روى البخاري في صحيحه (3671) بإسناده عن محمد بن الحنفية ـ وهو محمد بن علي بن أبي طالب ـ قال: "قلت لأبي: أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثمَّ مَن؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلاَّ رجل من المسلمين".(2/30)
ص -32- ... 2 ـ روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن يعني الغُداني الأشَل، عن الشعبي، حدَّثني أبو جُحَيفة الذي كان عليٌّ يُسمِّيه وَهْب الخير، قال: قال لي علي: "يا أبا جُحيفة! ألا أخبرُك بأفضل هذه الأمَّة بعد نبيِّها؟ قال: قلت: بلى! قال: ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث ولم يُسمِّه" وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين، إلاَّ منصور ابن عبد الرحمن فهو من رجال مسلم، وأثر عليٍّ هذا عن أبي جحيفة جاء في مسند الإمام أحمد وزوائده لابنه عبد الله من طرق صحيحة أو حسنة، وأرقامها من (833) إلى (837) و(871).
3 ـ وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (474) قثنا الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى، قالا: ثنا(2/31)
ص -33- ... شهاب بن خراش، قال: حدَّثني الحجاج بن دينار، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي قال: "ضرب علقمة ابن قيس هذا المنبر، فقال: خطبنا عليٌّ على هذا المنبر، فحمد الله وذكره ما شاء الله أن يذكره، ثم قال: ألا إنَّه بلغني أنَّ أناساً يفضِّلوني على أبي بكر وعمر، ولو كنتُ تقدَّمتُ في ذلك لعاقبتُ، ولكنِّي أكره العقوبةَ قبل التقدُّم، فمَن قال شيئاً من ذلك فهو مفتَر، عليه ما على المفتري، إنَّ خيرَ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ...".
وهذا إسناد حسن، وأبو معشر هو زياد بن كليب، وهو ثقة.
وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (993)، وقال الألباني: "إسناده حسن".
وفي زوائد فضائل الصحابة (49) عن عبد الله بن أحمد بإسناد فيه ضعف إلى الحكم بن جَحْل قال:(2/32)
ص -34- ... سمعتُ عليًّا يقول: "لا يفضلني أحَدٌ على أبي بكر وعمر إلاَّ جلدته حدَّ المفتري".
وهو أيضاً كذلك في السنة لابن أبي عاصم (1219)، وهو قريب في المعنى من الذي قبله عن علقمة، وقد أشار إبراهيم النخعي إلى هذه العقوبة من عليٍّ لِمَن يفضله على الشيخين بقوله لرجل قال له:
"عليٌّ أحبُّ إليَّ من أبي بكر وعمر"، فقال له إبراهيم: "أمَا إنَّ عليًّا لو سمع كلامَك لأوجع ظهركَ، إذا تجالسوننا بهذا فلا تجالسونا" رواه عنه ابن سعد في الطبقات (6/275) بإسناده إليه عن أحمد بن يونس، عن أبي الأحوص ومفضل بن مهلهل، عن مغيرة، عنه، ورجاله ثقات محتجٌّ بهم، وهم من رجال الصحيحين، إلاَّ المفضل بن مهلهل فهو من رجال مسلم، وفيه عنعنة المغيرة عن إبراهيم، وهو مدلس.
وإذا كانت هذه عقوبةُ علي رضي الله عنه مَن يفضِّله على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فكيف تكون(2/33)
ص -35- ... عقوبته مَن يفضِّله وبعضَ أبنائه وأحفاده على الأنبياء والمرسلين؟!
4 ـ وروى ابن ماجه في سننه (106) قال: حدَّثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلِمة، قال: سمعتُ عليًّا يقول: "خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وخيرُ الناس بعد أبي بكر عمر" ورجاله محتجٌّ بهم، ثلاثة منهم من رجال البخاري ومسلم، وصححه الألباني.
5 ـ وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (7/434) (7053) قال: حدَّثنا ابن نمير، عن عبد الملك بن سَلْع، عن عبد خير، قال: سمعتُ عليًّا يقول: "قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على خير ما عليه نبيٌّ من الأنبياء، قال: ثم استُخلِف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنَّته، ثم قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها، ثم استُخلف عمر،(2/34)
ص -36- ... فعمل بعملهما وسنَّتهما، ثم قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر".
ورجال هذا الإسناد مُحتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سَلْع صدوق.
6 ـ وروى البخاري في صحيحه (3685) ومسلم (3389) عن ابن عباس قال: "وُضع عمر على سريره، فتكنَّفه الناسُ يدعون ويصلُّون قبل أن يُرفع وأنا فيهم، فلَم يَرُعني إلاَّ رجل آخذ منكبي، فإذا علي ابن أبي طالب، فترحَّم على عمر، وقال: ما خلَّفتَ أحداً أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله! إن كنتُ لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبتُ أنِّي كثيراً أسمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر".(2/35)
ص -37- ... هذه نماذج مِمَّا عند أهل السنَّة والجماعة من كلام حسن قاله أبو الحسن علي رضي الله عنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وأيضاً فإنَّ عليًّا رضي الله عنه قد سَمَّى ثلاثةً من أبنائه بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كما في الرياض المستطابة للعامري (ص 179)، وزوَّج عليٌّ رضي الله عنه ابنته من فاطمة أم كلثوم من عمر رضي الله عنه، ولو حصل في نفوس بعضهم على بعض شيء، فإنَّه منزوع منهم في الجنَّة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}.
وإذا نظر مَن له أدنى عقل في هذه الروايات عند أهل السنَّة، ثم نظر في الراويات التي ذكرها هذا الحاقد البغيض عن قومه في ذمِّ أبي بكر وعمر، تبيَّن له الفرق الواضح بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال،(2/36)
ص -38- ... والضياء والظلام، والرائحة الطيبة والرائحة الخبيثة المنتنة.
ومِمَّا جاء عن الخليفتين الرَّاشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1 ـ روى البخاري في صحيحه (3712) أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعليٍّ رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده! لقرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ أن أصلَ من قرابتي".
2 ـ وروى البخاري في صحيحه أيضاً (3713) عن ابن عمر، عن أبي بكر رضي الله عنهم قال:
"ارقُبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته".
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: "يخاطب بذلك الناس ويوصيهم به، والمراقبة للشيء المحافظة عليه، يقول: احفظوه فيهم، فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم".
3 ـ وروى البخاري أيضاً (3542) عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: "صلَّى أبو بكر رضي الله عنه العصر، ثم(2/37)
ص -39- ... خرج يمشي، فرأى الحسنَ يلعب مع الصبيان، فحمَلَه على عاتقه، وقال:
بأبي شبيهٌ بالنَّبيّ ... لا شبيهٌ بعليّ
وعليٌّ يضحك".
قال الحافظ في شرحه: "قوله: (بأبي): فيه حذف تقديره أفديه بأبي"، وقال أيضاً: "وفي الحديث فضل أبي بكر ومحبَّته لقرابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم".
4 ـ وروى البخاري أيضاً (1010) و(3710) عن أنس رضي الله عنه: "أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا قُحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا، قال: فيُسقون".
والمراد بتوسُّل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه التوسُّل بدعائه كما جاء مبيَّناً في بعض الروايات، وقد ذكرها الحافظ في شرح الحديث في كتاب الاستسقاء من فتح(2/38)
ص -40- ... الباري، واختيار عمر رضي الله عنه للعباس رضي الله عنه للتوسُّل بدعائه إنَّما هو لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال رضي الله عنه في توسله: "وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا"، ولم يَقل: بالعباس، ومن المعلوم أنَّ عليًّا رضي الله عنه أفضلُ من العباس، وهو من قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن العباس أقرب، ولو كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُورَث عنه المال لكان العباس هو المقدَّم في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَلحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" أخرجه البخاري ومسلم.
وما يزعمونه من ظلم أبي بكر رضي الله عنه أهل البيت في منع ميراثه صلى الله عليه وسلم وأخذه الخلافة منهم، مردودٌ بكونه رضي الله عنه لم يقسم ميراثه صلى الله عليه وسلم تنفيذاً لِمَا جاء عنه صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري (6725) (6726) ومسلم (1759) عن عائشة: "أنَّ فاطمة والعباس عليهما السلام أتيَا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما(2/39)
ص -41- ... حينئذ يطلبان أرضيهما من فَدَك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث، ما تركنا صدقة، وإنَّما يأكل آلُ محمد من هذا المال" الحديث.
وأمَّا الخلافة، فمعاذ الله أن يتولاَّها أبو بكر رضي الله عنه وهي حقٌّ لغيره، وإنَّما تولاَّها بمبايعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيَّاه، وتحقَّق بهذه البيعة ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "ويأبَى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر"، فقد روى البخاري (5666) ومسلم (2387) في صحيحيهما ـ واللفظ لمسلم ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتبَ كتاباً؛ فإنِّي أخاف أن يَتمنَّى مُتمنٍّ ويقول قائل: أنا أولَى، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر".
5 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/453): "وانظر إلى عمر بن(2/40)
ص -42- ... الخطاب رضي الله عنه حين وضع الديوان، وقالوا له: يبدأ أمير المؤمنين بنفسه، فقال: لا! ولكن ضَعُوا عمرَ حيث وضعه الله، فبدأ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من يليهم، حتى جاءت نوبته في بني عدي، وهم متأخِّرون عن أكثر بطون قريش".
وبالنظر فيما جاء في كلام هذا الحاقد الجديد وأسلافه في الأنبياء والقرابة والصحابة، وما جاء عن أهل السنَّة والجماعة في ذلك يتَّضح ما يلي:
1 ـ أنَّ هذا الحاقدَ الجديد والخمينيَّ فضَّلاَ فاطمة وعليًّا والحسَن والحسين رضي الله عنهم وتسعةً من أولاد الحسين، وهم الأئمَّة الاثنا عشر عندهم على الأنبياء والمرسَلين سوى نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مقدِّمتهم إبراهيم الخليل ثم موسى الكليم ونوح وعيسى وغيرهم، وهذا غلوٌّ في أئمَّتهم وجفاء في(2/41)
ص -43- ... الأنبياء والمرسلين، أمَّا أهل السنَّة والجماعة فيؤمنون بأنَّ رسلَ الله وأنبياءَه جميعاً خيرُ البشر.
2 ـ أنَّ هذا الحاقدَ الجديد وأسلافَه يغلون في أئمَّتهم ويجفون في أكثر أهل البيت، وفي الصحابة جميعاً، إلاَّ نفراً يسيراً منهم، أمَّا أهل السنَّة والجماعة، فهم يتولَّون أهل بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والصحابة جميعاً، ويُنزلون كلاًّ منزلته بالعدل والإنصاف، وفقاً للنصوص الشرعية، وعندهم أنَّ أهلَ البيت هم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وذريَّته، وكلُّ مسلم ومسلمة من بني هاشم بن عبد مناف، وبنو هاشم منحصرون في نسل ابنه عبد المطلب كما في كتب الأنساب وغيرها، وانظر عَقِبَ عبد المطلب في جمهرة أنساب العرب لابن حزم (ص 14 ـ 15)، والتبيين في أنساب القرشيين لابن قدامة (ص 76)، ومنهاج السنة لابن تيمية (7/304 ـ 305)، وفتح الباري لابن حجر (7/78 ـ 79).(2/42)
ص -44- ... فأهل السنَّة يتولَّون الصحابةَ جميعاً، ويتولَّون كلَّ مسلم ومسلمة من قرابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويعرفون الفضلَ لِمَن جمع اللهُ له بين شرف الإيمان وشرف النَّسب، فمَن كان من أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم يُحبُّونه لإيمانه وتقواه، ولصحبته إيَّاه، ولقرابته منه صلى الله عليه وسلم، ومَن لم يكن منهم صحابيًّا، فإنَّهم يُحبُّونه لإيمانه وتقواه ولقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَرون أنَّ شرفَ النَّسَب تابعٌ لشرف الإيمان، ومَن جمع الله له بينهما فقد جمع له بين الحُسنيين، ومَن لَم يُوفَّق للإيمان فإنَّ شرفَ النَّسَب لا يُفيده شيئاً، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر حديث طويل رواه مسلم في صحيحه (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "ومَن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه".
وقد صدر لي في عام (1422هـ) كتاب بعنوان:(2/43)
ص -45- ... "فضل أهل البيت وعلوِّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة"، يشتمل على عشرة فصول، بيَّنتُ في الفصل الأول مَن هم أهل البيت، وأوضحتُ الأدلَّة على دخول زوجاته وعمَّيه حمزة والعباس وأولاد أعمامه في أهل بيته.
ومن محاسن أهل السنَّة والجماعة محبَّتهم للصحابة والقرابة وتولِّيهم إيَّاهم والدعاء لهم، ومن محبَّتهم للصحابة والقرابة أنَّهم يُسمُّون بأسمائهم، وقد ذُكِر عن الحسن بن عرفة وابن دقيق العيد التسمية بأسماء العشرة المبشَّرين بالجنة، ذكر ذلك الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال في ترجمة الحسن بن عرفة، وذكره محمد بن شاكر الكتبي في كتاب فوات الوفيات في ترجمة ابن دقيق العيد (3/443)، وللشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ستة من البنين وبنت واحدة، أسماؤهم: عبد الله، وإبراهيم، وعبد العزيز، وعلي،(2/44)
ص -46- ... وحسن، وحسين، وفاطمة، وكلها من أسماء أهل بيته صلى الله عليه وسلم إلاَّ عبد العزيز، فعبد الله وإبراهيم وفاطمة من أولاده صلى الله عليه وسلم ، وعلي ابن عمِّه وصهره، والحسن والحسين سبطاه.
وقد رزقني الله بنين وبنات، سمَّيتُ منهم بأسماء الخلفاء الراشدين الأربعة، وعبد الرحمن، وهم من العشرة المبشَّرين بالجنة، وباسم فاطمة والحسن والحسين، وبأسماء سبع من أمهّات المؤمنين.
والحمد لله الذي وفَّق أهلَ السنَّة والجماعة لمحبَّة الصحابة والقرابة والثناء عليهم والدعاء لهم، وسلامة قلوبهم وألسنتهم من الغلِّ لهم وذِكرهم بما لا يليق بهم.
ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربَّنا إنَّك رؤوف(2/45)
ص -47- ... رحيم، ربَّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهاب، والحمد لله ربِّ العالَمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(2/46)
عنوان الكتاب:
الإحسان حقيقته - فضله - طرقه
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية
السنة الأولى ، العدد الرابع ، ربيع الأول 1389هـ - أيار 1969م(3/1)
ص -51- ... الإحسان حقيقته - فضله - طرقه
للشيخ عبد المحسن العباد المدرس بالجامعة
الإحسان في اللغة:ضد الإساءة, وهو مصدر أحسن إذا أتى بما هو حسن, وفي الاصطلاح: الإتيان بالمطلوب شرعا على وجه حسن.
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل عليه السلام المشهور حين سأله عن الإسلام و الإيمان فأجابه عن كل منهما, وكان جوابه عند ما سأله عن الإحسان أن قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك", فقد بيّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه مسلم معنى الإحسان: وهو أن يفعل الإنسان ما تعبده الله به كأنه واقف بين يدي الله, وذلك يستلزم تمام الخشية والإنابة إليه سبحانه, ويستلزم الإتيان بالعبادة على وفق الخطة التي رسمها رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ضمّن صلى الله عليه وسلم جوابه عن الإحسان بيان السبب الحافز على الإحسان لمن لم يبلغ هذه الدرجة العالية, والمنزلة الرفيعة, ألا وهو: تذكير فاعل العبادة بأن الله مطلع عليه, لا يخفى عليه شيء من أفعاله, وسيجازيه على ذلك, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر, ولا شك أن العاقل إذا تذكر أن الله رقيب عليه أحسن عمله, رغبة فيما عند الله من الثواب للمحسنين, و خوفا من العقاب الذي أعده للمسيئين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
فضل الإحسان:
ولمزيد عناية الإسلام بالإحسان و عظيم منزلته نوه سبحانه بفضله, و أخبر في كتابه العزيز أنه يحب المحسنين, وأنه معهم, وكفى بذلك فضلا وشرفا, فقال سبحانه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}, وقال: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}, وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا(3/2)
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
جزاء المحسنين:
ومن رحمة الله وفضله أن جعل الجزاء من جنس العمل, ومن ذلك أنه جعل ثواب الإحسان إحسانا كما قال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ},(3/3)
ص -52- ... فمن أحسن عمله أحسن الله جزاءه, وقد أوضح الله سبحانه في كتابه العزيز جزاء المحسنين, وأنه أعظم جزاء و أكمله, فقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}, وهذه الآية فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه بأن الحسنى: الجنة, والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل, ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك العمل الذي هو الإحسان من المناسبة؛ فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرون جزاءهم على ذلك العمل النظر إليه عيانا في الآخرة, وعلى العكس من ذلك الكفار الذين طبعوا على قلوبهم فلم تكن محلا لخشيته و مراقبته في الدنيا, فعاقبهم الله على ذلك بأن حجبهم عن رؤيته في الآخرة كما قال تعالى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}, وكما أنّ جزاء الذين أحسنوا الحسنى؛ فإن عاقبة الذين أساءوا السوأى كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}. ومما ذكره الله في جزاء المحسنين قوله: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}, وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} الآية, وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ, جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية, وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}, وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}(3/4)
الآية, وقوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}, وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}, إلى غير ذلك من الآيات .
طرق الإحسان :
والإحسان مطلوب في العبادات والمعاملات فأي عبادة افترضها الله على العبد فإن عليه أن يأتي بها على الوجه الذي رضيه سبحانه من إخلاصها له و موافقتها لشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم, وكما أن الإنسان يحب لنفسه أن يعامله غيره معاملة حسنة, فإن عليه أن يحسن إلى غيره, ويعامله بمثل ما يحب أن يعامل به هو, ذلك بسلوك طرق الإحسان التي نتعرض لبعضها فيما يلي على سبيل الاختصار:
1- الإحسان بالنفع البدني:
وذلك بأن يجود ببذل ما يستطيعه من القوة البدنية في تحصيل المصالح ودفع المفاسد, فيمنع الظالم من الظلم, و يميط الأذى عن الطريق مثلا, وهذه الطريق هي التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث المتفق عليه: "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس, تصلح بين اثنين صدقة, وتعين الرجل في دابته, فتحمله عليها صدقة, أو ترفع عليها متاعه صدقة, و الكلمة الطيبة صدقة, وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة, و تميط الأذى عن الطريق صدقة".
2- الإحسان بالمال :
ومن وسّع الله عليه الرزق, وآتاه المال؛ فإنّ عليه أن يشكر الله على ذلك بصرفه في الطرق التي شرعها, فيقضي(3/5)
ص -53- ... الحاجة, ويواسي المنكوب, ويفك الأسير, ويقري الضيف, ويطعم الجائع تحقيقا لقوله سبحانه: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}.
3- الإحسان بالجاه :
وإذا لم يتمكّن المؤمن من قضاء حاجة أخيه وإيصال النفع إليه, فعليه أن يكون عوناً له في سبيل تحصيلها, وذلك بالسعي معه لدى من يستطيع ذلك, إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, وامتثالا لأمره, فقد شفع صلى الله عليه وسلم لمغيث لدى زوجته بريرة رضي الله عنها, وأمر أصحابه بالشفاعة فقال: "اشفعوا تأجروا" متفق عليه.
4- الإحسان بالعلم:
وهذه الطريق مع التي تليها أعظم الطرق و أتمها نفعا؛ لأن هذا الإحسان يؤدي إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة, وبه يعبد الله على بصيرة, فمن يسر الله له أسباب تحصيل العلم وظفر بشيء منه كانت مسئوليته عظيمة, ولزمه القيام بما يجب للعلم من تعليم الجاهل وإرشاد الحيران, وإفتاء السائل, وغير ذلك من المنافع التي تتعدى إلى الغير .
5- الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
ولم تكن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس إلا بسلوكها تلك الطريق, كما أنّ بني إسرائيل لم يلعن من لعن منهم على لسان أنبيائهم إلا لتخليهم عن ذلك الواجب من عدم اكتراثهم بارتكاب المنكرات, قال الله تعالى في حق هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}, وقال في حق بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}, ثم بيّن سبب اللعن بقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ, كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} ولا يحصل المطلوب ويتم النفع إلا إذا كان الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر مؤتمرا بما يأمر به, ومنتهيا عما ينهى عنه, وإلا كان أمره ونهيه وبالاً(3/6)
عليه لقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}, والإحسان إلى الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لا بد أن يكون عن علم؛ لأن الجاهل قد يأمر بما هو منكر, وقد ينهى عما هو معروف, ولا بد أن يجمع إلى العلم الحكمة, ويصبر على ما أصابه, و من الأدلة على هذه الأمور الثلاثة قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}, وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}, وقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم إنكار المنكر على ثلاث مراتب إن لم تحصل المرتبتان الأوليتان فلا أقل من الثالثة التي هي أضعف الإيمان, كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليُغيِّرهُ بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان".(3/7)
عنوان الكتاب:
الإخلاص
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية
السنة الأولى ، العدد الثاني ، رجب 1388هـ - تشرين أول 1968م(4/1)
ص -50- ... الإخلاص
للشيخ عبد المحسن العباد المدرس في الجامعة
هو في اللغة: تخليص الشيء وتجريده من غيره, فالشيء يسمى خالصا إذا صفا عن شوبه وخلص عنه, ويسمى الفعل المصفى المخلص من الشوائب إخلاصا, وفي الأول قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}, فاللبن الخالص ما سلم وصفا من الدم والفرث ومن كل ما يشوبه ويكدر صفاءه, ومن الثاني قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَهُ}.
وفي الاصطلاح: تصفية ما يراد به ثواب الله وتجريده من كل شائبة تكدر صفاءه وخلوصه له سبحانه.
منزلته: الإخلاص هو أساس النجاح والظفر بالمطلوب في الدنيا والآخرة, فهو للعمل بمنزلة الأساس للبنيان, وبمنزلة الروح للجسد, فكما أنه لا يستقر البناء ولا يتمكّن من الانتفاع منه إلا بتقوية أساسه وتعاهده من أن يعتريه خلل فكذلك العمل بدون الإخلاص, وكما أن حياة البدن بالروح فحياة العمل وتحصيل ثمراته بمصاحبته وملازمته للإخلاص, وقد أوضح ذلك الله في كتابه العزيز فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ, وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}, ولما كانت أعمال الكفار التي عملوها عارية من توحيد الله وإخلاص العمل له سبحانه جعل وجودها كعدمها فقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}. والإخلاص أحد الركنين العظيمين اللذين انبنى عليهما دين الإسلام, وهما إخلاص العمل لله وحده وتجريد المتابعة للرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ(4/2)
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}, قال: "أخلصه وأصوبه", قيل: "يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل, وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل, حتى يكون خالصا صوابا, فالخالص: ما كان لله,(4/3)
ص -51- ... والصواب: ما كان على السنة". وقال شارح الطحاوية: "توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما؛ توحيد المرسل سبحانه وتوحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, فيوحده صلى الله عليه وسلم بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان, كما يوحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل".
محله: ومحل الإخلاص القلب, فهو حصنه الذي يقطن فيه, فمتى كان صالحا عامرا بسكناه وحده تبع ذلك صلاح الجوارح, ومتى كان خرابا سكن فيه الرياء وملاحظة الناس وكسب ودهم وتحصيل ثنائهم والطمع فيما عندهم, ويتبع ذلك سعي الجوارح لتحصيل هذه الأغراض الدنية, وليس أدل على ذلك وأوضح بيانا من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, إلا وهي القلب", وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وبيَّن تبعية الجوارح لما يقوم بالقلب بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرىء ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
والإخلاص مطلوب في الصلاة والزكاة والصيام والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي كل ما شرعه الله من قول أو فعل, فيقوم الإنسان بتأدية ما شرع له, والباعث له عليه امتثال أمر الله خوفاً من عقابه, وطمعاً فيما لديه من الأجر والثواب.
والإخلاص مطلوب أيضا فيما يلتزمه الإنسان من الأعمال فهو مطلوب من العامل, ومن المستشار والمؤتمن والموظف, ومن المعلم والمتعلم, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على طلب العلم والإخلاص فيه من النتائج الحميدة, وما يترتب على فقده من العواقب الوخيمة بقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه, وروى عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه(4/4)
وسلم قال: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها, فقال: "ما عملت فيها؟" قال: "قاتلت فيك حتى استشهدت", قال: "كذبت؛ ولكنك قاتلت ليقال: جريء, فقد قيل", ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار, ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها فقال: "ما علمت؟" قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك" قال: "كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت ليقال: قارىء, فقد قيل, ثم أمر به فسحب وجهه حتى ألقي على النار" الحديث.
ويروى أن معاوية رضي الله عنه لما بغله هذا الحديث بكى حتى أغمي عليه, فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله؛ قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}, ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تعلّموا العلم لثلاث؛ لتماروا به السفهاء, ولتجادلوا به الفقهاء, أو لتصرفوا وجهة الناس إليكم, وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند(4/5)
ص -52- ... الله فإنه يبقى ويذهب ما سواه".
الحث عليه وبيان فضله:
ولما كان الإخلاص بهذه المنزلة التي تقدم وصفها جاء الشرع المطهر في الحث عليه والترغيب فيه وبيان فضله في آيات كثيرة وأحاديث عديدة, نذكر بعضها على سبيل التمثيل فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}, وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}, وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّه} الآية.. وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَه} (الأنعام: الآية 162- 163), وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} (الكهف: من الآية110), وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (الزمر:14).
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لأصحابه في غزوة تبوك: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم سيرا, ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم حسبكم المرض" وفي رواية: "إلاّ شركوكم في الأجر" متفق عليه واللفظ مسلم, ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاّ أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" متفق عليه.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" رواه مسلم, ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" جوابا لمن سأله عن رجل يقاتل شجاعة ويقاتل الحمية ويقاتل رياء أيّ ذلك في سبيل الله, وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يكتسبه الإنسان في(4/6)
الدنيا بسبب الإخلاص إلى جانب ما أعده الله له في الآخرة من مثوبة بما ذكره صلى الله عليه وسلم من قصة الثلاثة الذين آووا إلى غار للمبيت فيه فانحدرت صخرة وسدّت عليهم باب الغار ففرج الله عنهم ذلك بسبب إخلاصهم الأعمال الصالحة له سبحانه وتعالى.
ما يضاد الإخلاص وبم تحصل السلامة منه:
وكما أن الإخلاص تصفية الشيء مما يشوبه فإذا لم تحصل تصفيته انتفى الإخلاص.
إذا قام الإنسان بعمل محمود والباعث له عليه ابتغاء وجه الله سمّي عمله إخلاصاً فإذا فقد ذلك الباعث على العمل أو وجد ولكنه مشوب بباعثٍ آخر كالرياء انتفت التسمية, فإخلاص العمل لله وحده ينافيه, ويقابله أن يحلّ في القلب قصد المخلوقين التماساً لحمدهم وثنائهم وطمعاً فيما عندهم, ولما كان ذلك ينافي الإخلاص جاءت الشريعة الإسلامية بذم الرياء ومقت المرائين فقد قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ, الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ, وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}. وأخبر أن الرياء من صفات المنافقين فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى}, وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول(4/7)
ص -53- ... الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه".
ومن ابتلاه الله بهذا الداء العضال فعليه أن يسعى في تحصيل الأدوية النافعة التي تستأصله وتقضي عليه, ومن أبرزها شيئان:
أحدهما: أن يزهد فيما ينتظر من الناس من الثناء والعطاء.
والثاني: أن يحمل نفسه على إخفاء الأعمال.
وقد أوضح الأول منهما ابن القيم في الفوائد ص 148 فقال:" لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلاّ كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت, فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين الناس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيها زهد عشاق الدنيا والآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهل عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلاّ وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره, ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه, وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهل عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين, ويضر ذمه ويشين إلاّ الله وحده, كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ مدحي زين وذمّي شين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الله عز وجل", فازهد في مدح من لا يزينك مدحه ولا يشينك ذمه, وارغب في مدح مَنْ كل الزين في مدحه وكل شين في ذمه, ولن تقدر على ذلك إلاّ بالصبر واليقين, فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب, قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}, وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} " انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وقد أشار النبي(4/8)
صلى الله عليه وسلم إلى إخفاء العبادة ابتعاداً عن الرياء بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله, "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
فالحاصل أن العمل مذموم إذا كان الباعث عليه التماس حمد الناس وثنائهم, والطمع فيما عندهم, أما إذا عمل الإنسان العمل خالصا لله ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بسبب ذلك العمل فارتاح لذلك واستبشر به لم يضره, ولم ينقص من أجره, بدليل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يعمل العمل محبة لله فيحمد الناس عليه قال:" تلك عاجل بشرى المؤمن" رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه.(4/9)
عنوان الكتاب:
الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثاينة - العدد الرابع ربيع الثاني 1390هـ(5/1)
ص -31- ... الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح
بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
نسب الإمام البخاري:
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي. فجده بردزبه ضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وكسر الدال المهملة وسكون الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة بعدها هاء. قال الحافظ ابن حجر: "هذا هو المشهور في ضبطه, وبردزبه في الفارسية الزراع كذا يقول أهل بخارى, وكان بردزبة فارسيا على دين قومه" انتهى.
وجده المغيرة ابن بردزبه أسلم على يدي يمان البخاري والي بخارى ويمان جعفي فنسب إليه لأنه مولاه من فوق, عملا بمذهب من يرى أن من أسلم على يد شخص كان ولاؤه له.
وجده إبراهيم قال الحافظ ابن حجر إنه لم يقف على شيء من أخباره.
وأبوه إسماعيل ترجم له ابن حبان في الثقات وقال: "إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري يروي عن حماد بن زيد ومالك وروى عنه العراقيون", وترجم له الحافظ في تهذيب التهذيب.
متى وأين ولد:-
ولد رحمه الله في بخارى (وهي من أعظم مدن ما وراء النهر بينها وبين سمرقند مسافة ثمانية أيام) في يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة(5/2)
ص -32- ... خلت من شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة.
نشأته وبدؤه طلب العلم: -
توفي والده وهو صغير فنشأ في حجر أمه وأقبل على طلب العلم منذ الصغر وقد تحدث عن نفسه فيما ذكره الفِرَبْري عن محمد بن أبي حاتم ورّاق البخاري قال: سمعت البخاري يقول: "ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب"، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟، قال : "عشر سنين أو أقل"، إلى أن قال: "فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء - يعني أصحاب الرأي-" ، قال: "ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج, فلما طعنت في ثمان عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين ثم صنفت التاريخ بالمدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتبه في الليالي المقمرة"، قال: "وقلَّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت أن يطول الكتاب".
رحلته في طلب العلم وسماعه الحديث: -
اشتغل وهو صغير في طلب العلم وسماع الحديث فسمع من أهل بلده من مثل محمد بن سلام ومحمد بن يوسف البيكنديين وعبد الله بن محمد المسندي وابن الأشعث وغيرهم ثم حج هو وأمه وأخوه أحمد وهو أسن منه سنة عشر ومائتين فرجع أخوه بأمه وبقي في طلب العلم فسمع بمكة من الحميدي وغيره وبالمدينة من عبد العزيز الأويسي ومطرف ابن عبد الله وغيرهم ثم رحل إلى أكثر محدثي الأمصار في خراسان والشام ومصر ومدن العراق وقدم بغداد مرارا واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علمي الرواية والدراية وسمع ببلخ من مكي بن إبراهيم وغيره وبمرو من علي بن الحسن وعبد الله بن عثمان وغيرهما وبنيسابور من يحيى بن يحيى وغيره وبالري من إبراهيم بن موسى وغيره وببغداد من شريح بن النعمان وأحمد بن حنبل وغيرهما وبالبصرة من أبي عاصم النبيل ومحمد بن عبد الله الأنصاري وغيرهما وبالكوفة من طلق بن غنام وخلاد بن يحيى وغيرهما وبمصر من سعيد بن كثير بن عفير وغيره وسمع من أناس كثيرين غير هؤلاء ونقل عنه أنه قال: "كتبت عن(5/3)
ص -33- ... ألف وثمانين نفسا ليس فيهم إلا صاحب حديث", وقال أيضا: "لم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل".
ذكاؤه وقوة حفظه: -
وكان رحمه الله قوي الذاكرة سريع الحفظ ذكر عنه المطلعون على حاله ما يتعجب منه الأذكياء ذوو الحفظ والإتقان فضلا عمن سواهم فقد قال أبو بكر الكلذواني: "ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الحديث من مرة واحدة".
وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: تحفظ جميع ما أدخلته في المصنف، قال: "لا يخفى علي جميع ما فيه", وقال محمد بن حمدوية: سمعت البخاري يقول: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح, ومائتي ألف حديث غير صحيح". وقال محمد بن الأزهر السجستاني: كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه, ولعل من أعجب ما نقل عنه في ذلك ما قاله الحافظ أبو أحمد ابن عدي كما في تاريخ بغداد ووفيات الأعيان وغيرهما سمعت عدة مشائخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: "لا أعرفه"، فسأله عن آخر فقال: "لا أعرفه", فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول: "لا أعرفه"، فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم, ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز(5/4)
والتقصير وقلة(5/5)
ص -34- ... الفهم, ثم انتدب رجل آخر من العشرة وسأله كما سأله الأول والبخاري رحمه الله يجيب بما أجاب به الأول ثم الثالث والرابع حتى فرغ العشرة مما هيأوه من الأحاديث فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا وحديثك الثاني قلت كذا وصوابه كذاوالثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل، وعند ذكر هذه القصة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "هنا يخضع للبخاري فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا, بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة".(5/6)
نماذج من ثناء الناس عليه رحمه الله: -
وقد كان البخاري رحمه الله موضع التقدير من شيوخه وأقرانه تحدثوا عنه بما هو أهله وأنزلوه المنزلة التي تليق به وكذلك غيرهم ممن عاصره أو جاء بعده وقد جمع مناقبه الحافظان الكبيران الذهبي وابن حجر العسقلاني في مؤلفين خاصين كما ذكر ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ وابن حجر في تهذيب التهذيب. ولعل من المناسب هنا ذكر بعض النماذج من ذلك:
قال أبو عيسى الترمذي: "كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير فقال له لما قام: يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة فاستجاب الله تعالى له فيه"..ويقول الإمام البخاري: "كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب يقول: "بيّن لنا غلط شعبة"، وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: سمعت يحيى بن جعفر البيكندي يقول: "لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم".. وقال أحمد بن حنبل: "ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل", ولما بلغ علي بن المديني قول البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني" قال لمن أخبره: "دع قوله؛(5/7)
ص -35- ... ما رأى مثل نفسه".. وقال رجاء بن رجاء: "هو - يعني البخاري - آية من آيات الله تمشي على ظهر الأرض". وقال أبو عبد الله الحاكم في تاريخ نيسابور: "هو إمام أهل الحديث بلا خلاف بين أهل النقل".. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري".. ويقول الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: "وكان رأسا في الذكاء رأسا في العلم رأسا في الورع والعبادة"، ويقول في كتابه العبر: "وكان من أوعية العلم يتوقد ذكاء ولم يخلف بعده مثله رحمة الله عليه"، وقال الحافظ ابن حجر في كتابه تقريب التهذيب: "أبو عبد الله البخاري جبل الحفظ وإمام الدنيا ثقة الحديث".
وقال الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "هو إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه"، وقال: "وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء والرغبة في الآخرة دار البقاء"، وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: "هو إمام المسلمين وقدوة الموحدين وشيخ المؤمنين والمعول عليه في أحاديث سيد المرسلين وحافظ نظام الدين"، وقال محمد بن يعقوب الأخرم سمعت أصحابنا يقولون: لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل على الخيل سوى من ركب بغلا أو حمارا وسوى الرجالة". هذا غيض من فيض مما قيل في الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى برحمته الواسعة.(5/8)
مصنفاته: -
وقد أتحف الإمام البخاري رحمه الله المكتبة الإسلامية بمصنفات قيّمة نافعة أجلّها وعلى رأسها كتابه الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي.
ومن مؤلفاته: الأدب المفرد, ورفع اليدين في الصلاة, والقراءة خلف الإمام, وبر الوالدين, والتأريخ الكبير, والأوسط, والصغير, وخلق أفعال العباد, والضعفاء, والجامع الكبير, والمسند الكبير, والتفسير الكبير, وكتاب الأشربة, وكتاب الهبة, وأسامي الصحابة, إلى غير ذلك من(5/9)
ص -36- ... مؤلفاته الكثيرة التي أورد كثير منها الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة فتح الباري…
عناية العلماء بترجمته ونقل أخباره رحمه الله : -
لما قام الإمام البخاري رحمه الله بالعناية التامة في تدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيتها من الشوائب وتجريد الأحاديث الصحيحة جعل الله له لسان صدق في الآخرين فما زال الناس منذ عصره ولا يزالون يثنون عليه ويترحمون عليه ويولون كتابه الجامع الصحيح العناية التامة وما من مؤلف في التاريخ وتراجم الرجال إلا ويزين مؤلفه بذكر ترجمته والتنويه بشأنه ونقل أخباره رحمه الله.
فهذا الحافظ الذهبي رحمه الله يترجم له في تذكرة الحفاظ ويقول بعد نقل شيء من مناقبه: "قلت: قد أفردت مناقب هذا الإمام في جزء ضخم فيه العجب".
وهذا الحافظ ابن حجر يترجم له في تهذيب التهذيب ويقول في ترجمته: "قلت: مناقبه كثيرة جدا قد جمعتها في كتاب مفرد ولخصت مقاصده في آخر الكتاب الذي تكلمت فيه على تعاليق الجامع الصحيح".
وقد ترجم له أيضا في آخر كتاب هدي الساري مقدمة فتح الباري ونقل شيئا من ثناء مشائخه وأقرانه عليه ثم قال: "ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس ونفدت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له".
وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية في أعيان سنة ست وخمسين ومائتين وقال: "وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه ولنذكر هنا نبذة يسيرة من ذلك", فذكرها في ثلاث صفحات.
وترجم له ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى وعّدد شيئا من مناقبه ثم قال: "واعلم أن مناقب أبي عبد الله كثيرة فلا مطمع في استيعاب غالبها والكتب مشحونة به وفيما وردناه مقنع وبلاغ".
ويجدر بهذه المناسبة أن أضع بين يدي القارئ جدولا يوضح بعض(5/10)
ص -37- ... الكتب المطبوعة التي اشتملت على ترجمته وتسمية مؤلفيها مع ذكر تاريخ وفياتهم وعدد صفحات الترجمة وتعيينها من كل كتاب ليكون راغب الوقوف على أخباره رحمه الله على علم بمظنتها كما يدرك من ذلك أيضا المطوّل منها والمختصر وذلك فيما يلي:
-المؤلف وتاريخ وفاته-اسم الكتاب-عدد صفحات الترجمة -الصفحة الأولى-الجزء -تاريخ الطبع ومكانه
-الخطيب البغدادي 463هـ-تاريخ بغداد
-31-4-2-مصر 1349هـ
-القاضي محمد بن أبي يعلى 526هـ-طبقات الحنابلة-9-271-1-مصر مطبعة السنة المحمدية
-ابن خلكان 681هـ-وفيات الأعيان-3-309-3-1367 مصر
-الحافظ الذهبي 748هـ-تذكرة الحفاظ-2-134-2-في حيدرأباد بالهند
-ابن السبكي 771هـ-طبقات الشافعية الكبرى-18-2-2-1324 مصر
-الحافظ ابن كثير 774هـ-البداية والنهاية-3-24-11-مطبعة السعادة بمصر
-الحافظ ابن حجر العسقلاني 852هـ-هدي الساري -17-255-2-1383 مصر
-الحافظ ابن حجر العسقلاني 852هـ-تهذيب التهذيب-9-47-9-1326 حيدر أباد
-العليمي الحنبلي 928هـ-المنهج الأحمد-4-133-1-1383هـ بمصر
-ابن العماد الحنبلي 1089هـ-شذرات الذهب-2-134-2-1350هـ مصر
-صديق حسن خان 1307هـ-التاج المكلل-3-106-0-1382 الهند(5/11)
ص -38- ... وفاته ومدة عمره: ـ
توفي رحمه الله في خرتنك قرية من قرى سمرقند ليلة السبت بعد صلاة العشاء, وكانت ليلة عيد الفطر, ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين. ومدة عمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما رحمه الله تعالى, قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية: "وقد ترك رحمه الله بعده علماً نافعاً لجميع المسلمين فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة".
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به" الحديث, رواه مسلم.
صحيح البخاري
اسمه: -
اشتهر بين الناس قديماً وحديثا تسمية الكتاب الذي ألفه الإمام البخاري رحمه الله في الحديث النبوي بصحيح البخاري…
أما اسمه عند البخاري رحمه الله فالجامع الصحيح كما ذكر ذلك في الباعث له على تأليفه وقد سماه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري وذكر ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث أنه سماه: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.
السبب الباعث للإمام البخاري على تأليفه: -
ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري أسبابا ثلاثة دعت الإمام البخاري رحمه إلى تأليف كتابه الجامع الصحيح:
أحدها: أنه وجد الكتب التي ألفت قبله بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لغثه سمين, قال فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب في صحته أمين.
الثاني: قال وقوّى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهوية وساق بسنده إليه أنه قال: "كنا عند إسحاق بن راهوية فقال: "لو جمعتم كتاباً مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى(5/12)
ص -39- ... الله عليه وسلم", قال: "فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الصحيح".
الثالث: قال: وروينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس قال سمعت البخاري يقول: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه, فسألت بعض المعبرين فقال لي: "أنت تذب عنه الكذب فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح".
مدى عنايته في تأليفه: -
ولم يأل البخاري رحمه الله جهدا في العناية في هذا المؤلف العظيم يتضح مدى هذه العناية مما نقله العلماء عنه فنقل الفربري عنه أنه قال: "ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين"، ونقل عمر بن محمد البحيري عنه أنه قال: "ما أدخلت فيه (يعني الجامع الصحيح) حديثا إلا بعد ما استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته". ونقل عنه عبد الرحمن بن رساين البخاري أنه قال: "صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة خرجته من ستمائة ألف حديث وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى".
موضوع الجامع الصحيح: -
والأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي موضوع كتابه الجامع الصحيح فهي التي وجه عنايته إليها وجعل كتابه مشتملا عليها ويدل لذلك أمور منها:
1ـ تسميته لكتابه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه…
2ـ تصريحه بذلك في نصوص كثيرة نقلت عنه تقدم ذكر بعضها في السبب الباعث له على تأليفه وفي التنويه بمدى عنايته في تأليفه ومن ذلك غير ما تقدم ما نقله الإسماعيلي عنه أنه قال: "لم أخرج هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر". وروى إبراهيم بن معقل عنه أنه قال: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحيح حتى لا يطول"…(5/13)
ص -40- ... على الأحاديث الصحيحة التي هي موضوع الكتاب فهو يشتمل أيضا على ما في تراجم أبوابه من التعليقات والاستنباط وذكر أقوال السلف وغير ذلك مما ليس داخلا في موضوع كتابه, قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري بعد الإشارة إلى موضوع الكتاب: "ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة" انتهى…
وبذلك جمع الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح بين الرواية والدراية بين حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها…
التعليقات في صحيح البخاري: -
التعليق هو حذف راو أو أكثر من أول السند ولو إلى آخر الإسناد وهو كثير في صحيح البخاري بخلاف صحيح مسلم فإنه قليل جدا وقد ألف الحافظ ابن حجر في وصل تعليقات البخاري كتابا سماه (تعليق التعليق) واختصر هذا الكتاب في مقدمة الفتح في فصل طويل ذكر فيه تعاليقه المرفوعة والإشارة إلى من وصلها وكذا المتابعات لالتحاقها بها في الحكم في أوائل الفصل "وقد بسطت ذلك جميعه في تصنيف كبير سميته تعليق التعليق ذكرت فيه جميع أحاديثه المرفوعة وآثاره الموقوفة وذكرت من وصلها بأسانيدي إلى المكان المعلق فجاء كتابا حافلا وجامعا كاملا" - إلى أن قال -: "وما علمت أحدا تعرض لتصنيف في ذلك", وقال في نهاية الفصل بعد ذكر آخر ما في الصحيح من الأحاديث المعلقة المرفوعة: "وقد بينت ما وصله منها في مكان آخر من كتابه ووصله في مكان من كتبه التي هي خارج الصحيح بينته أيضا وما لم نقف عليه من طريقه بينت من وصله إلى من علق عنه من الأئمة في تصانيفهم" إلى آخر كلامه رحمه الله, وحاصل الحكم على التعليقات أن ما كان منها بصيغة الجزم كقال(5/14)
ص -41- ... وروى وجاء ونحو ذلك مما بُني الفعل فيه للمعلوم فهو صحيح إلى من علقه عنه, ثم النظر فيما بعد ذلك, وما كان منها بصيغة التمريض كقِيل ورُوي ويُروى ويُذكر ونحو ذلك مما بُني الفعل فيه للمجهول فلا يستفاد منها صحة ولا ينافيها، ذكر معنى ذلك الحافظ ابن كثير في اختصاره لمقدمة ابن الصلاح، وقال: "لأنه قد وقع من ذلك كذلك وهو صحيح وربما رواه مسلم"، وقال الحافظ في مقدمة الفتح بعد ذكر الصيغة الأولى: "الصيغة الثانية وهي صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح…".
عدد أحاديث صحيح البخاري: -
قد حرّر الحافظ ابن حجر عدد الأحاديث المرفوعة في صحيح البخاري والمعلقة وأوضح ذلك في مقدمة الفتح إجمالا وتفصيلا وإليك خلاصة ما انتهى إليه في ذلك على سبيل الإجمال: -
1 - عدد الأحاديث المرفوعة الموصولة بما فيها المكررة 7397 حديثا
2 - عدد الأحاديث المرفوعة المعلقة بما فيها المكررة 1341 حديثا
3 - عدد ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات 344 حديثا
4 - عدد ما فيه من الموصول والمعلق والمتابعات المرفوعة بالمكررة 9082 حديثا
5 - عدد الأحاديث المرفوعة الموصولة بدون تكرار 2602 حديثا
6 - عدد الأحاديث المعلقة بدون تكرار 159 حديثا
7 - عدد الأحاديث المرفوعة موصولة أو معلقة بدون تكرار 2761 حديثا
وهذه الأعداد إنما هي في المرفوع خاصة دون ما في الكتاب من الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين ومن بعدهم، وبعد ذكر الحافظ ابن حجر لجملة الأحاديث بدون تكرار قال: "وبين هذا العدد الذي حررته والعدد الذي ذكره ابن الصلاح وغيره تفاوت كثير", ويعني بذلك ما جاء عن(5/15)
ص -42- ... ابن الصلاح حيث قال في علوم الحديث: "وقد قيل إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث" ثم إنه علل ذلك بقوله: "يحتمل أن يكون العدد الأول الذي قلدوه في ذلك كان إذا رأى الحديث مطولا في موضع آخر يظن أن المختصر غير المطول إما لبعد العهد به أو لقلة المعرفة بالصناعة ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير وحينئذ يتبين السبب في تفاوت ما بين العددين والله الموفق" انتهى كلامه رحمه الله وغفر له وجزاه عن خدمته التامة للسنة وبخاصة أصح الكتب الحديثية خير جزاء.
السر في إعادة البخاري للحديث الواحد في موضع أو مواضع من صحيحه: -
معلوم أن البخاري رحمه الله لم يرد الاقتصار في صحيحه على سرد الأحاديث وإنما أراد مع جمع الحديث الصحيح استنباط ما اشتمل عليه من حكم وأحكام ولذلك يستنبط من الحديث الحكم ويجعله ترجمة ثم يورد الحديث تحتها للاستدلال به عليها ويستنبط منه حكما آخر يترجم به ويورد الحديث مرة أخرى للاستدلال به أيضا فيكون التكرار لغرض الاستدلال على أنه إذا أعاد الحديث مستدلا به لا يخلي المقام من فائدة جديدة وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه من قبل وذلك يفيد تعدد الطرق لذلك الحديث ولهذا قال الحافظ أبو الفضل ابن طاهر المقدسي فيما نقل عنه الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: "وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد"، وذكر الحافظ ابن حجر أن الذي وقع له من ذلك قليل جدا، وقال صاحب كشف الظنون: "والتي ذكرها سندا ومتنا معادا ثلاثة وعشرون حديثا"، وللبخاري أغراض أخرى في إعادة الحديث في موضع أو مواضع ذكر كثيرا منها الحافظ في مقدمة الفتح.
تراجم صحيح البخاري:
وصف الحافظ ابن حجر تراجم صحيح البخاري بكونها حيّرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار,(5/16)
ص -43- ... وبكونها بعيدة المنال منيعة المثال انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه وقد فصّل القول فيها في مقدمة الفتح وذكر أن منها ما يكون دالا بالمطابقة لما يورده تحتها وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو بعضه أو معناه وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام حيث لا يجزم بأحد الاحتمالين وكثيرا ما يترجم بأمر لا يتضح المقصود منه إلا بالتأمل كقوله: "باب قول الرجل ما صلينا" فإن غرضه الرد على من كره ذلك, وكثيرا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة ويورد في الباب ما يؤدي معناه تارة بأمر ظاهر وتارة بأمر خفي وربما اكتفى أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه وأورد معه أثرا أو آية فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطه، لهذه الأمور وغيرها اشتهر عن جمع من الفضلاء قولهم: "فقه البخاري في تراجمه".
شرط البخاري في صحيحه:
روى الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح بسنده إلى الحافظ أبي الفضل ابن طاهر المقدسي أنه قال: "شرط البخاري أن يخرّج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات ويكون إسناده متصلا غير مقطوع وإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن وإن لم يكن إلا راو واحد وصح الطريق إليه كفى" انتهى. وهذا الذي رواه الحافظ عنه في مقدمة الفتح صرح به المقدسي نفسه بلفظ قريب منه في أول كتابه شروط الأئمة الستة، وقال الحافظ في مقدمة الفتح وفي شرح نخبة الفكر في معرض ترجيح صحيحه على صحيح مسلم: "أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ولو مرة واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة"، وقال في شرح النخبة أيضا في أثناء تعداد مراتب الصحيح: "ثم يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ما وافقه شرطهما لأن المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح…".(5/17)
ص -44- ... ثناء العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح مسلم بالقبول: -
قال الحافظ في مطلع مقدمة الفتح: "وقد رأيت الإمام أبا عبد الله البخاري في جامعه الصحيح قد تصدى للاقتباس من أنوارهما البهية - يعني الكتاب والسنة - تقريرا واستنباطا وكرع من مناهلهما الروية انتزاعا وانتشاطا ورزق بحسن نية السعادة فيما جمع حتى أذعن له المخالف والموافق وتلقى كلامه في الصحيح بالتسليم المطاوع والمفارق.." إلى آخر كلامه رحمه الله…
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "وأجمع العلماء على قبوله - يعني صحيح البخاري - وصحة ما فيه وكذلك سائر أهل الإسلام…".
وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: "وأما كتابه الجامع الصحيح فأجل كتب الإسلام بعد كتاب الله…".
وقال أبو عمرو ابن الصلاح في علوم الحديث بعد ذكره أن أول من صنف في الصحيح البخاري ثم مسلم: "وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز" ثم قال: "ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين وأكثرهما فوائد".
وقال النووي في مقدمة شرحه لمسلم: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد الكتاب العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث" انتهى…
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه الكمال - فيما نقله ابن العماد في شذرات الذهب -: "الإمام أبو عبد الله الجعفي مولاهم البخاري صاحب الصحيح إمام هذا الشأن والمقتدى به فيه والمعول على كتابه بين أهل الإسلام".
وقال الإمام الشوكاني في مطلع كتابه قطر الولي على حديث الولي - وهو حديث من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب(5/18)
ص -45- ... قال: "ولا حاجة لنا في الكلام على رجال إسناده فقد أجمع أهل هذا الشأن أن أحاديث الصحيحين أو أحدهما كلها من المعلوم صدقه المتلقى بالقبول المجمع على ثبوته وعند هذه الإجماعات تندفع كل شبهة ويزول كل تشكيك وقد دفع أكابر الأئمة من تعرض للكلام على شيء مما فيهما وردوه أبلغ رد وبينوا صحته أكمل بيان فالكلام على إسناده بعد هذا لا يأتي بفائدة يعتد بها فكل رواته قد جاوزوا القنطرة وارتفع عنهم القيل والقال وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام أو يتناولهم طعن طاعن أو توهين موهن" انتهى…
هذه أمثلة لكلام العلماء في صحيح البخاري وبيان علو درجته وتلقي الأمة له ولصحيح مسلم بالقبول…
وجوه ترجيح صحيحه على صحيح مسلم: -
تقدم ذكر بعض أقوال الأئمة الدالة على تقديم الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم على غيرهما وتلقي الأمة لهما بالقبول وفي بعضها النص على تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم وهو أمر مشهور عند أهل العلم وذلك لأمور : -
الأول: أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثون رجلا, المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلا، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا المتكلم فيه بالضعف منهم مائة وستون رجلا, ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه وإن لم يكن ذلك الكلام قادحا.
الثاني و الثالث: أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم وأن أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف من أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز جيدها من موهومها بخلاف مسلم في الأمرين…
الرابع: أن البخاري اشترط ثبوت التلاقي بين الراوي ومن روى عنه ولو مرة واكتفى مسلم بمجرد المعاصرة وذلك واضح الدلالة على تقديم صحيح(5/19)
ص -46- ... البخاري على صحيح مسلم لما فيه من شدة الاحتياط وزيادة التثبت…
الخامس: أن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر.
وهذه الوجوه بالإضافة إلى اتفاق العلماء على أن البخاري أعلم بهذا الفن من مسلم وأن مسلما تلميذه وخريجه وكان يشهد له بالتقدم في هذا الفن والإمامة فيه والتفرد بمعرفة ذلك في عصره. وقد أوضح هذه الوجوه وغيرها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح وفي شرحه لنخبة الفكر…
وهذا الترجيح لصحيح البخاري على صحيح مسلم المراد به ترجيح الجملة على الجملة لا كل فرد من أحاديث الآخر كما أشار إلى ذلك السيوطي في ألفيته بقوله:
وربما يعرض للمفوق ما ... يجعله مساويا أو قدما
ومن أمثلة ذلك كما في شرح النخبة للحافظ ابن حجر أن يكون الحديث عند مسلم وهو مشهور قاصر عن درجة التواتر لكن حفته قرينة صار بها يفيد العلم فإنه يقدم على الحديث الذي يخرجه البخاري إذا كان فردا مطلقا…
أما ما نقل عن بعض العلماء من تقديم صحيح مسلم على صحيح البخاري فهو راجع إلى حسن السياق وجودة الوضع والترتيب لا إلى الأصحية كما قرر ذلك أهل هذا الشأن…
عدد شيوخ البخاري في الجامع الصحيح وطبقاتهم: -
ذكر صاحب كشف الظنون أن عدد مشائخ البخاري الذين خرج عنهم في الجامع الصحيح مائتان وتسعة وثمانون، وعدد الذين تفرد بالرواية عنهم دون مسلم مائة وأربعة وثلاثون وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن مشائخه منحصرون في خمس طبقات:
الطبقة الأولى: من حدثه عن التابعين مثل محمد بن عبد الله الأنصاري حدثه عن حميد ومثل مكي بن إبراهيم حدثه عن يزيد بن أبي عبيد ومثل أبي عاصم النبيل حدثه عن يزيد بن أبي عبيد أيضا ومثل عبيد الله(5/20)
ص -47- ... ابن موسى حدثه عن إسماعيل بن أبي خالد ومثل أبي نعيم حدثه عن الأعمش ومثل خلاد بن يحيى حدثه عن عيسى بن طهمان ومثل علي بن عياش وعصام بن خالد حدثاه عن حريز بن عثمان وشيوخ هؤلاء كلهم من التابعين…
الطبقة الثانية: من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين كآدم بن أبي إياس وأبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر وسعيد بن أبي مريم وأيوب بن سليمان بن بلال وأمثالهم…
الطبقة الثالثة: هي الوسطى من مشائخه وهم من لم يلق التابعين بل كبار تبع الأتباع كسليمان بن حرب وقتيبة بن سعيد ونعيم بن حماد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد ابن حنبل واسحاق ابن راهوية وأبي بكر وعثمان بن أبي شيبة وأمثال هؤلاء، وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم…
الطبقة الرابعة: رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلا كمحمد بن يحيى الذهلي وأبي حاتم الرازي ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة وعبد بن حميد وأحمد بن النضر وجماعة من نظرائهم وإنما يخرج عن هؤلاء ما فاته من مشايخه أو ما لم يجد عند غيرهم.
الطبقة الخامسة: قوم في عداد طلبته في السن والإسناد سمع منهم للفائدة كعبد الله بن حماد الآملي وعبد الله بن أبي العاص الخوارزمي وحسين بن محمد القباني وغيرهم. وقد روى عنهم أشياء يسيرة وعمل في الرواية عنهم بما روى عثمان بن أبي شيبة عن وكيع قال: "لا يكون الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه"، وعن البخاري أنه قال: "لا يكون المحدث كاملا حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه..".
ثناء العلماء على الرواة المخرج لهم في صحيح البخاري وانتقاد بعض الحفاظ لبعضهم والجواب على ذلك:
تقدم في كلام الشوكاني على صحة حديث من عادى لي وليا قوله: "فكل رواته قد جاوزوا القنطرة وارتفع(5/21)
ص -48- ... عنهم القيل والقال وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام أو يتناولهم طعن طاعن أو توهين موهن".
وقال الحافظ في مقدمة الفتح: "وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي خرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل ما فيه"، وقال الحافظ في شرح نخبة الفكر: "ورواتهما (يعني الصحيحن) قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم, فهم مقدمون على غيرهم في رواياتهم وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بدليل" انتهى. وقد كان من دأب العلماء أحيانا عند إرادة التعريف ببعض الرواة: الاكتفاء بالقول بأنه من رجال الصحيحين أو أحدهما.
هذا وقد انتقد بعض الحفاظ نحو الثمانين من رجال صحيح البخاري كما سبقت الإشارة إلى ذلك عند ذكر وجوه ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم وقد عقد الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح فصلا ذكرهم فيه واحدا واحدا وأجاب عما وجه إليهم من انتقادات وقال في معرض تعداد الفصول العشرة التي اشتملت عليها المقدمة : "التاسع في سياق أسماء جميع من طعن فيه من رجاله على ترتيب الحروف والجواب عن ذلك الطعن بطريق الإنصاف والعدل والاعتذار عن المصنف في التخريج لبعضهم ممن يقوى جانب القدح فيه إما لكونه تجنب ما طعن فيه بسببه وإما لكونه أخرج ما وافقه عليه من هو أقوى منه وإما لغير ذلك من الأسباب"، وقال في مطلع الفصل المشار إليه: "وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج الصحيح لأي راو كان مفتعل لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين وهذا معنى لم يحصل بغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما, هذا إذا خرج له في الأصول فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم(5/22)
ص -49- ... الصدق لهم وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل تعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي أو في ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح", ثم إنه ذكر الأسباب الخمسة التي عليها مدار الجرح وهي البدعة والمخالفة والغلط وجهالة الحال ودعوى الانقطاع في السند وتكلم على كل منها بالنسبة لرجال الصحيح إجمالا ثم نبه على أمور قدح بها بعض العلماء وهي غير قادحة. وقال الخطيب البغدادي كما في قواعد التحديث للقاسمي: "ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب…".
وقال الحافظ الذهبي في جزء جمعه في الثقات الذين تكلم فيهم بما لا يوجب ردهم: "وقد كتبت في مصنفي الميزان عددا كثيرا من الثقات الذي احتج البخاري ومسلم وغيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمر بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به" إلى آخر كلامه رحمه الله.(5/23)
انتقاد بعض الحفاظ لبعض الأحاديث في صحيح البخاري والجواب عن ذلك : -
ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن الدارقطني وغيره من الحفاظ انتقدوا على الصحيحين مائتين وعشرة أحاديث اشتركا في اثنين وثلاثين حديثا وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثا وانفرد مسلم عن البخاري بمائة حديث وقد عقد فصلا خاصا للكلام على الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري أورد فيه الأحاديث على ترتيب صحيح البخاري وأجاب على الانتقادات فيها تفصيلا وقد أجاب عنها في أول الفصل إجمالا حيث قال: "والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول: "لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل" ثم ذكر بعض ما يؤيد ذلك ثم قال: "فإذا عرف وتقرر أنهما لا(5/24)
ص -50- ... يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة وأما من حيث التفصيل فالأحاديث التي انتقدت عليهما تنقسم أقساما:
الأول: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد.
الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.
الثالث: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددا أو أضبط ممن لم يذكرها.
الرابع: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة.
الخامس: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله.
السادس: ما اختلف فيه بتعيين بعض ألفاظ المتن.
وفي ضمن ذكره لهذه الأقسام ذكر الجواب عن ذلك في الجملة وأشار إلى بعض الأحاديث المنتقدة التي فصل القول فيها بما يوضح الجواب الإجمالي. ثم قال: "فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح وقد حررتها وحققتها وقسمتها وفصلتها لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر". وقال في نهاية الفصل: "هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد المطلعون على خفايا الطرق"، إلى أن قال: "فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عظم مقدار المصنف في نفسه وجل تصنيفه في عينه وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم".
عناية العلماء بصحيح البخاري:
وقصارى القول أن صحيح البخاري أول مصنف في الصحيح المجرد وهو أصح كتاب بعد كتاب الله العزيز ورجاله مقدمون في الرتبة على غيرهم وأحاديثه على كثرتها لم ينتقد الجهابذة المبرزون في هذا الفن منها إلا القليل مع عدم سلامة هذا النقد ومع هذا(5/25)
كله جمع فيه مؤلفه رحمه الله بين الرواية والدراية وهذه الميزات وغيرها توضح السر في إقبال العلماء عليه واشتغالهم فيه وعنايتهم التامة به فلقد بذل العلماء قديما وحديثا فيه الجهود العظيمة وصرفوا في خدمته الأوقات الثمينة وأولوه ما هو جدير به من اهتمامهم فكم شارح لجميع ما بين دفتيه بسطا واختصارا ومقتصر على إيضاح بعض جوانبه فألفوا في رجاله وفي شيوخه خصوصا وصنفوا في شرح تراجم أبوابه وفي المناسبة بينها وغير ذلك من الجوانب التي أفردت بالتأليف وكان على رأس المبرزين في هذا الميدان الحافظ الكبير أحمد بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ فقد أودع كتابه العظيم فتح الباري مع مقدمته ما فيه العجب فكما أن مؤلفه رحمه الله أحسن في انتقائه وجمعه غاية الإحسان فقد أحسن الحافظ ابن حجر في خدمته والعناية به تمام الإحسان وإن نسبته إلى غيره من الشيوخ كنسبة صحيح البخاري إلى غيره من المصنفات فرحم الله الجميع برحمته الواسعة وجزاهم خير الجزاء …(5/26)
عنوان الكتاب:
الإمام مسلم وصحيحه
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
السنة الثالثة - العدد الأول، 1390هـ/1970م(6/1)
ص -30- ... الإمام مسلم وصحيحه
بقلم الشيخ: عبد المحسن العباد المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
نسبه:
هو الإمام أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري نسبا النيسابوري وطنا، قال ابن الأثير في اللباب في تهذيب الأنساب: القشيري بضم القاف وفتح الشين وسكون الياء تحتها نقطتان وفي آخرها راء، هذه النسبة إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قبيلة كبيرة ينسب إليها كثير من العلماء فذكر جماعة من هؤلاء ومنهم الإمام مسلم، ونسبة الإمام مسلم هذه نسبة أصل بخلاف الإمام البخاري فإن نسبته إلى الجعفيين نسبة ولاء ولهذا لما ذكر الإمام أبو عمر بن الصلاح في كتابه علوم الحديث أن أول من ألف في الصحيح الإمام البخاري ثم الإمام مسلم قال: "أول من صنف الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري من أنفسهم".
ولادته:
ولد الإمام مسلم سنة أربع ومائتين كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي وتهذيب التهذيب وتقريبه للحافظ ابن حجر العسقلاني، وكذا في البداية والنهاية لابن كثير، قال بعد أن ذكر وفاته سنة إحدى وستين ومائتين: وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي وهي سنة أبع ومائتين فكان عمره سبعا وخمسين سنة رحمه الله تعالى، ونقل ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان عن كتاب (علماء الأمصار) لأبي عبد الله النيسابوري الحاكم أن مسلما توفي بنيسابور لخمس بقين من شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين ومائتين وهو ابن خمسة وخمسين سنة ثم قال: فتكون ولادته في سنة ست ومائتين.(6/2)
ص -31- ... رحلته في طلب العلم وسماعه الحديث:
بدأ سماع الحديث سنة ثماني عشرة ومائتين كما في تذكرة الحفاظ للذهبي، وقد رحل لطلبه إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وروى عن جماعة كثيرين أذكر فيما يلي عشرة من الذين أكثر من السماع منهم والرواية عنهم في صحيحه مع بيان عدد ما رواه عن كل منهم كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في تراجمهم في كتابه تهذيب التهذيب:
1- أبو بكر ابن أبي شيبة: 1540 حديثا.
2- أبو خيثمة زهير بن حرب: 1281 حديثا.
3- محمد بن المثني الملقب الزمن: 772 حديثا.
4- قتيبة بن سعيد: 668 حديثا.
5- محمد بن عبد الله بن نمير: 573 حديثا.
6- أبو كريب محمد بن العلاء ابن كريب: 556 حديثا.
7- محمد بن بشار الملقب بندارا: 460 حديثا.
8- محمد بن رافع النيسابوري: 362 حديثا.
9- محمد بن حاتم الملقب السمين: 300 حديثا.
10- علي بن حجر السعدي: 188 حديثا.
وهؤلاء العشرة من شيوخ مسلم روى البخاري في صحيحه مباشرة عن تسعة منهم فهم جميعا من شيوخ الشيخين معا إلا محمد بن حاتم فلم يرو عنه البخاري في صحيحه لا بواسطة ولا بغيرها، وقد قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث: ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه.
تلمذته على الإمام البخاري:
يعتبر الإمام البخاري من شيوخ مسلم البارزين الذين لهم دور كبير في إفادته وتمكنِّه في معرفة الحديث النبوي والتثبت في نقل الصحيح. قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام مسلم في كتابه تاريخ بغداد،(6/3)
ص -32- ... قلت: "إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه، ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وداوم الاختلاف إليه"، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر في معرض ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم: "هذا على اتفاق العلماء على أن البخاري كان أجل من مسلم وأعرف بصناعة الحديث منه وإن مسلما تلميذه وخريجه ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره حتى قال الدارقطني: "لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء"". انتهى.
ومع كون الإمام مسلم تتلمذ على الإمام البخاري ولازمه واستفاد منه لم يرو عنه في صحيحه شيئا ويبدو والله تعالى أعلم أن مسلما رحمه الله فعل ذلك لأمرين:
الأول:
الرغبة في علو الإسناد وذلك أن مسلما شارك البخاري في كثير من شيوخه فلو روى عنه ما رواه عنهم لطال السند بزيادة راو لكنَّه رغبة منه في علوِّ الإسناد وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم روى مباشرة عن هؤلاء الشيوخ تلك الأحاديث التي رواها البخاري عنهم.
الثاني:
أن الإمام مسلما رحمه الله ساءه ما حصل من بعض العلماء من مزج الأحاديث الضعيفة بالأحاديث الصحيحة وعدم التمييز بينهما، فوجه عنايته في تجريد الصحيح من غيره كما أوضح ذلك في مقدمة صحيحه، وإذاً فما كان عند البخاري من الأحاديث قد كفاه مؤونته لأنَّه قد عنى بجمع الحديث الصحيح مع شدة الاحتياط وزيادة التثبت.
تلاميذه:
وللإمام مسلم تلاميذ كثيرون سمعوا منه، كما في تهذيب التهذيب منهم: أبو الفضل أحمد بن سلمة وإبراهيم بن أبي طالب وأبو عمرو الخفاف وحسين بن محمد القباني وأبو عمرو المستملي وصالح بن محمد الحافظ وعلي بن الحسن الهلالي ومحمد بن عبد الوهاب الفراء - وهما من شيوخه - وعلي بن الحسين بن الجنيد وابن خزيمة وابن صاعد ومحمد بن عبد بن حميد وغيرهم.(6/4)
ص -33- ... وروى عنه الترمذي في جامعه حديثا واحدا أخرجه في كتاب الصيام باب ما جاء في إحصاء هلال شعبان لرمضان فقال: حدثنا مسلم بن حجاج حدثنا يحي بن يحي حدثنا أبو معاوية عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحصوا هلال شعبان لرمضان".
قال العراقي -كما نقله عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي-: "لم يرو المصنف في كتابه شيئا عن مسلم صاحب الصحيح إلا هذا الحديث، وهو من رواية الأقران فإنهما اشتركا في كثير من شيوخهما". وقد أشار إليه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وقال: "ما له في جامع الترمذي غيره". وقال الخزرجي في خلاصة تهذيب الكمال: "وعنه الترمذي فرد حديث". انتهى.
وقد رمز في الخلاصة وتهذيب التهذيب وتقريبه عند الترجمة لمسلم لكونه من رجال الترمذي وذلك من أجل هذا الحديث الواحد الذي أخرجه عنه.
نماذج من ثناء العلماء عليه رحمه الله:
تحدث العلماء عن فضل الإمام مسلم واعترفوا له بقوة المعرفة وعلو المنزلة. قال فيه شيخه محمد بن عبد الوهاب الفراء: "كان مسلم من علماء الناس وأوعية العلم ما علمته إلا خيرا". وقال ابن الأخرم: "إنما أخرجت مدينتنا هذه من رجال الحديث ثلاثة هم: محمد بن يحي وإبراهيم بن أبي طالب ومسلم". وقال ابن عقدة: "قلما يقع الغلط لمسلم في الرجال لأنه كتب الحديث على وجهه". وقال أبو بكر ابن الجارودي: "حدثنا مسلم بن الحجاج وكان من أوعية العلم". وقال مسلمة بن قاسم: "ثقة جليل القدر من الأئمة". وقال ابن أبي حاتم: "كتبت عنه، وكان ثقة من الحفاظ له معرفة في الحديث وسئل عنه أبي فقال صدوق"، وقال بندار: "الحفاظ أربعة أبو زرعة ومحمد بن إسماعيل والدارمي ومسلم". وقال إسحاق بن منصور لمسلم: "لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين". وقال أحمد بن سلمة: "رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما". وقال النووي:(6/5)
ص -34- ... "وأجمعوا على جلالته وإمامته وعلو مرتبته وحذقه في هذه الصنعة وتقدمه فيها وتضلعه منها". وقال أيضا: "واعلم أن مسلما رحمه الله أحد أعلام أئمة هذا الشأن وكبار المبرزين فيه وأهل الحفظ والإتقان والرحَّالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان والرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل زمان".
وقال الذهبي في العبر: "أبو الحسين النيسابوري الحافظ أحد أركان الحديث".
مؤلفاته:
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: "وصنَّف مسلم رحمه الله كتبا كثيرة.
1- منها هذا الكتاب الصحيح الذي مَنَّ الله الكريم -وله الحمد والنعمة والفضل والمنة- به على المسلمين أبقى لمسلم به ذكرا جميلا وثناء حسنا إلى يوم الدين مع ما أعد له من الأجر الجزيل في دار القرار وعم نفعه المسلمين قاطبة.
2- ومنها الكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال.
3- وكتاب الجامع الكبير على الأبواب.
4- وكتاب العلل.
5- وكتاب أوهام المحدثين.
6- وكتاب التمييز.
7- وكتاب من ليس له إلا راو واحد.
8- وكتاب طبقات التابعين.
9- وكتاب المخضرمين. وغير ذلك". انتهى.
وذكر الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ نقلا عن الحاكم عشرين مؤلفا لمسلم هي بالإضافة إلى ما تقدم:
10- كتاب الأسماء والكنى.
11- كتاب الأفراد.
12- كتاب الأقران.
13- كتاب سؤالات أحمد بن حنبل.
14- كتاب حديث عمرو بن شعيب.
15- كتاب الانتفاع بأهب السباع.
16- كتاب مشايخ مالك.
17- كتاب مشائخ الثوري.
18- كتاب مشائخ شعبة.
19- كتاب أولاد الصحابة.
20- كتاب أفراد الشاميين.(6/6)
ص -35- ... مهنته:
وكان الإمام مسلم رحمه الله بزازا كما في تهذيب التهذيب. وقال الذهبي في كتابه العبر: "وكان صاحب تجارة وكان محسن نيسابور وله أملاك وثروة".
عناية العلماء بترجمته ونقل أخباره رحمه الله:
وقد عنى الكاتبون في التاريخ وترجم الرجال بترجمة الإمام مسلم رحمه الله وتحدثوا عنه بما هو حقيق به من ثناء جميل وذكر حسن، وعلى سبيل المثال أذكر عشرة من أصحاب المؤلفات الذين توَّجوا مؤلفاتهم بترجمة الإمام مسلم رحمه الله مع ذكر تاريخ وفياتهم واسم الكتاب المطبوع المشتمل على ترجمة الإمام مسلم وعدد صفحات الترجمة في كل كتاب وتعيين الصفحة الأولى منها. أذكر ذلك تسهيلا لمن يريد الوقوف على بعض ما كتب هذا الإمام الذي خلَّد الله ذكره بما وفقه له من تدوين الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وذلك في الجدول المبيَّن في الصفحة التالية.
وفاته ومدة عمره:
توفي الإمام مسلم رحمه الله عشية يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين. دفن بنصر أباد ظاهر نيسابور، ومدة عمره قيل خمس وخمسون سنة وقيل سبعون وخمسون رحمه الله.
سبب تأليفه:
ذكر الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه سبب تأليفه هذا الكتاب المبارك وملخصه أن شخصا رغب تعرف جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين وأحكامه وما كان منها في الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم وسأل الإمام مسلما تلخيصها له في التأليف بلا تكرار يكثر ليتمكن من التفهم فيها والاستنباط منها، ولأهمية هذا المطلوب وما يترتب عليه من منفعة موجودة وعاقبة محمودة له خصوصا وللمسلمين عموما أقدم على جمع هذه الدرر خالصة نقية من الشوائب وزاده رغبة في القيام بهذه المهمة الجليلة ما رآه من بعض(6/7)
ص -37- ... العلماء من نشر الأخبار الضعيفة وعدم التمييز بين السليم والسقيم وما ينجم عن ذلك من أضرار لا سيما على العوام الذين لا يدركون الفرق بينها.
قال رحمه الله: "وبعد، يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعرفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس ومستنكر ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث، مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان عيينة ويحي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من الأئمة لما سهل علينا الانتصاب لما سألت عن التمييز والتحصيل ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت".(6/8)
مدى عنايته في تأليفه:
قال الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه: "وأعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروى منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه وأن ينقى منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع". انتهى.
هذه الحقيقة التي أثبتها الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وأرشد إليها هي المنهج الذي سلكه في تأليف صحيحه فقد بذل وسعه وشغل وقته في جمعه وترتيبه، ومن الأدلة على ذلك ما جاء عنه وعن غيره مما يوضح ذلك.
فروى الخطيب البغدادي بإسناده إلى محمد الماسرجسي قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة".
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: "قال ابن الشرقي سمعت مسلما يقول: "ما وضعت في كتابي هذا المسند إلا بحجة وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة".
وقد مكث في تأليف هذا الكتاب(6/9)
ص -38- ... المبارك خمسة عشرة سنة قضاها في التحري والتثبت والعناية التامة بهذا المصدر الأساسي لمعرفة الحديث الصحيح جمعا وترتيبا وساعده في كتابته بعض تلاميذه طوال هذه المدة.
قال أحمد بن سلمة تلميذ الإمام مسلم-كما في تذكرة الحفاظ-: "كتبت مع مسلم رحمه الله في صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حديث".
ولم يكتف الإمام مسلم رحمه الله بما بذله من جهود عظيمة في تأليفه بل أخذ في عرضه على جهابذة المحدثين واستشارتهم فيه، فقد نقل النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم عن مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور قوله: "سمعت مسلما يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته"، وهذا من الإمام مسلم رحمه الله غاية في الاحتياط والتثبت من جهة وفي التواضع وقصد الصواب من جهة أخرى، ونتيجة لهذه العناية التامة التي تجلَّت في تلك الأدلة انشرح صدر الإمام مسلم لهذا النتاج القيم وارتاحت نفسه لذلك فأخذ يرغب الناس فيه ويؤكد أنه عمدة يعوَّل عليه في معرفة الصحيح من الأخبار يتضح ذلك مما نقله النووي عن مكي بن عبدان أيضا حيث قال: "سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند" ـ يعني صحيحه.
منزلته بين كتب السنة:
صحيح مسلم يأتي في الدرجة الثانية بعد صحيح البخاري فهو ثاني كتابين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "
وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقا الصحيحان للإمامين القدوتين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري رضي الله عنهما، فلم يوجد لهما نظير في المؤلفات". وقال أيضا: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف(6/10)
ص -39- ... ظاهرة وغامضة". انتهى.
هذه هي منزلة صحيح مسلم بين كتب السنة فهو في أعلى درجات الصحيح لا يتقدمه في ذلك سوى صحيح البخاري، ونقل عن أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم قوله: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج.." وقد يفهم من هذه العبارة تقديمه على صحيح البخاري وذلك خلاف ما صرح به العلماء من ترجيح صحيح البخاري عليه لتوفر أسباب الترجيح فيه وقد أجيب عن هذه العبارة بثلاثة أجوبة:
الأول:
للحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال بعد ذكر عبارة أبي علي النيسابوري هذه: "قلت: لعل أبا علي ما وصل إليه صحيح البخاري" واستبعد هذا الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري
الثاني:
لجماعة منهم أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث أن ذلك محمول على سرد الصحيح فيه دون أن يمزج بمثل ما في صحيح البخاري مما ليس على شرطه، ولا يحمل على الأصحية.
الثالث:
للحافظ ابن احجر في شرحه لنخبة الفكر وحاصله أن عبارة أبي علي هذه تقتضي أن صحيح مسلم في أعلى درجات الصحيح وأنه لا يفوقه كتاب، أما أن يساويه كتاب كصحيح البخاري فذلك لا تنفيه هذه العبارة.
والحاصل أن صحيح مسلم في قمة الصحيح بعد صحيح البخاري كما صرح بذلك أهل العلم ولم يفصح أحد بترجيح صحيح مسلم على صحيح البخاري فيما يتعلق بالصحة.
ثناء العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح البخاري بالقبول:
لقي صحيح البخاري وصحيح مسلم قبولا لم يحصل لكتاب آخر وذلك نتيجة للعناية التامة التي بذلها الشيخان في هذين الكتابين الجليلين من التثبت والاحتياط في تجريد الصحيح من غيره فلا عجب إذا انطلقت الألسنة بالإشادة بشأنهما وإبراز ما لهما من خصائص ومزايا وقد ذكرت بعض النقول في ذلك في المقال السابق عن الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح.
وأذكر هنا بعض ما يتعلق في صحيح مسلم:(6/11)
ص -40- ... قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة إطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيَّات علم أنَّه إمام لا يلحقه من بَعُد عصره وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: "قلت: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله ٍبحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ من غير تقطيع ولا رواية بمعنى وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم، فسبحان المعطي الوهاب".(6/12)
مقدمة صحيح مسلم:
وقد وضع الإمام مسلم رحمه الله بين يدي صحيحه مقدمة قيمة عظيمة الشأن جليلة القدر تنبئ عن جلالة قدر واضعها وحسن نيته وحرصه على تدوين السنة النبوية نقية من الشوائب وقد صدَّر هذه المقدمة ببيان السبب الباعث له على تأليفه هذا الكتاب وإن أصل ذلك سؤال وقد زاده رغبة في الإجابة عليه ما رآه من قيام بعض العلماء بجمع الحديث دون تمييز بين صحيح وضعيف ثم أوضح أنه لا يصير إلى التكرار في ذكر الحديث إلا لحاجة من زيادة معنى في متن أو فائدة اسنادية، ثم ذكر أنه يعنى أولا وقبل كل شيء بذكر رواية أهل الضبط والاتقان ثم يتبعها برواية من هم أقل من أولئك ممن يشملهم اسم الستر والصدق وتعاطي العلم، ثم ذكر أن ما كان من الأخبار عن قوم متهمين أو كان الغالب على حديثهم المنكر والغلط لا يعبا به ولا يعرج عليه.
ثم عقب ذلك بذكر وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه(6/13)
ص -41- ... وسلم والتغليظ فيه، وساق الأدلة على ذلك ثم أورد الأدلة على النهي عن الحديث بكل ما سمع وعلى النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، ويلي ذلك كلامه عن الإسناد وأنه من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وإن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب، وإنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة، وأفاض في ذكر الأدلة والنقول عن المحدثين في ذلك. وختم هذه المقدمة بالكلام على صحة الحديث المعنعن، وأوضح أن المبحث الذي عليه المحدثون الاكتفاء بمعاصرة الراوي لمن يروي عنه دون اشتراط معرفة تلاق بينهما ما لم يكن الذي روى بالعنعنة مدلسا وأكثر من لوم من يشترط ذلك.
ولا شك أن من اشترط التلاقي بين الراوي ومن روى عنه كالبخاري مثلا قد أخذ في الاحتياط وزيادة التثبت واشتراطه ذلك يرفع من شأن كتابه، وأن من لم يشترط ذلك كالإمام مسلم لا يحط ذلك من شأن كتابه ولا يقدح فيه، وإنما هو التفاوت في درجات الصحة ومن أجل هذا ترجح صحيح البخاري على صحيح مسلم.
تبويبه:
لما قام الإمام مسلم رحمه الله بجمع كتابه الجامع الصحيح راعى في جمعه أن تكون كل مجموعة من الأحاديث تتعلق في موضوع واحد على حدة، لكنه لم يضع لها تراجم أبواب كما صنع الإمام البخاري في صحيحه، وهو في الحقيقة في حكم المبوَّب وإنما فعل ذلك مسلم والله أعلم لئلا يزيد بها حجم الكتاب من جهة وليشحذ القارئ ذهنه في استنباط الترجمة من جهة أخرى، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "ثم إن مسلما رحمه الله رتب كتابه على أبواب فهو في حكم المبوَّب في الحقيقة ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا يزداد بذلك حجم الكتاب أو لغير ذلك"، ثم قال: "قلت: وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيِّد وبعضها ليس بجيِّد إما لقصور في عبارة الترجمة وإما لركاكة لفظها وإما لغير ذلك وأنا إن شاء الله أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها والله أعلم".(6/14)
عدد أحاديثه:
ذكر النووي في التقريب أن عدة(6/15)
ص -42- ... أحاديث صحيح مسلم نحو أربعة آلاف بإسقاط المكرَّر وقال العراقي في نكته على بن الصلاح: "ولم يذكر - يعني النووي - عدته بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري لكثرة طرقه وقد رأيت عن أبي الفضل أحمد بن سلمة أنه اثنا عشر ألف حديث". انتهى. وقد عد أحاديثه الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي من المعاصرين وبلغت عنده بدون المكرَّر ثلاثة آلاف وثلاثة وثلاثين حديثا وقال: "وهو عمل ما سبقني إليه أحد من جميع المشتغلين بهذا الصحيح إذ كان جلُّ جهدهم أن يطلقوا عددا ما ورقما تخمينا وارتجالا لا يرتكز على أساس سليم، فجئت أنا بهذا الحصر كي أضع حدا حاسما فاصلا لهذا الاضطراب والبلبلة ولله الحمد".
شرط مسلم فيه:
نقل النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم عن بن الصلاح أنه قال: "شرط مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ والعلة". انتهى.
وقال الحافظ بن حجر في شرحه لنخبة الفكر في أثناء تعداد مراتب الصحيح: "ثم يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ما وافقه شرطهما لأن المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح". انتهى.
ويتضح من مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام:
الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون.
والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان.
والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني.
وأما الثالث فلا يعرج عليه كما نص في آخر مقدمة صحيحه على اكتفائه بمعاصرة الراوي لمن يروي عنه إذا روى بالعنعنة ما لم يكن الراوي بالعنعنة موصوفا بالتدليس.
التعليقات في صحيح مسلم:
التعليق هو حذف راوٍ أو أكثر من أول السند ولو إلى آخر الإسناد وهو كثير في صحيح البخاري بخلاف صحيح مسلم فإنه قليل جدا بلغت جملته فيه أربعة عشر موضعا ذكرها النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم. وقال نقلا عن أبي عمرو بن(6/16)
ص -43- ... الصلاح: "وليس شيء من هذا والحمد لله مُخرِجا لما وجد فيه من حيز الصحيح بل هي موصولة من جهات صحيحة لا سيما ما كان منها مذكورا على وجه المتابعة ففي نفس الكتاب وصلها فاكتفى بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث".
ثناء العلماء على الرواة المخرَّج لهم في صحيح مسلم وانتقاد بعض الحفاظ بعضهم والجواب على ذلك:
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: "ورواتهما ـ يعني الصحيحين ـ قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم فهم مقدمون على غيرهم في رواياتهم، وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بدليل"، وقال في مقدمة الفتح: "وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي خرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه".
وقد تكلم في بعض الرواة الذين خرج لهم مسلم وعدتهم مائة وستون رجلا وذلك الكلام لا يقدح في صحيحه ولا يحط من شأنه لأنه:
أولاـ قد يكون القدح غير مؤثر.
قال الخطيب البغدادي كما في مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي: "ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة عُلِمَ الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسَّر السبب"، وقال الذهبي في جزء جمعه في الثقات الذين تكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ما نصه:
"وقد كتبت في مُصَنَفِي الميزان عددا كثيرا من الثقات الذين احتج البخاري ومسلم وغيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دُوِّنَ اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمرُّ بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به ..." إلى آخر كلامه رحمه الله.
ثانياـ وإن كان القدح مؤثرا حمل الإخراج عنه في الصحيح على:
1- أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد لا في الأصول. قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم نقلا عن ابن الصلاح: "وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة(6/17)
ص -44- ... أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه".
2- أن يكون ضعف الرجل المحتج به في الصحيح طارئا عليه بعد أن أخذ صاحب الصحيح عنه كالاختلاط فروايته عنه زمن استقامته لا يؤثر فيها ما طرأ عليه من الاختلاط.
3- أن يكون صاحب الصحيح تجنب ما أنكر على الرجل المتكلم فيه. قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه لحديث إعادة النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة ثلاثا لتفهم عنه قال: "وقد تقرر أن البخاري حيث يخرج لبعض من فيه مقال لا يخرج شيئا مما أنكر عليه". انتهى. ومثله مسلم في ذلك وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "واعلم أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقين جميعا".
انتقاد الحفاظ بعض الأحاديث في صحيح مسلم والجواب عن ذلك:
ذكر ابن حجر في مقدمة الفتح أن الدارقطني وغيره من الحفاظ انتقدوا على الصحيحن مائتين وعشرة أحاديث اشتركا في اثنين وثلاثين حديثا وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثا، وانفرد مسلم عن البخاري بمائة حديث، وقد تولى الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح الإجابة عن الانتقاد الموجه إلى الأحاديث التي اشتركا فيها والأحاديث التي انفرد بها البخاري عن مسلم وعدتها مائة وعشرة أحاديث.
أما الأحاديث التي انفرد بها مسلم فقد أجاب عنها النووي في شرحه لصحيح مسلم في مواضعها وأكثرها الانتقاد فيه غير مسلم والإيراد عليه غير وارد، وما لا جواب عنه منها نزر يسير لا يعد شيئا في جنب الآلاف من الأحاديث الصحيحة التي اشتمل عليها صحيحه.
وهذه الانتقادات القليلة التي توصل إليها جهابذة النقاد مع أن أكثرها غير وارد إن دلت على شيء فإنما تدل على عظم شأن هذا الكتاب المبارك وأنه في أعلى درجات الصحيح، وتدل على جلالة قدر جامعه وشدة احتياطه وتحريه وأنه وفق فيما قصد إليه من جمع لصحيح نقيا خالصا، فإن تصدى الإمام الدارقطني وغيره من(6/18)
ص -45- ... النقاد وتتبعهم الصحيح حديثا حديثا وهم من هم في دقة الإدراك وسعة الاطلاع ثم تكون نهاية المطاف ونتيجة التمحيص والتنقيب على هذا الوصف.
أقول إن ذلك يعطي الدليل الواضح على عظم قدره وعلو منزلته، وتلك شهادة من فرسان هذا الميدان على أنه بالمكان الأعلى والوصف الأسمى، وذلك يوضِّح لنا أيضا السرَّ في إقبال العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح البخاري بالقبول.
عناية العلماء بصحيح مسلم:
وكما اعتنى علماء الأمة الإسلامية بصحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل فقد كانت عنايتهم عظيمة بصحيح مسلم الذي هو أصح كتاب يليه. فقد شرحه شارحون واختصره مختصرون وألف في رجاله مؤلفون واستخرج عليه مستخرجون، وعنايتهم بهذين الكتابين جاءت على قدر منزلة كل منهما، فهي بالنسبة لصحيح البخاري بالدرجة الأولى وبالنسبة لصحيح مسلم بالدرجة الثانية، فالكتب التي ألفت في صحيح مسلم كثيرة وأكثر منها المؤلفات المتعلقة بصحيح البخاري، ومع كثرة شروح صحيح مسلم ليس فيها ما يقرب من الكتاب العظيم الذي وفق الله لوضعه الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري الذي أسماه (( فتح الباري )) وأشهر شروحه وأكثرها رواجا في هذا العصر شرح الإمام النووي وهو شرح يغلب عليه الاختصار، وأكثر عنياته فيه في ضبط الألفاظ والتنبيه على لطائف الإسناد مع الإشارة إلى بيان فقه الحديث أحيانا.
وممن عني بصحيح مسلم عناية تامة من المعاصرين الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، فقد بذل جهدا مشكورا في ترقيمه وتنويع فهارسه حتى كان الوصول إلى المطلوب فيه سهلا ميسورا لا يحوج الناظر إلى عناء ومشقة وخصص لهذه الفهارس مجلدا حافلا بأنواع شتى من الوسائل المؤدية إلى الوقوف على ما في هذا الكتاب المبارك بيسر وسهولة.
وقد طبع صحيح مسلم في أربع مجلدات وتلك الفهارس في مجلد، وما أحوج طالب العلم إلى اقتناء هذه الفهارس التي هي في الحقيقة مفتاح لصحيح مسلم.(6/19)
ص -46- ... خصائص صحيح مسلم والموازنة بينه وبين صحيح البخاري:
ينفرد صحيح مسلم بخصائص يتميز بها عن صحيح البخاري، ويوجد في صحيح البخاري من الخصائص والميزات ما لا يشاركه صحيح مسلم فيه ويتفقان في أمور ترفع من شأن الكتابين معا ويسموان بها إلى منتهى الصحة والإجادة والإتقان ونشير فيما يلي إلى نماذج من ذلك:-
فيتفقان في أنهما معا في أعلى درجات الصحيح مع تفوق صحيح البخاري على صحيح مسلم في ذلك.
ويتفقان في أن العلماء تلقوهما بالقبول واعتبروهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز. ويتفقان في أن مؤلفيهما رحمهما الله سلكا في تأليفهما طرقا بالغة في الاحتياط والتثبت مع الأمانة التامة في العزو، ومن أمثلة ذلك أنهما يتقيدان غاية التقيد فيما يتلقيانه من شيوخهما في الأسانيد والمتون، وإذا كان الأمر يستدعي إيضاحا وبيانا قاما بذلك على وجه يتميز به ذلك. وقد عقد النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم فصلا خاصا بذلك قال فيه: "ليس للراوي أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه لئلا يكون كاذبا على شيخه، فإن أراد تعريفه وإيضاحه وزوال اللبس المتطرق إليه لمشابهة غيره فطريقه أن يقول: قال حدثني فلان. يعني ابن فلان .. أو .. الفلاني .. أو .. هو ابن فلان .. أو .. الفلاني .. أو نحو ذلك فهذا جائز حسن قد استعمله الأئمة وقد أكثر البخاري ومسلم منه في الصحيحين غاية الإكثار حتى أن كثيرا من أسانيدهما يقع في الإسناد الواحد منها موضعان أو أكثر".
وينفرد صحيح مسلم بجمع طرق الحديث في مكان واحد غالبا مما جعل الوقوف على المطلوب فيه سهلا ميسورا. وإنما قلت - غالبا - لأنه قد وقع فيه ذكر بعض الأحاديث في أكثر من موضع.
وهذه الميزة لا توجد في صحيح البخاري إلا أنه وجد فيه بدلا منها ميزة كبرى وهي إيضاح ما اشتملت عليه الأحاديث من الفوائد الفقهية مع دقة الاستنباط وبألخص عبارة مما جعل صحيحه كتاب رواية ودراية معا. ومن أجل تحصيل هذا(6/20)
المطلب العظيم(6/21)
ص -47- ... عمد البخاري رحمه الله إلى تفريق الحديث وتكرراه في أكثر من موضع مستدلا به في كل موضع بما يناسبه.
وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله إذا أسند الحديث فيه إلى جماعة من شيوخه عيَّن من له اللفظ منهم غالبا، فيقول: "حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان" أو قال: "فلان حدثنا فلان" ومن أمثلة ذلك قوله في باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر: حدثنا يحي بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر كلهم عن إسماعيل.
قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل بن جعفر. وقوله في باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء: حدثنا سويد بن سعيد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري، قال ابن أبي عمر: حدثنا مروان، وقوله في الحديث الذي يليه: وحدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى واللفظ لواصل قالا حدثنا ابن فضيل. وقوله في باب الاستنجاء بالماء من التبرز: وحدثني زهير بن حرب وأبو كريب واللفظ لزهير حدثنا إسماعيل يعني ابن علية.
أما الإمام البخاري فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري عند الكلام على حديث جابر بن عبد الله في الخمس الذي أوتيها صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الثاني في كتاب التيمم من صحيح البخاري ذكر الحافظ أنه إذا روى الحديث عن غير واحد فاللفظ للأخير، قال رحمه الله: "وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير والله أعلم".
وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله صدَّره بمقدمة اشتملت على جمل من علوم الحديث وقد تقدم بيان ما تضمنته على سبيل الإجمال، أما الإمام البخاري فلم يضع بين يدي صحيحه مقدمة بل افتتحه ببدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وينفرد صحيح مسلم بكثرة استعمال التحويل في الأسانيد وذلك لجمعه طرق الحديث المتعلقة بموضوع معين في موضع واحد ويوجد التحويل في الأسانيد قليلا في صحيح البخاري.
وينفر(6/22)
صحيح مسلم بقلة التعليق فيه إذ بلغت جملة ما فيه من ذلك(6/23)
ص -48- ... أربعة عشر موضعا كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وقد أكثر الإمام البخاري من استعماله في صحيحه.
وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله اقتصر فيه على الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أقوال الصحابة وغيرهم بخلاف البخاري رحمه الله فقد أورد أقوالهم ومعلوم أنها ليست من شرط كتابه وإنما ذلك للإيضاح والبيان لأنه يجمع في كتابه بين الرواية والدراية.
ليس كل الصحيح موجودا في الصحيحين وحدهما:
صحيح البخاري وصحيح مسلم اشتملا على قدر كبير من الحديث الصحيح، وهذا القدر الذي اشتملا عليه ليس هو كل شيء في الحديث الصحيح، فإن الصحيح كما أنه موجود فيهما فهو موجود خارجهما في الكتب المؤلفة في الحديث النبوي كالموطأ وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والدارمي والدارقطني والبيهقي وغيرها. وهو أمر واضح غاية الوضوح فلم ينقل عن البخاري ومسلم أنهما استوعبا الصحيح في صحيحهما أو قصدا استيعابه وإنما جاء عنهما التصريح بخلاف ذلك. قال أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث: "لم يستوعبا - يعني البخاري ومسلما - الصحيح في صحيحهما ولا التزما ذلك، فقد روينا عن البخاري أنه قال: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحيح لحال الطول". وروينا عن مسلم أنه قال: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا - يعني في كتابه الصحيح - إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه ..." وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: "روى الإسماعيلي عنه ـ يعني البخاري ـ قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيح وما تركت من الصحيح أكثر".
وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم بعد أن ذكر التزام جماعة لهما إخراج أحاديث على شرطيهما لم يخرجاها في كتابيهما قال: "وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه وإنما قصدا جمع جمل من(6/24)
الصحيح كما(6/25)
ص -49- ... يقصد المصنف في الفقه جمع جمل من مسائله لا أنه يحصر جميع مسائله" انتهى.
ومما يوضح عدم استيعاب البخاري الصحيح وعدم التزامه بذلك أيضا أنه جاء عن البخاري أنه قال: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي حديث غير صحيح". مع أن جملة ما في صحيحه من الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في ذلك الأحاديث المعلقة لا تبلغ عشرة آلاف حديث. وأيضا استدراك الحاكم على البخاري ومسلم أحاديث على شرطيهما أو شرط واحد منهما لم يخرجاها وهي أحاديث كثيرة جدا، وأيضا فإن العلماء قسموا الصحيح إلى سبع مراتب مرتبة حسب القوة على النحو التالي:
1- صحيح اتفقا على إخراجه البخاري ومسلم.
2- صحيح انفرد بإخراجه البخاري عن مسلم.
3- صحيح انفرد به مسلم عن البخاري.
4- صحيح على شرطهما معا ولم يخرجاه.
5- صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه.
6- صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.
7- صحيح لم يخرجاه ولم يكن على شرطهما معا وعلى شرط واحد منهما.
وهذه المراتب السبع للصحيح ذكرها أبو عمرو ابن الصلاح في علوم الحديث والحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر وغيرهما، وليس في الصحيحين في هذه المراتب إلا الثلاث الأولى أما الأربعة الباقية فلا وجود لها إلا خارج الصحيحين ولم يزل من دأب العلماء في جميع العصور الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة - بل والحسنة - الموجودة خارج الصحيحين والعمل بها مطلقا واعتبار ما دلت عليه دون إعراض عنهما أو تعرض للحط من شأنها والتقليل من قيمتها، فلا يليق بمسلم يحب الخير لنفسه ودفع الضر عنها أن يتوقف أدنى توقف في أن سبيلهم هذا هو الحق وغيره هو الباطل والضلال المبين {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.(6/26)
ص -50- ... الحديث المتفق عليه:
يرفع من شأن الحديث كونه مخرجا من أحد الصحيحين فإن كان مخرجا فيهما معا كانت منزلته أعلى وشأنه أكبر وأمره أعظم وهذا النوع هو المرتبة الأولى من المراتب السبع للحديث الصحيح التي مر ذكرها، وقد درج المشتغلون بالسنة من أهل الحديث وغيرهم على التعبير عن هذا النوع بقولهم: "متفق عليه"، أو، "أخرجاه".
ولا أعلم أحد يطلق " متفق عليه " إلا على اتفاق البخاري ومسلم وحدهما ما عدى المجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منتقى الأخبار الذي شرحه الشوكاني في كتابه (( نيل الأوطار )) فإنه يعني بقوله فيه "متفق عليه " اتفاق البخاري ومسلم وأحمد. ويعبر عما رواه الشيخان وحدهما " أخرجاه ".
وكون الحديث المتفق عليه في قمة الصحيح أمر معلوم عند المحدثين. قال أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث بعد أن ذكر مراتب الصحيح السبع المشار إليها.
"هذه الأمهات أقسامه وأعلاها الأول وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرا "صحيح متفق عليه ". يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم لا اتفاق الأمة عليه، لكن اتفاق الأمة عليه لازم وحاصل معه لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول وهذا القسم مقطوع بصحته والعلم اليقيني والنظري واقع به". انتهى.
وقد أُفْرِدَ هذا النوع المتفق عليه بالتأليف وأشمل هذه الكتب وأدقها تحريرا كتاب (( اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان )) للشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، ذكر أنه فرغ من جمعه عام 1367هـ وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات وقد بلغت أحاديثه 1906 من الحديث المتفق عليه. وقد رتبه على ترتيب صحيح مسلم فيثبت فيه الحديث بلفظ مسلم ويشير إلى أقرب ألفاظ الحديث عند البخاري الذي اتفق فيه مع مسلم إذا كان مكررا فيذكر الكتاب عند البخاري ورقمه والباب الذي فيه الحديث من ذلك الكتاب ورقم الباب.(6/27)
عنوان الكتاب:
الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار الفضيلة، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1424هـ/2003م(7/1)
ص -5- ... الانتصار لأهل السنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي
تأليف: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في محكم التنزيل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، أحمدُه ولا أحصي ثناءً عليه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده، لا شريك له في ربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، ربُّ العالَمين، وإله الأوَّلين والآخرين، وقيُّوم السموات والأرضين، ليس كمثله شيءٌ وهو السَّميع البصير، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، الذي بلَّغ البلاغ المبين، فدلَّ أمَّته على كلِّ خير، وحذَّرها من كلِّ شرٍّ، وقال: "تركتكم على البيضاء، ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلاَّ هالك"، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى أزواجه وذريَّته وسائر أهل بيته المطهَّرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين أهل العلم والإيمان والصدق والإحسان، وعلى كلِّ مَن جاء بعدهم قائلاً: ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للَّذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم.
أمَّا بعد، فقد نبت في هذا الزمان في أقصى جنوب هذه البلاد نابتةٌ تسلَّق أسوارَ العلم، وأتى بيوتَه من غير أبوابها، فقفى ما ليس له به علم، وخَبَط في العلم خَبْطَ عَشواء، وحَمَلَ على أهل السُّنَّة والحديث منذ عهد الصحابة وحتى زماننا حَمْلة شعواء، وهذا النابتةُ حسن بن فرحان المالكي، نسبة إلى بني مالك في أقصى جنوب المملكة، وإنَّما قلت: "نسبة إلى بني مالك"؛ لئلاَّ يظنَّ ظانٌّ نسبتَه إلى مذهب الإمام مالك، أحد أئمَّة أهل السُّنَّة، فإنَّه ليس من أهل السُّنَّة، بل هو من الموغلين في البدع، المحاربين لأهل السنَّة، وقلت: "في أقصى جنوب المملكة"؛ لئلاَّ يُتوهَّم نسبته إلى بني مالك الذين ذُكِر أنَّ نسبَهم يرجع(7/2)
ص -6- ... إلى بَجيلة، ومنازلهم قريبةٌ من الطائف؛ لأنَّ ظنَّ نسبته إليهم مع خبثه وسوء معتقده لا شكَّ أنَّه يسوؤهم، وأمَّا الذين في الجنوب فهو وإن كان منهم فإنَّ نسبتَه إليهم لا تضرُّهم؛ لأنَّه لا تزر وازرةٌ وزر أخرى، وقد ذكر هذا النابتة في آخر أحد كتبه السيِّئة أنَّ ولادَتَه سنة (1390هـ)، وهذه السنة هي التي تلي سنة وفاة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، مفتي البلاد ورئيس قضاتها (قبل إنشاء وزارة العدل)، ورئيس الكليَّات والمعاهد العلمية (التي أُطلق عليها فيما بعد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، ورئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة، وقد أرَّختُ سنة وفاته ـ رحمه الله ـ بكلمات على صيغة دعاء بحِساب الحروف، وذلك بقولي: "جُد جوادُ واغفر لي وله"، وذلك فيما كتبته عنه وعن الملك فيصل بعنوان: "عالِم جِهبذ ومَلِك فذ"، وكان ـ رحمه الله ـ سدًّا منيعاً في وجه أهل الباطل؛ وذلك لهيبته العظيمة وهمَّته العالية وقوَّته في الحقِّ وصرامته فيه وحراسته الدِّين في هذه البلاد، وهذا النابتة من الدجَّالين الذين ظهروا بعد زمانه.
وهذا الرَّجل العظيم من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأسرةُ الشيخ الإمام من قبيلة بني تَميم، الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّهم أشدُّ أمَّته على الدجَّال، أخرجه البخاري (2543)، وكما كانت هذه القبيلة في آخر الزمان أشدَّ الناس على الدجَّال الأعظم، فإنَّ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأبناءَه وأحفادَه وتلاميذه وتلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم مِن أشدِّ الناس على الدجَّالين، الذين يأتون في أزمانهم، مثل هذا المالكي ومَن كان على شاكلته من أهل الزيغ والضلال.
وقد كَرَع هذا النابتةُ في مستنقعات أهل البدع، وعبَّ منها ما شاء الله أن(7/3)
ص -7- ... يَعُب، واطَّلع على ما أمكنه الاطِّلاعُ عليه من كتب أهل السُّنَّة لالتقاط الأخطاء وتصيُّد المثالب، ثم تقيَّأ ذلك كلَّه في أوراق سَمَّاها بحوثاً.
ومن أقبح ما تقيَّأه بحثه المزعوم الذي سَمَّاه"قراءة في كتب العقائد ـ المذهب الحنبلي نموذجاً"، وقد شحنه بالهذيان والأباطيل في ذمِّ أهل السُّنَّة والثناء على المبتدعة، وسأشير هنا إلى جملة من تلك الأباطيل، ذاكراً بعدها رقم المبحث الذي وردت فيه من هذا الرد.
فمِن ذلك زعمه أنَّ مصطلحَ العقيدة مبتدَع (6)، وقدحه في كتب أهل السُّنَّة في العقيدة (7)، وزعمه الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه لجزئيات العقيدة؛ لأنَّ ذلك بزعمه يُفرِّق المسلمين (8)، وثناؤه على أهل البدع وقدحه في أهل السُّنَّة (9)، وقدحه في أفضليَّة أبي بكر رضي الله عنه وأحقيَّته بالخلافة (11)، وقدحه في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما (12)، وقدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين (14)، وزعمه أنَّ المعوَّل عليه في النصوص ما كان قطعيَّ الثبوت قطعيَّ الدلالة فقط (15)، وزعمه أنَّ أهل السُّنَّة مجسِّمة ومشبِّهة (16)، وثناؤه على المأمون الذي نصر المبتدعة وآذى أهلَ السُّنَّة وذمُّه للمتوكِّل الذي نصر السنَّة وأنهى المحنة (18)، وتشكيكه في ثبوت السنَّة والإجماع، وزعمه أنَّ أهل السُّنَّة يُزَهِّدون في التحاكم إلى القرآن مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرِّجال (24)، وزعمه أنَّ أهل السُّنَّة يُزهِّدون في كبائر الذنوب والموبقات (25)، وزعمه أنَّ أهل السُّنَّة يتساهلون مع اليهود والنصارى مع التشدُّد مع المسلمين (26)، وزعمه أنَّ قاعدةَ (اتِّباع الكتاب والسنَّة بفهم سلف الأمَّة) باطلةٌ وأنَّها بدعة (27)، وزعمه أنَّ تقسيم التوحيد إلى ربوبيَّة وألوهيَّة تقسيمٌ مبتدَع (28)، وتشنيعه على الإمام أحمد في(7/4)
ص -11- ... مسألة التكفير (29)، ورميه أهل السُّنَّة بالنَّصب وزعمه أنَّ ابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير نواصب (30).
والله يعلم أنِّي كارهٌ لإيراد كلامه في هذه الأباطيل، لكن دعت الضرورة إلى ذلك، وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه"مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنَّة" (ص: 5): "اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة، وأنَّ مِمَّا فاح ريحُه في هذا الزمان، وكان دارساً بحمد الله تعالى منذ أزمان، وهو أنَّ قائلاً رافضيًّا زنديقاً أكثر في كلامه أنَّ السنَّةَ النبويَّة والأحاديث المرويَّة ـ زادها الله علوًّا وشرَفاً ـ لا يُحتجُّ بها، وأنَّ الحجَّةَ في القرآن خاصَّة...
فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ مَن أنكر كون حديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ـ قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول ـ حجَّةً كفرَ وخرج عن دائرة الإسلام، وحُشر مع اليهود والنصارى، أو مع مَن شاء الله من فرق الكفرَة...
وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار".
وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فإنَّ التشابهَ بين المالكي وهذا الرافضي الذي ذكره السيوطي واضحٌ؛ لأنَّ المالكيَّ شكَّك في ثبوت السنَّة وزعم أنَّ ثبوتَها مختلفٌ فيه، وقال في (ص: 164) من قراءته المزعومة: "فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنة وفي الإجماع وفي القياس وفي قول الصحابي وفي غير ذلك، لكن لم يختلفوا أنَّ القرآن هو المصدر الرئيس الشرعي في كلِّ أمر من الأمور الدينية"!!
ويرى بعضُ الناس أنَّ في الردِّ على هذا المالكيِّ إشهاراً له، وأقول: نعم! هو إشهارٌ له، لكن بالخزي والفضيحة، واشتهارُه نظيرُ اشتهار صاحب(7/5)
ص -12- ... الحكاية الذي قال: سأعملُ عملاً أُذكَر به في التاريخ، فما كان منه في جمع حاشد إلاَّ أن خلَع ثيابَه وتعرَّى أمامهم، فتحقَّق له ذلك الذي أراده، وأيضاً فمِن المعلوم أنَّ الباطلَ إذا ظهر تعيَّن كشفُه وتزييفُه وإيضاحُ بطلانه.
وإذا لَم يهتد المالكي قبل بلوغه أجلَه فسيموتُ بغيظه، وسيبقى إن شاء الله ذكرُه السيِّء كما بقي ذكرُ أسلافه، كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وغيرهما من المبتدعة أهل الزيغ والضلال، وستبقى إن شاء الله الردودُ عليه، كما بقيت الردودُ من علماء السلف، كالإمام أحمد والدارمي وابن منده الذين ردُّوا على الجهمية.
وقد قلت في مقدِّمة كتابي"الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي": "وسأُفرِدُ بحول الله الردَّ عليه فيه ـ أعني قراءته المزعومة في كتب العقائد ـ بكتاب بعنوان: الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، وبإنجاز هذا الردّ أكون قد وفَّيتُ بهذا الوعد، والحمد لله ربِّ العالَمين.
ولكون الجهاد المتيسِّر في هذا الزمان جهاد أهل النفاق والإلحاد والزيغ والضلال، ولأنَّني عند قراءتي بحثيْه المزعومين الذين رددتُ عليهما مع كتابه السيِّء عن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وجدتُه ذكرَ أسماءَ بحوث زعم أنَّه بصدد كتابتها، فإنِّي أعِدُ الآنَ بأنِّي على استعداد للردِّ عليه، إمَّا بنفسي، أو بالطلب من غيري، ولذا آملُ مِمَّن يقف على شيء من بحوثه المزعومة تزويدي بنسخة من ذلك.
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُريَنا الحقَّ حقًّا ويُوفِّقنا لاتِّباعه، والباطلَ باطلاً ويُوفِّقنا لاجتنابه، وأن ينصرَ دينَه ويُعلي كلمتَه، إنَّه سبحانه وتعالى جوادٌ كريم، وصلى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(7/6)
ص -10- ... 1 ـ إهداؤه كتابه نموذج من هدايا الضلال والإضلال
صدَّر المالكي قراءته في كتب العقائد بالإهداء إلى عموم المسلمين من علماء وباحثين ومفكِّرين وساسة، وقال: "وهو في الوقت نفسه إهداء إلى كلِّ المختلفين من أصحاب المذاهب، سواء كانوا سنَّةً أو شيعة أو إباضية... سلفية أو أشاعرة... وهو إهداء أيضاً إلى أصحاب التيارات الأخرى من المنتمين إلى علمانية أو اشتراكية أو حداثة فكرية أو ليبيرالية؛ لعلَّهم يجدون تصحيحاً لِمَا ألصقه المتمذهبون بدين الإسلام!!".
وتعليقاً على هذا الإهداء أقول:
1 ـ إهداءُ العلم النافع له أصل عند سلف هذه الأمَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري (3370)، ومسلم (406)، واللفظ للبخاري بإسناده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "لقينِي كعب بن عُجرة فقال: ألاَ أُهدي لك هديَّة سمعتُها من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: بلى! فأهدِهَا لي، فقال: سألْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإنَّ الله قد علَّمنا كيف نسلِّم؟ قال: قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللَّهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ إلى إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد".
2 ـ من الناس مَن تكون هديَّتُه دعوةً إلى الحقِّ والهُدى، ولا حدَّ لنفع هذه الهديَّة، ومنهم مَن تكون هديَّتُه دعوةً إلى الضلال، ولا حدَّ لضرر هذه الهديَّة؛ فقد روى مسلمٌ في صحيحه (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا(7/7)
ص -11- ... ينقصُ ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".
ومن الناس من يُهدي السَّمنَ والعسل، ومنهم مَن يُهدي السُّمَّ والحنظلَ والحيَّات والعقارب، وهديَّة المالكي هذه من نوع هدايا الضلال والسُّمِّ والحنظل والحيَّات والعقارب، كما سيتَّضح ذلك في دحض أباطيله التي اشتمل عليها هذا الكتاب المُهدَى.
3 ـ هذا الكتاب المُهدَى مشتملٌ على الذمِّ والثَّلب لأهل السُّنة والجماعة، والتَّأييد لفرق الضلال المختلفة، وهو في الحقيقة هديَّة ثمينةٌ لفرق الضلال.
4 ـ من العجيب شموله في هديته للعلمانيِّين ومَن ذكر معهم لعلَّهم يَجدون تصحيحاً لِما ألصقه المتمذهبون بدين الإسلام، وهم لن يُحصِّلوا التصحيح المزعوم، وإنَّما سيجدون ما يَسرُّهم من الذَّمِّ والنَّيل لأهل السنَّة.
2 ـ كاتب هذا البحث المزعوم وناشره وصاحب الأَحَدية متعاونون على الإثم والعدوان
قال في (ص: 9 ـ الحاشية): "أصل هذا الكتاب محاضرة ألقيتُها في أَحَدية الدكتور راشد المبارك (6/8/1420هـ ـ 14/11/1999م")، وذكر في مطلع كتابه المشين في الصحابة الذي سبق أن رددتُ عليه في كتابي: "الانتصار للصحابة الأخيار"، ذكر أنَّ أصلَ ذلك الكتاب محاضرةٌ ألقاها في أحدية الدكتور راشد المبارك يوم الأحد 26 ذي القعدة 1419هـ.(7/8)
ص -12- ... أقول معلِّقاً على ذلك:
ما كان يليق بصاحب الأحدية المذكورة أن يُمكِّنَ من إلقاء هذا الباطل في أَحديَّته؛ لأنَّ مثلَ هذا التمكين من التعاون على الإثم والعدوان؛ فقد روى مسلمٌ في صحيحه (671) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها"، وإنَّما كانت الأسواقُ أبغضَ البلاد إلى الله لِمَا يكون فيها من الصَّخَب واللَّغو والكلام الذي لا ينبغي، ولا شكَّ أنَّ الأماكنَ التي يكون فيها منابرُ لإعلان الباطل ونشره أَسْوأُ من الأسواق، فقد قال الله عزَّ وجلَّ عن الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}، قال ابن كثير في تفسيره: "أي تُحدِّث بما عمل العاملون على ظهرها"، ثم ذكر حديثاً في ذلك ضعيف الإسناد.
وفي صحيح البخاري (986) عن جابر رضي الله عنه قال: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريقَ"، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه عدَّةَ أقوال في حكمة ذلك، أوَّلها: أنَّه فعل ذلك ليشهدَ له الطريقان.
وأسوأُ حالاً من صاحب الأَحَدية مَن قام بطباعة هذا الكتاب ونشره؛ فإنَّ لكلِّ ساقطةٍ لاقطة، فهذه القراءة المزعومة في كتب العقائد تلقَّفها ونشرها مركز للدراسات التاريخية في دولة عربية، وهو عملٌ من أعظم التعاون على الإثم والعدوان؛ لِمَا فيه من تعميم نشر الباطل على نطاق واسع، وقد مرَّ قريباً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقصُ ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".(7/9)
ص -13- ... قال المنذريُّ في الترغيب والترهيب (1/65) تعليقاً على حديث "إذا مات ابن آدم انقطع عملُه إلاَّ من إحدى ثلاث..." الحديث، قال: "وناسخُ العلم النافعِ له أجره وأجر من قَرأَه أو نسخه أو عمل به من بعده، ما بقي خطُّه والعمل به؛ لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مِمَّا يوجبُ الإثم، عليه وزرُه ووزرُ من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده، ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لِمَا تقدَّم من الأحاديث (مَن سنَّ سُنَّة حسنة أو سيِّئة)، والله أعلم".
3 ـ زعمه أنَّه سلفيٌّ سُنِيٌّ، وذِكرُ نماذج من كلامه تُبطل دعواه
وقال في (ص: 9): "قد يكون من فضول القول التأكيد بأنَّني ـ والحمد لله ـ من طلبة الحق والعلم، ومن أهل السُّنَّة والجماعة، ولا أرفع من الشعارات إلاَّ قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، متحريًّا الحقَّ والصواب بحسب قُدراتي واجتهادي!!".
وقال في (ص: 17): "وأخيراً فيجب أن أُؤكِّدَ أنَّنِي مسلمٌ سُنِيٌّ سلفيٌّ حنبليٌّ، ومَن زعم أنَّني أنتَمي لمذهب آخر باهَلتُه!!".
وقال في (ص: 196): "بل لا أعتبر نفسي إلاَّ حنبليًّا بحكم النشأة والتعليم والبيت والتلقِّي والطريقة في الاستدلال".
وأجيب عن هذه الدعاوى بما يلي:
1 ـ نعم! إنَّ قولَ المالكي إنَّه من أهل السُّنَّة والجماعة هو من فضول القول وليس من حقائقه!(7/10)
ص -14- ... 2 ـ أنَّ زعمَه أنَّه سُنِيٌّ سلفي حنبليٌّ مُجرَّدُ دعوى، تُبيِّنُ كلماتُه التي أنقلها من قراءته المزعومة من كتب العقائد بطلان هذه الدعوى.
فليس سُنيًّا مَن يُشكِّك في أحقيَّة أبي بكر بالخلافة، ويقول في (ص: 48): "لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لم يكن موجوداً في السَّقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!!".
ويقول أيضاً في نفس الصفحة: "أمَّا أن يتمَّ الأمر في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثم بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يُضعف عندهم ـ يعني عليًّا ومن معه بزعمه ـ شرعيَّة البيعة، ويجعلها أشبه ما تكون بالقهر والغلبة، التي تتنافى مع الشورى المأمور بها شرعاً {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}!!!".
وليس سُنيًّا مَن يظنُّ بمعظم الأنصار ظنَّ السوء، فيزعم أنَّهم يرون أنَّ عليًّا أولَى بالخلافة من أبي بكر رضي الله عنهما، فيقول في (ص: 46): "بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثر من ميلهم مع أبي بكر رضي الله عنهما!!".
وهذا الظنُّ السيِّء من المالكيِّ مبايِنٌ تَماماً لِمَا ثبت في صحيح البخاري (5666) وصحيح مسلم (2387) واللفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادْعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتبَ كتاباً؛ فإنِّي أخاف أن يتَمنَّى مُتمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر".
فلا يجوز أن يُظنَّ ببعض الأنصار ـ فضلاً عن معظمهم ـ أنَّهم يأبون إلاَّ(7/11)
ص -15- ... غير أبي بكر، مخالفين لِمَا جاء في هذا الحديث، فالله يأبَى إلاَّ أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلاَّ أبا بكر، ويأبى بعضُ الذين اتَّبعوا غير سبيل المؤمنين من أهل الأهواء والبدع إلاَّ غير أبي بكر، نعوذ بالله من الخذلان.
وليس سُنيًّا مَن يزعم في (ص: 164): أنَّ السُّنَّةَ مختلفٌ في ثبوتها، وليس سُنيًّا مَن يَقدحُ في ثبوت حديث: "تركت فيكم كتاب الله وسُنَّتي"، ويصف في (ص: 71) الذين أثبتوه زاعماً أنَّهم عارضوا به حديث العِترة بأنَّهم جهلةُ أهل السُّنَّة، وهو حديثٌ ثابتٌ كما سيأتي بيانُ ذلك.
وليس سُنيًّا ولا حنبليًّا مَن يصف الخليفة المأمون بأنَّه من أعدل ملوك بني العباس وأعلمهم، وهو الذي نصر المعتزلة، وآذى أهلَ السنَّة، وفي مقدِّمتهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي يزعم المالكي أنَّه حنبليٌّ نسبة إليه، ويَصف الخليفةَ المتوكِّل الذي نصر أهلَ السُّنَّة وأنهى المحنةَ بخلق القرآن بأنَّه مبتدعٌ ظالم (ص: 135).
وفي كتابه السيِّء في الصحابة كلماتٌ له تبيِّن بوضوح أنَّه ليس من أهل السُّنَّة والجماعة، وإنَّما هو من الموغلين في البدع، منها زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقصْر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، فلا يُمكن بأيِّ حال من الأحوال أن يكون سُنيًّا مَن يزعم أنَّ المهاجرين هم مَن هاجر قبل الحُديبية فقط دون غيرهم مِمَّن هاجرَ بعدها، ولا أن يكون سُنيًّا مَن يزعم أنَّ الصحابةَ هم الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الحُديبية من المهاجرين والأنصار دون غيرهم مِمَّن صحبه بعد الحُديبية، ويزعم أيضاً أنَّ صُحبةَ هؤلاء كصحبة المنافقين والكفار، ولا شكَّ أنَّ هذا القولَ من محدثات القرن الخامس عشر، ولا وجود له قبل إحداث هذا(7/12)
ص -16- ... المبتدع إيَّاه في هذا القرن، وقد أوضحتُ الردَّ عليه في ذلك في كتابي: ((الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي" في (ص: 9) وما بعدها، وهو مطبوع متداوَل.
وليس سُنيًّا مَن يزعمُ بأنَّ العباسَ بنَ عبد المطلب ـ عمّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنه وابنَه عبد الله رضي الله عنه لَم يظفرَا بشرف صُحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بلا شكٍّ من الجفاء في بعض أهل البيت، بل هو جفاءٌ في أقرب رجل من أهل البيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عمُّه العباس رضي الله عنه، الذي يستحقُّ ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان يُورَث عنه المال، وقد أوضحتُ بطلانَ كلامه هذا في كتاب ((الانتصار" (ص: 83).
وليس سُنيًّا مَن يزعمُ أنَّ خالد بنَ الوليد رضي الله عنه ليس بصحابيٍّ، وقد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّه سيفٌ من سيوف الله، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري (3757).
وليس سُنيًّا مَن يزعمُ أنَّ المغيرةَ بنَ شعبة رضي الله عنه ليس بصحابيٍّ، وهو الذي كان واقفاً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحُديبية وبيده السيف يَحرسُه، كما في صحيح البخاري (2731، 2732).
وقد ذكرتُ بطلانَ ما زعمه من عدم صحبة خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في كتابي: "الانتصار" (ص: 87 ـ 105).
وليس سُنيًّا مَن يزعمُ أنَّ أكثرَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذادون عن الحوض ويُؤمَر بهم إلى النار، وأنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم، وقد أوضحتُ بطلانَ كلامه هذا في"الانتصار" (ص: 128 ـ 130).(7/13)
ص -17- ... وليس سُنيًّا مَن يُنكرُ القولَ بعدالة الصحابة، وقد أجمع على ذلك أهل السُّنَّة والجماعة، وقد نقلتُ عن بعض العلماء حكاية الإجماع في ذلك، مع بيان بطلان ما زعمه المالكيُّ من عدم عدالتهم فِي"الانتصار" (ص: 124 ـ 126).
3 ـ أمَّا ما زعمه من استعداده لِمُباهلة من يقول: إنَّه ليس من أهل السُّنَّة، فهذا من التهويل وإيهامه مَن لا بصيرة له بأنَّه على الحقِّ، مع أنَّه موغلٌ في الضلال، ولا أدري على أيِّ شيء سيُباهل؟
فهل سيُباهلُ على غلُوِّه في عليٍّ رضي الله عنه وبعض أولاده، وجفائه في العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وغيرهما من أهل البيت؟!
أم سيُباهل على زعمه بأنَّ أكثرَ أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يُذادون عن الحوض، وأنَّه يُؤمَر بهم إلى النَّار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم؟!
أم سيُباهل على تشكيكه في خلافة أبي بكر، وأنَّها أشبهُ بالقهر والغلبة؟!
أم سيُباهل على سوء ظنِّه في الصحابة وإنكاره القول بعدالتهم؟!
أم سيُباهل على أباطيله الأخرى التي أوضحتُها في هذا الكتاب وفي كتابي"الانتصار للصحابة الأخيار"؟!
وصدق الله عزَّ وجلَّ في قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وفي قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، وفي قوله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، ربَّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهَب لنا من لدنك رحمةً إنَّك أنت الوهَّاب.(7/14)
ص -18- ... ولا شك أنَّ أيَّ إنسان يُباهل هذا المالكيَّ على بطلان أباطيله التي أشرتُ إلى جملة منها هو الرابح، وأنَّ صاحب هذه الأباطيل هو الخاسر.
4 ـ زعمه أنَّه حنبليٌّ وأنَّ نقدَه للحنابلة في العقيدة من النَّقد الذاتي، والردُّ عليه
قال في (ص: 10): "ليس هناك أيّ خطأ أو تناقض أن يقوم مسلمٌ بنقد أخطاء المسلمين؛ لأنَّ الإسلامَ غيرُ المسلمين، ومن ذلك أن يقوم سُنِّيٌّ بنقد أخطاء أهل السُّنَّة؛ لأنَّ السنَّةَ غيرُ أهل السنَّة، ومن ذلك أيضاً أن يقوم حنبليُّ النَّشأة والتعليم والالتزام العام الواعي بنقد أخطاء الحنابلة؛ لأنَّ الحنابلةَ غيرُ أحمد بن حنبل، مع أنَّ أحمد بن حنبل نفسه بشرٌ يخطئُ ويُصيب!!".
وقال فيها أيضاً: "وعلى هذا الأساس ليسمح لي الإخوة الكرام أن أبيِّن أنَّ ما نفعله أنا وبعضُ الباحثين من نقد ذاتيٍّ لبعض جوانب الغلو أو المنكر داخل كتب أو فكر الحنابلة هو من هذا الباب!!".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
1 ـ ما زعمه من أنَّه سُنيٌّ حنبليٌّ ينتقد أهل السُّنَّة والحنابلة نقداً ذاتيًّا هو من قبيل المكر والتلبيس والإيهام بالإنصاف، وهو في الحقيقة من قبيل الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وتقويض البنيان وتهديد الحصون من الداخل.(7/15)
ص -19- ... 2 ـ في الوقت الذي يكون نصيب أهل السُّنَّة والحنابلة منه النَّقد والثلب وتصيُّد الأخطاء للعيب فيها، يكون نصيبُ فرق الضلال منه السلامة، بل المدح والثناء، كما سيأتي بيانُ ذلك من كلامه، ولو كان صادقاً فيما يقول لبدأ بنقد فرق الضلال، فيُبيِّن ما عندهم من الباطل ويحذِّر منه، أمَّا أن يعمدَ إلى نقد أهل السُّنَّة الذين يزعم أنَّه منهم وهم بُرآء منه فذلك من أوضح الأدلَّة على حقده على أهل السُّنَّة وموافقته لغيرهم من فرق الضلال.
3 ـ ليس بغريب على المالكي أن ينالَ من أهل السُّنَّة ويشغلَ نفسه بعيبهم، وهو الذي حصل منه القدح في الصحابة والنَّيل منهم، وزعم أنَّ أكثرهم يُذادون عن حوض الرسول صلى الله عليه وسلم ويُؤخذون إلى النار، وأنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل همل النَّعم، كما مرَّت الإشارةُ إلى ذلك قريباً.
4 ـ ليس حنبليًّا مَن يغمز الإمامَ أحمد بأنَّه تسبَّب في تفريق المسلمين أحزاباً، حيث قال في (ص: 154) معلِّقاً على ما ذُكر من حزن اليهود والنصارى والمجوس عند موته، فقال: "ولن يحزن هؤلاء لموته إلاَّ إذا كان منهجه مفيداً لهم، كأن يفرحوا بتشنيعه على المخالفين له من المعتزلة والشيعة، حتَّى تسبَّب في تفريق المسلمين أحزاباً!!".
ومَن لَم يسلم منه الإمام أحمد فمِن باب أولَى ألاَّ يسلمَ منه الحنابلة، بل مَن لَم يسلم منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمِن باب أولَى ألاَّ يسلمَ منه أهل السُّنَّة، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
5 ـ أمَّا ما ذكره من أنَّه حنبليُّ النَّشأة والتعليم والالتزام العام الواعي، فإن كان الواقع أنَّه نُشِّئ على ذلك فإنَّه بكتاباته المختلفة يكون قد انحرف عمَّا نُشِّئَ عليه، ويصدق على انحرافه عمَّا تعلَّمه وعقوقه لِمَن علَّمه(7/16)
ص -20- ... قول الشاعر:
فواعجباً مِمَّن ربَّيتُ طفلاً ... ألقمُه بأطراف البنان
أعلِّمه الرمايةَ كلَّ يوم ... فلمَّا اشتدَّ ساعدُه رماني
وكم علَّمته نظمَ القوافِي ... فلمَّا قال قافيةً هجانِي
5 ـ بخله بالصلاة على الصحابة الكرام بعد الصلاة على النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله.
قال في (ص: 20): "الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وسلم".
أقول: لم يذكر الصلاةَ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مِمَّا يوضِّح كونه ليس من أهل السُّنَّة؛ لأنَّ طريقةَ أهل السُّنَّة والجماعة في خُطبهم على المنابر وغيرها وفي افتتاح الكتب واختتامها أنَّهم بعد الصلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُصلُّون على الآل والأصحاب؛ وذلك لمحبَّتهم للجميع، وسلامة قلوبهم وألسنتهم للصَّحب والآل، ولا يبعد أن يكون لزعمه الخاطئ أنَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذادون عن الحوض ويُؤخَذون إلى النار، وأنَّه لا ينجُو منهم إلاَّ مثل هَمل النَّعم، لا يبعد أن يكون لذلك أثرٌ في تركه الصلاةَ عليهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.(7/17)
ص -21- ... 6 ـ زعمه أنَّ مصطلحَ العقيدة مُبتَدعٌ، والردُّ عليه
قال في (ص: 24): "ولأبدَأ مساهماً في نقد ما أحجم عنه الآخرون طلباً للدنيا، وإمَّا حُبًّا للثناء بصلابة العقيدة وحسن السيرة، وإمَّا إيثاراً للسلامة، وإمَّا جهلاً بأهميَّة أصول وقواطع الإسلام، وستكون البداية ببيان مصطلح العقيدة، وكيف استحدَث المتخاصمون هذا المصطلح ليتَّسع لتكفير وتبديع المخالفين لهم من المسلمين!!".
وقال في (ص: 30) تحت عنوان: مصطلح العقيدة بين السُّنَّة والبدعة: "مع أنَّني أستخدم مصطلح العقيدة بشروط سيأتي ذكرُها، إلاَّ أنَّه عند تعريفي لعنوان المحاضرة (قراءة في كتب العقائد) لفت نظري عدم وجود كلمة (عقيدة) في النصوص المتقدِّمة، لا في القرآن ولا كتب السُّنَّة، ولا المؤلفات المشهورة في القرون الثلاثة الأولى، فكانت هذه أوَّل فائدة، وفي الوقت نفسه كانت أكبرَ مصيبة؛ إذ لا يَتمُّ التنبيه على ذلك، مع حرصنا ـ فيما نزعم ـ على هجران المصطلحات البدعية المستحدثة التي لا أصل لها في الكتاب والسنَّة!!".
وفي (ص: 34 ـ 35) قال تحت عنوان: الخلاصة في مصطلح العقيدة: "إذاً لَم ترِد العقيدة لا لفظاً ولا معنى في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية، ولا الآثار السلفية المأثورة عن السَّلف من الصحابة وكبار التابعين، وأقصدُ باللَّفظ والمعنى هنا: أي أنَّها لَم ترِد بهذا اللفظ للمعنى الذي وُضع له هذا اللفظ في الأزمنة المتأخرة، مثل قولهم: (فلان حسن المعتقد، فلان كان صلباً في العقيدة، كان ضالاًّ في العقيدة، كان سيِّئ المعتقد...) ونحو هذا، فهذا المعنى لَم يرِد تحت لفظ العقيدة مع توفر الدواعي لوجود المنافقين وأهل(7/18)
ص -22- ... الضلالة، سواء في عصر النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو عصر الصحابة أو عصر التابعين، فلفظة (العقيدة) في تلك العصور بين أن تأتي معانيها في ألفاظ أخرى شرعية كالإيمان مثلاً أو تأتي لفظة (عقد) في معان أخرى ليس من بينها الإيمانيات أو العلميات، فهي تشمل عقد اللواء، وعقد الأصابع لبيان العدد، وعقد الإزار، والتعاهد على الشيء، والعهد نفسه، وعقد القلب على أمر ما ديني أو دنيوي، ولعل من هذا المعنى الأخير أخذ بعضُهم لفظَ العقيدة، وخصَّها ببعض المعاني العلمية، وهذا تخصيص مبتدع أيضاً، فالألفاظ الشرعية الموجودة في القرآن الكريم أولَى بالاستعمال وأدقّ في الدلالة وأجمع للمسلمين، وفيها غنية عن هذا اللفظ غير المنضبط الذي استحدثه المتخاصمون في عصور لاحقة، وعلى هذا فليس لكلمة (العقيدة) أصل شرعي، لا في الكتاب، ولا في السنَّة، ولا عند السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، ولا عند التابعين، بل ولا علماء الأمة الكبار في القرون الثلاثة الأولى!!!".
وقال في (ص: 33): "والعقيدة عند غلاة السلفية أهمُّ شيء في حياة المسلم، فهل يُعقل أن يخلو القرآن الكريم الذي أنزله الله {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} من أخطر وأهمِّ شيء في حياة المسلم؟!
أم أنَّنا هجرنا مسمّى ذلك الأهَم والأخطر، ألا وهو الإيمان أو الإسلام في عمومه، إلى هذه المصطلحات المستحدثة التي أصبحت في أيدي الغلاة كالسيوف في أيدي المجانين!!".
وقال في (ص: 33): "أيضاً لَم تَرِد (العقيدة) في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا موضوع!!".(7/19)
ص -23- ... ويُجاب عن ذلك بما يلي:
1 ـ ما زعمه من أنَّ مصطلحَ (العقيدة) مُستحدَثٌ وأنَّه بدعةٌ هو من اكتشافات القرن الخامس عشر التي ظفر بها المالكي، ومن أوضحِ البدع ـ وهو لا يُسمِّيه بدعة ـ زعمُه أنَّ الصُّحبةَ الشرعية مقصورةٌ على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية، وأنَّ مَن صحب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية فصحبتُه غير شرعية، بل هي شبيهةٌ بصُحبة المنافقين والكفَّار، فهذه البدعة التي أحدثها في القرن الخامس عشر ولَم يُسبَق إليها طيلة تلك القرون لا يُسمِّيها بدعة، ويُطلق على مصطلح (العقيدة) أنَّه بدعة، وهذا شبيهٌ بمعنى ما رواه البخاري في صحيحه (5994) عن ابن أبي نُعم قال: "كنتُ شاهداً لابن عمر، وسأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال: مِمَّن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألنِي عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: هما رَيْحانتاي من الدنيا".
والمراد بالرَّيحانَتَين الحسن والحسين رضي الله عنهما.
فإنَّ ما زعمه من بدعية مصطلح (العقيدة) شبيهٌ بدم البعوض، وما زعمه من قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية ـ وهو عنده حقٌّ لا بدعة ـ شبيهٌ بقتل الحسين رضي الله عنه.
2 ـ ما زعمه من أنَّه"لَم ترِد (العقيدة) في حديث صحيح ولا حسن ولا موضوع" يُجاب عنه بورودها في حديث حسن رواه الدارمي في سننه (235) عن زيد بن ثابت، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "نضَّر الله امرءاً سمع منَّا حديثاً..." إلى أن قال: "لا يعتقدُ قلبُ مسلم على ثلاث خصال إلاَّ دخل الجنَّة" الحديث.(7/20)
ص -24- ... وإسناده عند الدارمي قال: أخبرنا عصمة بن الفضل، ثنا حَرَمي بن عمارة، عن شعبة، عن عمرو بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه، وكلُّهم ثقات إلاَّ حرمي بن عمارة فهو صدوق، وقد خرَّج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
3 ـ ما زعمه من عدم وجود أصل شرعيٍّ لكلمة (العقيدة)"لا في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا عند السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، ولا عند التابعين، بل ولا علماء الأمة الكبار في القرون الثلاثة الأولى"، يُجاب عنه بالنِّسبة للصحابة بما أورده ابنُ كثير في تفسيره لقول الله عزَّ وجلَّ في سورة البقرة: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عروة، عن عائشة قالت: "هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول هذا: لا والله! وبلى والله! وكلاَّ والله! يتدارؤون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم".
وبالنِّسبة للتَّابعين، فقد أورد ابن جرير في تفسيره للآية في سورة البقرة بإسناده إلى مجاهد: "{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ما عقدت عليه".
وقال البخاري في صحيحه (9/388 ـ مع الفتح) في"باب الطلاق في الإغلاق والكره..": "وقال الزهري فيمَن قال: إن لَم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالقٌ ثلاثاً، يُسأل عمَّا قال وعقد عليه قلبَه حين حلف بتلك اليمين، فإن سمَّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حلف جُعل ذلك في دَينِه وأمانته".
4 ـ وأمَّا ما زعمه من عدم وجود أصل شرعيٍّ لكلمة (العقيدة) في كلام العلماء الكبار في القرون الثلاثة الأولى، وقوله: "لفت نظري عدم وجود كلمة (عقيدة) في النصوص المتقدِّمة، لا في القرآن ولا كتب السُّنَّة، ولا(7/21)
ص -25- ... المؤلفات المشهورة في القرون الثلاثة الأولى"، فيُجاب عنه بوجود ذلك عن جماعة من العلماء في القرون الثلاثة، ومن ذلك ما هو في بعض المؤلفات المؤلَّفة في تلك القرون.
ومن هؤلاء العلماء أبو عبيد القاسم بن سلاَّم المتوفى سنة (224هـ)، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: "الإمام المشهور، ثقة فاضل مصنِّف"، قال في كتاب الإيمان له (ص: 76): "فعمل القلب الاعتقاد".
ومنهم إبراهيم بن خالد أبو ثور المتوفى سنة (240هـ) قال عنه الحافظ في التقريب: "الفقيه، صاحب الشافعي، ثقة"، فقد روى اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (1590) بإسناده إليه أنَّه قال في جواب له عن سؤال في الإيمان: "اعلم ـ يرحمنا الله وإيَّاك ـ أنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقلب والقولُ باللسان وعملٌ بالجوارح، وذلك أنَّه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أنَّ الله عزَّ وجل واحد وأن ما جاءت به الرسل حق وأَقَرَّ بجميع الشرائع ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام قال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنَّه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن...".
ومنهم الإمام محمد بن نصر المروزي المتوفى سنة (294هـ) قال عنه الحافظ في التقريب: "الفقيه أبو عبد الله، ثقة حافظ إمام جبل"، فقد ذكر (الاعتقاد) في مواضع من كتابه تعظيم قدر الصلاة، منها (2/733): "... إذا اعتقد أنَّ الله ليس بكريم ولا يستحق المدح الحسن فقد اعتقد الكفر ولم يعرف، وكذلك إن اعتقد أنَّه قد ظلمه وجار عليه فهو كافر لم يعرف الله...".
ومنهم الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي المولود سنة(7/22)
ص -26- ... (239هـ)، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في لسان الميزان: "قال أبو سعيد ابن يونس: كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلف مثله"، وهو صاحب العقيدة المشهورة بالعقيدة الطحاوية، قال في مطلعها: "هذا ذكر بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة على مذهب فقهاء الملَّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدِّين، ويَدينون به ربَّ العالَمين، نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إنَّ الله واحدٌ لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يُعجزه، ولا إله غيره"، ثم سرَد موضوعات العقيدة إلى آخرها.
5 ـ ثم إنَّ هذا المالكيَّ المكتشف لبدعية مصطلح (العقيدة) في (القرن الخامس عشر!) ذكر في (ص: 34) عدَّة معان في مادة (عَقَد)، آخرها: "وعقد القلب على أمر ما ديني أو دنيوي"، ثم قال: "ولعلَّ من هذا المعنى الأخير أخذ بعضُهم لفظة العقيدة، وخصَّها ببعض المعاني العلمية الدينية، وهذا تخصيصٌ مبتَدَع أيضاً!!".
أقول: ما دام أنَّ لمصطلح لفظ (العقيدة) أصلاً كما ذكر هو، فلا وجه للتَّهويل والتبديع الذي ذكره لإطلاق اسم (العقيدة) على مباحث أصول الدِّين، وأيضاً فإنَّ لفظ (الإيمان) أو (الإيمانيات) الذي زعم أنَّه مهجور قد ألَّف كثير من علماء أهل السُّنَّة والجماعة مؤلَّفات باسم"الإيمان"، وهي مشتملة على ما اشتملت عليه الكتب المؤلَّفة باسم"العقيدة"، أو"السنة"، وهذا ما لا يُعجب المالكي؛ لأنَّه يريد كتباً في الإيمان لا يُتعرَّض فيها للبدع والمبتدعة، ولا ذكر لشيء مِمَّا فيه اختلاف بين أهل السُّنَّة والجماعة وفرق(7/23)
ص -27- ... الضلال المختلفة، وقد تبيَّن قريباً وجود هذا اللَّفظ في السُّنَّة وأقوال الصحابة والتابعين وكبار العلماء في القرون الثلاثة الأولى، وأيضاً فإنَّه كما يُقال في الإنسان: عقيدته حسنة أو حسن المعتقد فيما يتعلَّق بلفظ (العقيدة)، فكذلك يُقال في لفظ (الإيمان): قويُّ الإيمان ضعيف الإيمان، ويُقال للعاصي والمبتدع بدعة غير مكفِّرة: مؤمن ناقص الإيمان.
7 ـ قدحه في كتب أهل السنَّة في العقيدة والردُّ عليه
قال في (ص: 24): "فقد كانت معظم العقائد المدوَّنة في كتب العقائد تعبِّر عن مراحل تاريخية من مراحل الصراع السياسي والمذهبي فحسب!!".
وقال في (ص: 25): "ولو رجعنا لسبب هذا التبادل في التكفير والتبديع لوجدنا كتب العقائد في الانتظار؛ إذ كانت الكتب المؤلَّفة في العقائد هي ذاكرة هذا الفساد كلّه، ومحور شرعيته، ومحطات انطلاق لكلِّ خصومة بين المسلمين؛ إذ أصبح لكلِّ فرقة من المسلمين كُتبها التي يوصي بها أتباعها ويتدارسونها ويخطبون بمضامينها، مع ما فيها من تَجنٍّ ومظالم ضد بقية المسلمين مِمَّن لم يكونوا معهم في الرأي أو الجزئيات، فأصبحت الدعوة لمضامين هذه الكتب لا إلى الحقِّ، وظهر نبزُ الآخرين بالألقاب السيِّئة والتحلِّي بالألقاب الحسنة، وأصبح للإسلام أكثر من اسم، وأصبح الانتساب للإسلام غير كافٍ عند هذه الفرق".
وقال في (ص: 28): "وكُتب العقائد رغم ما فيها من حقٍّ قليل إلاَّ أنَّ(7/24)
ص -28- ... فيها الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها؛ لِما فيها من الأحاديث المكذوبة على النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم والإسرائيليات المشككة للمسلم، والتكفير للمسلمين، وزرع بذور الشقاق والتباغض والتنازع بين المسلمين، وغير ذلك من الهوى والظلم والجهل، سواء كان ذلك في كتب العقائد عند الشيعة أو السنَّة أو الإباضية أو الصوفية أو غيرهم!!!".
وقال في (ص: 179): "ومعظم ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان!!!".
وقال في (ص: 100 ـ 101): "ثم لم تزل الطوائف في خصومات كلامية، وألَّفوا في ذلك الكتب والمصنفات التي صُبغت بصبغة الخصومة من الغضب والكراهية والحقد وإلغاء الطرف الآخر، سواء بتكفيره أو تبديعه مع التحريض على التصفية الجسدية للخصوم.
ونظراً لضعفنا العلمي وتقديسنا لكلِّ ماضٍ، فلَم ننظر لتلك الكتب على أنَّها تعبر عن مرحلة تاريخية، وإنَّما اعتبرناها شرعاً مقدَّساً وعقيدة راسخة، لا تقبل النَّقد أو التشكيك، وهذا مِمَّا ألفينا عليه آباءنا، فلذلك لا غرابة إذا استمرَّ أثرُ هذه الكتب في تمزيق المسلمين، وتقرير شرعية تنازعهم إلى يومنا هذا.
أعود فأقول: إنَّ الحنابلة فرقة من هذه الفرق المتخاصمة التي ظُلمت وظَلمت، والظلم جماع المساوئ، فأصبحنا نقرأ الخصومات على أنَّها حقٌّ مطلق وهنا تكمن الخطورة، وسيأتي ذكر أمثلة على ذلك.
ولعل من أبرز الكتب التي عوَّل عليها الحنابلة ـ سواء كانت من تأليفهم أو من تأليف غيرهم ـ الكتب التالية:(7/25)
ص -29- ... الحيدة للكناني (240هـ)، والسنة لعبد الله بن أحمد (291هـ)، كتاب النقض على بشر المريسي للدارمي عثمان بن سعيد (281هـ)، والسنة للخلال (311هـ)، وكتاب التوحيد لابن خزيمة (311هـ)، وشرح السنة للبربهاري (329هـ)، وكتاب الإيمان وكتاب التوحيد لابن منده (395هـ)، وكتاب الشريعة للآجري (360هـ)، والإبانة لابن بطة الحنبلي (387هـ)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لأبي القاسم اللالكائي (418هـ)، ومجموعة من الرسائل المنسوبة لأحمد بن حنبل (241هـ)، والعظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (369هـ)، وكتب أبي يعلى الحنبلي (548هـ)، وعدي بن مسافر المرواني (558هـ) ـ وكان هذا مِمَّن يغلو في مدح يزيد بن معاوية فتأمَّل التوافق!! ـ وكتب عبد الغني المقدسي (595هـ) (كذا، ووفاته سنة 600هـ كما في العبر للذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير)، ثم كتب ابن تيمية أحمد ابن عبد الحليم (728هـ)، وابن القيم (751هـ) رحمهم الله وغفر لهم".
وقال في (ص: 104): "وقد احتوت كتب العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمة، ولعل من أبرزها: التكفير والظلم والغلو في المشايخ...".
وقال في (ص: 90): "والظلم من السمات التي لا تستغني عنها كتب العقائد، ولولا الظلم والغباء لما أصبح لكتب العقائد ـ مع ما فيها من جهل وظلم ـ قيمة تستحق الإشادة، فكلُّ قيمتها وجمهورها يدور مع الظلم والغباء وضعف التحليل السياسي، والله الموعد بين سائر المتخاصمين".
وقال في (ص: 88): "وقد استعان الأمويون ببعض علماء من أهل السنَّة الموالين لهم ضدَّ القدرية، فرووا ذمَّ القدرية على ألسنة الصحابة، بل(7/26)
ص -30- ... رووا أحاديث موضوعة في ذمِّ القدرية..." إلى أن قال: "وللأسف أنَّ بعض هذه الأحاديث قد تسرب داخل كتب عقائد أهل السُّنَّة، بل صحَّحها بعضهم!!".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
1 ـ وكما أطلق المالكي لسانَه وسخَّر قلَمَه للنَّيل من أهل السنَّة، ابتداءاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مَن سار على نهجهم في مختلف العصور، حتى زماننا، كذلك أطلق لسانَه وسخَّر قلمَه للنَّيل من كتب العقائد عند أهل السُّنَّة، فوصفها بأنَّها تعبِّر عن مراحل تاريخية من مراحل الصراع السياسي والمذهبي فحسب، وذكر أنَّ ما يحصل من تكفير وتبديع أساسه كتب العقائد، فقال: "إذ كانت الكتب المؤلَّفة في العقائد هي ذاكرة هذا الفساد كلّه، ومحور شرعيته، ومحطات انطلاق لكلِّ خصومة بين المسلمين!!"، وقال: "فأصبحت الدعوة لمضامين هذه الكتب لا إلى الحقِّ"، وقال: "وكُتب العقائد رغم ما فيها من حقٍّ قليل إلاَّ أنَّ فيها الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها!!"، وقال: "ومعظم ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان!!!"، وقال: "ونظراً لضعفنا العلمي وتقديسنا لكلِّ ماضٍ، فلَم ننظر لتلك الكتب على أنَّها تعبر عن مرحلة تاريخية، وإنَّما اعتبرناها شرعاً مقدَّساً وعقيدة راسخة، لا تقبل النَّقد أو التشكيك، وهذا مِمَّا ألفينا عليه آباءنا، فلذلك لا غرابة إذا استمرَّ أثرُ هذه الكتب في تمزيق المسلمين، وتقرير شرعية تنازعهم إلى يومنا هذا!!!".
2 ـ زعم أنَّ معظم العقائد المدوَّنة في كتب العقائد تعبر عن مراحل تاريخية من مراحل الصراع السياسي والمذهبي فحسب، وزعم أنَّه بسبب(7/27)
ص -31- ... الضعف العلمي والتقديس لكلِّ ماضٍ، لم يحصل النظر إلى هذه الكتب على أنَّها تمثِّل مرحلة تاريخية، وإنَّما اعتُبرت شرعاً مقدَّساً وعقيدة راسخة لا تقبل النَّقد أو التشكيك، وأنَّ هذا مِمَّا أُلفي عليه الآباء، وأنَّه لذلك لا غرابة في استمرار أثر هذه الكتب في تمزيق المسلمين وتقرير شرعية تنازعهم حتى الوقت الحاضر!
أقول: إنَّ تدوينَ كتب أهل السُّنَّة في العقائد لم يكن خاضعاً لصراع سياسي، ولم يكن يعبر عن مرحلة تاريخية، بل كان التأليف في العقائد كالتأليف في غيرها من الأمور الأخرى، الباعث عليه حفظ سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم إسناداً ومتناً؛ حتى تكون مرجعاً لأهل السنَّة في مختلف عصورهم، وكذلك رد علماء أهل السنَّة على أباطيل أهل البدع التي أحدثوها وعوَّلوا عليها، مُعرضين عن الأخذ بالسنن، ومن المعلوم أنَّ علماء أهل السُّنَّة في مختلف العصور مشتغلون بالعلم الشرعي، وأهل السياسة مشغولون بسياستهم، ومِمَّا يوضح ذلك في الواقع المشاهد أنَّ هذا المالكيَّ لَمَّا أظهر أباطيله تصدَّى المشتغلون بالعلم لكشفها وتزييفها؛ إظهاراً للحقِّ وإبطالاً للباطل وغيرة على السنَّة وأهلها، فردُّوا عبث هذا العابث ودحروا أباطيله، ولا دخل للسياسة في تصدِّي المشتغلين بالعلم لردِّ عدوان هذا المعتدي على السنَّة وأهلها.
وأما ما زعمه من استمرار أثر كتب العقائد في تمزيق المسلمين وتقرير شرعية تنازعهم، فذلك من أوضح الباطل؛ لأنَّ هذا الاختلافَ الذي وقع في هذه الأمَّة قد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن حصُوله قبل تأليف تلك الكتب، وأرشد إلى اتِّباع السنَّة وترك البدع عند وجود ذلك الاختلاف، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: "فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً،(7/28)
ص -32- ... فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّّ بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وغيرهما، وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أهل الكتابَين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة، يعني الأهواء، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة". رواه أحمد (16937)، وأبو داود (4597)، وغيرهما.
والسبب الحقيقي لذلك الاختلاف اتِّباع الأهواء، والأخذ بعلم الكلام المذموم، والتعويل على العقول، واتِّهام النقول وعدم التعويل عليها في أمور العقيدة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك في حديث طويل أنَّه قال: "فمَن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي" رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
3 ـ وأمَّا ما زعمه من أنَّ كتب العقائد مشتملة على حقٍّ قليل، وعلى الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها، فإنَّ هذا يصدق على كتب فرق الضلال المبنية على علم الكلام وآراء الرِّجال، وأمَّا كتب أهل السُّنَّة فهي مشتملة على الحقِّ؛ لأنَّها مستمدَّةٌ من نصوص الكتاب والسنَّة وما كان عليه سلف الأمَّة، والقول بأنَّها مشتملةٌ على الباطل من أبطل الباطل، وهو جناية على عقيدة الفرقة الناجية من بين فرق الضلال الكثيرة.
وأمَّا زعمه اشتمال كتب العقائد على أحاديث مكذوبة فهو حقٌّ بالنسبة لكتب فرق الضلال، التي ديدنها الكذب والهوى، وأمَّا كتب أهل السُّنَّة(7/29)
ص -33- ... المسندة فهي مشتملةٌ على الحقِّ، وإن وُجد فيها شيءٌ يسير لَم يصحَّ إسناده ولم يثبت متنه، فذلك يعرفه أهل العلم بالكتاب والسنَّة، ومرادُ مَن ذكَرَه بإسناده أن يُعلم ورودُه كذلك، وأنَّه لكذبه أو ضعف إسناده لا يُعوَّل عليه، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنَّة (4/15) أنَّ عادةَ المحدِّثين أنَّهم يروون جميعَ ما في الباب لأجل المعرفة بذلك، وإن كان لا يحتج من ذلك إلاَّ ببعضه، وذكر أيضاً أنَّ المحدِّث يروي ما سمعه كما سمعه والدَّرك على غيره لا عليه، وأهلُ العلم ينظرون في ذلك، وفي رجاله وإسناده، وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/75): "أكثرُ المحدِّثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلمَّ جرّا إذا ساقوا الحديثَ بإسناده اعتقدوا أنَّهم برئوا من عهدته، والله أعلم".
4 ـ وأمَّا زَعْمه أنَّ معظمَ ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، فجوابه أنَّ منهجَ أهل السُّنَّة والجماعة في العقيدة اتِّباعُ الكتاب والسنَّة وفقاً لفهم السَّلف الصالح من الصحابة وتابعيهم بإحسان، كما سيأتي توضيحه عند الردِّ عليه في زعمه أنَّ قاعدة اتِّباع الكتاب والسنَّة بفهم سلف الأمَّة باطلة، بل إنَّ المالكيَّ نفسه يُنكر على أهل السُّنَّة تعويلهم على فهم السَّلف الصالح، ويزعم أنَّ ذلك بدعةٌ، وهذا من تناقضه!
5 ـ وقد سرد المالكي جملة من كتب أهل السنَّة التي زعم أنَّها سببٌ في تمزيق المسلمين، وهو زعم باطلٌ؛ لأنَّ أهل السُّنَّة يُعوِّلون على الكتاب وعلى ما صحَّ من السنَّة في هذه الكتب وغيرها، وأمَّّا انحراف أهل البدع والأهواء عن الكتاب والسنَّة، فهو السبب الحقيقي لتفرُّقهم وتمزُّقهم، كما قال الله عزَّ(7/30)
ص -34- ... وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
ومع حرص المالكي على النَّيل من أهل السنَّة وكتبهم كما هو واضحٌ من كلامه، نجده يُشيد بأهل البدع وكتبهم، كالمعتزلة، فيقول (ص: 26): "وكان للمعتزلة قوَّة هائلة ثم أضعفتها السلطات، لكن لا زال لها وجود قويٌّ إلى يومنا هذا، خاصة بعد طباعة كتب المعتزلة والعثور على مخطوطاتها في اليمن ومصر وأوربا وغيرها".
ويقول (ص: 201): "أنا لا أرى معنى لمنع كتب الأشاعرة والشيعة والإباضية وغيرهم من المسلمين من دخول المملكة في ضوء هذا التفجُّر المعرفي!!!".
وهذا يبيِّن لنا مدى وفاق المالكي الضال مع أهل البدع والأهواء، وحقده على أهل السُّنَّة ومحاربته لهم.
6 ـ وأمَّا زعمه استعانة الأمويين ببعض علماء السنَّة الموالين لهم ضدَّ القدرية، فرووا ذمَّ القدرية على ألسنة الصحابة، ورووا أحاديث موضوعة، وأنَّ بعضَ هذه الأحاديث تسرَّب داخل كتب عقائد أهل السنَّة، بل صحَّحها بعضُهم، فهذا فيه اتِّهام علماء السنَّة برواية أحاديث وآثار إشباعاً لرغبة الحكَّام، وهو لا يصحُّ بالنسبة للراغب والمرغوب منه، والحامل على هذا الاتِّهام النَّيل من أهل السنَّة والانتصار بالباطل للمبتدعة، ولَم يُسمِّ هؤلاء الراغبين والمرغوب منهم، وما حقَّقوا به هذه الرغبة بزعمه، والمصدر الذي رأى فيه ذلك، وقد اشتملت كتب أهل السنَّة على أحاديث وآثار في ذمِّ القدرية، فمِن الآثار أثر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي ذكره عنه(7/31)
ص -35- ... الإمام مسلم في صحيحه، عند روايته لحديث جبريل، وهو أوَّلُ حديث عنده في كتاب الإيمان، فإنَّه قال لِمَن أخبره عن ظهور القدرية بالعراق: "فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أنِّي بريء منهم، وأنَّهم بُرآءُ منِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنَّ لأحدهم مثل أُحُد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتَّى يؤمنَ بالقدر"، ثم ساق حديث جبريل الطويل بروايته عن أبيه؛ من أجل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: "وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه".
وأمَّا الأحاديث في ذمِّ القدرية فقد رواها جماعةٌ من الصحابة، ولا تخلو أسانيد أكثرها من ضعف، ومن الأحاديث في ذمِّهم حديث أنس بن مالك مرفوعاً: "صنفان من أمَّتي لا يَردان عليَّ الحوض: القدرية والمرجئة"، أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2748).
ومن أعجب العجب أنَّ المالكيَّ شديد العطف على القدرية والتأييد لهم، ولا يُعجبه ما يُروى في ذمِّهم من أحاديث وآثار، وأمَّا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فيزعم بوقاحة أنَّهم يُذادون عن الحوض ويُؤخذون إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل همل النَّعم!!
ولزعم المالكي الباطل أنَّ كتبَ العقائد تشتمل على قليل من الحقِّ، فإنِّي أورد نصَّ رسالة مختصرة في عقيدة أهل السنَّة، ومؤلِّفها من المالكية، وهو ابن أبي زيد القيرواني، ومن المعلوم أنَّ الأئمَّة الأربعة ومَن سار على نهجهم على عقيدة واحدة، وهي عقيدة السلف، وهذه العقيدة المختصرة، كلُّ ما فيها حقٌّ، وليس فيها شيء من الباطل، وقد أردتُ من إيرادها أن يقف مَن يطَّلع على هذا الردِّ على صفاء عقيدة السَّلف ووضوحها وسلامتها، وعلى سوء مَن يحيد عنها ويُبتلَى باعتقاد ما يُخالفها، كما حصل لهذا المالكي الضال.(7/32)
ص -36- ... ((باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات:
من ذلك الإيمانُ بالقلب والنُّطقُ باللِّسان أنَّ الله إلَهٌ واحدٌ لا إله غيرُه، ولا شبيهَ له، ولا نَظيرَ له، ولا وَلَدَ له، ولا وَالِدَ له، ولا صاحبة له، ولا شريكَ له.
ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ، ولا لآخِرِيَّتِه انقضَاءٌ، لا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الواصفون، ولاَ يُحيطُ بأمرِه المُتَفَكِّرونَ، يَعتَبِرُ المتفَكِّرونَ بآياته، ولا يَتَفكَّرونَ في مَاهِيَةِ1 ذاتِه، ولا يُحيطون بشيءٍ من عِلمه إلاَّ بِما شاء وَسِعَ كرْسِيُّه السَّموات والأرض، ولا يِؤُودُه حفظُهما وهو العليُّ العَظيمُ.
العالِمُ2 الخبيرُ، المُدَبِّرُ القَدِيرُ، السَّمِيعُ البصيرُ، العَلِيُّ الكَبيرُ، وَأنَّه فوقَ عَرشه المجيد بذاته، وهو في كلِّ مَكان بعِلمه.
خَلَقَ الإنسانَ، ويَعلمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُه، وهو أَقرَبُ إليهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ، وما تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعلَمُها، ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَات الأرضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس إلاَّ في كتاب مُبين.
على العَرشِ اسْتَوى، وعَلى المُلْكِ احْتَوى، وله الأسماء الحُسنى والصِّفاتُ العُلَى، لَم يَزَل بِجَميعِ صفاتِه وأسمائِه، تَعالى أن تكونَ صفاتُه مَخلوقَةً، وأسماؤُه مُحْدَثَةً.
كلَّم موسى بكلامِه الَّذي هو صفةُ ذاتِه، لا خَلْقٌ مِن خَلقِه، وَتَجَلَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة: (مائية).
2 في نسخة: (العليم).(7/33)
ص -37- ... للجَبَل فصار دَكًّا مِن جلالِه، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله، ليس بمخلُوقٍ فيَبِيدُ، ولا صفة لمخلوقٍ فَيَنْفَدُ.
والإيمانُ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وكلُّ ذلك قَد قَدَّرَهُ اللهُ رَبُّنا، ومقاديرُ الأمورِ بيدِه، ومَصدَرُها عن قضائِه.
عَلِمَ كلَّ شيْءٍ قَبل كَونِه، فجَرَى على قَدَرِه، لا يَكون مِن عبادِه قَولٌ ولا عَمَلٌ إلاَّ وقدْ قَضَاهُ وسبق عِلْمُه به، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
يُضِلُّ مَن يشاء، فيَخْذُلُه بعدْلِه، ويَهدي مَن يَشاء، فَيُوَفِّقُه بفضلِه، فكَلٌّ مُيَسَّرٌ بتَيْسيره إلى ما سَبَقَ مِن علمه وقَدَرِه، مِن شَقِيٍّ أو سعيدٍ.
تعالَى أن يكونَ في مُلْكِهِ ما لا يُريد، أو يكونَ لأَحَد عنه غِنًى خالقاً لكلِّ شيءٍ، ألاَ هو1 رَبُّ العباد ورَبُّ أعمالِهم، والمُقَدِّرُ لِحَركاتِهم وآجالِهم.
الباعثُ الرُّسُل إليهِم لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيهم.
ثُمَّ خَتَمَ الرِّسالةَ والنَّذَارَةَ والنُّبُوَةَ بمحمَّد نَبيِّه صلى الله عليه وسلم2، فجَعَلَه آخرَ المرْسَلين، بَشِيراً ونَذِيراً، وداعياً إلى الله بإذنِه وسِرَاجاً منيراً، وأنزَلَ عَليه كتابَه الحَكِيمَ، وشَرَحَ به دينَه القَويمَ، وهَدَى به الصِّرَاطَ المستَقيمَ.
وأنَّ السَّاعةَ آتيَةٌ لا رَيْبَ فيها، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَن يَموتُ، كما بدأَهم يعودون.
وأنَّ اللهَ سبحانه وتعالَى ضاعَفَ لعباده المؤمنين الحسَنات، وصَفَحَ لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة: (إلاَّ هو).
2 في نسخة: (محمد صلى الله عليه وسلم).(7/34)
ص -38- ... بالتَّوبَة عن كبائرِ السيِّئات، وغَفَرَ لهم الصَّغائِرَ باجْتناب الكبائِر، وجَعَلَ مَن لَم يَتُبْ مِنَ الكبائر صَائراً إلى مَشيئَتِه {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
ومَن عاقَبَه اللهُ بنارِه أخرجه مِنها بإيمانِه، فأدخَلَه به جَنَّتَه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}، ويُخرِجُ منها بشفاعَة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن شَفَعَ لَه مِن أهلِ الكبائِر مِن أمَّتِه.
وأنَّ اللهَ سبحانه قد خَلَقَ الجَنَّةَ فأَعَدَّها دارَ خُلُود لأوليائِه، وأكرَمهم فيها بالنَّظر إلَى وَجْهِه الكريم، وهي الَّتِي أَهْبَطَ منها آدَمَ نبِيَّه وخلِيفَتَه إلى أَرضِه، بما1 سَبَقَ فِي سابِق عِلمِه.
وخَلَق النَّارَ فأعَدَّها دَارَ خُلُود لِمَن كَفَرَ به وألْحَدَ في آياتِه وكتُبه ورُسُلِه، وجَعَلَهم مَحجُوبِين عن رُؤيَتِه.
وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَجيءُ يَومَ القيامَةِ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا؛ لِعَرْضِ الأُمَمِ وَحِسَابِهَا وعقُوبَتِها وثَوابِها، وتُوضَعُ الموازِينُ لَوَزْنِ أَعْمَالِ العِبَادِ، فمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأولئك هم المُفلِحون، ويُؤْتَوْنَ صَحائِفهم بأعمَالِهم، فمَن أُوتِي كتابَه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً، ومَن أُوتِي كتابَه ورَاء ظَهْرِه فأولئِك يَصْلَوْنَ سَعيراً.
وأنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، يَجُوزُه العبادُ بِقَدْرِ أعمالِهم، فناجُون مُتفاوِتُون في سُرعَة النَّجاةِ عليه مِن نار جَهَنَّم، وقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فيها أعمالُهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة: (لِما).(7/35)
ص -39- ... والإيمانُ بِحَوْض رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَرِدُهُ أمَّتُهُ لاَ يَظْمَأُ مَن شَرب مِنه، ويُذَادُ عنه مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ.
وأنَّ الإيمانَ قَولٌ باللِّسانِ، وإخلاَصٌ بالقلب، وعَمَلٌ بالجوارِح، يَزيد بزيادَة الأعمالِ، ويَنقُصُ بنَقْصِها1، فيكون فيها النَّقصُ وبها الزِّيادَة، ولا يَكْمُلُ قَولُ الإيمانِ إلاَّ بالعمل، ولا قَولٌ وعَمَلٌ إلاَّ بنِيَّة2، ولا قولٌ وعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلاَّ بمُوَافَقَة السُّنَّة.
وأنَّه لا يكفرُ أَحدٌ بذَنب مِنْ أهْل القِبْلَة.
وأنَّ الشُّهداءَ أحياءٌ عند ربِّهم يُرْزَقونَ، وأرْواحُ أهْل السَّعادَةِ باقِيةٌ ناعِمةٌ إلى يوم يُبْعَثون، وأرواحُ أهلِ الشَّقاوَةِ3 مُعَذَّبَةٌ إلى يَوم الدِّين.
وأنَّ المؤمنِينَ يُفْتَنُونَ في قُبُورِهم ويُسْأَلُون، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}.
وأنَّ على العباد حَفَظَةً يَكتُبون أعمالَهم، ولا يَسقُطُ شيْءٌ مِن ذلك عَن عِلمِ ربِّهِم، وأنَّ مَلَكَ الموتِ يَقْبِضُ الأرواحَ بإذن ربِّه.
وأنَّ خيْرَ القرون القرنُ الَّذين رَأَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وآمَنوا به، ثمَّ الَّذين يَلُونَهم ثمَّ الَّذين يَلونَهم.
وَأفْضَلُ الصحابة4 الخُلَفاءُ الرَّاشدون المَهْديُّون؛ أبو بكر ثمَّ عُمر ثمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة: (بنقص الأعمال).
2 في نسخة: (وأنَّه لا قول ولا عمل إلاَّ بنيَّة).
3 في نسخة: (الشقاء).
4 في نسخة: (أصحابه).(7/36)
ص -40- ... عُثمان ثمَّ عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين.
وأن لاَ يُذكَرَ أَحَدٌ مِن صحابَةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ بأحْسَن ذِكْرٍ، والإمساك عمَّا شَجَرَ بَينهم، وأنَّهم أحَقُّ النَّاس، أن يُلْتَمَسَ لَهم أَحَسَن المخارج، ويُظَنَّ بهم أحْسن المذاهب.
والطَّاعَةُ لأئمَّة المسلمين مِن وُلاَة أمورِهم1 وعُلمائهم، واتِّباعُ السَّلَفِ الصَّالِح واقتفاءُ آثارِهم، والاستغفارُ لهم، وتَركُ المراءِ والجِدَالِ في الدِّين، وتَركُ ما أَحْدَثَهُ المُحْدِثُونَ.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ [نبيِّه]2 وعلى آله وأزواجِه وذريته، وسلَّم تَسليماً كثيراً".
وقد شرحت هذه الرسالة المختصرة التي هي مقدِّمة لرسالة ابن أبي زيد القيرواني بكتاب بعنوان: "قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة: (أمرهم).
2 ما بين المعقوفين زيادة من نسخة.(7/37)
ص -41- ... 8 ـ زعمه الاكتفاء بإسلام لا يتعرَّض فيه لجزئيات العقيدة؛ لأنَّ ذلك بزعمه يُفرِّق المسلمين، والردُّ عليه
قال في (ص: 27): "... وإنَّما بمبادرة منَّا نحن المسلمين، الذين رضينا أن نعيش في الصراعات المزمنة وننسى المهمَّة الكبرى التي يجب أن نقوم بها من الاعتصام بحبل الله والالتقاء على الأصول العامة الجامعة من الإيمان (الجملي) بالله واليوم الآخر والرسل والكتب والأنبياء والقضاء والقدر وفعل الواجبات الظاهرة من صلاة وصيام وحج وزكاة والأخلاق الواجبة من عدل وصدق وأمانة ووفاء وتعاون.. إلخ، وترك المحرمات المعروفة من ظلم وسرقة ونهب وغشٍّ وزنا وشرب للخمر وكذب وخيانة... إلخ.
فهذه الإيمانيات الكبرى والواجبات الكبرى والمنهيات الكبرى علامات بارزة لِمَن أراد الهداية والاستقامة، وكان له حظ من تدبُّر وتعقُّل، وهذه الإيمانيات والواجبات والمنهيات كلٌّ لا يتجزَّأ وهي التي يتفق عليها جميع المسلمين، فالاعتصام بهذه الأصول الكبرى مع الاتفاق بين المسلمين كانت خيراً للمسلمين من التركيز على الفرعيات والجزئيات التي لا يمكن الاتفاق فيها مع ما يسبِّبه هذا من التفرُّق والاختلاف بينهم، فما نكرهه في الاجتماع خير مِمَّا نحبه في الفرقة".
وقال في (ص: 28): "ولم ينجُ من كثير من ذلك إلاَّ بعض كتب المجتهدين في الماضي أو الحاضر، وهي قلَّة نسبة إلى هذه الكثرة"، وعلَّق على قوله"أو الحاضر"، فقال: "كالإمام ابن الوزير في كتابه (إيثار الحق على الخلق)، والإمام المقبلي في كتابه (العلم الشامخ في تفضيل الحقِّ على الآباء والمشايخ)، وابن الأمير الصنعاني في كتاب (إيقاظ الفكرة)، وجمال الدين(7/38)
ص -42- ... القاسمي في كتاب (تاريخ الجهمية والمعتزلة) و(الجرح والتعديل)، وغيرهم من العلماء الذين حاولوا التخلُّص من المذهبية العقدية والفقهية، والعودة لأصول الإسلام الجامعة، والابتعاد عن الجزئيات المفرِّقة، مع إعذار مَن اجتهد فأخطأ من سائر الطوائف الإسلامية!".
وأجيب عن كلامه هذا بما يلي:
1 ـ يريد المالكيُّ الاكتفاءَ بإسلام جملي دون التعرُّض للتفاصيل والجزئيات في الأمور الاعتقادية؛ لأنَّها ـ بزعمه ـ تفرِّق ولا يمكن الاتفاقُ عليها، مع الإتيان بواجبات ظاهرة وترك منهيات ظاهرة، فهو بذلك يريد إسلاماً لا مجال فيه للحبِّ في الله والبغض في الله، ويُجعل فيه الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويُجعل المتَّقون فيه كالفجَّار، يريد إسلاماً لا يُقال فيه: "وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، ولا يُقال فيه: "وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"، ولا يُقال فيه: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ"، ولا يُقال فيه: "وستفترق هذه الأمَّة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة".
2 ـ وأمَّا زعمه إعذار من اجتهد فأخطأ من سائر الطوائف الإسلامية، فهو نظير زعمه في كتابه السيِّء عن الصحابة (ص: 61) من أنَّ الإجماع لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة بفِرَقها المختلفة الفقهية والعقدية والسياسية، ومُقتضى كلامه هذا أنَّه لا يُنكَرُ على أحد في مخالفته في مسائل الاعتقاد، ويُعذَر في خطئه مهما كان كبيراً، وعلى هذا فيُعذَر مَن قال بأنَّ كلامَ الله مخلوق، ومَن قال إنَّ الله لا يُرى في الدار الآخرة، ومَن قال إنَّ مرتكبَ(7/39)
ص -43- ... الكبيرة كافرٌ خالدٌ مخلَّدٌ في النار، ومَن قال لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومن قال إنَّ العبادَ مجبورون على أفعالهم، ومَن قال بأنَّهم خالقون لها، وأيضاً فيُعذَر الكليني صاحب كتاب (الأصول من الكافي) فيما أورده فيه من أبواب، تحتها أحاديث من أحاديث الرافضة المشتملة على غلُوِّهم في الأئمَّة الاثني عشر، منها: "باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام خلفاء الله عزَّ وجلَّ في أرضه، وأبوابه التي منها يؤتى" (1/193)، و((باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزَّ وجلَّ، وأنَّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها" (1/227)، و((باب أنَّه لم يجمع القرآن كلَّه إلاَّ الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّهم يعلمون علمه كلَّه" (1/228)، و((باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام" (1/255)، و((باب أنَّ الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنَّهم لا يموتون إلاَّ باختيار منهم" (1/258)، و((باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنَّه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم" (1/260)، و((باب أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يعلِّم نبيَّه علماً إلاَّ أمره أن يعلمه أمير المؤمنين عليه السلام، وأنَّه كان شريكه في العلم" (1/263)، و((باب أنَّه ليس شيءٌ من الحقِّ في يد الناس إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كلَّ شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل" (1/399).
وأيضاً يُعذر الخميني في قوله في كتابه (الحكومة الإسلامية) (ص: 52): "فإنَّ للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرَّات هذا الكون، وإنَّ من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمَّتنا مقاماً لا يبلغه مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل!!!".(7/40)
ص -44- ... 3 ـ وأمَّا ما ذكره عن بعض العلماء الذين زعم أنَّهم يقولون بمقالته الخاطئة من الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه لجزئيات العقيدة، فسيأتي الكلام على ذلك في آخر هذا الكتاب.
9 ـ ثناؤه على أهل البدع وقدحه في أهل السُّنَّة، والرَّدُُ عليه
قال في (ص: 26): "وكان للمعتزلة قوَّة هائلة ثمَّ أضعفتها السلطات، لكن لا زال لها وجود قويٌّ إلى يومنا هذا، خاصة بعد طباعة كتب المعتزلة والعثور على مخطوطاتها في اليمن ومصر وأوربا وغيرها".
وقال في (ص: 41): "والخلاصةُ أنَّ الأصلَ في المجتمعات ألاَّ يخلو منها الاختلاف والتناقض، بل يصبح هذا الاختلاف صحياً إذا بقي في دائرة السلم والاجتهاد، أمَّا إذا كان الاختلاف طريقاً لتفرُّق المسلمين وتنازعهم وتكفير بعضهم بعضاً أو تبديع بعضهم بعضاً فإنَّه يُصبح مذموماً"، وقال تعليقاً على هذا: "وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ الباطل عند حدوث القتال والتكفير موزَّع بالسويَّة على الطرفين جميعاً؛ فقد يكون الحق مع طرف ولكنَّه نادر خاصة في العقائد، والأصل أنَّ معظمَ الاختلافات بين المسلمين أن يكون كل طرف ممسكاً بطرف من الحقيقة!!".
وقال في (ص: 90): "ولذلك كان أكثر بل كلُّ التيارات التي نصمُها بالبدعة كالجهمية والقدرية والمعتزلة والشيعة والزيدية وغيرهم، كلُّ هؤلاء كانوا من الدعاة إلى تحكيم كتاب الله وتحقيق العدالة، وكانوا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر!!!".(7/41)
ص -45- ... وقال في (ص: 91): "وحرارة هذا القول منِّي كان أسفاً منِّي على سنوات أضعتُها في بغض ولعن الجهمية والقدرية، ولم أنتبه لبراءتهما من أكثر ما نُسب إليهما وظلمي لهما إلاَّ بعد بحثي في الموضوع في فترة متأخرة!!".
وفي الصفحات (89 ـ 91) تباكى على قتل الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي، وهم من رؤوس المبتدعة، وزعم أنَّ قتلهم سياسي ولم يكن لبدعهم!!
وقال في (ص: 95): "لكن المعتزلة ـ مثل غيرهم من الفرق ـ أصابوا في أشياء وأخطأوا في أشياء، لكنَّهم في الجملة لا يُستغنى عنهم ولا عن تراثهم وعلومهم، وهم مسلمون متديِّنون بدين الإسلام باطناً وظاهراً، وهذا يوجب لهم حق الإسلام كما لا يخفى على عاقل!!".
وقال في (ص: 86): "وللقدرية نصوص شرعية يستشهدون بها مثلما للسنَّة والشيعة والمعتزلة نصوص شرعية يرون فيها الدليل الكافي على ما يذهبون إليه!!".
وأجيب على ذلك بما يلي:
1 ـ إنَّ كتابات المالكي التي زعمها بحوثاً، سواء ما اطَّلعتُ عليه منها أو وقفت على ذكر أسمائها، كلُّها تتعلَّق بذمِّ أهل السُّنَّة والنَّيل منهم، بدءاً بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الموجودين منهم في هذا الزمان بالمملكة وغيرها، وكما لم يسلم أهل السنَّة من ذمِّه، فكذلك لم تسلم كتبهم من ذمِّه ونيله منها، وقد مرَّ ذلك قريباً، ولم أقف له على بحث أو اسم لبحث يتعلَّق بذمِّ أهل البدع على اختلافهم وتعدُّدهم والنَّيل منهم، وما أثبَتُّه من كلامه واضح في إشادته بأهل البدع، ومن ذلك ثناؤه على المأمون الذي نصر المعتزلة وآذى أهل السنَّة حيث قال في (ص: 135): "وكان من أعدل ملوك(7/42)
ص -46- ... بني العباس وأكثرهم علماً!!"، وفي المقابل ذمُّه للمتوكّل الذي أنهى فتنة خلق القرآن ونصر أهل السنَّة، حيث وصفه بأنَّه مبتدعٌ ظالم!!
2 ـ ما زعمه من أنَّ كلاًّ من المختلفين مُمسكٌ بطرف من الحقيقة، وأن كون الحقِّ في العقائد مع طرف واحد نادر هو من أبطل الباطل؛ لأنَّ فيه تسوية بين الحقِّ والباطل، وأنَّه لا يوجد فرقة ناجية تكون على الحقِّ، لا يضرُّها من خذلها ولا مَن خالفها، ويترتَّب عليه أنَّ مَن قال: (إنَّ القرآن مخلوق) على حقٍّ، ومَن قال: (إنَّ الله لا يُرى في الدار الآخرة) على حقٍّ، وأنَّ مَن قال بكفر مرتكب الكبيرة وتخليده في النار على حقٍّ، وأنَّ من قال: (وإنَّ من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمَّتنا مقاماً لا يبلغه مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل) على حقٍّ، وهكذا يكون سائر أنواع الباطل والزَّيغ والضلال يكون أهلها ـ بناء على زعمه ـ على حقٍّ.
3 ـ وأمَّا تباكيه على قتل رؤوس المبتدعة كالجعد والجهم وغيلان، وزعمُه أنَّ قتلَهم سياسيٌّ وليس لبدعهم، فإنَّ حالَهم في زمانهم كحال المالكي في هذا الزمان، وما أشبه الليلة بالبارحة، ولو رُفع أمرُ المالكي إلى محكمة شرعية من أجل أباطيله الكثيرة، فحكمت بقتله لتلك الأباطيل، ومن أبرزها ما يلي:
أوَّلاً: إنكاره صحبة أكثر الصحابة، وهم كلُّ مَن أسلم بعد الحديبية هاجر أو لم يُهاجر، وفيهم العباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أقرب الرِّجال إليه نسباً، وابنه عبد الله وخالد بن الوليد وغيرهم، زاعماً أنَّ صحبتَهم كصحبة المنافقين والكفار.
ثانياً: زعمه أنَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهم عنده المهاجرون والأنصار قبل الحديبية فقط ـ يُذادون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُؤخذون(7/43)
ص -47- ... إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل همل النعم، فهذا الزعم منه قدحٌ فيهم، وهم حملة الكتاب والسنَّة إلى الناس، والقدحُ فيهم قدحٌ في الكتاب والسنَة؛ لأنَّ القدحَ في النَّاقل قدحٌ في المنقول، وقد قال أبو زرعة الرازي: ((إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ". الكفاية للخطيب البغدادي (ص: 49).
ثالثاً: إنكارُه عدالة الصحابة.
رابعاً: قدحه في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وزعمه أنَّ خلافةَ أبي بكر أشبهُ ما تكون بالقهر والغلبة، وأنَّ مبايعةَ مَن يرى أنَّ عليًّا أولَى منه إنَّما هو للرضى بالأمر الواقع.
خامساً: تشكيكه في ثبوت السنَّة، وزعمه أنَّ المسلمين مختلفون في ثبوتها.
والثلاثة الأولى موجودة في كتابه السيِّء عن الصحابة، والرابع موجود في هذا الكتاب ابتداءاً من (ص: 45 وما بعدها)، والخامس فيه في (ص: 164).
أقول: لو حكمت محكمة شرعيةٌ بقتله لأباطيله الكثيرة التي أشرتُ إلى بعضها فقُتل، لم يكن قتلُه سياسيًّا، بل لحفظ الدِّين من إلحاد المُلحدين وعبث العابثين، وعدوان المعتدين الذين يُفسدون في الأرض بعد إصلاحها، ومن المعلوم أنَّ حفظَ الدِّين هو أهمُّ الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها ومنع الاعتداء عليها، وهي الدّين والنَّفس والعقل والمال والنَّسب.
4 ـ وأمَّا أسفه على ذمِّه الجهميَّة والقدرية الذي رجع عنه أخيراً، فهو رجوع من الحقِّ إلى الباطل، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ربَّنا لا تزغ(7/44)
ص -48- ... قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهَب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهَّاب.
وأمَّا زعمه أنَّ المعتزلةَ متديِّنون بدين الإسلام باطناً، فهو يبيِّن مدى احتفائه بأهل البدع، وتزكيته لهم، مع أنَّ الباطنَ من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله.
10 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة وسَّعوا جانب العقيدة، فأدخلوا فيها مباحث الصحابة والدجَّال والمهدي وغير ذلك، والردُّ عليه
قال في (ص: 28): "ووسَّعوا جانبَ العقيدة مع تشدُّد على المخالفين، فأدخلوا مباحثَ الصحابة والدَّجَّال والمهديَّ المنتظَر والمسحَ على الخفَّين والجهر بالبسملة وغير ذلك من الأخبار أو المواعظ أو الأحكام، فضلاً عن التكفير والتبديع ونشر الأكاذيب، أدخلوا كلَّ هذا وزيادة في العقيدة، وأصبح المخالف في شيء من ذلك مبتدعاً عندهم!!".
وقد أورد المالكيُّ في آخر قراءته (ص: 219) مقالاً لِمَن سَمَّاه سعود الصالح بعنوان: "مسلسل الإضافات على العقيدة فرَّق المسلمين جماعات" دندن فيه حول هذا المعنى.
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
1 ـ غالب المباحث التي تُذكر في كتب العقيدة عند أهل السنَّة من الغيب الذي لا يُعلمُ إلاَّ عن طريق الكتاب والسنَّة، قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، وكلُّ خبر يأتي في الكتاب والسنَّة عن أمور غائبة سواء كانت ماضية أو(7/45)
ص -49- ... مستقبَلة أو موجودة غير مشاهدة ولا معايَنة يجب الإيمان به والتصديق، وأصول الإيمان الستَّة المبيَّنة في حديث جبريل، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه، هي من جملة الإيمان بالغيب الذي مدح الله أهلَه وأثنَى عليهم في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.
وما جاء من أخبار عن المهديِّ والدجَّال يجب التصديق بها كغيرها من أشراط الساعة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وستقع طبقاً لِمَا أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأقوال التي فُسِّر بها الغيب في قول الله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}ما ذكره القرطبي في تفسير هذه الآية، فقال: ((وقال آخرون: الغيب كلُّ ما أخبر به الرسول عليه السلام مِمَّا لا تهتدي إليه العقول؛ من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنَّشر والصراط والميزان والجنَّة والنار".
2 ـ قد يُذكر في بعض كتب العقيدة عند أهل السُّنَّة بعضُ الأحكام التي جاءت في القرآن أو ثبتت بها السنَّة؛ للتنبيه إلى مخالفة بعض فرق الضلال في تلك الأحكام، كغسل الرِّجلين المذكور في القرآن والمبيَّن في السنَّة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، وكالمسح على الخُفَّين الذي تواترت به السنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإنَّ بعضَ فرق الضلال لا يغسلون أرجلَهم في الوضوء، بل يَمسحون على ظهورها، ولا يرون المسحَ على الخفَّين، وذِكرُ مثل هذا في بعض كتب العقيدة لا يسوِّغ التهويل والتشنيع على أهل السنَّة، من الحاقدين على أهل السنَّة، المؤيِّدين لفرق الضلال كالمالكي ومَن كان على شاكلته.
3 ـ وأمَّا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتب العقائد لبيان فضلهم وعلوِّ قدرهم؛ لأنَّهم خير القرون المفضَّلة، فليس بغريب على مباحث(7/46)
ص -50- ... العقيدة؛ لأنَّ الكتاب والسنَّة هما الينبوع الصافي الذي تُستَمَدُّ منه العقيدة، ويُستمَدُّ منه كلُّ خير وهدى، ولم يعرف الناسُ الكتابَ والسنَّةَ ولَم يصلاَ إليهم إلاَّ عن طريق الصحابة، فهم الواسطةُ بين غيرهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يَستنكرُ ذكرَ الصحابة في كتب العقائد إلاَّ مَن امتلأ قلبُه بأمراض الشبهات، وشوى قلبَه الحقدُ على خير هذه الأمَّة التي هي خير الأمَم.
11 ـ قدحه في أفضليَّة أبي بكر وأحقيَّته بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والردُّ عليه
جاء في قراءته (ص: 43) عنوان بلفظ: "الاختلاف يوم السقيفة وموقف المسلمين منها وآثارها الفكرية"، أورد تحته كلاماً ينتهي في (ص: 50) اشتمل على قدح وتشكيك في أحقيَّة أبي بكر وأولويته بالخلافة، وأنا أورد هنا جُملاً من كلامه مشتملة على ذلك:
1 ـ ففي (ص: 43 ـ 44) قال: "فعند علم الأنصار بوفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم اجتمعوا في سقيفة بَنِي ساعدة يريدون تولية سعد بن عبادة رضي الله عنه على المسلمين؛ بحجَّة أنَّ الأنصارَ هم أهلُ المدينة عاصمة الإسلام، وأنَّ قريشاً أخرجت النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة، وأنَّ الأنصارَ هم الذين حَموا النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودعوتَه، ولقوا في ذلك الشدائد، وأنَّ المهاجرين ليسوا إلاَّ ضيوفاً عليهم في المدينة، وعلى هذا فصاحب الدار أولَى بالتصرُّف في داره من الضيف".(7/47)
ص -51- ... 2 ـ وقال في (ص: 45 ـ حاشية): "بعضُهم يرى أنَّه ليس كلُّ من بايع أبا بكر الصديق يراه أَوْلَى مِن غيره! وإنَّما بايَعه لأنَّه يراه من الأكفاء للخلافة، ولخشيته من الفتنة ورضاه بالأمر الواقع!!...".
3 ـ وقال في (ص: 45 ـ 48): "وكان هناك قسمٌ آخر من كبار المهاجرين لَم يُبايعوا أبا بكر، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وكان معه بنو هاشم قاطبة، وعمه العباس بن عبد المطلب وأبنائه (كذا) عبد الله بن العباس والفضل بن العباس، وكوكبة من كبار المهاجرين الأوَّلين كعمار بن ياسر وسَلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن عمرو وغيرهم، كما كان معهم بعضُ الأنصار كأُبَيِّ ابن كعب والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله، وغيرهم من عموم الصحابة الذين كانوا يرون أنَّ عليَّ ابنَ أبي طالب كان أكفأَ الناس لتولِّي الأمر بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم! لكونه أوَّلَ مَن أسلم، ولكونه بمنزلة كبيرة من النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم (كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة)، وكان من علماء الصحابة وشجعانهم وزهادهم، ومن العشرة المبشَّرين بالجنة، مع نسبه الشريف وقربه من النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نسباً وصِهراً ونشأة وسكناً، فكان هذا القسم من المهاجرين ومعهم بعض الأنصار يرون أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو أنسبُ الصحابة لتولِّي الخلافة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم!! بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثرَ من ميلِهم مع (أبي بكر!!) رضي الله عنهما، لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لَم يكن موجوداً في السقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!! لأنَّ بعضَ الأنصار لَمَّا رأوا أنَّ الأمر(7/48)
ص -52- ... سينصرفُ عن سعد بن عبادة هتفوا باسم عليٍّ في السقيفة!! والأنصار كانوا أغلبيةً في المدينة، لكن عليًّا كان مشغولاً بِجَهاز النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من غسله وتكفينه والإقامة على إتمام ذلك، فهو إمَّا أنَّه لَم يعلم بهذا الاجتماع المفاجئ في السقيفة، أو أنَّه يرى أنَّه ليس من المناسب أن يترك الجسدَ الشريف ويذهب إلى السقيفة يتنازع مع الناس في أحقيته بخلافة النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم!! فآثر البقاءَ مع الجسد الشريف غسلاً وتكفيناً مع الصلاة عليه، ثمَّ دفنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا استغرق يومين من موته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكانت البيعة العامة لأبي بكر قد تَمَّت قبل دفن النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا كان له أثرٌ نفسي على علي بن أبي طالب ومن مَعه مِن أهل البيت، كفاطمة الزهراء، ومن معه من المهاجرين والأنصار، فقد كان هؤلاء يَرون أنَّ أصحابَ السقيفة لَم يُراعوا مكانتهم، وقطعوا الأمور دون مشورتِهم، وكانوا يفضِّلون أن يتأنَّى الناس حتى يتِمَّ دفنُ النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمَّ يتشاور الناسُ ويوَلُّون مَن يرونه أهلاً للخلافة، أمَّا أن يتِمَّ الأمر في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثمَّ بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يُضعف عندهم شرعيَّة البيعة!! ويجعلها أشبه ما تكون بالقهر والغلبة التي تتنافى مع الشورى المأمور بها شرعاً {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} !!".
4 ـ وقال عن الاختلاف الذي جرى في السقيفة (ص: 43 ـ حاشية): "ويرى البعضُ أنَّ هناك أسباباً قبليَّة وتعصباً لفئات وأشخاص، وليس اختلافهم لمصلحة الإسلام!! ورغم عدم تسليمنا بل وإنكارنا لهذا القول من ناحية بحثية بحتة، إذ لم يثبت هذا من حيث الرواية، إلاَّ أنَّه ليس هناك دليلٌ(7/49)
ص -53- ... شرعي ولا عقلي يمنع من هذا!! فالصحابة يعتريهم ما يعتري سائرَ البشر!".
5 ـ وقال في (ص: 46 ـ حاشية): "سببُ ميل الأنصار لعليٍّ أكثر من ميلهم لأبي بكر وعمر أنَّ عليًّا كان أكثر فتكاً في مشركي قريش؛ إذ قتل من قريش في بدر وحدها نحو خمسة عشر رجلاً، وأوصلهم بعض المؤرِّخين ـ كالواقدي ـ إلى ثلاثة وعشرين رجلاً، فكان الأنصارُ يرون أنَّ عليًّا كان صارماً في موضوع قريش، وأنَّه سيكبحُ جِماحَ قريش (وخاصة الطُّلَقاء منهم، وكان الطُّلَقاء يُمثِّلون أغلب قريش)، وأنَّه لن يصيب الأنصارَ من قريش أذى أو أثرة إذا كان علي هو الخليفة؛ لأنَّ قريشاً تُبغض عليًّا لكثرة نكايته في بيوتاتهم، بعكس أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ لَم يثبت أنَّهم قتلوا من قريش أحداً باستثناء رجل واحد قتله عمرُ بنُ الخطاب يوم بدر، أما علي فقتل منهم العشرات في بدر وأُحُد والخندق ويوم الفتح، وهي المعارك المشهورة مع قريش...
وقد كان بين علي والأنصار مَحبَّة عظيمة، وكان عليٌّ على علاقة كبيرة بهم، وولَّى جَمعاً من فضلائهم أيَّام خلافته"، فذكر سبعة منهم ثمَّ قال: "بينما لَم يجد الأنصارُ فرصتَهم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ كانت الولايات في أيدي القرشيِّين في الغالب (وهذا أمرٌ يدعو للدراسة لمعرفة الأسباب!!)... ومن الاتفاقات الجديرة بالذِّكر هنا أنَّه ورد في الأنصار حديثاً (كذا): (لا يحب الأنصارَ إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضهم إلاَّ منافق)، وورد الحديث نفسه في علي: (لا يحب عليًّا إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضه إلاَّ منافق)، الحديثان في مسلم، وبوَّب مسلمٌ لهذا باباً بعنوان (باب حب علي والأنصار من الإيمان)...".(7/50)
ص -54- ... 6 ـ وقال في (ص: 49 ـ حاشية): "أسلم يوم مكة ألفان من قريش وسُمُّوا الطُّلَقاء، وكان المسلمون من قريش قبل فتح مكة نحو سبعمائة فقط، فأكثريَّة قريش من الطُّلقاء، فلعله لهذا السبب كان الأنصار يَخشون إذا ذهبت الخلافة لقريش أن تصل إلى هؤلاء الطُّلَقاء، وقد حصل هذا بعد ثلاثين سنة، إذ تولَّى الأمر معاوية بن أبي سفيان وهو من الطُّلَقاء، وقد وجد الأنصار في عهده الأثرة الشديدة التي أخبرهم بها النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم!!!".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ اشتمل كلامه هذا على قدح وتشكيك في أحقيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في الجمل التالية:
ـ"ليس كلُّ من بايع أبا بكر الصديق يراه أَوْلَى مِن غيره! وإنَّما بايَعه لأنَّه يراه من الأكفاء للخلافة، ولخشيته من الفتنة ورضاه بالأمر الواقع!!".
ـ زعمه أنَّ قسماً من المهاجرين وبعض الأنصار"يرون أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو أنسبُ الصحابة لتولِّي الخلافة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم!! بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثرَ من ميلِهم مع (أبي بكر!!) رضي الله عنهما، لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لَم يكن موجوداً في السقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!!".
ـ زعمه أنَّ عليًّا لم يذهب إلى السقيفة"إمَّا أنَّه لَم يعلم بهذا الاجتماع المفاجئ في السقيفة، أو أنَّه يرى أنَّه ليس من المناسب أن يترك الجسدَ الشريف ويذهب إلى السقيفة يتنازع مع الناس في أحقيته بخلافة النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم!!".(7/51)
ص -55- ... ـ زعمه أنَّ عليًّا رضي الله عنه ومن معه من أهل البيت كانوا يفضِّلون أن يتأنَّى الناس حتى يتمَّ دفن النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يتشاور الناس ويولُّون مَن يرونه أهلاً للخلافة، أمَّا أن يتمَّ الأمرُ في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثم بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يضعف عندهم شرعيَّة البيعة، ويجعلها أشبهَ ما تكون بالقهر والغلبة التي تتنافى مع الشورى المأمور بها شرعاً {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}!!!
ـ"سبب ميل الأنصار لعليٍّ أكثر من ميلهم لأبي بكر وعمر أنَّ عليًّا كان أكثرَ فتكاً في مشركي قريش!!".
2 ـ ما زعمه من كون الأنصار يرون أنَّ اختيار الخليفة إليهم لأنَّهم أصحاب الدار، وأنَّ المهاجرين ما هم إلاَّ ضيوف عليهم، هو من سوء ظنِّه في الأنصار رضي الله عنهم، وكذا ما زعمه من أنَّ البعضَ يرى أنَّ الاختلافَ الذي جرى يوم السقيفة يرجع إلى تعصُّب قبلي، وليس لمصلحة الإسلام هو من سوء ظنِّه في المهاجرين والأنصار، وما ذكره من استنكار هذا الرأي، ثم القول بأنَّه ليس هناك ما يمنع منه؛ لأنَّ الصحابةَ يعتريهم ما يعتري البشر هو من تناقضه في كلام قليل لا يتجاوز ثلاثة أسطر، مع أنَّه يصف أهل السنَّة بأنَّهم متناقضون.
3 ـ ما أشار إليه من أولوية علي رضي الله عنه بالخلافة؛ لكونه بمنزلة كبيرة من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة، فيُجاب بأنَّ بعضَ أهل الأهواء والبدع يتشبَّثون بأوْلوية علي بن أبي طالب بالخلافة بالحديث الوارد في ذلك، وهو حديث ثابتٌ في الصحيحين عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ولفظه عند البخاري (4416): "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، واستخلف عليًّا، فقال: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن(7/52)
ص -56- ... تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه ليس نبيٌّ بعدي؟!".
وهو لا يدلُّ لهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما قال ذلك تطييباً لنفس عليٍّ رضي الله عنه لَمَّا قال له: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ وهذا الاستخلاف إنَّما هو مدَّة سفره إلى تبوك، كما أنَّ استخلاف موسى لهارون كان مدَّة ذهابه لمناجاة الله، فهذا هو المراد بالتشبيه، فالمشبَّه استخلاف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ مدَّة غيبته، والمشبَّه به استخلاف موسى لهارون مدَّة غيبته، إلاَّ أنَّ المشبَّه به نبِيٌّ استخلف نبيًّا لوجود الأنبياء في زمن واحد، وأمَّا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنَّه لا نبِيَّ بعده، لا في زمانه ولا بعد زمانه.
وليس فيه دلالة على أحقِّيَّة علي بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 ـ ما أشار إليه من أولوية علي رضي الله عنه بالخلافة لكونه قد أكثر القتلَ في كفار قريش، أقول: إنَّ كثرةَ القتل لا تعتبر دليلاً على الأولوية، ومن المعلوم أنَّ بعضَ من تأخَّر إسلامُهم كانت نكايتهم بالعدوِّ أشدَّ مِمَّن هو أفضل منهم مِمَّن تقدَّم إسلامُهم، وإنَّما التفضيل والتقديم في الخلافة يُعوَّل فيه على الأدلَّة.
5 ـ ما أشار إليه من ورود حديثين في صحيح مسلم، أحدهما في الأنصار، والثاني في عليٍّ، يدلاَّن على أنَّه لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، أقول: إنَّ الحديثَ في الأنصار جاء في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: "الأنصار لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، فمَن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" رواه البخاري (3783) ومسلم (129)، وأيضاً من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه: "آيةُ الإيمان حبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بغضُ الأنصار" رواه البخاري (3784) ومسلم (128).(7/53)
ص -57- ... وفي صحيح مسلم (131) عن زرٍّ قال: قال عليّ: "والذي فَلَقَ الحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إنَّه لعهدُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليَّ: ألاَّ يُحبَّني إلاَّ مؤمن، ولا يبغضني إلاَّ منافقٌ".
وبغضُ المنافقين للأنصار إنَّما هو لنُصرتهم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لإظهار دينه، وهذا المعنى لا يختصُّ به الأنصار؛ فإنَّ المهاجرين هم أيضاً أنصارٌ، وقد جَمعوا بين الهجرة والنُّصرة، ولهذا كانوا أفضلَ من الأنصار، وقد وصفهم الله بهذين الوصفين في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، قال الحافظ في الفتح (1/63) في شرح حديث حبّ الأنصار: "... فلهذا جاء التحذيرُ من بغضهم والترغيب في حبهم حتَّى جعل ذلك آيةَ الإيمان والنفاق؛ تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان مَن شاركهم في معنى ذلك مشاركاً لهم في الفضل المذكور كلٌّ بقسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (لا يُحبُّكَ إلاَّ مؤمن، ولا يبغضكَ إلاَّ منافقٌ)، وهذا جارٍ باطّرادٍ في أعيان الصحابة؛ لتحقق مشترك الإكرام؛ لِمَا لهم مِن حسن الغناء في الدِّين، قال صاحب المفهم: وأمَّا الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغضٌ لبعضٍ فذاك من غير هذه الجهة (يعني النصرة)، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لَم يحكم بعضهم على بعضٍ بالنفاق، وإنَّما كان حالُهم في ذاك حالَ المجتهدين في الأحكام، للمصيب أجران، وللمخطئ أجرٌ واحد، والله أعلم".
وكتاب المفهم هو شرحٌ لصحيح مسلم، وصاحبُه أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، وهو شيخ لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي المفسر.(7/54)
ص -58- ... وأمّا ما ذكره المالكي مِن أنَّ مسلماً بوَّب لهذا باباً بعنوان"باب حبُّ عليٍّ والأنصار من الإيمان"، فإنَّ مسلماً ـ رحمه الله ـ لَم يضع في صحيحه أبواباً، وهو في حكم المبوَّب، وتراجم الأبواب إنَّما هي من عمل غيره، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/21): "وقد ترجم جماعةٌ أبوابَه بتراجم بعضُها جيِّدٌ وبعضُها ليس بجيِّد، إمَّا لقصور في عبارة الترجمة، وإمَّا لركاكةِ لفظها، وإمَّا لغير ذلك، وأنا إن شاء الله أحرصُ على التعبير عنها بعبارات تليقُ بها في مواطنها، والله أعلم".
وبعد إيراد جمل من كلام المالكي في التشكيك والقدح في أحقيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والردِّ عليه أُورِد هنا بعضَ ما وقفت عليه من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع في بيان أحقيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقولة من كتابي الانتصار للصحابة الأخيار في رد أباطيل حسن المالكي، من (ص: 72) إلى (ص: 82).
أوَّلاً: الأحاديث والآثار:
1 ـ روى البخاري (5666)، ومسلم (2387) في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضِه: ادْعِي لي أبا بكر وأخاكِ حتى أكتب كتاباً، فإنِّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى اللهُ والمؤمنون إلاَّ أبا بكر".
2 ـ روى البخاري (7220)، ومسلم (2386) في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عن جُبير بن مُطْعم قال: "أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فكلَّمتْه في شيءٍ، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله! أرأيتَ إن جئتُ ولَم أجدْك، كأنَّها تريد الموت؟ قال: إن لَم تجديني فأتِي أبا بكر".(7/55)
ص -59- ... 3 ـ روى البخاري في صحيحه (678) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "مرض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فاشتدَّ مرضُه، فقال: مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس" الحديث، وقد أخرجه مسلم في صحيحه (420).
وجاء أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس من حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (679) ومسلم (418).
وقد فهم الصحابةُ رضي الله عنهم من تقديم أبي بكر رضي الله عنه في الإمامة في الصلاة أنَّه الأحقُّ بالخلافة، فروى ابن سعد في الطبقات (3/178 ـ 179) قال: أخبرنا حُسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله (يعني ابن مسعود) رضي الله عنه قال: "لَمَّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: مِنَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس؟ قالوا: بلى! قال: فأيُّكم تطيبُ نفسُه أن يتقدَّم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر!".
وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رجالُه رجالُ الجماعة، وعاصم هو ابن أبي النجود، وحديثُه في الصحيحين مقرونٌ، ورواه الحاكم في المستدرك (3/67)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
وفي صحيح البخاري (3668) أنَّ عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر يوم السقيفة: "بل نبايعُك أنت؛ فأنت سيِّدنا وخيرُنا وأحبُّنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده، فبايعه وبايعه الناس".
4 ـ روى مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البجلي أنَّه قال: "سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: إنِّي أبرأُ إلى الله أن(7/56)
ص -60- ... يكون لي منكم خليلٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً" الحديث.
وهذا التنويهُ بهذه الفضيلة العظيمة للصِّدِّيق في مرض موته صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته بخمس ليالٍ، فيه إشارةٌ قويّةٌ إلى أنَّه الأحقُّ بالخلافة من غيره.
5 ـ روى البخاري (3664) ومسلم (2392) في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائمٌ رأيتُني على قليبٍ عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثمَّ أخذها ابنُ أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضَعفٌ، والله يغفر له ضعفَه، ثمَّ استحالت غرباً فأخذها ابنُ الخطاب، فلَم أَرَ عَبْقرياًّ من الناس ينزع نزعَ عمر، حتى ضرب الناسُ بعَطَن".
ورؤيا الأنبياء وحيٌ، وهذه الرؤيا فيها إشارةٌ إلى خلافة أبي بكر وقِصَرها، وإلى خلافة عمر مِن بعده، وطولها وكثرة نفعها.
6 ـ روى ابن أبي شيبة في مصنّفه (7/434 رقم: 7053) فقال: حدثنا ابن نُمير، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير قال: سمعتُ علياًّ يقول: "قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على خير ما عليه نَبِيٌّ من الأنبياء، قال: ثمَّ استخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنته، ثمَّ قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها، ثمَّ استُخلف عمر فعمل بعملهما وسنتهما، ثمَّ قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر".
ورجالُ هذا الإسناد محتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سلع صدوق.(7/57)
ص -61- ... ثانياً: حكايةُ الإجماع والاتّفاق على خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
لَم يأت نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحٌ على خلافة أبي بكر أو غيره، لكنَّه قد جاء أحاديث صحيحة تدلُّ دلالة قويَّة على أنَّه أولَى من غيره بالخلافة، وقد مرَّ جملةٌ منها، وقد حصل اتِّفاق الصحابة رضي الله عنهم على بيعته، وتحقَّق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث المتقدِّم قريباً: "يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر"، ويدلُّ على حصول اتِّفاقهم على بيعته ما يلي:
1 ـ روى الحاكم في المستدرك (3/78 ـ 79) قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثني أبي وأحمد بن منيع، قالا: ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زِر، عن عبد الله (يعنِي ابنَ مسعود) قال: "ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيِّئاً فهو عند الله سيِّء، وقد رأى الصحابةُ جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه".
ورجاله مُحتجٌّ بهم، والقطيعي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/210)، وقال عنه: "الشيخ العالم المحدِّث مسند الوقت".
2 ـ روى البخاري في صحيحه (7219) بإسناده إلى الزهري أنَّه قال: ((أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلَّم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبَرَنا، يريد بذلك أن يكون آخرَهم، فإن يكُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد مات، فإنَّ الله تعالى قد جعل بين أظهرِكم نوراً تهتدون به بما هدى اللهُ به محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنَّ أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، فإنَّه أولَى الناسِ بأمورِكم، فقوموا فبايِعوه، وكانت طائفةٌ(7/58)
ص -62- ... منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بَنِي ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر، قال الزهري (أي بالإسناد المتقدِّم) عن أنس بن مالك: سمعتُ عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه الناسُ عامَّة".
3 ـ روى أبو داود في سننه (4630) قال: حدَّثنا محمد بن مسكين، حدَّثنا محمد ـ يعني الفريابي ـ قال: سمعتُ سفيان (يعني الثوري) يقول: "مَن زعم أنَّ عليًّا عليه السلام كان أحقَّ بالولاية منهما فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء".
إسناده صحيح، ومحمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له الجماعة، ومحمد ابن مسكين ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
4 ـ روى البيهقي في كتابه مناقب الشافعي (1/434) بإسناده إلى الشافعي قال: "أجمع الناسُ على خلافة أبي بكر، واستخلَف أبو بكر عمر، ثمَّ جعل عمرُ الشورى إلى ستة، على أن يُوَلُّوها واحداً، فوَلَوْها عثمان رضي الله عنهم أجمعين".
5 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل في كتابه الإبانة (ص: 185 ـ 186): "وأثنى الله عزَّ وجلَّ على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، وعلى أهل بيعة الرضوان، ونطق الكتاب بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة، وأثنى على أهل بيعة الرضوان، فقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية.
قد أجمع هؤلاء الذين أثنى عليهم ومدَحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسَمَّوه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعوه وانقادوا له، وأقَرُّوا له بالفضل، وكان أفضلَ الجماعة في جميع الخصال التي يستحقُّ بها الإمامةَ من(7/59)
ص -63- ... العلم والزهد وقوَّة الرأي وسياسة الأمَّة وغير ذلك".
6 ـ قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ المعروف بابن السَّقاء: "وأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، قالوا له: يا خليفة رسول الله! ولَم يُسَمَّ أحدٌ بعده خليفة، وقيل: إنَّه قُبض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم، كلٌّ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! ورَضوا به مِن بعده، رضي الله عنهم، وإلى حيث انتهينا قيل لهم: أمير المؤمنين". من تاريخ بغداد للخطيب (10/131).
والمراد أنَّ أبا بكر كان يُقال له: يا خليفة رسول الله! وأمَّا غيره فيُقال له: يا أمير المؤمنين.
7 ـ قال أبو عثمان الصابوني إسماعيل بن عبد الرحمن في كتابه عقيدة السَّلف أصحاب الحديث (ص: 87): "ويُثبت أصحابُ الحديث خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتِّفاقهم عليه وقولهم قاطبة: رَضِيَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لدِيننا فرضيناه لدُنيانا، يعني أنَّه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيَّام مرضه وهي الدِّين، فرضيناه خليفةً للرسول صلى الله عليه وسلم علينا في أمور دُنيانا.
وقولهم: قدَّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمَن ذا الذي يُؤَخِّرك؟ وأرادوا أنَّه صلى الله عليه وسلم قدَّمَك في الصلاة بنا أيَّام مرضه، فصلينا وراءك بأمره، فمَن ذا الذي يُؤخِّرك بعد تقديمه إيَّاك؟!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلَّم في شأن أبي بكر في حال حياته بِما يُبيِّن للصحابة أنَّه أحقُّ الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتَّفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه ـ والله ـ وارتفعوا به وعَزُّوا وعَلَوْا بسببه".(7/60)
ص -64- ... 8 ـ قال الإمام البيهقي في كتابه الاعتقاد (ص: 179 ـ 180): "وقد صحَّ بما ذكرنا اجتماعُهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب، فلا يجوز لقائل أن يقول: كان باطنُ عليٍّ أو غيرِه بخلاف ظاهرِه، فكان عليٌّ أكبرَ محلاًّ وأجلَّ قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حقٍّ أو يُظهِرَ للناس خلافَ ما في ضميره، ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لَم يصحَّ إجماعٌ قطُّ، والإجماعُ أَحَدُ حُجَج الشريعة، ولا يجوز تعطيلُه بالتوهُّم".
9 ـ قال ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد (ص: 35): "وهو (أي أبو بكر الصديق) أحقُّ خلق الله بالخلافة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لفضله وسابقته وتقديم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة".
10 ـ قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (1/264): ((وأجمعت الصحابةُ على تقديم الصدِّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بَنِي ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منَّا أميرٌ ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إنَّ العربَ لا تدين إلاَّ لِهذا الحيِّ من قريش، ورَوَوا لهم الخبرَ في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش".
11 ـ قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (15/154 ـ 155) عند شرحه لأثر عائشة رضي الله عنها لَمَّا سُئلت: "مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثمَّ مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثمَّ قيل لها: مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثمَّ انتهت إلى هذا"، قال: "هذا دليلٌ لأهل السُّنَّة في تقديم أبي بكر ثمَّ عمر في الخلافة مع إجماع الصحابة، وفيه دلالة لأهل السُّنَّة أنَّ خلافةَ أبي بكر ليست(7/61)
ص -65- ... بنصٍّ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحاً، بل أجمعت الصحابةُ على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته، ولو كان هناك نصٌّ عليه أو على غيره لَم تقع المنازعةُ من الأنصار وغيرهم أولاً، ولَذَكر حافظ النصِّ ما معه، ولرجعوا إليه، لكن تنازعوا أوَّلاً، ولم يكن هناك نصٌّ، ثمَّ اتَّفقوا على أبي بكر واستقرَّ الأمر".
12 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/455): "... فبايعه الذين بايعوا الرَّسولَ تحت الشجرة، والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُهاجرون إليه، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرِهم، ولم يقل أحدٌ قطُّ: إنِّي أحقُّ بهذا مِن أبي بكر، ولا قاله أحدٌ في أحدٍ بعينه: إنَّ فلاناً أحقُّ بهذا الأمر من أبي بكر".
13 ـ عقد ابن القيم في كتابه"الفوائد" فصلاً في فضائل أبي بكر، ومِمَّا جاء فيه قوله في (ص: 95): "نطقتْ بفضله الآياتُ والأخبارُ، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار".
14 ـ قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (9/415 ـ 418): "وقد اتَّفق الصحابةُ رضي الله عنهم على بيعة الصِّديق في ذلك الوقت، حتى عليّ ابن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وأرضاهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي حيث قال: أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفراييني، ثنا أبو علي الحُسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر بن خزيمة وإبراهيم بن أبي طالب، قالا: نا بُندار بن بشار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وُهيب، ثنا داود بن أبي هند، ثنا أبو نَضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمع الناسُ في دار سعد بن عُبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيبُ الأنصار فقال: أتَعلمون أنَّ رسول الله(7/62)
ص -66- ... صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفتَه من المهاجرين، ونحن كنَّا أنصارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فنحن أنصارُ خليفتِه كما كنَّا أنصارَه، قال: فقام عمرُ بنُ الخطاب، فقال: صدق قائلُكم، ولو قُلتُم غيرَ هذا لَم نُتابِعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبُكم فبايِعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصارُ، قال: فصعد أبو بكر المنبرَ، فنظر في وجوه القوم، فلَم يرَ الزبيرَ، فدعا بالزبير فجاء، قال: قلتَ: ابنُ عمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريُّه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فقام فبايعه، ثمَّ نظر في وجوه القوم فلَم يرَ عليًّا، فدعا بعليِّ بن أبي طالب، فجاء فقال: قلتَ: ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختَنُه على ابنتِه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فبايعه)، هذا أو معناه".
وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله رجال مسلم، وابن خزيمة هو إمام الأئمة صاحب الصحيح.
وإبراهيم بن أبي طالب هو محمد بن نوح، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/457) وقال: "الإمام الحافظ المجوِّد الزاهد، شيخ نيسابور، وإمام المحدِّثين في زمانه"، ونقل عن الحاكم أنَّه قال فيه: "إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرِّجال، جمع الشيوخ والعلل".
وأبو علي الحسين بن علي الحافظ، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/51) وقال: "الحافظ الإمام العلاَّمة الثبت أبو علي الحسين بن علي ابن يزيد بن داود النيسابوري، أحد النُّقَّاد".
وشيخ البيهقي، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/305) وقال: "الإمام الحافظ النَّاقد القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن حسين ابن شاذان بن السَّقا الإسفراييني، من أولاد أئمَّة الحديث، سمع الكتب(7/63)
ص -67- ... الكبار وأملى وصنَّف".
وقد أورد ابن كثير حديث البيهقي هذا في البداية (8/92) بإسناده ومتنه، وفيه أنَّ كنية شيخه أبو الحسن، ثمَّ قال: "وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قُطَعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سِنان الخدري"، وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى (8/143) هذا الإسناد وأحال في متنه على متن إسناد قبله، وقال: "بنحوه"، وفيه أنَّ كنية شيخه: أبو الحسن.
وقال ابن كثير أيضاً (9/417): "وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدَّثني أبي: (أنَّ أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأنَّ محمد بن مسلمة كسَر سيفَ الزبير، ثمَّ خطب أبو بكر، واعتذر إلى الناس، وقال: والله! ما كنتُ حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتُها اللهَ في سرٍّ ولا علانية، فقبِل المهاجرون مقالتَه، وقال عليٌّ والزبير: ما غضِبْنا، إلاَّ لأنَّنا أُخِّرنا عن المشورة، وإنَّا نرى أبا بكر أحقَّ الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنَّه لصاحبُ الغار، وإنَّا لنعرِف شرَفَه وخَيْرَه، ولقد أمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي).
وهذا اللاَّئق بعليٍّ رضي الله عنه، والذي تدلُّ عليه الآثار من شهودِه معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القَصَّة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سنورده، وبذلِه له النصيحةَ والمشورةَ بين يديه، وأمَّا ما يأتي من مبايعته إيَّاه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه الصلاة والسلام بستَّة أشهر، فذلك محمولٌ على أنَّها بيعةٌ ثانية أزالت ما كان قد وقع من وَحشةٍ بسبب الكلام في الميراث، ومنعه إيَّاهم ذلك بالنصِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا نورَث ما تركنا فهو صدقة".(7/64)
ص -68- ... وإسناد موسى بن عقبة صحيح؛ سعد بن إبراهيم وأبوه من رجال الصحيحين، وسعدٌ ثقة، وأبوه له رؤية.
15 ـ قال يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه الرياض المستطابة (ص: 143): "وقد كانت بيعتُه إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرفُ بالحال، وأدرى بصحَّة الدليل في المقال، والإجماعُ حُجَّة قطعية من غيرهم، فما ظنُّك بهم؟!".
ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع يتبيَّن أنَّ خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه حقٌّ، وأنَّه أوْلَى بالخلافة من غيره، وأنَّ القولَ بخلاف ذلك ضلالٌ عن الحقِّ وخروجٌ عن الجادَّة واتِّباعٌ لغير سبيل المؤمنين التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر"، فالله يأبى إلاَّ أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلاَّ أبا بكر، ويأبى بعضُ الذين اتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين مِن أهل الأهواء والبدعِ إلاَّ غير أبي بكر، نعوذ بالله من الخذلان.
ثمَّ أقول: إنَّ غُلوَّ المالكي في عليٍّ رضي الله عنه لا يُفيد عليًّا شيئاً، وإنَّ جفاءَه في حقِّ الكثيرين من الصحابة لا يضُرُّهم شيئاً، وإنَّما مضرَّة الغلوِّ والجفاء تعود على الغالي الجافي، نسأل الله السلامةَ والعافية.
وكما اشتملت عباراته التي أشرتُ إليها على تشكيكه وقدحه في أحقيَّة أبي بكر بالخلافة، فإنَّها مشتملةٌ على تشكيكه في أفضليته على غيره من الصحابة، بل قد صرَّح بذلك في كتابه السيِّء في الصحابة؛ إذ أورد فيه أثر إبراهيم النخعي: "من فضلَّ عليًّا على أبي بكر وعمر فقد أزرى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار..." مستدلاًّ به على رأيه الباطل، وهو قَصْر الصحبة الشرعية على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، فقال: "مع التحفُّظ على تشنيعه على مَن فضَّل عليًّا عليهما؛ فإنَّ هذا قد(7/65)
ص -69- ... فعله بعضُ السابقين من المهاجرين والأنصار، كما ذكر ذلك ابنُ عبد البر في ترجمة الإمام عليٍّ في الاستيعاب، ودلَّت عليه بعضُ الروايات!!!".
وقد رددتُ عليه تحفظه الباطل في كتابي"الانتصار للصحابة الأخيار" (ص: 59 ـ 65)، وأنا أسوقه هنا، فقد قلت فيه: وأمَّا تحفُّظه على ما جاء في الأثر من تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع، فهو مخالِف لِما عليه سلفُ هذه الأمَّة، ودلَّت عليه الأحاديثُ الصحيحةُ والآثار عن بعض الصحابة وغيرِهم، ومنهم علي رضي الله عنه، وأذكر فيما يلي بعضَ الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك مِمَّا وقفتُ عليه من الأحاديث المرفوعة والآثار عن الصحابة، وحكاية الإجماع عن عدد من العلماء:
أوَّلاً: الأحاديث المرفوعة:
1 ـ ما رواه مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البَجلي رضي الله عنه أنَّه قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يَموت بخمس وهو يقول: "إنِّي أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً مِن أمَّتِي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً" الحديث.
فقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ لا يكون أن لو كان كيف يكون، وهو دالٌّ على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على الصحابة جميعاً.
2 ـ ما رواه البخاري (3662) ومسلم (2384) في صحيحيهما عن عَمرو بن العاص رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيتُه، فقلت: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: عمر بن الخطَّاب، فعدَّ رجالاً".(7/66)
ص -70- ... 3 ـ روى الترمذي في جامعه (3890) قال: حدَّثنا أحمد بن عَبْدة الضبِّي، حدَّثنا المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: "قيل: يا رسول الله! مَن أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل: مِن الرِّجال؟ قال: أبوها"، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ أحمد بن عبدة الضبِّي فهو من رجال مسلم.
ثانياً: الآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم علي رضي الله عنه:
1 ـ روى البخاري في صحيحه (3671) بإسناده عن محمد بن الحنفية ـ وهو محمد بن علي بن أبي طالب ـ قال: "قلتُ لأبي: أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عمر، وخشيتُ أن يقول: عثمان، قلت: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلاَّ رجلٌ من المسلمين".
2 ـ روى الإمام أحمد في مسنده (835 ـ تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد) قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن يعنِي الغُداني الأشل، عن الشعبي، حدَّثني أبو جُحيفة الذي كان عليٌّ يُسمِّيه: وهْب الخير، قال: قال لي عليٌّ: "يا أبا جُحيفة! ألا أُخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيِّها؟ قال: قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث، ولم يُسمِّه"، وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ منصور بن عبد الرحمن فهو من رجال مسلم، وأثر علي هذا عن أبي جُحيفة جاء في مسند الإمام أحمد وزوائده لابنه عبد الله من طرق صحيحة أو حسنة، وأرقامها من (833) إلى (837) و(871).
3 ـ روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (484): قَثَنَا الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى قالا: نا شهاب بن خراش، قال: حدَّثني الحجاج ابن(7/67)
ص -71- ... دينار، عن أبي مَعشر، عن إبراهيم النخعي، قال: "ضرب علقمة بنُ قيس هذا المنبر، فقال: خطبنا عليٌّ على هذا المنبر، فحمِد اللهَ وذكره ما شاء الله أن يذكرَه، ثمَّ قال: ألا إنَّه بلغنِي أنَّ أناساً يفضِّلونِي على أبي بكر وعمر، ولو كنتُ تقدَّمت في ذلك لعاقبتُ، ولكنِّي أكرَه العقوبةَ قبل التقدُّم، فمَن قال شيئاً من ذلك فهو مفْتَرٍ، عليه ما على المفتري، إنَّ خيرَ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثمَّ عمر...".
وهذا إسنادٌ حسن، وأبو مَعشر هو زياد بن كُليب، وهو ثقة.
وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (993)، وقال الألباني: "إسناده حسن".
في زوائد فضائل الصحابة (49) عن عبد الله بن أحمد بإسنادٍ فيه ضعف إلى الحَكَم بن جَحْل قال: سمعتُ عليًّا يقول: "لا يفضلني أحدٌ على أبي بكر وعمر إلاَّ جلدته حدَّ المفتري".
وهو أيضاً كذلك في السنة لابن أبي عاصم (1219)، وهو قريبٌ في المعنى من الذي قبله عن علقمة.
وقد أشار إبراهيم النَّخعي إلى هذه العقوبة من عليٍّ لِمَن يفضِّله على الشيخين بقوله لرجلٍ قال له: "عليٌّ أحبُّ إليَّ من أبي بكرٍ وعمر، فقال له إبراهيم: أما إنَّ علياًّ لو سَمع كلامَك لأَوْجَع ظَهْرَك، إذا تجالسوننا بهذا فلا تجالسونا" رواه عنه ابن سعد في الطبقات (6/275) بإسناده إليه عن أحمد ابن يونس عن أبي الأحوص ومُفضَّل بن مُهَلْهَل عن مغيرة عنه، ورجالُه ثقاتٌ محتجٌّ بهم، وهم من رجال الصحيحين، إلاَّ المفضل بن مهلهل فهو من رجال مسلم، وفيه عنعنة المغيرة عن إبراهيم، وهو مدلِّس.(7/68)
ص -72- ... 4 ـ روى ابن ماجه في سننه (106) قال: حدَّثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلِمة قال: سمعتُ علياًّ يقول: "خيرُ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وخير الناس بعد أبي بكر عمر".
ورجاله محتجٌّ بهم، ثلاثة منهم من رجال البخاري ومسلم، وصححه الألباني.
5 ـ روى البخاري في صحيحه (3655) بإسناده إلى عبد الله بن عمر أنَّه قال: "كنَّا نُخيِّر بين الناس في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنخيِّر أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان بن عفّان، رضي الله عنهم".
ثالثاً: حكايةُ الإجماع:
قد جاء حكايةُ الإجماع أو ما يدلُّ عليه في تفضيل أبي بكر وعمر على غيرِهما من الصحابة عن جماعةٍ من العلماء، منهم:
1 ـ يحيى بن سعيد الأنصاري (144هـ) ذكره اللاّلكائي في شرح أصول الاعتقاد (2608 و2609).
2 ـ سفيان بن سعيد الثوري (161هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه أصول السنة (194).
3 ـ شريك بن عبد الله النخعي الكوفي (177هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (194).
4 ـ عبد الله بن المبارك (181هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (197).
5 ـ محمد بن إدريس الشافعي (204هـ)، ذكره البيهقي في الاعتقاد (ص: 192).(7/69)
ص -73- ... 6 ـ يوسف بن عدي (232هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (196).
7 و8 ـ أبوزرعة (264هـ) وأبو حاتم (277هـ) الرازيان، ذكره عنهما اللاّلكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (321).
9 ـ النووي (676هـ)، ذكره في شرحه على مسلم (15/148).
10 ـ ابن تيمية (728هـ)، ذكره في الوصية الكبرى (ص: 59 و60)، وفي منهاج السنة (8/413).
11 ـ الذهبي (748هـ)، ذكره في كتاب الكبائر (ص: 236).
وأمَّا ما عزاه إلى كتاب الاستيعاب لابن عبد البر من تفضيل عددٍ من الصحابة عليًّا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فلَم أقف على أسانيد عنهم بذلك، ولو ثبت شيءٌ من هذا فهو محمولٌ على مثل ما حصل لأبي جُحيفة رضي الله عنه قبل أن يَسمع من عليٍّ تفضيل أبي بكر وعمر عليه، حيث قال: "ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه"، وقد مرَّ قريباً.
وأيضاً لو ثبت النقلُ عنهم فإنَّه لا يُقاوم ما ثبت في الأحاديث المرفوعة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم عليّ رضي الله عنه، وهو مخالِف لِما نُقل من الإجماع في تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع.(7/70)
ص -74- ... وأمَّا ما زعمه من دلالة بعض الروايات على تفضيل عليٍّ رضي الله عنه على غيره فلَم يُبيِّن شيئاً من هذه الروايات، ولعلَّه يعنِي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ رضي الله عنه: "أمَا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي"، وقد أشار إليه في كلامه الذي شكَّك فيه بأحقِّية أبي بكر بالخلافة، وقد مرَّ ذكرُه قريباً والجواب عنه، وهو يدلُّ على فضل عليٍّ رضي الله عنه، ولا يدلُّ على أفضليَّته على الخلفاء الثلاثة الذين قبله، رضي الله عن الجميع.
ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكايات الإجماع اتَّضح أنَّ الحقَّ هو تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره من الصحابة، ومن العجب أن يُشكِّك المالكي في أفضليَّة أبي بكر على غيره، مع أنَّ تفضيلَه على سائر الصحابة دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة وحكاية الإجماع من عددٍ من العلماء، بل قد ثبت عن عليٍّ رضي الله عنه من رواية أربعة من التابعين أنَّ عليًّا رضي الله عنه يُفضِّلُ أبا بكر عليه، وواحد منها في صحيح البخاري، وفي بعضها تفضيله ـ أي علي ـ عمرَ عليه، بل لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الوصيَّة الكبرى (ص: 59 ـ 60): "وقد اتَّفق أهلُ السنَّة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: خير هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر، ثمَّ عمر، رضي الله عنهما".
وفي ترجمة عبد الرزاق بن همام في تهذيب الكمال للمزي قال أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري: سمعتُ عبد الرزاق يقول: "أفضِّل الشيخين بتفضيل عليٍّ إيَّاهما على نفسه، ولو لَم يُفضِّلهما ما فضَّلتُهما، كفى بي إزراءً أن أحبَّ عليًّا ثمَّ أخالف قولَه".
وفي زوائد فضائل الصحابة (126) عن عبد الله بن أحمد: قثنا سلمة ابن شَبيب أبو عبد الرحمن النيسابوري، قال: سمعتُ عبد الرزاق يقول: "والله! ما انشرح صدري قطُّ(7/71)
أن أُفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على عثمان، ورحمة الله على عليٍّ، ومَن لَم يحبَّهم فما هو بمؤمن، وإنَّ أوثقَ أعمالِنا حبُّنا إيَّاهم أجمعين، رضي الله عنهم أجمعين، ولا جعل لأحد منهم في أعناقنا تَبِعة، وحَشَرنا في زُمْرَتهم ومعهم، آمين رب العالمين!"، وسلمة بن شبيب ثقة من رجال مسلم.(7/72)
ص -75- ... 12 ـ قدحه في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، والردُّ عليه
قد أورد المالكي في قراءته كلاماً كثيراً في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما من (ص: 50) إلى (ص: 61)، اشتمل على تشكيكه وقدحه في خلافتهما رضي الله عنهما، ولن أشغل نفسي بتتبع ما فيه من قدح في خلافتهما رضي الله عنهما اكتفاء بما أوضحته من قدحه وتشكيكه في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ولا شكَّ أنَّ من سهُلَ عليه القدح والنيل من خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فإنَّ حصولَ القدح والتشكيك في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما يكون سهلاً عليه من باب أولى، ولكنِّي أشير إلى شيئين:
أحدهما: قوله في خلافة عمر رضي الله عنه (ص: 50 ـ 51): "وقبل وفاة أبي بكر الصديق كان قد أوصى بالخلافة لعمر رضي الله عنهما، فكانت هذه الوصيَّة أيضاً محلَّ اعتراض من بعض الصحابة الكبار، كعلي وطلحة وغيرهما؛ لغلظة عمر رضي الله عن الجميع، ولم يذكر لنا التاريخ شيئاً آخر غير الغلظة، لكن في ظنِّي أنَّ اعتراض من اعترض كان عنده توجس من مسألة الوصيَّة نفسها؛ إذ كيف يوصي الخليفة إلى أن يخلفه فلان دون مشورة من المسلمين!!".
أقول: إنَّ ظنَّه الذي ذكره ـ وهو لم يُسبَق إليه ـ هو من ظنِّ السوء.
الثاني: قوله في خلافة عثمان رضي الله عنه (ص: 53 ـ 54): "فأكثر عبد الرحمن ابن عوف استشارة الناس بعد تعادل كفَّتي علي وعثمان، وكان من حسن حظِّ عثمان وسوء حظِّ عليٍّ أنَّه كان بالمدينة يومها أمراء الأمصار وأجنادهم قدموا للحجِّ، وكان هؤلاء فيمن استشارهم عبد الرحمن بن عوف، ولا ريب أنَّ معظمَ هؤلاء يفضِّل سياسة عثمان المتسامحة على سياسة علي الصارمة، فكان أكثر الناس يومئذ على اختيار عثمان، ومع ذلك كأنَّ عبد الرحمن بن عوف أدرك هذا وخشي إن تولَّى عثمان أن يحمل بني أميَّة على رقاب الناس؛ لما يعرفه من لين عثمان وكرمه وحبِّه لقومه بني أمية، فذهب ابن عوف إلى اشتراط شرط آخر إضافة لشرط العلم(7/73)
بالكتاب والسنة، وهو العمل بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر، وكأنَّ عبد الرحمن بن(7/74)
ص -76- ... عوف يريد من هذا الشرط أن يتذكَّر الوالي الجديد سيرةَ أبي بكر وعمر اللَّذين لم يوليا أحداً من أقاربهما، فكأنًَّه يريد إبراء ذمَّته بأخذ هذا العهد، فكان من حسن حظ عثمان أيضاً أنَّ عليًّا لن يوافق على هذا الشرط؛ إذ كان يرى فيه تقييداً لسياسة الوالي الجديد، وإلزاماً له بأمر غير ملزم شرعاً، فلذلك عاهد علي عبد الرحمن بن عوف على العمل بالكتاب والسنَّة فقط، أمَّا اشتراط سنَّة الشيخين فلم ير له مستنداً شرعيًّا، وكان علي عالماً من علماء الصحابة معتزًّا بعلمه وفقهه لا يُقلِّد أحداً، وكان يخطِّئ عمر في كثير من القضايا والأحكام، ويناقشه ويردُّ عليه، فيرجع عمر إلى رأيه وفتاواه، ويقول: (لولا علي لهلك عمر)، فكأنَّ عليًّا يقول: (كيف ألتزم سيرة من كنت أعلم منه، وكان يستفيد من مشورتي ويرجع لعلمي؟!).
إضافة لما في هذا الشرط من تقييد للاجتهاد، لكن عثمان بن عفان وافق على الشرط دون تردد، معاهداً عبد الرحمن بن عوف على العمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فلم يكن أمام عبد الرحمن بن عوف بُدٌّ من بيعته، وبايع علي لعثمان مع المبايعين، لكن لم يكن راضيا عن هذه الطريقة أيضاً لوجود شرط غير شرعي كان سبباً في رفضه البيعة لنفسه!!!".
وتعليقاً على كلامه هذا أقول:
1 ـ اشتمل هذا الكلام على ألوان من سوء الظنِّ في عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين.(7/75)
ص -77- ... 2 ـ لا ينتهي عجب المتعجب من إطلاق المالكي جملة: "وكان من حسن حظِّ عثمان وسوء حظ علي"، فإنَّ كلاًّ من عثمان وعلي رضي الله عنهما ذو حظٍّ عظيم في الدنيا والآخرة، ولم أرَ مثل هذا التعبير ولم أسمع به قبل وقوفي على هذا الكلام للمالكي، ومن سوء ظنِّ المالكي بهما رضي الله عنهما تصوره أنَّ رغبةَ كلٍّ منهما بالولاية كان لحظِّ نفسه، ولم تكن رغبتهما ورغبة غيرهما من الصحابة في الولاية ـ إن وُجدت هذه الرغبة ـ إلاَّ للعمل للإسلام ورفع رايته وإقامة الشرع، ولهذا لَمَّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر: "لأعطينَّ الرايةَ غداً رجلاً يحبُّ الله ورسولَه ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه" بات الناسُ يدوكون ليلتَهم أيّهم يُعطاها، وقال عمر رضي الله عنه: "ما أحببتُ الإمارةَ إلاَّ يومئذ". فلمَّا أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلُّهم يرجو أن يُعطاها، رواه البخاري (3701)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم (2405) عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب: "ما أحببتُ الإمارةَ إلاَّ يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها".
3 ـ ما زعمه من اشتراط عبد الرحمن على عثمان وعلي رضي الله عنهم أن يلتزم الخليفة سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقبول عثمان الشرط بلا تردد، وامتناع علي من ذلك، هو من سوء ظنِّه، ولم تكن سيرة الشيخين ـ إن صحَّ الاشتراط ـ مخالفةً لسنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، وقال صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذيْن من بعدي أبي بكر وعمر"، انظر: السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني (1233)، بل قد جاء عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: "قُبض رسول الله(7/76)
ص -78- ... صلى الله عليه وسلم على خير ما عليه نبيٌّ من الأنبياء، قال: ثم استُخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنَّته، ثم قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها، ثم استُخلف عمر فعمل بعملهما وسنَّتهما، ثم قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر" أخرجه ابن أبي شيبة (7/434) (رقم: 7053) عن ابن نمير، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير، عن علي، ورجال هذا الإسناد محتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سلع صدوق.
وفي صحيح البخاري (3685) عن ابن عباس قال: "وُضع عمر على سريره، فتكنَّفه الناس يدعون ويُصلون قبل أن يُرفع وأنا فيهم، فلَم يَرُعْنِي إلاَّ رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحَّم على عمر، وقال: ما خلفت أحداً أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله! إن كنتُ لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحبَيك، وحسبت أنِّي كثيراً أسمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر".
13 ـ اختياره المزعوم للمذهب الحنبلي لنقده في العقيدة والردُّ عليه
ذكر عنواناً (ص: 102)"نقد المذهب الحنبلي في العقيدة"، وقال فيه: " وبما أنَّ كلَّ فرقة من الفرق تركز على نقد الطوائف الأخرى وتنسى نفسَها مع ما في هذا من تزكية للنفس وظلم للآخرين وجهل بالإنصاف، وبما أنَّني لم أجد إلى الآن داخل الفرق الإسلامية من يهتمُّ بالنَّقد الداخلي إلاَّ بعض الأفراد الذين يُخرجون بعض هذا النَّقد على استحياء وحذَر، وبما أنَّ تركيز(7/77)
ص -79- ... وتوسع الناقدين والباحثين في نقد المذاهب العقدية والفقهية التي ينتمون إليها له جوانب إيجابية تتمثَّل في تخفيف التعصب وتصحيح الأخطاء ومد جسور من التفهم لكثير من الإشكالات والعمل على حلِّها، فإنَّني سأنقد بعضَ الأمور التي أدخلناها نحن الحنابلة في العقيدة السلفية وهي أبعدُ ما تكون عمَّا يجب أن يعتقدَه المسلم.
إذن للأسباب السابقة سأحاول هنا أن أخالف القاعدة بالتركيز على النقد الذاتي لكثير من المسائل والتجاوزات الموجودة داخل المذهب الذي أنتمي إليه بل وينتمي إليه معظمنا في هذا الوطن وفي بعض بلدان العالم الإسلامي، والانتماء لا يعني التقليد، ألا وهو المذهب الحنبلي في العقيدة، وتركيزي على نقد عقائد الحنابلة له أكثر من فائدة:
1 ـ المشاركة في تصحيح أخطاء المذهب ونقد الغلو.
2 ـ عدم مجاراة الآخرين في التركيز على الفرق الأخرى.
3 ـ إحياء النقد الذاتي.
4 ـ تعلم وتعليم الإنصاف.
فلذلك أقول: ما أضاع المسلمين إلاَّ نسيان كلِّ فرقة لنفسها وتركيزها على الفرق الأخرى، ولو نظرت كلُّ فرقة لعقائدها ومَحَّصتها لاتفق المسلمون في كثير من الأمور (ورحم الله من اشتغل بعيوب نفسه).
وقد احتوت كتب العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمَّة ولعلَّ من أبرزها:
التكفير، والظلم، والغلو في المشايخ، والشتم، والكذب، والقسوة في المعاملة، والذم بالمحاسن، والأثر السيِّء في الجرح والتعديل، والتجسيم الصريح، أو التأويل الباطل، وإرهاب المتسائلين، وتفضيل الكفار على(7/78)
ص -80- ... المسلمين، وتفضيل الفَسقة والظلمة على الصالحين، والمغالطة، والانتصار بالأساطير والأحلام، وتجويز قتل الخصوم، والإسرائيليات، والتناقض، والتقول على الخصوم، وزرع الكراهية الشديدة مع عدم معرفة حق المسلم، والأثر السيِّء على العلاقات الاجتماعية، واستثارة العامة والغوغاء، والتزهيد من العودة للقرآن الكريم، مع المبالغة في نشر أقوال العلماء الشاذة، مع انتشار عقائد ردود الأفعال (كالنَّصب وذم العقل)، وجود القواعد المعلقة التي يطلقها بعضهم، والتركيز على الجزئيات وترك الأصول، وإطلاق دعاوى الإجماع، وإطلاق دعاوى الاتفاق مع الكتاب والسنة والصحابة، وتعميم معتقد البعض أو بعض الأفراد على جميع المسلمين، مع إرجاع أصول المخالفين كل فرقة أصول الفرقة الأخرى لأصول غير مسلمة يهودية أو نصرانية أو مجوسية، وغير ذلك من الأمراض التي نعلِّمها أبناءنا في المدارس والجامعات، فيخرجون فاقدين لأهليَّة التفكير الصحيح، وجاهلين أبرز أسس العدل والإنصاف، ثم نستغرب بعد هذا كلِّه لماذا هذا التوتر في المجتمع المسلم!! وهذا التباغض والتباعد بين المسلمين".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
1 ـ اختار المذهب الحنبلي لنقده في العقيدة لكونه ـ بزعمه ـ حنبليًّا، وأنَّ نقدَه من قبيل النَّقد الذاتي، قال: "فإنَّني سأنقد بعضَ الأمور التي أدخلناها نحن الحنابلة في العقيدة وهي أبعدُ ما تكون عمَّا يجب أن يعتقدَه المسلم"، والواقع الذي لا شكَّ فيه أنَّ أهلَ السنة ـ ومنهم الحنابلة ـ بريئون منه، ودخوله المزعوم في الحنابلة هو من قبيل التمويه والتلبيس للوصول إلى الطعن في عقيدة أهل السنَّة والجماعة؛ بزعمه أنَّ الناقدَ واحدٌ منهم، وحقيقة حاله أنَّه مندسٌّ فيهم، وهو أجنبيٌّ منهم، وأوضحُ مثال لدخوله المزعوم في(7/79)
ص -81- ... الحنابلة دخول ذئب في مجموعة من الغنم، لا يُتصوَّر من دخوله فيها إلاَّ قصد القضاء عليها وإتلافها.
وواضحٌ أنَّ قدحَه في معتقد أهل السنةَّ والجماعة عموماً، وإنَّما خصَّ الحنابلةَ؛ لأنَّ الحنابلةَ لهم جهودٌ كبيرة في تقرير عقيدة السلف ومقاومة أهل البدع والردِّ عليهم في مختلف العصور، بل إنَّ الإمام أحمد نفسَه قد ردَّ على أهل البدع، ومِمَّا ألَّف في ذلك كتاب الرد على الجهمية والزنادقة، قال في أوله: "الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدْعونَ من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبَصرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلَّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلِّين".
وكذلك أهل السنَّة من غير الحنابلة لهم جهود كبيرة في تقرير العقيدة والردِّ على أهل البدع، كما لا يخفى على مَن له عناية واهتمام بكتب العقيدة عند أهل السُّنَّة والجماعة.
2 ـ اشتمل كلام المالكي على أنَّه لم يُسبق بجرأة ووقاحة إلى النقد الذاتي المزعوم، فقال: "وبما أنَّني لم أجد إلى الآن داخل الفرق الإسلامية من يهتمُّ بالنَّقد الداخلي إلاَّ بعض الأفراد الذين يُخرجون بعض هذا النَّقد على استحياء وحذَر!!"، وقال: "سأحاول هنا أن أخالف القاعدة بالتركيز على(7/80)
ص -82- ... النقد الذاتي لكثير من المسائل والتجاوزات الموجودة داخل المذهب الذي أنتمي إليه وينتمي إليه معظمنا في هذا الوطن وفي بعض بلدان العالم الإسلامي، والانتماء لا يعني التقليد، ألا وهو المذهب الحنبلي في العقيدة، وتركيزي على نقد عقائد الحنابلة له أكثر من فائدة:
1 ـ المشاركة في تصحيح أخطاء المذهب ونقد الغلو.
2 ـ عدم مجاراة الآخرين في التركيز على الفرق الأخرى.
3 ـ إحياء النقد الذاتي.
4 ـ تعلم وتعليم الإنصاف".
أقول: إنَّ سَبْقَه إلى النَّقد الذاتي المزعوم يدل على مدى حقده على أهل السُّنَّة والجماعة السائرين على نهج الصحابة وتابعيهم بإحسان، وأمَّا الفوائد التي ذكرها للنقد الذاتي المزعوم، فالثالثة منها وهي"إحياء النقد الذاتي!"، معناها أنَّه السابق إلى بعث هذا النَّقد من مرقده، وأمَّا الأولى وهي"المشاركة في تصحيح أخطاء المذهب ونقد الغلو"، فليس مشاركاً في ذلك، بل هو سابقٌ إليه، وأمَّا الثانية منها وهي"عدم مجاراة الآخرين في التركيز على الفرق الأخرى"، فإنَّها تدلُّ على أنَّه في الوقت الذي يُتعب نفسَه في العيب والثلب لأهل السنَّة وحدهم يكون حظُّ فرق الضلال منه السلامة والعافية، وأمَّا الرابعة وهي"تعلم وتعليم الإنصاف"، فما أبعدَه عن الإنصاف، وفاقد الشيء لا يُعطيه، والجاهل لا يعلِّم غيرَه، وكيف يكون منصفاً من يعطفُ على أهل البدع والضلال على كثرة فرقهم، ويخصُّ بحقده وأذاه أهل السُّنَّة والجماعة، ومن لم يظفر أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه بالإنصاف، فمن باب أولى أن لا يظفر به غيرُهم، والمالكي سليطُ اللسان سيال القلم في النَّيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلِّ مَن سار على طريقتهم إلى زماننا هذا، وكتابه السيِّء في الصحابة أوضح شاهد على حقده على الصحابة، وكتابه(7/81)
الذي نردُّ عليه وهو"قراءة في كتب العقائد" أوضحُ شاهد على حقده على أهل السُّنَّة والجماعة في مختلف العصور.
3 ـ قوله: "وقد احتوت كتب العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمَّة، ولعلَّ من أبرزها" ثم ذكر ثلاثين نقيصة، هي كلُّ الذي انقدح في ذهنه فرماهم بها، ولو انقدح في ذهنه أكثرُ من ذلك لَم يبخل به عليهم؛ لأنَّ الحقدَ على أهل السُّنَّة والجماعة قد شوى قلبَه، ومن يكون حالُه كذلك فلا سبيل له إلى الإنصاف، ولا سبيل للإنصاف إليه، وهذه النقائص المزعومة التي رمى بها أهل السُّنَّة سيُفرِد كثيراً منها بالكلام، وسأردُّ عليه فيها.(7/82)
ص -83- ... 14 ـ قدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين والردُّ عليه
المالكي من أهل الأهواء والبدع الذين يخوضون في السنن حسب أهوائهم، فتراه يقدح في أحاديث صحيحة ولو كانت في الصحيحين أو أحدهما تبعاً لهواه، وليس ذلك بغريب على مَن زعم أنَّ السنَّة مختلفٌ في ثبوتها، فمن سهُلَ عليه الطعن في ثبوت السنَّة من أصلها سهُل عليه الطعنُ في أحاديث صحيحة لا تتَّفق مع هواه، وسيأتي ذكر نص كلامه في التشكيك في ثبوت السنَّة، وهذه نماذج من الأحاديث الصحيحة التي طعن في ثبوتها:
الأول: حديث أبي بكرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (2704) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتَين من المسلمين".(7/83)
زعم المالكي أنَّه مختلفٌ فيه بين الوصل والإرسال، وزعم أنَّ المراد من الصلح الإبقاء على مُحبِّي أهل البيت لئلاَّ تفنيهم الحرب، قال في (ص: 72 ـ 73): "فلا ريبَ أنَّ عليًّا هو الأصوب (يعني في قتاله لأهل الشام)؛ لكثرة الأدلة الشرعية والعقلية التي معه، بعكس الحسن؛ إذ ليس معه إلاَّ حديث واحد مختلفٌ فيه بين الوصل والإرسال، وهو حديث (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين...")، وقال في (ص: 74): "أمَّا العثمانية ومنهم علماء الشام فهم يُثنون كثيراً على صلح الحسن، ليس حبًّا في الحسن، وإنَّما للطعن في حرب علي للبغاة، ويُردِّدون كثيراً حديث (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به...)، ويُهملون حديث عمار (تقتله الفئة الباغية)، مع أنَّ حديث صلح الحسن آحاد، ومختلف في وصله وإرساله، كما ذكر الدارقطني في العلل، بينما حديث عمار متواتر ومتفقٌ على صحَّته، ثم لا يُثنون على الصلح حبًّا لهذا الحديث، ولو كان الأمر حبًّا للأحاديث فحديث عمار أولَى بالمحبَّة؛ للاتفاق على صحَّته ولصراحة دلالته، بعكس حديث صلح الحسن، كما لا يُثنون على الصلح حبًّا في حقن الدماء ولا مراعاة لمصلحة الأمة كما يزعمون!!".
وأمَّا زعمه أنَّ الصلحَ إنَّما هو للإبقاء على مُحبِّي أهل البيت من التعرض للقتل، فقد قال في (ص: 71): "فكان الحسن بن علي بين أمرين: إمَّا أن يستعين بهذه القلَّة من المخلصين ضد هذه الجموع الكبيرة، وإمَّا أن يلجأ لمصالحة معاوية، فكان هذا الاختيار الأخير هو الذي ترجَّح عند الحسن لحفظ البقيَّة الباقية من محبِّي الإمام علي وأهل البيت؛ لعلهم ينشرون علومهم وسيرتهم، وكان اللجوء للخيار الأول (محاربة معاوية) يعني ـ إلى حدٍّ كبير ـ القضاء على كلِّ من يذكر الإمام علي بخير من أهل العراق، وبهذا(7/84)
ص -84- ... يضيع فضل وآثار (الثقل الثاني) بعد كتاب الله!!".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ حديث صلح الحسن حديثٌ ثابت أخرجه البخاري وغيره من الأئمة، ولو كان من الآحاد فهو معتبَر؛ لأنَّ أحاديث الآحاد عند أهل السنَّة حجَّة في العقائد وغيرها، وقد حكى ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة الحسن رضي الله عنه روايته عن جماعة من الصحابة، وأنَّه متواتر، فقال: "وتواترت الآثار الصحاح عن النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّه قال في الحسن بن علي: "إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" رواه جماعةٌ من الصحابة".
وأمَّا ما زعمه بأنَّه مختلَفٌ فيه بين الوصل والإرسال، فإنَّ الحديث قد أخرجه البخاري (2704)، و(7109) بإسناد متصل من رواية الحسن البصري، عن أبي بكرة، وفيه تصريحُ الحسن بسماعه من أبي بكرة رضي الله عنه، وفيه قول الحسن: "ولقد سمعتُ أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقبل على الناس مرة، وعليه أخرى، ويقول: إنَّ ابني هذا سيد..." الحديث.
وقال البخاري عقب سياق الحديث: "قال لي علي بن عبد الله (يعني ابن المديني): إنَّما ثبت لنا سماعُ الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث".
وما زعمه من ذكر الاختلاف بين وصل الحديث وإرساله في علل الدارقطني، فإنَّ الدارقطني قد أثبت الحديث ولم يُعلَّه، وإنَّما أعلَّ طريقاً واحدة مخالفة للطريق الثابتة، ففي العلل للدارقطني (7/161): "وسُئل عن حديث الحسن عن أبي بكرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد، وعسى الله(7/85)
ص -85- ... أن يصلح به بين فئتين عظيميتن من المسلمين" الحديث، فقال: حدَّث به أحمد ابن عبد الصمد النهرواني، وهو مشهور لا بأس به، عن ابن عيينة، عن أيوب، عن الحسن، ووهم فيه، وإنَّما رواه ابن عيينة، عن أبي موسى إسرائيل، عن الحسن، عن أبي بكرة، وكذلك رواه يونس ومنصور وعمرو بن عبيد، عن الحسن، وهو الثابت".
قال ابن حجر في لسان الميزان (1/214): "وقد ذكر الدارقطني في العلل أنَّه (يعني أحمد بن عبد الصمد النهرواني) وهم في إسناد حديث مع أنَّه مشهور لا بأس به، والإسناد المذكور مِمَّا رواه عن ابن عيينة، عن أيوب، عن الحسن، عن أبي بكرة حديث (ابني سيد)، والمحفوظ عن ابن عيينة، عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن، عن أبي بكرة، كذلك أخرجه البخاري".
وبهذا يتبيَّن أنَّ الدارقطني لم يذكر اختلافاً بين وصل الحديث وإرساله، فهو متَّصل غير مرسل، وإنَّما ذكر طريقاً خالف فيها أحمد بن عبد الصمد غيرَه من الثقات، فذكر في الطريق المعلَّة أيوب بدلاً من إسرائيل الذي جاء في الطرق المحفوظة الثابتة، وهذا الذي وقع فيه المالكي من التخبط نتيجة حتمية لدخول الإنسان فيما لا يتقنه وليس من أهله.
وقد ذكر المالكي تحت عنوان"صلح الحسن وآثاره" الحديثَ في موضعين، ولم يكمله إلى آخره، مع أنَّه مختصر، وقد وصف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه الطائفتين العظيمتين بأنَّهما من المسلمين، وهو وصفٌ يُعجبُ كلّ مسلم ناصح للمسلمين، وقد قال سفيان بن عيينة: "قوله (من المسلمين) يعجبنا جدًّا"، قال الحافظ في الفتح (13/66): "وفي هذه القصة من الفوائد عَلمٌ من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي؛ فإنَّه ترك المُلكَ لا لقلَّة، ولا لذِلَّة، ولا لعلَّة، بل لرغبته فيما عند الله، لِمَا رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى(7/86)
ص -87- ... أمر الدِّين ومصلحة الأمة، وفيها ردٌّ على الخوارج الذي كانوا يكفِّرون عليًّا ومن معه، ومعاوية ومن معه، بشهادة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنَّهم من المسلمين، ومن ثَمَّ كان سفيان بن عيينة يقول عقب هذا الحديث: قوله: (من المسلمين) يعجبنا جدًّا، أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن الحميدي وسعيد بن منصور عنه".
2 ـ وأما زعمه أنَّ صلحَ الحسن إنَّما هو للإبقاء على محبِّي أهل البيت، فإنَّ الحديث واضحٌ في أنَّ الفائدةَ من الصلح تعود للفئتين العظيمتين من المسلمين، ولم يكن صلح الحسن لقلَّة من معه، بل لحقن الدماء من الجانبين وجمع كلمة المسلمين، وقد مرَّ قريباً في كلام الحافظ ابن حجر أنَّ ذلك لم يكن لقلَّة ولا لذلَّة ولا لعلَّة، بل لرغبته فيما عند الله، لِمَا رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدِّين ومصلحة الأمَّة، ومِمَّا يدلُّ على كثرة الجيش الذي كان مع الحسن رضي الله عنه ما جاء في صحيح البخاري (2704) أنَّ الحسن البصري قال: "استقبل ـ والله! ـ الحسنُ بنُ علي معاويةَ بكتائب أمثال الجبال".
وأهل السنَّة والجماعة يتولَّون أهلَ بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرفون لهم فضلَهم، ولا يغلون بأحد منهم، وقد حُفظت سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن تبعهم بإحسان، مشتملة على ما يتعلَّق بأهل البيت وغير أهل البيت، وكُتُبُ أهل السنَّة حافلةٌ ببيان منزلة أهل البيت، كل أهل البيت، دون اقتصار على بعضهم ومعاداة للآخرين منهم، كما هو شأن أهل البدع، أمَّا ما اشتملت عليه كتب الرافضة من غلوٍّ في بعض أهل البيت، فإنَّ حفظَ ذلك جنايةٌ على أهل البيت، وهم بُرآءُ من الغالين فيهم وغلُوِّهم.(7/87)
ص -88- ... الثاني: حديث: "تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبداً: كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم"، قدح المالكيُّ في حديث الاعتصام بالكتاب والسنَّة، فقال في (ص: 71 ـ حاشية): "الحديث (تركتُ فيكم ثقلين لن تضلُّوا ما تَمسَّكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، حديث صحيح، بل عدَّه بعضُ العلماء متواتراً، وأصله في صحيح مسلم، وقد عارضه بعض جهلة أهل السنَّة بحديث: (... كتاب الله وسنَّتي)، وهو حديث ضعيفٌ عند محقِّقي أهل السنَّّة، مع أنَّه يُمكن الجمع بينهما!!".
ويُجاب عن ذلك: بأنَّ الحديث صحيحٌ ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رواه الحاكم في مستدركه (1/93) عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ في حجَّة الوداع، فقال: "قد يئس الشيطان بأن يُعبد بأرضكم، ولكنَّه رضي بأن يُطاع فيما سوى ذلك مِمَّا تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا! يا أيُّها الناس! إنِّي قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبداً: كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم" الحديث، ثم قال الحاكم: "قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة، واحتجَّ مسلم بأبي أويس، وسائر رواته متفق عليهم، وهذا الحديث لخطبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم متفقٌ على إخراجه في الصحيح: "يا أيُّها الناس! إنِّي قد تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وأنتم مسؤولون عنِّي فما أنتم قائلون؟" وذِكرُ الاعتصام بالسنَّة في هذه الخطبة غريب ويحتاج إليه، وقد وجدتُ له شاهداً من حديث أبي هريرة"، ثم ساق بإسناده عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي قد تركتُ فيكم شيئين لن تضلُّوا بعدهما: كتاب الله وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض".
وأصل الحديث في الصحيح الذي أشار إليه الحاكم هو ما جاء في حديث جابر الطويل في صفة حجَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (1218)، وفيه:(7/88)
ص -89- ... "وقد تركت فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنَّك قد بلَّغت وأدَّيتَ ونصحتَ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللَّهمَّ اشهد! اللَّهمَّ اشهد! ثلاث مرَّات".
فالحديث صحيح، فكيف يزعم بأنَّه ضعيف، وكما أنَّه ثابتٌ من حيث الإسناد فأيُّ غرابة فيه من حيث المتن، والله عزَّ وجلَّ يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟! وليس بأيدي المسلمين إلاَّ التمسك بكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاَّ هالك" حديث صحيح، رواه ابن أبي عاصم في السنة (48) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، ورواه أيضاً من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (47).
والذي ترك الناسَ عليه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا حديث ذِكر عترته أهل بيته صلى الله عليه وسلم مع الكتاب فلا يُنافي حديث ذكر الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ أهلَ بيت الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل السنَّة والجماعة هم زوجاته وكلُّ مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم، وهم الذين لا تحلُّ لهم الصدقة، وإنَّما خصَّ أهل البيت لاطلاعهم على كثير من أموره صلى الله عليه وسلم، ولهذا فأمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها روت الكثيرَ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور المتعلِّقة ببيته وغيرها، وكذا ابن عمِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قد روى الكثير من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا غيرهم من أهل البيت وغير أهل البيت رووا سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل السنَّة يُعوِّلون على الكتاب وكلِّ ما صحَّت(7/89)
به السنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء جاءت عن أهل(7/90)
ص -90- ... البيت أو غيرهم، وأمَّا بعض أهل الأهواء والبدع فهم يقصرون أهل البيت على علي وفاطمة رضي الله عنهما وأولادهما، ومِن هؤلاء المالكي الذي يغلو في علي وبعض أولاده، ويجفو في غيرهم من أهل البيت، ومن ذلك زعمه أنَّ العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ صحبتَهما كصحبة المنافقين والكفار، وهو قولٌ أحدثه في القرن الخامس عشر ولم يسبقه إليه أحد طيلة القرون الماضية، وقد ذكرتُ كلامه في ذلك ورددتُ عليه في كتاب الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي.
الثالث: الحديث الذي أخرجه البخاري في تحريق علي زنادقة، قال المالكي في (ص: 80 ـ حاشية): "قصة تحريق علي لهؤلاء غير صحيحة، وإنَّما الذي في صحيح البخاري أنَّ عليًّا حرَّق مرتدِّين، وفي لفظ (زنادقة)، وليس في ذلك تصريح أو دلالة على السبئية كما يزعم البعض، ومع هذا أيضاً نجد الروايات في البخاري في موضوع التحريق مدارها على عكرمة مولى ابن عباس، وهو متَّهمٌ برأي الخوارج المنحرفين عن علي، وقد اختلف فيه أهل الجرح والتعديل، ثم لم يُتابَع على رواية هذا الحدَث الكبير إلاَّ من طريق ضعيفة عند أبي طاهر المخلص مع الاختلاف الكبير في السياق!!".
وأجيب عن ذلك: بأنَّ قصةَ التحريق رواها البخاري في صحيحه في موضعين، الأول (3017) عن عكرمة: "أنَّ عليًّا رضي الله عنه حرَّق قوماً، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنتُ أنا لم أحرِّقهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تُعذِّبوا بعذاب الله، ولَقَتَلتُهم كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن بدَّل دينَه فاقتلوه".
الثاني (6922) عن عكرمة قال: "أُتي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا(7/91)
ص -91- ... تعذِّبوا بعذاب الله، ولَقتَلتُهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن بدَّل دينه فاقتلوه".
فالحديث صحيح ثابتٌ عند الإمام البخاري، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح الأحاديث التي انتقدها عليه بعضُ النُّقَّاد، وأجاب عن الانتقاد، وليس منها هذا الحديث الذي طعن فيه المالكيُّ من أجل عكرمة مولى ابن عباس، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التقريب أنَّه لم يثبت عنه بدعة، وقال في مقدِّمة الفتح (ص: 425): "فأمَّا البدعة، فإن ثبتت عليه فلا تضرُّ حديثَه؛ لأنَّه لم يكن داعيةً مع أنَّها لم تثبت عليه"، وذكر أيضاً أنَّ جماعةً من الأئمَّة صنَّفوا في الذَّبِّ عنه، منهم أبو جعفر بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وأبو عبد الله بن منده وأبو حاتم بن حبان وأبو عمر بن عبد البر.
وأمَّا طريق أبي طاهر المخلص التي زعم أنَّها ضعيفة فقد حسَّنها الحافظ في الفتح (12/270)، فقال: "وزعم أبو المظفر الإسفراييني في الملل والنحل أنَّ الذين أحرقهم علي طائفةٌ من الروافض ادَّعوا فيه الإلهية، وهم السبائية، وكان كبيرُهم عبد الله بن سبأ يهوديًّا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة، وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه قال: قيل لعلي: إنَّ هنا قوماً على باب المسجد يدَّعون أنَّك ربُّهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟! قالوا: أنت ربُّنا وخالقُنا ورازقنا! فقال: ويلكم! إنَّما أنا عبدٌ مثلُكم، آكلُ الطعامَ كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعتُ اللهَ أثابَنِي إن شاء، وإن عصيتُه خشيتُ أن يُعذِّبَني، فاتَّقوا الله وارجعوا، فأبَوا، فلمَّا كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد ـ والله! ـ رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخِلهم، فقالوا كذلك، فلمَّا كان الثالث قال: لئن قلتُم ذلك لأقتلنَّكم بأخبث قتلة، فأبوا إلاَّ ذلك، فقال: يا قنبر! ائتني(7/92)
بفعلة معهم مرورهم، فخدَّ(7/93)
ص -92- ... لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إنِّي طارحُكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:
إنِّي إذا رأيت أمرا منكراً ... أوقدتُ ناري ودعوتُ قنبرا
وهذا سند حسن".
ويُحمل فعل علي رضي الله عنه على أنَّه أراد تغليظ العقوبة عليهم، ولم يبلغه النهيُ عن التحريق بالنار.
الرابع: حديث: "إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبَّار"، قال المالكي (ص: 122): "كثرة الأكاذيب من الأحاديث الموضوعة والآثار الباطلة، وخاصة تلك المشتملة على التجسيم وتشبيه الله بالإنسان، سواء ما كان منها مكذوباً على النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو ما كان مكذوباً على بعض الصحابة والتابعين، أو كان مِمَّا تسرَّب إلى الكتب من الإسرائيليات المأخوذة عن اليهود والنصارى، وسبب الإكثار من هذه الأكاذيب والأباطيل أنَّ كلَّ فرقة أرادت الاحتجاج لآرائها ومبادئها بأحاديث وآثار وأخبار، فتلجأ إلى أخذ هذه الأكاذيب والإسرائيليات فيوقعهم هذا في الكذب، وقد يزيٍِّن الشيطان للأتباع تصحيح بعض هذه المكذوبات، كلُّ هذا بحجة نصرة السنَّة ونصرة العقيدة، ونسوا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار"، وتناسوا النصوص الشرعية الناهية عن الكذب والمحذِّرة منه، ومن أمثلة هذه الأكاذيب المنتشرة في كتب عقائد الحنابلة..." ثم ذكر جملة من الأحاديث والآثار نقلاً من كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وعبد الله ابن الإمام أحمد قد أوردها بأسانيدها، منها ما هو ثابتٌ، ومنها ما ليس(7/94)
ص -93- ... بثابت، وإيراده لها لا يعني ثبوت كلِّ ما أورده عنده، وقد مرَّ النقل عن ابن تيمية وابن حجر أنَّ المحدِّثين يوردون ما يتعلَّق بالباب ليُعلم، ولينظر من له أهلية النظر في الأسانيد لمعرفة ما يثبت وما لا يثبت.
ومِمَّا ذكره المالكي وهو صحيح ثابت حديث"غِلَظ جلد الكافر"، فقال (ص: 125): "ومن هذه الخزعبلات المرويَّة أنَّ جلدَ الكافر يوم القيامة أربعون ذراعاً بذراع الجبار"، وعزاه إلى السنَّة (2/492)، وهو في هذا الموضع عن عبد الله بن مسعود بإسناد حسن موقوف عليه، وقد أورده عبد الله بن الإمام أحمد (2/509 ـ 510) من طريق هارون بن معروف وأبي معمر، عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن ابن مسعود، وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين، وله حكم الرفع، وأورده عقبَه عن أبي هريرة مرفوعاً، فقال: حدَّثنيه أبو خيثمة زهير بن حرب، حدَّثنا عبيد الله بن موسى، نا شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار، وضرسَه مثل أُحُد"، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ورواية الأعمش له بالعنعنة لا تؤثِّر، قال الذهبي في ترجمته في الميزان: "فمتى قال (حدَّثنا) فلا كلام، ومتى قال (عن) تطرَّق إليه احتمال التدليس، إلاَّ في شيوخ له أكثَرَ عنهم، كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمَّان، فإنَّ روايته عن هذا الصنف محمولةٌ على الاتِّصال"، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (1794).
وقد أخرجه الحاكم في المستدرك (4/595) فقال: "حدَّثنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أنبأ محمد بن سليمان بن الحارث، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبأ شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيّ(7/95)
ص -94- ... صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار، وضرسَه مثلُ أُحُد"، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال الشيخ أبو بكر رضي الله عنه: معنى قوله (بذراع الجبار): أي جبَّار من جبابرة الآدميين، مِمَّن كان في القرون الأولى، مِمَّن كان أعظمَ خلقاً وأطولَ أعضاء وذراعاً من الناس".
وبيان غلظ ضرس الكافر وأنَّه مثل أُحُد جاء في صحيح مسلم (2851).
وكما أنَّ الحديث ثابتٌ من حيث الإسناد، فقد بيَّن أهلُ العلم معناه، ومن ذلك كلام أبي بكر شيخ الحاكم المتقدِّم، وقد نقل البيهقي بعد إخراجه الحديث في الأسماء والصفات (ص: 431) عن بعض أهل النظر أنَّه قال: "إنَّ الجبار ههنا لم يُعن به القديم، وإنّما عُني به رجلاً جبَّاراً كان يوصَف بطول الذراع وعظم الجسم، ألا ترى إلى قوله: {كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، وقوله (بذارع الجبار) أي: بذراع ذلك الجبار الموصوف بطول الذِّراع وعظم الجسد، ويحتمل أن يكون ذلك ذراعاً طويلاً يذرع به يُعرف بذراع الجبَّار، على معنى التعظيم والتهويل، لا أنَّ له ذراعاً كذراع الأيدي المخلوقة".
وقال المناوي في فيض القدير (4/255): "أراد به هنا مزيد الطول أو أنَّ الجبَّار اسم ملِك من اليمن أو العجم كان طويل الذراع، وقال الذهبي: ليس ذا من الصفات في شيء، وهو مثل قولك ذراع الخياط وذراع النجار".
وفي قصَّة مرور إبراهيم عليه الصلاة والسلام وزوجه سارة بجبَّار من الجبابرة في صحيح مسلم (2371) قول إبراهيم لسارة: "إنَّ هذا الجبَّار إن يعلم أنَّك امرأتي يغلبُني عليك، فإن سألَك فأخبريه أنَّك أختي، فإنَّك أختي في الإسلام، فإنِّي لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك"، وفيه: "فلمَّا(7/96)
ص -95- ... دخل أرضَه رآها بعضُ أهل الجبَّار" الحديث.
وبناء على ما تقدَّم من الكلام على هذا الحديث إسناداً ومتناً يتبيَّن أنَّ الخزعبلات في دماغ المالكي، وليست فيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخامس: حديث "خلق الله آدم على صورته"، قال المالكي في (ص: 125): "ورووا خزعبلات أخرى ظاهرها التجسيم والتشبيه، مثل قولهم"، وذكر جملة منها، إلى أن قال: "وأنَّه خلق آدم على صورته هو"، وأشار إلى المصدر وهو السنة لعبد الله بن أحمد (2/472)، وهذا سياقه في كتاب السنة، قال: حدَّثني أبو معمر، نا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبِّحوا الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن تبارك وتعالى"، ومنه يتبيَّن أنَّ عزو المالكي ليس مطابقاً لما في المصدر الذي عزا إليه، والحديث بهذا السياق ضعَّفه بعضُ أهل العلم. انظر: السلسلة الضعيفة للألباني (1176)، وصحَّحه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه كما نقل ذلك في الفتح (5/183)، وفي الإسناد الأعمش وحبيب بن أبي ثابت وهما مدلِّسان، وقد مرَّ قريباً في الحديث الرابع كلام الذهبي في تدليس الأعمش، وأمَّا عنعنة حبيب بن أبي ثابت، فقد قال الألباني في السلسلة الصحيحة (3413) عنها: "فمثله مِمَّا يغضُّ النظر عن عنعنته عند العلماء"، وقد ورد الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: "خلق الله آدم على صورته" رواه البخاري (6227)، ومسلم (2612)، وليس فيه كلمة (هو) التي ذكرها المالكي، واخْتُلف في مرجع الضمير في الحديث، والصحيح رجوعه إلى الله، ولا يلزم منه التشبيه كما زعم المالكي، ومعناه عند أهل السنَّة ما ذكره الحافظ(7/97)
ص -96- ... في الفتح، حيث قال (11/3): "وقيل الضمير لله، وتَمسَّك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه (على صورة الرحمن)، والمراد بالصورة الصفة، والمعنى أنَّ الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء".
وبهذا يتبيَّن أنَّ ما صحَّ به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من الخزعبلات، وإنَّما هو من علم الغيب الذي يجب الإيمان به والتصديق، من غير تشبيه بالخلق، وإنَّما الخزعبلات في أدمغة أهل البدع والأهواء، ومنهم المالكي.
السادس: حديث: "ألاَ وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام" وأحاديث أخرى في فضل الشام.
أورد المالكي في (ص: 79) تحت عنوان"النواصب بالشام ووضع الأحاديث" كلاماً قال فيه: "ومن آثار الدولة الأموية أن قوي في الشام تيار النواصب الذي ركَّز على فضيلة الأرض؛ لأنَّه لَمَّا رأى هذا التيار أنَّ صاحبهم لا يوازي عليًّا ولا يكاد، نشرت النواصب فضل الوطن بدلاً من فضل الشخص!! فروت أنَّ الشام هي دار الهجرة عند حدوث الفتن!! وأنَّ الإيمان عند وقوع الفتن بالشام!! وأنَّ فيها الطائفة المنصورة التي ستبقى لا يضرها مَن خالفها إلى قيام الساعة!! وأنَّ في العراق تسعة أعشار الشر!! وأنَّ عثمان سيقتله (المنافقون) مظلوماً!! وأنَّهم سيدخلون النار!! وأنَّ عثمان سيحكم يوم القيامة في القاتل والخاذل!! وغير ذلك من الأحاديث ذات الصبغة السياسية وبعض تلك الأحاديث له أصل صحيح زادت فيه العثمانية والنواصب زيادات فجيرته لصالحها مثل حديث (لا تزال طائفة من أمَّتي منصورين على من خالفهم... الحديث) زادت فيه النواصب زيادات توهم(7/98)
ص -97- ... أنَّ تلك الطائفة هي بالشام وهي (عسكر معاوية)!! وقد صحَّح بعض أهل الحديث تلك الأحاديث متناسين أنَّ هذه الأحاديث وُضعت للالتفاف على فضل علي ومن معه (من المهاجرين والأنصار وأهل بدر) والرفع من معاوية ومن معه من أعاريب لَخم وجذام وكلب إضافة للالتفاف على حديث عمار ابن ياسر وعلى وضوح حق الطرف الشرعي للخلافة وقد بقي الانحراف عن علي في أهل الشام إلى يومنا هذا، وهم يلجئون إلى التوفيق بين تيار العثمانية (النواصب) وتيار المحايدين من السنة كما فعل ابن تيمية في منهاج السنة مثلاً!!".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
1 ـ لم يقتصر المالكي على القدح في آحاد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تعدَّى ذلك إلى القدح فيها بالجملة، ومن ذلك ما زعمه هنا من أنَّ النواصب في الشام وضعوا الأحاديث في فضل الأرض، ومن الأحاديث التي مثَّل بها للأحاديث الموضوعة في فضل الشام، أحاديث صحيحة، لم يوصف رجالها بضعف، فضلاً عن وصفهم بالوضع، ومنها حديث: "ألا وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام" فقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده (21733)، فقال: حدَّثنا إسحاق بن عيسى، حدَّثنا يحيى بن حمزة، عن زيد بن واقد، حدَّثني بُسر بن عبيد الله، حدَّثني أبو إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم إذ رأيتُ عمود الكتاب احتُمل من تحت رأسي، فظننتُ أنَّه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام"، وهذا حديث صحيح، رجاله كلُّهم ثقات، فأبو إدريس الخولاني وبُسر بن عبيد الله ويحيى بن حمزة من رجال الشيخين، بل هم من رجال أصحاب الكتب الستة، وزيد بن واقد من رجال البخاري،(7/99)
ص -98- ... وإسحاق بن عيسى من رجال مسلم، فليس فيهم ضعيف، فضلاً عن أن يكون وضَّاعاً، وقال الحافظ في الفتح (12/403): "وسنده صحيح"، وللحديث شواهد عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن حوالة، وقد صحَّحها الشيخ الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي (ص: 6، 11، 12)، وذكر في مقدِّمة تخريجه أنَّ الأحاديث المرفوعة فيه بلغت واحداً وأربعين حديثاً بالمكرَّر، وقال: "وأكثرُها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها موضوع".
ومن أصحِّ ما جاء في فضل الشام حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمَننا، قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ قال: اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمَننا، قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ فأظنُّه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان" أخرجه البخاري (7094)، والحديث واضح الدلالة في فضل الشام واليمن، والمراد بنجد فيه ـ كما جاء في بعض الروايات وبيَّنه أهل العلم ـ العراق، قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في تعليقه على حديث ابن عمر من كتابه تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي (ص: 9 ـ 10): قال: "وأمَّا حديث ابن عمر فأخرجه أبو نعيم (6/133)، وابن عساكر إلى قوله (وفي العراق)، وزاد: (فأعرض عنه، فقال: فيه الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان)،(7/100)
ص -99- ... وإسناده صحيح، ورواه الطبراني في الكبير من طريق أخرى عن ابن عمر، وسنده صحيح أيضاً، وقد أورده في المجمع (3/305) وقال: (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات)، وأخرجه أحمد (2/143) مختصراً بلفظ: (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير بيده يؤم العراق: ها إنَّ الفتنة ههنا، ثلاث مرَّات، من حيث يطلع قرن الشيطان)، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرج في صحيحه (8/181) نحوه، وفي رواية له من وجه آخر عن سالم بن عبد الله، قال: "يا أهل العراق! ما أسأَلَكُم عن الصغيرة، وأركبَكم للكبيرة؟! سمعتُ أبي عبد الله بن عمر يقول"، فذكره، وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً من وجه آخر عن سالم به مرفوعاً، وأخرج البخاري (13/38 ـ بشرح العسقلاني) وأحمد (2/118) وابن عساكر من طريق نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: "اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل" الحديث، وأخرجه الترمذي وصحَّحه، وعزاه المنذري في الترغيب (4/61) للترمذي وحده فوهم، وله عند أحمد (2/126) طريق أخرى عن ابن عمر، ولحديثه الأول عند أبي نعيم شاهد من حديث ابن عباس، ساق لفظَه الهيثمي، وقال: (رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات)، وروى بعضَه الخطيب في تاريخه (1/24، 25)، ومن طريقه ابن عساكر من حديث معاذ بن جبل.
فيُستفادُ من مجموع طرق الحديث أنَّ المراد من (نجد) في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنَّما هو العراق، وبذلك فسَّره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني، وتجد كلامَهما في ذلك في شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري للحافظ، وقد تحقَّق ما أنبأ به عليه السلام؛ فإنَّ كثيراً من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق...".
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/47) بعد أن نقل كلاماً للخطابي: "وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ الفتنة تكون من تلك(7/101)
الناحية، فكان كما أخبر... وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مِمَّا يُحبُّه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة، وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجدُه باديةَ العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصلُ(7/102)
ص -100- ... النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنَّه ما انخفض منها، وتهامة كلُّها من الغور ومكة من تهامة".
وقال قبل ذلك في الفتح (6/352) عند شرح حديث"رأس الكفر نحو المشرق": "وفي ذلك إشارة إلى شدَّة كفر المجوس؛ لأنَّ مملكة الفرس ومَن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القسوة والتكبُّر والتجبُّر حتى مزَّق مَلِكُهم كتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه، واستمرَّت الفتنُ من قِبَل المشرق كما سيأتي بيانه واضحاً في الفتن".
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (2/34): "والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر، كما قال في الحديث الآخر: (رأس الكفر نحو المشرق)، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجَّال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس".
وقد مرَّ في كلام ابن حجر قريباً أنَّ ظهور البدع كان من تلك الجهة أي جهة المشرق، ومن أمثلة ذلك أنَّ الخوارجَ والشيعةَ والقدريةَ والجهميَّةَ كان خروجُهم من تلك الجهة، ومجيء التتارُ للقضاء على الخلافة العباسية وسقوط بغداد كان من المشرق، وفي آخر الزمان خروج الدجال من تلك الجهة، فإنَّه كما جاء في صحيح مسلم (2137) يخرج من خلة بين الشام والعراق، وفي صحيحه أيضاً (2944): "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة".
وكما أنَّ تلك الجهة منشأ كثير من البدع، ومنها ظهور كثير من الشرور، فإنَّ فيها الكثيرين من أهل العلم الذين ردُّوا على المبتدعة، ومنها محدِّثون وفقهاء كبار، ومن هؤلاء أصحاب الكتب الستة: محمد بن إسماعيل(7/103)
ص -101- ... البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبو داود السجستاني، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وابن ماجه القزويني، وقد ألَّف الشيخ محمد أشرف سندهو المتوفَّى سنة (1373هـ) رسالة أوضح فيها ما يتعلَّق بهذا الموضوع، سَمَّاها: "أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان".
وإنَّما ذكرتُ هنا بيان المراد بـ"نجد" وأنَّه العراق وما وراءه، كما جاء مبيَّناً في بعض الروايات وأقوال بعض أهل العلم؛ لأنَّ بعضَ الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ يُلبِّسون على غيرهم بأنَّ المراد بـ"نجد" نجد اليمامة، ولم تشتهر اليمامةُ باسم"نجد" إلاَّ في أزمان متأخرة، ومن المعلوم أنَّ"نجداً" في اللغة تُطلق على ما ارتفع وعلا من الأرض، وهي ما يُقابل"الغور" و((تهامة"، والمراد بـ"نجد" التي وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها"قرن المنازل" الأماكن المرتفعة التي يأتي أهلُها من الطائف وغيره، وقد ذكر الفيروزآبادي في القاموس المحيط عدداً من النجود، منها نجد الود ببلاد هذيل، ونجد برق باليمامة.
السابع والثامن: قدحُه في ثبوت حديث افتراق الأمَّة إلى ثلاث وسبعين، وحديث العرباض بن سارية "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، والردُّ عليه.
عاب في (ص: 182) على أهل السنَّة تسميتهم أنفسهم بأهل السنَّة لحديث العرباض بن سارية: "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، وقال: "علماً بأنَّ الحديث السابق وحديث افتراق الأمَّة محل تنازع في التضعيف والتصحيح داخل أهل السنَّة!!".(7/104)
ص -102- ... والجواب: أنَّ المالكيَّ هو من أهل الأهواء والبدع، ومن أجل ذلك يقدح في الأحاديث التي لا توافق هواه، كهذين الحديثين، كما أنَّه يحتفي بأهل البدع ويُدافع عنهم، ولا يعتبرهم على باطل، وقد قال في (ص: 41 ـ حاشية): "فقد يكون الحقُّ مع طرف، ولكنَّه نادر خاصة في العقائد، والأصل أنَّ معظمَ الاختلافات بين المسلمين أن يكون كل طرف ممسكاً بطرف من الحقيقة!!".
فأمَّا حديث العرباض بن سارية، فرواه جماعةٌ كثيرون، ففي تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيره على جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم لابن رجب (2/109): "رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، ورواه أيضاً أحمد (4/126 ـ 127)، والدارمي (1/44)، وابن ماجه (43) و(44)، وابن أبي عاصم في السنة (27)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/69)، والبغوي (102)، والآجري في الشريعة (ص: 46)، والبيهقي (6/541)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (81)، والمروزي في السنة (69) ـ (72)، وأبو نعيم في الحلية (5/220)، و(10/115)، والحاكم (1/95 ـ 97)، وصححه ابن حبان (5").
ولفظه عند أبي داود، قال العرباض: "صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنَّ هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإنْ عبداً حبشيًّا؛ فإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكموا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة".(7/105)
ص -103- ... والحديث صحيح عند أهل السنَّة، قال فيه الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال: "هذا حديث صحيح ليس له علَّة"، ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ أبو نعيم: "هو حديث جيِّد من صحيح حديث الشاميين"، كما في جامع العلوم والحكم (2/109)، وحسَّنه البغوي في شرح السنة (102)، وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم (1/18 ـ 20) وغيره.
والحديث مشتملٌ على الترغيب في اتِّباع السنَّة والتحذير من البدع، وبيان أنَّها كلَّها ضلالةٌ، ومثل ذلك حديث أنس رضي الله عنه في حديث طويل: "فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي"، أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
وحديث العرباض رضي الله عنه من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم، وقد أدخله النووي في كتابه الأربعين، وهو الحديث الثامن والعشرون منه، والمعنى في هذا الحديث هو المعنى في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.
وأمَّا حديث افتراق الأمَّة إلى أكثر من سبعين فرقة، فقد جاء عن جماعة من الصحابة، منهم معاوية رضي الله عنه، أخرجه أحمد (16937)، وأبو داود (4597) وغيرهما، ولفظه عندهما: "إنَّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة يعني الأهواء، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة".
وقد حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (204)، وهو صحيح لشواهده التي جاءت عن أنس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعوف بن مالك وأبي أمامة رضي الله عنهم، وانظر تخريجها في التعليق على المسند لشعيب الأرنؤوط وغيره (16937)، وقال الحاكم في المستدرك (1/6) عن(7/106)
ص -104- ... حديث افتراق الأمة "هذا حديث كبير في الأصول"، وقال أيضاً (1/128): "هذه أسانيد تُقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث"، ووافقه الذهبي، ونقل الألباني في السلسلة الصحيحة تحت الرقم السابق تصحيح بعض العلماء للحديث، منهم ابن حجر وابن تيمية والشاطبي والعراقي، وذكر الشيخ الألباني في تعليقه على حديث أنس من كتاب السنة لابن أبي عاصم (64) أنَّ الحديث صحيح قطعاً لطرقه وشواهده.
وفي بعض ألفاظ الحديث عن أنس وعبد الله بن عمرو في بيان الفرقة الناجية: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، قال الحافظ عن حديث أنس في لسان الميزان (6/56): "والمحفوظ في المتن (تفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، قالوا: وما تلك الفرقة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي").
وحديث عبد الله بن عمرو عند الترمذي والحاكم، وفي إسناده عبد الرحمن بن أنعم الإفريقي، وهو ضعيف، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2641)، وقال البغوي في شرح السنة (1/213): "وثبت عن عبد الله بن عمرو"، فساق الحديث، وفي آخره: "ما أنا عليه وأصحابي"، ويتقوَّى بحديث أنس، وكذلك بالشواهد الأخرى التي فيها ذكر وصف الفرقة الناجية بالجماعة؛ لأنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل الجماعة، وهم خير الجماعة.
وهذه الفرق هم من المسلمين، ومستحقُّون لدخول النار لبدعهم، وهم تحت مشيئة الله، إلاَّ الفرقة الناجية التي كانت على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.(7/107)
ص -105- ... 15 ـ زعمه أنَّ المعوَّل عليه في النصوص ما كان قطعيَّ الثبوت قطعيَّ الدلالة فقط، والردُّ عليه
قال في (ص: 188): "لا يظنَّن مغفَّل أنَّ المبالغةَ في صغائر المعتقدات المرتكزة على نصوص ظنيَّة الثبوت أو الدلالة كانت نتيجة لأهميَّة تلك العقائد المتنازَع فيها، وإنَّما كانت المبالغة في تلك المعتقدات نتيجة من نتائج الصراعات السياسية بالدرجة الأولى، ثم الصراعات المذهبية، أو حب العلو في الأرض والتفرد بالزعامة نتيجة التحاسد والتنافس بين العلماء، وبعض هذا نتيجة غفلة الصالحين، مع استغلال سلطوي حتى ينشغل الصالحون في خصومات ثانوية لا أهميَّة لها!!".
وقال أيضاً: "أصبحت العقائد في الأزمنة المتأخرة لا تعني إلاَّ الانتصار لما شذَّت به الطائفة عن سائر المسلمين، مع التقوقع على هذا وكأنَّه الإسلام ذاته، مع الضيق في ذلك، والتفصيل المبالَغ فيه، والولاء والبراء في ذلك، مع إقناع النفس ـ بجهل وتعصب بمساعدة من الشيطان ـ بأنَّ زمننا هذا زمن فتنة وبلاء، وأنَّنا نحن الغرباء، الذين أخبر النبيُّ (ص) (كذا) بأنَّهم يصلحون إذا فسد الناس، وأنَّ الله قد أمر بالصبر على الحقِّ، ولكننا في الوقت نفسه ننسى أنَّ الله أمر بالتواصي بالحقِّ، ونحن لا نتواصى بل نتآمر ونكيد ونمكر المكر السَّيِّء، وننسى أنَّ الواجب أن نعرف ـ قبل أن نعلن الاختلاف ـ أنَّ ما نفعله حق أو لا، ثم بعد ذلك نتواصى بالصبر، أمَّا أن نتواصى بالصبر على انتقاص علي بن أبي طالب وأهل بيته، وحب ظلمة بني أميَّة، وتكفير أبي حنيفة وسائر المسلمين إلاَّ نحن، ونتواصى بالصبر على الكذب على رسول الله، وتبرير هذا الكذب بأنَّه مندرجٌ تحت أصل، ونتواصى بالتشبيه الصريح لله جلَّ جلاله بخلقه بناء على الإسرائيليات والأساطير، فهذا كلُّه ليس من(7/108)
ص -106- ... الحقِّ الذي نُؤجَرُ على الصبر عليه، إنَّما نُؤجَر على الصبر على الحق الواضح المبني على قطعي الثبوت والدلالة من أدلَّة الكتاب والسنَّة، فالحقُّ الذي ذكره الله في كتابه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس بهذا الخفاء، بحيث لا يهتدي إليه إلاَّ الغلاة، لهذا علينا أن نصحح أوضاعنا العلمية والعملية وفق النصوص الشرعية، لا ما تسوله لنا أنفسنا وغفلتنا وقناعتنا الخادعة بأنَّنا أحسن الناس إيماناً؛ لأنَّ الإيمان ليس بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، وإنَّما هو قولٌ وعمل ومنهج عدل وعلم وصدق وتثبت!!".
وقال (ص: 186): "ضرورة العودة للقرآن الكريم والالتزام بما فيه من مجمل الإيمانيات التي يسمُّونها العقائد ومجمل الأوامر الظاهرة والمحرمات الظاهرة والأخلاق الواجبة، وعدم امتحان الناس بالمتشابه منه، ثم العودة لمتواتر السنَّة، ثم الصحيح المشهور، وترك التنازع في المختلف فيه من السنَّة، سواء من حيث الثبوت أو دلالة النصِّ، وفتح حرية الاجتهاد في ذلك...!!".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ هذه الطريقة التي ذكرها المالكي وهي التعويل على ما كان قطعيَّ الثبوت والدلالة من النصوص هي طريقةُ المبتدعة وأهل الأهواء، وهو واحد منهم، ولهذا قرَّر هذه الطريقة، وأُعجب بها، وأمَّا أهل السنَّة والجماعة فهم يُعوِّلون على القرآن والمتواتر والآحاد من السنَّة، ومن أوضح الأدلة على التعويل على أحاديث الآحاد في العقائد وغيرها حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليعلِّم الناس دينهم؛ فإنَّ الحجَّةَ قامت على أهل اليمن بما يُخبرهم به في الأصول والفروع، وهو شخصٌ واحد، وهذا بخلاف طريقة أهل الأهواء الذين لا يأخذون بأحاديث الآحاد؛ بزعمهم أنَّها ظنيَّةُ الثبوت، وأمَّا القرآن ومتواتر السنَّة الذي لا يتمكَّنون من ردِّه لكونه قطعيَّ الثبوت،(7/109)
ص -107- ... يقدحون في ثبوت معناه إذا لم يوافق أهواءَهم؛ زاعمين أنَّه ظنيُّ الدلالة، وليس قطعيًّا فيها.
2 ـ أمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يتواصون بانتقاص علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته وحُبِّ ظلمة بني أميَّة فهو من الإفك المبين؛ فإنَّ أهل السنَّة هم الذين يُحبُّون عليًّا رضي الله عنه وأهل بيته، بل وسائر أهل بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهم زوجاته وكلٌُّ مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم، ويتولَّونهم جميعاً دون غلوٍّ أو جفاء، وهذا بخلاف المالكي وأسلافه من الرافضة، الذين يغلون في عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما، وفي بعض أولادهما، ويجفون في غيرهم من أهل البيت، وفي الصحابة، ومن أبرز أهل البيت الذين جفا فيهم المالكي عمُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وغيرهما مِمَّن كان إسلامُهم بعد الحديبية، الذين يزعم المالكي أنَّهم لم يظفروا بصحبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصحبة الشرعية، وأنَّ صحبَتهم كصحبة المنافقين والكفار.
3 ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يتواصون بتكفير أبي حنيفة وسائر المسلمين من غيرهم، فهو من الإفك المبين أيضاً، وقد مرَّ قريباً أنَّ الفِرَق الثنتين والسبعين هم من المسلمين، وهم مستحقُّون للنار لبدعهم، وهم تحت مشيئة الله، إن شاء عفى عنهم وإن شاء عذَّبهم، وأمَّا ما أشار إليه المالكي من قبل عن أحد كتب أهل السنَّة من آثار في تكفير أبي حنيفة في مسألة خلق القرآن، فهي إمَّا غير ثابتة الإسناد، أو أنَّه تاب مِمَّا نُسب إليه، وقد قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (13/377): "وأمَّا القول بخلق القرآن، فقد قيل: إنَّ أبا حنيفة لم يكن يذهب إليه، والمشهور عنه أنَّه كان يقوله واستُتيب منه"، ثم ذكر نقولاً في هذا وفي هذا، ومنها (ص: 378) عن الإمام أحمد أنَّه قال: "لم يصحَّ عندنا أنَّ أبا حنيفة كان يقول: القرآن مخلوق".(7/110)
ص -108- ... وروى اللالكائي في شرح السنة (2/270) بإسناده عن عبد الله بن المبارك أنَّه قال: "والله! ما مات أبو حنيفة وهو يقول بخلق القرآن، ولا يدينُ الله به".
4 ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يتواصون بالصبر على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُبرِّرون هذا الكذب بأنَّه مندرجٌ تحت أصل، وأنَّهم يتواصون بالتشبيه الصريح لله جلَّ جلاله بخلقه بناء على الإسرائيليات والأساطير، فهو من أفحش الكذب وأبطل الباطل؛ لأنَّ أهل السنَّة هم أبعدُ الناس عن هذه القبائح، وما وُجد في بعض كتب أهل السنَّة من أحاديث وآثار في أسانيدها وضَّاعون، فمراد مَن ذكَر ذلك منهم بإسناده أن يُعلم ورودُه كذلك، وأنَّه لكذبه أو ضعف إسناده لا يُعوَّل عليه، وقد مرَّ بيان ذلك في الردِّ على المالكي في قدحه في كتب أهل السنَّة في العقيدة، وفيه النقل عن ابن تيمية وابن حجر في ذلك.
وسيأتي في المبحث بعد هذا أنَّ أهل السنَّة مثبتةٌ منزِّهةٌ، وليسوا بمشبِّهة ولا معطِّلة.
5 ـ وقوله بعد ذكر ضرورة العودة إلى القرآن: "ثم العودة لمتواتر السنة، ثم الصحيح المشهور، وترك التنازع في المختلف فيه من السنَّة، سواء من حيث الثبوت أو دلالة النصِّ، وفتح حريَّة الاجتهاد في ذلك...!!".
أقول: يريد المالكي بالأخذ بالصحيح المشهور وترك المختلف فيه الأخذ بما يوافق أهواء أهل البدع، وترك الأخذ بما لا يوافق أهواءهم، وقد مرَّ قريباً قدح المالكي في أحاديثَ صحيحة في الصحيحين وغيرهما، منها حديث صلح الحسن؛ لأنَّها لا توافق هواه، ثم هو يعيب على أهل السنَّة أنَّهم(7/111)
ص -109- ... يُطلقون كلمات فضفاضة لا يفهمون معناها، وهنا يقول: إنَّ التعويل على الصحيح المشهور، وهذه الصحة والشهرة المزعومة لا تحديد لها ولا ضوابط، والتعويل فيها عند المالكي إنَّما هو على ما يوافق هواه فقط!
16 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة مجسِّمة ومشبِّهة والردُّ عليه
ذكر المالكي (ص: 129) عنواناً بلفظ: "التجسيم والتشبيه" زاعماً أنَّ أهلَ السنَّة ومنهم الحنابلة يقولون بالتشبيه والتجسيم، وأهل السنَّة لا يقولون بالتشبيه ولا التعطيل، وإنَّما مذهبُهم وعقيدتُهم الإثبات مع التنزيه، كما قال الله عزَّ وجلَّ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فهم مثبتةٌ غير معطِّلة، ومع إثباتهم ليسوا بمشبِّهة، وأمَّا التجسيمُ فإنَّه لفظٌ مُجملٌ لم يَرِد إثباته لله ولا نفيه عنه في الكتاب والسنة، فإن أريد به ذاتٌ متَّصفةٌ بصفات لا تشبه المخلوقات فهو حقٌّ، وإن أريد به ذاتٌ متَّصفة بصفات تشبه المخلوقات فهو باطل، وهذه طريقة أهل السنَّة في الألفاظ المجملة التي لَم ترِد في الكتاب والسنَّة، يُثبتون المعنى الحق ولا يعبِّرون باللفظ المجمل المحتمل للحقِّ والباطل، وينفون المعنى الباطل واللفظ الذي عُبِّر به عنه، والمعطِّلة يصفون المثبتة للصفات بأنَّهم مشبِّهة؛ لأنَّهم لا يتصوَّرون الإثبات إلاَّ مع التشبيه، قال ابن عبد البر في التمهيد (7/145): "وأمَّا أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها والخوارج، فكلُّهم يُنكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ مَن أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند مَن أثبتها نافون للمعبود"، ونقله عنه الذهبي في العلو (2/1326)، وعلَّق عليه قائلاً: "صدق والله! فإنَّ مَن تأوَّل سائر(7/112)
ص -110- ... الصفات وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أدَّاه ذلك السَّلب إلى تعطيل الرَّبِّ وأن يشابه المعدوم، كما نُقل عن حماد بن زيد أنَّه قال: مَثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سَعَف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كَرَب؟ قالوا: لا، قيل: لها رُطَب وقِنو؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة!".
والمعنى أنَّ من نفى عن الله الصفات، فإنَّ حقيقةَ أمره نفيُ المعبود؛ إذ لا يُتصوَّرُ وجود ذات مجرَّدة من جميع الصفات.
وأذكر هنا نماذج مِمَّا أورده المالكي تحت هذا العنوان"التجسيم والتشبيه" مع الإجابة عنها.
فمِن ذلك قوله (ص: 129): "أما الأهوازي (الحسن بن علي بن إبراهيم وهو من غلاة أهل السنة، وغلاة أهل السنَّة حنابلة) الحنبلي، فقد ألَّف كتاباً طويلاً في الصفات أورد فيه أحاديث باطلة، ومنها حديث عرق الخيل الذي نصُّه: (إنَّ الله لَمَّا أراد أن يخلق نفسه خلق الخيلَ فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسَه من ذلك العرق) تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً، والغريب أنَّنا نكفِّر مَن يقول بخلق القرآن أو يسبُّ أحد الصحابة، وفاعل هذا وإن كان مخطئاً، لكنَّه ليس كخطأ مَن يزعم أنَّ الله خلق نفسه من عرق الخيل، فعجباً لِمَن يُكفِّر مَن يقول أنَّ القرآن مخلوق، ولا يُكفِّر مَن يقول إنَّ نفس الله مخلوق!!".
وقال تعليقاً على كلامه هذا: "وقد اتَّهمه ابن عساكر بأنَّه من الفرقة السالمية المجسِّمة، لكن ابن تيمية عدَّه في أهل السنَّة في الجملة، فاحتمل أمثال هؤلاء داخل أهل السنَّة مع ما ترى من بشاعتهم، ولم يحتمل دخول المعتزلة والجهمية ومعتدلي الشيعة، وهذه مفارقةٌ عجيبة!!".(7/113)
ص -111- ... وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الأهوازي في لسان الميزان: "وقال ابن عساكر: جمع كتاباً سمَّاه: (شرح البيان في عقود أهل الإيمان)، أودعه أحاديث منكرة، كحديث (إنَّ الله لَمَّا أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثمَّ خلق نفسه من ذلك العرق)، وغير ذلك مِمَّا لا يجوز أن يُروى ولا يحلُّ أن يُعتقد، وكان مذهبُه مذهبَ السالمية، يقول بالظاهر ويتمسَّك بالأحاديث الضعيفة لتقوية مذهبه، وحديث إجراء الخيل موضوع، وضعه بعضُ الزنادقة ليشنِّع به على أصحاب الحديث في روايتهم المستحيل، فحمله بعضُ مَن لا عقل له ورواه، هو مِمَّا يُقطع ببطلانه شرعاً وعقلاً".
وفي هذا بيان أنَّ الأهوازي من السالميَّة وليس من أهل السنَّة، وأنَّ الحديث من وضع الزنادقة للتشنيع على أهل الحديث في رواية المستحيل، وقد أورده المالكيُّ للتَّشنيع على أهل السنَّة!
2 ـ وأمَّا زعم المالكي أنَّ ابن تيمية عدَّه من أهل السنَّة في الجملة، ولم يُبيِّن المصدر لكلام ابن تيمية، وابن تيمية في كتابه منهاج السنة (5/261) ذكر أنَّه من السالمية وأنَّه صنَّف كتاباً في مثالب الأشعري، وأنَّ ابن عساكر ألَّف في الردِّ عليه، وذكر مثالبَ السالميَّة، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/23 ـ 24): "وهذا يقوله (يعني عدم قبول توبة الداعي إلى البدعة) طائفةٌ مِمَّن ينتسب إلى السنَّة والحديث وليسوا من العلماء بذلك، كأبي علي الأهوازي وأمثاله، مِمَّن لا يُميِّزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يُحتجُّ به وما لا يُحتجُّ به، بل يروون كلَّ ما في الباب مُحتجِّين به".
والخلاصة أنَّ ابن تيمية يرى أنَّه من السالمية وأنَّه ينتسب إلى أهل السنَّة والحديث، وما أشبهَ الليلة بالبارحة، فالمالكي نفسه هو على طريقة الرافضة(7/114)
ص -112- ... الذين يحقدون على الصحابة وأهل السنَّة، مع أنَّه ينتسب إلى أهل السنَّة، وهم بُرآءُ منه.
3 ـ أهل السنَّة والجماعة يُثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وهم لا يصفون الله بالنفَس؛ لأنَّه لم يثبت وصفه بهذا الوصف في الكتاب والسنَّة، وأمَّا حديث: "إنِّي أجد نفَس الرحمن من ها هنا" وأشار إلى اليمن، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/70)، والطبراني في المعجم الكبير (6358) فليس من أحاديث الصفات، وإنَّما هو من النَّفَس، وهو اسم مصدر بمعنى التنفيس، كما في كتب اللغة والنهاية لابن الأثير، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (3367)، والقواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين (ص: 51)، وقال ابن تيمية في المجموع (6/398): "فقوله (من اليمن) يُبيِّن مقصود الحديث؛ فإنَّه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يُظنَّ ذلك، ولكن منها جاء الذين يُحبُّهم ويُحبُّونه، الذين قال فيهم {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}" إلى أن قال: "وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الرِّدَّة وفتحوا الأمصار، فبهم نفَّس الرحمن عن المؤمنين الكربات، ومن خصَّص ذلك بأويس فقد أبْعد".
وفي صحيح مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن" الحديث، قال النووي في شرحه (16/95): "أمداد أهل اليمن هم الجماعة الغزاة الذين يمدُّون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم مَدد".
4 ـ وأمَّا زعم المالكي احتمال دخول الأهوازي وأمثاله في أهل السنَّة، وعدم دخول الجهمية والمعتزلة ومعتدلي الشيعة فيهم، وأنَّها مفارقةٌ عجيبة،(7/115)
ص -113- ... فجوابه أنَّ أهلَ السنَّة يعتبرون السالمية والجهمية والمعتزلة والرافضة من فرق الضلال، ولا يدخل أحد من هؤلاء في أهل السنة، كما أنَّ المالكيَّ نفسه ليس من أهل السنَّة، وإنَّما هو من أعداء أهل السنَّة، وقد مرَّ قريباً ما جاء عن حماد بن زيد وابن عبد البر والذهبي من أنَّ الجهمية المعطلة نافون للمعبود؛ لأنَّه لا يُتصوَّر وجود ذات مجرَّدة من جميع الصفات، وفي (ص: 91) من قراءته في كتب العقائد أظهر أسفَه على سنوات أضاعها في بغض ولعن الجهمية والقدرية، وأنَّه لم ينتبه لبراءتهما من أكثر ما نُسب إليهما وظلمه لهما إلاَّ بعد بحثه في الموضوع في فترة متأخرة، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى.
ومن ذلك قول المالكيِّ (ص: 129 ـ 130): "وألَّف الهروي الحنبلي كتاباً في الصفات، حشره بأحاديث باطلة من هذا الجنس، وروى عبد الله بن أحمد رواية مقطوعة فيها: (مكث موسى أربعين ليلة لا يراه أحد إلاَّ مات من نور ربِّ العالمين").
وأجيب عن ذلك: بأنَّ ما ذكره عن كتاب الهروي فهو من الكلام الذي يُطلقه المالكي جزافاً، وقد يكون فيما يعنيه أحاديث صحيحة لا تُناسبُ هواه، وليس فيها تجسيم ولا تشبيه، كما سبق أن مرَّ قريباً بيان قدحه في أحاديث صحيحة، بعضها في الصحيحين، وما كان في كتاب الهروي من أحاديث ضعيفة وهي مسندة، فأهل العلم يعرفون الحكم على الحديث بالوقوف على إسناده.
وأمَّا الأثر المقطوع الذي ذكره عن عبد الله بن الإمام أحمد، فإسناده كما في طبقات الحنابلة (1/185 ـ 186): "قال عبد الله بن أحمد: حدَّثني محمد ابن بكار، حدَّثنا أبو معشر، عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية"، وهو مع كونه مقطوعاً من كلام بعض الرواة، فإنَّ في إسناده أبا معشر وهو نجيح(7/116)
ص -114- ... ابن عبد الرحمن السندي، قال فيه الحافظ في التقريب: "ضعيف، من السادسة، أسنَّ واختلط".
ومِمَّا أورده في اتِّهام أهل السنَّة بالتشبيه والتجسيم، ما زعمه في (ص: 131) أنَّهم رووا أنَّ المقام المحمود للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هو قعودُه صلى الله عليه وسلم مع ربِّه على العرش!!
والجواب عن ذلك: أنَّه لم يثبت رفعُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو موضوع، كما ذكر ذلك ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (5/237)، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (865): "باطل"، وقد جاء القول بذلك عن مجاهد وبعض السَّلف، والأصل في مثل ذلك أن يُعوَّل على ما جاء به الوحي، وليس المعنى فيه من قبيل التشبيه والتجسيم، كما زعم المالكي، بل هو نظير الكتاب الذي كتبه الله، وهو عنده فوق العرش، ففي صحيح البخاري (7553) وصحيح مسلم (2751) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَمَّا خلق الله الخلقَ كتب كتاباً عنده؛ غلبت ـ أو قال ـ سبقت رحمتي غضبي، فهو عنده فوق العرش".
فلو صحَّ ما ذُكر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عنده فوق العرش، كما كان هذا الكتاب عنده فوق العرش.
وأهل السنَّة يؤمنون بأنَّ الله عزَّ وجلَّ مُستوٍ على عرشه كما يليق به، كما جاء إثبات ذلك في سبع آيات من كتاب الله، واستواؤه على عرشه حقيقة لا مجاز، وهو سبحانه فوق خلقه مستو على عرشه، وله سبحانه وتعالى علوُّ القدر وعلوُّ القهر وعلوُّ الذات، والمبتدعة لا يُثبتون علوَّ الذات؛ لأنَّه بزعمهم تجسيم، والتجسيم إن أُريد به ذات متَّصفة بصفات مشابهة للمخلوقات فهو باطل، وإن أُريد به ذات متَّصفة بصفات لا تشبه المخلوقات(7/117)
ص -115- ... فهو حقٌّ، لكن لا يُعبَّر عن ذلك بالتجسيم؛ لأنَّ لفظَ التجسيم محتملٌ للحقِّ والباطل، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتاب"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، كما في مختصره لابن الموصلي اثنين وأربعين وجهاً في إبطال قول مَن فسَّر الاستواءَ على العرش بالاستيلاء، وذكر أنَّ كثيراً من المالكية على منهج السلف في العقيدة، فقال في (2/132 ـ 136): "الوجه الثاني عشر: أنَّ الإجماعَ منعقدٌ على أنَّ الله سبحانه استوى على عرشه حقيقة لا مجازاً، قال الإمام أبو عمر الطلمنكي - أحد أئمَّة المالكية وهو شيخ أبي عمر بن عبد البر - في كتابه الكبير الذي سَمَّاه الوصول إلى معرفة الأصول، فذكر فيه من أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم وأقوال مالك وأئمَّة أصحابه، ما إذا وقف عليه الواقفُ علمَ حقيقةَ مذهب السَّلف، وقال في هذا الكتاب: أجمع أهلُ السنَّة على أنَّ الله تعالى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز.
الوجه الثالث عشر: قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح حديث النُزول: وفيه دليلٌ على أنَّ الله تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة وقرَّر ذلك، إلى أن قال: وأهل السُّنَّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في القرآن والسُّنَّة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلاَّ أنَّهم لا يُكيِّفون شيئاً من ذلك، ولا يَحدُّون فيه صفة مخصوصة، وأمَّا أهل البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج، فكلُّهم يُنكرُها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ مَن أقرَّ بها مشبِّهٌ، وهم عند مَن أقرَّ بها نافون للمعبود.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره المشهور في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: هذه المسألة للفقهاء فيها كلام، ثم ذكر أقوال المتكلمين،(7/118)
ص -116- ... ثم قال: وقد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق به في كتابه، وأخبرت به رسلُه، ولم يُنكر أحدٌ من السلف الصالح أنَّه استوى على عرشه حقيقة، وإنَّما جهلوا كيفية الاستواء، كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
الوجه الرابع عشر: أنَّ الجهمية لَمَّا قالوا إنَّ الاستواءَ مجازٌ صرَّح أهل السُّنَّة بأنَّه مستوٍ بذاته على عرشه، وأكثرُ مَن صرَّح بذلك أئمَّةُ المالكية، فصرَّح به الإمام أبو محمد بن أبي زيد في ثلاثة مواضع من كتبه، أشهرها الرسالة، وفي كتاب جامع النوادر، وفي كتاب الآداب، فمَن أراد الوقوف على ذلك فهذه كتبه، وصرَّح بذلك القاضي عبد الوهاب، وقال: إنَّه استوى بالذات على العرش، وصرَّح به القاضي أبو بكر الباقلاني وكان مالكيًّا، حكاه عنه القاضي عبد الوهاب نصًّا، وصرَّح به أبو عبد الله القرطبي في كتاب شرح أسماء الله الحسنى، فقال: ذكر أبو بكر الحضرمي من قول الطبري يعني محمد بن جرير وأبي محمد بن أبي زيد وجماعة من شيوخ الفقه والحديث، وهو ظاهر كتاب القاضي عبد الوهّاب عن القاضي أبي بكر وأبي الحسن الأشعري، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر نصًّا، وهو أنَّه سبحانه مُستوٍ على عرشِه بذاته، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق خلقه.
قال: وهذا قولُ القاضي أبي بكر في تمهيد الأوائل له، وهو قولُ أبي عمر ابن عبد البر، والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيّين، وقول الخطّابي في شعار الدِّين.
وقال أبو بكر محمد بن موهب المالكي في شرح رسالة ابن أبي زيد: قوله(7/119)
ص -117- ... إنَّه فوق عرشه المجيد بذاته، معنى (فوق) و(على) عند جميع العرب واحدٌ، وفي كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديقُ ذلك، ثمَّ ذكر النصوصَ من الكتاب والسنة واحتجَّ بحديث الجارية وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها: (أين الله؟) وقولها: (في السماء)، وحكمه بإيمانها، وذَكَر حديثَ الإسراء، ثمَّ قال: وهذا قول مالك فيما فهمه عن جماعةٍ مِمَّن أدرك من التابعين، فيما فهموا من الصحابة فيما فهموا عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم: أنَّ اللهَ في السماء بمعنى فوقها وعليها، قال الشيخ أبو محمد: إنَّه بذاته فوق عرشه المجيد، فتبيَّن أنَّ علوَّه على عرشه وفوقه إنَّما هو بذاته، إلاَّ أنَّه بائنٌ من جميع خلقه بلا كيف، وهو في كلِّ مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته، لا تحويه الأماكن؛ لأنَّه أعظمُ منها، إلى أن قال: وقوله: على العرش استوى، إنَّما معناه عند أهل السنَّة على غير معنى الاستيلاء والقهر والغلبة والملك، الذي ظنَّت المعتزلةُ ومَن قال بقولهم أنَّه معنى الاستواء، وبعضُهم يقول إنَّه على المجاز لا على الحقيقة، قال: ويُبيِّن سوءَ تأويلهم في استوائه على عرشه على ما تأوَّلوه من الاستيلاء وغيره، ما قد علمه أهلُ المعقول أنَّه لَم يَزل مستولياً على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها، وكان العرشُ وغيرُه في ذلك سواءً، فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاءٌ وملكٌ وقَهرٌ وغلبةٌ، قال: وذلك أيضاً يبيِّن أنَّه على الحقيقة بقوله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}، فلمَّا رأى المصنِّفون إفراد ذكره بالاستواء على العرش بعد خلق السموات وأرضه وتخصيصه بصفة الاستواء علموا أنَّ الاستواءَ غير الاستيلاء، فأقرُّوا بوصفه بالاستواء على عرشه وأنَّه على الحقيقة لا على المجاز؛ لأنَّه الصادقُ في قِيله، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله؛ إذ ليس كمثله شيء، هذا لفظه في(7/120)
شرحه.(7/121)
ص -118- ... الوجه الخامس عشر: أنَّ الأشعريَّ حكى إجماعَ أهل السنَّة على بُطلان تفسير الاستواء بالاستيلاء، ونحن نذكر لفظَه بعينه الذي حكاه عنه أبو القاسم بن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري، وحكاه قبله أبو بكر بن فَوْرك وهو موجودٌ في كتبه، قال في كتاب الإبانة وهي آخرُ كتبه قال:
(باب ذكر الاستواء) إن قال قائلٌ: ما تقولون في الاستواء، قيل: نقول له: إنَّ اللهَ تعالى مستوٍ على عرشه، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وساق الأدلَّةَ على ذلك، ثمَّ قال: وقال قائلون من المعتزلة والجهميّة والحرورية: إنَّ معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أنَّه استولى ومَلَكَ وقَهَر، وجحدوا أن يكون اللهُ على عرشه كما قال أهلُ الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القُدرة، ولو كان هذا كما قالوا كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السُّفلى؛ لأنَّ اللهَ تعالى قادرٌ على كلِّ شيء، والأرض والسموات وكلّ شيء في العالَم، فلو كان اللهُ مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان مستوياً على الأرض والحشوش والأنْتَان والأقْذار؛ لأنَّه قادرٌ على الأشياء كلِّها ولم نجد أحداً من المسلمين يقول إنَّ اللهَ مستوٍ على الحشوش والأخْلِيَة، فلا يجوزُ أن يكون معنى الاستواء على العرش على معنى هو عام في الأشياء كلِّها، ووَجَبَ أن يكون معنى الاستواء يَختصُّ بالعرش دون سائر الأشياء، وهكذا قال في كتابه الموجَز وغيره من كتبه".(7/122)
ص -119- ... 17- ما ذكره من تأثير العقيدة على الجرح والتعديل والردُّ عليه
أورد (ص: 132) عنواناً بلفظ: "تأثير العقيدة على الجرح والتعديل"، مِمَّا قال فيه: "والعقيدة لها تأثير سيِّء على الجرح والتعديل، ولو لم يكن من أثر إلاَّ التظالم الموجود بسببها لكفى، فتجد كلَّ طائفة من المسلمين تحاول توثيق الرِّجال الذين ينتمون إليها في العقيدة، ويضعفون رجال الطوائف الأخرى ولو كانوا من أوثق الناس وأصلحهم وأضبطهم للرواية، ولعلَّ أبرز آثار العقيدة على الجرح والتعديل عند الحنابلة تضعيف ثقات المخالفين وتوثيق ضعفاء الموافقين، ومن ذلك:
تضعيف ثقات الشيعة، وخاصة فيما يروونه في فضائل علي.
تضعيف سائر المخالفين من العلماء، كعلماء المرجئة والقدرية والمعتزلة.
تضعيف القائلين بخلق القرآن أو المتوقفين.
تضعيف مَن يتوهَّمون فيه أدنى مخالفة، حتى وصل تضعيفهم للبخاري ومسلم والكرابيسي وأبي حنيفة.. إلخ".
وعلَّق على قوله: "ثقات الشيعة...." فقال: "راجع رسالة (الجرح والتعديل) للقاسمي، وكتاب (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) للسيد محمد بن عمر بن عقيل العلوي".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ روى أهل السنَّة في كتبهم الحديثية عمَّن وُصف ببدعة مفسِّقة، قال الحافظ في مقدمة الفتح (ص: 385) عن هؤلاء: "فقد اختلف أهل السنَّة في قبول حديث مَن هذا سبيله إذا كان معروفاً بالتحرُّز من الكذب، مشهوراً(7/123)
ص -120- ... بالسلامة من خوارم المروءة، موصوفاً بالديانة والعبادة، فقيل: يُقبل مطلقاً، وقيل: يُردُّ مطلقاً، والثالث التفصيل بين أن يكون داعيةً أو غيرَ داعية، فيُقبل غير الداعية ويُردُّ حديث الداعية، وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمَّة، وادَّعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه، لكن في دعوى ذلك نظر"، وفي كتاب التقريب للحافظ ابن حجر وغيره من كتب الرجال الإشارة إلى ذلك في كثير من التراجم.
2 ـ ما زعمه المالكي من توهين أهل السنَّة ـ ومنهم الحنابلة ـ للبخاري ومسلم مردودٌ؛ فإنَّ أهلَ السنَّة هم الذين يعرفون قدر هذين الإمامَين ويُعوِّلون على ما جاء في الصحيحين لهما، ويَعتبرون صحيحيهما أصحَّ الكتب المصنَّفة في الحديث، بخلاف أهل البدع، كالرافضة فإنَّهم يُعوِّلون على كتب أخرى لهم، ولا يُقيمون وزناً للصحيحين، والمالكي نفسه هو من أهل الأهواء يَقبل منهما ما يوافق هواه، ويقدحُ في غير ذلك، وقد مرَّ قريباً قدحُه في حديث صُلح الحسن رضي الله عنه، وحديث تحريق علي رضي الله عنه الزنادقة، وهما في صحيح البخاري، وحديث"خلق الله آدم على صورته" وهو في الصحيحين!
3 ـ أمَّا ما أشار إليه من الرجوع إلى كتاب"العتب الجميل" لمحمد بن عمر بن عقيل، فإنَّ الطيورَ على أشكالها تقع، ويكفي أن أنقلَ من كتاب "العتب الجميل" المشار إليه ما يدلُّ على خبث صاحبه وغلوِّه في البدع، فقد قال في (ص: 31): "لم أتعرَّض في كتابي هذا لذكر تحامل بعضهم على عالي مقام مولانا أمير المؤمنين علي والحسَنَيْن وأمِّهما البتول عليهم سلام الله، ولا لرد ما مدحوا به زوراً عدوَّهم معاوية وأباه كهف المنافقين وأمَّه(7/124)
ص -121- ... آكلة الأكباد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب وأبا الأعور السلمي والوليد بن عقبة وأضرابهم، مِمَّن لو مُزجت مياه البحار بذرَّة من كبائر فظائعهم لأنتنت، وذلك لظهور فساده للعاقل المنصف، ولأنِّي قد ذكرتُ شيئاً من ذلك في كتاب (النصائح الكافية)، ثم في كتاب (تقوية الإيمان)...".
ففي كلامه هذا جفاء في عدد من الصحابة، منهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وهو مِِمَّن قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وقال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النارَ إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها" أخرجه مسلم (2496) من حديث أمِّ مبشِّر رضي الله عنها، بل هو من أبرز أهل بيعة الرضوان؛ فإنَّه كان واقفاً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم يحرسه، وبيده السيف، وذلك عند مجيء المشركين لعقد الصلح مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل ابن عقيل هذا في كتابه العتب الجميل (ص: 60) أبياتاً عن أحد شيوخه، آخرها قوله:
قُلامة من ظفر إبهامه ... تعدل من مثل البخاري مائة
والضمير فيه يرجع إلى الإمام جعفر الصادق رحمه الله، وهو واضحٌ في غلوِّ ابن عقيل وشيخه فيه، وجفائهما في الإمام البخاري رحمه الله.(7/125)
ص -122- ... 18 ـ ثناؤه على المأمون الذي نصر المبتدعة وآذى أهل السنَّة وذمُّه للمتوكِّل الذي نصر السنَّة وأنهى المحنة
ذكر في (ص: 134) عنواناً بلفظ: "التناقض" أودعه هذياناً كثيراً في تناقض أهل السنَّة بزعمه، وسأقتصر على مثال واحد من ذلك، وهو قوله في (ص: 134 ـ 135): "وتراهم يذمُّون السلطان إذا آذى أحد أتباعهم، وأنَّ هذا سلطان سوء، وينسون كل فضائله، كما فعلوا بالمأمون، وكان من أعدل ملوك بني العباس وأكثرهم علماً، فإذا جاء سلطان آخر أظهر نصرتهم يمدحونه بمبالغة ولو كان مبتدعاً ظالماً كالمتوكِّل، بل ويبدِّعون ويضلِّلون من يخالفه، ويرددون قواعد طاعة ولاة الأمور، وأن من لم يَدْعُ للإمام فهو صاحب بدعة!!".
وهذا الكلام من المالكي فيه ثناء على المأمون الذي نصر المعتزلة وامتحن الناس بخلق القرآن، وآذى أئمَّة أهل السنَّة، وفي مقدِّمتهم الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ وفي مقابل ذلك يذمُّ المتوكِّل الذي أنهى المحنة ونصر أهل السنَّة، وقد قال الذهبي في ترجمة المأمون وهو عبد الله بن هارون الرشيد المتوفى سنة (218هـ) في سير أعلام النبلاء (10/273): "ودعا إلى القول بخلق القرآن وبالغ، نسأل الله السلامة"، وقال (10/283): "أمَّا مسألة القرآن، فما رجع عنها، وصمَّم على امتحان العلماء في سنة ثماني عشرة وشدَّد عليهم، فأخذه الله".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية (14/217 ـ 218): "أمَّا كونه على مذهب الاعتزال، فإنَّه اجتمع بجماعة، منهم بشر بن غياث المريسي، فأخذ عنهم هذا المذهب الباطل، وكان يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه،(7/126)
ص -123- ... فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل، ودعا إليه وحمل الناس قهراً عليه، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته".
أقول: وصدق الشاعر في قوله:
ومَن جعل الغراب له دليلاً ... يَمر به على جيَف الكلاب
وذكر ابن كثير (14/222 ـ 223) أنَّ فيه تشيعاً، وأنَّه يفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر وعثمان دون سبٍّ لهم، ولتشيُّعه وقوله بخلق القرآن قال فيه الذهبي في العبر: "وكان شيعيًّا جهميًّا".
وهذا هو الذي أعجب المالكي منه؛ لأنَّه يوالي فرق الضلال ويُعادي أهل السنَّة، وقد أفصح المالكي عن سبب إعجابه بالمأمون وهو تشيعه، فقال (ص: 159): "ولَمَّا تحالف المأمون مع المعتزلة ـ وكان متشيِّعاً محبًّا لعليِّ بن أبي طالب وأهل البيت ـ قام الحنابلة خاصّة بالانحراف عن الإمام علي وأهل بيته والتعصب لبني أميًَّة!!".
وأهل السنَّة ـ ومنهم الحنابلة ـ يُحبُّون عليًّا رضي الله عنه وأهل البيت جميعاً، بخلاف بعض أهل البدع فإنَّهم يغلون في علي وبعض أولاده، ويَجفون في غيرهم، ومنهم المالكي الذي زعم أنَّ العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله ليسَا من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ صحبتَهما كصحبة المنافقين والكفار، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وأمَّا المتوكِّل وهو جعفر بن المعتصم، المتوفى سنة (247هـ)، فقد قال الذهبي في ترجمته في السير (12/31): "قال خليفة بن خياط: استُخلف المتوكِّل، فأظهر السنَّةَ، وتكلَّم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وبسط السنَّة ونصر أهلها"، وقال (12/32): "وكان قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي، يقول: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الرِّدَّة، وعمر بن(7/127)
ص -124- ... عبد العزيز في ردِّ المظالم من بني أميَّة، والمتوكِّل في مَحو البدع وإظهار السنَّة"، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (14/454): "وقد كان المتوكِّل محبَّباً إلى رعيَّته، قائماً بالسنَّة فيهم، وقد شبَّهه بعضُهم بالصدِّيق في ردِّه على أهل الرِّدَّة حتى رجعوا إلى الدِّين، وبعمر بن عبد العزيز حين ردَّ مظالم بني أميَّة، وهو أظهر السُّنَّة بعد البدعة، وأخمد البدعة بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله".
ومع هذا النصر للسنَّة وردِّ المظالم، يصفُ المالكيُّ المتوكِّلَ بأنَّه مبتدعٌ ظالِمٌ، وفي المقابل يصف المأمون الذي نصر المبتدعة وامتحن أهل السنَّة وآذاهم بأنَّه من أعدل الملوك، فالسنَّة عند المالكي بدعة، والبدعة سنَّة، بعد هذا أقول: أيُّ تناقض عند أهل السنَّة إذا ذمُّوا مَن أظهر البدعةَ ونصر أهلَها، وآذى أهلَ السنَّة وعذّب علماءَهم، ومنهم الإمام أحمد الذي يزعم المالكي أنَّه حنبلي نسبة إليه، وهو بريء منه، وفي مقابل ذلك مدحوا مَن أظهر السنَّة ونصر أهلَها، وأنهى المحنة بخلق القرآن؟! هل يريد المالكي من أهل السنَّة أن يعكسوا القضية، فيمدحون مَن آذاهم ويَذّمون مَن نصرهم، أو ماذا يريد منهم؟!!
ولا شكَّ أنَّ الحامل للمالكي على هذا الكلام الذي مدح فيه من آذى أهل السنَّة وذمَّ مَن نصرهم، لا شكَّ أنَّ الحاملَ له على ذلك هو الحقد الذي تأجَّج في قلبه على أهل السنَّة، والمحبَّة والمولاة لأهل البدع والأهواء، بل إنَّ التناقض على الحقيقة من سمات أهل البدع والأهواء، ومنهم المالكي؛ فإنَّه يحصل منه التناقض في الكلام القليل، فيناقض آخرُه أوَّلَه، مثال ذلك قوله عن الاختلاف الذي حصل يوم السقيفة (ص: 43 ـ حاشية): "ويرى البعض أنَّ هناك أسباباَ قبليَّةً وتعصُّباً لفئات وأشخاص، وليس اختلافهم لمصلحة الإسلام، ورغم عدم تسليمنا بل وإنكارنا لهذا القول من ناحية بحثيَّة(7/128)
ص -125- ... بحتة؛ إذ لم يثبت هذا من حيث الرواية، إلاَّ أنَّه ليس هناك دليلٌ شرعي ولا عقلي يمنع من هذا؛ فالصحابة يعتريهم ما يعتري سائر البشر!!!".
فهذا الكلام لا يتجاوز ثلاثة أسطر، وآخره يناقض أوَّلَه، وهو مع ذلك فيه سوء ظنٍّ واضح بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعوذ بالله من الخذلان!
19 ـ قدحُه في أهل السنَّة بعدم فهم حجَّة الآخرين والردُّ عليه
ذكر المالكي في (ص: 137) عنواناً لفظه: "عدم فهم حجَّة الآخر" قال فيه: "مثل شبهتهم (يعني أهل السنَّة ومنهم الحنابلة) في النهي عن علم الكلام والجدل، مع أنَّهم يتناقضون ويُجادلون إذا تمكَّنوا من ذلك، لكن لهم شبهاً ضعيفة يَمنعون بها العلماء من الخوض في علم الكلام، بينما يعلِّمون العوام مصطلحات مستحدثة من علم الكلام، ويحسن أن أسردَ هنا نموذجاً للحوار معهم في جدوى علم الكلام للإمام أبي الحسن الأشعري، وكان يردُّ على غلاة الحنابلة في عصره الذين يحرِّمون علم الكلام نتيجة عدم فهمهم لوظيفة علم الكلام نفسه أو عدم فهمهم لحُجج الآخرين من المعتزلة وأصحاب الأشعري والكلابية وغيرهم، يقول أبو الحسن الأشعري في رسالته في (استحسان الخوض في علم الكلام) يرد على الحنابلة!!".
ثم نقل كلاما كثيراً من هذه الرسالة لأبي الحسن الأشعري.
وأجيب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ أبا الحسن الأشعري كان على مذهب المعتزلة في تأويل الصفات كلِّها، ثم صار إلى القول بإثبات بعضها وتأويل أكثرها، وهو(7/129)
ص -126- ... المذهب الذي اشتهر بالنسبة إليه، ثم في آخر أمره كان على مذهب أهل السنَّة، يعوِّل على النصوص لا على علم الكلام، ومن ذلك ما جاء في كتابه الإبانة فيما يتعلَّق بصفة الاستواء على العرش حيث قال في (ص: 86): ((وقد قال قائلون من المعتزلة والجهميّة والحرورية: إنَّ قول الله عزَّ وجلَّ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أنَّه استولى ومَلَكَ وقَهَر، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ في كلِّ مكان، وجحدوا أن يكون اللهُ عزَّ وجلَّ على عرشه كما قال أهلُ الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القُدرة، ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ فالله سبحانه قادرٌ عليها وعلى الحشوش وعلى كلِّ ما في العالَم، فلو كان اللهُ مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء ـ وهو عزَّ وجلَّ مستوٍ على الأشياء كلِّها ـ لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقْذار؛ لأنَّه قادرٌ على الأشياء مستولٍ عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلِّها ولَم يَجُزْ عند أحد من المسلمين أن يقول إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مستوٍ على الحشوش والأخْلِيَة، لم يَجُز أن يكون الاستواءُ على العرش الاستيلاء الذي هو عامٌّ في الأشياء كلِّها، ووَجَبَ أن يكون معناه استواء يَختصُّ العرش دون الأشياء كلِّها".
وعلى هذا فإنَّ المنقول من رسالة استحسان الخوض في علم الكلام لأبي الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ محمولٌ على ما كان عليه قبل صيرورته في آخر أمره إلى ما كان عليه أهل الحقِّ أهل السنَّة والجماعة.
الوجه الثاني: أنَّ المالكيَّ نفسه من المخالفين لأهل السنَّة والجماعة، وقد أنكر عدالة الصحابة، وأنكر أن يكون كلُّ مَن أسلم بعد الحُديبية من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم عمُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العباس وابنه عبد الله، وزعم أنَّ(7/130)
ص -127- ... صحبة هؤلاء كصحبة المنافقين والكفار، وقد عرفتُ حُجَجَه المزعومة التي هي شُبَهٌ واهية، ورددتُها في كتابي"الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، كما اشتمل كتاب"الانتصار لأهل السنة والحديث" هذا على ذكر أباطيله وشبهه وردِّها.
20 ـ زعمه غلوَّ أهل السنَّة في مشايخهم وأئمَّتهم والردُّ عليه
أورد المالكي في (ص: 151) عنواناً بلفظ: "الغلو في شيوخهم وأئمَّتهم"، يريد بذلك أهل السنَّة ومنهم الحنابلة، قال في بدايته: "الغلوُّ ننكرُه على الصوفية إذا مدحوا الأولياء، ونُنكرُه على الشيعة عندما يغلون في أئمَّتهم الذين يدَّعون فيهم العصمةَ، ونُنكره على الأشاعرة عندما يُبالغون في مدح أبي الحسن الأشعري".
ثمَّ ذكر أنَّهم يقعون في الذي عابوا به غيرهم، وذلك بغلوِّهم في شيوخهم وأئمَّتهم، وقد كان المالكي أتعب نفسه في قراءة ما أمكنه قراءتَه من كتب أهل السنَّة، خاصَّة الحنابلة؛ للبحث عن مثالب ومعايب ينفِّس عن نفسه بإبرازها والتنويه بها، وكان من جملة ما اصطاده وظفر به في هذه الجولة حكايات نقلها من مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، فيها غلوٌّ في الإمام أحمد رحمه الله، ولا أدري هل غاب عن ذهن المالكي أو لم يغب أنَّ هناك فرقاً كبيراً بين مثل هذه الحكايات التي نقلها من مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي وبين ما هو موجود في كتب الرافضة من الغلو في أئمَّتهم؛ فإنَّ كتابَ ابن الجوزي ليس مرجعاً من مراجع أهل السنَّة، ولا يعرفه كثيرٌ من أهل السنَّة،(7/131)
ص -128- ... وإنَّما المراجع لأهل السنَّة في العقيدة وغيرها الكتاب العزيز وما صحَّ من السنَّة، وفي مقدِّمة ذلك صحيح البخاري الذي هو أهمُّ الكتب الحديثية الصحيحة عند أهل السنَّة، يُماثله عند الرافضة الذين هم قدوة المالكي كتاب أصول الكافي للكليني، الذي اشتمل على مبالغة في الغلوِّ في الأئمَّة الاثني عشر، حيث وَصَفوهم بصفات لا يُوصَف بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ومن الأبواب التي اشتمل عليها كتاب الكافي:
ـ باب أنَّ الأئمة عليهم السلام خلفاء الله عزَّ وجلَّ في أرضه، وأبوابه التي منها يُؤتى (1/193).
ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام هم العلامات التي ذكرها عزَّ وجلَّ في كتابه (1/206).
ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام نور الله عزَّ وجلَّ (1/194).
ـ باب أنَّ الآيات التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه هم الأئمَّة (1/207).
ـ باب أنَّ أهل الذِّكر الذين أمر الله الخلقَ بسؤالهم هم الأئمَّة عليهم السلام (1/210).
ـ باب أنَّ القرآن يهدي للإمام (1/216).
ـ باب أنَّ النعمة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه الأئمة عليهم السلام (1/217).
ـ باب عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام (1/219).
ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزَّ وجلَّ، وأنَّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها (1/227).(7/132)
ص -129- ... ـ باب أنَّه لم يجمع القرآن كلَّه إلاَّ الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّهم يعلمون علمه كلَّه (1/228).
ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام (1/255).
ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنَّهم لا يموتون إلاَّ باختيار منهم (1/258).
ـ باب أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنَّه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم (1/260).
ـ باب أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يعلِّم نبيَّه علماً إلاَّ أمره أن يعلِّمه أمير المؤمنين عليه السلام، وأنَّه كان شريكَه في العلم (1/263).
ـ باب أنَّه ليس شيء من الحقِّ في يد الناس إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل (1/399).
ومع هذه الطوام الكبرى عند الرافضة في كتاب من أصولهم المعتمدة يكون نصيبُهم من المالكي السلامة، بينما يكون نصيبُ أهل السنَّة منه الحقد وسلاطة اللسان وتصيد المثالب من كتاب مغمور لا يعرفه الكثيرون من أهل السنَّة.
والإمام ابن تيمية له نصيب كبير من حقد المالكي، وقد غاظه وأزعجه إطلاق لقب شيخ الإسلام عليه، واعتبر ذلك من غلوِّ أهل السنَّة ـ ومنهم الحنابلة ـ في مشايخهم وأئمَّتهم، وأقول: إنَّه اشتهر تلقيبه بهذا اللقب لفضله وسعة علمه وكثرة نفعه، ولم يكن مختصًّا بإطلاق هذا اللقب عليه، بل أطلقه بعضُ العلماء على أئمَّة هدى قبله، وفي مقدِّمتهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد وصف ثعلب ـ أحد أئمَّة اللغة المتوفى سنة (291هـ) ـ أبا بكر رضي الله عنه بشيخ الإسلام كما في(7/133)
ص -130- ... تاريخ دمشق لابن عساكر (29/10)، ووصف ابن القيم أبا بكر وعمر بشيخي الإسلام في كتابه إعلام الموقعين (1/216)، وكذلك وصفهما بهذا المناوي في كتابه فيض القدير شرح الجامع الصغير (5/460)، (6/133)، ووصف الإمام أحمدُ بهذا الوصف أحمد بنَ عبد الله بن يونس أحد رجال الكتب الستة المتوفى سنة (227هـ)، كما في ترجمته من تهذيب الكمال للمزي.
ومع اكتئابه وغيظه لوصف ابن تيمية بهذا الوصف، فإنَّه لا يحرِّك ساكناً لوصف بعض أئمَّة الضلال من الرافضة بالآيات العظمى وحُجج الإسلام والمسلمين، وقد قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أنَّ عين السخط تبدي(7/134)
ص -131- ... 21 ـ زعمه أنَّ نقضَ أهل السنَّة كلام غيرهم ردودُ أفعال، والردُّ عليه
ذكر في (ص: 159) عنواناً بلفظ: "ردود الأفعال"، قال فيه: "لَمَّا قام تيار جهم بن صفوان بنفي الصفات قام الحنابلة والسلفية فجسَّموا، كما رأيتم في الفقرة الخاصة بالإسرائيليات والتجسيم، ولَمَّا مدح المعتزلةُ العقلَ قام الحنابلة وذمُّوا العقل، ولَمَّا توسَّع الأحناف في الرأي والقياس جاء الحنابلة بأحاديث وآثار في ذمِّ الرأي والقياس، وكان أحمد بن حنبل يقول: القرآن كلام الله، لا يزيد على ذلك، فلمَّا قال المعتزلة بخلق القرآن، قال أحمد: القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال الحنابلة: إذا قلنا: القرآن كلام الله، ثم لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، لم يكن بيننا وبين هؤلاء الجهمية خلاف، أقول: وكأنَّ الخلاف مطلب وفضيلة نبحث عنها!(7/135)
ولَمَّا تحالف المأمون مع المعتزلة ـ وكان متشيِّعاً محبًّا لعلي بن أبي طالب وأهل البيت ـ قام الحنابلة خاصة بالانحراف عن الإمام علي وأهل بيته، والتعصب لبني أمية، حتى وصل بهم الأمر ـ كما يُقرِّر ابن الجوزي ـ بالتعصُّب ليزيد بن معاوية، مع ما اشتهر عنه من ظلم وفجور!!".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ أنَّ ما حصل من أهل السنَّة عند ظهور البدع من مقاومة لها ليس هو مجرَّد كلام في مقابلة كلام، وإنَّما هو من قبيل بيان الحقِّ عند ظهور الباطل، وهذا واجب على أهل السنَّة، قال ابن القيم في تهذيب السنن مع عون المعبود (12/298 ـ 299): "والذي صحَّ عن النَّبيِّ رضي الله عنه ذمُّهم من طوائف أهل البدع هم الخوارج، فإنَّه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلّها صحاح؛ لأنَّ مقالتَهم حدثت في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وكلمة رئيسهم، وأمَّا الإرجاء والرفض والقدر والتجهم والحلول وغيرها من البدع، فإنَّها حدثت بعد انقراض عصر الصحابة، وبدعة القدر أدركت آخر عصر الصحابة، فأنكرها مَن كان منهم حيًّا، كعبد الله بن عمر وابن عباس وأمثالهما رضي الله عنهم، وأكثرُ ما يجيء من ذمِّهم فإنَّما هو موقوف على الصحابة، من قولهم فيه، ثم حدثت بدعة الإرجاء بعد انقراض عصر الصحابة، فتكلَّم فيها كبار التابعين الذين أدركوها كما حكيناه عنهم، ثم حدثت بدعة التجهم بعد انقراض عصر التابعين، واستفحل أمرُها واستطار شرُّها في زمن الأئمَّة كالإمام أحمد، ثم حدثت بعد ذلك بدعةُ الحلول، وظهر أمرُها في زمن الحسين الحلاج، وكلَّما أظهر الشيطانُ بدعةً من هذه البدع وغيرها أقام اللهُ له من حزبه وجنده مَن يردُّها ويُحذِّر المسلمين منها؛ نصيحةً لله ولكتابه ولرسوله ولأهل الإسلام، وجعله ميراثاً يعرف به حزب رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي سننه من حزب البدعة وناصرها".(7/136)
ص -132- ... وهذه مقتطفات من كلام الخطيب البغدادي في أوصاف أهل السنَّة والحديث من كتاب شرف أصحاب الحديث، قال في (ص: 8 ـ 9): "وقد جعل الله تعالى أهلَه (أي الحديث) أركان الشريعة، وهدم بهم كلَّ بدعة شنيعة، فهُم أمناءُ الله من خليقته، والواسطة بين النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمَّته، والمجتهدون في حفظ ملَّته... وكلُ فئة تتحيَّز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإنَّ الكتابَ عُدَّتُهم، والسنَّةَ حجَّتُهم، والرسولَ فئتُهم، وإليه نسبتهم، لا يعرِّجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يُقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدِّين وخزنته، وأوعية العلم وحملتُه".
وقال في (ص: 10): "وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذُبُّ بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفَّاظ لأركانها، والقوَّامون بأمرها وشأنها، إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله، ألا إنَّ حزب الله هم المفلحون".
وعلى هذا، فإنَّ ردودَ أهل السنَّة على أهل البدع عند ظهور البدع هو من قَبيل بيان الحقِّ عند ظهور الباطل، وليس مجرَّد ردود أفعال كما هو التعبير العصري.
2 ـ قوله: "لَمَّا قام تيار جهم بن صفوان بنفي الصفات قام الحنابلة والسلفية فجسَّموا".
وتعليقاً على ذلك أقول: نفي الجهمية الصفات الذي هو التعطيل يقابله الإثبات، والإثبات ينقسم إلى قسمين: إثباتٌ مع التشبيه، وهو باطل لا شكَّ فيه، وأهل السنَّة برآء منه، وإثبات مع تنزيه، وهو الحقُّ الذي لا ريب فيه، وقد جمع الله بين الإثبات والتنزيه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ(7/137)
ص -133- ... السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فأثبت الله لنفسه السمعَ والبصرَ في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، ونفى مشابهة غيره له في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقد مرَّ قريباً الردُّ على المالكي في زعمه الباطل أنَّ أهل السنَّة مجسِّمة ومشبِّهة.
3 ـ قوله: "ولَمَّا مدح المعتزلةُ العقلَ، قام الحنابلة وذموا العقل".
أقول: أهل السنَّة لا يَذمُّون العقلَ على الإطلاق، وإنَّما يذمُّون العقلَ الذي يعارَض به النقل، والعقل السليم عندهم لا يُعارض النقل الصحيح، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب واسع في ذلك، هو درء تعارض العقل والنقل.
4 ـ قوله: "ولَمَّا توسَّع الأحناف في الرأي والقياس جاء الحنابلة بأحاديث وآثار في ذمِّ الرأي والقياس".
أقول: أهل السنَّة ومنهم الحنابلة لا يذمُّون الرأي والقياس على الإطلاق، وإنَّما يذمُّون الرأي والقياس المعارِضَيْن للدليل من الكتاب والسنَّة؛ لأنَّه لا اجتهادَ ولا قياس مع وجود النصِّ، وقال علي رضي الله عنه: "لو كان الدِّين بالرأي لكان أسفل الخفِّ أولى بالمسح من أعلاه" رواه أبو داود (162) وإسناده صحيح.
وفي صحيح البخاري (7308)، ومسلم (1785) عن سَهل بن حُنيف رضي الله عنه قال: "يا أيُّها الناس! اتَّهموا رأيَكم على دينكم...".
وقال الإمام الشافعي كما في الروح لابن القيم (2/769): "أجمع الناسُ على أنَّ من استبانت له سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدَعها لقول أحد".
5 ـ قوله: "وكان أحمد بن حنبل يقول: القرآن كلام الله، لا يزيد على ذلك، فلمَّا قال المعتزلة بخلق القرآن، قال أحمد: القرآن كلام الله غير مخلوق".
أقول: نعم! لَمَّا قال المعتزلة: إنَّ كلام الله مخلوق، وهي من البدع المحدثة،(7/138)
ص -134- ... ردَّ أهل السنَّة ومنهم الإمام أحمد هذه البدعة ببيان أنَّ القرآنَ كلامُ الله وأنَّه غير مخلوق، فهو من قبيل ردِّ الباطل عند ظهوره ببيان الحقِّ.
6 ـ قوله: "ولَمَّا تحالف المأمون مع المعتزلة ـ وكان متشيِّعاً محبًّا لعليِّ بن أبي طالب وأهل البيت ـ قام الحنابلة خاصّة بالانحراف عن الإمام علي وأهل بيته والتعصب لبني أميًَّة!!".
وتعليقاً على هذا أقول: أهل السنَّة والجماعة ـ ومنهم الحنابلة ـ ليسوا منحرفين عن الإمام علي رضي الله عنه، بل يُحبُّونه ويتولَّونه، ويعتقدون أنَّه أفضل هذه الأمَّة بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عن الجميع، وكذلك يتولَّون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم زوجاته وذريَّته وكلُّ مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم، وقد أوضحتُ ذلك في كتابي"فضل أهل البيت وعلوُّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة".
وأمَّا دولة بني أميَّة فهم لا يتعصَّّبون لها، وهي وإن كان حصل من بعض ولاتها أمورٌ منكرة، فقد انتشر في عهدها الإسلام، وفتحت الفتوحات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية إلى المحيط الأطلسي غرباً، وامتدَّت إلى الصين شرقاً، وكانت قوَّة الإسلام ومنعته في زمن الخلفاء الراشدين، ثم في أكثر مدَّة دولة بني أميَّة، وقد ثبت في صحيح مسلم (1821) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الإسلامُ عزيزاً إلى اثني عشر خليفة"، فهؤلاء الخلفاء هم الخلفاء الراشدون الأربعة، وثمانية من بني أميَّة، كما في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص: 737)، وفتح الباري لابن حجر (13/214).(7/139)
ص -135- ... 22 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة لا يُدركون معنى الكلام، والردُّ عليه
قال في (ص: 160): "من السمات الغالبة على مذهبنا العقدي السلفي الحنبلي أنَّنا لا ندرك معاني الألفاظ والمصطلحات التي نتحدَّث بها، فتجد ألفاظاً ضخمة، فإذا سألتَ قائلَها عن معانيها إذا به يبهت، وأذكر ذات مرَّة أنَّ بعضَ الإخوة ـ جزاه الله خيراً ـ نصحني قائلاً: إنَّ ما أثيره من مقالات في التاريخ قد يُخالف عقيدة أهل السنَّة والسَّلف الصالح في الإمساك عمَّا شجر بين الصحابة، ولَمَّا ناقشته في هذه الجملة خرجت بنتيجة مفادها أنَّه لا يعلم معنى عقيدة ولا معنى أهل السنَّة ولا معنى السلف ولا معنى الصلاح ولا معنى الإمساك ولا معنى الصحابة، وهكذا يفعل أكثرنا؛ إذ تجد أحدَهم قد يحتج عليك بصفحات قد لا يعرف المعاني الصحيحة للألفاظ التي يتحدَّث بها، وتتردَّد عندنا في العقائد ألفاظ كثيرة ومصطلحات فضفاضة لا نعرف معناها أو على الأقل يختلف الناس في تحديدها من شخص لآخر، فنطلقها بلا تحديد، مثل: (السلف الصالح ـ أهل السنَّة ـ أهل الأثر ـ أهل الحديث ـ الطائفة المنصورة ـ البدعة ـ الإجماع ـ الضلالة ـ الأمة ـ علماء الأمة ـ الرافضة ـ الجهمية ـ الخوارج ـ النواصب ـ الشيعة ـ الكتاب ـ السنة... إلخ).
وكذلك قول بعضهم: (عليك بما كان عليه الصحابة)، نصيحة مطاطة؛ فإن كان يعرف أنَّ الصحابة قد اختلفوا في أمور كثيرة عقدية وفقهية وسياسية، فأيهم نتَّبع؟! فإن كان القائل لا يعرف اختلافهم، فهذه مصيبة، وإن كان يريد إجماعهم فلم يجمعوا إلاَّ على شيء معروف فيه نص شرعي غالباً، لكن أكثر دعاوانا في إجماعهم أنَّهم أجمعوا على أنَّ القرآن غير مخلوق، أو على تقديم أبي بكر أو علي وغير ذلك، إنَّما هي مجرَّد دعاوى تدل على(7/140)
ص -136- ... جهلنا بمعنى الإجماع، وجهلنا بالتاريخ نفسه؛ إذ أنَّ أكثرَ هذا افتراء عليهم، فقد كان الأمر بين غائب عنهم لم يبتوا فيه أو مختلف فيه بينهم!!".
وأجيب على ذلك بما يلي:
1 ـ قوله: "من السمات الغالبة على مذهبنا العقدي السلفي الحنبلي أنَّنا لا ندرك معاني الألفاظ والمصطلحات التي نتحدَّث بها"، قال هذا الكلام متحدِّثاً عن أهل السنَّة بدعوى أنَّه واحد منهم وهو أجنبيٌّ عنهم، وقد أوضحت بطلان دعواه أنَّه من أهل السنَّة وبراءة أهل السنَّة منه، وذلك بإيراد جمل من كلامه توضح بُعدَه عن أهل السنَّة، وبُعدهم عنه.
2 ـ ما زعمه من التقائه بأحد الإخوة الذي نصحه، وأنَّه تبيَّن له أنَّه لم يفهم معنى الكلام الذي نصحه به، فإن كانت هذه القصةُ صحيحةً، فلماذا لم يشرح له هذه الكلمات؟! ولماذا بخل على قرَّاء قراءته المزعومة في كتب العقائد فلم يفسِّر لهم هذه الكلمات (العقيدة، وأهل السنَّة، والسلف، والصلاح، والإمساك، والصحابة)؟!
وهذا الكلام منه من قبيل التهريج والتلبيس والتشويش.
3 ـ قوله: "وتتردَّد عندنا في العقائد ألفاظ كثيرة ومصطلحات فضفاضة لا نعرف معناها أو على الأقل يختلف الناس في تحديدها من شخص لآخر، فنطلقها بلا تحديد، مثل: (السلف الصالح ـ أهل السنَّة ـ أهل الأثر ـ أهل الحديث ـ الطائفة المنصورة ـ البدعة ـ الإجماع ـ الضلالة ـ الأمة ـ علماء الأمة ـ الرافضة ـ الجهمية ـ الخوارج ـ النواصب ـ الشيعة ـ الكتاب ـ السنة... إلخ)!!".
أقول: هذه سبع عشرة كلمة زعم أنَّ أهل السنَّة يُطلقونها دون فهم لمعانيها، وهو كلام لا يحتاج إلى تعليق، لكن مع ذلك أقول: إنَّ لكلِّ خلفٍ(7/141)
ص -137- ... سلفاً، ولكلِّ قوم وارثاً، فأهل السنَّة سلفهم الصحابة ومَن سار على نهجهم، وهؤلاء السلف لأهل السنَّة هم عند المالكي يُذادون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُؤمَر بهم إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ومع هذا الجفاء في الصحابة والحقد عليهم يكون نصيبُ الجهمية وغيرهم من أهل البدع منه الثناء والمدح، كما سبقت الإشارة إلى ذلك أيضاً، وعلى هذا فالسلف عند أهل السنَّة الصحابة ومَن تبعهم، والسلف عند المالكي أهل البدع كالجهمية الذين تباكى على قتل زعمائهم، وقد مرَّت الإشارة إلى ذلك، ولا ينتهي عجب المتعجِّب من زعم المالكي جهل أهل السنَّة معاني تلك الكلمات، لا سيما (الكتاب والسنة) التي لا يجهل معناها أحد، وليس لها معان متعدِّدة حتى يُجتهد في اختيار واحد منها، لكن قائل هذا الكلام قد شوى قلبَه الحقدُ على أهل السنَّة فقال ما قال.
4 ـ الصحابةُ رضي الله عنهم لم يختلفوا في العقائد كما زعم المالكي، وما جاء عن بعضهم من مثل الاختلاف في رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة المعراج لا يعدُّ اختلافاً في رؤية الله، فإنَّهم متَّفقون على رؤية الله في الدار الآخرة، وأمَّا مسألة خلق القرآن التي ابتدعها الجهمية، فالمنقول عمَّن أدركها من السلف ردّها وإنكارها والقول بأنَّ القرآن غير مخلوق، وأهل السنَّة في مختلف العصور يُنكرون مقالة خلق القرآن، ولا خلاف عندهم في ذلك، وكذلك أيضاً فإنَّ الإجماعَ منعقدٌ على خلافة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سبق بيان ذلك.(7/142)
ص -138- ... 23 ـ ما ذكره عن أهل السنَّة من ذمِّ المناظرة والحوار، والجوابُ عن ذلك
قال في (ص: 162) تحت عنوان"ذم المناظرة والحوار": "الحوارُ والمناظرة كانت سائدة عند المعتزلة، وبحوارهم ومجادلتهم جلبوا لجمهورهم كثيراً من الناس، ويبدو أنَّه لَمَّا رأى الحنابلة هذا الأمر قد تفاقم وأنَّهم لا يستطيعون مناظرة المعتزلة قالوا بتحريم ذلك من باب ردة الفعل فقط فقط!!".
والجواب: أنَّ أهل السنَّة والجماعة يُعوِّلون على النصوص الشرعية من الكتاب والسنَّة، وأهل الأهواء والبدع يُعوِّلون على العقول وعلم الكلام المذموم، وهم لا يرغبون مناظرة أهل البدع الذين يُجادلون بالباطل، معوِّلين على العقول مع اتِّهامهم للنقول؛ إمَّا لأنَّها آحاد، أو أنَّها قطعية الثبوت ظنيَّة الدلالة، ومع ذلك فإنَّهم تحصل منهم المناظرة أحياناً، ومن أمثلة ذلك مناظرة عبد العزيز بن يحيى الكناني بشراً المريسي في مسألة خلق القرآن بحضرة المأمون، وتلك المناظرة هي موضوع كتاب الحيدة للكناني، والمالكي نفسه يعلم هذا، وقد ذكَر اسمَ هذا الكتاب في أول الكتب التي أوردها قائلاً إنَّ الحنابلة يعوِّلون عليها، وقد مرَّ ذكر كلامه في الردِّ عليه في قدحه في كتب أهل السنَّة، وقد أبطل الكناني في هذه المناظرة مقالة خلق القرآن من المنقول وبالمعقول، وقد انقطع بشر المريسي وخذله الله بحضرة المأمون، كما هو واضح في كتاب الحيدة.
ومن ذلك مناظرة أبي إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي في مسألة خلق أفعال العباد، قال عبد الجبار: سبحان مَن تنزَّه عن الفحشاء، وقصدُه أنَّ المعاصي كالسرقة والزنا بمشيئة العبد دون مشيئة الله؛ لأنَّ الله(7/143)
ص -139- ... أعلى وأجَلُّ من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق: كلمة حقٍّ أُريد بها باطل، ثم قال: سبحان مَن لا يقع في ملكه إلاَّ ما يشاء، فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويُعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنتَ الرّبُّ وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيتَ إن دعاني إلى الهدى وقضى عليَّ بالرَّّدَى، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه مُلكاً لك فقد أساء، وإن كان له: فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبُهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله، ما لهذا جواب!" (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عند سورة الشمس).
24 ـ تشكيكه في ثبوت السنَّة والإجماع، وزعمه أنَّ أهل السنَّة يُزهِّدون في التحاكم إلى القرآن مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرِّجال، والردُّ عليه
قال في (164) تحت عنوان: "التزهيد في التحاكم إلى القرآن الكريم مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال": "القرآن الكريم أعلى مصدر تشريعي عند المسلمين، فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنة وفي الإجماع وفي القياس وفي قول الصحابي وفي غير ذلك، لكن لم يختلفوا أنَّ القرآن هو المصدر الرئيس الشرعي في كلِّ أمر من الأمور الدينية، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، ففي الآية تحذير للمسلم بأنَّ من لم يرضَ بالتحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم(7/144)
ص -140- ... فإنَّه يقدح في إيمانه بالله واليوم الآخر، وكان المخالفون للحنابلة أكثر تعظيماً للقرآن واستدلالاً به منهم، فلمَّا رأى الحنابلة ذلك وأنَّ القرآن الكريم تستدلُّ به الطوائف (المبتدعة!!) لجأوا إلى التزهيد من التحاكم إلى القرآن الكريم مع تضخيم الآثار والأقوال المنسوبة لبعض التابعين أو العلماء، بل وبدَّعوا من يعود إلى القرآن الكريم وقدَّموا عليه أقوال الرجال:
يقول البربهاري: "إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا شكَّ أنَّه رجلٌ قد احتوى على الزندقة، فقُم من عنده ودَعْه".
وقال: "وأنَّ القرآن أحوجُ إلى السنَّة من السنَّة إلى القرآن".
أقول: السنَّة عظيمة المنزلة، لكن ليست أهمَّ من القرآن، وهي أحوجُ إلى القرآن، فالسنَّة تحاكم إلى القرآن، فيُعرفُ ما ثبت عن رسول الله وما لم يثبت؛ إذ أنَّ من منهج المحدِّثين في معرفة ضعف بعض متون السنة مخالفتها للقرآن الكريم.
وقال (ص: 86): "التكبير على الجنائز أربع، وهو قول مالك بن أنس وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل والفقهاء، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم".
أقول: انظروا كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخرَ هؤلاء!!
وقال البربهاري أيضاً (ص: 115): "وإذا سمعتَ الرجل يطعن على الآثار أو يردُّ الآثار أو يريد غير الآثار فاتَّهمه على الإسلام، ولا تشك أنَّه صاحب هوى مبتدع".
أقول: وهل الذي يطعن على القرآن الكريم، أو لا يريد القرآن الكريم ويريد أقوال الرجال، هل هذا مبتدع أم لا؟(7/145)
ص -141- ... ثم على منهج البربهاري نفسه يُمكن لمعارضه أن يُبدِّعه؛ لأنَّه يترك الأحاديث الصحيحة ويلجأ للضعيفة والموضوعة وأقوال الرجال، ويُعارض بها كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصحيحة!!".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ إنَّ كتاب المالكي الذي أردُّ عليه وهو"قراءة في كتب العقائد" مملوءٌ بالحقد والغيظ على أهل السنَّة من أوَّله إلى آخره، ولكنَّه في هذا الموضع أظهر منتهى الحقد عليهم، مع الافتراء والكذب وقلب الحقائق.
2 ـ يصف المالكي أهل السنَّة بالتناقض كما مرَّ ذلك قريباً، وهنا يتناقض فيقول: "السنَّة عظيمة المنزلة" ومع هذا يشكِّك في ثبوتها فيقول: "فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنَّة!!".
3 ـ طعن في ثبوت السنَّة وزعم أنَّ المسلمين اختلفوا في ثبوتها، فقال: ((فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنَّة"، ولَم يُبيِّن هذا الاختلاف، ومن المعلوم المقطوع به أنَّ أهل السنَّة والحديث يُؤمنون بالسنَّة كما يؤمنون بالقرآن، ويعملون بما فيهما، والعمل بالسنَّة قد أمر الله به في القرآن، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}، والسنَّةُ هي المتلقاة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتملت عليها دواوين السنَّة، وأبرزها الصحيحان للإمامَين البخاري ومسلم رحمهما الله، وقد اشتمل كتاب صحيح البخاري على سبعة وتسعين كتاباً، منها كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ولعلَّ المالكي يريد بالاختلاف في ثبوت السنة خلاف الرافضة لأهل السنَّة؛ فإنَّ السنَّة عندهم سنَّةُ الأئمَّة المعصومين، وهي غير السنة عند أهل السنَّة،(7/146)
ص -142- ... ويُماثل صحيح البخاري عندهم"الأصول من الكافي"، ومن ضمن أبوابه (1/399): "باب أنَّه ليس شيء من الحقِّ في يد الناس إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كلِّ شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل!!!".
وقول المالكي بعد زعمه اختلاف المسلمين في ثبوت السنَّة: "لكن لم يختلفوا أنَّ القرآن الكريم هو المصدر الرئيس الشرعي في كلِّ أمر من الأمور الدينية، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، ففي الآية تحذير للمسلم بأنَّ من لم يرضَ بالتحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنَّه يقدح في إيمانه بالله واليوم الآخر".
وأقول: إنَّ هذه الآيةَ التي استدلَّ بها تدلُّ على الردِّ إلى القرآن والسنَّة، فالردُّ إلى الله ردٌّ إلى الكتاب، والردُّ إلى الرسول ردٌّ إلى السنَّة، وهي المتلقاة عن أصحابه الكرام الذين هم خيرُ القرون.
4 ـ زعم أنَّ الإجماع مختلف في ثبوته، ويقصد بذلك اختلاف جميع فرق الضلال مع أهل السنَّة؛ كما أوضح ذلك في كتابه السيِّء عن الصحابة، حيث قال في (ص: 61 ـ الحاشية): "لأنَّ أقوى دليل للذين يرون الإجماع هو الحديث المشهور:"لا تجتمع أمَّتي على ضلالة"، والحديث وإن كان فيه كلام من حيث الثبوت، لكن الأمَّة فيه لا تعني بعض الأمًَّة، وإنَّما كلّ أمَّة الإجابة، كلّ المسلمين باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية، ومن زعم بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أراد من (أمَّتي) أنَّها تعني المحدِّثين وأصحاب المذاهب الأربعة فقد جازف....!!".
5 ـ افترى على أهل السنَّة كذباً وزوراً أنَّهم يُزهِّدون في التحاكم إلى القرآن الكريم مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال، كما عنون بذلك، وقال:(7/147)
ص -143- ... "وكان المخالفون للحنابلة أكثر تعظيماً للقرآن واستدلالاً به منهم، فلمَّا رأى الحنابلة ذلك وأنَّ القرآن الكريم تستدلُّ به الطوائف (المبتدعة!!) لجأوا إلى التزهيد من التحاكم إلى القرآن الكريم مع تضخيم الآثار والأقوال المنسوبة لبعض التابعين أو العلماء، بل وبدَّعوا من يعود إلى القرآن الكريم وقدَّموا عليه أقوال الرجال".
وهذا بهتان بيِّنٌ وإفكٌ مبين، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِينا}ً، وهو أيضاً قلبٌ للحقائق، ووضعٌ لِمَن رفعه الله ورفعٌ لِمَن وضعه، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}، وما أشبه صنيعه في قلب الحقائق بقول الشاعر كما في معجم الأدباء لياقوت الحموي (17/198):
قد قُدِّم العَجْبُ على الرُّوَيس ... وشارف الوهد أبا قُبيسِ
وطاول البقل فروعَ المَيْس ... وهبت العنز لقرع التيس
وادَّّعت الروم أباً في قيس ... واختلط الناس اختلاط الحيس
إذ قرا القاضي حليف الكيس ... معاني الشعر على العبيسي
والمعنى في البيت الأول تقديم عَجْب الذنب على الرأس، وأنَّ المكان المنخفض يُطاوِلُ المكان المرتفع، وأبو قُبيس: جبل عال بمكة.
6 ـ قوله: "بل وبدَّعوا من يعود إلى القرآن الكريم وقدَّموا عليه أقوال الرجال:
يقول البربهاري: (إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا شكَّ أنَّه رجلٌ قد احتوى على الزندقة، فقُم من عنده ودَعْه)، وقال: (وأنَّ القرآن أحوجُ إلى السنَّة من السنَّة إلى القرآن").(7/148)
ص -144- ... وأقول: أهل السنَّة لَم يُبدِّعوا من يعود إلى القرآن الكريم، وإنَّما بدَّعوا مَن يأخذ به ولا يأخذ بالسنَّة، ومِمَّا يدلُّ على ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، وقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث المقدام بن معد يكرب: "ألا إنِّي أوتيتُ الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه، ألا لا يَحلُّ لكم لَحمُ الحمار الأهلي، ولا كلُّ ذي ناب من السَّبُع، ولا لقطةُ مُعاهد إلاَّ أن يستغني عنها صاحبُها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه، فإن لَم يَقرُوه فله أن يُعْقِبَهم بمثل قِراه"، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رافع: "لا أُلفيَنَّ أحدَكم متَّكئاً على أريكتِه، يأتيه الأمرُ من أمري مِمَّا أمرتُ به أو نهيتُ عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتَّبعناه"، وهما حديثان صحيحان، أخرجهما أبو داود في سننه في"بابٌ في لزوم السنَّة" (4604)، (4605)، وأخرجهما أيضاً الترمذي وابن ماجه.
وأمَّا قول البربهاري في حاجة القرآن إلى السنَّة فعبارته هكذا: "وأنَّ القرآنَ إلى السنَّة أحوج من السنَّة إلى القرآن"، وليس فيها تزهيدٌ في القرآن، بل المعنى فيها واضح، وهو أنَّ السنَّة هي التي تبيِّن القرآن وتوضحه وتدلُّ عليه، وليس القرآن هو الذي يوضحها ويُبيِّنها، ومن ذلك أنَّ القرآن الكريم جاء فيه الأمر بإقامة الصلاة، ثم جاءت السنَّة مبيِّنة عدد الصلوات وأنَّها خمس، وبيان عدد الركعات في كلِّ صلاة منها، وبيان ما فيها من قيام وركوع وسجود وجلوس، وما يُشرع قراءته وقوله فيها، وقد أرشد إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي"، وقال مثل ذلك في الحجِّ: "خذوا عنِّي مناسككم"، ومن ذلك الزكاة، فقد جاء القرآن بالأمر بإيتائها، وجاء في السنَّة(7/149)
بيان الأموال التي تُزكَّى ومقدار الأنصباء ومقدار ما يُخرج من الزكاة، وهكذا في العبادات والمعاملات وغير ذلك.(7/150)
ص -145- ... 7 ـ قوله: وقال (أي البربهاري) (ص: 86): "التكبير على الجنائز أربع، وهو قول مالك بن أنس وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأحمد بن حنبل والفقهاء، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم".
أقول: انظروا كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخرَ هؤلاء!!".
وأقول: انظروا إلى نار الحقد المشتعلة في قلب هذا المالكي على أهل السنَّة، حتى كاد يتميَّز من الغيظ؛ فليس في كلام البربهاري ذكر أسماء جُعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخرها، وإنّما فيه ذكر مسألة التكبير على الجنائز، وبعضُ من قال بأنَّ التكبيرات عليها أربع، ثم ذكر الدليل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حديث صلاته على النجاشي في المصلى، وتكبيره أربع تكبيرات، أخرجه البخاري (1333)، ومسلم (951)، وهذه هي الطريقة التي سلكها العلماء في الاستدلال، فيُذكر القول ومن قال به، ثم الدليل على ذلك، والمالكي لا يخفى عليه ذلك، لكن الحقد على أهل السنَّة دفعه إلى ما قاله، وسبق أنَّه ذكر عند زعمه نقد المذهب الحنبلي في العقيدة أنَّ من أسباب ذلك تعلُّم الإنصاف وتعليمه، وهذا مثال واحد من أمثلة بُعده عن الإنصاف، وأنَّه في وادٍ والإنصافُ في واد آخر، بل هو في الثرى والإنصاف في الثريَّا.
8 ـ قوله: "وقال البربهاري أيضاً (ص: 115): "وإذا سمعتَ الرجل يطعن على الآثار أو يردُّ الآثار أو يريد غير الآثار فاتَّهمه على الإسلام، ولا تشك أنَّه صاحب هوى مبتدع". أقول: وهل الذي يطعن على القرآن الكريم، أو لا يريد القرآن الكريم ويريد أقوال الرجال، هل هذا مبتدع أم لا؟!".(7/151)
ص -146- ... وأقول: هذا اتِّهامٌ واضح لأهل السنَّة بأنَّهم يطعنون في القرآن، وأنَّهم لا يُريدونه ويريدون أقوال الرجال، وهو مثل العنوان الذي ذكره في أوَّل هذا الموضع، وهو"التزهيد في التحاكم إلى القرآن الكريم مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال"، وإذا كان أهل السنَّة هم الذين يطعنون في القرآن ولا يريدونه، فمَن الذي يأخذ بالقرآن ومن الذي يريده سواهم، لا شكَّ أنَّ هذا من الإفك المبين والظلم الواضح وقلب الحقائق، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
25 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة يُزهِّدون في كبائر الذنوب والموبقات، والردُّ عليه
قال في (ص: 166): "التزهيد والتساهل في كبائر الذنوب والموبقات مع التشدُّد في أمور مختلف فيها، وهذا خلاف نصوص القرآن الكريم فضلاً عن السنَّة:
قال البربهاري : "إذا رأيتَ الرجل من أهل السنَّة رديء المذهب والطريق، فاسقاً فاجراً صاحب معاصي ضالاًّ وهو على السنَّة فاصحبه واجلس معه؛ فإنَّه ليس يضرُّك معصيته، وإذا رأيتَ الرَّجلَ مجتهداً في العبادة متقشِّفاً محترقاً بالعبادة صاحب هوى فلا تجالسه ولا تمشي معه في طريق".
وقال أيضاً: "لأن تلقى اللهَ زانياً فاسقاً خائناً أحبّ إليَّ من أن تلقاه بقول فلان وفلان".
أقول: ويقصد بفلان وفلان علماء الحنفية أو المعتزلة أو المختلفين مع(7/152)
ص -147- ... الحنابلة، لكن البربهاري يلقانا بقوله وقول الأوزاعي وحماد بن زيد، وهم ـ على فضلهم ـ بشر يصحُّ أن يُقال فيهم فلان وفلان، وهذا تناقض، ولا بدَّ من منهج يحمي من التناقض!!!".
والجواب: أنَّ أهل السنَّة لا يُزهِّدون في كبائر الذنوب، وإنَّما الذين يُزهِّدون فيها هم المرجئة، الذين يقولون: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فيأخذون بنصوص الوعد، ويُهملون نصوص الوعيد، وأمَّا أهل السنَّة فيأخذون بنصوص الوعد والوعيد جميعاً، فلا يأخذون بنصوص الوعد فقط، كما فعلت المرجئة، ولا بنصوص الوعيد فقط كما فعلت الخوارج والمعتزلة، ويقولون عن مرتكب الكبيرة: مؤمن ناقص الإيمان، وليس كاملَ الإيمان كما قالت المرجئة، ولا خارجاً من الإيمان كما قالت الخوارج والمعتزلة.
وأمَّا ما جاء عن بعض السلف من التحذير من البدع، وبيان أنَّها أسوأُ من المعاصي، فليس ذلك تزهيداً في المعاصي، بل لبيان التفاوت الكبير بين البدع والمعاصي، وإنَّما كانت البدعُ أشدَّ خطراً من المعاصي؛ لأنَّ المعاصي من أمراض الشهوات، والبدعَ من أمراض الشبهات، ولأنَّ العاصي يَشعُر بأنَّه مذنبٌ فيتوب من معصيته، وأمَّا المبتدع فقد يستمرُّ على بدعته حتى يموت عليها؛ لأنَّه يرى أنَّه على حقٍّ وهو على باطل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وقد جاء في السنَّة وأقوال الصحابة ما يوضح ذلك، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حَجَبَ التوبةَ عن كلِّ صاحب بدعة حتى يَدَع بدعتَه"، قال المنذري في الترغيب والترهيب (1/45): "رواه الطبراني وإسناده حسن"، وقد أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (1620)، وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وغيره، وذكر أنَّ رجالَه رجال الشيخين إلاَّ(7/153)
ص -148- ... هارون بن موسى، وقد قال فيه النسائي وتبعه الحافظ في التقريب: "لا بأس به"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "ثقة".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لأن أحلفَ بالله كاذباً أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً"، وهو أثرٌ صحيح، أخرجه الطبراني في الكبير، وأورده الألباني في الإرواء (2562)، وقال في إسناده: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
26 ـ زعمه أنَّ أهل السنَّة يتساهلون مع اليهود والنصارى مع التشدُّد مع المسلمين، والردُّ عليه
قال في (ص: 167): "من سمات كتب العقائد عند غلاة الحنابلة أنَّهم يتساهلون مع اليهود والنصارى، ويُفضِّلون مخالطتهم ومآكلتهم على إخوانهم المسلمين، نقل البربهاري أثراً (ص: 139) يقول: (آكلُ مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع)!!".
والجواب: أنَّ أهل السنَّة يُحذِّرون من الكفَّار، ويُحذِّرون من المنافقين الذين يكونون بين المسلمين مِمَّن يُظهر الإيمانَ ويُبطن الكفرَ، ويُحذِّرون من أصحاب البدع والأهواء، ولا شكَّ أنَّ أهلَ البدع والأهواء الذين لا تصل بدعتهم إلى الكفر ليسوا مثل اليهود والنصارى؛ لأنَّهم إن دخلوا النارَ لبدعهم يَخرجون منها ويدخلون الجنَّة، بخلاف الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، فهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبداً، لكن المنافقين الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر شرٌّ من اليهود والنصارى؛ لأنَّهم في الدَّرك(7/154)
ص -149- ... الأسفل من النار، ويُمكن أن يكون في بعض المنتسبين إلى الإسلام مَن هو شرٌّ من اليهود والنصارى في بعض الخصال، ومن أمثلة ذلك أنَّ المالكيَّ نفسَه يزعم أنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذادون عن حوضه ويُؤخذون إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم، كما ذكر ذلك في كتابه السيِّء في الصحابة، وهو في ذلك أسوأ من اليهود والنصارى؛ لأنَّهم لا يقولون في أصحاب موسى وعيسى مثلَ مقالته القبيحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم وأرضاهم، وقد قال شارح الطحاوية (ص: 469): "فمَن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غِلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيِّين، بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة؛ قيل لليهود: مَن خيرُ أهل مِلَّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: مَن خير أهل مِلَّتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: مَن شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد!! ولم يستثنوا منهم إلاَّ القليل، وفيمَن سبُّوهم مَن هو خيرٌ مِمَّن استثنوهم بأضعاف مضاعفة".
27 ـ زعمه أنَّ قاعدة (اتِّباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمَّة) باطلة، وأنَّها بدعةٌ، والردُّ عليه
قال في (ص: 178 ـ 181) تحت عنوان: "الاستدراك على الشرع (أو بدعة اشتراط فهم السلف): "ترى أصحاب العقائد وأخصُّ هنا أصحابنا السلفية يشترطون شروطاً ليس (كذا) في كتاب الله ولا سنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليقطعوا به كلَّ آمال الاتفاق، فالله عزَّ وجلَّ أرشدنا عند اختلافنا مع المسلمين أن نرجع للكتاب والسنَّة، لقوله تعالى: {فَإِنْ(7/155)
ص -150- ... تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، فلمَّا رأى أصحاب العقائد ومنهم السلفية الحنابلة أنَّ العودةَ للكتاب والسنَّة سيلغي أكثرَ الشتائم والتكفيرات والتبديعات والمخالفات الموجودة في كتب العقائد لجأوا إلى الزيادة على ما ذكره الله عزَّ وجلَّ بقولهم: "إنَّ الكتاب والسنَّة لا تكفي فلا خير في كتاب بلا سنَّة، ولا خير في سنَّة بلا فهم السلف الصالح"!! وهكذا نفوا الخيرية عن الكتاب والسنَّة بهذا الشرط البدعي الذي اشترطوه، وانتقصوا به من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أقول: ولا أدري هنا ماذا يقصدون بـ (فهم السلف) إن كانوا يقصدون الصحابة فقد اختلف الصحابة في فهم كثير من العقائد والأحكام فبأيِّ فهم نلتزم؟! وإن كانوا يقصدون اتباع ما فهمه الصحابة كلهم فهذا لا يخالف فيه أحد لكن حصول هذا الإجماع في الفهم صعب بل مستحيل إلاَّ في أمر دليله واضح.
وإن قصدوا اتِّباع فهم آحاد السلف فيما لم يختلفوا فيه (كذا)، قيل لهم اختلافهم في الفهم دليل على أنَّ فهمهم يخطئ ويصيب؟! فإذا كان كذلك فمن يضمن لنا أنَّ فهم الآحاد منهم ليس من القسم الذي أساءوا فهمه؟!
وقد فهم عدي بن حاتم من الآية الكريمة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فهماً خاطئاً ردَّه عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفهمت زوجات النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أوَّلكنَّ لحوقاً بي أطولكنَّ يداً" على الحقيقة، بينما هذا كان مجازاً فهو كناية عن الإنفاق والصدقة، ففهمت ذلك زينب بنت(7/156)
ص -151- ... جحش فقط، أمَّا بقيَّة أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يفهمن هذا الفهم.
وهكذا قصص كثيرة في اختلاف الصحابة ـ فضلاً عن غيرهم ـ في فهم بعض النصوص القرآنية والحديثية.
ثم إنَّ هذا الفهمَ لم يقل به أحد من الصحابة، فلم يقل أحد منهم للتابعين: إذا فهمتم من آية كريمة فهماً فلا تأخذوا به حتى تنظروا ماذا نفهم منها؟!
فالقاعدة المشهورة (الكتاب والسنة وبفهم سلف الأمَّة) باطلةٌ بإجماع سلف الأمَّة من المهاجرين والأنصار الذين لم يشترطوها واكتفوا بما ذكره الله عزَّ وجلَّ من التحاكم للقرآن والسنَّة، أمَّا زيادة اشتراط الفهم فهو استدراك قبيح على الآية الكريمة.
أمَّا آلية الفهم فلا تتمُّ بتقليد صحابي ولا تابعي، وإنَّما بالنظر في الآيات والأحاديث الصحيحة التي تتحدَّث عن الموضوع نفسه، والعودة بعد ذلك للآثار ولغة العرب وكل ما يساعد في تجلية المعنى وما إلى ذلك.
فتحصيل الفهم يتمُّ عبر سبل كثيرة قد يجوز إدخال (فهم آحاد السلف) في هذه السبل للترجيح فقط، لكن لا يجوز الاقتصار عليه، كيف والقرآن الكريم يأمرنا بالتدبُّر والتفكُّر؟
ثم هؤلاء القائلون بفهم السلف هم أوَّل من يُخالف السلف إذا فهموا شيئاً خلاف ما هم عليه!! ومعظم ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان.
راجع المسائل السابقة التي في هذا الكتاب ثم فتِّش في سير الصحابة والتابعين وانظر مَن منهم فضَّل الآثار وأقوال الرجال على القرآن الكريم؟!(7/157)
ص -152- ... ومن منهم جعل المسلمَ شرًّا من اليهودي والنصراني؟!
ومن منهم كفَّر المسلمين؟!
ومن منهم تسمَّى بغير الإسلام؟!
ومن منهم زهَّد في كبائر الذنوب؟!
ومن منهم غلا في علمائهم وكبارهم؟!
ومن منهم أفتى باغتيال المخالفين له في الرأي؟!
ومن منهم شبَّه الله بخلقه؟!
ومن منهم ركَّز على الجزئيات وترك الأصول؟!
ومن ومن... إلخ.
فنحن لا مع القرآن ولا مع السنَّة ولا مع فهم السلف الصالح!! وكلُّ ما عندنا من الأمور دعاوى نقنع بها العوام لا دليل عليها من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل ولا السلف الصالح (وهم عندي المهاجرون والأنصار ومن كان على نهجهم فقط).
فالقرآن أوَّلاً والسنَّة الصحيحة ثانياً، هما المقياسان الرئيسان وتأتي بعد ذلك مقاييس أخرى من أقوال جمهرة المهاجرين والأنصار أو قول جمهور الصحابة واختيارات علمائهم الكبار، أمَّا الإجماع فلن يمكن إلاَّ حصوله (كذا) ومعه نص شرعي فيما يظهر، فهذه المقاييس نقيس بها كلَّ الرجال كأحمد بن حنبل وأبا حنيفة (كذا) والشافعي ومالك والبربهاري وغيرهم، كلُّ هؤلاء الرِّجال يجب أن يخضعوا لمعيار القرآن وما صحَّ من السنَّة، كلُّ هؤلاء تحت القرآن والسنَّة لا فوقها، وهذا هو طريق وفهم السلف من الصحابة الكبار، فلم يكن عندهم أحد فوق القرآن وما صحَّ من السنَّة، فمَن لم يكن(7/158)
ص -153- ... على هذا المنهج فليس على منهج الصحابة ولا (السلف الصالح) ولا يجوز أن يدَّعي كذباً وزوراً الانتساب لمنهج المهاجرين والأنصار، ولا يجوز له أن يتشدَّق بمنهج لا يعرفه ولا يضبط معاييره وملامحه... فالكلام سهل وبسبب الكلام اختلفت فرق الأمَّة وتفاخرت بالألقاب والمناهج!! ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه!!
وهذا التخبط عندنا ـ كما أسلفت ـ له علافة بالألفاظ التي نردِّدها ولا نعرف معناها فـ (الفهم) لا نفهمه ولا نعرف معناه ولا معاييره ولا آليات تحصيله، وكذلك السلف الصالح نذهب إلى البربهاري وعبد الله بن أحمد وابن تيمية وننسى الصحابة من المهاجرين والأنصار، فالبربهاري وابن بطة عندنا من السلف بينما الصحابة ليسوا من السلف، ولو كانوا عندنا من السلف الصالح لما خالفناهم في فهم الإسلام وفي الأمور التي سبق شرحها".
وأجيب بما يلي:
1 ـ ساق هذا الكلام الكثير المتناقض لبيان عدم اعتبار فهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ التقيُّدَ بهذا الفهم يمنع من الانفلات في الفهوم الخاطئة، ويُمكِّن من التمرُّد على ما كان عليه سلف هذه الأمَّة من الصحابة ومَن سار على نهجهم، وعلى هذا فالأخذ بالكتاب والسنَّة على فهم السلف يعتبره المالكي بدعةً، ويعتبره أهل السنَّة حقًّا واضحاً جليًّا، فالسنَّة عند المالكي بدعة، والبدعة عنده سنَّة.
2 ـ ليس فهم نصوص الكتاب والسنَّة وفقاً لفهم السلف استدراكاً على الشرع، وإنَّما هو أخذٌ بالحقِّ واتِّباع لسبيل المؤمنين، وأهل السنَّة لا يقولون بعدم كفاية الكتاب والسنَّة كما زعم، بل هم الذين يقولون بالتعويل عليهما، لكن على فهم السَّلف وليس على فهم غيرهم.(7/159)
ص -154- ... 3 ـ لم يختلف الصحابةُ في فهم العقيدة، بل هم فيها على صراط مستقيم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، ويتَّضح ذلك من كلام المقريزي الذي سيأتي ذكرُه بعد قليل.
4 ـ قاعدة التعويل على فهم سلف الأمَّة لنصوص الكتاب والسنَّة لا يؤثِّر فيها ما زعمه المالكي من وجود أخطاء حصلت من بعض الصحابة في فهم النصوص، وهي في الحقيقة ليست بأخطاء، فالذي ذكره عن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه من الفهم للخيط الأسود والأبيض كان قبل نزول قوله {مِنَ الْفَجْرِ}، ففي صحيح البخاري (4511) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ}، وكان رجالٌ إذا أرادوا الصومَ ربط أحدُهم في رجليه الخيطَ الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعده: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنَّما يعني الليل من النهار".
وعلى هذا فعديٌّ رضي الله عنه لم يفهم الآيةَ فهماً خاطئاً كما زعم المالكي، وأوهم أنَّ الآيةَ نزلت كاملة؛ فإنَّ فهمَ عديٍّ رضي الله عنه كان قبل نزول قوله {مِنَ الْفَجْرِ}، كما اتَّضح من سياق الحديث.
وأمَّا ما ذكره من فهم أكثر أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "أوَّلكُنَّ لحوقاً بي أطولكنَّ يداً" أنَّ المرادَ اليد الحقيقية، وأنَّ زينبَ بنت جحش رضي الله عنها فهمت طولَ اليد بالصدقة، فليس الأمر كما زعم من أنَّ زينبَ فهمت ذلك، بل قد فهم أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا ماتت زينب بعده صلى الله عليه وسلم أنَّ المراد طول اليد بالصدقة، ففي صحيح مسلم (2452) عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه(7/160)
وسلم: "أسرعكُنَّ لحاقاً بي(7/161)
ص -155- ... أطولكنَّ يداً، قالت: فكنَّ يتطاولنَّ أيَّتهنَّ أطول يداً، قالت: فكانت أطولنا يداً زينب؛ لأنَّها كانت تعمل بيدها وتصدَّق".
وأمَّا ما جاء في صحيح البخاري (1420) عن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ بعضَ أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قلن للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أيُّنا أسرع بك لحوقاً؟ قال: أطولكنَّ يداً، فأخذوا قصبة يذرعونها، فكانت سودةُ أطولَهنَّ يداً، فعلمنا بعدُ أنَّما كانت طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقاً به وكانت تحبُّ الصدقة"، فيُفهم منه أنَّ سودةَ رضي الله عنها أطولهنَّ يداً حقيقة، ثمَّ لَمَّا ماتت زينب قبل غيرها من أمَّهات المؤمنين عُلم أنَّ المراد بطول اليد طولها بالصدقة، فكانت رواية مسلم مفسِّرةً لرواية البخاري.
وقد قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث عند البخاري: "(فعَلِمْنا بعدُ) أي: لَمَّا ماتت أولُ نسائه به لحوقاً"، وقال أيضاً: "ويؤيِّده أيضاً ما روى الحاكم في المناقب من مستدركه من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "أسرعكنَّ لحوقاً بي أطولكنَّ يداً، قالت عائشة: فكنَّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نَمدُّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأةً قصيرةً ولَم تكن أطولَنا، فعرفنا حينئذ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينبُ امرأةً صنَّاعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدَّق في سبيل الله)، قال الحاكم: على شرط مسلم، انتهى، وهي رواية مفسِّرة مبيِّنة مرجِّحة لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكنَّ لحوقاً بي أطولكنَّ يداً" هو لفظ محتمل لمعنيين، وهو في أحدهما أظهر من الآخر، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أراد أحدَهما، وفهم أزواجُه صلى الله عليه وسلم المعنى الآخر، ولا يُقال(7/162)
عن فهم أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّه خطأ؛ لأنَّه المتبادَر(7/163)
ص -156- ... من اللفظ، وإنَّما يُقال: تبيَّن فيما بعد عند وفاة زينب رضي الله عنها أنَّ ما فهمنه لم يكن مطابقاً لما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يتبيَّن أنَّ ما ذكره المالكي من الخطأ في الفهم في المثالَين المذكورين أنَّه ليس بخطأ كما زعم.
5 ـ نعم! لم يقل الصحابةُ للتابعين: لا تفهموا النصوصَ إلاَّ وفقاً لفهمنا، وإنَّما يُبيِّنون لهم الخطأ في الفهم، ومن أمثلة ذلك ما روى البخاري في صحيحه (4495) بإسناده إلى هشام بن عروة، عن أبيه أنَّه قال: "قلت لعائشة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السنِّ: أرأيتِ قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوَّف بهما، فقالت عائشة: كلاَّ! لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوَّف بهما، إنَّما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلُّون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرَّجون أن يطوَّفوا بين الصفا والمروة، فلمَّا جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}".
وتأمَّل قول عروة ـ رحمه الله ـ فيما مهَّد له من العذر لخطئه في الفهم بقوله: "وأنا يومئذ حديث السنِّ"، يتبيَّن لك أنَّ حداثةَ السنِّ مظنَّةُ الخطأ في الفهم، والمالكي ومعه الأربعة الذين شاركوه في الضلال الذين أوردهم في آخر كتابه حُدثاء الأسنان، ولم يكن المالكي مخطئاً في أباطيله التي اشتمل عليها كتابُه هذا وغيره مِمَّا زعمه بحوثاً، ليس مخطئاً فحسب، بل هو من الخاطئين.
وأيضاً فإنَّ الصحابة يُرشدون التابعين وغيرَهم إلى الائتساء والاقتداء بأصحاب رسول الله(7/164)
صلى الله عليه وسلم، ففي جامع بيان العلم وفضله (2/97) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "مَن كان منكم متأسِّياً فليتأسَّ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛(7/165)
ص -157- ... فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوباً، وأعمقَها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، وأقومَها هدياً، وأحسنَها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا لهم فضلَهم، واتَّبعوهم في آثارهم؛ فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم".
وفي سنن الدارمي (211) عنه رضي الله عنه أنَّه قال: "اتَّبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم".
وفي سنن الدارمي أيضاً (141) عن عثمان بن حاضر، قال: "دخلتُ على ابن عباس، فقلت: أَوْصني، فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتَّبع ولا تبتدع!".
وفي السنَّة لمحمد بن نصر المروزي (80) أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إنَّكم اليوم على الفطرة، وإنَّكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدَثةً فعليكم بالهدي الأول".
وكذلك العلماء يوصون باتِّباع ما جاء عن الصحابة والسير على منهاجهم، ففي السنة من كتاب السنن لأبي داود (4612) عن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في أثر طويل قوله: "فارضَ لنفسك ما رضي به القومُ لأنفسهم؛ فإنَّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كَفُّوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى"، وفي السنَّة للالكائي (1/156) عن الإمام أحمد أنَّه قال: "أصول السنَّة عندنا التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكلُّ بدعة فهي ضلالة...".
وقال ابن أبي حاتِم في الجرح والتعديل (1/87): "فأمَّا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين شهدوا الوحيَ والتنزيلَ، وعرفوا التفسيرَ والتأويلَ، وهم الذين اختارهم اللهُ عزَّ وجلَّ لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونصرتِه وإقامةِ دينه وإظهارِ حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوةً، فحفظوا(7/166)
ص -158- ... عنه صلى الله عليه وسلم ما بلَّغهم عن الله عزَّ وجلَّ، وما سنَّ وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدّب، ووعَوْه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمرَ الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسيرَ الكتاب وتأويله، وتلقّفهم منه واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ عزَّ وجلَّ بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إيَّاهم موضع القدوة"، إلى أن قال: "فكانوا عدولَ الأمَّة وأئمَّةَ الهدى وحججَ الدِّين ونقلةَ الكتاب والسنة، وندب الله عزَّ وجلَّ إلى التمسُّك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم، فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية".
6 ـ قوله (ص: 179): "فالقاعدة المشهورة (الكتاب والسنَّة وبفهم سلف الأمة) باطلة بإجماع سلف الأمة من المهاجرين والأنصار الذين لم يشترطوها، واكتفوا بما ذكره الله عزَّ وجلَّ من (التحاكم للقرآن والسنَّة)، أمَّا زيادة اشتراط الفهم فهو استدراك قبيح على الآية الكريمة!!!".
أقول: ما ذكره من دعوى بطلان القاعدة المذكورة بإجماع سلف الأمة قولٌ باطلٌ ودعوى لا أساس لها من الصحَّة، كما تبيَّن من آثار عن السلف في الفقرة السابقة، واعتبار فهم الصحابة لنصوص الكتاب والسنَّة لا يُنافي الأخذ بالآية الكريمة في الردِّ إلى الكتاب والسنَّة، وليس استدراكاً عليهما كما زعم؛ فإنَّ في ذلك التنفيذ والتطبيق لما جاء في الكتاب والسنَّة على فهم صحيح، ومِمَّا يوضِّح ذلك أنَّ ما جاء عن السلف في فهم معنى قول الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أنَّه بمعنى علا وارتفع هو الحقُّ، وأنَّ ما جاء عن المتكلِّمين من تفسيره بمعنى استولى باطل واتِّباع لغير سبيل المؤمنين.(7/167)
ص -159- ... ومِمَّا يوضح بطلان قول المالكي هذا أنَّ الخوارجَ لَمَّا ركبوا رؤوسَهم وخالفوا الصحابة في فهم الكتاب والسنَّة انحرفوا عن الحقِّ، وقصَّة مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما لهم في مستدرك الحاكم (2/150 ـ 152)، وهي بإسناد صحيح على شرط مسلم، وفيها قول ابن عباس: "أتيتُكم من عند صحابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، لأبلِّغكم ما يقولون، المخبرون بما يقولون، فعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بالوحي منكم، وفيهم أنزل، وليس فيكم منهم أحد، فقال بعضُهم: لا تخاصموا قريشاً، فإنَّ الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}، قال ابن عباس: وأتيتُ قوماً لم أرَ قوماً قطُّ أشدَّ اجتهاداً منهم، مسهمة وجوههم من السَّهر، كأنَّ أيديهم وركبهم تثنى عليهم، فمضى من حضر، فقال بعضُهم: لنكلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول، قلت: أخبروني ماذا نقمتم على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره والمهاجرين والأنصار؟ قالوا: ثلاثاً، قلت: ما هنَّ؟ قالوا: أمَّا إحداهنَّ فإنَّه حكم الرِّجالَ في أمر الله، وقال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}، وما للرِّجال وما للحكم، فقلت: هذه واحدة، قالوا: وأمَّا الأخرى فإنَّه قاتَلَ ولَم يسْب ولَم يغنَم، فلئن كان الذي قاتل كفَّاراً لقد حلَّ سبيُهم وغنيمتهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ قتالُهم، قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ قال: إنَّه مَحا نفسَه من أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين، قلت: أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا، فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما يُردُّ به قولُكم أتَرضَون؟ قالوا: نعم! فقلت: أمَّا قولكم: حكَّم الرِّجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم ما قد رُدَّ حكمُه إلى الرِّجال في ثمن ربع درهم، في أرنب ونحوها من الصيد، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى(7/168)
قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، فنشدتكم الله: أحُكم الرِّجال في أرنب ونحوها من(7/169)
ص -160- ... الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟! وأن تعلموا أنَّ الله لو شاء لَحَكم ولَم يُصيِّر ذلك إلى الرِّجال، وفي المرأة وزوجها قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، فجعل الله حكم الرِّجال سنة مأمونة، أخَرَجتُ من هذه؟ قالوا: نعم! قال: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يسْب ولم يغنم، أَتَسبُون أمَّكم عائشة، ثمَّ تستحلُّون منها ما يُستحلُّ من غيرها؟! فلئن فعلتم لقد كفرتُم، وهي أمُّكم، ولئن قلتُم: ليست أمَّنا لقد كفرتُم؛ فإنَّ الله يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، فأنتم تدورون بين ضلالَتين، أيّهما صرتُم إليها صرتُم إلى ضلالة، فنظر بعضُهم إلى بعض، قلت: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم! وأمَّا قولكم: مَحا اسمَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمَن ترضَون وأريكم، قد سمعتُم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبية كاتَبَ سُهيل بن عمرو وأبا سفيان بن حرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين: اكتب يا علي: هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله، فقال المشركون: لا والله! ما نعلم أنَّك رسول الله، لو نعلم أنَّك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم إنَّك تعلمُ أنِّي رسول الله، اكتب يا علي: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، فوالله لرسول الله خيرٌ من علي، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسَه، قال عبد الله بن عباس: فرجع من القوم ألفان وقُتل سائرُهم على ضلالة".
7 ـ قوله في (ص: 179): "ثم هؤلاء القائلون بفهم السلف هم أوَّل من يُخالف السلف إذا فهموا شيئاً خلاف ما هم عليه!! ومعظم ما كتبوه في العقائد كان خلاف فهم السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان!!".(7/170)
ص -161- ... أقول: أهل السنَّة الذين يحقد عليهم المالكي ويُطلق لسانَه في ثلبهم والنَّيل منهم هم المتَّبعون لسلف هذه الأمَّة من الصحابة ومَن تبعهم بإحسان؛ لأنَّهم يُعوِّلون على النصوص الشرعيَّة بفهم السَّلف الصالح، بخلاف غيرهم من المتكلِّمين الذين نصيبُهم من المالكي السلامة، فإنَّهم يُعوِّلون على العقول لا على النقول، وما دوَّنه أهلُ السنَّة في كتب العقائد مِمَّا عوَّلوا فيه على النصوص لا يُعجبُ المالكي؛ لأنَّه لا يريد ذكر أيِّ مسألة في العقيدة فيها مخالفة أهل السنَّة لأيِّ فرقة من فرق الضلال، بل يريد عقيدة تقتصر على الأخذ بأصول الإسلام الجامعة والابتعاد عن الجزئيات المفرِّقة، مع إعذار مَن اجتهد فأخطأ من سائر الطوائف الإسلامية، كما هو نصُّ كلامه من قراءته (ص: 28 ـ حاشية).
8 ـ قوله: "فنحن لا مع القرآن ولا مع السنَّة ولا مع فهم السلف الصالح!! وكلُّ ما عندنا من الأمور دعاوى نقنع بها العوام لا دليل عليها من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل ولا السلف الصالح وهم عندي المهاجرون والأنصار ومن كان على نهجهم فقط".
أقول: نعم! أنت ومعك الأربعة الذين ذكرتهم في آخر كتابك لستُم مع الكتاب والسنَّة، ولا مع فهم السَّلف الصالح، بل أنتم مع أهل البدع والأهواء، وكيف يكون مع الكتاب والسنَّة وفهم السلف الصالح مَن يقدح بالسَّلف الصالح؟! وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيزعم أنَّهم يُذادون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُؤخذون إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل هَمَل النَّعم، كما جاء ذلك في كتاب المالكي السيِّء عن الصحابة، والقدحُ في الصحابة قدحٌ في الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ القدحَ في الناقل قدحٌ في المنقول، وقد قال أبو زرعة الرازي ـ رحمه الله ـ كما في الكفاية للخطيب البغدادي(7/171)
ص -162- ... (ص: 49): "إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى، وهم زنادقةٌ".
وأمَّا أهل السنَّة الذين يتحدَّث عنهم المالكي وكأنَّه واحد منهم، فهم بريئون منه براءة الشمس من اللمس.
9 ـ قوله: "وهم ـ يعني السلف الصالح ـ عندي المهاجرون والأنصار، ومن كان على نهجهم فقط".
أقول: هذا من المالكي قصرٌ للصحابة على المهاجرين والأنصار ومَن كان على نهجهم فقط، ومن المعلوم أنَّ الهجرةَ انتهت بفتح مكة، فمَن أسلَم بعد الفتح وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من الصحابة عند المالكي، بل إنَّه أخرج من الصحبة الشرعيَّة كلَّ مَن أسلَم وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية، وهذا هو الذي قرَّره في كتابه السيِّء في الصحابة، ورددتُ عليه فيه بكتابي "الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، وذكرتُ فيه أنَّ ما زعمه من قصْر الصُّحبة الشرعية على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية هو من محدثات القرن الخامس عشر، وتأمَّل قوله هنا: "عندي"؛ فإنَّ ذلك يزيد في بيان اختصاصه بهذه البدعة، وأنَّه لَم يُسبق إليها طيلة القرون الماضية، ومن أجل أن يَسْلَم له مثل هذا الفهم الخاطئ الذي انفرد به، زعم أنَّ الأخذ بالكتاب والسنَّة بفهم السلف الصالح، زعم أنَّ ذلك بدعةٌ، نعوذ بالله من الخذلان.
10 ـ ما ذكره (ص: 180) عن أحمد بن حنبل وأبي حنيفة والشافعي ومالك والبربهاري من وجوب أن يخضعوا لمعيار القرآن وما صحَّ من السنَّة،(7/172)
ص -163- ... وأنَّهم تحت القرآن والسنَّة لا فوقها، وأنَّ هذا طريقُ وفهم السلف من الصحابة الكبار؛ إذ لم يكن عندهم أحدٌ فوق القرآن وما صحَّ من السنَّة.
أقول: هو كلام حقٍّ أُريد به باطل، وهو التشنيع والتهويل على أهل السنَّة بأنَّهم يجعلون الرِّجال فوق الكتاب والسنَّة، وهذا من أقبح الكذب وأشدِّ الإفك، فمَن من أهل السنَّة فهم هذا الفهم الخاطئ وقال هذه المقالةَ القبيحة، بل إنَّ أهل السنَّة هم المتمسِّكون بالكتاب والسنَّة، المقدِّمون لهما على قول كلِّ أحد، قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كما في كتاب الروح لابن القيم (ص: 396): "أجمع الناسُ على أنَّ مَن استبانت له سنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له أن يَدَعها لقول أحد".
وأمَّا غير أهل السنَّة من أهل البدع أسلاف المالكي فهم الذين يُعوِّلون على العقول ويتَّهمون النقول، فإن كان النقلُ آحاداً فهو عندهم ظنيُّ الثبوت فلا يُعوَّل عليه في أصول الدِّين، وإن كان قرآناً أو سنَّةً متواترةً ـ وهو لا يتفق مع أهوائهم الفاسدة ـ قالوا: قطعي الثبوت ظنيُّ الدلالة، فلا يُعوَّلُ عليه!!
11 ـ وقال في (ص: 179 ـ 180): "راجع المسائل السابقة التي في هذا الكتاب ثم فتِّش في سير الصحابة والتابعين وانظر مَن منهم فضَّل الآثار وأقوال الرجال على القرآن الكريم؟!
ومن منهم جعل المسلمَ شرًّا من اليهودي والنصراني؟!
ومن منهم كفَّر المسلمين؟!
ومن منهم تسمَّى بغير الإسلام؟!
ومن منهم زهَّد في كبائر الذنوب؟!
ومن منهم غلا في علمائهم وكبارهم؟!
ومن منهم أفتى باغتيال المخالفين له في الرأي؟!(7/173)
ص -164- ... ومن منهم شبَّه الله بخلقه؟!
ومن منهم ركَّز على الجزئيات وترك الأصول؟!
ومن ومن... إلخ".
والجواب: أنَّ هذا من المالكي اتِّهام لأهل السنَّة بهذه العظائم، وسبق له أن اتَّهمهم بأكثر من ذلك، ومرَّت الإجابة على بعض هذه الأمور التي ذكرها هنا، وبعضها لم تسبق الإجابة عليه، وفيما يلي الإجابة باختصار عنها:
ـ أمَّا زعم المالكي أنَّ الحنابلةَ وغيرَهم من أهل السنَّة يُفضِّلون الآثار وأقوال الرِّجال على القرآن الكريم، فهو قولٌ في غاية البطلان؛ لأنَّ أهل السنَّة وحدَهم هم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم الذين يُعظِّمون النصوصَ الشرعية ويُعوِّلون عليها، ويذكرون الآثار التي توافقها أو تبيِّنها، ولا يقولون بتقديم الآراء على النصوص؛ لأنَّ تقديمَ الآراء على النصوص شأنُ أهل البدع، الذين تعويلُهم على علم الكلام وأقوال الرِّجال، وليس على النصوص الشرعيّة.
ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يجعلون المسلمَ شرًّا من اليهودي والنصراني، فقد مرَّت الإجابة عن ذلك قريباً.
ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يُكفِّرون المسلمين، فهو زعمٌ في غاية البطلان؛ لأنَّ أهل السنَّة لا يُكفِّرون إلاَّ مَن كفَّره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل إنَّ أهل السنَّة يعتبرون الفرقَ الثنتين والسبعين التي جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّها في النار، يعتبرونهم مسلمين من أمَّة الإجابة، فكيف يزعم هذا الحاقدُ على أهل السنَّة أنَّهم يُكفِّرون المسلمين، وهذه عقيدتُهم في فرق الضلال المختلفة؟!
ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة تسمَّوا بغير الإسلام، حيث قالوا: إنَّهم أهل سنَّة، وإنَّهم على منهج السلف، وهذا من إفكه وتلبيسه، فهم متسمُّون(7/174)
ص -165- ... بالإسلام كما تسمَّى به غيرهم من المبتدعة، ولكنَّهم يتميَّزون عنهم بانتسابهم إلى السنَّة واتِّباع سلف الأمَّة، والإسلامُ يشمل أهل السنَّة وغيرهم من فرق الضلال التي لم تصل بدعُهم إلى الكفر، لكنَّهم يمتازون عنهم بنسبتهم إلى السنَّة واتِّباع سلف الأمَّة من الصحابة ومَن تبعهم بإحسان، فيُقال: مسلم سنِيٌّ، ومسلم بدعيٌّ.
ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يُزهِّدون في كبائر الذنوب، فهذا كذبٌ عليهم؛ لأنَّهم يُحذِّرون منها، ويعتبرون مَن وقع فيها مؤمناً ناقصَ الإيمان، فلا يصفونه بالإيمان المطلق كما هو شأن المرجئة، الذين يقولون: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ وذلك لتغليبهم جانبَ الوعد، ولا يَسلبون عنه مطلقَ الإيمان كما هو شأن الخوارج والمعتزلة؛ وذلك لتغليبهم جانبَ الوعيد، فأهل السنَّة يعملون بنصوص الوعد والوعيد معاً، ولا يهملون شيئاً منها، ويقولون عن مرتكب الكبيرة: مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وأمَّا في الآخرة فأمرُه إلى الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء عفى عنه، وإن حصل له العذاب فإنَّه يخرج من النار، ولا يخلد في النار إلاَّ الكفَّار الذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها.
ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يغلون في علمائهم وكبارهم، فهذا من تهويله وحقده على أهل السنَّة، والغلوُّ في العلماء والكبار هو ديدنُ أهل البدع، وخاصَّة الرافضة منهم، وأمَّا أهل السنَّة فإن وُجد من فرد أو أفراد مبالغة في أحد من علمائهم فلا يُسوِّغ ذلك نسبة الغلوِّ إلى أهل السنَّة عموماً.
ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يُفتون باغتيال المخالفين لهم في الرأي، فهذا من الكذب على أهل السنَّة؛ فإنَّ علماءهم لا يُفتون بقتل إلاَّ مَن كان مستحقًّا للقتل، ولعلَّ مرادَه في ذلك ما يتباكى عليه من قتل أئمَّة الضلال،(7/175)
ص -166- ... كالجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي وغيرهم، وقد زعم أنَّ قتلَهم كان سياسيًّا، ولم يكن من أجل بدعهم.
ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة يُشبِّهون اللهَ بخلقه، فهذا من أقبح ما افتراه على أهل السنَّة، فأهل السنَّة أثبتوا لله الصفات ولم يُشبِّهوه بالمخلوقات، فجمعوا بين الإثبات والتنزيه، كما جمع الله بينهما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، بخلاف المشبِّهة الذين أثبتوا وشبَّهوا، وبخلاف النفاة، فإنَّهم أرادوا التنزيه لكنَّهم عطَّلوا ولم يُنزِّهوا.
ـ وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة ركَّزوا على الجزئيات وتركوا الأصول، فهذا كذبٌ عليهم؛ فهم يُركِّزون على الكليَّات والجزئيات، ومستندهم في ذلك ما جاءت به نصوص الكتاب والسنَّة، وذلك بخلاف أهل البدع الذين يُعوِّلون على العقول وعلم الكلام في الكليَّات والجزئيات.
12 ـ قوله (ص: 180): "فالبربهاري وابن بطة عندنا من السلف بينما الصحابة ليسوا من السلف، ولو كانوا عندنا من السلف الصالح لما خالفناهم في فهم الإسلام وفي الأمور التي سبق شرحها".
أقول: السلفُ الصالح عند أهل السنَّة والجماعة هم الصحابة رضي الله عنهم ومَن سلك سبيلَهم، ومنهجُهم في العقيدة اتِّباعُ الكتاب والسنَّة بفهم السلف الصالح، والتقييد بفهمهم يُسمِّيه المالكي بدعة، وأهل السنَّة هم الذين يأخذون بنصوص الوحي وفقاً لفهم السلف من الصحابة ومَن تبعهم بإحسان، ولا يُخالفون الصحابة، بل الذين يخالفونهم هم أهل البدع الذين يُعوِّلون على علم الكلام، ولا يُعوِّلون على النصوص.
وقد ذكرتُ بين يدي شرحي مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني عشر فوائد في العقيدة، الفائدة الأولى: منهج أهل السنَّة والجماعة في العقيدة: اتِّباع(7/176)
ص -167- ... الكتاب والسنَّة على فهم السلف الصالح، وهذا يُسمِّيه المالكي بدعة، وأنا أوردُ هنا ما أثبتُّه هناك:
عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة مبنيَّةٌ على الدليل من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، قال الله عزَّ وجلَّ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقال: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وقال: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: "... فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) وغيرهما، وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وفي صحيح البخاري (7280) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله(7/177)
عليه وسلم قال: "كلُّ أمَّتِي يدخلون الجنَّة إلاَّ مَن أبى، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبَى؟ قال: مَن أطاعنِي دخل الجنَّة، ومَن عصانِي فقد أبَى".(7/178)
ص -168- ... وفي صحيح مسلم (767) عن جابر بن عبد الله: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "أمَّا بعد، فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالة".
وروى البخاري في صحيحه (1597)، ومسلم في صحيحه (1270) عن عابس بن ربيعة، عن عمر رضي الله عنه: "أنَّه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، فقال: إنِّي لأعلمُ أنَّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيتُ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُك ما قبَّلتُك".
وروى البخاري في صحيحه (2697)، ومسلم في صحيحه (1718) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ لمسلم: "مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ".
وما جاء في هذه الرواية أعمُّ من الأُولى؛ لأنَّها تشتمل على مَن كان مُحْدِثاً أو تابعاً لمحدث.
وروى الإمام أحمد (16937)، وأبو داود (4597) وغيرُهما - واللفظ لأحمد – عن معاوية رضي الله عنه قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أهلَ الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّةَ ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة يعني الأهواء، كلُّها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة".
وانظر تخريجه وشواهدَه في تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيره على هذا الحديث في حاشية المسند.
وروى البخاري في صحيحه (5063)، ومسلم في صحيحه (1401) عن أنس في حديث طويل، آخره: "فمَن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي".(7/179)
ص -169- ... وإنَّما كانت عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة مبنيَّةً على الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ ما يُعتقد هو من علم الغيب، ولا يُمكن معرفة ذلك إلاَّ بالوحي كتاباً وسنَّة.
وما جاء في الكتاب العزيز وثبت في السُنَّة فإنَّ العقلَ السليم يُوافقه ولا يُعارضه، ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – كتاب واسع اسمه: درء تعارض العقل والنقل.
والمعوَّل عليه في فهم النصوص ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء عنهم من الفهم الصائب والعلم النافع، وقد فهموا معاني ما خوطبوا به من صفات الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الكتاب والسُّنَّة بلغتهم، مع تفويضهم علم كيفياتها إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ هو سبحانه، كما جاء عن الإمام مالك بن أنس في بيان هذا المنهج الصحيح، حيث قال عندما سُئل عن كيفية الاستواء: "الاستواءُ معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
وقد أوضح ما كان عليه الصحابةُ في صفات الله عزَّ وجلَّ الشيخ أبو العباس أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة (845 هـ) في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (2/356)، فقال: "ذِكْرُ الحال في عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملَّة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية: اعلم أنَّ الله تعالى لَمَّا بعث من العرب نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الناس جميعاً وصف لهم ربَّهم سبحانه وتعالى بما وصف به نفسَه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلى الله عليه وسلم الروحُ الأمين، وبما أوحى إليه ربُّه تعالى، فلم يسأله صلى الله عليه وسلم أحدٌ من العرب بأسرهم قرَويُّهم وبَدويُّهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحجِّ وغير ذلك مِمَّا لله(7/180)
ص -170- ... فيه سبحانه أمرٌ ونهيٌ، وكما سألوه صلى الله عليه وسلم عن أحوال القيامة والجنَّة والنار؛ إذ لو سأله إنسانٌ منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنُقل كما نُقلت الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب وأحوال القيامة والملاحم والفتن ونحو ذلك مِمَّا تضمَّنته كتبُ الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومَن أمعن النَّظر في دواوين الحديث النَّبوي ووقف على الآثار السلفية، عَلِم أنَّه لَم يَرد قطُّ من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ـ على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم ـ أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مِمَّا وصف الربُّ سبحانه به نفسَه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، بل كلُّهم فهموا معنى ذلك، وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم! ولا فرَّق أحدٌ منهم بين كونها صفةَ ذات أو صفةَ فعل، وإنَّما أثبتوا له تعالى صفات أزليَّة: من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقاً واحداً، وهكذا أثبتوا – رضي الله عنهم – ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة: من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا ـ رضي الله عنهم ـ بلا تشبيه، ونزَّهوا من غير تعطيل، ولم يتعرَّض مع ذلك أحدٌ منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدلُّ به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله، ولا عرف أحدٌ منهم شيئاً من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصرُ الصحابة رضي الله عنهم على هذا، إلى أن حدث في زمنهم القولُ بالقدر، وأنَّ الأمرَ أنفة، أي: أنَّ الله تعالى لم يُقدِّر على خلقه شيئاً مِمَّا هم عليه...".(7/181)
ص -171- ... وهذا الذي أوضحه المقريزي هو ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الفرق المختلفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية الذي مرَّ ذكرُه قريباً: "فإنَّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وليس من المعقول أن يُقال في شيء من مذاهب هذه الفرق المختلفة في العقيدة التي حدثت في أواخر عهد الصحابة وبعده، كالقدرية والمرجئة والأشاعرة وغيرها، ليس من المعقول أن يُقال في شيء من ذلك: إنَّه الحقُّ والصواب، بل الحقّ الذي لا شكَّ فيه هو ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان شيء من هذه المذاهب حقًّا لسبقوا إليه رضي الله عنهم وأرضاهم، فلا يُعقل أن يُحجب حقٌّ عن الصحابة ويُدَّخر لأناس يجيئون بعدهم، قال إبراهيم النخعي كما في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/97): "لَم يُدخَّر لكم شيءٌ خُبِّئَ من القوم لفضل عندكم".
وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} كلاماً نفيساً لأبي المظفر السمعاني، فقال (13/507): "واستدلَّ أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلِّمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجَوهر وعرض، قالوا فالجسمُ ما اجتمع من الافتراق والجوهر ما حمل العرض، والعرض ما لا يَقوم بنفسه، وجعلوا الرُّوح من الأعراض، وردُّوا الأخبارَ في خَلق الرُّوح قبل الجسد والعقل قبل الخلق، واعتمدوا على حَدْسهم وما يؤدِّي إليه نظرُهم، ثم يَعرضون عليه النصوصَ فما وافقه قبلوه وما خالفه ردُّوه، ثمَّ ساق هذه الآيات ونظائرَها من الأمر بالتبليغ، قال:(7/182)
ص -172- ... وكان مِمَّا أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصلُ ما أمرَ به فلم يترك شيئاً من أمور الدِّين أصولَه وقواعدَه وشرائعَه إلاَّ بلَّغه، ثمَّ لَم يَدْعُ إلى الاستدلال بما تَمسَّكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرفٌ واحدٌ فما فوقه، فعُرف بذلك أنَّهم ذهبوا خلافَ مذهبهم وسلكوا غيرَ سبيلهم بطريق مُحدَث مُخترَع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابُه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العودُ على السلف بالطعن والقَدْح، ونسبتهم إلى قلَّة المعرفة واشتباه الطرق، فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم؛ فإنَّها سريعةُ التهافت كثيرةُ التناقض، وما من كلام تَسمعه لفرقة منهم إلاَّ وتَجدُ لخصومهم عليه كلاماً يوازنه أو يقاربه، فكلٌّ بكلٍّ مقابل، وبعضٌ ببعضٍ مُعارَض، وحسبُك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنَّا إذا جَرينا على ما قالوه وألزمنا الناسَ بما ذكروه لزِم مِن ذلك تكفيرُ العوَام جميعاً؛ لأنَّهم لا يعرفون إلاَّ الاتِّباعَ المجرَّد، ولو عُرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرُهم فضلاً عن أن يصير منهم صاحب نظر، وإنَّما غاية توحيدهم التزامُ ما وجدوا عليه أئمَّتَهم في عقائد الدِّين والعضُّ عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوبٍ سليمة طاهرة عن الشُّبَه والشكوك، فتراهم لا يَحيدون عما اعتقدوه ولو قُطِّعوا إرَباً إرَباً، فهنيئاً لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة، فإذا كُفِّر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمَّة، فما هذا إلاَّ طَيُّ بِساط الإسلام وهدمُ مَنَار الدِّين، والله المستعان".
وما جاء في كلام أبي المظفر من ذِكر خلق العقل فيه نظر؛ قال ابن القيم في كتابه المنار المنيف (ص: 50): "ونحن ننبِّه على أمور كليَّة يُعرف بها كون الحديث موضوعاً" إلى أن قال (ص: 66): "ومنها أحاديث العقل، كلُّها(7/183)
ص -173- ... كذب... وقال أبو الفتح الأزدي: لا يصحُّ في العقل حديث، قاله أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم ابن حبان، والله أعلم".
وقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري نقولاً عن جماعة من السلف في إثبات الصفات من غير تشبيه أو تحريف أو تعطيل، وختم ذلك بكلام نفيس له، ومِمَّا قاله (13/407 – 408): "وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبةُ وحماد بنُ زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدِّدون ولا يشبِّهون، ويروُون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود: وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرُنا.
وأسند اللاَّلكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلُّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقاتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرَّبِّ من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسَّر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عمَّا كان عليه النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه وفارق الجماعةَ؛ لأنه وَصفَ الرَّبَّ بصفَة لا شيء.
ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيَّ ومالكاً والثوريَّ والليث ابنَ سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة؟ فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف.
وأخرج ابنُ أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى: سمعتُ الشافعيَّ يقول: لله أسماء وصفاتٌ، لا يَسَع أحداً رَدُّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحجَّة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحجة فإنَّه يُعذر بالجهل؛ لأنَّ عِلمَ ذلك لا يُدرَك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنثبتُ هذه الصفات، ونَنفي عنه التشبيهَ، كما نفَى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.(7/184)
ص -174- ... وأسند البيهقيُّ بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري، عن سفيان بن عيينة قال: كلُّ ما وَصف الله به نفسَه في كتابه فتفسيرُه تلاوتُه والسكوتُ عنه.
ومن طريق أبي بكر الضُّبَعي قال: مذهبُ أهل السنة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: بلا كيف، والآثارُ فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل.
وقال الترمذي في الجامع عَقب حديث أبي هريرة في النُزول: وهو على العرش كما وصفَ به نفسه في كتابه، كذا قال غيرُ واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات.
وقال في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتَوهَّم، ولا يُقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عُيينة وابن المبارك أنَّهم أَمَرُّوها بلا كيف، وهذا قولُ أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأمَّا الجهميَّةُ فأنكروها، وقالوا هذا تشبيهٌ. وقال إسحاق بن راهويه: إنَّما يكون التشبيهُ لو قيل يدٌ كيَدٍ، وسَمعٌ كسمعٍ.
وقال في تفسير المائدة: قال الأئمةُ: نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم: الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك.
وقال ابن عبد البر: أهلُ السُّنَّة مُجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ولم يُكَيِّفوا شيئاً منها، وأمَّا الجهميَّةُ والمعتزلةُ والخوارجُ فقالوا: مَن أقرَّ بها فهو مشبِّهٌ، فسمَّاهم مَن أقَرَّ بها مُعَطِّلةً.
وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلفت مسالكُ العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضُهم تأويلَها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يَصحُّ من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويضِ معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأياً ونَدين الله به(7/185)
ص -175- ... عقيدةً اتِّباع سلف الأمَّة؛ للدَّليل القاطع على أنَّ إجماعَ الأمَّة حُجةٌ، فلو كان تأويلُ هذه الظواهر حتماً لأوشكَ أن يكون اهتمامُهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرُ الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتَّبَع. انتهى.
وقد تقدَّم النقلُ عن أهل العصر الثالث وهم فقهاءُ الأمصار، كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومَن عاصرهم، وكذا مَن أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يُوثَق بما اتَّفق عليه أهلُ القرون الثلاثة، وهم خيرُ القرون بشهادة صاحبِ الشريعة".
وما جاء في كلام الجوينِي من أنَّ السَّلف يُفوِّضون معاني الصفات إلى الله عزَّ وجلَّ غير صحيح؛ فإنَّهم يُفوِّضون في الكيف، ولا يُفوِّضون في المعنى، كما جاء عن مالك رحمه الله، فقد سُئل عن كيفية الاستواء؟ فقال: "الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
28 ـ زعمه أنَّ تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية تقسيمٌ مبتدَع، والردُّ عليه
أورد المالكي في (ص: 116) عنواناً بلفظ: "التكفير عند ابن تيمية"، قال فيه: "إنَّ التأصيل للتكفير موجود في كلامه عندما بالغ في التفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فهوَّن من شأن الأول، وبالغ في شأن الثاني، والتفريق نفسه تفريق مبتَدَع، ليس في كتاب الله ولا سنَّة رسوله، ولم يَقُل بهذا التفريق أحدٌ من الصحابة ولا التابعين؛ فالتوحيد شأنه واحد، وهذا التفريق هو الذي جعل مقلِّدي ابن تيمية يزعمون أنَّ الله لم يبعث الرسل إلاَّ(7/186)
ص -176- ... من أجل توحيد الألوهية، أمَّا توحيد الربوبية فقد أقرَّ به الكفار، ونسوا أنَّ فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وأنَّ صاحب إبراهيم قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، فضلاً عن سائر الملحدين في الماضي والحاضر، وغير ذلك مِمَّا يؤكِّد أنَّ الرسلَ بُعثوا للإقرار بوجود الإله وربوبيَّته واستحقاقه للعبادة، وبُعثوا بسائر أنواع العبادة والأخلاق وتحريم المحرَّمات وغير ذلك.
أقول: وهذا التفريق والاستنتاجات السابقة جرَّأت مقلِّدي ابن تيمية ـ رحمه الله وسامحه ـ على تكفير المسلمين الذين حصل لهم خطأ في الاعتقاد، وكان الأولى أن يُخطَّؤوا أو يُبدَّعوا إن ثبت عليهم ذلك، لا أن يُتَّهموا بالشرك وهم قائمون بأركان الإسلام وأركان الإيمان، بل جرَّت الخصومةُ ابنَ تيمية لإطلاق عبارات فهم منها تكفيره لسائر المتكلِّمين من المسلمين وسائر المخالفين له في الرأي من الفرق الإسلامية، والغريب أنَّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يدعو لهجر الكلام والفلسفة وعرض الدِّين من النصوص الشرعية، بينما هو هنا يأتي بشيء لم يُؤثر في كتاب الله ولا سنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الناس إلى الشهادَتين ونبذ عبادة الأوثان وتأدية أركان الإسلام كما في حديث معاذ بن جبل في بعثه إلى اليمن، وغير ذلك من الأدلة الكثيرة الوفيرة التي لم نجد فيها هذا التقسيم المبتدَع!!!".
وأجيب على ذلك بما يلي:
1 ـ لم يورد المالكي تحت هذا العنوان"التكفير عند ابن تيمية" نقولاً عن ابن تيمية في التكفير، بل أطلق اتِّهامه في ذلك، ودندن على التشنيع بتقسيم التوحيد عند أهل السنَّة إلى توحيد ربوبية وألوهية، وزعم أنَّ هذا(7/187)
ص -177- ... التقسيم جرَّأ مقلِّدي ابن تيمية على تكفير المسلمين، وكلُّ ما أورده يدلُّ على الحقد الشديد على أهل السنَّة في كلِّ شيء تميَّزوا به عن أهل البدع والضلال.
2 ـ تقسيم التوحيد إلى ربوبيَّة وألوهية جاء في القرآن الكريم في آيات كثيرة، فيها بيان أنَّ الكفَّار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقرُّون بتوحيد الربوبية، ومنكرون لتوحيد الألوهيَّة، ويُقرِّر الله في هذه الآيات توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفار؛ لإلزامهم بتوحيد الألوهية الذي جحدوه، ومن هذه الآيات قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فبدأها بالأمر بعبادة الله، وختمها بالنهي عن الشرك، وقرَّر فيما بين ذلك توحيد الربوبية؛ لبيان أنَّ مَن تفرَّد بالخلق والإيجاد وإنزال المطر وإخراج الرزق من الأرض هو المستحقُّ لأَنْ يُعبد وحده لا شريك له، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ(7/188)
اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}، وقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ(7/189)
ص -178- ... وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
3 ـ قوله: "وهذا التفريق هو الذي جعل مقلِّدي ابن تيمية يزعمون أنَّ الله لم يبعث الرسل إلاَّ من أجل توحيد الألوهية، أمَّا توحيد الربوبية فقد أقرَّ به الكفار!!".
أقول: إنَّ بَعْثَ الله الرسل وإنزاله الكتب جاء في القرآن أنَّ ذلك لعبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، وقد جاءت الآيات في ذلك على سبيل الإجمال والتفصيل، أمَّا الإجمال ففي مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
ومن الآيات التي فيها التفصيل قوله تعالى في الأعراف عن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ(7/190)
إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وقوله عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وقوله عن صالح: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وقوله عن شعيب: {وَإِلَى مَدْيَنَ(7/191)
ص -179- ... أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وقال تعالى في سورة هود: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، وقال عن كلٍّ من هود وصالح وشعيب أنَّه قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وقال في سورة الشعراء عن كلٍّ من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أنَّهم قالوا لأقوامهم: {أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}، وقال تعالى في سورة العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
فهذه الآيات كلُّها تدلُّ على أنَّ الرسلَ إنَّما بُعثوا لأمر أقوامهم بعبادة الله وحده دون مَن سواه، وعلى هذا فأهل السنة جعلوا عنايتهم واهتمامهم بما اعتنى به الرسل وبلَّغوه لأقوامهم، وهذا بخلاف غيرهم من أهل البدع، الذين جعلوا عنايتهم بتقرير توحيد الربوبية والاشتغال بالاستدلال على وجود الله وإهمال بيان توحيد الألوهيَّة والتحذير من الشِّرك، مِمَّا ترتَّب على ذلك افتتان كثير من المسلمين بالاستغاثة بغير الله ودعائه والذبح له، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفُها لغير الله سبحانه، ومَن حصل منه ذلك وبلغته الحجَّة ولم يَتُب منه فهو مشركٌ بالله، وهذا هو الشركُ الذي بعث اللهُ الرسلَ لدعوة أقوامهم إلى تركه، أمَّا توحيد الربوبية فإنَّ الآيات الكريمة التي مرَّ ذكرُها تدلُّ على اعترافهم به، ولم يَقُل أحدٌ منهم: إنَّه مشاركٌ لله عزَّ وجلَّ في الخلق والإيجاد.
4 ـ قوله: "ونسوا أنَّ فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}، وقوله: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وأنَّ صاحب إبراهيم(7/192)
ص -180- ... قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، فضلاً عن سائر الملحدين في الماضي والحاضر، وغير ذلك مِمَّا يؤكِّد أنَّ الرسلَ بُعثوا للإقرار بوجود الإله وربوبيَّته واستحقاقه للعبادة، وبُعثوا بسائر أنواع العبادة والأخلاق وتحريم المحرَّمات وغير ذلك!!".
أقول: لَم ينسَ أهلُ السنَّة ما ذكره الله عن فرعون ومَن حاجَّ إبراهيم في ربِّه؛ لأنَّهما مثالان من شواذ الخلق، ولم يذكر الله عن رسله أنَّهم أمروا أقوامَهم بأن يُقرُّوا بوجود الله وربوبيَّته للعالَمين، بل إنَّما أمروهم بعبادة الله وحده، كما هو واضح من الآيات المتقدِّمة؛ وذلك لأنَّ الكفَّار الذين بُعثوا فيهم إمَّا مقرُّون بربوبية الله، وإمَّا منكرون لها علوًّا واستكباراً، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}، وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينََ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}، وعدم إقرار فرعون بربوبية الله هو من قبيل تجاهل العارف، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ(7/193)
مَثْبُوراً}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا(7/194)
ص -181- ... مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
5 ـ أقسام التوحيد عند أهل السنَّة ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فتوحيد الألوهية: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر وغيرها من أنواع العبادة، كلُّها يجب على العباد أن يخصُّوا الله تعالى بها، وأن لا يجعلوا له فيها شريكاً.
وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله، كالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة والتصرف في الكون، وغير ذلك من أفعال الله التي هو مختصٌّ بها، لا شريك له فيها.
وتوحيد الأسماء والصفات: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكمال الله وجلاله، من غير تمثيل أو تكييف، ومن غير تحريف أو تعطيل.
وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عُرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسنَّة، ويتَّضح ذلك بأوَّل سورة في القرآن وآخر سورة؛ فإنَّ كلاًّ منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة.
فأمَّا سورة الفاتحة، فإنَّ الآيةَ الأولى منها، وهي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مشتملةٌ على هذه الأنواع، فإنَّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيها توحيد الألوهية؛ لأنَّ إضافةَ الحمد إليه من العباد عبادةٌ، وفي {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إثباتُ توحيد الربوبيَّة، والعالَمون هم كلُّ مَن سوى الله؛ فإنَّه ليس في الوجود إلاَّ خالق ومخلوق، والله الخالق وكلُّ مَن سواه مخلوق، و(الله) و(الربُّ) اسمان لله.(7/195)
ص -182- ... وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مشتملٌ على توحيد الأسماء والصفات، و{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان من أسماء الله يدلاَّن على صفة من صفات الله، وهي الرحمة، وأسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، وليس فيها اسمٌ جامد، وكلُّ اسم من الأسماء يدلُّ على صفة من صفاته.
وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه إثبات توحيد الربوبية.
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إثبات توحيد الألوهية.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فيه إثبات توحيد الألوهية.
وأمَّا سورة الناس فقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذة بالله من توحيد الألوهية.
و{بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عزَّ وجلَّ في أول سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه إثبات الربوبية والأسماء والصفات.
و{إِلَهِ النَّاسِ} فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات.
وللابن عبد الرزاق ـ حفظه الله ووفقه لكلِّ خير ـ في ذلك رسالة مفيدة بعنوان: "القول السديد في الردِّ على من أنكر تقسيم التوحيد".(7/196)
ص -183- ... 29 ـ تشنيعه على الإمام أحمد في مسألة التكفير، والردُّ عليه
سوَّد المالكي عدَّة صفحات في التشنيع على الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فيما نُقل عنه من تكفير مَن قال بخلق القرآن، وقال في (ص: 109 ـ حاشية) معلِّلاً هذا التكفير: "خروج أحمد منتصراً من السجن بعد أن ظُلم من المعتزلة وسلطتهم، وكان لنشوة الانتصار والغضب على الخصوم أثر على حدَّة الإمام في التكفير والتبديع... وللأسف أنَّ أغلب المنتصرين لا يتحكمون في عواطفهم، خصوصاً إذا كانت الدولة والعامة معهم، فالقلائل من عقلاء الناس يتحكمون في خصوماتهم حتى لا تخرج عن الشرع!!".
وهذا منه اتِّهام للإمام أحمد بأنَّ المنقولَ عنه في تكفير مَن قال بخلق القرآن ناتجٌ عن الحدَّة والغضب والعاطفة دون مراعاة لحدود الشرع، ومع هذا الاتِّهام يزعم زوراً أنَّه حنبليٌّ نسبة للإمام أحمد، وهو لَم يَأْلُ جهداً في التشنيع عليه وعلى الحنابلة من بعده، وكأنَّه لَم ير أحداً من العلماء نُقل عنه تكفير من قال بخلق القرآن إلاَّ الإمام أحمد، وقد اطَّلع المالكي ـ وهو ينقِّب عن مثالب لأهل السنة ليشنِّع بها عليهم ـ على كتاب شرح السنة للاَّلكائي، وهو مشتملٌ على ذكر المئات من أهل العلم، نَقل عنهم القولَ بأنَّ القرآن كلامُ الله غير مخلوق، وأكثرهم نقل عنه القول بتكفير من قال بخلق القرآن، وذلك فيما يقرب من مائة صفحة من (2/227 إلى 312)، ومنهم الأئمَّة مالك والشافعي والبخاري وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح والأوزاعي والليث بن سعد ويحيى بن يحيى النيسابوري وعبد الله بن المبارك وأبو عبيد القاسم بن سلام، وقال في (ص: 312): "فهؤلاء خمس مائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمَّة المرضيِّين، سوى الصحابة الخيِّرين، على اختلاف الأعصار ومضيِّ السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام، مِمَّن(7/197)
ص -184- ... أخذ الناسُ بقولهم وتديَّنوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول المحدِّثين لبلغت أسماؤهم ألوفاً كثيرة، لكنِّي اختصرتُ وحذفتُ الأسانيد للاختصار، ونقلتُ عن هؤلاء عصراً بعد عصر، لا يُنكر عليهم منكر، ومَن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه".
أقول: هذا العدد الكبير من العلماء الذين سمَّاهم اللالكائي وهم بالمئات، والذين أشار إليهم ولم يذكر أسماءَهم وهم بالألوف هم أهل العلم بالكتاب والسنَّة، وهم أهل الحقِّ والهدى، فمَن العلماء غيرهم؟ وماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال؟
30 ـ رميه أهل السنَّة بالنَّصب وزعمه أنَّ ابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير نواصب، والردُّ عليه
سوَّد عدَّةَ أوراق في رمي أهل السنَّة بالنَّصب، وتسمية جماعات منهم، ثم قال (ص: 64 ـ 65): "ثم جاء بعد هؤلاء آل تيمية بحرَّان، ثم دمشق، وابن كثير ـ رحمه الله ـ كان فيه نصب إلى حدٍّ كبير، والذهبي إلى حدٍّ ما، أما ابن تيمية إلى حدٍّ لا يُنكره باحث منصف، فاشتهر عنه النصب، وكُتبه تشهد بذلك، ولذلك حاكمه علماء عصره على جملة أمور، منها بغض علي، ولم يُحاكموا غيره من الحنابلة، مع أنَّ فيهم نصباً ورثوه عن ابن بطة وابن حامد والبربهاري وابن أبي يعلى وغيرهم.
والتيار الشامي العثماني له أثر بالغ على الحياة العلمية عندنا في الخليج، وهذا من أسرار حساسيتنا من الثناء على الإمام علي أو الحسين، وميلنا الشديد لبني أميَّة، فتنبَّه!!(7/198)
ص -185- ... والنواصب لهم أقوال عجيبة كعجائب غلاة الشيعة، فمنهم من كان ينشد الأشعار التي قيلت في هجاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يلعن عليًّا وهم الأكثر، ومنهم من يتَّهم عليًّا بمحاولة اغتيال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يحرِّف الأحاديث في فضله إلى ذمٍّ، وغير ذلك مِمَّا لا أستحل ذكره هنا، والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها مَن يذمُّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه!!".
وقال في (ص: 176): "ثم تتابع علماء الشام كابن تيمية وابن كثير وابن القيم ـ وأشدُّهم ابن تيمية ـ على التوجس من فضائل علي وأهل بيته، وتضعيف الأحاديث الصحيحة في فضلهم، مع المبالغة في مدح غيرهم!!
وعلماء الشام ـ مع فضلهم ـ بشرٌُ لا ينجون من تأثير البيئة الشامية التي كانت أقوى من محاولات الإنصاف، خاصة مع استئناس هؤلاء بالتراث الحنبلي الذي خلفه لهم ابن حامد وابن بطة والبربهاري وعبد الله بن أحمد والخلال وأبو بكر ابن أبي داود!!".
وأجيب على ذلك بما يلي:
1 ـ النواصب عند أهل السنَّة هم الذين ينالون من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويُؤذونهم، والنواصب عند المالكي وأسلافه من الرافضة هم الذين لا يغلون في عليٍّ وزوجه فاطمة وبعض أولاده، وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية عقيدة أهل السنَّة في أهل البيت وبراءتهم من طريقة الروافض والنواصب، فقال في العقيدة الواسطية: "ويُحبُّون (يعني أهل السنَّة والجماعة) أهلَ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولَّونهم، ويحفظون فيهم وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي"..." إلى أن قال: "ويتبرَّؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة(7/199)
ص -186- ... ويَسبُّونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل"، وقد أوردتُ نقولاً كثيرة عن الصحابة ومَن سار على نهجهم في بيان فضل أهل البيت وتوقيرهم، وذلك في كتابي: "فضل أهل البيت وعلوِّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة".
2 ـ أمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له نصيب كبير من حقد المالكي، والذي زعم زوراً أنَّه يُبغض عليًّا رضي الله عنه، فله كتاب"فضل أهل البيت وحقوقهم"، وهو مطبوع، وقد أثنى على عليٍّ وأهلِ البيت في كُتبه، ومن ذلك قوله في منهاج السنة (6/178): "وعلي رضي الله عنه ما زالا ـ أي أبو بكر وعمر ـ مُكرِمَيْن له غاية الإكرام بكلِّ طريق، مقدِّمين له بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء، مُقدِّمَين له في المرتبة والحرمة والمحبَّة والموالاة والثناء والتعظيم، كما يفعلان بنظرائه، ويفضِّلانه بما فضَّله الله عزَّ وجلَّ به على من ليس مثله، ولم يُعرف عنهما كلمة سوء في عليٍّ قطُّ، بل ولا في أحد من بني هاشم" إلى أن قال: "وكذلك عليٌّ رضي الله عنه، قد تواتر عنه من محبَّتهما وموالاتهما وتعظيمهما على سائر الأمَّة ما يُعلم به حاله في ذلك، ولم يُعرف عنه قطُّ كلمة سوء في حقِّهما، ولا أنَّه كان أحقَّ بالأمر منهما، وهذا معروف عند مَن عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصّة والعامة، والمنقولة بأخبار الثقات".
وقال أيضاً (6/18): "وأمَّا علي رضي الله عنه، فأهل السنَّة يُحبُّونه ويتولَّونه، ويشهدون بأنَّه من الخلفاء الراشدين والأئمَّة المهديين".
وقال أيضاً في الوصية الكبرى كما في مجموع فتاواه (3/407 ـ 408):
((وكذلك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإنَّ الله جعل لهم حقًّا في الخُمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على(7/200)
ص -187- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا: (قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد)، وآل محمد هم الذين حرُمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء رحمهم الله؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الصدقة لا تحلُّ لمحمد ولا لآل محمد"، وقد قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، وحرَّم الله عليهم الصدقة؛ لأنَّها أوساخ الناس"، وقال أيضاً كما في مجموع فتاواه (28/491): "وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب محبَّتُهم وموالاتهم ورعاية حقِّهم".
3 ـ وأمَّا الإمام الذهبي فقد أثنى على عليٍّ رضي الله عنه ثناءً عظيماً، وألَّف في مناقبه كتاباً خاصًّا، قال في كتابه تذكرة الحفاظ (1/9): "علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي، قاضي الأئمَّة وفارس الإسلام وختن المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان مِمَّن سبق إلى الإسلام ولم يتلعثم، وجاهد في الله حقَّ جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجنَّة، وقال: "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه"، وقال له: "أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي"، وقال: "لا يحبُّك إلاَّ مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق"، ومناقب هذا الإمام جَمَّة أفردتُها في مجلد، وسمَّيته بـ (فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، وكان إماماً عالماً متحريًّا في الأخذ، بحيث إنَّه يستحلف مَن يحدِّثه بالحديث".
4 ـ وأمَّا الإمام ابن القيم فقد قال في بيان منزلة أهل البيت في كتابه الصواعق المرسلة كما في مختصره لابن الموصلي (1/90) في بيان أسباب قبول التأويل الفاسد: "السبب الثالث: أن يَعْزُو(7/201)
المتأوِّلُ تأويلَه إلى جليلِ(7/202)
ص -188- ... القَدْر، نبيلِ الذِّكر، مِن العقلاء، أو مِن آل بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو مَن حصل له في الأمَّة ثناءٌ جميل ولسانُ صِدق؛ ليُحلِّيه بذلك في قلوب الجُهَّال، فإنَّه من شأن الناسِ تعظيمُ كلامِ مَن يَعظُمُ قدْرُه في نفوسهم، حتى إنَّهم لَيُقدِّمون كلامَه على كلام الله ورسوله، ويقولون: هو أعلمُ بالله منَّا!
وبهذا الطريق توصَّل الرافضةُ والباطنيَّةُ والإسماعليَّةُ والنُّصيريَّة إلى تنفيقِ باطلهم وتأويلاتِهم حين أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا علموا أنَّ المسلمين متَّفقون على مَحبَّتِهم وتعظيمِهم، فانتمَوا إليهم وأظهروا مِن مَحبَّتِهم وإجلالهم وذِكر مناقبهم ما خُيِّل إلى السَّامع أنَّهم أولياؤهم، ثم نفقوا باطلَهم بنسبتِه إليهم.
فلا إله إلاَّ الله! كم مِن زندقَةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ قد نفقت في الوجود بسبب ذلك، وهم بُرآءُ منها.
وإذا تأمَّلتَ هذا السَّببَ رأيتَه هو الغالب على أكثر النفوس، فليس معهم سوى إحسان الظنِّ بالقائل، بلا بُرهان من الله قادَهم إلى ذلك، وهذا ميراثٌ بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرُّسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، وهذا شأنُ كلِّ مقلِّدٍ لِمَن يعظمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة".
5 ـ وأمَّا الإمام ابن كثير، فقد قال في تفسيره لآية الشورى بعد أن بيَّن أنَّ الصحيح تفسيرها بأنَّ المرادَ بـ{الْقُرْبَى} بطون قريش، كما جاء ذلك في تفسير ابن عباس للآية في صحيح البخاري، قال رحمه الله: "ولا نُنكرُ الوُصاةَ بأهل البيت والأمرَ بالإحسان إليهم واحترامِهم وإكرامِهم؛ فإنَّهم من ذريَّةٍ طاهرَةٍ، مِن أشرف بيتٍ وُجِد على وجه الأرض، فخراً وحسَباً ونَسَباً، ولا سيما إذا كانوا متَّبعين للسُّنَّة النَّبويَّة الصحيحة الواضحة الجليَّة، كما كان سلفُهم، كالعباس وبنيه، وعليٍّ وأهل بيته وذريَّتِه، رضي الله عنهم أجمعين".(7/203)
ص -189- ... وبعد أن أورد أثرَين عن أبي بكر رضي الله عنه، وأثراً عن عمر رضي الله عنه في توقير أهل البيت وبيان علوِّ مكانتِهم، قال: "فحالُ الشيخين رضي الله عنهما هو الواجبُ على كلِّ أحدٍ أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضلَ المؤمنين بعد النَّبيِّين والمرسَلين، رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين".
6 ـ قوله: "والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها مَن يذمُّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه!!".
أقول: أهل السنَّة لم يسكتوا عن المالكي الذي ذمَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنَّهم يُذادون عن الحوض ويُؤمر بهم إلى النار، ولا ينجو منهم إلاَّ القليل مثل همَل النعم، فكيف يسكتون عمَّن يذمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب"الصارم المسلول على شاتم الرسول" صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا ما زعمه أنَّ من النواصب مَن يتَّهم عليًّا بمحاولة اغتيال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ منهم من ينشد الأشعار في هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من أسوأ هذيان المالكي، والعجيب أنَّه لم يحمله الحياء على ترك التفوه بهذا الإفك المبين.
وأمَّا زعمه أنَّ أهل السنَّة في الخليج في هذا العصر عندهم حساسية من الثناء على عليٍّ والحسين رضي الله عنهما، فهو من أقبح الكذب وأبطل الباطل؛ فإنَّ أهل السنَّة في هذه البلاد يُعظِّمون عليًّا رضي الله عنه وغيرَه من أهل البيت ويتوَلَّونهم جميعاً، فلا يغلون في أحد منهم ولا يجفون في أحد.
وأهل السنَّة في هذه البلاد بخير، ولا يسوؤهم ويكدر صفوهم إلاَّ وجود المالكي وأمثاله من أهل الزيغ والضلال بينهم.(7/204)
ص -190- ... 31 ـ استشهاده لباطله بكلام لعَمرو بن مُرَّة ومحمد بن إبراهيم الوزير والمقبلي والصنعاني والقاسمي، والردُّ عليه
أورد في نهاية قراءته المزعومة في كتب العقائد ملحقاً بعنوان: "ملحق بأقوال بعض العلماء والباحثين قديماً وحديثاً"، قال فيه: "هذا الملحق خاصٌّ ببعض الأقوال لبعض العلماء والمهتمين في الماضي والحاضر، أحببت إيرادها هنا لتعلقها بالموضوع، ولم أشأ أن أتوسَّع في ذكر النماذج، وإلاَّ فهي كثيرة والحمد لله، لكن سأختار ما يتفق مع المنهج الذي طرحته في هذا الكتاب أو كان قريباً من ذلك، وقد اكتشفت بأنَّ هذا المنهج ـ الذي يرجع للكتاب والسنَّة ولا يتعصَّب للطوائف الأخرى أو على الأقل يحاول الإنصاف ـ كثير طرقه عند علماء المسلمين وباحثيهم، سنذكر منهم على سبيل المثال بعض النماذج!!".
ثم ذكر خمسة من العلماء مضوا، وهم عمرو بن مرَّة المتوفى سنة (118هـ)، ومحمد بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (840هـ)، وصالح بن مهدي المقبلي المتوفى سنة (1108هـ)، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة (1182هـ)، ومحمد جمال الدين القاسمي المتوفى سنة (1332هـ)، أراد بذكرهم الاستشهاد على ما زعمه من الاكتفاء بإسلام لا مجال فيه للحبِّ في الله والبغض في الله، ولا يُتعرَّض فيه لأمور العقيدة، ولا للتحذير من البدع، ويُكتفى فيه بإسلام جملي، مع الواجبات الظاهرة والمحرَّمات الظاهرة، وقد زعم أنَّ العلماء على هذه الطريقة كثيرون، ولكنَّه اختار منهم هؤلاء، ولا شكَّ أنَّه متكثِّر بهذا العدد القليل من قلَّة، وأنَّ إشارتَه إلى كثرتهم هي من قَبيل التهويل والتلبيس، وإلاَّ فكيف لم يظفر خلال الثمانية القرون الأولى إلاَّ(7/205)
ص -191- ... بشخص واحد، وهو عمرو بن مرة، مع أنَّ الأثر الذي أضافه إليه لم يثبت، كما سأبيِّنه قريباً.
وكذلك الأربعة الباقون، سأذكر من كلامهم ما يوضِّح أنَّهم في واد وهو في واد آخر، وأنَّهم يبيِّنون الحقَّ في العقيدة، ولا يكتفون بالإيمان الجملي المزعوم، الذي لا يُتعرَّضُ معه لمباحث العقيدة.
فأمَّا عمرو بن مرَّة، فقد أورد عنه أثراً من كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، لمحمد بن أحمد بن أبي بكر البناء البشاري المتوفى سنة (375هـ)، وهو بإسناده إلى مسعر بن كدام، قال: "ما أدركت من الناس من له عقلٌ كعقل ابن مرة، جاءه رجلٌ، فقال: عافاك الله، جئتُ مسترشداً، إنَّني رجلٌ دخلت في جميع هذه الأهواء، فما أدخل في هوى منها إلاَّ القرآن أدخلني فيه، ولم أخرج من هوى إلاَّ القرآن أخرجني منه، حتى بقيتُ ليس في يدي شيء؟
قال: فقال له عمرو بن مرة: الله الذي لا إله إلاَّ هو! جئتَ مسترشداً؟
فقال: والله الذي لا إله إلاَّ هو! لقد جئتُ مسترشداً.
قال: نعم! أرأيتَ هل اختلفوا في أنَّ محمداً رسول الله، وأنَّ ما أتى به من الله حقٌّ؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في القرآن أنَّه كتاب الله؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في دين الله أنَّه الإسلام؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الكعبة أنَّها القبلة؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الصلوات أنَّها خمس؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في رمضان أنَّه شهرهم الذي يصومونه؟ قال: لا.(7/206)
ص -192- ... قال: فهل اختلفوا في الحج أنَّه بيت الله الذي يحجُّونه؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الزكاة أنَّها من مائتي درهم خمسة؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الغسل من الجنابة أنَّه واجب؟ قال: لا.
قال مسعر: فذكر هذا وأشباهه، ثم قرأ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}، فهل تدري ما المحكم؟ قال: لا. قال: فالمحكم ما اجتمعوا عليه، والمتشابه ما اختلفوا فيه، شد نيَّتك في المحكم، وإيَّاك والخوض في المتشابه، قال: فقال الرجل: الحمد لله الذي أرشدني على يديك، فوالله! لقد قمت من عندك وإنِّي لَحَسن الحال، قال: فدعا له وأثنى عليه".
وهذا الأثر في إسناده مَن لم أقف على تراجمهم، وفيه بشر بن عمارة الذي يروي عن مسعر، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: "ضعيف"، فهو غير ثابت عن عمرو بن مرة.
وقوله في متنه: "أرأيتَ هل اختلفوا في أنَّ محمداً رسول الله، وأنَّ ما أتى به من الله حقٌّ؟"، أقول: ما جاء به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حقٌّ يجب الإيمان به جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك كلُّ ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمالكي لا يقبل من الأحاديث الصحيحة إلاَّ ما يوافق هواه، وهو يزعم أيضاً أنَّه لا يعوِّل إلاَّ على ما كان من النصوص قطعيَّ الثبوت قطعيَّ الدلالة، وهذه طريقة أهل البدع، الذين لا يأخذون بأحاديث الآحاد في العقيدة؛ لأنَّها ليست قطعيةَ الثبوت بزعمهم، ثم أيضاً فأهل السنَّة لم يختلفوا في أنَّ القرآنَ كلامُ الله وأنَّه غير مخلوق، وأن الله يُرى في الدار الآخرة، وأنَّ عذاب القبر حقٌّ، وهذه المسائل الثلاث وغيرها مِمَّا خالف فيها بعض المبتدعة، والمالكي لا يريد ذكر شيء فيه اختلاف بين أهل السنَّة وغيرهم من فرق الضلال.(7/207)
ص -193- ... وأمَّا محمد بن إبراهيم الوزير، فلَم ينقل عنه كلاماً، بل اكتفى بقوله (ص: 208): "كل كتاب إيثار الحق على الخلق"، ولم يتحقَّق له ما أراده من الاستشهاد لكون الحقِّ لا يكون مع فرقة معيَّنة إلاَّ نادراً، وأنَّ كلًَّ فرقة ممسكة بطرف من الحقِّ كما زعم ذلك؛ فإنَّ باقي عنوان الكتاب يدلُّ على ردِّ الخلاف إلى القول الحقِّ؛ إذ إنَّ عنوانَ كتابه: "إيثار الحقِّ على الخلق في ردِّ الخلافات إلى المذهب الحقِّ من أصول التوحيد"، وقد قال في (ص: 45): ((والطرق إلى الله تعالى كثيرة جدًّا، ولكنَّا نقتصر منها على أصحِّها وأجلاها وأوضحها وأشفاها؛ حتى نأمن بالسلوك فيها من الضلال في الطرق التي تُبعُدُ السائرَ فيها عن مقصوده والعياذ بالله، وإلى تلك الطرق الإشارة بقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وقد يكون فيها ما يستلزم رد كثير من الشرائع".
وأمَّا المقبلي، فإنَّه نقل عنه من أول كتابه: "العلم الشامخ في تفضيل الحقِّ على الآباء والمشايخ" كلاماً في اعتماده على الدليل وعدم تقليده لأحد، وهو لا يدلُّ على ما زعمه المالكي من الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه لمسائل العقيدة، ولا يُحذَّر فيه من بدعة؛ فإنَّ كتابَه المذكور مشتمل على تقرير حسن لبعض المسائل في العقيدة، ومن ذلك قوله في (ص: 57): "وما أحسن جواب بعض المحدِّثين وقد سُئل عن أحاديث الصفات، فقال: رواها لنا الذين رووا لنا الصلاة والزكاة وسائر الشريعة، انتهى. فالواجب تسليم ما صحَّ، وما اشتبه معناه رددناه إلى الله سبحانه، ولا يغرَّنك قولهم: آحاديٌّ فلا نقبله في مقابلة العقل؛ لأنَّ ما رواه الثقات مقبول، وإلاَّ اطَّرحنا أكثرَ الشريعة، والدليل على قبول الآحاد شامل لكلِّ الدين، والتفرقة جاءت من(7/208)
ص -194- ... قِبَلهم لا من قِبَل الله ورسوله، والعقل قد فرضنا أنَّه لم يدرك حقيقة ذلك، فكيف يُقال: إنَّه مصادمٌ له؟!".
وهذا الكلام من المقبلي ـ رحمه الله ـ مناقضٌ لما زعمه المالكي متابعاً المتكلِّمين أنَّه لا يُعوَّل من النصوص إلاَّ على ما كان قطعيَّ الثبوت والدلالة، فإنَّ المقبليَّ قرَّر بكلامه أنَّ أحاديث الآحاد حجَّةٌ في العقائد وغيرها، وأنَّ التفريقَ بينها إنَّما جاء من قبَل المتكلمين، وقوله في (ص: 161): "كما أنَّ المتكلِّمين خاطروا في النظر في ماهية الصفات في حقِّ الله تعالى، وتكلَّفوا ما لا يعنيهم من عدم الاقتصار على المدلول اللغوي العربي الذي يُحمل عليه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّهم قد اقتحموا أطمَّ من ذلك، وسلكوا أصعبَ المسالك، واقتصروا على إثبات قليل من الصفات، كقادر وعالم ونحوهما، ونفوا سائر الصفات وجعلوها مجازات كصفة الرِّضا والغضب والمحبَّة والرحمة والحلم، وغير ذلك مِمَّا وصف به تعالى نفسه، وكرَّر التمدُّح به، ومِمَّا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم".
ثم إنَّ المالكيَّ ومعه أحد الضُّلاَّل الذين ذكرهم في آخر كتابه يعيبون على أهل السنَّة ذكرهم الدجَّال والمهدي في كتب العقائد، وقد تقدَّم ذلك، والمقبلي قد ذكر الدجَّال والمهدي وغير ذلك من أشراط الساعة في كتابه هذا (ص: 69 ـ 70).
وأمَّا الصنعاني، فقد نقل عنه كلاماً عاماًّ لا يدلُّ على ما أراده من الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه للبدع، فإنَّه ـ رحمه الله ـ قد ألَّف كتاب ((تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، أوضح فيه توحيد الألوهية، وأنَّه الذي بعث الله من أجله الرسلَ، وبيَّن خطورة الشرك، وبطلان ما وقع فيه كثيرٌ من(7/209)
ص -195- ... المسلمين من الافتتان بالقبور والاستغاثة بأهلها، وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأنَّ هذا من الشرك بالله، وهذا ما لا يريده المالكي الذي شنَّع على الإمام ابن تيمية في عنايته واهتمامه بتوحيد الألوهية، وقد مرَّ الردُّ عليه في ذلك قريباً.
وبراعة الصنعاني ـ رحمه الله ـ في استهلال كتابه واضحة جليَّة في الدلالة على المقصود؛ حيث قال في مطلع كتابه: "الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيَّته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كلَّّ الإفراد، ومن اتِّخاذ الأنداد، فلا يتَّخذون له ندًّا، ولا يدعون معه أحداً، ولا يتَّكلون إلاَّ عليه، ولا يفزعون في كلِّ حال إلاَّ إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى، ولا يتوصَّلون إليه بالشفعاء {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}".
وأنا أنقل من هذا الكتاب جُملاً تُبيِّن أنَّ الصنعانيَّ في واد والمالكي في واد آخر، فمن ذلك قوله (ص: 17 ـ 18): "فهذا تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، وجب عليَّ تأليفُه، وتعيَّن عليَّ ترصيفُه، لِمَا رأيته وعلمته من اتِّخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن إلى الشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء مِمَّن يدَّعي العلم بالمغيَّبات والمكشفات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجداً، ولا يُرى لله راكعاً ولا ساجداً، ولا يعرف السنَّة ولا الكتاب، ولا يهاب البعثَ ولا الحساب، فواجبٌ عليَّ أن أُنكرَ ما أوجب اللهُ إنكارَه، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب اللهُ إظهارَه".
وقوله (ص: 24): "ثمَّ إنَّ رأسَ العبادة وأساسَها التوحيدُ لله، الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي قول لا إله إلاَّ الله، والمراد اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها، لا مجرَّد قولها باللسان، ومعناها إفراد الله(7/210)
ص -196- ... بالعبادة والإلهية، والنفي والبراءة من كلِّ معبود دونه، وقد علم الكفار هذا المعنى؛ لأنَّهم أهلُ اللسان العربي، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}".
وقوله (ص: 25): "وإذا تقرَّرت هذه الأمور، فاعلم أنَّ الله تعالى بعث الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام من أوَّلهم إلى آخرهم يدعون العبادَ إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنَّه خلقهم ونحوه؛ إذ هم مُقرُّون بذلك كما قررناه وكرَّرناه، ولذا قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ}، أي: لنفردَه بالعبادة ونخصَّه بها من دون آلهتنا؟ فلم يُنكروا إلاَّ طلب الرُّسل منهم إفراد العبادة لله، ولم يُنكروا الله تعالى، ولا قالوا: إنَّه لا يُعبد، بل أقرُّوا بأنَّه يُعبد، وأنكروا كونه يُفرَدُ بالعبادة، فعبدوا مع الله غيرَه، وأشركوا معه سواه، واتَّخذوا معه أنداداً، كما قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أي: وأنتم تعلمون أنَّه لا ندَّ له، وكانوا يقولون في تلبيتهم للحجِّ: (لبَّيك لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك").
وقوله (ص: 39 ـ 40): "فهؤلاء القبوريُّون والمعتقدون في جُهَّال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القُذَّة بالقُذَّة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلاَّ في الله، وجعلوا لهم جزءاً من المال، وقصدوا قبورَهم من ديارهم البعيدة للزيارة، وطافوا حول قبورهم، وقاموا خاضعين عند قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، وتحروا تقرُّباً إليهم، وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك، ولا أدري هل فيهم مَن يسجد لهم؟ لا أستبعد أنَّ فيهم من يفعل ذلك، بل أخبرني مَن أثق به أنَّه رأى مَن يسجد لهم على عتبة باب مشهد الوليِّ الذي يقصده، تعظيماً له وعبادة، ويُقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف مَن عليه حقٌّ باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم وليٍّ(7/211)
ص -197- ... من أوليائهم قبلوه وصدَّقوه، وهكذا كان عبَّادُ الأصنام إذا ذكِر الله وحده اشمأزَّت قلوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكِر الذين من دونه إذا هم يستبشرون...
فإن قلتَ: لا سواء؛ لأنَّ هؤلاء قد قالوا: لا إله إلاَّ الله، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا منِّي دماءَهم وأموالَهم إلاَّ بحقِّها"، وقال لأسامة بن زيد: "قتلتَه بعد ما قال: لا إله إلاَّ الله؟!" وهؤلاء يُصلُّون ويصومون ويُزكُّون ويَحجُّون، بخلاف المشركين.
قلتُ: قد قال صلى الله عليه وسلم: (إلاَّ بحقِّها)، وحقُّها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، والقبوريُّون لًم يُفردوا الإلهية والعبادة، فلَم تنفعهم كلمة الشهادة؛ فإنَّها لا تنفع إلاَّ مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء، وكذلك من جعل غير مَن أرسله الله نبيًّا لم تنفعه كلمة الشهادة، ألا ترى أنَّ بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله ويُصلُّون، ولكنَّهم قالوا: إنَّ مسيلمةَ نبيٌّ، فقاتلهم الصحابة وسَبَوْهم، فكيف بمَن يجعل للوليِّ خاصَّة الإلهية ويُناديه للمهمَّات؟! وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرَّق أصحابَ عبد الله بن سبأ، وكانوا يقولون: نشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، ولكن غلوا في عليٍّ رضي الله عنه، واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريُّون وأشباههم، فعاقبهم عقوبةً لم يُعاقب بها أحداً من العُصاة؛ فإنَّه حفر لهم الحفائر، وأجَّج لهم ناراً وألقاهم فيها، وقال:
إنِّي إذا رأيتُ الأمرَ أمراً منكراً ... أججتُ ناري ودعوتُ قُنبرا
وقوله (ص: 45 ـ 46): "فإن قلتَ: هذا أمرٌ عمَّ البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد، وطبق الأرض شرقاً وغرباً ويَمَناً وجنوباً وعَدَناً؛(7/212)
ص -198- ... بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلاَّ وفيها قبور ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها ويُعظِّمونها، ويَنذرون لها ويهتفون بأسمائها ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور، ويُسرجونها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويُلبسونها الثياب، ويصنعون كلَّ أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها من التعظيم والخضوع والخشوع والتذلُّل والافتقار إليها، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر أو قريب منه، أو مشهد يقصده المصلُّون في أوقات الصلاة، يصنعون فيه ما ذُكر أو بعض ما ذُكر، ولا يسع عقل عاقل أنَّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا.
قلت: إن أردتَ الإنصافَ، وتركتَ متابعةَ الأسلاف، وعرفتَ أنَّ الحقَ ما قام عليه الدليل، لا ما اتَّفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، فاعلم أنَّ هذه الأمور التي نُدندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها صادرة عن العامة الذين إسلامُهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دنيٍّ ومثيل، ينشأ الواحدُ فيهم فيجدُ أهلَ قريته وأصحابَ بلدته يُلقِّنونه في الطفولية أن يهتف باسم مَن يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه ويُعظِّمونه، ويرحلون به إلى محلِّ قبره، ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفاً بقبره، فينشأ وقد قرَّ في قلبه ما يعظِّمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده مَن يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير، بل ترى مَن يتَّسم بالعلم، ويدَّعي الفضلَ وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس، أو الولاية أو المعرفة، أو الإمارة والحكومة، معظِّماً لِمَا يُعظِّمونه، مُكرماً لِمَا يُكرمونه، قابضاً للنذور، آكلاً ما يُنحَرُ على القبور، فيظنُّ العامَّةُ أنَّ هذا دينُ الإسلام، وأنَّه رأسُ الدين والسَّنام، ولا يخفى على(7/213)
ص -199- ... أحد يتأهَّل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنَّة والأثر، أنَّ سكوتَ العالِم أو العالَم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر".
ثمَّ ضرب لذلك أمثلةً، بيَّن فيها أنَّ الإنكارَ على ثلاث درجات، وأنَّ الإنكارَ بالقلب أقلُّها، وأقلُّ أحوال العالِم إذا لَم يُمكنه الإنكار بيده ولسانه أن يُنكرَ بقلبه.
وهذه النقول عن الإمام الصنعاني هي بمنزلة الصواعق على هذا المالكي الذي أراد أن يستشهدَ بشيء من كلامه على تأييد باطله، فلَم تقرَّ عينه بذلك.
وهذا الذي قرَّره الإمام الصنعاني في كتابه"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد" هو الذي شنَّع به هذا الحاقد الضال على الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في كتابه السيِّء الذي كتبه عنه، مع أنَّ الشيخ محمداً ـ رحمه الله ـ نصَّ على إقامة الحجَّة على المفتونين بعبادة أصحاب القبور، وقد ردَّ عليه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي في كتابه"دحر افتراءات أهل الزيغ والارتياب عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ أباطيل حسن المالكي".
وأمَّا القاسمي، فإنَّه وإن وُجد له كلامٌ فيه تساهل مع بعض أهل البدع، فإنَّه لا صلة البتَّة للمالكي به؛ لأنَّ المالكيَّ موغلٌ في البدع، ويحتفي بالمبتدعة على مختلف أصنافهم، ولا يُعادي إلاَّ أهل السنَّة والجماعة بدءاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن سارَ على نهجهم حتى عصرنا، وهذا بخلاف القاسمي تماماً؛ فإنَّه قد ألَّف كتاباً نفيساً بعنوان"إصلاح المساجد من البدع والعوائد"، ذمَّ فيه البدع وحذَّر منها، قال في مقدِّمته (ص: 7): "أمَّا بعد، فلمَّا كان الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهمُّ الذي(7/214)
ص -200- ... ابتعث الله له النبيِّين، وجب على كلِّ مستطيع له أن يقتحمَ لوجه الله سُبلَه، خشيةَ أن تعمَّ البدعةُ وتفشو الضلالة، ويتَّسع الخرقُ وتشيع الجهالةُ، فتموت السنَّةُ ويندرس الهدي النبوي، ويُمحى من الوجود معالم الصِّراط السويِّ، ولَمَّا أضحت البدع الفواشي، كالسحب الغواشي، يتعذَّر على البصير حصرُها، وضبطُ أفرادها وسبرُها، رأيت أن أدلَّ بجزئيٍّ منها على كليَّاتها، وبنبذة منها على بقيَّاتها، وذلك في البدع والعوائد، الفاشية في كثير من المساجد؛ لأنِّي ابتُليتُ كآبائي بإمامة بعض الجوامع في دمشق الشام، وبالقيام بالتدريس العام، فكنتُ أرى من أهمِّ الواجبات إعلام الناس بما ألَمَّ بها من البدع والمنكرات؛ فإنَّ القيِّمَ مسئول عن إصلاح مَن في معيَّته، وفي الحديث (كلُّكم راع وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته)، فاستعنتُ بالله تعالى في الشروع، وتوكَّلتُ عليه في إتمام هذا الموضوع، ونقَّبت لأجله عن شوارد الأسفار، وضممتُ إليه ما يُروي البصائر والأبصار، وعزوتُ غالبَ فروعه لأصلها، ردًّا للأمانات إلى أهلها، تطميناً للمرتابين، وتثبيتاً للمؤمنين، فجاء فريداً في بابه، أمنية لطلابه، ولم أجد مَن سبقني إليه، فأعرج بالاحتذاء عليه، بل كان ترتيبه مخترعاً، وتقسيمه مبتدَعاً، وذلك من فضل الله عليَّ، ومننه التي لا أحصي ثناءها لديَّ، وبه المستعان، وعليه التكلان في كلِّ آن".
ثم ذكر مقدِّمات في البدع عموماً، من عناوينها:
ـ بيان الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه.
ـ الترهيب من الابتداع.
ـ معنى البدعة.
ـ ردُّ البدعة في الدِّين.
ـ بغض المبتدع.(7/215)
ص -201- ... ـ وعيد مَن سنَّ سنَّة سيِّئة.
ـ مفاسد الإقرار على البدع.
ـ ما يجب على العالِم فيما يرد عليه مِمَّا لا يُؤمَن فيه من البدع.
ـ اجتناب العالم ما يتورَّط بسببه العامة.
ـ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـ بيان من هو المستطيع لإزالة البدع في المساجد.
ـ نقم المتعصِّبين على منكر البدع بغياً وجهلاً.
ـ عدوى البدع من شؤم المخالطة.
ـ السعي بإزالة البدع من المساجد.
وفي ثنايا الكتاب ذكر في (ص: 164) من بدع المساجد دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه، وذكر من البدع (ص: 209) إسراج الضرائح، وذكر غير ذلك من البدع.
32 ـ تكثُّره بأربعة نوابت حُدثاء الأسنان شاركوه في الضلال، وذِكره شيئاً من أباطيلهم، والردُّ عليه وعليهم
وكما أسَّس المالكي قراءته المزعومة في كتب العقائد على سوء، وبناها على سوء، فقد ختمها بخاتمة سيِّئة، وذلك بذِكر مقالات لأربعة نوابت ضُلاَّل تكثَّر بهم، ووصفهم بأنَّهم باحثون، وهو بذلك استسمن ذا وَرم، والطيورُ على أشكالها تقع، وسأوردُ بعضَ هذيان هؤلاء النوابت مع الردِّ عليهم، وذلك فيما يلي:(7/216)
ص -202- ... ـ فأوَّلُ هؤلاء النوابت الأربعة، مَن سمَّاه المالكي (سعود الصالح)، وقد ذكر له مقالاً بعنوان: "مسلسل الإضافات على العقيدة فرَّق المسلمين جماعات)، وقد سبق للمالكيِّ أنَّه عاب على أهل السُّنَّة أنَّهم وسَّعوا جانب العقيدة مع تشدُّد على المخالفين، وأشار إلى مقال هذا النابتة، وقد مرَّ في المبحث (10) الردُّ عليهما في بعض هذيانهما، فنكتفي بذلك.
ـ وثاني هؤلاء النَّوابت مَن سمَّاه المالكي (سعود بن عبد الرحمن النَّجدي)، فقد ذكر له مقالاً بعنوان: "عقيدة الله أم عقيدة المذهب؟!"، وذكر أنَّه نُشر في الانترنت، وإنَّ مَن يقرأ كتاب قراءة المالكي المزعومة في كتب العقائد، ثم يقرأ هذا المقالَ يجد أنَّ المقالَ تلخيصٌ للقراءة المزعومة، مِمَّا يغلب معه على الظنِّ أنَّ مصدرَهما واحدٌ، وقد تباكى هنا على قتل رؤوس المبتدعة كغيلان الدمشقي والجعد والجهم (ص: 227)، كما تباكى المالكي في القراءة المزعومة، ومرَّ الردُّ عليه في ذلك.
وكما أنَّني لَم أردَّّ على كلِّ ما في الأصل من هذيان، فسأقتصرُ هنا على الردِّ على بعض هذا الهذيان، فمِن ذلك قوله في (ص: 228): "وللتقليد في العقائد حديثٌ عجيب؛ فإنَّه لا يخلو منه مذهب من المذاهب، بل لَم ينج منه إلاَّ أفراد قلائل، مثل ابن حزم وابن الوزير والمقبلي!!".
وقوله (ص: 229 ـ 230): "(أهل السُّنَّة والحديث): وعندهم يظهر التقليد جليًّا، لا سيما وهم لا يرضون أن يفهم أحدٌ الكتابَ والسُّنَّة إلاَّ على ضوء فهم (السلف)، وطرُقهم في ترسيخ التقليد كثيرة، فمن ذلك تقديس علماء مذهبهم، وأنَّه بهم تُعرف السنَّة ويُوصل إلى الحقِّ، فمَن طعن في حماد ابن سلمة أو الأوزاعي أو الأعمش أو أبي مسهر فهو مبتدع... وفَهْمُ هؤلاء السلف مقدَّمٌ على فهمنا، ومَن خالفهم فليَتَّهم نفسَه، ومن أوضح النصوص(7/217)
ص -203- ... على هذا، النصُّ المنسوب إلى عمر بن عبد العزيز "وهو في ذمِّ القول بالقدر فتنبَّه!"، وفي هذا النصِّ يقول عمر: "فارضَ لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، وقِف حيث وقفوا؛ فإنَّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولَهُم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل فيه لو كان أحرى، فإنَّهم هم السابقون، ولئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه (أي وهذا مستحيل!)، ولئن قلت حدَث بعدهم حدَثٌ، فما أحدثه إلاَّ من تبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر دونهم قوم فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، وإنَّهم مع ذلك لعلى صراط مستقيم، فلئن قلت: فأين آية كذا؟ ولِمَ قال الله كذا وكذا؟ لقد قرؤوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم" انتهى.
ومن شعارات مذهب أهل السُّنَّة والحديث: (اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم).
هذه حال السَّلف عندهم، أمَّا مخالفو هؤلاء السلف فهم مبتدعة أهل سوء، تكتب الكتب والأبواب في ذمِّهم، وزيادة في التنفير من مذاهبهم!!!".
وأجيب على ذلك بما يلي:
1 ـ أهل السُّنَّة والجماعة عقيدتُهم واحدة، وهي مبنيَّةٌ على علم بالكتاب والسُّنَّة، وهم متَّفقون فيها، وما زعمه هذا الزاعم من أنَّه لم ينجُ من التقليد في العقيدة إلاَّ أفراد قلائل، مثل ابن حزم وابن الوزير والمقبلي، فيه اتِّهامٌ لعلماء أهل السُّنَّة بأنَّ اعتقادَهم ليس عن علم، بل عن تقليد، وقد مرَّ قريباً النقل عن ابن الوزير والمقبلي ما يوافق عقيدة أهل السُّنَّة، وأمَّا ابن حزم فهو ظاهريٌّ في الفروع مؤوِّلٌ في الأصول.(7/218)
ص -204- ... 2 ـ أهل السُّنَّة والجماعة بعد الصحابة على عقيدة الصحابة، وهي منهم مبنيَّةٌ على علم، وليس مجرَّد تقليد؛ لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم هم الذين شهدوا التنزيل وأعلم بالتأويل، وقد وصف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الفرقةَ الناجية بأنَّهم الجماعة، وأنَّهم مَن كان على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والطعنُ في حَمَلة الآثار الثقات طعنٌ في الآثار التي يروونها؛ لأنَّ القدحَ في الناقل قدحٌ في المنقول، وقد سبق الإيضاحُ والبيانُ لكون منهج أهل السُّنَّة والجماعة في العقيدة اتِّباع الكتاب والسنَّة بفهم السلف، وأنَّ المالكيَّ زعم أنَّ ذلك بدعةٌ، وأنَّ السُّنَّة عند المالكي بدعةٌ والبدعةَ سنَّةٌ.
وأمَّا أثر عمر بن عبد العزيز المشار إليه فهو ثابتٌ عنه، أخرجه أبو داود (4612).
وأمَّا قوله: "ومن شعارات مذهب أهل السُّنَّة والحديث: (اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم)، هذه حال السَّلف عندهم، أمَّا مخالفو هؤلاء السلف فهم مبتدعة أهل سوء!!".
فنعم! هذا من شعار مذهب أهل السُّنَّة، وهذه هي حالُهم، وما أحسن هذا الشعار وهذه الحال المبنيَّة على اتِّباع الكتاب والسنَّة ونبذ البدع، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ آخر: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"، وهذا الذي قال إنَّه شعارُ مذهب أهل(7/219)
السُّنَّة، وهو(7/220)
ص -205- ... "اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتُم" هو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه الدارمي في سننه (211).
ـ وأمَّا الثالث من هؤلاء النوابت، وهو منصور بن إبراهيم النقيدان، فذكر له مقالاً بعنوان: "ظاهرة التكفير والاتِّهام بالزندقة في الفكر الإسلامي"، وأنا أشير إلى بعض ما في هذا المقال مع التعقيب على ذلك، فمن ذلك قوله في (ص: 234 ـ 235): "لقد كان اتهام الناس بالزندقة كاتِّهام الآخرين اليوم بالعلمانية والتبشير بالحداثة والدعوة إلى تحرير المرأة، فسهل اضطهاد أيِّ مفكِّر وعالم بمجرَّد أن يوجَّه إليه الاتِّهام بالزندقة والإلحاد، وزاد الأمر بلاء ما ذهب إليه بعض الفقهاء من قتل الداعي إلى البدعة، فأصبح كلَّما نبغ عالم وبرز مفكِّر يخالف المذاهب المتَّبعة والسياسات المستقرة كان مآله التضليل والتكفير، ثم التضييق والسجن أو القتل!!".
وأقول: إنَّ من ثبتت عليه الزندقة أو غيرها من الأمور التي ذُكرَت معها وُصف بما ثبت عليه وحُذِرَ وحُذِّرَ منه، ومَن لم يثبت عليه شيءٌ فالأصل السلامة حتى يثبت ما يخالفها، ومَن خالف ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة وهو اتِّباع الكتاب والسنَّة، وانحرف عن ذلك وُصف بما يليق به بحسب تلك المخالفة.
ومن ذلك زعمه في (ص: 235) أنَّ قتلَ الحلاَّج كان سياسيًّا، ولكنَّه أُظهر أنَّه للزندقة، وهذا نظير ما تقدَّم عن المالكي من زعمه أنَّ قتل الجعد والجهم وغيلان الدمشقي كان سياسيًّا وليس لبدعهم.
ومن ذلك قوله في (ص: 235 ـ 236): "ورَاقَ لبعضهم أن يتألَّى على الله ويحجر رحمتَه؛ فقال بعدم قبول توبة الزنديق، وبأنَّ المبتدعَ لا يتوب، ولو(7/221)
ص -206- ... أراد التوبةَ لَم يُوفَّق إليها، فإذاً لا مناص من القتل صيانة للدِّين وذبًّا عن حُرماته!!".
أقول: أمَّا الزنديق، فقد قال في القاموس المحيط: "الزِّنديق بالكسر، من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو مَن لا يؤمن بالآخرة وبالربوبيَّة، أو من يُبطن الكفرَ ويُظهر الإيمان".
وفي قبول توبة الزنديق بعد القدرة عليه خلاف، فمنهم مَن قال بقبولِها وترك قتله، ومنهم مَن قال: يُقتَل ولا تُقبَل توبتُه، وليس ذلك من قبيل التألِّي على الله كما زعم هذا الزاعم؛ لأنَّه إن كان صادقاً في توبته فيما بينه وبين الله نفعه ذلك، وإن قُتل لدفع ضرره وإفساده، وقد أوضح ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه إعلام الموقعين (3/141 ـ 145) قوَّة القول بعدم قبول توبته مع الاستدلال لذلك.
وأمَّا القول بأنَّ المبتدعَ لا يتوب، ولو أراد التوبة لم يُوفَّق إليها؛ فلأنَّ المبتدعَ يعتقد أنَّه على حقٍّ مع أنَّه على باطل، فلا يتوب، وهذا بخلاف صاحب المعصية، فإنَّه يعلم خطأَه ومعصيتَه، فيتوب من ذلك، وقد سبق الردُّ على المالكي في ذلك في المبحث (25).
وأمَّا ما ذكره في (ص: 236) من ذمِّ أهل السُّنَّة لمناظرة أهل البدع، فقد سبق ذلك في الردِّ على المالكي في المبحث (23).
ومن ذلك قوله في (ص: 237): "وقال بعض كبار أهل الحديث بأنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن، لحديث يروى في ذلك، فاعتبر هذا أحد القولين عند أهل السُّنَّة، وبالغ عبد الوهاب الوراق، فقال: من لم يقل (إنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن) فهو جهميٌّ، مع أنَّ هذا الحديث مناقض لقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، أغلوطة تنبو عن الأفهام!!!".(7/222)
ص -207- ... أقول: سبق ذكر هذا الحديث في الردِّ على المالكي، وذلك في مبحث "قدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين"، وأنَّ الحافظ ابن حجر في الفتح نقل تصحيحه عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وليس في ثبوته مخالفة للآية، وليس أغلوطة تنبو عن الأفهام كما زعم، وقد تقدَّم إيضاحُ ذلك.
ـ وآخر النوابت الأربعة عبد الرحمن بن محمد الحكمي، وهو أسوؤهم حالاً وأسلطُهم لساناً وأكثرُهم هذياناً، وقد نبت مع المالكيِّ في تربة واحدة، ورضَعَا ألبان أهل البدع، فانحرفَا عن الصراط المستقيم، واتَّبعَا غيرَ سبيل المؤمنين، وهذا الحكمي هو الذي سبق المالكيَّ إلى بدعة قصر الصُّحبة الشرعيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية فقط، مع الزعم الباطل بأنَّ صُحبةَ غيرِهم كصحبةِ المنافقين والكفار، كما ذكر ذلك المالكي في كتابه السيِّء عن الصحابة، وأوضحتُ الردَّ عليه في ذلك في آخر كتابي "لانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، وقد أوردَ له هنا مقالاً طويلاً مليئاً بالتَّهكُّم والسخرية بأهل السنَّة والجماعة المتَّبعين لنصوص الكتاب والسنَّة، السائرين على نهج الصحابة رضي الله عنهم، وعنوانه: "أصحاب العقائد وسياقات النصوص"، قال في أوَّله (ص: 241): "مشكلة كتب العقيدة أنَّها جردت شواهدها من سياقاتها، تلكم السياقات التي وردت في الآيات الكريمة ضمن نسق خاص ونظم متناسق، فجاءت كتب العقيدة وانتزعتها من بين تلك السياقات وجردتها منها، ثم ألقت منها عقيدة (الوجه، اليد، النزول...)، لذا أصبحت عندنا عقيدة مجموعة من عدَّة ألفاظ، ولا شكَّ أنَّ هذا الاقتطاع لها من سياقاتها التي جاءت ضمن موضوع مترابط أو معان متراكبة، لا شكَّ أنَّ هذا جعلها تشكل جسداً واحداً، حتى(7/223)
ص -208- ... أخرجها من الفاعلية التي تخاطب العواطف والمشاعر إلى نظام مركب لا يخاطب إلاَّ العقول المحضة التي تذهب في تفسيرها كلَّ مذهب.
وأكثر ما نجد هذا عند أصحاب العقيدة السلفية، فإنَّهم يقتطعون الشواهد من السياقات، ويُبطلون مفعول السياق، ولا يحترمون ذلك الأسلوب وذلك الموضوع التي وردت ضمنه، ويجعلونها مشبعة لاتِّجاهاتهم في تفسيرها!!".
ثمَّ ضرب لذلك أمثلة تخبَّط فيها حسب فهمه الخاطئ ورأيه الباطل المبنيِّ على متابعة أهل الكلام.
وكما أنَّني لم أرُد على المالكي في كلِّ هذيانه، فكذلك سأقتصرُ على الردِّ على هذا النابتة في بعض هذيانه.
ومن ذلك قوله (ص: 248): "ومن المشاكل التي واجهت قرَّاء كتب العقيدة السلفية أنَّ الاقتطاع للنصوص من سياقها أصبح سِمة عامَّة لها، وذلك أدَّى إلى إبطال مفعولها النفسي وأثرها الروحي على المتلقين، فأصبح المتلقي حين يتلقَّاها ـ وقد اجتثت من سياقها الذي ورد في الترغيب أو الترهيب ضمن معان سامية ـ لا يمكن أن تتوطد في النفس، ولا أن تؤثر في القلب إلاَّ بورود هذه الألفاظ فيها، فعمد السلفيُّون إليها واستخرجوها من ذلك الإطار الكلامي الرائع حتى أصبحت عندهم لا تؤدِّي معنى إلاَّ معنى واحداً فقط، وهو أنَّ لله يداً أو وجهاً، ويكون السياق الذي وردت فيه قد بطل من أوَّله إلى آخره!!...
اقرأ مثلاً قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} الآية، انظر إلى لفظة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} في هذا الكلام المفعم بهذا البيان وهذا الإعجاز في(7/224)
ص -209- ... بسطه يديه وقدرته التامَّة في إعطائه مَن يشاء، وهذا الغضب الإلهي الذي انصبَّ في اليهود فصاروا أبخل مَن في العالم، انظر كيف تملأ الآية نفسك رغبة في كرم الله عزَّ وجلَّ وطمعاً فيما عنده، وما يتحلَّل فيك من الأريحية والسرور في طلب ما عند الله، إلى آخر هذه المعاني، ثم خذها مجرَّدة في كتب أهل العقيدة تجدهم يقولون: وفي إثبات اليدين قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، بل يبخلون في إكمال قوله تعالى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، ألا ترى أنَّك تشعر بقشعريرة تناقض تلك المعاني التي شعرت بها وأنت تقرؤها في ضمن سياقها في القرآن الكريم؟ فكيف بك إذا رزقك الله مطالعة في القرآن الكريم فقط دون هذه الكتب؟!
وفوق هذا تأمَّل: ألا ترى أنَّ قولَ اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} لا يقصدون أنَّها مغلولة إلى عنقه، وإنَّما يقصدون البخلَ بالاتفاق؟ فهم أرادوا المجاز، وبالتالي فينبغي أن يكون الردُّ عليهم مشاكلاً لشبهتهم، فتكون اليد المغلولة واليدان اللَّتان ردَّ بهما عليهم كذلك لا حقيقة لهما.
فقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} مقابل لـ {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، والأول مجاز بالاتفاق، وكذلك ينبغي أن يكون الآخر مجازاً...
وعلى هذا، فيكون {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} مبنيًّا أو مؤكِّداً أو بدلاً لقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، وعلى هذا فلا يتأتَّى وجود حقيقة اليدين، وإنَّما معنى بسط يديه أي الإنفاق والكرم، وهذا يعارض قولهم وفهمهم، ولذلك اضطروا إلى اقتطاعهم من سياقها ظلماً وعدواناً، وأسروها في كتبهم مع قريناتها ليتأتَّى لهم تكفير المسلمين!!!...
ألا ترى فيه ما يشعر به الإنسان وهو يقرؤها في سياقها، وسوء ما يشعر به وهو يقرؤها حبيسة في أقفاصهم التي يقولون أنَّها عقيدة سلفية؟!!".(7/225)
ص -210- ... وقوله في (ص: 247): "وعندما أتوا إلى قوله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، قيل لهم: فهذه آية من آيات الصفات فأجروها على ظاهرها كما تدَّعون وكما تقتضيه أصولكم، فكاعوا وتزعزعوا عن مواقفهم، وقالوا: إنَّ {يَدَيْ} هنا بمعنى (أمام)، وقد ورد بلغة العرب، وكذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، قالوا: {يَدَيْهِ} هنا بمعنى أمام!!".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ هذا الكلام من هذا النابتة كلُّه في تقرير أنَّه ليس لله يدان حقيقة، وأنَّ اليدَ المضافة إلى الله عزَّ وجلَّ مجاز عن القدرة والنعمة، وهذه طريقة المتكلِّمين المخالفة لطريقة السلف، وأهل السنَّة يُثبتون صفةَ اليدين لله كما أثبتهما لنفسه، ويُثبتون كرمَه وإحسانَه وإنفاقه كيف يشاء، وآيةُ المائدة تدلُّ على هذا وهذا، ولا تنافي بين ذلك.
2 ـ أهل السُّنَّة يستدلُّون بآية المائدة على إثبات صفة اليدين لله عزَّ وجل، وكذلك يستدلُّون بقوله تعالى في سورة ص: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، فهم يُعوِّلون على النصوص، وإذا كان هذا الزاعم قال عن أهل السُّنَّة إنَّهم انتزعوا {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عمَّا قبلها وما بعدها، فأيُّ شيء يُنتزَع وأيُّ شيء يُترَك في آية سورة (ص)؟!
لا شكَّ أنَّ مَن اتَّبع النصوصَ وجمع بينها سلِم، ومَن اتَّبع هواه وفرَّق بين النصوص تخبَّط وظلم، والآيتان واضحتان جليَّتان في إثبات صفة اليدين لله، لا سيما آية (ص)؛ فإنَّه تعالى ذكر فيها خَلْقَه لآدمَ، وذكر ما كان به الخلق، وهو اليدان، ولهذا عُدَّ ذلك من خصائص آدم، كما جاء في حديث الشفاعة أنَّ أهل الموقف يطلبون منه الشفاعة ويقولون: "يا آدم! أنتَ أبو البشر،(7/226)
ص -211- ... خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنَّة" الحديث، أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (327) عن أبي هريرة.
3 ـ بل إنَّ أبا الحسن الأشعري الذي ينتسب إليه الأشاعرة، فيؤوِّلون أكثرَ الصفات، قد أثبت في كتابه الإبانة (ص: 97) صفة اليدين لله، واستدلَّ لذلك بآيات وأحاديث، منها آيتا المائدة و(ص)، ثمَّ قال في (ص: 98): "وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عزَّ وجلَّ إنَّما خاطب العربَ بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل: فعلتُ بيدي، ويعني النعمة، فبطل أن يكون معنى قوله عزَّ وجلَّ: {بِيَدَيَّ}، النعمة".
4 ـ أمَّا اعتراضه على أهل السُّنَّة بتفسيرهم قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، وقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} بأنَّ ذلك بمعنى أمام، يريد من ذلك الإلزام بأنَّ كلَّ ما في هذه الآيات الأربع هو من قبيل المجاز، فهو اعتراضٌ باطل؛ لأنَّ الكلَّ حقيقةٌ لا مجاز، فإنَّ معنى"بين يدي الشيء" في اللغة معناه أمامه، وهو حقيقة وليس بمجاز، قال في القاموس المحيط: "وبين يدي الساعة: قدَّامها"، فمعنى"بين يدي الساعة"، و"قدَّامها"، و"أمامها" واحدٌ في اللغة، وإن اختلفت ألفاظها، وإطلاق اليدين صفة لموصوف، وكذا"بين يدي الشيء" بمعنى أمامه، كلُّ ذلك حقيقة لا مجاز، وهو من قبيل المشترك اللفظي، الذي يكون فيه اللفظ واحداً والمعنى متعدِّد، وهو مثل لفظ(7/227)
ص -212- ... "قرء" للحيض والطهر، ولفظ"عسعس" لأقبل وأدبَر، ولفظ"العين" للعين الجارية والعين الباصرة والنقد.
ومن ذلك تهكُّمُه بأهل السنَّة بتعبيرهم عن الصفات التي يُثبتونها لله عزَّ وجلَّ بأدلَّة الكتاب والسنَّة، بأنَّها كما يليق بجلاله، فيقول في (ص: 245 ـ حاشية): "... إلى آخر هذه المزاعم التي ينصبونها على مشجب (كما يليق بجلالته وعظمته)!! وما بقي إلاَّ أن ينسبوا لله كلَّ نقيصة ثم يُتبعونها بقاعدة (كما يليق بجلالته وعظمته)!!".
ويُجاب هذا الحاقد الضال بأنَّ أهل السُّنَّة لا يُثبتون لله عزَّ وجلَّ إلاَّ ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم، وهذا الإثباتُ مبنيٌّ على التنزيه الذي يُعبِّرون عنه بقولهم: "على ما يليق بجلاله"؛ وذلك أنَّ الإثباتَ يكون مع تشبيه وهو باطل، ويكون مع تنزيه وهو الحقُّ، فأهل السنَّة مثبتَةٌ منَزِّهة، ليسوا بمشبِّهة، ولا بمعطِّلة، وهذا الكلام الباطل من هذا الحاقد فيه قلبٌ للحقائق؛ إذ اعتبر هذا التعبير من أهل السُّنَّة مذمَّةً لهم، وهو في الحقيقة مَحمدَة.
ومن ذلك قوله في (ص: 246): "فهم إن أرادوا التأويل أوَّلوا، كما فعلوا في القرآن الكريم أنَّه صفةٌ من صفات الله عزَّ وجلَّ، صفة ذاتية كاليد والسمع والبصر، ثم قرؤوا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنَّ القرآن يأتي في صورة شاب شاحب"، فقالوا: يُمرُّ على ظاهره، فيا لله!! كيف تتشكَّل صفة لله ذاتية في صورة شاب؟! وكيف يُقال: ألَّف الرجل كتاباً أنَّه من صفاته؟ فالله عزَّ وجلَّ خالق وخلق المخلوق، ولا يُقال: أنَّ المخلوق من صفة الخالق، كذلك يقال: أنَّ الله تكلَّم بكلام، ولا يُقال: إنَّ مجموع تلك الكلمات التي تكلَّم بها صفة من صفاته!!!".(7/228)
ص -213- ... وقوله في (ص: 247 ـ 248): "وعندما أتوا إلى قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ}، و{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} و... إلخ من الآيات، قالوا: هذا نزول لأشياء مخلوقة، أي أنَّها نزلت مع الرحمة وبالامتنان بالنعمة.
ولَمَّا أتوا إلى أنَّ القرآن غير مخلوق، ما كان حجتهم التي يحاجُّون بها خصومَهم إلاَّ أن قالوا: إنَّ الله قد قال في القرآن: إنَّه منَزَّلٌ ولم يقل أنَّه مخلوق، وكأنَّ كلمة (أنزل) أصبحت مضادَّة لكلمة (خلق) في قاموسهم، وسبق أن قلنا: أنَّه يجب بناء قاموس لغوي جديد، نجمع فيه شوارد وكلمات هؤلاء القوم لينشأ لنا معجم لغوي، ونستطيع به التخاطب معهم، أوَلَم يقولوا قبل قليل: أنَّ الإنزال يكون للمخلوق كالماء والحديد والأنعام، ثم أصبحت الآن ـ في مسألة القرآن ـ صار معناها عدم الخلق؟! وهذا يدلُّ على أنَّ التركيب المعرفي في العقيدة السلفية مهلهل!!!".
وأجيب على ذلك بما يلي:
1 ـ هذا الكلام القبيح من هذا المبتدع الضال فيه تقرير لمذهب الجهمية في قولهم بخلق القرآن، وتهكُّم بأهل السنَّة القائلين بأنَّ القرآن منَزَّلٌ غير مخلوق، والعجب أنَّ مِن الناس في هذا الزمان مَن يعيبُ على أهل السُّنَّة تكلُّمَهم في فرق الضلال كالجهميَّة؛ زاعماً أنَّ الكلامَ فيهم محاربةٌ لأناس قد ماتوا، وأنَّ ذلك بمثابة مَن يكون بيده سكِّين يضرب بها على قبر، ومن المعلوم أنَّ الجهميَّة وغيرَهم من أهل البدع لهم وارثون وإن ماتوا، فهذا فرخٌ من فروخ الجهميَّة حيٌّ يَمشي على الأرض، يُقرِّر الباطلَ ويَذُمُّ الحقَّ وأهلَه، وقد مرَّ النقل عن الإمام اللالكائي أنَّ علماء أهل السُّنَّة القائلين إنَّ القرآنَ كلامُ الله غير مخلوق لا يُعدُّون بالمئين فحسب، بل بالألوف، وعلقتُ عليه(7/229)
ص -214- ... بقولي: فمَن العلماء غيرهم، وماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال؟! وذلك عند الردِّ على المالكي في تشنيعه على الإمام أحمد في مسألة التكفير.
2 ـ صفةُ الكلام لله عزَّ وجلَّ عند أهل السُّنَّة ذاتيَّةٌ فعليَّة، ذاتيَّةٌ باعتبار أنَّ الله متكلِّمٌ بلا ابتداء، ويتكلَّم بلا انتهاء، فلَم يكن غيرَ متكلِّم ثم تكلَّم، بل لا بداية لكلامه ولا نهاية لكلامه، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}، وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، والقرآن من كلامه، والتوراة والإنجيل والزبور المنزَّلة من كلامه، وكلُّ كتاب أُنزل على رسول من رسله هو من كلامه.
وهي صفةٌ فعليَّةٌ لتعلُّقها بالمشيئة والإرادة، وهو سبحانه يتكلَّم إذا شاء كيف شاء، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الآية، وغيرها من الآيات الدالة على أنَّ كلامَه متعلِّقٌ بمشيئته.
3 ـ وأمَّا الحديث المشار إليه، فإنَّما ذكره هذا الضال، ونسبه إلى أهل السُّنَّة، هو من ضلاله وفهمه الخاطئ، والحديث في إسناده مقال، وعلى ثبوته فلا إشكالَ فيه عند أهل السُّنَّة؛ فإنَّ (القرآن) فيه عندهم بمعنى القراءة، وليس بمعنى المقروء، ومن المعلوم أنَّ القراءة عملُ القارئ، وهو يُثاب عليه، والأعمالُ وإن كانت أعراضاً فإنَّها تُقلَب بمشيئة الله أجساماً، كما جاء في العمل الصالح أنَّه يأتي صاحبَه في قبره في أحسن صورة، والعملُ السيِّء يأتيه في أقبح صورة، وكما تُجعل الأعمال أجساماً(7/230)
توضَع في الميزان، وقد أوضح ذلك ابن أبي العز الحنفي شارحُ الطحاوية، فقال في (ص: 191 ـ(7/231)
ص -215- ... 193): "والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يُذكر ويُراد به القراءة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}، وقال صلى الله عليه وسلم: (زيِّنوا القرآن بأصواتكم)، وتارة يُذكَرُ ويُراد به المقروء، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا القرآنَ أُنزل على سبعة أحرف)، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدَّالَّة على كلٍّ من المعنيين المذكورَين".
وقال في (ص: 93 ـ 95): "الموتُ صفةٌ وجوديَّة، خلافاً للفلاسفة ومَن وافقهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، والعدمُ لا يُوصَف بكونه مخلوقاً، وفي الحديث: "إنَّه يُؤتَى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيُذبَح بين الجنَّة والنار"، وهو وإن كان عرَضاً فالله تعالى يقلبُه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: أنَّه يأتي صاحبَه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة، وورد في القرآن: "أنَّه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون" الحديث، أي قراءة القارئ، وورد في الأعمال: "أنَّها توضَع في الميزان"، والأعيانُ هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران أنَّهما يوم القيامة (يُظلاَّن صاحبهما كأنَّهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف)، وفي الصحيح "أنَّ أعمالَ العباد تصعد إلى ا لسماء".
4 ـ قوله: "وكيف يُقال: ألَّف الرجل كتاباً أنَّه من صفاته؟ فالله عزَّ وجلَّ خالق وخلق المخلوق، ولا يُقال: أنَّ المخلوق من صفة الخالق، كذلك يقال: أنَّ الله تكلَّم بكلام، ولا يُقال: إنَّ مجموع تلك الكلمات التي تكلَّم بها صفة من صفاته!!".(7/232)
ص -216- ... أقول: هذا مِمَّا قرَّر به هذا الضال أنَّ كلامَ الله مخلوق، وعند أهل السُّنَّة أنَّ القرآنَ من كلام الله، وكلامُ الله لا حصر له ولا نهاية له، كما دلَّت على ذلك آيتا الكهف ولقمان، وكلُّ كلام لله فهو من صفته، وكلُّ كلام لمخلوق فهو من صفته، فيُحمَد المخلوق على حسَنه ويُذمُّ على سيِّئه، ومن صفات القرآن الذي هو من كلامه أنَّه في غاية الإعجاز، ومن صفات هذا الكلام القبيح للحكمي أنَّه من أسوأ الكلام وأبطل الباطل.
5 ـ لا تنافي ولا تناقض بين قول أهل السُّنَّة: إنَّ القرآنَ منَزَّلٌ غيرُ مخلوق، وبين قولهم: إنَّ إنزالَ المطر والحديد وأولاد الأنعام منَزَّلةٌ مِمَّا هو مخلوق؛ فإنَّ إنزالَ المطر جاء مقيَّداً بأنَّه من المُزن وهو السحاب، وإنزال أولاد الأنعام جاء مقيَّداً بأنَّه إنزالٌ من الأنعام، وإنزال الحديد يكون من الجبال، وكلُّ ذلك إنزال مخلوق من مخلوق، أمَّا القرآن فقد جاء مقيَّداً بأنَّه منَزَّلٌ من الله، كما قال عزَّ وجلَّ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، وغير ذلك من الآيات، وهذا يدلُّ على الفرق بين إنزال القرآن، وأنَّه من الله وأنَّه غير مخلوق، وبين تلك المخلوقات التي جاءت مقيَّدَة بإنزال مخلوق من مخلوق، وقد أوضح هذه الفروق شارح الطحاوية في (ص: 196 ـ 197)، وعلى هذا فيكون الكلام المهلهل كلام هذا الضال، حيث قال مشنِّعاً على أهل السُّنَّة: "أوَلَم يقولوا قبل قليل: أنَّ الإنزال يكون للمخلوق كالماء والحديد والأنعام، ثم أصبحت الآن ـ في مسألة القرآن ـ صار معناها عدم الخلق؟! وهذا يدلُّ على أنَّ التركيب المعرفي في العقيدة السلفية مهلهل!!!".
ومن ذلك قوله (ص: 244 ـ 245): "أثبتوا لله ظلاًّ؛ لأنَّه ورد نصٌّ (يظلُّهم الله في ظلِّه)، مع أنَّه قد ورد في بعض(7/233)
الروايات أنَّه ظلُّ العرش،(7/234)
ص -217- ... وورد في روايات أنَّه ظل من خلقه، كبيت الله وناقة الله، ومع ذلك غلَّبوا ذلك المحمل الضعيف، فأثبت بعضُهم أنَّ لله ظلاًّ وهم يقرؤون قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، والظلُّ لا بدَّ أن يشبه صاحبَه، أو أنَّ هذا ـ بزعمهم ـ ظلٌّ على وجه الكمال خاصٌّ به على ما يليق بجلاله!!
والذي يظهر أنَّ التفاهمَ مع هذه الطائفة صعب المنال؛ لأنَّه يقتضي بناء قاموس لغوي آخر واختراع لغة جديدة، ثم نتعلَّمها سنوات طويلة، ثم نتفاهم معهم! والعجيب أنَّ بعضهم يرى أنَّ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس له ظلٌّ؛ لأنَّه مُنَزَّه عن ذلك، وفي المقابل يرى أنَّ لله ظلاًّ!! فيا لله العجب! كيف أصبحت العقيدة لا تملأ العقل إلاَّ شكًّا، ولا القلب إلاَّ ظنًّا!!".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ حديث"سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه" أخرجه البخاري (660) ومسلم (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند البخاري أيضاً (6806) بلفظ: "سبعة يظلُّهم الله يوم القيامة في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه"، وجاء في حديث سلمان عند سعيد بن منصور بلفظ: "سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّ عرشه"، ذكره الحافظ في الفتح (2/144)، وقال: "بإسناد حسن"، ولم أقف على رواية بلفظ"ظل من خلقه" التي أشار إليها الحكمي، وإضافة الظلِّ إلى الله إضافة تشريف، وهو من قبيل إضافة المخلوق إلى الخالق، كبيت الله وناقة الله ونحو ذلك، ولم أقف لأحد من أهل السُّنَّة على قول بأنَّه من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف.
2 ـ وأمَّا قوله: "والعجيب أنَّ بعضهم يرى أنَّ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس له ظلٌّ؛ لأنَّه مُنَزَّه عن ذلك، وفي المقابل يرى أنَّ لله(7/235)
ص -218- ... ظلاًّ!! فيا لله العجب! كيف أصبحت العقيدة لا تملأ العقل إلاَّ شكًّا، ولا القلب إلاَّ ظنًّا!!".
فهو من الكذب البيِّن والإفك المبين؛ فإنَّ أهلَ السُّنَّة أبعدُ الناس عن القول بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا ظلَّ له، والذي يقول مثلَ هذا الكلام بعضُ الصوفية، الذين يقولون: إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم نورٌ فلا يكون له ظلٌّ، وهو قول باطل؛ لأنَّ نورَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نورُ هداية، نظيرُ النور الذي وصف الله به القرآن بقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}، ولو كان نورُ الرسول صلى الله عليه وسلم حسيًّا كما يزعمون يعكس نورَ الشمس فلا يكون له ظلّ، لَم يحتج إلى الجلوس في ظلِّ الكعبة، والذي جاء في البخاري (3852) عن خبَّاب رضي الله عنه، وفي مسلم (990) عن أبي ذر رضي الله عنه، ومثل ذلك ما جاء في حديث جابر في صحيح مسلم (843)، وفيه قال: "كنَّا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد قالت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: "كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزَني فقبضتُ رجليَّ، فإذا قام بسطتُهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح" رواه البخاري (382)، ومسلم (512)، فلو كان نورُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حسيًّا لا يكون معه ظلام الليل لم تحتج عائشة إلى أن تقول"والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح"، وعلى هذا فالقول بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا ظلَّ له قول بعض الصوفية، وهو من الغلوِّ والإطراء للرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل السنَّة والجماعة هم أبعدُ الناس من هذا القول، لكن هذا الحكمي الضال لا يُميِّز بين مبتدع ومُهتد، فيُضيف هذا القولَ للصوفية إلى أهل السُّنَّة وهم بُرآءُ منه، والنور الذي يُثبتونه للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن معناه الهداية، كما قال الله عزَّ(7/236)
وجلَّ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.(7/237)
ص -219- ... وإلى هنا انتهى هذا الردُّ وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفعَ به المردودَ عليهم وغيرَهم وأن يفقِّهَ المسلمين بدينهم وأن يسلِّمَهم من البدع وأن يوفقهم لما تُحمد عاقبته في الدنيا والآخرة، إنَّه سميع مُجيب.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكان الفراغ من كتابة هذا الردِّ في اليوم الخامس عشر من شهر الله المحرم
سنة (1424هـ)، والحمد لله رب العالمين.(7/238)
عنوان الكتاب:
الانتصار للصحابة الأخيار في رد أباطيل حسن المالكي
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية، دار ابن عفان، القاهرة، مصر
الثانية، 1423هـ(8/1)
ص -3- ... الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
تأليف: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على من لا نَبِيَّ بعده، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.أمَّا بعد:
فإنَّ عقيدةَ أهل السُّنَّة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم عقيدةٌ سليمةٌ مستقيمةٌ، مَبنيَّةٌ على مَحبَّتهم جميعاً، وموالاتهم، والدعاء لهم، والثناء عليهم بالجميل اللاَّئق بهم، وسلامة القلوب والألسنة من كلِّ ما لا يليق بهم.
وإنَّ من الخزي والعار للمرء في هذه الحياة أن يكون في قلبه غِلٌّ لهم، وأن يطلقَ لسانَه بِمَا فيه نَيْلٌ منهم، وذمٌّ لهمٌ، وهَضم لِجَنَابهم، يقول الطحاوي رحمه الله: " ونحبُّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلاَّ بخيرٍ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ ".
وقال أبو المظفَّر السمعاني رحمه الله: " التعرُّضُ إلى جانب الصحابة علامةٌ على خذلان فاعله، بل هو بدعةٌ وضلالةٌ ".(8/2)
ص -4- ... ويقول أبو زرعة الرازي رحمه الله: " إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ "
وهذه النقول مع غيرها مذكورة في آخر هذا الكتاب.
وطبعته الثانية هذه مع سابقتها على نفقة بعض المحسنين، أثابهم الله وأجزل لهم المثوبة.
وأسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب مؤلِّفَه وقارئَه وسامعه والمردودَ عليه فيه، إنَّه سميعٌ مجيب.
المؤلف(8/3)
ص -5- ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
وبعد، فإنَّ من فضلِ الله تعالى وعظيمِ منَّتِه عليَّ أن حبَّبَ إليَّ صحابةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخيار، وقرابتَه الأطهار، من غير إفراطٍ أو تفريطٍ، أو غُلوٍّ أوجفاءٍ، كما هي طريقةُ السَّلف الصالح، وقد ألَّفتُ رسالةً مختصرةً بعنوان: " عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم "، وقد نُشرتْ في مجلَّة الجامعة الإسلامية، في عدَدِها الثاني من السنة الرابعة، الصادر في شهر شوّال سنةَ 1391ه ، ثمَّ طُبعتْ مستقلَّة.
وألَّفتُ رسالةً بعنوان: " فضلُ أهل البيت وعُلوُّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة " طُبعتْ في عام 1422ه ، وسبق أن ألقيتُ محاضرةً في الموضوع في الجامعة الإسلامية في عام 1405ه تقريباً بعنوان: " مكانةُ أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم بإحسان ".(8/4)
ص -6- ... وقد ألقيتُ محاضرةً في قاعة المحاضرات في الجامعة الإسلامية في عام 1405ه تقريباً عن معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عنوانها
في أوَّل الأمر " معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بين المنصفين والمتعسِّفين "، لكنِّي عند إلقائها اقتصرتُ على كلام أهل الإنصاف دون ذكر شيءٍ من كلام أهل الاعتساف، ثمَّ طُبعت بعنوان: " من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفةِ معاويةَ رضي الله عنه ".
وفي الآونة الأخيرة وقفتُ على رسالتين لأحد المتعسِّفين الجُدُد، وهو حسن بن فرحان المالكي (نسبة إلى بَنِي مالك في أقصى جنوب المملكة)، إحداهما بعنوان: " الصحابةُ بين الصُّحبة اللُّغوية والصُّحبة الشَّرعية "، والثانية بعنوان: " قراءةٌ في كتب العقائد "، اشتملتَا على تَخبُّطٍ وتَخليطٍ في مسائل الاعتقاد، ولا سيَما في الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وعلى النَّيل من عددٍ كبيرٍ من علماء أهل السنَّة المتقدِّمين والمتأخِّرين، وإشادة بأهل البدع.
وسأقتصرُ في هذه الرسالة على دحضِ أباطيله في حقِّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومن هذه الأباطيل: تقسيمُه الصحبةَ إلى صحبةٍ شرعيَّة وصحبةٍ لغويَّةٍ، ويريدُ بالصُّحبة الشرعيَّة صحبة المهاجرين والأنصار من أوَّل الهجرة إلى صُلح الحُديبية، وأنَّ ما ورد من فضائل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّما هي لهؤلاء وحدهم، ومَن كان بعد الحُديبية فصحبتُه لغويَّة كصحبة المنافقين والكفّار. فأخرج بذلك الألوفَ الكثيرةَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا وهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية، وكذلك الذين أسلموا عامَ الفتح، والوفودَ الذين وَفَدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرَهم، ومِن الذين زعم أنَّهم لَم يظفروا بشرف الصُّحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنَّ صُحبَتَهم إيَّاه(8/5)
ص -7- ... كصُحبة الكفَّار والمنافقين: عمُّه العباس بن عبد المطّلب وابنُه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية رضي الله عنهم، وسيأتي تنصيصُه على عدم صحبتِهم والردُّ عليه.
ومن هذه الأباطيل تشكيكُه في أفضليَّة أبي بكر على غيره وفي أَوْلَوِيَّته بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك مِمَّا سأذكرُه في الرَّدِّ عليه.
واللهُ يعلم أنَّني كارهٌ لإيراد هذه الأباطيل، لكن حالي كما جاء في المَثَل: " مُكرَهٌ أخوك لا بطل "، كما في مجمع الأمثال للميداني (ص:274)، فأجدُني مضطرًّا إلى إيراد هذه التَّعسُّفات والرَّدِّ عليها، وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " (ص:5) في إبطال قول من قال: "إنَّه لا يُحتَجُّ بالسُّنَّة، إنَّما يُحتجُّ بالقرآن وحده!" قال: " اعلموا يرحمكم الله أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة " إلى أن قال في (ص:6): " وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار ".
ولشناعة هذه الأباطيل، فإنَّ مجرَّدَ تصوُّرِها يُغني عن الاشتغال في الردِّ عليها، لكنِّي رأيتُ الردَّ عليها في هذه الرسالة؛ لئلاَّ يغتَرَّ بها ذو جهل أو تغفيل، ورجاء أن يهدِيَ اللهُ المردودَ عليه، ويُخرجه من الظلمات إلى النور، فيتوبَ من تلك الأباطيل قبل أن يفجأَه هادِمُ اللَّذَّات، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل، كما قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه "تفسير القرطبي 5/262".(8/6)
ص -8- ... وقد سَمَّيتُ هذه الرسالة:
الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
وما أعزوُه إليه مِن كلامٍ باطل للردِّ عليه فهو في كتابه الذي في الصحابة، وما كان في الكتاب الآخر وهو: " قراءةٌ في كتب العقائد " فإنِّي أنصُّ عليه، فأقول: قال في " قراءته " كذا وكذا، وقد رددتُ عليه من كتابه هذا في موضعين من هذا الردِّ (ص:65)، (ص:115 ...)، وسأُفرِدُ بحول الله الردَّ عليه فيه بكتاب بعنوان: " الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي ".
وأسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيقَ لِما فيه رضاه والفقهَ في دينه والثباتَ على الحقِّ، إنَّه سميعٌ مجيب.(8/7)
ص -9- ... زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والرد عليه:
قال في (ص:25) في بيان مَن هم الصحابة: " أصحابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : الصحبة الشرعية ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وقد يدخل فيهم مَن كان في حكمهم مِمَّن أسلم وهاجر إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعاد إلى بلاده قبل فتح الحُديبية.
فهذا أسلمُ تعريفٍ لأصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذه الصُّحبةُ الشرعيةُ هي التي كان فيها النُّصرةُ والتمكينُ في أيَّام الضَّعفِ والذِّلَّة، وهي الصُّحبةُ الممدوحةُ في القرآن الكريم والسنَّة النبويّة، بمعنى أنَّ كلَّ آيات القرآن الكريم التي أثنت على "الذين مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " إنَّما كان الثناءُ مُنصَبًّا على المهاجرين والأنصار فقط، وليس هناك مدحٌ عامٌّ لِمَن كان مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ وهو منصرفٌ لهؤلاء لا لغيرهم !! ".
وقد علَّق عند قوله: " قبل فتح الحُديبية " بقوله في الحاشية: " وقد يدخل في مسمَّى "الأصحاب" مَن أسلم بَعد الحُديبية إلى فتح مكة، مع الجزم بالفرق الكبير بينهم وبين أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قبل بيعة الرِّضوان؛ لحديث خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، لكن لا يدخل فيهم طلقاءُ قريشٍ ولا عُتقاءُ ثقيفٍ ولا مَن كان في حُكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة !!! ".
وقال في نهاية الكتاب (ص:84 85): " الصُّحبةُ الشرعية: لا تكون إلاَّ في المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في المدينة من بداية الهجرة إلى زمن الحُديبية، ويدخل في هؤلاء السابقون بالإسلام، الذين(8/8)
ص -10- ... توفوا في مكة قبل الهجرة، أو في الحبشة، أو قدموا بعد الحُديبية من مهاجرة الحبشة فقط.
الصُّحبة العامة: التي مرجعُها العُرفُ أو اللُّغة، فهذه يدخل فيها كلُّ مَن صحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من المسلمين أو المنافقين أو الكفَّار، والذي يُدخِل مَن صحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صحبةً يسيرةً لاحتمال اللُّغة ذلك لا يستطيع إخراجَ صحبة المنافق لا لغةً ولا عُرفاً؛ لأنَّ اللغةَ والعرفَ تحتملان ذلك أيضاً.
فإن قال المُخرج للمنافق أو الكافر: إنَّما أخرجناهما من الصُّحبةِ بالشرع، قلنا له: ونحنُ إنَّما حدَّدنا الصُّحبة الشرعية بالمهاجرين والأنصار بالشرع أيضاً.
فإن تَمسَّكتَ بمطلق اللغة فقد أدخلتَ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صحبةَ المنافقين، وإن قلتَ: أنَّ اللغة ليست حجَّةً على الشرع، قلنا: كذلك في الصحبة الشرعية، والعرفُ حكمُه حكمُ اللغة، وإن كان أقوى دلالةً من اللغة ".
أقول: إنَّ هذا الكلام يشتمل على أمور:
الأول: قصرُه المهاجرين هجرةً شرعيةً على مَن هاجر قبل الحُديبية، دون مَن هاجر بعدها.
الثاني: أنَّ المهاجرين قبل الحُديبية مع الأنصار هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصُّحبةَ الشرعية دون غيرِهم.
الثالث: الجزم بأنَّ كلَّ مَن صحب الرسولَ صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة سواء كان من الطُّلَقاء والعُتقاء وأصحاب الوفود لا يُعَدُّ صحابياًّ، وصحبتُه المضافة إليه لغوية، كصحبة المنافقين والكفّار.
الرابع: أنَّ أولادَ المهاجرين والأنصار ليس لهم حكم المهاجرين والأنصار.(8/9)
ص -11- ... الخامس: اعتبر مَن صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أصحابه الصُّحبة اللُّغوية التي هي شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكفار، كما جاء في كلامه الأخير الذي هو خلاصةُ رأيه.
والجوابُ عن الأمر الأوّل أن يُقال:
إنَّ الهجرةَ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة تَمتدُّ مِن بدْءِ الهجرة إلى فتحِ مكة، مع التفاوت الكبير بين مَن تقدَّمتْ هجرتُه ومَن تأخَّرتْ، كما أنَّ التفاوُتَ حاصلٌ بين مَن هاجر في بداية الهجرة وبين مَن هاجر قُبَيل صُلح الحُديبية.
فإنَّ مَن شَهِد بدراً وأُحُداً والخندقَ وغيرَها أفضلُ مِمَّن هاجر قُبَيل الحُديبية وشَهِد الحُديبية.
وما ذكره في (ص:8586) من تقسيم الهجرة إلى "هجرة شرعية" تنتهي بصلح الحُديبية و"شرعيةِ هجرةٍ" تَمتَدُّ إلى فتح مكة، وقصْره فضلَ الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ على الهجرة قبل الحُديبية دون ما بعدها إلى فتح مكة تحكُّمٌ لا دليل عليه.
ويدلُّ لاستمرار الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ من بدء الهجرة إلى فتح مكة ما يأتي:
1حديث ابن عباس في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (2825)، أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال يومَ الفتح: " لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ، وإذا استُنفِرْتُم فانفِروا ".
قال الحافظ في شرحه: " قال الخطّابيُّ وغيرُه: كانت الهجرةُ فرضاً في أوَّل الإسلام على مَن أسلم لقلَّة المسلمين بالمدينة وحاجتِهم إلى الاجتماع، فلمَّا فتح اللهُ مكةَ دخل النَّاسُ في دين الله أفواجاً، فسقط فرضُ الهجرة إلى(8/10)
ص -12- ... المدينة، وبقي فرضُ الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدوٌّ ".
2حديث أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (3079)، قال: " جاء مجاشعٌ بأخيه مجالد بن مسعود إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: هذا مجالد يبايعُك على الهجرة، فقال: لا هجرةَ بعد فتح مكة، ولكن أبايعُه على الإسلام ".
وفي لفظٍ للبخاري (2963) قال مجاشع: " أتيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، فقلتُ: بايعْنا على الهجرة، فقال: مَضتِ الهجرةُ لأهلها، فقلتُ: علامَ تبايعنا؟ قال: على الإسلام والجهاد ".
وهو يدلُّ على استمرار الهجرة ذات المدح والثناء إلى فتح مكة.
3عن عائشة رضي الله عنها قالت: " انقطعت الهجرةُ منذُ فتح اللهُ على نبِيِّه صلى الله عليه وسلم مكة " رواه البخاري (3080).
وهو واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الفضل إلى فتح مكة.
4حديث جرير رضي الله عنه مرفوعاً: "المهاجرون والأنصارُ بعضُهم أولياءُ بعض في الدنيا والآخرة، والطُّلَقاءُ من قريشٍ والعتقاءُ من ثقيفٍ بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الدنيا والآخرة "، وهوحديثٌ صحيحٌ، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1036) والمسند (4/363).
والمقابلة بين المهاجرين والأنصار وبين الطُّلَقاء والعتقاء دالَّةٌ على استمرار الهجرة إلى فتح مكة.
وقد أورد المالكي في (ص:4647) حديثَ مجاشعٍ، وفيه الدلالة على أنَّ الهجرة تنتهي بفتح مكة، وهو يخالفُ ما زعمَه في (ص: 4546) من أنَّ الهجرةَ تنتهي بصُلح الحُديبية فقال: " الدليلُ الخامس عشر ما رواه(8/11)
ص -13- ... البخاري في صحيحه عن مجاشع بن مسعود قال: أتيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح، فقلتُ: يا رسول الله! جِئتُك بأخي لتبايعَه على الهجرة، قال: ذهب أهلُ الهجرة بما فيها.
أقول: هذه (كذا) فيه دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ فتحَ مكة قطع الهجرة، ولا يحصل مسلمو الفتح على اسم الهجرة ولا فضلها حتى لو وفدوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فلا يُسمَّوْن مهاجرين، وإنَّما يُسمَّوْن "الناس" كما في حديث "أنا وأصحابي حيِّزٌ والناسُ حيِّزٌ"، أو يُسمَّون الطُّلَقاء، أو نحو ذلك!
ثمَّ علَّق على هذا بقوله:" وقوله: "ذهب أهلُ الهجرة بِما فيها" أي بِما فيها من فضلٍ وتسميةٍ وغيرِ ذلك مِمَّا هو من خصائص المهاجرين وفضائلهم ".
وأقول: هذا واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الثناء والمدح إلى فتح مكة، وهو خلافُ ما دندن حولَه من أنَّ الهجرةَ المحمود أهلُها تنتهي بصلح الحُديبية، وهذا الحديثُ قد أوردتُه قريباً من جملة الأدلَّة الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صلح الحُديبية كما زعم، وقد وُفِّق هنا للصواب بتقرير أنَّ الهجرةَ تستمرُّ إلى فتح مكة، وإن كان ذلك بغير قصدٍ منه.
وأمَّا الأمورُ الأربعةُ الباقيةُ، وهي قصرُه الصُّحبةَ الشرعية التي جاء مدحُها في الكتاب والسنَّة على المهاجرين قبل الحُديبية والأنصار إلى زمن صلح الحُديبية، ونفي هذه الصحبة عن المهاجرين بعد الحُديبية، وعن الطُّلَقاء وعتقاء ثقيف وأصحاب الوفود وأبناء المهاجرين والأنصار، فيجاب عن ذلك بأنَّ هذا التقسيم للصحابة إلى مَن صُحبتُهم صُحبةٌ شرعيةٌ ومَن(8/12)
ص -14- ... صُحبتُهم لُغويةٌ شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكافرين تقسيمٌ غيرُ صحيحٍ، وهو من محدثات القرن الخامس عشر، والصحيحُ أنَّ كلَّ مَن لقي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام فهو من أصحابه.
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/10): " وأصحُّ ماوقفتُ عليه من ذلك أنَّ الصحابيَّ مَن لقي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه مَن طالت مجالسته له أوقصُرت، ومن روى عنه أو لَم يروِ، ومن غزا معه أو لَم يغزُ، ومن رآه رُؤيةً ولو لَم يجالسْه، ومَن لَم يرَه لعارضٍ كالعمى " ثمَّ شرح تعريفَه هذا إلى أن قال (1/12): " وهذا التعريفُ مَبنِيٌّ على الأصحِّ المختارِ عند المحقِّقين كالبخاري وشيخِه أحمدَ بن حنبل ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوالٌ أخرى شاذَّةٌ ... " وأشار إلى جملةٍ منها، وهذا التعريفُ هو الأسلمُ، وهو يشملُ حتى الذين رأوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مجرَّدَ رؤية ولَم يُجالِسوه، ويدلُّ لذلك أدلَّةٌ:
الأول: قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
فإنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ عامَّةٌ في جميع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم سواءً مَن كان أسلم عام الفتح وصحبه صلى الله عليه وسلم ، ومَن كان قبل ذلك وبعده إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .(8/13)
ص -15- ... وقد تأوَّل المالكيُّ هذه الآيةَ بقصرِ عمومِها على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو تحكُّمٌ وتعسُّفٌ، وسيأتي الرَّدُّ عليه.
الثاني: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
فإنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الصحابة، والفتحُ فيها فتحُ مكةَ على قول الجمهور، وصلحُ الحُديبية على قول بعض العلماء، وسيأتي ذكر المالكي للآية مستدلاًّ بها على رأيه الباطل والرَّدّ عليه.
الثالث: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
ففي الآية دليلٌ على أنَّ مَن آمن وهاجر وجاهد مع المهاجرين والأنصار من الصحابة الذين تأخَّر إسلامُهم أنَّهم منهم في الأجر والثواب، مع التفاوت الكبير بين هؤلاء وهؤلاء، قال الشوكاني في فتح القدير: " ثمَّ أخبر سبحانه بأنَّ من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المهاجرين الأوَّلين والأنصار فهو مِن جملتِهم أي: من جملة المهاجرين الأوَّلين والأنصار في استحقاق ما استحقُّوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم ".
الرابع: قال الله عزَّ وجلَّ: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللهُ(8/14)
ص -16- ... لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}.
فإنَّ الآيةَ في الصحابة جميعاً، فيدخلُ فيها كلُّ مَن كان معه وجاهد قبل الفتح وبعده، في حُنين والطائف وغزوة تبوك، قال ابن كثير في تفسيره:
" لَمَّا ذكر تعالى ذمَّ المنافقين بيَّن ثناءَه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم، فقال: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا} إلى آخر الآيتين من بيان حالِهم ومآلهم، وقوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ}، أي: في الدار الآخرة في جنَّات الفردوس والدرجات العُلَى ".
ويدلُّ لذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}، أي: أنَّ اللهَ كافيك وكافي من اتَّبَعك من المؤمنين.
الخامس: قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سِيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذين آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ففي الآيةِ الكريمة بيانُ حال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه يوم القيامة، ويدخل في ذلك الصحابة رضي الله عنهم دخولاً أوَّليًّا؛ لأنَّهم خيارُ المؤمنين وسادات الأولياء بعد الأنبياء والمرسَلين.
السادس: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم،(8/15)
ص -17- ... ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى مَن صَحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: هل فيكم مَن رأى مَن صَحِب من صَحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم " رواه مسلم (2532).
فهذا الحديث الصحيحُ دالٌّ على أنَّ الصُّحبةَ للرسول صلى الله عليه وسلم تحصُل برؤيته صلى الله عليه وسلم ، وإن لَم تطُلْ صحبتُه إيَّاه.
قال علي بن المدينيرحمه اللهفي اعتقاده الذي رواه عنه اللالكائي بإسناده في كتابه " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " (1/188) فساقه، وفيه: " مَن صَحِبَه سَنةً أو شهراً أو ساعةً، أو رآه، أو وفد إليه فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحبَه، فأدناهم صحبةً هو أفضلُ من الذين لَم يروه، ولو لقوا الله عزَّ وجلَّ بجميع الأعمال، كان الذي صحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ورآه بعينيه وآمن به ولو ساعة أفضلَ بصُحبته من التابعين كلِّهم، ولو عملوا كلَّ أعمال الخير ".
وقد ساق اللالكائيُّ في كتابه أيضاً (1/180) اعتقاد الإمام أحمد بإسناده إلى عَبدوس بن مالك العطَّار عنه، وفيه تعريف الصحابي وبيان فضيلة الصُّحبة بنحو كلام علي بن المديني المتقدِّم.
قال ابن تيمية في منهاج السنَّة (8/382388): " ومِمَّا يبيِّن هذا أنَّ الصُّحبةَ فيها عمومٌ وخصوصٌ، فيُقال: صَحبِه ساعةً ويوماً وجمعةً وشهراً وسنةً، وصَحِبَه عمرَه كلَّه.
وقد قال تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ}، قيل: هو الرفيق في السَّفر، وقيل: الزوجة، وكلاهما تقلُّ صُحبتُه وتكثر، وقد سَمَّى الله الزوجةَ صاحبةً في قوله: {أَنَّى يُكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَهُ صَاحِبَةٌ}.
ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عَبْدوس بن مالك عنه:(8/16)
ص -18- ... "مَن صحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً، أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحبَه".
وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرِهم: يَعُدُّون في أصحابه مَن قلَّت صحبتُه ومَن كثرت، وفي ذلك خلافٌ ضعيف.
والدليلُ على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى مَن صحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى مَن صحب من صحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم"، وهذا لفظ مسلم، وله في رواية أخرى: "يأتي على الناس زمان يُبعَثُ منهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحداً مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيوجد الرَّجل، فيُفتَح لهم به، ثمَّ يُبعث البعثُ الثاني، فيقولون: هل فيكم مَن رأى أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم به، ثمَّ يُبعثُ البعثُ الثالث، فيُقال: انظروا هل ترون فيكم مَن رأى مَن رأى أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم، ثمَّ يكون البعثُ الرابع، فيُقال: هل ترون فيكم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيوجد الرَّجل فيُفتحُ لهم به"، ولفظ البخاري ثلاث مرَّات كالرواية الأولى، لكن لفظه: "يأتي على الناس زمان يغزو فِئامٌ من الناس"، وكذلك قال في الثانية والثالثة، وقال فيها كلِّها: "صَحِب"، واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابةِ والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة، وأمَّا القرن الرابع فهو في(8/17)
ص -19- ... بعضها، وذِكرُ القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خيرُ أمَّتِي القرن الذين يَلونَنِي، ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدِهم يَمينَه ويَمينُه شهادتَه".
وفي الصحيحين عن عِمران: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ خيرَكم قرنِي ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ الذين يلُونَهم"، قال عِمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، "ثمَّ يكون بعدهم قومٌ يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمَنون، وينذِرون ولا يوفون"، وفي رواية: (ويحلفون ولا يُستحلفون)، فقد شكَّ عمران في القرن الرابع ... ".
إلى أن قال: " ففي الحديث الأول: "هل فيكم مَن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟" ثمَّ قال: "هل فيكم مَن رأى مَن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟"، فدلَّ على أنَّ الرَّائي هو الصَّاحب، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال: "هل فيكم من رأى مَن صَحبَ مَن صَحِبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟" ثمَّ يكون المراد بالصَّاحب الرائي.
وفي الرواية الثانية: "هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟" ثمَّ يقال في الثالثة: "هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟".
ومعلومٌ إن كان الحكمُ لصاحب الصاحب معلَّقاً بالرؤية، ففي الذي صحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأوْلَى والأحْرَى.
ولفظ البخاري قال فيها كلِّها: "صَحِب"، وهذه الألفاظ إن كانت كلُّها من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي نصٌّ في المسألة، وإن كان قد قال(8/18)
ص -20- ... بعضَها، والراوي مثل أبي سعيد يروي اللَّفظ بالمعنى، فقد دلَّ على أنَّ معنى أحد اللَّفظين عندهم هو معنى الآخر، وهم أعلمُ بِمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأيضاً فإنْ كان لفظ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "رأى" فقد حصل المقصود، وإن كان لفظه "صحب" في طبقة أو طبقات، فإن لَم يُرِد به الرؤية لَم يكن قد بيَّن مرادَه، فإنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ ليس لها حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، والعُرف فيها مختلف.
والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَم يُقيِّد الصُّحبةَ بقيدٍ، ولا قدَّرها بقدر، بل علَّق الحكمَ بمطلقها، ولا مُطلقَ لها إلاَّ الرؤية.
وأيضاً فإنَّه يُقال: صَحِبَه ساعةً وصَحِبَه سنةً وشهراً، فتقع على القليل والكثير، فإذا أُطلقت من غير قيد لَم يَجُز تقييدُها بغير دليل، بل تُحملُ على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.
ولا ريب أنَّ مجرَّدَ رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يُقال: قد صَحِبَه، ولكن إذا رآه على وجه الاتِّباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به، ولهذا لَم يُعتدَّ برؤية مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من الكفَّار والمنافقين؛ فإنَّهم لَم يروه رؤيةَ مَن قَصْدُه أن يؤمن به، ويكون من أتباعه وأعوانه المصدِّقين له فيما أخبر، المطيعين له فيما أمر، الموالين له، المُعادين لِمَن عاداه، الذي هو أحبُّ إليهم من أنفسِهم وأموالِهم وكلِّ شيء ".
السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: " السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنَّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَلَسْنا إخوانَك يا رسول الله؟! قال:(8/19)
ص -21- ... أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لَم يأتوا بعد " الحديث، رواه مسلم (249) وغيرُه.
فدلَّ الحديثُ على التمييز بين أصحابه وإخوانِه، وأنَّ أصحابَه هم الذين أدركوه ورأوه، وإخوانَه الذين يأتون مِن بعد ولَم يروه، والمرادُ بالأُخوَّة الأخوَّة الإيمانية، والصحابةُ جمعوا بين الصُّحبةِ والأُخوَّة، والذين بعدَهم نصيبُهم الأُخوَّة وحدها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (8/389): " ومعلومٌ أنَّ قوله "إخواني" أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي، وأمَّا أنتم فلكم مزيَّة الصُّحبة
فجعل هذا حدًّا فاصلاً بين إخوانه الذين ودَّ أن يراهم وبين أصحابه، فدلَّ على أنَّ مَن آمن به ورآه فهو من أصحابه، لا مِن هؤلاء الإخوان الذين لَم يَرَهم ولَم يَرَوْه، فإذا عُرف أنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ تَعُمُّ قليلَ الصُّحبة وكثيرَها، وأدناها أن يصحبَه زمناً قليلاً، فمعلومٌ أنَّ الصِّديقَ في ذروةِ سَنَام الصُّحبة وأعلى مراتبها؛ فإنَّه صَحِبَه من حين بعثه الله إلى أن مات ".
الثامن: روى الإمام أحمد في مسنده (4/152) عن محمد بن عُبيد الطنافسي قال: ثنا محمديعني ابنَ إسحاقحدَّثني يزيد بن أبي حبيب، عن مَرثد بن عبد الله اليَزَنِي، عن أبي عبد الرحمن الجُهنِيِّ قال: " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع رَكْبان، فلمَّا رآهما قال: كِنديان ومُذْحجِيان، حتى أتياه، فإذا رجالٌ من مُذحج، قال: فدنا إليه أحدُهما ليُبايِعه، قال: فلمَّا أخذ بيده قال: يا رسول الله! أرأيتَ مَن رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ قال: طوبى له، قال: فمسح على يده، فانصرف، ثمَّ(8/20)
ص -22- ... أقبل الآخرُ حتى أخذ بيده ليُبايِعه، قال: يا رسول الله! أرأيتَ مَن آمن بك وصدَّقك واتَّبعك ولَم يرَك؟ قال: طوبى له، ثمَّ طوبى له، ثمَّ طوبى له، فمسح على يده فانصرف ".
وهذا الإسناد فيه محمد بن عُبيد ويزيد بن أبي حبيب ومرثَد بن
عبد الله اليزني، وهم ثقات من رجال الجماعة، ومحمد بن إسحاق صدوق يدلِّس، وقد صرَّح بالتحديث.
وقد رُتِّب الفضلُ في الحديث على رؤيته صلى الله عليه وسلم والإيمان به وتصديقه واتِّباعه.
التاسع: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللِّفظ للبخاري (3650) عن عِمران بن حُصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خيرُ أُمَّتِي قرنِي، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم، قال عِمران: فلا أدري أَذَكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة" الحديث.
وروَيا أيضاً، واللفظ للبخاري (3651) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " خيرُ الناس قرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم " الحديث.
والقرنُ الأوَّل مِن هذه القرون هو قرنُ الصحابة رضي الله عنهم، قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/84): " اتَّفق العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه صلى الله عليه وسلم ، والمرادُ أصحابُه ".
ونقل عن القاضي عياض أنَّ شهر بن حوشَب قال: " قرنُه: ما بَقيتْ عينٌ رأتْه، والثاني: ما بقيت عينٌ رأت مَن رآه، ثمَّ كذلك ".
وقال ابن تيمية في منهاج السنة (8/384): " واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة ".(8/21)
ص -23- ... وجاء في السنة الصحيحة وَصْفُ الذين لَم يُدركوا زمنَه صلى الله عليه وسلم ويَروه ب "التابعين"، ففي صحيح مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ خيرَ التابعين رجلٌ يُقال له أُوَيس، له والدةٌ وكان به بياض، فمُروه فليستغفر لكم "، وهو يدلُّ على التمييز بين الصحابة والتابعين.
العاشر: روى مسلم (2531) عن أبي بُردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " صلَّينا المغربَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاءَ، قال: فجلسنا، فخرج علينا، فقال: ما زلتُم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله! صلَّينا معك المغربَ، ثمَّ قلنا: نجلس حتى نصلِّيَ معك العشاءَ، قال: أحسنتم أو أَصبتُم، قال: فرفع رأسَه إلى السماء، وكان كثيراً مِمَّا يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النُّجومُ أَمَنَةٌ للسماءِ، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتِي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعَدون ".
وفي صحيح البخاري (3876) أنَّ أبا موسى رضي الله عنه قدِم إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، وكان ذلك بعد الحُديبية، وأبو موسى رضي الله عنه مِمَّن يشمله حديثه هذا، لا كما يقول المالكي مِن أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة هي لِمَن كانت هجرتُه قبل الحُديبية؛ لأنَّ الحُديبية في سنة ست من الهجرة، وفتح خيبر في سنة سبع.
الحادي عشر: روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس (1739) وأبي بكرة (1741) في خطبة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنى في حجَّة الوداع،(8/22)
ص -24- ... وفي آخرها: " فليُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ "، وحديث أبي بكرة رواه مسلم أيضاً (29).
وهؤلاء الذين حجُّوا معه وشهدوا خطبتَه وسَمعوها، وأُمروا بإبلاغها غيرَهم هم من أصحابه، لا كما يقول المالكي من أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة خاصَّةٌ بِمَن كان قبل الحُديبية.
الثاني عشر: روى أبو داود في سننه (3659) بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَسمعون ويُسمع منكم، ويُسمَع مِمَّن سَمِع منكم ".
وهو دالٌّ على أنَّ الذين سَمعوا منه صلى الله عليه وسلم هم من أصحابه، وأنَّ الذين سَمعوا من الصحابة هم التابعون، وأنَّ الذين سَمعوا مِمَّن سَمع من الصحابة هم أتباع التابعين، ولا يُقال: إنَّ مَن سَمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وحدَّث عنه ليس بصحابي.
الثالث عشر: روى أبوداود في سننه (3660) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نضَّر الله امرءاً سَمِع منَّا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغَه ... " الحديث.
وهوحديثٌ متواتر؛ رواه أربعة وعشرون صحابيًّا، وقد جمعتُ طرقَه وتكلَّمتُ على فقهه في بحث بعنوان: " دراسة حديث "نضَّر الله امرءاً سمع مقالتِي " رواية ودراية"، وهو مطبوع، وهو دالٌّ على كون مَن سَمع حديثَه صلى الله عليه وسلم منه أنَّه من أصحابه.
الرابع عشر: روى البخاري في الأدب المفرد (87) قال: حدَّثنا بِشر ابن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا صفوان بن عمرو قال: حدَّثني(8/23)
ص -25- ... عبد الرحمن بن جبير بن نُفير، عن أبيه قال: " جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمرَّ به رجلٌ، فقال: طوبَى لِهاتَين العينين اللَّتين رأَتا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، والله! لوَدِدنا أنَّا رأينا ما رأيتَ، وشهدنا ما شهدتَ، فاستُغضِب، فجعلت أَعْجَب: ما قال إلاَّ خيراً! ثمَّ أقْبَلَ عليه فقال: ما يَحمل الرَّجلَ على أن يتمنَّى مَحضراً غيَّبه الله عنه؟ لا يدري لو شَهدَه كيف يكون فيه؟ والله! لقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرِهم في جهنَّم؛ لَم يُجيبوه ولَم يُصدِّقوه، أوَ لا تَحمدون الله عزَّ وجلَّ إذ أخرجكم لا تعرفون إلاَّ ربَّكم فتُصدِّقون بِما جاء به نبيُّكم صلى الله عليه وسلم ، قد كُفيتُم البلاء بغيركم" الحديث.
وعبد الله الذي في الإسناد هو ابن المبارك، وهو ثقة، أخرج له الجماعة، والثلاثة الذين فوقه ثقات، أخرج لهم البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن، والراوي عن ابن المبارك، قال عنه الحافظ في التقريب: " صدوق "، وقد رواه عن ابن المبارك جمعٌ، منهم: يَعمر بن بشر في مسند الإمام أحمد (6/3)، وحسين بن حسن في الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (292)، وقد أورد الحديثَ ابنُ كثير في تفسيره في آخر سورة الفرقان من مسند الإمام أحمد، وقال: " هذا إسنادٌ صحيح ولَم يخرجوه ".
وهو يدلُّ على أنَّ التابعين يَرون أنَّ شَرَفَ الصُّحبةِ يَحصُل برؤيتِه صلى الله عليه وسلم مع الإيمان به؛ ولَم يُنكر ذلك المقداد رضي الله عنه، وإنَّما غضب لِتمنِّي أمرٍ لا يدري المُتمنِّي ماذا يكون حالُه عند حصولِه، وهذا الذي غضب منه المقداد نظيرُ ما جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " لا تَتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، وسلُوا اللهَ العافيةَ، وإذا لقيتُموه فاصبِروا، واعلموا أنَّ الجنَّةَ تحت ظلالِ السيوف "؛ لأنَّ متمنِّيَ لقاء العدوِّ لا(8/24)
يدري(8/25)
ص -26- ... عن حاله حين لقائه: هل تكون حسنة أو سيِّئة؟
ويدلُّ أيضاً لفرح التابعين برؤية الصحابة ما رواه أبو داود في سننه (948) بإسنادٍ فيه ضعف، عن هلال بن يَسَاف قال: " قدمتُ الرَّقَّةَ، فقال لي بعضُ أصحابي: هل لك في رجلٍ من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال: قلت: غنيمة! فدفعنا إلى وابِصة، قلت لصاحبِي: نبدأ فننظر إلى دلِّه، فإذا عليه قلنسوة لاطئةٌ ذات أُذنين وبُرنس خَزٍّ أغبر" الحديث.
ووابِصةُ هو ابن معبد رضي الله عنه، وقد وفد على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة، ولَمَّا عُرض على هلال بن يساف لقاؤه فرح، وقال: " غنيمة! ".
أقول: وإنَّها والله غنيمة وأيُّ غنيمة؛ ظَفَرُ التابعيِّ برؤية مَن شرَّفه اللهُ بصحبة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مع الإيمان به والاتِّباع له!
الخامس عشر: قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/2021): " وقد كان تعظيمُ الصحابةولو كان اجتماعُهم به صلَّى الله عليه وآله وسلم قليلاًمقرَّراً عند الخلفاء الراشدين وغيرهم، فمِن ذلك ما قرأت في كتاب أخبار الخوارج تأليف محمد بن قدامة المروزي، بخطِّ بعضِ مَن سمعه منه في سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، قال: حدَّثنا علي بن الجعد، قال: حدَّثنا زهير هو الجعفي، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيْح العَنَزِي قال: كنت عند أبي سعيد الخدري "، ثمَّ ذكره الحافظ بإسناده إلى نُبيح قال: " كنَّا عنده وهو متَّكئ، فذكرنا عليًّا ومعاوية، فتناول رجلٌ معاويةَ، فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً، ثمَّ قال: كنَّا ننزلُ رفاقاً مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكنَّا رفقةً فيها أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات وفيهم امرأة حُبلى، ومعنا رجلٌ من أهل البادية، فقال للمرأة الحامل: أَيَسُرُّك أن تلِدي غلاماً، قالت: نعم! قال: إن أعطيتِنِي شاةً ولَدتِ غلاماً، فأعطَتْه، فسَجَع لها(8/26)
ص -27- ... أسجاعاً، ثمَّ عمد إلى الشاةِ فذبحها وطبخها، وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر، فلمَّا علم بالقصَّة قام فتقيَّأ كلَّ شيءٍ أكل، قال: ثمَّ رأيتُ ذلك البَدَويَّ أُتِي به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصارَ، فقال لهم عمر: لولا أنَّ له صحبةً من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما أدري ما نال فيها لَكَفَيْتُكموه، ولكن له صحبة مِن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ".
ثمَّ قال الحافظ: " لفظ علي بن الجعد، ورجال هذا الحديث ثقات، وقد توقَّف عمر رضي الله عنه عن معاتبتِه فضلاً عن معاقبتِه لكونه علم أنَّه لقي النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك أبينُ شاهد على أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ شأنَ الصحبة لا يعدله شيء ".
ثمَّ ذكر أحاديث في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجال الإسناد ثقات كما قال الحافظ ابن حجر، فعليُّ بن الجعد خرَّج له البخاري وأبو داود، وزهير بن معاوية والأسود بن قيس خرَّج لهم أصحاب الكتب الستة، ونُبيح العَنَزي خرَّج له أصحاب السنن، قال عنه المزيُّ في تهذيب الكمال: " روى عنه الأسود بن قيس وأبو خالد الدالاني، قال أبو زرعة: ثقة لَم يرو عنه غير الأسود بن قيس، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات "، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: " قلت: وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وذكره علي بن المديني في جملة المجهولين الذين يروي عنهم الأسود بن قيس، وصحح الترمذي حديثه وكذلك ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ".
وقول الحافظ: " رجال هذا الحديث ثقات "، وفيهم نُبيح هو المعتمَد، وأمَّا قوله في التقريب عنه: " مقبول "، أي: حيث يُتابَع، فغير مقبول.(8/27)
ص -28- ... ولا شكَّ أنَّ هجوَ هذا الأعرابي الصحابي للأنصار لا يرجع إلى نُصرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ ذلك نفاقٌ، وإنَّما يرجع لشيء غير ذلك، وسيأتي نقل ابن حجر عن القرطبي صاحب المفهم ما يوضح ذلك.
وقد يكون هذا الهجوُ أخفَّ من الذَّمِّ الذي أضافه المالكي للأنصار، وذلك بنسبته إلى أكثرهم كون علي رضي الله عنه أولى بالخلافة من أبي بكر، كما سيأتي عند ذِكر تشكيكه في أحقَّية أبي بكر بالخلافة، ؛ فإنَّ ذلك سوءُ ظنٍّ بهم، وأنَّهم يأبَون إلاَّ غير أبي بكر، وقد قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " يأبَى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر ".
ويدلُّ أيضاً لشمول الصُّحبة لكلِّ من رآه أو سَمع منه حديثاً وصحبه مدَّة وجيزة أو طويلة ما يلي:
الأول: أنَّ الذين دوَّنوا سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم متَّفقون على ثبوت الصُّحبة لكلِّ مَن سَمِع منه صلى الله عليه وسلم ، ولو كان الذي سمعه منه حديثاً واحداً؛ فإنَّهم يسوقون الأسانيد حتى تنتهي إلى الصحابة الذين سمعوا منه ويتَرضَّون عنهم، ومن طريقة أهل السُّنَّة والجماعة الترضِّي عن الصحابة عند ذِكرهم والتَّرحُّم على مَن كان بعدهم.
الثاني: أنَّ الذين ألَّفوا في الصحابة أثبتوا فيهم مَن حصل له مجرَّد اللُّقيّ للرَّسول صلى الله عليه وسلم ، ومَن لَم يَروِ عنه إلاَّ حديثاً واحداً.
الثالث: أنَّ الذين ألَّفوا في الصحابة وغيرهم، عندما يأتي ذكر الصحابيسواء قلَّت صُحبتُه أو طالتيقولون عنه: صحابي، لا يحتاجون إلى إضافة شيء على هذا الوصف إلاَّ إذا كان الوصفُ فيه زيادة فضل ومنقبة، ككونه من السابقين إلى الإسلام أو مِن أهل بدر أو مِن أهل بيعة الرضوان، فإنَّهم يُضيفون ذلك إلى وصف الصُّحبة.(8/28)
ص -29- ... الرابع: أنَّ العلماءَ على مختلف العصور والدُّهور مُطْبقون على عدِّ كلِّ مَن أسلم بعد صُلح الحُديبية وظفر بصحبة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه من أصحابه، سواء قصرت مدَّة صحبتِه أو طالت، ومِمَّا يوضِّح ذلك أنَّ المالكيَّ الذي ابتلي بالرأي الباطل، وهو قَصْر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل صلح الحُديبية لَم يَجد له سَلَفاً في هذا الرأي الباطل إلاَّ شخصاً واحداً من المعاصرين سَمَّاه، وهو عبد الرحمن محمد الحكمي، وقد ذكر في ملحق قراءته أنَّه طالبٌ يُواصل دراسته العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند ذِكر إعلان المالكي إفلاسه من وجود سلفٍ له في رأيه سوى ذلك الشخص.
وبناءً على هذا الرأي الباطل، ماذا يقالُ للصَّحابة الكثيرين الذين أسلموا وصحِبوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعد بيعة الرِّضوان وسَمعوا حديثَه؟ أيقالُ لهم: تابعون، أم ماذا يقال لهم؟!
وماذا يقال لأحاديثهم: أهي مرفوعةٌ أم غيرُ مرفوعة؟!
وعند أهل السنة أنَّ المرفوعَ تصريحاً ما قال فيه الصحابيُّ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، وعندهم أنَّ الإسنادَ المنتهي إلى الصحابيِّ يقال له: موقوفٌ، والمنتهي إلى التَّابعي ومَن دونه يقال له: مقطوعٌ، وما قال فيه التابعي "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقال له مرسل، وعلى هذا الرأيِ الباطل للمالكي يحتاج الأمرُ إلى إعادة النَّظر في مصطلحات علم المصطلح، وذلك واضحٌ في شذوذه وشذوذ قدوته الحكمي، ثمَّ يقال أيضاً إنَّ هذا الرأيَ المحدَث في القرن الخامس عشر لو كان خيراً لسبق إليه سلفُ هذه الأمَّة، وليس من المعقول أن يُحجب حقٌّ في العصور المختلفة عن الناس ويُدَّخَر للمالكي وقدوته!(8/29)
ص -30- ... بقي بعد ذلك أن أُشير إلى أمورٍ:
الأمرُ الأوَّلُ: ما ذكره مِن أنَّ صحبةَ مَن رآه بعد الحُديبية ليست شرعية، وأنَّها كصحبة المنافقين والكفار، مردودٌ بأنَّ رؤيةَ الصحابة رؤيةٌ مع الإيمان به والتصديق بما جاء به، بخلاف رؤية المنافقين والكفار، وقد مرَّ في الدليل الثامن أنَّه لما قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ: يا رسول الله! أرأيت من رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: " طوبى له ".
وهو واضحٌ في الفرق بين رؤية الصَّحابيِّ المصدِّق للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المتَّبع له، ورؤية المنافقين والكفار، ومرَّ أيضاً في أثر المقدادوهو الدليلُ الرابع عشرقولُه رضي الله عنه: " والله! لقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ كبَّهم اللهُ على مناخرهم في جهنَّم؛ لَم يُجيبوه ولَم يصدِّقوه، أوَ لاَ تحمدون اللهَ عزَّ وجلَّ إذ أخرجكم لا تعرفون إلاَّ ربَّكم، فتصدِّقون بما جاء به نبيُّكم صلى الله عليه وسلم ، قد كُفيتم البلاء بغيركم ".
ومرَّ قولُ شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه اللهفي الدليل السادس: " ولهذا لَم يُعتدَّ برؤية مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين؛ فإنَّهم لَم يروه رُؤيةَ مَن قصدُه أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه ".
ومِمَّا تقدَّم يتَّضحُ بطلان تسوية المالكي بين صحبة مَن صحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية وصحبةِ المنافقين والكفار، {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟!
الثاني: ما ذكره في الحاشية (ص:25) من قوله: " وقد يدخل في مسمَّى "الأصحاب" مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة ".
أقول: هذا الذي ذكره كلامٌ جميلٌ لو سلِمَ مِن ذكر " قد " في أوَّله؛(8/30)
ص -31- ... لأنَّ ذكره إيَّاه مصَدَّراً بهذا الحرف واضحٌ في عدم الجزم بصحبة هؤلاء، لكن التعريف الذي قال: إنَّه أسلمُ تعريفٍوهو في الحقيقة أفسدُ تعريفٍفيه الجزمُ بعدم صحبة مَن بعد الحُديبية، وكذا كلامه الأخير الذي ختم به الكتاب (ص:8485) واضحٌ في قصر الصحبة على المهاجرين والأنصار إلى زمن الحُديبية.
ومِمَّا يوضِّح فسادَ تعريف الصحبة الشرعية المحمود أهلها ، المثنى عليهم في الكتاب والسنة بقَصرِها على مَن كان قبل الحُديبية، أنَّه يخرُجُ بذلك جمعٌ كبيرٌ من الصحابة مشهورون كأبي هريرة رضي الله عنه الذي هو أكثرُ الصحابة حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكأبي موسى الأشعري وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وغيرهم مِمَّن هاجر إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة وبعد الحُديبية، بل وكالعباس عم النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وابن عمِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وكلّ من هاجر إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة فهو من المهاجرين كما تقدَّم إيضاحُ ذلك بأدلَّتِه.
الثالث: وأمّا أبناءُ المهاجرين والأنصار فقد أخرجهم من الصُّحبة الشرعية التي خصَّ بها المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، فقال في (ص:28): " ولا يدخل فيهميعني الأنصارأبناءُ الأنصار (الأطفال)، كما لا يدخل في المهاجرين أبناءُ المهاجرين! "، وقال أيضاً في (ص:28): " ومنهميعني الذين اتَّبعوا المهاجرين والأنصار بإحسانأبناءُ المهاجرين وأبناءُ الأنصار! "، وأكَّد ذلك في (ص:85 و87).
أقول: أمَّا كونُ أبناء المهاجرين والأنصار من الذين اتّبعوهم بإحسان ففيه تفصيل، فمَن كان منهم رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه، ومن لَم يره منهم فإنَّه يكون من التابعين للصحابة بإحسان.(8/31)
ص -32- ... ومن المعلوم قطعاً أنَّ من القسم الأول: الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، وهم مِن أهل بيته صلى الله عليه وسلم ، ومنهم النعمان بن بَشير رضي الله عنهما الذي كان عمرُه عند وفاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، والسائب ابن يزيد رضي الله عنهما الذي قال: " حُجَّ بي مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين "، وكلُّهم رَوَوا الأحاديث عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
ولكلِّ مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من هذا القسم شرفُ الصُّحبة التي نوَّه بها صلى الله عليه وسلم بقوله: " طوبى له "، جواباً لِمَن قال له: " يا رسول الله! أرأيتَ مَن رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ "، وقد مرَّ ذِكر هذا الحديث قريباً.
الرابع: وأمَّا من أسلم عام الفتح وما بعده فقد جزم بعدمِ دخولِهم في مسمَّى الأصحاب، فقال في (ص:25الحاشية): " لكن لا يدخل فيهم طُلقاء قريش، ولا عُتقاء ثقيف، ولا مَن كان في حكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة!! ".
أقول: إنَّ من المعلوم أنَّ كلَّ مَن رآه صلى الله عليه وسلم مؤمناً به متَّبعاً له فهو من أصحابه، وقد مرَّ الدليل على ذلك قريباً، ومن هؤلاء مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة وما بعده، وكذا الذين شهدوا معه حجَّة الوداع.
ومن أشهر الذين أسلموا عام الفتح أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية وسُهيل بن عمرو وعتَّاب بن أسيد الذي جعله النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أميراً على مكة بعد فتحها، والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم.
ولَمَّا ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، لقيه أبو عُبيدة وأمراء الأجناد، وأخبروه أنَّ الطاعون وقع بالشام، فاستشار عمر أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : المهاجرين الأوَّلين، ثمَّ الأنصار، ثمَّ مشيخة قريش من(8/32)
ص -33- ... مهاجرة الفتح، فقد روى البخاري (5729) ومسلم (2219) واللفظ للبخاري عن ابن عباس: " أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغ لقيه أُمراءُ الأجناد: أبو عُبيدة وأصحابه، فأخبروه أنَّ الوباءَ قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادْعُ لي المهاجرين الأوَّلين، فدعاهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباءَ قد وقع في الشام، فاختلفوا، فقال بعضُهم: قد خرجنا لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضُهم: معك بقيَّة الناس وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى أن تُقدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْع لي الأنصار، فدعوتُهم فاستشارهم، فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافِهم، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْعُ لي مَن كان ههنا من مشيخة قريش من مُهاجِرة الفتح، فدعوتُهم فلَم يَختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدِمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إنِّي مُصبحٌ على ظهر، فأصْبِحوا عليه" الحديث، وفي آخره: " فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيِّباً في بعض حاجته فقال: إنَّ عندي في هذا علماً، سَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سَمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، فحمد اللهَ عمرُ ثمَّ انصرف ".
وهو واضحٌ في أنَّ عمرَ استشار الصحابةَ رضي الله عنهم، ومنهم كبار الذين أسلموا عام الفتح، واستقرَّ رأيُه على الرجوع وعدم الدخول على الطاعون، ثمَّ إنَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخبر بِما عنده من الحديث في ذلك، فسُرَّ بذلك عمر وحَمِد اللهَ ثمَّ انصرف.(8/33)
ص -34- ... هذا وقد أورد المالكي آياتٍ وأحاديث وآثاراً يستدلُّ بها على قَصْر صُحبة الرسول صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية، وليس فيما أورده ما يدلُّ على دعواه؛ لأنَّها إمَّا نصوصٌ فيها ذِكر المهاجرين والأنصار والثناء عليهم، وذلك حقٌّ، لكن لا تدلُّ على قصر الصُّحبة عليهم دون غيرهم، وإمَّا آياتٌ وأحاديث فيها الثناء على الصحابة عموماً حَمَلَها تعسُّفاً على المهاجرين والأنصار فقط، وإمَّا أحاديثُ وآثارٌ فيها ذكرُ الصحابي أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي لا تدلُّ على إخراج المتكلِّم والمخاطَب من الصحابة، كما سيأتي إيضاح ذلك عند ذكر كثيرٍ من أدلَّتِه على وجه التفصيل، ولَم أتعقَّبْه في كلِّ دليلٍ أورده؛ لأنَّ الإجابةَ عن بعض أدلَّته تغني عن الإجابة عن غيرها مِمَّا يشابهها، ولَم أرتِّب الردَّ عليه على وفق ترتيب أدلَّته، بل قد أجيب عن دليل متأخِّرٍ قبل الإجابة على ما كان هو قدَّمه.
استدلالُه بآية {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} والرد عليه:
قال في (ص:25 27): " الدليلُ الأوَّلُ: مع أنَّ غزوةَ تبوك في السنة التاسعة بعد العودة من حصار الطائف، وكان عددُ جيش المسلمين فيها ثلاثين ألفاً، يعتبر المهاجرون والأنصار فيهم قلَّة، ومع ذلك لَم يأت الثناءُ إلاَّ عليهم، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.(8/34)
ص -35- ... والسؤال: لماذا لَم يخبرنا اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّه قد تاب على كلِّ جيش
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يوم تبوك؟! لماذا لَم يقل اللهُ عزَّ وجلَّ: (لقد تاب الله على النبي والذين آمنوا الذين اتّبعوه في ساعة العسرة"؟! أو " على النَّبِيِّ والمؤمنين "؟!
الجوابُ واضحٌ بأنَّ تخصيصَ الله عزَّ وجلَّ المهاجرين والأنصار بالتوبة دليلٌ على أنَّ مَن سواهم ليسوا في منزلتهم، ولا يجوز الجزمُ بالتوبة عليهم.
وإنَّما نسكتُ عنهم كما سكت اللهُ عنهم، وكأنَّ اللهَ واللهُ أعلم أراد بقَصْره الثناءَ على المهاجرين والأنصار أن يُشعر مَن سواهم بأنَّ المهاجرين والأنصار لَم يستحقوا التوبة عليهم من الله إلاَّ بأعمال جليلةٍ قدَّموها في الماضي، وأنَّ على مَن سواهم أن يُكثروا من التَّأسِّي بهم حتى يتوب اللهُ عليهم كما تاب على المهاجرين والأنصار، والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يَخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ اللهَ تاب على جميع الصحابة، مع أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ كان يستطيع أن يقول ذلك ويُعمِّم التوبةَ على كلِّ المؤمنين يومئذ، ولكنَّه لَم يقتصر على المهاجرين والأنصار إلاَّ لحكمة!! ".
وعلَّق في الحاشية على قوله: " والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ اللهَ تاب على جميع الصحابة " بقوله: " ويقصدون بالصحابة كلَّ مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أو لَقِيَه من المسلمين، ثمَّ يقولون هذا وقلوبهم على الطُّلَقاء !! ".
والجوابُ عن ذلك من وجوه:
الأوّل: أن يقال: إنَّ الآيةَ مشتملةٌ على توبة الله على المهاجرين والأنصار الذين معه في غزوة تبوك، لكن ليس في ذلك دليلٌ على ما زعمه(8/35)
ص -36- ... من قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو الذي من أجله أورد الآية، وسبق أن أوردتُ الأدلَّةَ الدالَّة على شمول الصحبة لكلِّ مَن صحبه أو رآه بعد الحُديبية إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم .
الثاني: أنَّ الآيةَ دالَّةٌ على توبة الله عزَّ وجلَّ على مَن أسلم وهاجر إلى المدينة بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومنهم أبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم، وقد أخرجهم المالكي، وسبق أن ذكرت الأدلَّةَ الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة.
الثالث: أنَّ الآيةَ وإن لَم تنصَّ على التوبة على غير المهاجرين والأنصار، فليس فيها دليلٌ على حرمان الذين أسلموا بعد الفتح وخرجوا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من فضل الله ورحمته، بل قد ثبت في السُّنَّة الصحيحة حصول الأجر لِمَن لَم يخرج إلى تبوك بسبب العذر، تبعاً للخارجين إليها، فقد روى البخاري في صحيحه (4423) عن أنس رضي الله عنه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فَدَنَا من المدينة فقال: إنَّ بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاَّ كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حَبَسَهم العُذر ".
وروى مسلم في صحيحه (1911) بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: " كنَّا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقال: إنَّ بالمدينة لرجالاً ما سِرتُم مسيراً ولا قطعتُم وادياً إلاَّ كانوا معكم، حبسهم المرض ".
وبإسنادٍ آخر إليه، وفيه زيادة: " إلاَّ شَرَكوكم في الأجر "، فلماذا تحجر الواسع؟! ولماذا البخل على أهل الفضلِ بما تفضَّل الله به عليهم مِمَّن كانوا معه في غزوة تبوك من الطُّلَقاء وغيرهم، وقد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يَفُتهم الجهادُ والنيَّة والنَّفيرُ عند الاستنفار؟! فقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد(8/36)
ص -37- ... الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفرتم فانفروا " أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ للبخاري (2825).
ثمَّ إنَّ الأنصارَ الذين أثنى الله عليهم في كتابه العزيز إنَّما حصَّلوا اسمَ النُّصرة ووصْفَها لكونِهم نصروا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد حصَّل المهاجرون وصْفَ النُّصرةِ مع الهجرة، ومَن لَم يكن من المهاجرين والأنصار وقد نصر النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وجاهد معه في سبيل الله له نصيبٌ من هذا الوصف في الجملة، وله الثواب الجزيل من الله على ما حصل منه من النُّصرة، وقد نوَّه الله بفضل وثواب مَن آمن وجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته ومنها تبوك بقوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}، وأخبر أنَّه كافيه وكافي مَن اتَّبعه من المؤمنين في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}.
استدلالُه بآية: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}، والرد عليه:
قال في (ص:27 29): " الدليل الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}.
فهنا أخبر الله عزَّ وجلَّ بثلاث طوائف كانت كلُّها في عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :(8/37)
ص -38- ... الطائفة الأولى: السابقون من المهاجرين، وهذا قيْدٌ يُخرج المتأخِّرين من المهاجرين كخالد بن الوليد رضي الله عنه، ولا يدخل فيهم أبناء المهاجرين ولا رجال الوفود إن لَم يبقوا في المدينة، حتى ولو أسلموا قبل الحُديبية.
والطائفةُ الثانية: هم الأنصار، ولا يدخل فيهم أبناء الأنصار "الأطفال" كما لا يدخل في المهاجرين أبناءُ المهاجرين.
الطائفة الثالثة: الذين اتَّبعوهم بإحسان، كالمهاجرين بعد الحُديبية والمهاجرين من وفود العرب مِمَّن ثبت على الإسلام أيَّام الرِّدَّة، ومنهم أبناءُ المهاجرين وأبناء الأنصار، وقد يدخل في هؤلاء مَن حسن إسلامه من طُلقاء قريش وعُتقاء ثقيف وغير هؤلاء.
إذن فالمهاجرون والأنصار لَم يشترط الله فيهم "الإحسان"؛ لأنَّ الهجرةَ والنُّصرةَ اللَّتين تقتضيان الإنفاقَ والجهادَ في أيَّام الضَّعف هما من أفضل الأعمال، ولا يحتاج هذا لقيد الإحسان، فلَم يقل: " من المهاجرين بإحسان والأنصار بإحسان"؛ لأنَّ الرَّجلَ إن قام بالهجرة التي تقتضي ترك الأوطان والأولاد هي غاية الإحسان، كما أنَّ النُّصرة التي أجلبت على الأنصار قبائل العرب، مع تحمُّلِهم مهمَّة حماية الإسلام في أيامه الأولى لا تحتاج لقيد الإحسان؛ لأنَّها في الذِّروة منه.
أما بعد قوَّة الإسلام والمسلمين فأصبحت الهجرةُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تعود على نفس المهاجر بالمصلحة بعد أن كانت قبل ذلك تعود على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالمصلحة وعلى المهاجر أيضاً، أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة لكثرة المال وأمن القتل.
ولهذا كلِّه نعرف لماذا قَصَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ الثناءَ على المهاجرين والأنصار فقط، ثمَّ قيد المهاجرين بالسابقين منهم، وهم المهاجرون الهجرة الشرعية!! ".(8/38)
ص -39- ... ويُجاب على ذلك بما يلي:
الأول: أنَّه ليس في الآيةِ دليلٌ على ما أُورِدَت الآية من أجله، وهو قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، ثمَّ إنَّه جاء في سياق الآية عند المالكي زيادة حرف " من " قبل {تَحْتَهَا الأَنْهَارُ }، وهو خطأ، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي لَم يأت فيه حرف " من " قبل {تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}.
الثاني: جاء في الآية وصْف المهاجرين بالسابقين، وهو يدلُّ على أنَّ المهاجرين فيهم سابقون وفيهم متأخِّرون، وقد ذكر ابنُ كثير في تفسيره عند تفسير هذه الآية قولين في المراد بالسَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، أحدهما: أنَّهم الذين أدركوا بيعة الرِّضوان عام الحُديبية، والثاني: أنَّهم الذين صلَّوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقدكان تحويل القبلةِ إلى الكعبة بعد الهجرة بستة عشر شهراً.
وعلى القول الأول يكون المهاجرون المتأخِّرون مَن هاجر بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومِن هؤلاء خالد بن الوليد رضي الله عنه وغيره، وقد أخرجهم المالكي من الصحبة ذات المدح والثناء، وكذلك الهجرة ذات المدح والثناء.
الثالث: أنَّ الذين اتَّبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: صحابة، وهم الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ورأوه.
والثاني: الذين لَم يَصحبوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ولَم يرَوه، مِمَّن كان في زمنهم أو بعدهم.(8/39)
ص -40- ... ويحصلُ للجميع الأجرُ العظيمُ الموعود به في الآية.
الرابع: أنَّ ما ذكره عن المهاجرين بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أنَّ " الهجرة تعود على نفس المهاجر بالمصلحة، بعد أن كانت قبل ذلك تعود على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالمصلحة وعلى المهاجر أيضاً " غير صحيح؛ فإنَّ المصلحة تعود بجهاد مَن جاهد منهم على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ومن أوضح الأمثلة لذلك ما حصل لخالد بن الوليد رضي الله عنه من البلاء الحسن في الغزوات التي شهدها، ومنها غزوة مُؤْتة التي أمَّر نفسَه فيها بعد استشهاد الأمراء الثلاثة الذين عَيَّنَهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما حصل من الفتح للمسلمين في إمارته، فقد روى البخاري في صحيحه (4262) بإسناده عن أنس رضي الله عنه: " أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعى زيداً وجعفراً وابنَ رواحة للناس قبل أن يأتيَهم خبرُهم، فقال: أخذ الرايةَ زيدٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ جعفرٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ ابنُ رواحة فأُصيبوعيناه تذرفانحتى أخذ الرايةَ سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ".
وهذا السيف من سيوف الله لَم يظفر بشرف الصُّحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي المالكي الباطل الذي قَصَر فيه الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.
ومن أوضَح الأمثلة أيضاً ثبوت العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلبوهو من الطُّلقاءمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما انهزم الناسُ يومَ حُنين، ففي صحيح مسلم (1775) من حديث العباس رضي الله عنه قال: " شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فلَم نفارِقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلةٍ له بيضاء، أهداها له فروة بن نُفاثة الجذامي، فلمَّا التقى(8/40)
ص -41- ... المسلمون والكفَّار ولَّى المسلمون مُدبرين، فطَفِق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُركضُ بغْلَتَه قِبَل الكفَّار، قال عباس: وأنا آخذٌ بلجام بغلةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفُّها إرادةَ أن لا تُسرِع، وأبو سفيان آخذٌ برِكاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " الحديث.
وهذان الصحابيان الجليلان عمُّه وابنُ عمِّه اللذان ثَبَتَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَم يفِرَّا يوم حُنين وقد عادت مصلحةُ إسلامهما في هذه الغزوة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، لا يعتبرهما المالكي من الصحابة؛ لأنَّ إسلامهما بعد الحُديبية، وهو يقصُر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.
الخامس: أنَّ قولَه: " أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة؛ لكثرة المال وأمن القتل " غيرُ صحيح؛ لأنَّ المجاهدَ في سبيل الله ليست سلامتُه من القتل مُحقَّقةً؛ فإنَّه قد يُقتل وقد يسلَم.
السادس: أمَّا ما ذكره من أنَّ أبناءَ المهاجرين لا يدخلون في المهاجرين، وأنَّ أبناءَ الأنصار لا يدخلون في الأنصار، وقد قصَر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار، فمُقتضاه أنَّ أبناء المهاجرين والأنصار ليسوا من الصحابة، وسبق أن ذكرتُ أنَّ مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من أبناء المهاجرين والأنصار فهو من الصحابة، بخلاف مَن لَم يرَه منهم.
استدلالُه بآيات سورة الحشر والرد عليه:
وقال في (ص:3031): " الدليل الثالث: وهو مفسِّرٌ للدليل السَّابق، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِي مَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ(8/41)
ص -42- ... هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِي مَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
أقول: أيضاً في هذه الآية قَصَر الله عزَّ وجلَّ الثناءَ على المهاجرين والأنصار، وأخبرنا بعلاماتهم، ثمَّ فصَّل في الإحسان المشتَرَط فيمَن بعدهم بأنَّه إضافة لصالح الأعمال من علاماته الكبرى الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ.
{والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِي مَانِ} ليس المقصود منهم إلاَّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة، ويقول البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة. اه .
أقول: فهذا إقرارٌ من البغوي بأنَّ مَن بعد المهاجرين والأنصار يُسمون "التابعين"، يعنِي أنَّ الناسَ مِن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، مروراً بمعاوية والوليد، وانتهاءً بنا في هذا العصر مأمورون بحبِّ المهاجرين والأنصار، الذين قام عليهم الإسلام حتى استوى، ومأمورون بالدعاء لهم والاستغفار لهم؛ لأنَّهم السببُ بعد الله ورسولِه في قيام هذا الدِّين، بل مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة مأمورون ابتداءً، ومَن بعدهم من باب الأولى ".
وعلَّق في الحاشية عند قوله: " الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ " بقوله: " وهذا الإحسان لَم(8/42)
ص -43- ... يفعله بعضُ الطُّلَقاء كمعاوية والوليد بن عُقبة وبُسر بن أبي أرطاة والذين حاربوا السابقين كعليٍّ وعمَّار والبدريِّين والرِّضوانيِّين الذين كانوا مع علي، بالإضافة إلى سبِّهم عليًّا على المنابر، وسَنِّ هذه السنة السيِّئة، إذن فالذين طعنوا في الصحابة هم أولئك الطُّلَقاء، وهم أوَّلُ من خالف الأمر الإلَهي بالاستغفار للذين سبقونا بالإيمان!! ".
وعلَّق في الحاشية أيضاً على قوله: " {والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِي مَانِ} ليس المقصود منهم إلاَّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة " بقوله: " وعلى هذا فلا حُجَّة للذين يستدلُّون بهذه الآيات على وجوب السكوت عن دراسة التاريخ وذِكر الظالمين بظلمِهم والعادلين بعدلِهم؛ حتى يعرفَ الناسُ موطنَ القُدوة والتأسِّي من السلف!! ".
ويُجاب عن استدلاله بما يلي:
الأول: أنَّ الآيات الثلاث في بيان مصارف الفيء، وهي مشتملةٌ على الثناء على المهاجرين والأنصار، ولا دليل فيها على ما أراده المالكي من قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية.
الثاني: أنَّ الآيةَ الثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصارمن فتح مكة وما بعده، داعين لهم لسبقهم بالإيمان، وسائلين الله عزَّ وجلَّ سلامةَ قلوبهم من الغلِّ للذين آمنوا، وليس فيها خروجُ من أسلم بعد الحُديبية وقبل فتح مكة ، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ونحوهما من وصْف الصُّحبة والهجرة، كما زعم المالكي.
الثالث: أنَّ ما جرى من خلاف بين بعض المهاجرين السابقين كعليٍّ رضي الله عنه وبين بعض مَن أسلموا عام الفتح أو قبله أو بعده لا يقتضي(8/43)
ص -44- ... نَيل مَن بعدهم مِن أحدٍ منهم، بل الواجب مَحبَّة الجميع والثناء عليهم والدعاء لهم وإنزالهم منازلهم، وقد وُعدوا جميعاً بالحُسنى، وما كان في قلوبهم من غلٍّ إن بقي فإنَّ الله ينزعُه كما أخبر بذلك في كتابه العزيز بقوله في سورتي الأعراف والحِجر: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}، وما أحسن ما قاله شارح الطحاوية: " والفتنُ التي كانت في أيَّامه يعنِي أميرَ المؤمنين عليًّا رضي الله عنه قد صان اللهُ عنها أيدينا، فنسألُ اللهَ أن يَصون ألسِنَتنا بِمَنِّه وكرمِه ".
قال الشوكاني عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِي مَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} قال بعد أن فسَّر الذين جاؤوا من بعدهم أي بعد المهاجرين والأنصار بأنَّهم التابعون لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، قال: " أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغِلَّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابةُ دخولاً أوَّليًّا؛ لكونهم أشرفَ المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمَن لَم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآيةِ، فإن وَجَدَ في قلبِه غِلاًّ لهم فقد أصابه نَزْغٌ من الشيطان وحلَّ به نصيبٌ وافرٌ من عصيان الله بعداوة أوليائه وخِيرة أمَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، وانفتح له بابٌ من الخذلان يَفِدُ به على نار جهنَّم إن لَم يتدارَك نفسَه باللُّجوء إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طَرَقَه مِن الغِلِّ لِخَيرِ القرون وأشرفِ هذه الأمَّة، فإن جاوز ما يَجده من الغِلِّ إلى شَتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسَخطِه، وهذا(8/44)
الدَّاءُ العُضال(8/45)
ص -45- ... إنَّما يُصاب به مَن ابتُلي بِمُعلِّم من الرافضة أو صاحبٍ من أعداء خير الأمَّة الذين تلاعب بهم الشيطانُ وزيَّن لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرَفَهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه، وعن سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كلِّ عصرٍ من العصور، فاشتروا الضَّلالةَ بالهُدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالرِّبح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلُهم من منزلة إلى منزلة، ومن رُتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداءَ كتاب الله وسُنَّة رسوله وخير أمَّته وصالِحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدِّين، وسَعوا في كيد الإسلام
وأهله كلَّ السَّعي، ورَموا الدِّينَ وأهلَه بكلِّ حَجَرٍ ومَدَر، والله من ورائهم مُحيط ". اه .
الرابع: أمَّا ما أشار إليه حول دراسة التاريخ، فيُجاب عنه بأنَّ دراسةَ التاريخ لها حالتان:
الأولى: دراسة مع سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعتمد على تَمييز ما صحَّ من أخبار عنهم مِمَّا لَم يصحَّ، فيُطَّرح ما لَم يصحَّ، وما صحَّ فيُحمَلُ على أحسن المحامل، ويُحسَّن بهم الظنُّ، ويُدعى لهم ويُستغفرُ لهم، فهذه الدراسة محمودة.
والثانية: دراسةٌ خالية من سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع الصحابة، تنبنِي على الغلوِّ في بعضٍ والجفاءِ في بعضٍ، وينتُج عنها إفسادُ النفوس وإيغارُ الصدور ومَلءُ القلوب بأمراض الشبُهات، وتعتمدُ على إظهار ما خبث من كلِّ ما جاء في التاريخ مِمَّا لَم يكن له خطام أو زِمام، فهذا النوع من الدراسة للتاريخ مذموم وحرام، ودراسة المالكي من هذا(8/46)
ص -46- ... النَّوع المذموم، ويمكن معرفةُ حقيقة ذلك بالاطِّلاع على ما نقلته من كلامه ورددتُ عليه، ولا سيَما تشكيكه في أَحقيَّة أبي بكر بالخلافة، فقد جاء فيه أنَّ عليًّا رضي الله عنه لو كان موجوداً أي في السقيفة لَتَمَّ له الأمرُ، وذلك رجمٌ بالغيب، و" لو " تفتح عمل الشيطان، وأيضاً جاء فيه وصْف الطريقة التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه بأنَّها تُضعف شرعيَّة البيعة، وتَجعلُها أشبَه ما تكون بالقهر والغلبة، وخلافةُ الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترتيبهم مِمَّا أراده الله قَدَراً وشرعاً، فوقوع خلافتهم على هذا الترتيب دالٌّ على تقديره ذلك، وأنَّ اللهَ قد شاءَه فوقع، ولَم يشأْ غيرَه فلَم يقع، ما شاء اللهُ كان وما لَم يشأ لَم يكن، ويدلُّ لكونه مراداً شرعاً ما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم : " ... فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي " الحديث، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح "، ويدلُّ له أيضاً حديثُ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلافةُ النبوة ثلاثون سنة، ثمَّ يُؤتي اللهُ المُلْكَ أو مُلْكَه مَن يشاء " رواه أبو داود (4646) وغيرُه، ونقل تصحيحَه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (460) عن تسعة من العلماء.
أمَّا الزعم بأنَّ الطريقةَ التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه تُضعفُ شرعيَّة البيعة، وتجعلها أشبهَ ما تكون بالقهر والغلبة، فهو كلامٌ يُنادي على قائله بأنَّه في وادٍ، والسُّنةَ وأهلَها في وادٍ آخر، وسيأتي الرَّدُّ عليه عند ذِكر تشكيكه في أحقِّية أبي بكر بالخلافة.
ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة، فهذه القراءة المزعومة من المالكي في كتب العقائد(8/47)
ص -47- ... قد تلقَّفها ونشرها مركزٌ للدراسات التاريخية في دولة عربية، وقد اطَّلعتُ أخيراً على صورة منه، وهو من التعاون على الإثم والعدوان، فإنَّ نشرَ الباطل لا حدَّ لضرَرِه، كما أنَّ نشرَ الحقِّ لا حدَّ لنفعه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " مَن دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبِعَه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (2674).
استدلاله بآية سورة الحديد والرد عليه:
وقال في (ص:31 32): " الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
أقول: الغريب أنَّ بعضَ الناس يستدلُّ بهذه الآية على أنَّ كلَّ الصحابة في الجنَّة؛ لأنَّ الله قد وعد المتقدِّمين منهم والمتأخرين بالجنة، ووعدُه حقٌّ لن يُخلفه!
أقول: إمَّا أن تكون هذه الآية تشمل المهاجرين والأنصار {مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ}، وتفضلهم على من جاء بعدهم إلى فتح مكة فقط، ولا تشمل الطُّلَقاءَ ولا العُتقاء ولا غيرَهم مِمَّن لَم يُقاتِل ولَم ينفق في هذه الفترة؛ لأنَّ سورةَ الحديد نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فلا يشملهم الثناء، ثمَّ هي مقيَّدةٌ بالإنفاق والقتال.(8/48)
ص -48- ... مثلما الثناء على المهاجرين والأنصار لا يشملنا، فكذلك الثناء على المسلمين من بعد الحُديبية إلى فتح مكة لا يشمل مَن أسلم في الفتح أو بعد ذلك، وإمَّا أن تكون الآيةُ شاملةً لهؤلاء ولنا من باب الأولى، لكن هناك شرط الإحسان الذي سبق في الآية السابقة، بمعنى أنَّ الله وعد بالجنَّة المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، أمَّا المتَّبعون بغير الإحسان فلا يُقال فيهم هذا.
والخلط بين الأمور هو الذي سبَّب لنا الخلل الكبير في الرؤية التعميمية التي خلطنا بها الطُّلَقاء مع السابقين، فلا بدَّ من وضع الأمور في مواضِعها الصحيحة ".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
الأول: أنَّ للعلماء في المراد بالفتح في هذه الآية قولين، ذكرهما ابن كثير والشوكاني:
أحدهما: أنَّه فتح مكة، وهو قول الجمهور.
والثاني: أنَّه صلح الحُديبية.
وعلى قول الجمهور فالآيةُ تدلُّ على تفضيل القتال والإنفاق مِمَّن كانوا قبل فتح مكة، على القتال والإنفاق مِمَّن كانوا بعد فتحها، وهو متَّفق مع ما جاءت به الأحاديث من استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة، وهو يردُّ قولَ المالكي في قصْر الصُّحبة والهجرة المحمود أهلها على مَن كانوا قبل صُلح الحُديبية.
وعلى القول بأنَّ المرادَ بالفتح صلح الحُديبية فليس هناك دليل يَمنعُ من دخول بقيَّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مِمَّن كان إسلامُهم وصُحبتُهم بعد(8/49)
ص -49- ... الحُديبية إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم في الوعد الكريم الذي دلَّت عليه الآية، مع القطع بالتفاوت بين المتقدِّمين منهم والمتأخرين.
الثاني: أنَّه لا وجه لاستغراب المالكي الوعد لجميع الصحابة بالحُسنى وهي الجنَّة، ومِمَّن فسَّر {الحُسْنَى} في الآية بالجنَّة القرطبيُّ والشوكاني والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفاسيرهم، وقدجاء في السُّنَّة تفسير {الحُسْنَى} في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} بأنَّها الجنَّة، وذلك من حديث صُهيب رضي الله عنه عند الإمام مسلم (297 298).
فلماذا هذا الاستغراب، وفضلُ الله واسعٌ ورحمتُه وسعت كلَّ شيء؟!
وأسْعَدُ الناسِ بجنَّتِه ورحمتِه أصحابُ رسوله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير هذه الأمَّة، التي هي خير أمَّة أُخرجت للناس، الذين اختارهم اللهُ لِصُحبته، ومتَّع أبصارَهم في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته، ومتَّع أسماعَهم بسماع القرآن والسُّنَّة منه صلى الله عليه وسلم ونقلهما إلى الناس بعدهم، وهم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين غيرهم.
استدلاله بآية سورة الأنفال والرد عليه:
وقال في (ص:33 34): " الدليل الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
أقول: هذه الآية من سورة الأنفال (72) فيها فوائد عظيمة:(8/50)
ص -50- ... الأولى: إثبات ولاية المهاجرين مع الأنصار فقط، وهذا ما يُفسِّرُه الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطُّلَقاء من قريش والعُتقاء من ثقيف بعضُهم أولياء بعض إلى يوم القيامة"، والحديث فيه إخراج للطُّلقاء من المهاجرين والأنصار الذين هم أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقط، كما في حديثٍ الآخر: "أنا وأصحابي حيِّز، والناس حيِّز"، قالها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وكلمة "أصحابي" في هذا الحديث الأخير كلمة مطلقةٌ فسَّرها الحديثُ المتقدِّم وقيَّدها بأنَّ المرادَ بها "المهاجرون والأنصار"، فتأمَّل لهذا التوافق والترابط؛ فإنَّك لن تجدَه في غير هذا المكان!
الفائدة الثانية: أنَّ الذين أسلموا ولَم يُهاجروا لا يستحقُّون من المسلمين في عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الولايةَ التي تعنِي النُّصرةَ والولاء، فإذا كان المسلمون قبل فتح مكة لا يستحقُّون النُّصرةَ ولا الولاء حتى يُهاجروا، فكيف بِمَن انتظر من الطُّلَقاء حتى قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة".
فهؤلاء لَم يُدركوا فضلَ من لا يستحقُّ النُّصرة والولاية، فضلاً عن إدراكهم لفضل السابقين من المهاجرين والأنصار.
الثالثة: أنَّ المسلمين الذين لَم يُهاجِروا لا يجوز أن يُنصَروا على الكفَّار المعاهدين الذين معهم ميثاق مع المهاجرين والأنصار، وهذا الحكم يبيِّن الفرقَ الواسع بين مَن هاجر ومَن بقي مؤمناً في دياره، فكيف بِمَن لَم يؤمن إلاَّ عند إلغاء الهجرةِ الشرعية من مكة، وأسلم رغبة في الدنيا ورهبةً من السيف، حتى وإن حسُن إسلامه فيما بعد؟!!! ".(8/51)
ص -51- ... ويُجاب عن ذلك بما يلي:
الأول: أنَّ كونَ المهاجرين والأنصار بعضُهم أولياء بعض لا يدلُّ على نفي ولايتِهم عن غيرهم مِمَّن أسلموا بعد فتح مكة، فالكلُّ خيار المؤمنين، مع التفاوت الكبير بينهم في الإيمان، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وسيأتي لذلك زيادةُ بيان عند ذِكر حديث " المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ".
الثاني: أنَّ حديث " المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض " صحيح، وحديث " الحيز " ضعيف، وسيأتي بيان ذلك عند ذِكر الحديثين.
الثالث: أنَّ ما ذكره من كون المهاجرين والأنصار هم أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقط قولٌ باطلٌ، وقد تكرَّر منه قصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، وتكرَّر منِّي التنبيه على بطلان قوله بسبب تكراره.
الرابع: أنَّ الطُّلقاءَ وغيرَهم قد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يفُتهم الجهاد والنيَّة، فقد أبلى كثيرٌ منهم في الجهادِ مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بلاءً حسناً، وقوله: "إنَّ إسلامهم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف" هو مِن الظلم البيِّن، والظُّلمُ ظلمات يوم القيامة، لا سيما ما كان منه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو حصل إسلام أحد منهم من أجل الدنيا فإنَّ الحالة تتغيَّر إلى خير؛ لقول أنس رضي الله عنه: " إن كان الرَّجلُ لَيُسلِم ما يريد إلاَّ الدنيا، فما يُسلم حتى يكون الإسلامُ أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها " رواه مسلم في صحيحه (2312).(8/52)
ص -52- ... استدلاله بآية سورة الفتح والرد عليه:
وقال (ص:36 37): " الدليل الثامن: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
أقول: لولا أنَّ بعضَ الناس يورد هذه الآية للدلالة على فضل مسلمة الفتح وأمثالهم لَما أوردتُها هنا، فالآية من سورة الفتح التي نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فالثناء الذي فيها على (الذين مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ) ينزل على المؤمنين يومئذ من المهاجرين والأنصار، ولا ينزل على مَن بعدهم، إضافةً إلى أنَّ المعيَّة تقتضي النُّصرةَ والتمكينَ أيَّام الحاجة والذُّلِّ والضَّعف ".
ويُجاب عن قوله هذا:
أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الصحابة، وليس فيها ذِكر المهاجرين والأنصار، لكن المالكي قصَرها عليهم، حرصاً على حِرمان مسلمة الفتح من تحصيل الفضلِ الوارد فيها، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}، وكون سورة الفتح ومنها هذه الآية نزلت قبل فتح مكة لا يدلُّ على قصْر ما فيها على مَن كان قبل نزول الآية، بل الحكم شاملٌ لكلِّ مَن كان معه إلى نهاية حياته صلى الله عليه وسلم .
ثمَّ إنَّ هذه الصفات للذين مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قد ذُكرت في التوارة والإنجيل، وهي لجميع الصحابة، فلا وجه لإخراج أحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(8/53)
ص -53- ... منها، وحرف "من" في قوله عزَّ وجلَّ: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} لبيان الجنس وليس للتبعيض، أي: كلّهم موعودون بالمغفرة والأجر العظيم، وهذا نظيرُ قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فإنَّ "من" للجنس وليست للتبعيض؛ فإنَّ العذابَ حاصلٌ لهم جميعاً.
استدلالُه بحديث: " المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض " والرد عليه:
قال في (ص:42 43): " الدليل الثاني عشر: قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطُّلَقاء من قريش والعُتقاء من ثقيف بعضُهم أولياء بعض إلى يوم القيامة".
أقول: وهذا الحديث واضحٌ في أنَّ طُلَقاء قريش وعُتقاء ثقيف ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار، وعلى هذا فلا يستحقُّون الفضائلَ التي نزلت في فضل المهاجرين والأنصار، وعلى هذا لا يجوز لنا أن نخلط الأمورَ ونرفع مَن وَضعه الله أو نضع مَن رفعه الله ...!! ".
والجواب:
أنَّ الحديثَ صحيحٌ، وقد أوردتُه فيما تقدَّم في الأدلَّة الدَّالة على استمرار الهجرةِ المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صُلح الحُديبية كما زعم المالكي، وهو لا يدلُّ على أنَّ العُتقاء والطُّلَقاء ليسوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنَّما يدلُّ على التَّماثل والتشابه بين المهاجرين والأنصار،(8/54)
ص -54- ... وبين الطُّلَقاء والعُتقاء، وليس فيهم مَن وَضعه الله كما زعم، بل كلُّهم قد رفعهم الله لِصُحبتِهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع تفاوتِهم في الرِّفعة.
وكون المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض لا يتنافى مع كون العُتقاء والطُّلَقاء بعضهم أولياء بعض؛ فإنَّ الصحابةَ جميعاً خيار المؤمنين، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية، وقد قال ابن كثير في تفسيره في تفسير الآيات من آخر سورة الأنفال: " ذكر تعالى أصنافَ المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاؤوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالَهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار: وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانَهم المهاجرين في منازلِهم وواسَوهم في أموالِهم، ونَصَروا اللهَ ورسولَه بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، أي: كلٌّ منهم أحقُّ بالآخر من كلِّ أحد، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كلّ اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدَّماً على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ".
استدلالُه بحديث: " الناسُ حيِّز وأنا وأصحابي حيِّز " والرد عليه:
قال في (ص: 40 42): " الدليل الحادي عشر: حديث أبي سعيد الخدري: "لَمَّا كان يوم الفتح قرأ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ}، قال: الناس حَيِّز، وأنا وأصحابي حيِّز، فغضب مروان وأراد أن يضربَ أبا سعيد الخدري، فلمَّا رأى ذلك رافع بنُ خديج وزيد ابنُ ثابت قالا: صدق" ذكرتُه مختصراً ".(8/55)
ص -55- ... وقد علَّق عليه قائلاً: " مسند الإمام أحمد (4/45) دار الفكر، الحديث رواه الإمام أحمد، عن محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عَمرو بن مُرَّة، عن أبي البَختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري، وهذا إسنادٌ صحيح على شرط الشيخين، فالإمام أحمد وشيخه غندر وشعبة من كبار أئمَّة الحديث الثقات الأثبات، وعمرو بن مرَّة شيخ شعبة ثقة عابد من رجال الجماعة، وأبو البختري اسمه سعيد بن فيروز وهو ثقة ثبت من رجال الجماعة وهو يرسل، وقد أخرج الشيخان عنعنته في صحيحيهما، فالإسناد من أصحِّ الأسانيد، كلُّهم رجال الجماعة إلاَّ أحمد بن حنبل وهو ثقة إمام!!! ".
وقال: " فهذا الحديث فيه إخراج واضحٌ للطُّلَقاء الذين دخلوا في الإسلام من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بأكثر من دلالة:
الدلالة الأولى: تلاوته صلى الله عليه وسلم لسورة النصر التي فيها ذكر "الناس" الذين يدخلون في دين الله أفواجاً، هؤلاء الناس المراد بهم الطُّلَقاء، ثمَّ أخبرنا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ "الناس حَيِّز"، وهو وأصحابه حيِّز آخر!! فماذا يعنِي هذا؟
هذا بكلِّ وضوح لا يعنِي إلاَّ أنَّ هؤلاء "الناس" لايدخلون في "الأصحاب" الذين فازوا بتلك "الصحبة الشرعية" التي تستحقُّ الثناء وتتنزَّل فيها كلُّ الثناءات على الصحابة، فإذا سمعنا بأيِّ حديث يُثنِي على "أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " أو أيِّ أثرٍ من الصحابة خاصَّة يُثنِي على "أصحاب النَّبِيِّ"، فلا تنزل تلك الأحاديث والآثار إلاَّ على هؤلاء "الأصحاب" الذين فصلهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن سائر "الناس" من غيرهم، وأول الناس دخولاً في هؤلاء "الناس" هم الطُّلَقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة، ولا يجوز أن نجمعَ بين "حيِّزين" قد فرَّق بينهما النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، ومَن تأكَّد له هذا ثمَّ أراد أن يجعل(8/56)
ص -56- ... "الحيِّزين" حيِّزاً واحداً فقد اتَّهم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعدم الإنصاف، مثلما اتَّهمه ذو الخُويصِرة يوم حُنين!! ونعوذ بالله أن نردَّ حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نُؤوِّلَه على غير مراده صلى الله عليه وسلم ، ذلك المراد الذي يظهر بوضوح من لفظ الحديث الصريح.
الدلالة الثانية: غضبُ مروان بن الحكم الذي أراد أن يضرب أبا سعيد الخدري على رواية هذا الحديث؛ لأنَّ هذا الحديث يعنِي إخراج مروان ووالده ومعاوية الذي يعمل له مروان من الصحابة إلى "الناس" الذين ليس لهم ميزة عن سائر الناس!!
الدلالة الثالثة: فهمُ رافع بن خديج وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري، فالثلاثة عَرفوا أنَّ هذا سيُغضب مروان، ولكنَّهم صدَعوا بكلمة الحقِّ بعد أن كاد يُخفيها زيد ورافع، خوفاً على نفسيهما من مروان!!
شبهة: وقد يقول البعض أنَّهم "الناس" من الطُّلَقاء وغيرهم قد اكتسبوا الصحبة فيما بعد؟!
نقول: هم "الطُّلَقاء" والعتقاء أولياء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة، وكلا الطائفتين لا تدخلان لا في المهاجرين ولا في الأنصار؛ لما سبق شرحه ".
ويُجاب عن ذلك بِما يلي:
الأول: أنَّ الحديثَ ضعيفٌ، والإسنادَ غيرُ صحيح فضلاً عن أن يكون من أصحِّ الأسانيد كما زعم المالكي؛ للانقطاع بين أبي البَختري وبين أبي سعيد، ففي تهذيب الكمال للمزي في ترجمة أبي البَختري سعيد بن فيروز: " وقال أبوداود: لَم يسمع من أبي سعيد"، وقول أبي داود هذا هو في سننه قال عقِب الحديث (رقم:1559): " قال أبو داود: أبو البَختَري لَم يسمع من أبي سعيد ".(8/57)
ص -57- ... وفي تهذيب التهذيب لابن حجر في ترجمة أبي البَختري: " وقال ابن سعد: ... وكان كثيرَ الحديث يرسل حديثَه، ويروي عن الصحابة ولَم يسمع من كثير أحد، فما كان من حديثه سَماعاً فهو حسن، وما كان غيره فهو ضعيف، وقال ابن أبي حاتم في المراسيل عن أبيه: لَم يُدرك أبا ذر ولا أبا سعيد ولا زيد بن ثابت ولا رافع بن خديج، وهو عن عائشة مرسل ".
الثاني: أنَّ ما ذكره من إخراج الشيخين عنعنة أبي البَختري في صحيحيهما غيرُ مُسلَّم؛ لأنَّهما لَم يُخرجَا له عن أبي سعيد شيئاً، وكلُّ الذي له في الكتب الستة من روايته عن أبي سعيد ثلاثة أحاديث، خرَّجها بعضُ أصحاب السنن، كما في تحفة الأشراف للمزي (3/356 357)، ولو صحَّ أنَّ الشيخين خرَّجَا له من روايته عن أبي سعيد بالعنعنة فإنَّ قبول ذلك يكون مُختَصًّا بما في الصحيحين لاشتراطهما الصِّحةَ فيهما، ولا تُقبل العنعنة في غيرهما إلاَّ مع ثبوت التصريح بالسماع، قال النووي في مقدمة شرحه على صحيح مسلم (1/33): " واعلم أنَّ ما كان في الصحيحين عن المدلسين ب "عن" ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وقد جاء كثيرٌ منه في الصحيح بالطريقين جميعاً، فيذكر رواية المدلس ب "عن" ثمَّ يذكرها بالسماع ويقصد به هذا المعنى ".
الثالث: وقوله عن رجال الإسناد: " كلُّهم رجال الجماعة إلاَّ أحمد بن حنبل وهو ثقة إمام "، أقول: لا وجه لاستثناء الإمام أحمد؛ فإنَّه من رجال الجماعة.
الرابع: أنَّه لو صحَّ الحديث فإنَّه حجَّةٌ على المالكي؛ لأنَّه يدلُّ على أنَّ المهاجرين بعد الحُديبية وقبل الفتح من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو خلاف ما(8/58)
ص -58- ... زعمه في رأيه المبتَكر من أنَّ الصُّحبةَ المحمود أهلها مختصَّةٌ بالمهاجرين قبل صلح الحُديبية.
تشكيكه في أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على غيرِه والرد عليه:
قال في (ص:52): " الدليل العشرون: قول إبراهيم النخعي: "مَن فضَّل عليًّا على أبي بكر وعمر فقد أَزْرَى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ..." فضائل الصحابة لأحمد (1/249)، وسنده جيِّد، رجاله كلُّهم ثقات إلاَّ الوليد بن بكير مختلَف فيه.
وفي الأثر تفسير من إبراهيم النخعي للصحابة بأنَّه "كذا" المهاجرون والأنصار فقط، فتأمَّل!!
وإبراهيم هذا من كبار التابعين، مع التحفُّظ على تشنيعه على مَن فضَّل عليًّا عليهما؛ فإنَّ هذا قد فعله بعضُ السابقين من المهاجرين والأنصار، كما ذكر ذلك ابنُ عبد البر في ترجمة الإمام عليٍّ في الاستيعاب، ودلَّت عليه بعضُ الروايات ".
والجواب عنه بما يلي:
الأول: أمَّا قوله عن إسناد الأثر: " وسنده جيِّد، رجاله ثقات إلاَّ الوليد بن بُكير مختلف فيه "، فهو غير جيِّد؛ لأنَّ الوليد بنَ بكير قال عنه الدارقطني: " متروك الحديث "، وقال عنه أبو حاتم: " شيخ "، وذكره ابن حبان في الثقات، كما في تهذيب الكمال للمزي وتهذيبه لابن حجر، وقال الحافظ في التقريب: " ليِّن "، وقال الذهبي في الميزان: " ما رأيت من(8/59)
ص -59- ... وثَّقه غير ابن حبان "، وابن حبان معروف بالتساهل في التوثيق، قال الحافظ في التقريب في ترجمة عبد السلام بن أبي الجَنوب: " ضعيف، لا يُغترُّ بذِكر ابن حبان له في الثقات؛ فإنَّه ذكره في الضعفاء أيضاً ".
وأمَّا معنى الأثر فهو صحيح.
الثاني: وأمَّا استدلاله بالأثر على قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار دون غيرهم، فهو غير صحيح؛ وذِكر المهاجرين والأنصار في الأثر لا يدلُّ على إخراج غيرِهم من الصُّحبة؛ وإنَّما ذُكروا لأنَّهم مقدَّمون على غيرِهم من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وكلُّ مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه، مع الجزم بتفاوت الصحابة في الصُّحبة والفضل.
الثالث: وأمَّا تحفُّظه على ما جاء في الأثر من تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع، فهو مخالِف لِما عليه سلفُ هذه الأمَّة، ودلَّت عليه الأحاديثُ الصحيحةُ والآثار عن بعض الصحابة وغيرِهم، ومنهم علي رضي الله عنه، وأذكر فيما يلي بعضَ الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك مِمَّا وقفتُ عليه من الأحاديث المرفوعة والآثار عن الصحابة، وحكاية الإجماع عن عدد من العلماء:
أوَّلاً: الأحاديث المرفوعة:
1 ما رواه مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البَجلي رضي الله عنه أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يَموت بخمس وهو يقول: " إنِّي أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً مِن أمَّتِي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً " الحديث.(8/60)
ص -60- ... فقد أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ لا يكون أن لو كان كيف يكون، وهو دالٌّ على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على الصحابة جميعاً.
2 ما رواه البخاري (3662) ومسلم (2384) في صحيحيهما عن عَمرو بن العاص رضي الله عنه: " أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيتُه، فقلت: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: عمر بن الخطَّاب، فعدَّ رجالاً ".
3 روى الترمذي في جامعه (3890) قال: حدَّثنا أحمد بن عَبْدة الضبِّي، حدَّثنا المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: " قيل: يا رسول الله! مَن أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل: مِن الرِّجال؟ قال: أبوها "، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ أحمد بن عبدة الضبِّي فهو من رجال مسلم.
ثانياً: الآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم علي رضي الله عنه:
1 روى البخاري في صحيحه (3671) بإسناده عن محمد بن الحنفية وهو محمد بن علي بن أبي طالب قال: " قلتُ لأبي: أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أبو بكر، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عمر، وخشيتُ أن يقول: عثمان، قلت: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلاَّ رجلٌ من المسلمين ".
2 روى الإمام أحمد في مسنده (835 تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد) قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن يعنِي الغُداني الأشل، عن الشعبي، حدَّثني أبو جُحيفة الذي كان عليٌّ يُسمِّيه: وهْب الخير، قال: قال لي عليٌّ: " يا أبا جُحيفة! ألا أُخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيِّها؟ قال: قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى(8/61)
ص -61- ... أنَّ أحداً أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث، ولم يُسمِّه "، وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ منصور بن عبد الرحمن فهو من رجال مسلم، وأثر علي هذا عن أبي جُحيفة جاء في مسند الإمام أحمد وزوائده لابنه عبد الله من طرق صحيحة أو حسنة، وأرقامها من (833) إلى (837) و(871).
3 روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (484): قَثَنَا الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى قالا: نا شهاب بن خراش، قال: حدَّثني الحجاج ابن دينار، عن أبي مَعشر، عن إبراهيم النخعي، قال: " ضرب علقمة بنُ قيس هذا المنبر، فقال: خطبنا عليٌّ على هذا المنبر، فحمِد اللهَ وذكره ما شاء الله أن يذكرَه، ثمَّ قال: ألا إنَّه بلغنِي أنَّ أناساً يفضِّلونِي على أبي بكر وعمر، ولو كنتُ تقدَّمت في ذلك لعاقبتُ، ولكنِّي أكرَه العقوبةَ قبل التقدُّم، فمَن قال شيئاً من ذلك فهو مفْتَرٍ، عليه ما على المفتري، إنَّ خيرَ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثمَّ عمر ... ".
وهذا إسنادٌ حسن، وأبو مَعشر هو زياد بن كُليب، وهو ثقة.
وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (993)، وقال الألباني: " إسناده حسن ".
في زوائد فضائل الصحابة (49) عن عبد الله بن أحمد بإسنادٍ فيه ضعف إلى الحَكَم بن جَحْل قال: سمعتُ عليًّا يقول: " لا يفضلني أحدٌ على أبي بكر وعمر إلاَّ جلدته حدَّ المفتري ".
وهو أيضاً كذلك في السنة لابن أبي عاصم (1219)، وهو قريبٌ في المعنى من الذي قبله عن علقمة.(8/62)
ص -62- ... وقد أشار إبراهيم النَّخعي إلى هذه العقوبة من عليٍّ لِمَن يفضِّله على الشيخين بقوله لرجلٍ قال له: "عليٌّ أحبُّ إليَّ من أبي بكرٍ وعمر، فقال له إبراهيم: أما إنَّ علياًّ لو سَمع كلامَك لأَوْجَع ظَهْرَك، إذا تجالسوننا بهذا فلا تجالسونا " رواه عنه ابن سعد في الطبقات (6/275) بإسناده إليه عن أحمد بن يونس عن أبي الأحوص ومُفضَّل بن مُهَلْهَل عن مغيرة عنه، ورجالُه ثقاتٌ محتجٌّ بهم، وهم من رجال الصحيحين، إلاَّ المفضل بن مهلهل فهو من رجال مسلم، وفيه عنعنة المغيرة عن إبراهيم، وهو مدلِّس.
4 روى ابن ماجه في سننه (106) قال: حدَّثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلِمة قال: سمعتُ علياًّ يقول: " خيرُ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وخير الناس بعد أبي بكر عمر ".
ورجاله محتجٌّ بهم، ثلاثة منهم من رجال البخاري ومسلم، وصححه الألباني.
5 روى البخاري في صحيحه (3655) بإسناده إلى عبد الله بن عمر أنَّه قال: " كنَّا نُخيِّر بين الناس في زمن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فنخيِّر أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان بن عفّان، رضي الله عنهم ".
ثالثاً: حكايةُ الإجماع:
قد جاء حكايةُ الإجماع أو ما يدلُّ عليه في تفضيل أبي بكر وعمر على غيرِهما من الصحابة عن جماعةٍ من العلماء، منهم:
1 يحيى بن سعيد الأنصاري (144ه ) ذكره اللاّلكائي في شرح أصول الاعتقاد (2608 و2609).(8/63)
ص -63- ... 2 سفيان بن سعيد الثوري (161ه )، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه أصول السنة (194).
3 شريك بن عبد الله النخعي الكوفي (177ه )، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (194).
4 عبد الله بن المبارك (181ه )، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (197).
5 محمد بن إدريس الشافعي (204ه )، ذكره البيهقي في الاعتقاد (ص:192).
6 يوسف بن عدي (232ه )، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (196).
7 و8أبوزرعة (264ه ) وأبو حاتم (277ه ) الرازيان، ذكره عنهما اللاّلكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (321).
9 النووي (676ه )، ذكره في شرحه على مسلم (15/148).
10 ابن تيمية (728ه )، ذكره في الوصية الكبرى (ص:59 و60)، وفي منهاج السنة (8/413).
11 الذهبي (748ه )، ذكره في كتاب الكبائر (ص:236).
وأمَّا ما عزاه إلى كتاب الاستيعاب لابن عبد البر من تفضيل عددٍ من الصحابة عليًّا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فلَم أقف على أسانيد عنهم بذلك، ولو ثبت شيءٌ من هذا فهو محمولٌ على مثل ما حصل لأبي جُحيفة رضي الله عنه قبل أن يَسمع من عليٍّ تفضيل أبي بكر وعمر عليه، حيث قال: " ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه "، وقد مرَّ قريباً.(8/64)
ص -64- ... وأيضاً لو ثبت النقلُ عنهم فإنَّه لا يُقاوم ما ثبت في الأحاديث المرفوعة إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم عليّ رضي الله عنه، وهو مخالِف لِما نُقل من الإجماع في تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع.
وأمَّا ما زعمه من دلالة بعض الروايات على تفضيل عليٍّ رضي الله عنه على غيره فلَم يُبيِّن شيئاً من هذه الروايات، ولعلَّه يعنِي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعليٍّ رضي الله عنه: " أمَا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي "، وقد أشار إليه في كلامه الذي شكَّك فيه بأحقِّية أبي بكر بالخلافة، وسيأتي ذكرُه قريباً والجواب عنه، وهو يدلُّ على فضل عليٍّ رضي الله عنه، ولا يدلُّ على أفضليَّته على الخلفاء الثلاثة الذين قبله، رضي الله عن الجميع.
ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكايات الإجماع اتَّضح أنَّ الحقَّ هو تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره من الصحابة، ومن العجب أن يُشكِّك المالكي في أفضليَّة أبي بكر على غيره، مع أنَّ تفضيلَه على سائر الصحابة دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة وحكاية الإجماع من عددٍ من العلماء، بل قد ثبت عن عليٍّ رضي الله عنه من رواية أربعة من التابعين أنَّ عليًّا رضي الله عنه يُفضِّلُ أبا بكر عليه، وواحد منها في صحيح البخاري، وفي بعضها تفضيله أي علي عمرَ عليه، بل لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الوصيَّة الكبرى (ص:59 60): " وقد اتَّفق أهلُ السنَّة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: خير هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر، ثمَّ عمر، رضي الله عنهما ".(8/65)
ص -65- ... وفي ترجمة عبد الرزاق بن همام في تهذيب الكمال للمزي قال أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري: سمعتُ عبد الرزاق يقول: " أفضِّل الشيخين بتفضيل عليٍّ إيَّاهما على نفسه، ولو لَم يُفضِّلهما ما فضَّلتُهما، كفى بي إزراءً أن أحبَّ عليًّا ثمَّ أخالف قولَه ".
وفي زوائد فضائل الصحابة (126) عن عبد الله بن أحمد: قثنا سلمة ابن شَبيب أبو عبد الرحمن النيسابوري، قال: سمعتُ عبد الرزاق يقول: " والله! ما انشرح صدري قطُّ أن أُفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على عثمان، ورحمة الله على عليٍّ، ومَن لَم يحبَّهم فما هو بمؤمن، وإنَّ أوثقَ أعمالِنا حبُّنا إيَّاهم أجمعين، رضي الله عنهم أجمعين، ولا جعل لأحد منهم في أعناقنا تَبِعة، وحَشَرنا في زُمْرَتهم ومعهم، آمين رب العالمين! "، وسلمة بن شبيب ثقة من رجال مسلم.
تشكيكه في أَحقِّية أبي بكر بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد عليه:
جاء في قراءته (ص:28) عنوان بلفظ: " الاختلاف يوم السقيفة وموقف المسلمين منها وآثارها الفكرية "، أورد تحته كلاماً ينتهي في (ص:34) اشتمل على تشكيك في أحقية أبي بكر وأولويَّته بالخلافة، وأنا أورد هنا بعضَ المقاطع المشتملة على جُمل من هذا التشكيك:
1 ففي (ص:29) قال: " فعند علم الأنصار بوفاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اجتمعوا في سقيفة بَنِي ساعدة يريدون تولية سعد بن عبادة رضي الله عنه على المسلمين؛ بحجَّة أنَّ الأنصارَ هم أهلُ المدينة عاصمة الإسلام، وأنَّ قريشاً أخرجت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من مكة، وأنَّ الأنصارَ هم الذين حَموا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم(8/66)
ص -66- ... ودعوتَه، ولقوا في ذلك الشدائد، وأنَّ المهاجرين ليسوا إلاَّ ضيوفاً عليهم في المدينة، وعلى هذا فصاحب الدار أولَى بالتصرُّف في داره من الضيف ".
2 وقال في (ص:30 حاشية): " بعضُهم يرى أنَّه ليس كلُّ من بايع أبا بكر الصديق يراه أَوْلَى مِن غيره! وإنَّما بايَعه لأنَّه يراه من الأكفاء للخلافة، ولخشيته من الفتنة ورضاه بالأمر الواقع!! ... ".
3 وقال في (ص:30 32): " وكان هناك قسمٌ آخر من كبار المهاجرين لَم يُبايعوا أبا بكر، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وكان معه بنو هاشم قاطبة، كالحسن والحسين وعمِّه العباس بن عبد المطلب وأبنائه عبد الله بن العباس والفضل بن العباس، وكوكبة من كبار المهاجرين الأوَّلين كعمار بن ياسر وسَلمان الفارسي وأبو "كذا" ذر الغفاري والمقداد بن عمرو وغيرهم، كما كان معهم بعضُ الأنصار كأُبَيِّ بن كعب والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله، وغيرهم من عموم الصحابة الذين كانوا يرون أنَّ عليَّ ابنَ أبي طالب كان أكفأَ الناس لتولِّي الأمر بعد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ! لكونه أوَّلَ مَن أسلم، ولكونه بمنزلة كبيرة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة"، وكان من علماء الصحابة وشجعانهم وزهادهم، ومن العشرة المبشَّرين بالجنة، مع نسبه الشريف وقربه من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نسباً وصِهراً ونشأة وسكناً، فكان هذا القسم من المهاجرين ومعهم بعض الأنصار يرون أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو أنسبُ الصحابة لتولِّي الخلافة بعد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم !! بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثرَ من ميلِهم مع "أبي بكر!!"؛ لعلمِهم بأنَّ عليًّا وإن كان قرشيًّا لكنَّه لن يؤْثرعليهم قريشاً، لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لَم يكن(8/67)
موجوداً في(8/68)
ص -67- ... السقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!! لأنَّ بعضَ الأنصار لَمَّا رأوا أنَّ الأمر سينصرفُ عن سعد بن عبادة هتفوا باسم عليٍّ في السقيفة!! والأنصار كانوا أغلبيةً في المدينة، لكن عليًّا كان مشغولاً بِجَهاز النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، من غسله وتكفينه والإقامة على إتمام ذلك، فهو إمَّا أنَّه لَم يعلم بهذا الاجتماع المفاجئ في السقيفة، أو أنَّه يرى أنَّه ليس من المناسب أن يترك الجسدَ الشريف ويذهب إلى السقيفة يتنازع مع الناس في أحقيته بخلافة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم !! فآثر البقاءَ مع الجسد الشريف غسلاً وتكفيناً مع الصلاة عليه، ثمَّ دفنه صلى الله عليه وسلم ، وهذا استغرق يومين من موته صلى الله عليه وسلم .
وكانت البيعة العامة لأبي بكر قد تَمَّت قبل دفن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا كان له أثرٌ نفسي على علي بن أبي طالب ومن مَعه مِن أهل البيت، كفاطمة الزهراء، ومن معه من المهاجرين والأنصار، فقد كان هؤلاء يَرون أنَّ أصحابَ السقيفة لَم يُراعوا مكانتهم، وقطعوا الأمور دون مشورتِهم، وكانوا يفضِّلون أن يتأنَّى الناس حتى يتِمَّ دفنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ يتشاور الناسُ ويوَلُّون مَن يرونه أهلاً للخلافة، أمَّا أن يتِمَّ الأمر في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثمَّ بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يُضعف عندهم شرعيَّة البيعة!! ويجعلها أشبه ما تكون بالقهر والغلبة التي تتنافى مع الشورى المأموربها شرعا {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} !! ".
4 وقال عن الاختلاف الذي جرى في السقيفة (ص:29 حاشية): " ويرى البعضُ أنَّ هناك أسباباً قبليَّة وتعصب "كذا" لفئات وأشخاص، وليس اختلافهم لمصلحة الإسلام!! ورغم عدم تسليمنا بل وإنكارنا لهذا القول إلاَّ أنَّه ليس هناك دليلٌ شرعي ولا عقلي يمنع من هذا!! فالصحابة يعتريهم(8/69)
ما يعتري سائرَ البشر! ".(8/70)
ص -68- ... 5 وقال في (ص:31 حاشية): " سببُ ميل الأنصار لعليٍّ أكثرمن ميلهم لأبي بكر وعمر أنَّ عليًّا كان أكثر فتكاً في مشركي قريش؛ إذ قتل من قريش في بدر وحدها نحو خمسة عشر رجلاً، وأوصلهم بعض المؤرِّخين كالواقدي إلى ثلاثة وعشرين رجلاً، فكان الأنصارُ يرون أنَّ عليًّا كان صارماً في موضوع قريش، وأنَّه سيكبحُ جِماحَ قريش "وخاصة الطُّلَقاء منهم، وكان الطُّلَقاء يُمثِّلون أغلب قريش"، وأنَّه لن يصيب الأنصارَ من قريش أذى أو أثرة إذا كان علي هو الخليفة؛ لأنَّ قريشاً تُبغض عليًّا لكثرة نكايته في بيوتاتهم، بعكس أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ لَم يثبت أنَّهم قتلوا من قريش أحداً باستثناء رجل واحد قتله عمرُ بنُ الخطاب يوم بدر، أما علي فقتل منهم العشرات في بدر وأُحُد والخندق ويوم الفتح، وهي المعارك المشهورة مع قريش ...
وقد كان بين علي والأنصار مَحبَّة عظيمة، وكان عليٌّ على علاقة كبيرة بهم، وولَّى جَمعاً من فضلائهم أيَّام خلافته "، فذكر سبعاً منهم ثمَّ قال: " بينما لَم يجد الأنصارُ فرصتَهم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ كانت الولايات في أيدي القرشيِّين في الغالب "وهذا أمرٌ يدعو للدراسة لمعرفة الأسباب!!"، ومن الاتفاقات الجديرة بالذِّكر هنا أنَّه ورد في الأنصار حديثاً "كذا": "لا يحب الأنصارَ إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضهم إلاَّ منافق"، وورد الحديث نفسه في علي: "لا يحب عليًّا إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضه إلاَّ منافق"، الحديثان في مسلم، وبوَّب مسلمٌ لهذا باباً بعنوان "باب حب علي والأنصار من الإيمان"، فسبحان الله!! ".
6 وقال في (ص:33 حاشية): " أسلم يوم مكة ألفان من قريش وسُمُّوا الطُّلَقاء، فلعله لهذا السبب كان الأنصار يَخشون إذا ذهبت الخلافة(8/71)
ص -69- ... لقريش أن تصل إلى هؤلاء الطُّلَقاء، وقد حصل هذا بعد ثلاثين سنة، إذ تولَّى الأمر معاوية بن أبي سفيان وهو من الطُّلَقاء، وقد وجد الأنصار في عهده الأثرة الشديدة التي أخبرهم بها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم !!! ".
وبعد إيراد هذه المقاطع من كلامه المشتملة على جُمل من التشكيك في أحقية أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أجيب عن ذلك من جهتين:
الأولى: التنبيه على بعض ما أورده.
الثانية: في بيان الأدلة الدَّالة على أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما الجهة الأولى، فأقول: إنَّ مَن يرى أو يسمع مثلَ هذا الكلام الذي سطَّره المالكي لا يَشُمُّ منه رائحة السنَّة ولا رائحةَ أهلها، بل يتبادر إلى ذهنه أنَّ بين يديه كتاباً من كتب أهل البدع والضلال.
وإنَّ مجرَّدَ قراءة مثل هذا الكلام أو سماعه وتصوُّره يُغنِي عن الاشتغال بالتعليق عليه، لكنِّي أنبِّه على أمور ثلاثة:
أوَّلاً: ما أشار إليه في المقطع رقم (3) من أوْلَوِيَّة علي رضي الله عنه بالخلافة؛ لكونه بمنزلة كبيرة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة، فيُجاب بأنَّ بعضَ أهل الأهواء والبدع يتشبَّثون بأوْلوية علي بن أبي طالب بالخلافة بالحديث الوارد في ذلك، وهو حديث ثابتٌ في الصحيحين عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ولفظه عند البخاري (4416): " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، واستخلف عليًّا، فقال: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون(8/72)
ص -70- ... من موسى، إلاَّ أنَّه ليس نبيٌّ بعدي؟! ".
وهو لا يدلُّ لهم؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما قال ذلك تطييباً لنفس عليٍّ رضي الله عنه لَمَّا قال له: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ وهذا الاستخلاف إنَّما هو مدَّة سفره إلى تبوك، كما أنَّ استخلاف موسى لهارون كان مدَّة ذهابه لمناجاة الله، فهذا هو المراد بالتشبيه، فالمشبَّه استخلافه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ مدَّة غيبته، والمشبَّه به استخلاف موسى لهارون مدَّة غيبته، إلاَّ أنَّ المشبَّه به نبِيٌّ استخلف نبيًّا لوجود الأنبياء في زمن واحد، وأمَّا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنَّه لانبِيَّ بعده، لا في زمانه ولا بعد زمانه.
وليس فيه دلالة على أحقِّيَّة علي بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً: ما أشار إليه في المقطع رقم (5) من أوْلوية عليّ رضي الله عنه بالخلافة لكونه قد أكثر القتل في كفار قريش، أقول إنَّ كثرةَ القتل لا تعتبر دليلاً على الأولوية، ومن المعلوم أنَّ بعض من تأخَّر إسلامُهم كانت نكايتُهم بالعدوِّ أشدَّ مِمَّن هو أفضل منهم مِمَّن تقدَّم إسلامُهم، وإنَّما التفضيل والتقديم في الخلافة يُعوَّل فيه على الأدلَّة، وسبق ذكرُ الأدلَّة الدالَّة على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره، وسيأتي بعد قليل ذكر الأدلّة الدالَّة على تقديمه في الخلافة على غيره.
ثالثاً: ما أشار إليه في المقطع رقم (5) من ورود حديثين في صحيح مسلم، أحدهما في الأنصار، والثاني في عليٍّ، يدلاَّن على أنَّه لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، أقول: إنَّ الحديثَ في الأنصار جاء في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: " الأنصار لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، فمَن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله " رواه البخاري (3783) ومسلم (129)، وأيضاً من(8/73)
ص -71- ... حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه: " آيةُ الإيمان حبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بغضُ الأنصار " رواه البخاري (3784) ومسلم (128).
وفي صحيح مسلم (131) عن زرٍّ قال: قال عليّ: " والذي فَلَقَ الحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إنَّه لعهدُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليَّ: ألاَّ يُحبَّني إلاَّ مؤمن، ولا يبغضني إلاَّ منافقٌ ".
وبغضُ المنافقين للأنصار إنَّما هو لنُصرتهم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لإظهار دينه، وهذا المعنى لا يختصُّ به الأنصار؛ فإنَّ المهاجرين هم أيضاً أنصارٌ، وقد جَمعوا بين الهجرة والنُّصرة، ولهذا كانوا أفضلَ من الأنصار، وقد وصفهم الله بهذين الوصفين في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، قال الحافظ في الفتح (1/63) في شرح حديث حبّ الأنصار: " ... فلهذا جاء التحذيرُ من بغضهم والترغيب في حبهم حتَّى جعل ذلك آيةَ الإيمان والنفاق؛ تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان مَن شاركهم في معنى ذلك مشاركاً لهم في الفضل المذكور كلٌّ بقسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: "لا يُحبُّكَ إلاَّ مؤمن، ولا يبغضكَ إلاَّ منافقٌ"، وهذا جارٍ باطّرادٍ في أعيان الصحابة؛ لتحقق مشترك الإكرام؛ لِمَا لهم مِن حسن الغناء في الدِّين، قال صاحب المفهم: وأمَّا الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغضٌ لبعضٍ فذاك من غير هذه الجهة "يعني النصرة"، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لَم يحكم بعضهم على بعضٍ بالنفاق، وإنَّما كان حالُهم في ذاك حالَ المجتهدين في الأحكام، للمصيب أجران، وللمخطئ أجرٌ واحد، والله أعلم ".(8/74)
ص -72- ... وكتاب المفهم هو شرحٌ لصحيح مسلم، وصاحبُه أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، وهو شيخ لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي المفسر.
وأمّا ما ذكره المالكي مِن أنَّ مسلماً بوَّب لهذا باباً بعنوان " باب حبُّ عليٍّ والأنصار من الإيمان "، فإنَّ مسلماً رحمه الله لَم يضع في صحيحه أبواباً، وهو في حكم المبوَّب، وتراجم الأبواب إنَّما هي من عمل غيره، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/21): " وقد ترجم جماعةٌ أبوابَه بتراجم بعضُها جيِّدٌ وبعضُها ليس بجيِّد، إمَّا لقصور في عبارة الترجمة، وإمَّا لركاكةِ لفظها، وإمَّا لغير ذلك، وأنا إن شاء الله أحرصُ على التعبير عنها بعبارات تليقُ بها في مواطنها، والله أعلم ".
وأما الجهة الثانية فهي في بيان الأدلَّة الدالَّة على أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأذكر هنا بعضَ ما وقفتُ عليه من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع.
أوَّلاً: الأحاديث والآثار:
1 روى البخاري (5666)، ومسلم (2387) في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضِه: ادْعِي لي أبا بكر وأخاكِ حتى أكتب كتاباً، فإنِّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى اللهُ والمؤمنون إلاَّ أبا بكر ".
2 روى البخاري (7220)، ومسلم (2386) في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عن جُبير بن مُطْعم قال: " أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فكلَّمتْه في شيءٍ، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله! أرأيتَ إن جئتُ ولَم(8/75)
ص -73- ... أجدْك، كأنَّها تريد الموت؟ قال: إن لَم تجديني فأتِي أبا بكر ".
3 روى البخاري في صحيحه (678) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " مرض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فاشتدَّ مرضُه، فقال: مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس " الحديث، وقد أخرجه مسلم في صحيحه (420).
وجاء أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس من حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (679) ومسلم (418).
وقد فهم الصحابةُ رضي الله عنهم من تقديم أبي بكر رضي الله عنه في الإمامة في الصلاة أنَّه الأحقُّ بالخلافة، فروى ابن سعد في الطبقات (3/178 179) قال: أخبرنا حُسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن زِرّ عن عبد الله (يعني ابن مسعود) رضي الله عنه قال: " لَمَّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: مِنَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس؟ قالوا: بلى! قال: فأيُّكم تطيبُ نفسُه أن يتقدَّم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر! ".
وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رجالُه رجالُ الجماعة، وعاصم هو ابن أبي النجود، وحديثُه في الصحيحين مقرونٌ، ورواه الحاكم في المستدرك (3/67)، وقال: " هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.
وفي صحيح البخاري (3668) أنَّ عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر يوم السقيفة: " بل نبايعُك أنت؛ فأنت سيِّدنا وخيرُنا وأحبُّنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ عمر بيده، فبايعه وبايعه الناس ".
4 روى مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البجلي(8/76)
ص -74- ... أنَّه قال: " سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: إنِّي أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلاً، ولوكنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً " الحديث.
وهذا التنويهُ بهذه الفضيلة العظيمة للصِّدِّيق في مرض موته صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته بخمس ليالٍ، فيه إشارةٌ قويّةٌ إلى أنَّه الأحقُّ بالخلافة من غيره.
5 روى البخاري (3664) ومسلم (2392) في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " بينا أنا نائمٌ رأيتُني على قليبٍ عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثمَّ أخذها ابنُ أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوباً أو ذَنوبين، وفي نزعه ضَعفٌ، والله يغفر له ضعفَه، ثمَّ استحالت غرباً فأخذها ابنُ الخطاب، فلَم أَرَ عَبْقرياًّ من الناس ينزع نزعَ عمر، حتى ضرب الناسُ بعَطَن ".
ورؤيا الأنبياء وحيٌ، وهذه الرؤيا فيها إشارةٌ إلى خلافة أبي بكر وقِصَرها، وإلى خلافة عمر مِن بعده، وطولها وكثرة نفعها.
6 روى ابن أبي شيبة في مصنّفه (7/434 رقم:7053) فقال: حدثنا ابن نُمير، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير قال: سمعتُ علياًّ يقول: " قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على خير ما عليه نَبِيٌّ من الأنبياء، قال: ثمَّ استخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنته، ثمَّ قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها، ثمَّ استُخلف عمر فعمل بعملهما وسنتهما، ثمَّ قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر ".
ورجالُ هذا الإسناد محتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سلع صدوق.(8/77)
ص -75- ... ثانياً: حكايةُ الإجماع والاتّفاق على خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
لَم يأت نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحٌ على خلافة أبي بكر أو غيره، لكنَّه قد جاء أحاديث صحيحة تدلُّ دلالة قويَّة على أنَّه أولَى من غيره بالخلافة، وقد مرَّ جملةٌ منها، وقد حصل اتِّفاق الصحابة رضي الله عنهم على بيعته، وتحقَّق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث المتقدِّم قريباً: " يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر "، ويدلُّ على حصول اتِّفاقهم على بيعته ما يلي:
1 روى الحاكم في المستدرك (3/78 79) قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثني أبي وأحمد بن منيع، قالا: ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زِر، عن عبد الله "يعنِي ابنَ مسعود" قال: " ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيِّئاً فهو عند الله سيِّء، وقد رأى الصحابةُ جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه ".
ورجاله مُحتجٌّ بهم، والقطيعي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/210)، وقال عنه: " الشيخ العالم المحدِّث مسند الوقت ".
2 روى البخاري في صحيحه (7219) بإسناده إلى الزهري أنَّه قال: " أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلَّم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبَرَنا، يريد بذلك أن يكون آخرَهم، فإن يكُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد مات، فإنَّ الله تعالى قد جعل بين أظهرِكم نوراً تهتدون به بما هدى اللهُ به محمداً صلى الله عليه وسلم ، وإنَّ أبا(8/78)
ص -76- ... بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، فإنَّه أولَى الناسِ بأمورِكم، فقوموا فبايِعوه، وكانت طائفةٌ منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بَنِي ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر، قال الزهري "أي بالإسناد المتقدِّم" عن أنس بن مالك: سمعتُ عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه الناسُ عامَّة ".
3 روى أبو داود في سننه (4630) قال: حدَّثنا محمد بن مسكين، حدَّثنا محمد يعني الفريابي قال: سمعتُ سفيان "يعني الثوري" يقول: " مَن زعم أنَّ عليًّا عليه السلام كان أحقَّ بالولاية منهما فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء ".
إسناده صحيح، ومحمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له الجماعة، ومحمد بن مسكين ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي.
4 روى البيهقي في كتابه مناقب الشافعي (1/434) بإسناده إلى الشافعي قال: " أجمع الناسُ على خلافة أبي بكر، واستخلَف أبو بكر عمر، ثمَّ جعل عمرُ الشورى إلى ستة، على أن يُوَلُّوها واحداً، فوَلَوْها عثمان رضي الله عنهم أجمعين ".
5 قال الإمام أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل في كتابه الإبانة (ص:185 186): " وأثنى الله عزَّ وجلَّ على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، وعلى أهل بيعة الرضوان، ونطق الكتاب بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة، وأثنى على أهل بيعة الرضوان، فقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية.
قد أجمع هؤلاء الذين أثنى عليهم ومدَحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسَمَّوه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبايعوه وانقادوا له،(8/79)
ص -77- ... وأقَرُّوا له بالفضل، وكان أفضلَ الجماعة في جميع الخصال التي يستحقُّ بها الإمامةَ من العلم والزهد وقوَّة الرأي وسياسة الأمَّة وغير ذلك ".
6 قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ المعروف بابن السَّقاء: " وأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، قالوا له: يا خليفة رسول الله! ولَم يُسَمَّ أحدٌ بعده خليفة، وقيل: إنَّه قُبض النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم، كلٌّ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! ورَضوا به مِن بعده، رضي الله عنهم، وإلى حيث انتهينا قيل لهم: أمير المؤمنين ". من تاريخ بغداد للخطيب (10/131).
والمراد أنَّ أبا بكر كان يُقال له: يا خليفة رسول الله! وأمَّا غيره فيُقال له: يا أمير المؤمنين.
7 قال أبو عثمان الصابوني إسماعيل بن عبد الرحمن في كتابه عقيدة السَّلف أصحاب الحديث (ص:87): " ويُثبت أصحابُ الحديث خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتِّفاقهم عليه وقولهم قاطبة: رَضِيَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لدِيننا فرضيناه لدُنيانا، يعني أنَّه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيَّام مرضه وهي الدِّين، فرضيناه خليفةً للرسول صلى الله عليه وسلم علينا في أمور دُنيانا.
وقولهم: قدَّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمَن ذا الذي يُؤَخِّرك؟ وأرادوا أنَّه صلى الله عليه وسلم قدَّمَك في الصلاة بنا أيَّام مرضه، فصلينا وراءك بأمره، فمَن ذا الذي يُؤخِّرك بعد تقديمه إيَّاك؟!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلَّم في شأن أبي بكر في حال حياته بِما يُبيِّن للصحابة أنَّه أحقُّ الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتَّفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه والله وارتفعوا به وعَزُّوا وعَلَوْا بسببه ".(8/80)
ص -78- ... 8 قال الإمام البيهقي في كتابه الاعتقاد (ص:179 180): " وقد صحَّ بما ذكرنا اجتماعُهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب، فلا يجوز لقائل أن يقول:كان باطنُ عليٍّ أو غيرِه بخلاف ظاهرِه، فكان عليٌّ أكبرَ محلاًّ وأجلَّ قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حقٍّ أو يُظهِرَ للناس خلافَ ما في ضميره، ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لَم يصحَّ إجماعٌ قطُّ، والإجماعُ أَحَدُ حُجَج الشريعة، ولا يجوز تعطيلُه بالتوهُّم ".
9 قال ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد (ص:35): " وهو "أي أبو بكر الصديق" أحقُّ خلق الله بالخلافة بعد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لفضله وسابقته وتقديم النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة ".
10 قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (1/264): " وأجمعت الصحابةُ على تقديم الصدِّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بَنِي ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منَّا أميرٌ ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إنَّ العربَ لا تدين إلاَّ لِهذا الحيِّ من قريش، ورَوَوا لهم الخبرَ في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش ".
11 قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (15/154 155) عند شرحه لأثر عائشة رضي الله عنها لَمَّا سُئلت: " مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثمَّ مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثمَّ قيل لها: مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثمَّ انتهت إلى هذا "، قال: " هذا دليلٌ لأهل السُّنَّة في تقديم أبي(8/81)
ص -79- ... بكر ثمَّ عمر في الخلافة مع إجماع الصحابة، وفيه دلالة لأهل السُّنَّة أنَّ خلافةَ أبي بكر ليست بنصٍّ من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحاً، بل أجمعت الصحابةُ على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته، ولو كان هناك نصٌّ عليه أو على غيره لَم تقع المنازعةُ من الأنصار وغيرهم أولاً، ولَذَكر حافظ النصَّ ما معه، ولرجعوا إليه، لكن تنازعوا أوَّلاً، ولم يكن هناك نصٌّ، ثمَّ اتَّفقوا على أبي بكر واستقرَّ الأمر ".
12 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/455): " ... فبايعه الذين بايعوا الرَّسولَ تحت الشجرة، والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُهاجرون إليه، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرِهم، ولم يقل أحدٌ قطُّ: إنِّي أحقُّ بهذا مِن أبي بكر، ولا قاله أحدٌ في أحدٍ بعينه: إنَّ فلاناً أحقُّ بهذا الأمر من أبي بكر ".
13 عقد ابن القيم في كتابه " الفوائد " فصلاً في فضائل أبي بكر، ومِمَّا جاء فيه قوله في (ص:95): " نطقتْ بفضله الآياتُ والأخبارُ، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار ".
14 قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (9/415 418): " وقد اتَّفق الصحابةُ رضي الله عنهم على بيعة الصِّديق في ذلك الوقت، حتى عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وأرضاهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي حيث قال: أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفراييني، ثنا أبو علي الحُسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر بن خزيمة وإبراهيم بن أبي طالب، قالا: نا بُندار بن بشار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وُهيب، ثنا داود بن أبي هند، ثنا أبو نَضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: " قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمع الناسُ في دار سعد بن(8/82)
ص -80- ... عُبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيبُ الأنصار فقال: أتَعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفتَه من المهاجرين، ونحن كنَّا أنصارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فنحن أنصارُ خليفتِه كما كنَّا أنصارَه، قال: فقام عمرُ بنُ الخطاب، فقال: صدق قائلُكم، ولو قُلتُم غيرَ هذا لَم نُتابِعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبُكم فبايِعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصارُ، قال: فصعد أبو بكر المنبرَ، فنظر في وجوه القوم، فلَم يرَ الزبيرَ، فدعا بالزبير فجاء، قال: قلتَ: ابنُ عمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريُّه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فقام فبايعه، ثمَّ نظر في وجوه القوم فلَم يرَ عليًّا، فدعا بعليِّ بن أبي طالب، فجاء فقال: قلتَ: ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختَنُه على ابنتِه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فبايعه"، هذا أو معناه ".
وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله رجال مسلم، وابن خزيمة هو إمام الأئمة صاحب الصحيح.
وإبراهيم بن أبي طالب هو محمد بن نوح، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/457) وقال: " الإمام الحافظ المجوِّد الزاهد، شيخ نيسابور، وإمام المحدِّثين في زمانه "، ونقل عن الحاكم أنَّه قال فيه: " إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرِّجال، جمع الشيوخ والعلل ".
وأبو علي الحسين بن علي الحافظ، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/51) وقال: " الحافظ الإمام العلاَّمة الثبت أبو علي الحسين بن علي ابن يزيد بن داود النيسابوري، أحد النُّقَّاد ".
وشيخ البيهقي، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/305) وقال: " الإمام الحافظ النَّاقد القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن حسين(8/83)
ص -81- ... ابن شاذان بن السَّقا الإسفراييني، من أولاد أئمَّة الحديث، سمع الكتب الكبار وأملى وصنَّف ".
وقد أورد ابن كثير حديث البيهقي هذا في البداية (8/92) بإسناده ومتنه، وفيه أنَّ كنية شيخه أبو الحسن، ثمَّ قال: " وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قُطَعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سِنان الخدري "، وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى (8/143) هذا الإسناد وأحال في متنه على متن إسناد قبله، وقال: " بنحوه "، وفيه أنَّ كنية شيخه: أبو الحسن.
وقال ابن كثير أيضاً (9/417): " وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدَّثني أبي: "أنَّ أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأنَّ محمد بن مسلمة كسَر سيفَ الزبير، ثمَّ خطب أبو بكر، واعتذر إلى الناس، وقال: والله! ما كنتُ حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتُها اللهَ في سرٍّ ولا علانية، فقبِل المهاجرون مقالتَه، وقال عليٌّ والزبير: ما غضِبْنا، إلاَّ لأنَّنا أُخِّرنا عن المشورة، وإنَّا نرى أبا بكر أحقَّ الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إنَّه لصاحبُ الغار، وإنَّا لنعرِف شرَفَه وخَيْرَه، ولقد أمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي".
وهذا اللاَّئق بعليٍّ رضي الله عنه، والذي تدلُّ عليه الآثار من شهودِه معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القَصَّة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما سنورده، وبذلِه له النصيحةَ والمشورةَ بين يديه، وأمَّا ما يأتي من مبايعته إيَّاه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه الصلاة والسلام بستَّة أشهر، فذلك محمولٌ على أنَّها بيعةٌ ثانية أزالت ما كان قد وقع من وَحشةٍ بسبب الكلام في الميراث، ومنعه إيَّاهم ذلك بالنصِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا نورَث ما تركنا فهو صدقة".(8/84)
ص -82- ... وإسناد موسى بن عقبة صحيح؛ سعد بن إبراهيم وأبوه من رجال الصحيحين، وسعدٌ ثقة، وأبوه له رؤية.
15 قال يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه الرياض المستطابة (ص:143): " وقد كانت بيعتُه إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرفُ بالحال، وأدرى بصحَّة الدليل في المقال، والإجماعُ حُجَّة قطعية من غيرهم، فما ظنُّك بهم؟! ".
ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع يتبيَّن أنَّ خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه حقٌّ، وأنَّه أوْلَى بالخلافة من غيره، وأنَّ القولَ بخلاف ذلك ضلالٌ عن الحقِّ وخروجٌ عن الجادَّة واتِّباعٌ لغير سبيل المؤمنين التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: " يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر "، فالله يأبى إلاَّ أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلاَّ أبا بكر، ويأبى بعضُ الذين اتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين مِن أهل الأهواء والبدعِ إلاَّ غير أبي بكر، نعوذ بالله من الخذلان.
ثمَّ أقول: إنَّ غُلوَّ المالكي في عليٍّ رضي الله عنه لا يُفيد عليًّا شيئاً، وإنَّ جفاءَه في حقِّ الكثيرين من الصحابة لا يضُرُّهم شيئاً، وإنَّما مضرَّة الغلوِّ والجفاء تعود على الغالي الجافي، نسأل الله السلامةَ والعافية.
تنبيه: بعد إيراد المالكي كلامه الذي شكَّك فيه في أَوْلَوِيَّةِ أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة أورد كلاماً يُشكِّك فيه في أوْلوية عمر وعثمان رضي الله عنهما في الخلافة من بعده، ولَم أُشغِل نفسي بإيراده هنا والردِّ عليه؛ اكتفاءاً بما تقدَّم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومن المعلوم أنَّ مَن سهُل عليه التشكيكُ في خلافة أبي بكر فإنَّ تشكيكَه في خلافة عمر وعثمان أسهلُ وأسهل، نسأل الله السلامة والعافية من كلِّ شرٍّ وسوء.(8/85)
ص -83- ... زعمه أنَّ العبَّاس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة والرد عليه:
ذَكَرَ آثاراً مستدلاًّ بها على أنَّ الصحابةَ ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وأنَّ العباس وابنَه عبد الله ليسَا من الصحابة، فقال في (ص:52): " الدليل الواحد والعشرون: وقال العباس لابنه عبد الله: "يا بُنَيَّ! أرى أمير المؤمنين يقصد عمر يُقرِّبك ويَخلو بك ويستشيرُك مع ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحفظ عنِّي ثلاثاً ..." (فضائل الصحابة لأحمد 2/957) والإسناد رجاله ثقات إلاَّ مجالد بن سعيد.
أقول: إن صحَّ فالعباس لا يرى نفسه ولا ابنَه من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، يُفهَم هذا من سياق الخبر، لكن مجالِد ضعيفٌ جدًّا، وقد اتُّهم بالكذب، لكن يشهد للمتن ما يأتي:
الدليل الثاني والعشرون: قول ابن عباس نفسه "كان عمر يسألُنِي مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان يقول لي ..." "فضائل الصحابة لأحمد 2/970، وإسناده صحيح، وقد صححه المحقق".
أقول: هذا دليل على أنَّ ابنَ عباس أخرج نفسَه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو دليل على خروج مَن أسلم بعده كالطلقاء وأمثالِهم، وهذا الإسناد صحيح إلى ابن عباس!
الدليل الثالث والعشرون: قول ابن عباس: "لَمَّا قُبض النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هَلُمَّ فلنسأَلْ أصحابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: العجب منك يا ابن عباس! أترى الناسَ يحتاجون إليك وفي الأرض مَن ترى من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ...؟!" "فضائل الصحابة لأحمد(8/86)
ص -84- ... 2/976، وسنده صحيح، وقد صححه المحقق".
أقول: وهذا يشهد لقول ابن عباس السابق أنَّ الصحابةَ هم المهاجرون والأنصار فقط!!!
الدليل الرابع والعشرون: قول الليث: قيل لطاووس: "أدركتَ أصحاب محمد، وانقطعتَ إلى ابن عباس؟! فقال: أدركتُ سبعين من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا في شيء انتهوا إلى قول ابن عباس" "فضائل الصحابة لأحمد 2/967، والإسناد رجاله ثقات، إلاَّ ليث بن أبي سليم، وقد حسنه المحقق، وصحَّح الأثر".
أقول: طاووس بن كيسان من كبار التابعين، ومن ظاهر الأثر يبدو والله أعلم أنَّه لا يرى ابنَ عباس من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مع جلالة ابن عباس وفضله وعلمه ".
أقول:
إنَّ قَصْرَ المالكي الصُّحبةَ المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية أوقعه في إخراجِ عددٍ كبير من الصحابة من أن ينالوا شرفَ الصُّحبة، وفيهم العباسُ بن عبد المطلب عمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه وابنُه عبد الله بن عباس حَبْر الأمَّة وترجمان القرآن، الذي بلغت أحاديثُه في الكتب الستة ستين وستمئة وألف حديث، كما في الخلاصة للخزرجي، اتَّفق البخاري ومسلم منها على خمسة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بإخراج ثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين.
وإنَّها لإحدى الكُبَر أن يَدَّعيَ المالكيُّ أنَّ العبَّاسَ وابنَه عبد الله لَم يظفرَا بفضيلة الصُّحبة، وهو شيء لَم يُسبَق إليه، وما سمعتُ ولا رأيتُ قبل وقوفي(8/87)
ص -85- ... على كلامه هذا مثل هذه الدَّعوى الباطلة الخاطئة، وإنَّ مُجرَّدَ تصوُّر هذا القول الباطل يُغنِي عن الاشتغال بالردِّ عليه، ومع هذا فإنِّي أجيب عليه بما يأتي:
الأول: أنَّه لَم يأت عن أحدٍ من الصحابة ومَن بعدهم ما يُخرج العباس وابنَه عبد الله مِن أن ينالاَ شرف الصُّحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فمِثْلُ هذه الدعوى من المالكي مِن مُحدَثات القرن الخامس عشر!
الثاني: أنَّ ذِكرَ أحد الصحابة أصحابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لا يُخرجه منهم، فما ذكره المالكيُّ من آثار جاء فيها ذِكرُ العباس أو ابنِه أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها دليل على إخراجهما، مع أنَّ ذكرَه للعباس جاء في إسنادٍ فيه مُجالد الذي قال فيه إنَّه ضعيفٌ جدًّا، وقد اتُّهم بالكذب، ومِمَّا يُوَضِّح ذلك ما رواه أبو داود في سننه (3651) قال: حدَّثنا عمرو بن عون، أخبرنا خالد، ح وحدَّثنا مسدَّد، حدَّثنا خالد المعنى عن بيان بن بِشر، قال مُسدَّد: أبو بِشر، عن وَبْرة بن عبد الرحمن، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير: ما يَمنعُك أن تُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحدِّث عنه أصحابُه؟ فقال: أما والله! لقد كان لي منه وجه ومنزلة، ولكنِّي سَمعتُه يقول: " مَن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعدَه من النار "، وهوحديث صحيح، رجال إسنادِه خرَّج لهم البخاري ومسلم في صحيحيهما إلاَّ أحد شيخي أبي داود وهو مسدَّد، فهو من رجال البخاري وحده.
وقول ابن الزبير لأبيه: " ما يَمنعُك أن تُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحدِّث عنه أصحابُه؟ " لا يدلُّ على خروج الزبير وابنِه من أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّ الزبير رضي الله عنه من السابقين الأولين من المهاجرين، وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وابنه عبد الله أوَّل مولود وُلد بالمدينة بعد الهجرة.(8/88)
ص -86- ... ويدلُّ لذلك أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه (2984) عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: " يا رسول الله! يرجع أصحابُك بأجر حجٍّ وعمرةٍ، ولم أزِدْ على الحج؟ " الحديث.
وفي حديث عائشة في صحيح مسلم (2/875) قالت: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهِلِّين بالحج؟ ... فخرج إلى أصحابه، فقال: مَن لَم يكن معه منكم هَدْيٌ فأحبَّ أن يجعلها عمرةً فليفعل، ومَن كان معه هديٌ فلا، فمنهم الآخذ بها والتَّاركُ لها مِمَّن لَم يكن معه هديٌ، فأمَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه الهدي، ومع رجال من أصحابه لهم قوَّة، فدخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلتُ: سمعتُ كلامك مع أصحابك فسمعت بالعمرة فمُنِعتُ العمرة، قال: وما لك؟ قلت: لا أصلِّي " الحديث.
فذِكرُ أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المواضع الثلاثة لا يدلُّ على إخراجها منهم، بل إنَّه يدلُّ على أنَّ كلَّ الذين صحبوه في حجَّته هم من أصحابه. وهذا الذي جاء عن العباس وابنه وابن الزبير وعائشة رضي الله عنهم له نظائرُ كثيرةٌ في كلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، وهو واضحٌ في عدم خروج المتكلِّم به ومَن يخاطبه مِن أن يكون مِن أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
الثالث: أنَّ ما زعمه المالكي مِن كون العباس وابنه عبد الله رضي الله عنهما لَم ينالا شرفَ صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو من الجفاء في بعض أهل البيت من أصحابه صلى الله عليه وسلم ، فقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/419): " وأبعدُ الناس عن هذه الوصيَّة يعني وصيَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل بيته الرافضةُ؛ فإنَّهم يُعادون العباسَ وذرِّيَّتَه، بل يعادون جمهورَ أهل البيت ويُعينون الكفارَ عليهم ".(8/89)
ص -87- ... بل إنَّ هذا من المالكي جفاءٌ في مَن هو أقربُ نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عمه العباس رضي الله عنه الذي لوكان يُورَث صلى الله عليه وسلم لوَرثه عمُّه مع زوجاته صلى الله عليه وسلم وبنته رضي الله عنهنَّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأَوْلَى رجلٍ ذَكر " متفق عليه، وأيضاً هو جفاءٌ لابن عمِّه عبد الله بن عباس، الذي ضَمَّه صلى الله عليه وسلم وقال: " اللَّهمَّ علِّمه الكتاب " رواه البخاري (75)، وفي لفظ عنده (143): " اللَّهمَّ فقِّهه في الدِّين ".
أقول: أفيكون هذان الرَّجلان العظيمان لَم يظفَرَا بشرف صُحبة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، كما زعم هذا المالكي؟! نعوذ بالله من الخذلان.
زعمه أنَّ خالد بن الوليد رضي الله عنه ليسَ من الصحابة والرد عليه:
قال في (ص:43 45): " الدليلُ الثالث عشر: حديثُ خالد بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف، وهو قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : "لا تسُبُّوا أحداً من أصحابي؛ فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"، ثمَّ علَّق عليه هنا في الحاشية بقوله: " مسلم كتاب فضائل الصحابة ".
ثمَّ قال: " أقول: الحديث مشهورٌ بلفظ "لا تسُبُّوا أصحابي"، وهو يخاطب خالدَ بنَ الوليد عندما تخاصم مع عبد الرحمن بنِ عوف في قضيَّة بني جَذِيمة بعد فتح مكة.
وهذا دليلٌ واضحٌ على إخراج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد وطبقته من الصحبة الشرعية لأكثر من دلالة:(8/90)
ص -88- ... الدلالة الأولى الأقوى: أنَّ تكملةَ الحديث فيه بيان للصحبة الشرعية، وأنَّها لا تُدرَك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "فلو أنفق أحدُكم مثلَ جبل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه".
فهذه هي الصحبة الشرعيَّةُ تماماً، وهي التي لَم يُدْرِكْها خالد بنُ الوليد، على فضله وبلائه وشجاعته، كما لَم يُدْرِكْها طبقةٌ كعمرو بن العاص ونحوه، فمن باب أولى ألاَّ يدركَها طلقاءُ مكة، ولا عُتقاءُ ثقيف، ولا الأعرابُ، ولا الوفودُ المتأخِّرون ونحوهم.
الدلالة الثانية: أنَّ خالد "كذا" أقرَّ بهذا ولم يقل: " يا رسول الله! أو لستُ من أصحابك؟!؛ لأنَّ خالد "كذا" يعرف الفرقَ بين الصحبة الشرعية التي قام عليها الإسلام، وبين الصحبة العامة أو اللاَّحقة التي يمكن أن يُطلق على أصحابها "التابعين" أيضاً.
الدلالة الثالثة: أنَّ قصَّةَ الحديث وقعت بعد فتح مكة، وبعد أن صحب خالد بن الوليد النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مدَّةً من الزمن، لكن لَم تشفع له في الحصول على فضيلة الصحبة الشرعية، فكيف بِمَن بعده؟! ".
والجوابُ:
أنَّ قولَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : "لا تسبُّوا أصحابي" والمرادُ به عبد الرحمن بنُ عوف وغيرُه مِمَّن تقدَّم إسلامُهم لا يدلُّ على حصر الصحبة في عبد الرحمن وأمثاله، وإنَّما يدلُّ على مزيد فضلِ هؤلاء، وإن كان غيرُهم قد شاركهم في الفضل، مع التفاوت الكبير بين الصحابة في الفضل، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (8/431 433): " ومِمَّا يبيِّن أنَّ الصحبة فيها خصوصٌ وعمومٌ، كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من(8/91)
ص -89- ... الصفات التي يتفاضلُ فيها الناسُ في قَدْرِها ونَوعِها وصِفَتِها، ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تسُبُّوا أحداً من أصحابي؛ فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"، انفرد مسلمٌ بذكر خالد وعبدالرحمن دون البخاري، فالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه: "لا تسُبُّوا أصحابي"، يعني عبدالرحمن بن عوف وأمثاله؛ لأنَّ عبد الرحمن ونحوَه هم السابقون الأوَّلون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهلُ بيعة الرضوان، فهؤلاء أفضلُ وأخصُّ بصحبته مِمَّن أسلَم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أهلَ مكة، ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان ابن أبي طلحة وأمثالهم، وهؤلاء أسبق من الذين تأخَّر إسلامُهم إلى أن فُتحت مكة وسُمُّوا الطُّلَقاء مثل سُهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم، مع أنَّه قد يكون في هؤلاء مَن برز بعلمِه على بعض مَن تَقَدَّمه كثيراً، كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسُهيل بن عمرو، وعلى بعض مَن أسلم قبلهم مِمَّن أسلم قبل الفتح وقاتل، وكما برز عمر بنُ الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله.
والمقصود هنا أنَّه نَهْيٌ لِمَن صحِبَه آخراً أن يسبَّ مَن صحبه أوَّلاً؛ لامتيازهم عنهم في الصحبة بِما لا يمكن أن يشركهم فيه، حتى قال: لو أنفق أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه.
فإذا كان هذا حالُ الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا، وهم من أصحابه التابعين للسابقين، مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل، وهم(8/92)
ص -90- ... أصحابُه السابقون، فكيف يكون حالُ مَن ليس من أصحابه بحال مع أصحابه؟! ".
زعمه أنَّ معاويةَ رضي الله عنه ليسَ من الصحابة والرد عليه:
قال في معاوية رضي الله عنه في (ص:54 55): " الدليلُ الخامس والعشرون: أثر الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجلٍ من الطُّلَقاء يقصد معاوية ينازِع أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم في الخلافة؟
قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرَّ والفاجر، وقد ملك فرعونُ أهلَ مصر أربعمائة سنة.
أقول: الأثر فيه إخراجُ عائشة لمعاوية من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وفيه أيضاً أنَّ التابعين لَم يكونوا يرون الطُّلقاءَ من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، بل والصحابة أيضاً؛ كما نرى من اتِّفاق رأي عائشة مع رأي التابعي الجليل الأسود بن يزيد النخعي! ".
وقد علَّق على هذا الأثر بقوله في الحاشية: " الأثر رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد، وهذا الإسناد رجاله ثقات إلاَّ أيوب بن جابر مختلف فيه، وقد قوَّى أمرَه أحمدُ بن حنبل وعمرو بن عليّ الفلاَّس وابن عدي والذهبي والبخاري، وضعَّفه ابن معين والنسائي وابن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة ويعقوب بن سفيان، وتوسَّط فيه الذهبي: مشهور صالح الحديث، ضعَّفه بعضُهم.
أقول: فالإسناد جيِّد في الجملة إن شاء الله ".(8/93)
ص -91- ... وقال في معاوية رضي الله عنه وغيره في (ص:50 51): " الدليل التاسع عشر: قولُ عائشة: "أُمروا بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبُّوهم" (مسلم 4/231).
كانت تلمِّح لِمَا يفعله أهلُ الشام من لعن علي وبعض أهل العراق في لعن عثمان.
أقول: وهذا يُفهم منه أنَّ هؤلاء ليسوا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ومثله قول ابن عمر: "لا تسبُّوا أصحاب محمد؛ فلَمقَامُ أحدهم ساعة خيرٌ من عمل أحدكم عمره " (فضائل الصحابة لأحمد 1/57، 2/97).
فهذا القول وقول عائشة وأقوال لسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وغيرهم، إنَّما انتشرت لمَّا انتشر بين الناس سبُّ عليٍّ وعثمان، فهما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يسبُّهما بعضُ من رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أو له صحبة حسب فَهْمنا للصحبة، فلمَّا طال علينا الأمرُ وانقطع سبُّ علي وعثمان وطلحة والزبير وأمثالهم، وبقي سبُّ معاوية وعمرو وأمثالهما أخذنا هذه النصوص والآثار لنواجه بها الشاتِمين الجُدد، لكن المشتومين من الطُّلَقاء ليسوا مثل المشتومين من السابقين، بل إنَّ الطُّلَقاء ليسوا من الصحابة أصلاً، لكنهم دخلوا الصحبة بسبب الدفاعات التي تستلهم معها مثل هذه الآثار "تتبَّع هذا؛ فإنَّه مُهمٌّ ولن تجده بسهولة"!! ".
ثمَّ علَّق في الحاشية على هذا الكلام بقوله: " خاطب بالآثار السابقة ابنُ عمر الذين "كذا" مَن يلعن عثمان، وخاطب به سعيدُ بن زيد المغيرةَ ابنَ شعبة، وخاطبت عائشة مَن يسبُّ السابقين، وخاطب سعدُ بنُ أبي وقَّاص مَن يسبُّ عليًّا، وهكذا، بل قد كان ابن عباس يلعن معاوية بسبب قطعه التلبية يوم عرفة (المسند 3/264 تحقيق أحمد شاكر)، فابن عباس قد(8/94)
ص -92- ... روى بعضَ النصوص في تحريم سبِّ الصحابة، ومع ذلك يرى جواز لعن معاوية، ويفعله لسببين: لأنَّه يعرف أنَّ معاوية ليس صحابيًّا، ولأنَّه رأى تغييراً لسُنَّة النَّبِيِّ "ص" "كذا"، وغيَّرها أهلُ الشام بُغضاً لعليٍّ لأنَّه كان يُلبِّي يوم عرفة اقتداءً بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يلعَن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار، كعليٍّ وعمَّار وقيس بن سعد بن عبادة وغيرهم، وقد ذهب إلى جواز لعنه من العلماء المتأخِّرين محمد بن عقيل "وهو عالم سُنِّي" في كتابه النصائح الكافية!! ".
وقال في (ص:55): " الدليل السادس والعشرون: قول معاوية لكعب لَمَّا بشَّره بأنَّه سيكون بعد عثمان: تقول هذا وها هنا علي والزبير وأصحاب محمد؟ قال: أنت صاحبها، يعنِي صاحب الخلافة.
أول: لَم أجد نصًّا عن معاوية يَدَّعي أنَّه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الأثر دليل على أنَّه لَم يكن يرى نفسَه منهم، وإن كان قد ثبت عنه أنَّه يقول: "قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيقصدُ الصُّحبةَ العامة لا الشرعية، فإن قصد الشرعيَّة فقوله مردودٌ بالكتاب والسُّنَّة.
وهناك أدلَّة أخرى سأستوفيها في النسخة النهائية لهذا المبحث الذي أطمع أن يخرج كتاباً إن شاء الله ".
وعلَّق على الأثر بقوله: " السنة للخلال (ص:281، 457)، وإسناد "كذا" صحيح، وقد صحَّح إسناده المحقق، ورواه ابن عساكر بالإسناد نفسه في تاريخه (59/123) ".
ويُجاب عن هذا من وجوه:
الأول: أنَّ هذا الأثر عن عائشة رضي الله عنها غيرُ ثابت؛ لأنَّ الذين(8/95)
ص -93- ... ضعَّفوا أيوب بن جابر كثيرون، والذين لَم يُضعِّفوه كلامهم فيه ليس واضحاً في تقوية أمره، بل مقتضاه أنَّه يحتاج إلى مَن يعضده، وقد قال عنه الذهبي في الكاشف: " ضعيف "، وقال عنه الحافظ في التقريب: " ضعيف ".
وإسناده عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/145) هكذا: أخبرنا أبو القاسم الحُسين بن الحسن بن محمد، أنا أبو القاسم بن أبي العلاء، أنا عبد الرحمن بن محمد بن ياسر، أنا علي بن يعقوب بن أبي العَقَب، حدَّثني القاسم بن موسى بن الحسن، نا عبدة الصفار، نا أبو داود، نا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة ... إلخ.
وفي إسناد ابن عساكر هذا القاسم بن موسى بن الحسن المشهور بالأشيب، ذكره الخطيب في تاريخ بغداد (12/435)، ولم يزِد على ذِكر اثنين من تلاميذه، واثنين من شيوخه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول الحال، وفيه أيضاً عبد الرحمن بن محمد بن ياسر، ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/415)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وفي ترجمته عنده أنَّه حسن الرأي في معاوية رضي الله عنه.
الثاني: أنَّ ما فهِمَه من قول الأسود بن يزيد لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطُّلَقاء ينازع أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم في الخلافة؟ وإجابتها على ذلك، من أنَّ الطُّلَقاء ومنهم معاوية ليسوا من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هو فَهْمٌ خاطئ، وسبق أن أَوْضحتُ ذلك فيما تقدَّم من زعمه أنَّ العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة، وبهذا الجواب يُجابُ أيضاً عمَّا فهمه من قول عائشة رضي الله عنها: " أُمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبُّوهم ".(8/96)
ص -94- ... الثالث: أمَّا ما ذَكَره عن ابن عباس من أنَّه يرى جواز لعن معاوية، وأنَّ من أسباب ذلك أنَّه يعتبره غير صحابي، فجوابه أن يُقال:
1 إنَّ ابنَ عباس رضي الله عنه أيضاً قال فيه المالكي إنَّه ليس بصحابي كما قال في أبيه العباس، وقد مرَّ بيان ذلك.
2 إنَّ ابنَ عباس رضي الله عنه أثنى على معاوية رضي الله عنه ووصفه بأنَّه فقيه، وأنَّه صَحِبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ففي صحيح البخاري (3764) بإسناده إلى ابن أبي مُليكة قال: " أوتر معاويةُ بعد العشاء بركعة وعنده مولًى لابن عباس، فأتى ابنَ عباس، فقال: دَعْه؛ فإنَّه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وفي صحيح البخاري أيضاً (3765) بإسناده إلى ابن أبي مليكة أنَّه قال: " قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؛ فإنَّه ما أوتر إلاَّ بواحدة؟ قال: إنَّه فقيه ".
3 إنَّ ابنَ عباس لَم يلعن معاوية رضي الله عنه، ولَم يرَ جوازَ لعنِه، بل الذي حصل منه الثناء عليه ومدحه، وأمَّا الأثر الذي استند عليه في ذلك وعزاه إلى المسند بتحقيق أحمد شاكر، فهو في المسند هكذا، قال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثنا أيوب، قال: لا أدري أَسمعتُه من سعيد بن جُبير أم نُبِّئتُه عنه، قال: " أتيتُ على ابنِ عباس بعرفة وهو يأكل رُمَّاناً، فقال: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وبعثتْ إليه أمُّ الفضل بلَبَنٍ فشرِبَه، وقال: لعن الله فلاناً؛ عمَدوا إلى أعظم أيَّام الحجِّ فَمَحَوْا زينَتَه، وإنَّما زينة الحجِّ التلبية ".
وقد ضعَّفه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فقال: " إسناده ضعيف؛(8/97)
ص -95- ... لشكِّ أيوب في سماعه من سعيد بن جُبير "، وقد اطَّلع على هذا التضعيف المالكي.
وقد عاش ابن عباس بعد معاوية ثمان سنين، فلو صحَّ الأثر احتمل أن يكون الذي عناه ابنُ عباس غيرَ معاوية رضي الله عنه؛ لأنَّ اللَّعنَ فيه بالإبهام وليس بالتعيين.
وما جاء في الأثر من كون النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُفطراً بعرفة وشربه اللَّبن الذي بعثت به أمُّ الفضل فهو ثابت.
4 أمَّا قول المالكي: " وقد كان يلعن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار، كعلي وعمار وقيس بن سعد بن عبادة وغيرهم "، فلَم يذكر مستندَه في ذلك، وإن كان له مستندٌ فالغالب أنَّه من جنس مستندِه فيما أضافه إلى ابن عباس، وقد بيَّنتُ فسادَه.
5 وأمَّا قوله: وقد ذهب إلى جواز لعنه من العلماء المتأخِّرين محمد بن عقيل وهو عالم سُنِّي! في كتابه النصائح الكافية!! "، فأقول: إنَّ ابنَ عقيل الذي ذكره هو الحضرمي المتوفى سنة (1350ه )، وهو ليس من أهل السُّنَّة، بل هو من المبتدِعة، وقد ذكر صاحب معجم المؤلفين (10/297) في مصادر ترجمته كتاب أعيان الشيعة للعاملي، والضرر الذي حصل للمالكي إنَّما حصل له بقراءة كُتب هذا الرَّجل وأمثاله من أهل البدع والضلال، وكتابه الذي أشار إليه اسمه " النصائح الكافية لِمَن يتولَّى معاوية " ومقتضى عنوان هذا الكتاب ومضمونه زعم النُّصح لِمَن يحبُّ معاوية ألاَّ يحبَّه، بل عليه أن يُبغضَه، وهذا النُّصحُ هو من جنس نصح إبليس لآدم وحواء عليهما السلام الذي ذكره الله عنه بقوله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنَّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، ومن جنس نصح إخوة يوسف ليوسف صلى الله عليه وسلم الذي(8/98)
ص -96- ... ذكره الله عنهم بقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}، وقد أشار إلى ما أودعه في نصائحه الكافية وغيره من كتبه من ذمِّ بعضِ الصحابة والنَّيلِ منهم في مطلع كتابه " العتب الجميل " (ص:31)، فقال: " لَم أتعرَّض في كتابي هذا لذكر تحامل بعضهم على عالي مقام مولانا أمير المؤمنين علي والحسنين وأمهما البَتول عليهم سلام الله، ولا لرَدِّ ما مدحوا به زوراً عدوَّهم معاوية وأباه كهف المنافقين وأمه آكلة الأكباد وعمرا بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب وأبا الأعور السلمي والوليد بن عقبة وأضرابهم، مِمَّن لو مُزجت مياه البحار بذرَّة من كبائر فظائعهم لأنتنت، وذلك لظهور فساده للعاقل المنصف، ولأنِّي قد ذكرتُ شيئاً من ذلك في كتاب "النصائح الكافية"، ثمَّ في كتاب "تقوية الإيمان" ... ".
فهذا نموذج من كلام هذا الناصح بزعمه، الذي ابتُلي المالكي بقبول نُصحه، وفي الصحابة الذين سمَّاهم المغيرة بن شعبة، وهو من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وأخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم لا يدخلون النار، كما سيأتي بيان ذلك عند ذكر المالكي المغيرة بن شعبة والنَّيل منه.
6 في النسخة التي اطَّلعتُ عليها من كتاب المالكي قد شُطب بالقلم على جملة: " وقد كان يلعن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار " إلى " وهو عالم سُنِّي في كتابه النصائح الكافية "، ولا أدري هل هذا الشطب مقصود أو غير مقصود؟ وهل هو من المالكي أو من غيره؟
فإن كان الشَّطب مقصوداً وهو من المالكي فهو حسن، وكان ينبغي له أن يشطب على الكتاب من أوَّله إلى آخره؛ لأنَّ كلَّ ما فيه باطلٌ، وليس فيه شيءٌ من الحقِّ، وهو حقيق بالإحراق.(8/99)
ص -97- ... وقد نقل ابن عقيل الحضرمي قدوة المالكي في كتابه العتب الجميل (ص:60) أبياتاً عن أحد شيوخه، آخرها قوله:
قُلامة من ظفر إبهامه تعدل من مثل البخاري مئة
والضمير فيه يرجع إلى الإمام جعفر الصادق رحمه الله، وهو واضحٌ في الغلوِّ فيه، وفي الجفاء في الإمام البخاري رحمه الله، ولقد أحسن أبو سليمان الخطابي في قوله:
ولا تغْلُ في شيء من الأمر واقتصِد كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
وهذا الذي حصل لابن عقيل من الغلوِّ والجفاء قد ورثَه عن شيخه وأمثاله، وورثه المالكي عنهما وعن أمثالهما، وهو يُوَضِّح أنَّ البلاءَ الذي يحصل للتلاميذ غالباً إنَّما هو من شيوخهم، فابن عقيل ابتلي بمتابعة شيخه وأمثاله في الجفاء والغلوِّ، والمالكي تتلمذ على كتب ابن عقيل وأمثالها، وقد يكون تتلمذ مباشرة على علماء من أهل الضلال، فمِن أجل ذلك كان في كلامه ورأيه منحرفاً عن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة الصافية النَّقيَّة إلى عقائد أهل البدع والضلال، نعوذ بالله من الخذلان.
الرابع: ما ذكره من أنَّه لَم يجد نصًّا عن معاوية يَدَّعي أنَّه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نقضه بعده بقوله بأنَّه قد ثبت أنَّه يقول: " قد صحِبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وقول معاوية ذلك جاء في صحيح البخاري (3766) بإسناده إليه قال: " إنَّكم لتُصلُّون صلاةً لقد صَحِبنا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فما رأيناه يُصلِّيها، ولقد نهى عنهما، يعني الركعتين بعد العصر ".
وقول المالكي: " وإن كان قد ثبت عنه أنَّه يقول: "قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيقصدُ الصُّحبة العامة لا الشرعيَّة، فإن قصد الشرعيَّةَ فقوله مردود(8/100)
ص -98- ... بالكتاب والسنَّة "، وهذا مِمَّا يَعجبُ منه العُقلاء؛ لأنَّ نفيَ الصُّحبةِ عن كلِّ مَن كان بعد الحُديبية ومنهم معاوية رضي الله عنه، بل والعباس وابنه عبد الله وأبو هريرة وخالد بن الوليد وأبو موسى الأشعري وغيرهم رضي الله عنهم شذوذٌ عن سبيل المؤمنين لَم يسبقه إليه أحد، وما ذكره من أنَّ معاويةَ "إن قصد الصُّحبة الشرعيَّةَ فقوله مردود بالكتاب والسنَّة"، أقول: ليس في الكتاب والسنَّة دليل على نفي الصُّحبة عن معاوية، وما أورده من أدلَّة ففهمُه فيها فهمٌ خاطئ، وهو من مُحدثات القرن الخامس عشر، وقد بيَّنتُ ذلك فيما سبق.
وأمَّا الأثر، ففي إسناده عنعنة الأعمش عن أبي صالح، وهومدلِّس، وكلام كعب فيه منكر، وما جاء فيه من ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ثبت لا يدلُّ على خروج معاوية منهم كما زعم بقوله: " وهذا الأثر دليل على أنَّه لَم يكن يرى نفسَه منهم ".
تنبيه: روى الخطيب في تاريخ بغداد (1/209) بإسناده إلى رباح بن الجراح الموصلي قال: " سمعتُ رجلاً يسأل المعافى بن عمران، فقال: يا أبا مسعود أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟ فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: لا يُقاس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ، معاوية صاحبه وصِهرُه وكاتبه وأمينه على وحي الله عزَّ وجلَّ ".
وروى (1/209) بإسناده إلى أبي توبة الربيع بن نافع قال: " معاوية ابن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا كَشف الرَّجلُ السِّتْرَ اجترأ على ما وراءه ".
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/209) بإسناده إلى عبد الله ابن المبارك أنَّه قال: " معاوية عندنا مِحنة، فمَن رأيناه ينظر إليه شزَراً(8/101)
ص -99- ... اتَّهمناه على القوم، يعني الصحابة ".
هذه ثلاثة نماذج من كلام أهل الإنصاف في معاوية رضي الله عنه، وقد ذكرتُ جملةً من كلام المنصفين فيما كتبته عن معاوية رضي الله عنه، وطُبع بعنوان: " من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفة معاوية رضي الله عنه ".
وصدق أبو توبة وابن المبارك رحمهما الله؛ فإنَّ المالكيَّ لَمَّا تَجرَّأ على معاوية ونال منه ونفى عنه الصُّحبة، تجرَّأ على غيرِه وقال بنفي الصُّحبة عن كلِّ الذين صحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صُلح الحُديبية، بل تعدَّى ذلك إلى النَّيل من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والتشكيك فيها، ولا شكَّ أنَّ الزَّيغَ ينتج عنه إزاغة القلوب لقول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ}، وإنَّ من العقوبة على السيِّئة أن يُبتلَى المسيئُ بسيِّئة بعدها، كما أنَّ من الثواب على الحسنة أن يُوفَّق المُحسنُ لحسنةٍ بعدها.
وأحاديث معاوية رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما، قال الخزرجي في الخلاصة: " له أي في الكتب الستة مئة وثلاثون حديثاً، اتَّفقا على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة "، وقد بلغت أحاديثه في مسند الإمام أحمد أحد عشر حديثاً ومئة حديث من رقم (16828) إلى (16938).
زعمه أنَّ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة والرد عليه:
قال في حاشية (ص:78): " سيتبع هذا البحث بحوثاً "كذا" موسَّعة عن بعض مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، لكن أُخِذَت عليه مآخذ كبيرة أو صغيرة ".
فذكر أمثلة من هؤلاء، ثمَّ قال: " وسيكون هناك أيضاً مباحث عن(8/102)
ص -100- ... المختلف فيهم كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة ونحوهم "، وقد جاء ذكر عمرو بن العاص وأنَّه ليس من الصحابة في كلام المالكي المتقدِّم في خالد بن الوليد، وجاء ذمُّه وذمُّ المغيرة بن شعبة في كلامه المتقدِّم في معاوية.
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
أولاً: لا أعلمُ أنَّ أحداً قال بعدم صُحبة هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خالف في أنَّهم صحابة إلاَّ هذا المالكي الذي اعتبر أنَّ الصحابةَ هم الأنصار والمهاجرون قبل الحُديبية فقط، وكذا الحكمي الذي حكى عنه المالكي أنَّه يقصر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والمغيرة قبل الحُديبية، فلا أدري هل الحكمي يُخرجه من الصُّحبة كما أخرجه المالكي أم لا؟
وسبق أن ذكرتُ أنَّ هذا من مُحدثات القرن الخامس عشر، بل إنَّ بعضَ فِرَق الضلال التي ابتُليت ببغض الصحابة وسبِّهم وتفسيقهم أو تكفيرهم لَم يقولوا بعدم صُحبتِهم للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وإنَّما قالوا بارتدادهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً: تقدَّم نقلُ جملة من كلامه السيِّئ القبيح في أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه والجواب عنه.
ثالثاً: أمَّا عمرو بن العاص رضي الله عنه، فهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأميره على أحد الجيوش، ويدلُّ لفضله ما يلي:
1 روى البخاري في صحيحه (3662) بإسناده إلى عمرو بن العاص: " أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السَّلاسل، فأتيتُه فقلت: أيُّ(8/103)
ص -101- ... النَّاسِ أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، فقلتُ: مِن الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عمر بن الخطاب، فعدَّ رجالاً ".
أورده البخاري في مناقب أبي بكر رضي الله عنه، وأورده (358) في باب غزوة ذات السلاسل، ورواه مسلم في صحيحه (2384) وقد كان في الجيش أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال الحافظ ابن حجر في شرحه في باب غزوة ذات السلاسل: " وفي الحديث جوازُ تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفةٍ تتعلَّق بتلك الولاية، ومزيَّةُ أبي بكر على الرجال وبنتِه على النساء، وقد تقدَّمت الإشارةُ إلى ذلك في المناقب، ومنقبةٌ لعَمرو بن العاص لتأميره على جيشٍ فيهم أبو بكر وعمر، وإن كان لا يقتضي أفضليَّته عليهم، لكن يقتضي أنَّ له فضلاً في الجملة ".
أقول: أَفَيَكُونُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّر على هذا الجيش الذي فيه أبو بكر وعمر رجلاً ليس من أصحابه صلى الله عليه وسلم ، كما هو مقتضى كلام المالكي؟!
2 روى مسلم في صحيحه (192) بإسناده إلى عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: " حَضَرْنا عمرو بنَ العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُه يقول: يا أبتاه! أمَا بشَّرك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشَّرك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إنَّ أفضلَ ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، إنِّي كنتُ على أطباقٍ ثلاث، لقد رأيتُنِي وما أحدٌ أشدَّ بُغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منِّي، ولا أحب إلَيَّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه، فلو مِتُّ على تلك الحال لكنتُ من أهل النار، فلمَّا جعل الله الإسلامَ في قلبي، أتيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسُط يَمينَك فلأُبايِعكَ، فبسط يَمينَه، قال: فقبضتُ يدي، قال: ما لك يا عَمرو؟ قال: قلت: أردتُ أن أشترطَ، فقال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفرَ(8/104)
ص -102- ... لي، قال: أما علمتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تَهدِم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يَهدِمُ ما كان قبله؟
وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلَّ في عينِي منه، وما كنت أُطيقُ أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلتُ أن أَصِفَه ما أطقتُ؛ لأنَّي لَم أكن أملأُ عيني منه، ولو مِتُّ على تلك الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنَّة، ثمَّ وَلِينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مِتُّ فلا تصحبْنِي نائحةٌ ولا نار ... ".
والحديثُ مشتمِلٌ على جُمل دالَّة على فضل عَمرو بن العاص رضي الله عنه، وما جاء فيه من بُكائه ليس عيباً فيه؛ فشأنُ أولياء الله أنَّهم يخافون الله ويرجونه، وقد جاء عن بعض أهل العلم أنَّ الخوفَ والرَّجاء للمؤمن بمنزلة الجناحَين للطائر، لا يكون راجياً فقط ولا يكون خائفاً فقط، بل يكون راجياً خائفاً، ومن صفات أولياء الله في الكتاب العزيز ما ذكره الله عنهم بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتَوْنَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
وأحاديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما، وقد قال الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء (3/55): " داهيةُ قريش ورجل العالَم، ومَن يُضرب به المَثَل في الفِطْنَة والدَّهاء والحزم، هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً في أوائل سنة ثمان، مرافقاً لخالد بن الوليد وحاجب الكعبة عثمان بن طلحة، ففرح النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بقدومِهم وإسلامِهم، وأمَّر عَمراً على بعض الجيش، وجهَّزه للغزو، له أحاديث ليست كثيرة، تبلغ بالمكرَّر نحو الأربعين، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثَين ".(8/105)
ص -103- ... رابعاً: أمَّا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومِمَّن بايَع تحت الشجرة، ويدلُّ لفضله ما يلي:
1 أنَّه من الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.
وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل النارَ إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها " أخرجه مسلم في صحيحه (2496) من حديث أمِّ مُبشِّر رضي الله عنها، ويبيِّن كونه من أهل بيعة الرِّضوان حديث المِسوَر بن مخرمة ومروان بن الحكم في صحيح البخاري (2731، 2732) في صلح الحُديبية: " وجعل "أي عروة بن مسعود الثقفي" يُكلِّم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فكلَّما تكلَّم كلمةً أخذ بلِحيتِه، والمغيرة بن شعبة قائمٌ على رأس النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ومعه السَّيف وعليه المِغفر، فكلَّما أهوى عُروة بيده إلى لِحية النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضرب يدَه بنعل السيف، وقال له: أخِّر يدَك عن لِحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
2 وفي صحيح البخاري (3159) عن جُبير بن حيَّة قال: " بعث عمرُ الناسَ في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين ... فنَدَبَنا عمر "أي لقتال الفرس"، واستعمل علينا النُّعمان بن مقرِّن، حتى إذا كنَّا بأرض العدوِّ وخرج علينا عاملُ كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: لِيُكلِّمنِي رجلٌ منكم، فقال المغيرةُ: سَلْ عمَّا شئتَ، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناسٌ من العرب، كنَّا في شقاء شديد وبلاء شديد، نَمُصُّ الجِلدَ والنَّوى من الجوع، ونلبسُ الوَبَر والشَّعر، ونعبدُ الشَّجر والحَجَرَ، فبينا نحن كذلك إذ بعث ربُّ السموات وربُّ الأرضين تعالى ذِكرُه وجلَّت عظمتُه إلينا نبيًّا من أنفسنا، نعرفُ أباه وأمَّه، فأمرنا نبيُّنا رسولُ ربِّنا صلى الله عليه وسلم أن نُقاتِلَكم حتى تعبدوا اللهَ وحده أو تؤتُوا الجِزيَةَ، وأخبرنا عن(8/106)
رسالة ربِّنا أنَّه مَن قُتل منَّا(8/107)
ص -104- ... صار إلى الجنَّة في نعيم لَم ير مثلَها قطُّ، ومَن بقي مِنَّا مَلَكَ رِقابَكم ".
أقول: الله اكبر! ما أحسن هذا الكلام، وما أعظمَه، وما أجزلَه! وهو صادرٌ عن قوَّة إيمان، وبهذه القوَّة انتصر الصحابةُ رضي الله عنهم ومَن سار على نهجِهم، وحصلت العِزَّةُ للإسلام والمسلمين، وهذا الكلام بمنطق القوَّة والشجاعة، ومع الأسف نجد في هذا الزمان كثيراً من الإسلاميِّين يتكلَّمون بمنطق الضَّعف والذِّلَّة، فيقولون: إنَّ الجهادَ إنَّما شُرع في الإسلام للدِّفاع فقط، والله المستعان، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " بُعثتُ بين يدي الساعة بالسَّيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رِزقي تحت ظِلِّ رُمْحِي، وجُعل الذُّلُّ والصَّغارُ على مَن خالف أمري، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم " أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/50، 92) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو حديث ثابت، رجاله مُحتجٌّ بهم، وقد شرحه الحافظ ابن رجب في جزء لطيف مطبوع بعنوان: " الحِكَم الجديرة بالإشاعة في شرح حديث بُعثت بين يدي الساعة ".
3 وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أميراً على الكوفة، وتوفي سنة (50ه )، وقد روى البخاري في صحيحه (58) بإسناده إلى زياد بن عِلاَقَة قال: " سمعتُ جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمِد الله وأثنى عليه، وقال: عليكم باتِّقاء الله وحده لا شريك له، والوَقار والسَّكينة، حتى يأتيكم أمير، فإنَّما يأتيكم الآن، ثمَّ قال: استعفوا لأميرِكم؛ فإنَّه كان يُحبُّ العفوَ، ثمَّ قال: أمَّا بعد، فإنِّي أتيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قلتُ: أُبايِعُك على الإسلام، فشرط عليَّ: والنُّصح لكلِّ مسلم، فبايعتُه على هذا، وربِّ هذا المسجد! إنِّي لناصحٌ لكم، ثمَّ استغفَرَ ونزل ".
وهذا الكلام من جرير رضي الله عنه لأهل الكوفة فيه وَصْفُ المغيرة(8/108)
ص -105- ... رضي الله عنه بالأمير وثناؤه عليه، وبيان أنَّ مقالتَه هذه هي من النُّصح للمسلمين، الذي بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذه بعضُ فضائل المغيرة بن شعبة، وأهمُّها كونه مِمَّن بايَع تحت الشجرة، ومع هذا لا يُسلِّم المالكيُّ بأنَّ المغيرة رضي الله عنه ظفر بشرف صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أنَّ رأيَه المبتَكر في القرن الخامس عشر هو قَصْر الصُّحبة المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل صلح الحُديبية، والمغيرة من هؤلاء، لكن مصيبة المغيرة عند المالكي كونه أميراً لمعاوية رضي الله عنه، فلذلك لَم تشفع له عنده هذه الفضائل، وقد وعد بكتابة بحوث موَسَّعة عنه وعن أمثاله، أي من وِجهته المنحرفة عن الصحابة، وهو وعْدٌ بباطل يجبُ إخلافُه.
وأحاديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرِهما، قال الخزرجي في الخلاصة: " شهد الحُديبية، وأسلم زمن الخندق، له أي في الكتب الستة مئة وستة وثلاثون حديثاً، اتَّفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين.
زعمه أنَّ صُحبةَ الكثيرين من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لغوية لا شرعية والرد عليه:
قال في (ص:56): " قد يورد البعضُ على ما سبق بعضَ الاعتراضات، وهذا من حقِّ كلِّ مَن قرأ البحثَ أو سمع به، كما أنَّه من حقِّنا أن نبيِّن رأينا في هذه الاعتراضات، سواء كانت بحقٍّ أم بغيره، ومن تلك الاعتراضات:(8/109)
ص -106- ... 1 قد يقول البعض: ما دام أنَّ اللغة واسعةٌ ويجوز فيها أن تطلق الصحابي أو الصاحب على من صحب ولو صحبة يسيرة، فلماذا التضييق في الأمر؟
الجواب: نحن للأسف تجاوزنا مسألة اللغة نفسها، فأصبحنا نطلق الصاحب على من رأى وليس على من صحب، فهذا أوَّلاً.
ثانياً: سبق أن كرَّرنا أننا لا نُمانع من إطلاق الصحبة إذا أريد بها مطلق الصحبة، لكن هذا الإطلاق جائز في الكفَّار والمنافقين أيضاً، بمعنى أنَّ المنافقين يدخلون في الصحبة من حيث اللغة كما أنَّ الكفَّار يدخلون كذلك، فاللغة تحتمل ذلك، ولذلك نحن ذكرنا أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة فقط هي التي تقول: إنَّه لا يجوز أن تطلق على المسلمين بعد فتح مكة حتى ولو رأوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وصَحبوه؛ لأنَّهم وإن كانوا صحابة لغة، وقد يكون بعضُهم صحابةً من حيث العُرف، لكنَّهم ليسوا صحابةً من الناحية الشرعية ".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
أوَّلاً: أنَّ اعتبارَ الصُّحبة اليسيرة للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، بل ومجرَّد الرؤية للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كافٍ لعَدِّ مَن حصل له ذلك صحابيًّا، وسبق ذِكرُ الأدلَّة الدَّالة على اعتبار مَن لقيه صلى الله عليه وسلم صحابيًّا في أوَّل هذا الردِّ، منها الدليل السادس والثامن والرابع عشر التي فيها النص على اعتبار مَن رآه صلى الله عليه وسلم صحابيًّا.
ثانياً: ما ذكره مِن أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة لا يجوز أن تُطلَق على المسلمين بعد فتح مكة حتى ولو رأوا النَّبِيَّ وصحبوه ... إلخ، أقول: لَم يقتصِر على نفي الصُّحبة الشرعية المحمود أهلها على مَن أسلم بعد فتح مكة، بل تعدَّى ذلك إلى نفي الصُّحبة الشرعية عن الذين أسلموا بعد الحديبية وهاجروا إليه(8/110)
ص -107- ... وصحِبوه صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر ذلك في تعريف الصحابيِّ الذي ذكره في أوَّل رسالته، وذكر ذلك أيضاً في آخرها، وأثنائها، وسبقت الإجابةُ عن ذلك فيما مضى مراراً.
ثالثاً: ما ذكره من أنَّ مَن أُضيفت إليه الصُحبة وليست صحبتُه شرعية، أنَّ صحبتَه شبيهةٌ بصُحبة الكفار المنافقين، أقول: سبق أن بيَّنتُ في أوَّل هذا الرَّدِّ أنَّ صُحبةَ هؤلاء للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كانت مع الإيمان به وتصديقه واتِّباعه صلى الله عليه وسلم ، وهذا خلاف صحبة المنافقين والكفار، وبناءً على هذا أقول: أَيَجوز في عقل ودين أن تكون تلك الألوف الكثيرةُ مِمَّن أسلم وصحِب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم أن تكون صُحبتُهم كصحبةِ الكفار والمنافقين، وفيهم العباس عم النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وابنه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية، بل والمغيرة بن شعبة وهو من أهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم جميعاً؟! وسبق للمالكيِّ أن نفى صُحبتَهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، ونقلتُ كلامَه في ذلك ورددتُ عليه فيما مضى.
رابعاً: قوله في أول كلامه: " كما أنَّه من حقِّنا أن نبيِّن رأينا في هذه الاعتراضات، سواء كانت بحقِّ أم بغيره "، أقول: إذا كانت الاعتراضات بحقٍّ، فإنَّ الإجابةَ عليها بغير الرجوع والتسليم من المجادلة بالباطل.
فهمه الخاطئ للصُّحبة الشرعيَّة والرد عليه:
وقال في (ص:57 59): " 2 وماذا تعنِي بالصُّحبة الشرعية؟ وهل سبقك أحدٌ إلى هذا المُسمَّى؟
الجواب: الصُّحبة الشرعية هي تلك الصُّحبة التي أثنى عليها الله ورسولُه(8/111)
ص -108- ... صلى الله عليه وسلم جزماً، ونزلت الآيات في وصفِها، وكانت أيَّام الضَّعف والذِّلَّة، أيَّام حاجة الإسلام والنَّبِيّ إلى النُّصرة، تلك الصُّحبة التي إن ورد الثناء على الأصحاب أو الأمر بعدم سبِّهم أو الأمر باقتداء بهم فلا تنصرف هذه المعاني إلاَّ للصُّحبة الشرعية، وهذا لا يعنِي عدم الثناء على الصالحين في أيِّ زمن، وإنَّما يعني احترام خصوصية السابقين الذين فضَّلهم الله ورسولُه وهم المهاجرون والأنصار.
أمَّا هل سبقنِي أحدٌ إلى هذه التسمية، فهذا سؤال له جوابان: عام وخاص:
أمَّا العام: فهناك كثيرٌ من المصطلحات أعطاها الشرعُ دلالةً خاصَّة غير دلالتها الأولى، وعلى سبيل المثال مصطلحات الزكاة والصلاة والحج، فمعانيها من حيث اللغة الطهارة أو التطهُّر والدعاء والقصد ... لكن الإسلام بنصوص الكتاب والسنة قد أعطى هذه المعاني دلالات أخرى مع عدم نفي الدلالات السابقة، فالحجُّ قصدٌ لكن إلى بيت الله الحرام لأداء شعائر معيَّنة، والزكاة تُطهِّر مالَ المزكى وتطَهِّر المزَكِّي من الإثم، ونحو هذا.
بمعنى أنَّ الشرعَ يضيف تقييدات على المصطلحات العامة ليُصبح لها مدلولاً شرعيًّا مقيَّداً "كذا" بعد أن كان المدلول مشتركاً لفظيًّا أو يكثر فيه المجازات اللغوية، فكذلك الصُّحبة، إذا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "لا تسبُّوا أصحابي ..." عرفنا أنَّ كلمة "أصحابي" في هذا الحديث لا تعنِي إلاَّ السابقين من المهاجرين أو الأنصار؛ بدلالة أنَّ المخاطب صحابي تأخر إسلامه إلى بعد الحديبية، وهو يدخل في الخطاب بطريق الأولى، وكذلك إذا وجدنا آيةً تُثني على "الذين معه" أي الذين مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا(8/112)
ص -109- ... تنصرف إلاَّ إلى الصُّحبة الشرعية؛ بدلالة الآيات الأخرى التي تقتصر على "المهاجرين والأنصار"، وهذا يعنِي أنَّ كلمة "الذين معه" كلمة مُجملة مفسرة ب "المهاجرين والأنصار"، والقرآن مفسِّرٌ بعضه بعضاً.
وأمَّا الجواب الخاص: نعم! قد سبقنِي بعضُ الباحثين لإطلاق هذا، ومع ذلك فلا أطلب من أحدٍ أن يلتزم بهذا الإطلاق "الصُّحبة الشرعية"، لكن عليه إن أثنى على الصحابة ألاَّ ينزل هذا الثناء إلاَّ على مَن أنزله الله ورسوله عليه من المهاجرين والأنصار فقط، أمَّا أن يأتي وينزل الآيات والأحاديث في فضل بيعة الرضوان على الطلقاء أو مَن بعدهم فهذا خلاف المنهج العلمي.
وقد سبقنِي لكن بألفاظ مقاربة بعضُ العلماء، منهم إبراهيم النخعي وابن عبد البر، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن الحكمي، فهو يرى أنَّ مَن أسلم بعد بيعة الرضوان لا يدخل في مسمى الصحابة، وعنده بحث في الموضوع عندي نسخة منه.
ثمَّ أقول: مَن سبقكم إلى اعتبار الآيات الكريمة التي وردت في حقِّ المهاجرين والأنصار، من سبقكم إلى اعتبارها نازلة فيمَن بعدهم؟!
ثمَّ لا يُشترط أن يسبق في الموضوع أحدٌ ما دام للموضوع أدلَّته وبراهينه، فينطلق النَّقد على تلك البراهين والأدلة، ولا ينطلق على غير ذلك، وكلمة "مَن سبقك" ليس دليلاً؛ فقد أطلق المتأخرون ألفاظاً أو مصطلحات لَم تكن موجودة فيهم قبلهم، مثل التفسير والتجويد والمصطلح نفسه وأصول الفقه والخاص والعام والمطلق والمقيد ونحو ذلك من الألفاظ التي لَم تكن موجودة في عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولا القرن الأول ".(8/113)
ص -110- ... ويُجاب عن إجابته عن هذا الاعتراض الذي أورده على نفسه بما يلي:
أولاً: ما أشار إليه من الأدِلَّة الدَّالَّةِ على الثناءِ على المهاجرين والأنصار، فذلك حقٌّ وهم أهل ذلك الفضل، لكن ذلك لا ينفي أن يكون غيرُهم من أهل الفضل.
ثانياً: ما أشار إليه من أدلَّة عامَّة فيها الثناء على الذين كانوا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأنَّها محمولةٌ على المهاجرين والأنصار فقط غير صحيح؛ بل هي تشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم مِمَّن جاء بعدهم، والمهاجرون والأنصار داخلون فيها دخولاً أوَّليًّا، ولا يجوز للمالكيِّ أن يَحقِدَ على أحدٍ من الصحابةِ، ولا أن يَحملَه الحِقدُ على كثير من الصحابة كالطُّلقاء أن يَجعلَ ما ورد عامًّا لجميع الصحابة خاصًّا بالمهاجرين والأنصار.
ثالثاً: ما ذكره من اللَّوم لِمَن ينزِّل الآيات والأحاديث في فضل بيعة الرِّضوان على الطلقاء أو من بعدهم، أقول: لا يُتصوَّر تنزيل قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} مثلاً على أحدٍ سواهم من الطلقاء وغيرهم، كما أنَّ الفضائلَ الخاصَّة بأهل بدر لا تُنزَّل على مَن سواهم، لكنَّه التهويل من هذا المالكي هداه الله.
رابعاً: ما أشار إليه من أنَّ كثيراً من المصطلحات أعطاها الشرعُ دلالةً خاصَّةً غير دلالتها الأولى، أقول: نعم! الأمر كذلك، لكن لا يجوز أن يُفهم فهمٌ خاطئ بقَصْر الصُّحبة المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية وإضافة ذلك إلى الشرع، كما فعل المالكي؛ فإنَّ الصُّحبةَ في اللغة عامَّةٌ تشملُ القليلَ والكثيرَ، وتشمل المؤمنين والمنافقين والكفار، ولكن صُحبة الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء الشرع بقصْرها على مَن آمن به واتَّبعه مِمَّن(8/114)
ص -111- ... لقيه وصحبه، وسبق أن مرَّ في الأدلة في أوَّل هذا الرَّدِّ ما يوضح ذلك.
خامساً: ما ذكره من أنَّ الصُّحبةَ حيث وردت تُقصَر على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، يُجاب عنه بأنَّ لفظَ الصُّحبة مثل لفظ الإيمان يشترك فيه كلُّ مؤمن ومسلم مع التفاوت الكبير بينهم فيه، وكذلك الصُّحبة يشترك فيها كلُّ صحابيٍّ طالت صُحبتُه أو قصُرت مع التفاوت الكبير بين الصحابة في الفضل، ونظير ذلك في المحسوسات البصر، فإنَّ أهلَه متفاوتون فيه، منهم مَن هو حادُّ البصر يرى الهلال، ويرى من مسافات بعيدة، ويرى الشيءَ الدَّقيق، ومنهم مَن دون ذلك، ومنهم مَن هو ضعيف النَّظر لا يرى إلاَّ الشيءَ القريب والشيء الكبير، ومنهم مَن يُبصرُ الخطَّ الدقيق، ومنهم من لا يُبصر إلاَّ بزجاجة، وهم مشتركون جميعاً في أنَّهم مُبصرون ليسوا من أهل العمى، وسبق أن مرَّ الكلامُ على حديث: " لا تسبُّوا أصحابي " عند ذكر المالكي خالد بن الوليد وأنَّه ليس من الصحابة بزعمه.
سادساً: هذا الرأي الفاسد للمالكي وهو قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية لَم يَجد له سلفاً فيه خلال ما مضى من قرون مع حِرصِه الشديد على وجود سلف، وقد أعلن إفلاسَه من وجود سلف بقوله هنا بأنَّه سبقه إلى ذلك شخصٌ من المعاصرين، وهو عبد الرحمن الحكمي، أمَّا ما ذكره عن النخعي وابن عبد البر فلَم يذكر كلامَهما حتى يُمكن النَّظر فيه من حيث الثبوت ومن حيث المعنى، وقوله: " وقد سبقنِي لكن بألفاظ مقاربة بعضُ العلماء، منهم إبراهيم النخعي وابن عبد البر "، أقول: تعبيره بقوله: " بألفاظ مقاربة " يدلُّ على عدم اطمئنانه إلى معنى ما عزاه إليهما.(8/115)
ص -112- ... سابعاً: قوله: " ثمَّ لا يُشترط أن يسبق في الموضوع أحدٌ ما دام للموضوع أدلَّته وبراهينه، فينطلق النَّقد على تلك البراهين والأدلة، ولا ينطلق على غير ذلك "، أقول: كان الأوْلَى بالمالكيِّ بدلاً من اللُّجوء إلى هذا الكلام عند إفلاسِه أن يتَّهم رأيَه ويقتدي ببعض أهل بيعة الرِّضوان الذين لَم يرتاحوا إلى بعض شروط الصُّلح وراجعوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكانوا فيما بعد يقولون: يا أيها الناس! اتَّهموا الرأي في الدِّين، والأدلَّة التي أشار إليها قد فهمها السَّلفُ فهماً صحيحاً، فلم يقصروها على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، والواجب الاعتماد على نصوص الكتاب والسنَّة وفقاً لفهم السلف، وكان الأليقُ بالمالكي أن يستحيي مِن ذِكر هذا الرأي الفاسد الذي لَم يسبقه إليه إلاَّ عبد الرحمن الحكمي.
ثامناً: أمَّا ما ذكره من حصول مصطلحات جديدة تعود بالنَّفع على العلم وأهله كعلم الأصول وعلم التجويد وعلم المصطلح وغير ذلك، فهذا شيءٌ محمود، وفيه تيسير العلم وتسهيل الوصول إليه، أمَّا ما ابتلي به المالكي من فهم خاطئ للنصوص وقصره الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية فلا علاقة له في تلك المصطلحات، وإنَّما هو من الإحداث في الدِّين والتنكُّب عن سبيل المؤمنين.
زعمه أنَّ الإجماعَ لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة بفِرَقِها المختلفة والرد عليه:
قال في (ص:59): " 3 قد يُقال: إنَّ تقييدَك للصحبة ب "المهاجرين والأنصار" خلاف الإجماع الذي استقرَّ عليه المحدثون من "اعتبار كل من لقي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام فهو صحابي(8/116)
ص -113- ... وقد أجاب عن هذا الاعتراض بنفي وجود الإجماع، وأورد تساؤلات على هذا الاعتراض، آخرها قوله في (ص:60 61): " هل ما استقرَّ عليه المحدِّثون يُعدُّ إجماعاً حتى لو خالف في ذلك الأصوليُّون؟! بل هل ما أجمع عليه أهلُ السنَّة يُعدُّ إجماعاً معتبراً أم لا بدَّ من إجماع كل أمَّة الإجابة؟! فهذا سؤال يحتاج لبحث منفصل.
كل هذه الأسئلة بحاجة إلى بتٍّ فيها، ولا يحتمل هذا البحث الإجابة عليها؛ لكون كاتب هذا البحث لَم يبحثها بحثاً يرضى عنه، ولا يريد أن يتكلَّم بما لا يعلم فيقع في المحظور الذي حذَّر منه، وأنا أدعو إخواني للبحث المنصف فقط، أو محاولة ذلك على الأقل، مع التواضع في الاعتراف بالقصور في العلم ".
وعلَّق على قوله: " فهذا سؤال يحتاج لبحث منفصل " بقوله: " لأنَّ أقوى دليل للذين يرون الإجماع هو الحديث المشهور: "لا تجتمع أمَّتي على ضلالة"، والحديث وإن كان فيه كلام من حيث الثبوت، لكن "الأمة" فيه لا تعني بعض الأمة، وإنَّما كل أمة الإجابة، كل المسلمين باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية، ومَن زعم بأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أراد من "أمتي" أنَّها تعني المحدثين أو أصحاب المذاهب الأربعة فقد جازف ...!! ".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
أوَّلاً: أنَّ تعريف الصحابي بأنَّه مَن رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أو صحبه ثبت بأدلَّة سبق أن أوردتُ جملة منها في أول هذا الرَّد، وذلك كافٍ لاعتبار هذا التعريف، سواء أحصل فيه الإجماع أم لَم يحصل.
ثانياً: أنَّ الإجماعَ منعقدٌ على بطلان الرأي الفاسد للمالكي، وهو(8/117)
ص -114- ... قصْره الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية؛ بدليل أنَّ المالكي لَم يجد له سلفاً في هذا الرأي إلاَّ مَن سَمَّاه: عبد الرحمن الحكمي.
ومِن الذين أخرجهم تعريفُ الصحابي عند المالكي: العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وخالد بن الوليد وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ومعاوية وغيرهم، وهم صحابة بإجماع العلماء على مختلف العصور، لَم يخالف في ذلك إلاَّ المالكي وقدوته الحكمي!
ثالثاً: إنَّ كلامَه واضحٌ في أنَّ الإجماع لايَتِمُّ إلاَّ باتِّفاق أهل السنَّة والجماعة وسائر فرق الضلال، ومقتضى ذلك نفي وجود الإجماع أصلاً؛ لأنَّه من المستحيل اتِّفاق أهل السنَّة وأصحاب البدع والأهواء على أمر عقدي، ولا شكَّ أنَّ الذين يُعتبر إجماعهم هم أهل السنَّة والجماعة دون غيرهم من أهل الأهواء، وقد بيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذكر افتراق الأمَّة وهم أمَّة الإجابة على ثلاث وسبعين فرقة " كلُّها في النار إلاَّ واحدة "، وهم من كان على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وأصحابُه، فبيَّن أنَّ هؤلاء هم النَّاجون، فيكون الإجماع المعتبَر هو إجماعهم، ومن العجب أن يزعم زاعمٌ أنَّه لا بدَّ في الإجماع من اتِّفاق الفرق الثلاث والسبعين باختلاف مذاهبها الفقهية والعقدية والسياسية!
ومقتضى ذلك أنَّه لا بدَّ من اتِّفاق من يقول: إنَّ القرآن مخلوقٌ، ومن يقول: إنَّ القرآن غير مخلوق، واتفاق من يُثبِت عذاب القبر ومن يُنكره، واتِّفاق مَن يُثبت معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء ومن يُنكره، واتِّفاق مَن لا يدعو إلاَّ الله ولا يستغيث إلاَّ به ومن يدعو أو يستغيث بالملائكة والجنِّ وأصحاب القبور، واتِّفاق مَن يعتقد أن الله يُرى في الدار الآخرة ومن يعتقد أنَّه لا يُرى أبداً!(8/118)
ص -115- ... ورؤية الله في الدار الآخرة اتَّفق عليها الصحابة ومَن تبعهم بإحسان على تتابع القرون، ودلَّت عليها آيات الكتاب العزيز والأحاديث المتواترة، وأنكرها الجهمية والمعتزلة والخوارج والرافضة والباطنية، فعلى قول المالكي لا بدَّ في الإجماع من موافقة هذه الفرق، وإلاَّ فإنَّها تبقى مسألة خلافية لا إجماع فيها!
ومن أراد الوقوف على تفصيل القول في مسألة رؤية الله في الدار الآخرة وذِكر الأدلة من الكتاب والسنة يُمكنه ذلك بالرجوع إلى كتب أهل السنة، ومن ذلك كتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " لابن القيم (ص:179 219).
رابعاً: ما ذكره المالكي من أنَّ هذه التساؤلات التي ذكرها تحتاج إلى بتٍّ فيها ولا يحتمل هذا البحث الإجابة عليها، أقول: لقد بادر بالإجابة كما هو واضح من كلامه الذي يرى فيه أنَّ الإجماع لا بدَّ فيه من اتَّفاق كلِّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية!
خامساً: قوله: " وأنا أدعو إخواني للبحث المنصف فقط، أو محاولة ذلك على الأقل، مع التواضع في الاعتراف بالقصور في العلم! "، أقول: ما أحوج المالكي إلى الإنصاف والتواضع ومعرفة قدر نفسه؛ ليَسْلَم من الشذوذ واتباع غير سبيل المؤمنين.
سادساً: ما ذكره من أنَّ الإجماع لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية، فيه احتفاؤه بأهل البدع والأهواء على اختلافها وتعدُّدها مع نيله من أهل السنَّة، ومن كلامه بالإشادة بأهل البدع والأهواء قوله في قراءته (ص:70): " ولذلك كان أكثر بل كل التيارات التي نَصِمها بالبدعة كالجهمية والقدرية والمعتزلة(8/119)
ص -116- ... والشيعة والزيدية وغيرهم، كل هؤلاء كانوا من الدعاة إلى تحكيم كتاب الله وتحقيق العدالة، وكانوا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر!! ".
وقال أيضاً (ص:75): " لكن المعتزلة مثل غيرهم مِن الفرق أصابوا في أشياء وأخطؤوا في أشياء، لكنهم في الجملة لا يستغنى عنهم ولا عن تراثهم وعلومهم، وهم مسلمون متديِّنون بدين الإسلام باطناً وظاهراً!!! ".
وقال أيضاً (ص:67): " وللقدرية نصوص شرعية يستشهدون بها مثلما للسنة والشيعة والمعتزلة نصوص شرعية يرون فيها الدليل الكافي على ما يذهبون إليه!!! ".
ومن ذلك قوله في (ص:69 70) من قراءته بأنَّ قتلَ الجعد بن درهم والجهم بن صفوان كان سياسياً ولَم يكن من أجل البدعة!!
وأيضاً تأسفه (ص:71) من قراءته على سنوات أضاعها في بُغض ولعن الجهمية والقدرية، وأنَّه لَم يتنبَّه لبراءتهما وظلمه لهما إلاَّ بعد بحثه في الموضوع في فترة متأخرة!
وقال في (ص:83) من قراءته: " وقد احتوت كتبُ العقائد ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمَّة!!! ".
مع هذا ومع وصفه أيضاً في قراءته (ص:80 81) للكتب المؤلفة في العقائد بأنَّها تمزِّق المسلمين، وذِكره أمثلة كثيرة للكتب التي عوَّل عليها الحنابلة في العقيدة وهي كثيرة، منها كتاب التوحيد لابن خزيمة والشريعة للآجري وأصول السنة للالكائي وكتب ابن تيمية وابن القيم، مع ذلك يقول في (ص:154) من قراءته: " أنا لا أرى معنى لمنع كتب الأشاعرة(8/120)
ص -117- ... والشيعة والإباضية وغيرهم من المسلمين من دخول المملكة في ضوء هذا التفجُّر المعرفي!!! ".
فقد جمع في ذلك بين التهوين من شأن كتب أهل السنة والإشادة بكتب غيرهم، فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!
وكتاباته مبنيَّةٌ على النَّيل من أهل السنة، بدءاً من الصحابة رضي الله عنهم حتى مَن كان في هذا العصر على طريقتهم في المملكة وغيرها، ومع ذلك يزعم أنَّه حنبليٌّ، وأنَّه نشأ في هذه البلاد وتعلَّم فيها، فيقول في (ص:149) من قراءته: " بل لا أعتبر نفسي إلاَّ حنبليًّا؛ بحكم النشأة والتعليم والبيت والتلقي والطريقة في الاستدلال ".
أقول: ما زعمه مِن اعتبار نفسه حنبليًّا وأنَّه على طريقتهم في الاستدلال غير صحيح؛ لأنَّ طريقةَ مَن زعم أنَّه منهم وليس منهم هي طريقة أهل السنة والجماعة، وأمَّا هو فطريقته طريقة أهل البدع.
وأما ما ذكره من النَّشأة والتعلم، ثمَّ انحرافه عمَّا تعلَّمه، وعقوقه لِمَن علَّمه، فإنَّه يصدق عليه قول الشاعر:
فوا عجباً مِمَّن ربَّيتُ طفلاً ... أُلَقِّمُه بأطراف البنان
أعلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يوم ... فلمَّا اشتدَّ ساعِدُه رمانِي
وكم علَّمتُه نظمَ القوافي ... فلمَّا قال قافيةً هَجَانِي
وقال في (ص:122) من قراءته: " وتتردَّد عندنا في العقائد ألفاظ كثيرة ومصطلحات فضفاضة لا نعرف معناها، أو على الأقل يختلف الناس في تحديدها من شخص لآخر، فنُطلقها بلا تحديد، مثل: "السلف الصالح أهل السنة أهل الأثر أهل الحديث الطائفة المنصورة البدعة الإجماع(8/121)
ص -118- ... الضلالة الأمة علماء الأمَّة الرافضة الجهمية الخوارج النواصب الشيعة الكتاب السنة ... إلخ"، وكذلك قول بعضهم: "عليك بما كان عليه الصحابة"، نصيحة مطاطة؛ فإن كان يعرف أنَّ الصحابةَ قد اختلفوا في أمور كثيرة عقدية وفقهية وسياسية، فأيُّهم نتبع؟!! ".
أقول: إنَّ الذي أرشد إلى اتِّباع ما كان عليه الصحابة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوله صلى الله عليه وسلم في بيان الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة: " هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي "، وفي لفظ: " هي الجماعة "، وبقوله في حديث العرباض بن سارية: " فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي " الحديث، والصحابةُ رضي الله عنهم لَم يختلفوا في العقيدة.
ومِثْل اختلاف عائشة وابن عباس رضي الله عنهما في رؤية النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة المعراج لا يُعدُّ خلافاً في العقيدة؛ لدلالة الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة وإجماع أهل السنة والجماعة على ثبوت رؤية الله في الدار الآخرة، وقد مرَّت الإشارة إلى ذلك قريباً.
ويَصف المالكيُّ كثيراً من علماء السنَّة بأنَّهم نواصب، فيقول في (ص:134) من قراءته بعد أن أشار إلى جملة منهم: " ثمَّ تتابع علماءُ الشام كابن تيمية وابن كثير وابن القيم على التوجس من فضائل علي وأهل بيته وتضعيف الأحاديث الصحيحة في فضلهم مع المبالغة في مدح غيرهم!!
وعلماء الشام مع فضلهم بشرٌ لا ينجون من تأثير البيئة الشامية التي كانت أقوى من محاولات الإنصاف، خاصَّة مع استئناس هؤلاء بالتراث الحنبلي الذي خلَّفه لهم ابن حامد وابن بطة والبربهاري وعبد الله بن أحمد والخلال وأبو بكر بن أبي داود!! ".(8/122)
ص -119- ... ومثل ذلك قوله في (ص:48): " ثمَّ جاء بعد هؤلاء آل تيمية بحرَّان ثمَّ دمشق، وابن كثير إلى حدٍّ كبير، والذهبي إلى حدٍّ ما، أما ابن تيمية فاشتهر عنه النَّصب، وكُتُبُه تشهد بذلك، ولذلك حاكَمه علماء عصره على جملة أمور، منها بغضُ علي!!
ولَم يُحاكموا غيرَه من الحنابلة مع أنَّ فيهم نصباً وَرثوه عن ابن بطة وابن حامد والبربهاري.
والتيار الشامي العثماني له أثر بالغ على الحياة العلمية عندنا في الخليج، وهذا من أسرار حساسيتنا من الثناء على الإمام علي أو الحسين، وميلنا الشديد لبَنِي أمية، فتنبَّه!!
والنواصب لهم أقوال عجيبة كغلاة الشيعة، فمنهم مَن كان ينشد الأشعار التي قيلت في هجاء النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من يلعن عليًّا وهم الأكثر، ومنهم من يتَّهم عليًّا بمحاولة اغتيال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من يُحرِّف الأحاديث في فضله إلى ذمٍّ، وغير ذلك مِمَّا لا أستحلُّ ذكره، والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها من يذم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نفسَه!!! ".
وهكذا يُبالِغ المالكي بالجفاء في أهل السنَّة والنَّيل بالباطل منهم ومن كتبهم، مع إشادته بأهل البدع والأهواء، وليس بغريب على مَن لَم يسْلَم منه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَسْلَم منه مَن جاء بعدهم على طريقتهم، فقد مرَّ في أثناء هذا الرَّدِّ نيلُه من كثير منهم، لا سيما الطلقاء، وإخراجُه كلّ مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية أن يكونوا من أصحابه صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.(8/123)
ص -120- ... وقد نقلتُ في كتابي: " فضل أهل البيت وعلو مكانتهم عند أهل السنة والجماعة " جملةً من النقول عن بعض مَن وصفهم بأنَّهم نواصب تشتمل على توقير أهل بيت النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ومحبَّتهم وموالاتهم، والنقل عن ابن كثير (ص:37) وعن ابن القيم (ص:35)، وأمَّا الذهبي فقد قال في تذكرة الحفاظ (1/9): " علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي، قاضي الأئمَّة وفارس الإسلام وخَتَن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كان مِمَّن سبق إلى الإسلام ولَم يَتَلَعْثَم، وجاهد في الله حقَّ جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالجنَّة، وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، وقال له: "أنت منِّي بِمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبِيَّ بعدي"، وقال: "لايحبُّك إلاَّ مؤمن ولا يُبغضك إلاَّ منافق"، ومناقب هذا الإمام جَمَّة أفردتُها في مجلد، وسَمَّيتُه ب "فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه"، وكان إماماً عالِماً متحرِّياً في الأخذ؛ بحيث إنَّه يستحلف مَن يُحدِّثه بالحديث ".
أَفَمِثل هذا الكلام يقوله ناصبيٌّ، كما زعم المالكي؟!
وأمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له نصيبٌ كبير من حقد المالكي وذمِّه، والذي زعم زوراً أنَّه يُبغض عليًّا رضي الله عنه، فله كتاب " فضل أهل البيت وحقوقهم "، وهو مطبوع، ونقلتُ عن هذا الإمام عدَّةَ نقول في كتابي المشار إليه في (ص:33 35)، و(ص:44)، ومن ذلك قوله رحمه الله في العقيدة الواسطية: " ويُحبُّون "يعني أهل السُّنَّة والجماعة" أهلَ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوَلَّوْنَهم، ويحفظون فيهم وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خُمّ: "أُذكِّرُكم الله في أهل بيتِيط ... " إلى أن قال: " ويتبرَّؤون من طريقة الروافض الذين يُبغضون الصحابةَ ويَسبُّونَهم، وطريقةِ النَّواصب الذين يُؤذون أهلَ البيت بقول أو عمل ".(8/124)
ص -121- ... وقال في مجموع الفتاوى (28/491): " وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجبُ مَحبَّتُهم وموالاتُهم ورعايةُ حقِّهم ".
وقال في منهاج السنة (6/18): " وأمَّا عليٌّ رضي الله عنه، فأهل السُّنَّة يُحبُّونَه ويتولَّونه، ويشهدون بأنَّه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين ".
وقول المالكي في كلامه الأخير عن النواصب: " والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها من يذم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نفسَه!!! "، أقول: تقدَّمت الإشارة إلى مذهب أهل السنَّة وبراءتهم من النَّصب، ونحن لَم نسكت عمَّن ذمَّ علماء أهل السنَّة على مختلف العصور، وذمَّ قبلهم الكثيرين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف نسكت عمَّن يهجو الرسول صلى الله عليه وسلم أو يذمُّه؟!
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاب مفيد اسمه: " الصارم المسلول على شاتم الرسول ".
إنكاره القول بعدالة الصحابة والرد عليه:
وقال في (ص:61 63):" 4 قد يقول قائل: كيف تناقش مسألة عدالة الصحابة وهي مسألة إجماع؟! ثمَّ مَن نحن حتى نعرف هل الصحابة عدول أم لا؟! ثمَّ ماذا تفعل بتعديل الله لهم في كتابه؟
هل لك اعتراض على ذلك؟
أقول: أولاً: هذه أسئلة مُكابر وليست أسئلة باحث عن الحقيقة، وللأسف أنَّ هذا النمط من الأسئلة هي المنتشرة اليوم، وهي ممقوتة عند(8/125)
ص -122- ... العقلاء الذين يحترمون البحث العلمي، ويمكن الإجابة على مثل هذه الأسئلة المكابرة بأسئلة مثلها، فيقال: كيف تخصُّون الصحابة بالعدالة مع أنَّ هذا التخصيص لَم يَرد عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة؟! وهذه مسألة إجماع؛ فحكم الصحابة هو حكم غيرهم في الشهادة، لقوله تعالى: {حْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } "كذا"، فلو كان للصحابة خصوصية لكفى شاهد واحد عدل، ولو كان للصحابة خصوصية لاكتفى منهم بشاهد واحد في الزنا والقذف وغيرها، وهذا خلاف الإجماع؛ فإنَّ النصوص القرآنية والحديثية لا تفرق في الشهادة بين صحابي وتابعي، فلماذا تفرقون أنتم في الرواية بين الصحابي وغير الصحابي، فلا تبحثون عن عدالة الصحابي وتبحثون عن عدالة التابعي؟!
بأيِّ دليل من شرع أو عقل يُبيح لكم هذا التفريق؟! إذا كنتم تحتجُّون بأنَّ الله أثنى على الصحابة في كتابه، فهذا الثناء العام معارَض بذمٍّ عامٍّ في القرآن أيضاً ".
ثمَّ ذكر آيات عديدة فيها الذم العام بزعمه، وذكر بعدها حديثاً واحداً وأشار إليه وإلى كثير من الآيات التي ذكرها، فقال: " ومن الأحاديث في الذمِّ العام قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث الحوض في ذهاب أفواج من أصحابه إلى النار، فيقول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "أصحابي! أصحابي! فيُقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك" الحديث متفق عليه، وفي بعض ألفاظه في البخاري: "فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم".
فيأتي المعارِض للثناء العام بهذا الذَّمِّ العام، ويقول: كيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل، وأنَّ البقيَّة يؤخذون إلى النار؟!(8/126)
ص -123- ... وكيف أنَّهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، وقد تحبط أعمالهم كما حبطت أعمال الأمم الماضية، وأنَّهم يقولون ما لايفعلون، وأنَّ هذا يعقبه مقتٌ كبير عند الله، وأنَّهم يتثاقلون كلَّما دُعوا إلى الجهاد مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأنَّهم يتَّكلون على كثرتهم وتعجبهم، وينسون أنَّ أمر النَّصر والهزيمة بيد الله، وأنَّهم يتنازعون ويعصون الرسول، وبعضهم يريد الدنيا، وأنَّهم يظنون بالله الظنون، ويُسِرُّون بالمودَّة إلى الكفار، وهذا خلاف ما أُمروا به من الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، وحَكم على بعضهم بالكذب، وحَكَم على آخرين بأنَّهم يقولون المنكر والزور، وهدَّد بعضَهم بإبطال الأعمال عندما لا يتأدَّبون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرفعون أصواتهم فوق صوته، وإذا كان هذا التهديد نزل في حقِّ أبي بكر وعمر فكيف بالباقين؟!
وحَكَم على بعضِهم بأنَّهم لايعقلون، وعلى آخرين بالفسق، وحذر الله النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من طاعتهم في كثيرمن الأمور، فكيف يكون عدلاً مَن تكون طاعته مضرة وإثماً؟!
وأخبر الله عن إخلاف بعضهم للوعد، فيُعاهد الله ثمَّ لا يفي ويتحوَّل إلى منافق، وأخبر بأنَّ من منهم منافقون "كذا" لا يعلمهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، كما أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليل "مثل همل النعم"، كما ثبت في صحيح البخاري كتاب الرقاق.
أقول: يستطيع المحتجُّ على إبطال عدالة الصحابة جملة بمثل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة، وحجته لن تكون أضعف من حجَّة القائل بتعديل كلِّ من رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم من المسلمين!!
فما الحلُّ إذاً؟! هل القرآن متناقض؛ فيُثنِي على أناسٍ ثمَّ يجرحهم(8/127)
ص -124- ... ويذمُّهم؟ اللَّهمَّ لا! نعوذ بالله أن نضرب القرآن الكريم بعضه ببعض، لكن نقول: آيات الثناء تنزل على من يستحقها من المهاجرين والأنصار، وآيات الذَّمِّ بين أمرين: إمَّا عتاب لا ذنب فيه إن شاء الله، مثل الأمر بعدم رفع الصوت فوق صوت النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وإمَّا ذمٌّ عام وأريد به الخصوص، يعني أريد به طائفة منهم، وتُعرف هذه الطائفة إمَّا بسبب نزول أو بمعرفة صفتها في آيات أخرى جاء ذكرهم صريحاً، أو على المتأخرين في الإسلام الذين لَم يصدر منهم في عهد النبوة ما يطمئن إلى صحَّة إسلامهم من قوة جهاد وقوة إنفاق!!! ".
أقول: إنَّ مَن وفقَّه الله لاتِّباع السُّنَّة والسلامة من البدعة، عندما يرى أو يسمع مثل هذا الكلام المُظلِم في حقِّ الصحابة رضي الله عنهم يتألَّم قلبُه ويقشعرُّ جِلدُه، ويحمد الله على العافية مِمَّا ابتلي به قائله، ويسأل الله الهدايةَ لهذا المُبتَلَى.
ويُجاب عن كلامه بما يلي:
الأول: ما ذكره عن الأسئلة التي تُورَد على من لا يقول بتعديل الصحابة أنَّها " أسئلة مُكابر وليست أسئلة باحث عن الحقيقة، وللأسف أنَّ هذا النمط من الأسئلة هي المنتشرة اليوم، وهي ممقوتة عند العقلاء الذين يحترمون البحث العلمي "، أقول: التعويل على البحث العلمي بدون قيود وضوابط هي طريقة المستشرقين الذين لا يلتزمون بدين، وهي طريقة أيضاً مَن أُعجب بهم، وأمَّا البحث العلمي في الإسلام، فيكون في حدود النصوص الشرعية وعلى وفق فهم السلف لها.
الثاني: مسألة عدالة الصحابة اتَّفق عليها السلف، قال ابن عبد البر في(8/128)
ص -125- ... التمهيد (22/47): " ولا فرق بين أن يُسمِّي التابعُ الصاحبَ الذي حدَّثه أو لا يُسميه في وجوب العمل بحديثه؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهم عدولٌ مرضيُّون ثقاتٌ أثباتٌ، وهذا أمر مجتمعٌ عليه عند أهل العلم بالحديث ".
وقال القرطبي في تفسيره (16/299): " فالصحابة كلُّهم عدولٌ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرتُه من خلقه بعد أنبيائه ورسله، هذا مذهب أهل السنَّة والذي عليه الجماعة من أئمَّة هذه الأمَّة، وقد ذهبت شِرذمةٌ لا مبالاة بهم إلى أنَّ حالَ الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم!! ".
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/17): " واتَّفق أهلُ السنَّة على أنَّ الجميعَ عدولٌ، ولَم يخالف في ذلك إلاَّ شذوذ من المبتدعة ".
وقد أشار السيوطي في تدريب الراوي (ص:400) إلى هؤلاء الشذوذ من المبتدعة، فقال: " وقالت المعتزلة: عدول إلاَّ من قاتل عليًّا "، وبهذا يتبيَّن سلفُ المالكي!
وقال أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث (ص:264): " للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنَّه لا يُسأل عن عدالة أحدٍ منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدَّلين بنصوص الكتاب والسنَّة وإجماع مَن يُعتدُّ به في الإجماع من الأمَّة ... " إلى أن قال: (ص:265): " ثمَّ إنَّ الأمَّةَ مجمعةٌ على تعديلِ جميع الصحابة، ومَن لابس الفتنَ منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتدُّ بهم في الإجماع؛ إحساناً للظَّنِّ بهم، ونظراً إلى ما تمهّد لهم من المآثر، وكأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أتاح الإجماعَ على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، واللهُ أعلم ".(8/129)
ص -126- ... وقال النووي في شرحه على مسلم (15/149): " ولهذا اتَّفق أهلُ الحقِّ ومن يُعتدُّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم، رضي الله عنهم أجمعين ".
الثالث: ما جاء من نصوص في أهل بدر وأهل بيعة الرضوان والمهاجرين والأنصار فهي دالَّةٌ على فضل هؤلاء وتعديلهم، وما جاء من نصوص عامَّة في الصحابة فهي تدلُّ على فضل جميع الصحابة وتعديلهم، وماجاء من نصوص في فضل هذه الأمَّة فأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلون فيها دخولاً أوَّلياًّ، هذه طريقةُ أهل السنَّة والجماعة، بخلاف غيرهم من أهل الأهواء والبدع، الذين ابتُلوا بعدم سلامة القلوب والألسنة في حقِّ كثيرٍ من الصحابة رضي الله عنهم.
الرابع: ما ذكره من الاعتراض على أهل السنة من تعديلهم للصحابة على العموم والبحث في عدالة غيرهم، وقوله: إنَّهم لو كانوا كذلك لاكتفى بشاهدٍ واحدٍ منهم في الزنا وغيره.
أقول: هذا الذي ذكره مكابرةٌ كما وصفه هو نفسه بذلك، وأهلُ السنة يقولون: إنَّ التشريعَ عامٌّ للصحابة وغيرهم، لكن الصحابةُ لا يحتاجون إلى تعديل المعَدِّلين، بعد ثناء الله عزَّ وجلَّ وثناء رسولِه صلى الله عليه وسلم عليهم، بخلاف غيرهم، وليس في القرآن آيةٌ باللفظ الذي ذكره، وهو قولُه: "وليشهد به ذوا عدل منكم".
الخامس: ما ذكره من إنكار التفريق بين الصحابة وغيرهم في الرواية، في قوله: " لماذا تُفرِّقون أنتم في الرواية بين الصحابيِّ وغير الصحابيِّ فلا تبحثون عن عدالة الصحابيِّ، تبحثون عن عدالة التابعي؟! بأيِّ دليلٍ من شرعٍ أو عقلٍ يبيح لكم هذا التفريق؟! "، يجاب عنه بوجهين:(8/130)
ص -127- ... الأول: أنَّ المعَوَّل على كلامهم في هذا التفريق بين الصحابة وغيرهم هم أهل السنة والجماعة المتَّبعون لنصوص الكتاب والسنَّة، وليس أهل البدع والأهواء، وقال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص: 46): " كلُّ حديثٍ اتَّصل إسنادُه بين من رواه وبين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَم يلزم العمل به إلاَّ بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظرُ في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ عدالَةَ الصحابة ثابتةٌ معلومةٌ بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن " ثمَّ ذكر الآيات والأحاديث في ذلك.
ونقل الخطيب في (ص: 415) عن أبي بكر الأثرم قال: قلتُ لأبي
عبد الله يعني أحمد بن حنبل: " إذا قال رجلٌ من التابعين: حدَّثني رجلٌ من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فالحديثُ صحيحٌ؟ قال: نعم! ".
ونقل أيضاً عن الحسين بن إدريس قال: " وسألتُه يعني محمد بن عبد الله بن عمار: إذا كان الحديثُ عن رجلٍ من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أيكون ذلك حجَّة؟ قال: نعم! وإن لَم يسمِّه؛ فإنَّ جميعَ أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كلّهم حجّة ".
الثاني: أنَّ دواوينَ السنَّة صحاحها وجوامعها وسننها ومسانيدها ومعاجمها وغير ذلك مشتملةٌ على الرواية عن الصحابة على الإبهام، وما ثبت بالإسناد إليهم فهو حجَّةٌ عند أهل السنَّة، ولا تؤثِّر جهالتُهم؛ لأنَّ المجهول منهم في حكم المعلوم.
وما كان في كتب أصحاب الكتب الستة من ذلك أورده المزي في تحفة الأشراف (11/123 240)، وقال في أوَّله: " فصل: ومن مسند جماعةٍ من الصحابة روي عنهم فلم يُسمَّوْا، رتَّبنا أحاديثهم على ترتيب أسماء(8/131)
ص -128- ... الرواة عنهم "، وفيهم مَن روايتُه في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكذا ذكر المزّي المبهمات من الصحابيات مرتِّباً أحاديثهنَّ على ترتيب أسماء الرواة عنهنَّ في (13/111 129).
السادس: ما أورده من آياتٍ فيها ذمٌّ عامٌّ للصحابة بزعمه، منها آياتٌ في المنافقين، كآية {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّة ...} الآية، كما في تفسير الشوكاني، وكآية {وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللهَ ...} الآية، كما في تفسير ابن كثير.
السابع: قوله (ص:63): " ومن الأحاديث في الذمِّ العامِّ: قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث الحوض في ذهاب أفواجٍ من أصحابه إلى النَّار، فيقول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "أصحابي! أصحابي! فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك"، الحديث متفق عليه، وفي بعض ألفاظه في البخاري: "فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم".
فيأتي المعارِض للثناء العام بهذا الذمِّ العامِّ، ويقول: كيف تجعلون للصحابة ميزةً وقد أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليلُ، وأنَّ البقيَّةَ يؤخذون إلى النَّار ؟! ".
وقال عن هذا الحديث أيضاً (ص:64): " كما أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليلُ "مثل همل النعم"، كما ثبت في صحيح البخاري كتاب الرقاق ".
ويُجابُ عنه بأنَّ لفظَ الحديث في صحيح البخاري في كتاب الرقاق (6587) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا نائمٌ فإذا زمرةٌ، حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ،(8/132)
ص -129- ... فقلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: وماشأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثمَّ إذا زمرةٌ، حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ، قلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: ماشأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم ".
قال الحافظ في شرحه: " قوله: "بينا أنا نائمٌ" كذا بالنون للأكثر، وللكشميهني "قائم" بالقاف، وهو أوجه، والمراد به قيامُه على الحوض يوم القيامة، وتوجه الأولى بأنَّه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة "، وقال أيضاً: " قوله: "فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم" يعني من هؤلاء الذين دَنَوْا من الحوض وكادوا يَرِدونه فصُدُّوا عنه "، وقال أيضاً: " والمعنى أنَّه لا يرِدُه منهم إلاَّ القليل؛ لأنَّ الهمل في الإبل قليلٌ بالنسبة لغيره ".
واللفظُ الذي ورد في الحديث: " فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم " أي من الزمرتين المذكورتين في الحديث، وهو لا يدلُّ على أنَّ الذين عُرضوا عليه هاتان الزمرتان فقط، والمالكي أورد لفظ الحديث على لفظ خاطئ لَم يرد في الحديث، وبناءً عليه حكم على الصحابة حكماً عاماًّ خاطئاً، فقال فيه: " وفي بعض ألفاظه في البخاري: "فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم"، فجاء بلفظ " منكم " على الخطاب بدل " منهم "، وبناءً عليه قال: "كيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل، وأمَّا البقية يُؤخذون إلى النار "، وقال: " كما أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليل "مثل همل النعم"، كما ثبت في صحيح البخاري كتاب الرقاق!! "، وهذا كذب على(8/133)
ص -130- ... الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّه لَم يُخبر أنَّ أصحابَه لَم يَنْجُ منهم إلاَّ القليل، ولعل هذا الذي وقع من المالكي حصل خطأً لا عمداً.
وأمَّا ما جاء في بعض الأحاديث مِن أنَّه يُذاد عن حوضه أُناسٌ من أصحابه، وأنَّه يقول " أصحابي! " وفي بعض الألفاظ " أُصيْحابي! "، فيُقال: " إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك "، فهو محمولٌ على القلَّة التي ارتدَّت منهم بعد وفاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقُتِلوا في ردَّتِهم على أيدي الجيوش المظفرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وبعضُ أهل الأهواء والبدع يَحملون هذه الأحاديث على ارتداد الصحابة بعد وفاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ نفراً يسيراً منهم، وكلام المالكي الذي قال فيه: إنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل وأنَّ البقيَّةَ يُؤخذون إلى النار شبيهٌ بكلامهم، والحقيقة أنَّ هذه الفرقة الضالَّة الحاقدة على الصحابة وهم الرافضة هي الجديرة بالذَّوْد عن الحوض؛ لعدم وجود سِيمَا التحجيلِ فيها التي جاءت في الحديث في الصحيحين، وهو عند البخاري (136) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " إنَّ أمَّتِي يُدعَون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار الوضوء "، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: " ويلٌ للأعقاب من النار " أخرجه البخاري (165) ومسلم (242)، ولم أجد في الصحيحين التعبير بذهاب أفواج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النار، كما زعم المالكي، وقد تقدَّم للمالكي أنَّه أخرج كلَّ مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم ، أخرجهم من أن يكونوا صحابة، وأنَّ الصحابةَ عنده وعند قدوته الحكمي هم المهاجرون والأنصار قبل الحديبية فقط، فعلى قوله هنا أنَّه لَم يَنْجُ من الصحابة إلاَّ القليل مثل همل النعم، وأنَّ البقية يؤمر بهم إلى النار، لا ينجو من المهاجرين والأنصار إلاَّ القليل مثل(8/134)
همل النعم!(8/135)
ص -131- ... الثامن: أنَّ قولَ أهل السنَّة والجماعة بعدالة الصحابة لا يعنِي عصمتهم؛ لأنَّ العصمةَ عندهم لا تكون إلاَّ للرُّسُل والأنبياء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص:28): " وهم مع ذلك "يعنِي أهل السنة والجماعة" لا يعتقدون أنَّ كلَّ واحدٍ من الصحابة معصومٌ عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السَّوابِق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنَّهم يُغفر لهم من السيِّئات ما لا يُغفر لِمَن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهم خير القرون، وأنَّ المُدَّ من أحدِهم إذا تصدَّق به كان أفضلَ من جبل أُحُد ذهباً مِمَّن بعدهم، ثمَّ إذا كان قد صدر عن أحدٍ منهم ذنبٌ فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المُحقَّقة فكيف الأمور التي كانوا فيها مُجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثمَّ القدر الذي يُنكَر من فِعل بعضِهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنِهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنُّصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلمٍ وبصيرةٍ وما منَّ الله عليهم من الفضائل علِمَ يقيناً أنَّهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنَّهم الصَّفوةُ من قرون هذه الأمَّة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله ".
التاسع: إنَّ قولَ أهل السنَّة بتعديل الصحابة، كما أنَّه مستندٌ إلى نصوص من الكتاب والسُّنَّة، فهو مَبنِيٌّ على حُسن الظنِّ بهم، ومن أحسن(8/136)
ص -132- ... الظنَّ بهم فهو مأجور، والقول بخلاف ذلك مَبنِيٌّ على إساءة الظنِّ بهم، ومَن أساء الظنَّ بهم فهو آثمٌ، قال بَكر بن عبد الله المُزني، كما في ترجمته في تهذيب التهذيب لابن حجر: " إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمتَ، وهو سوء الظنِّ بأخيك ".
وإذا كان هذا في آحاد الناس، فإنَّه في حقِّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدُّ وأعظم.
وفي ختام هذا الردِّ على المالكي، أقول: إنَّ جُلَّ كلامه المردود عليه من كتابه في الصحابة، وأمَّا كتابُه " قراءةٌ في كتب العقائد " المشتمل على تخبُّط وتخليط في العقيدة، فلم أنقل عنه في هذه الرسالة للردِّ عليه إلاَّ في موضعين في تشكيكه في أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة، وفي إشادته بأهل البدع ونيله من علماء أهل السنة وكتبهم على مختلف العصور.(8/137)
ص -133- ... آثارٌ في توقير الصحابة وبيان خطرِ النَّيل من أحدٍ منهم:
وبعد أن أوردتُ كارهاً مضطراًّ كلماتٍ للمالكي في الصحابة الأخيار مظلمةً مُحزنةً موحشةً، فإنِّي أورد كلماتٍ فيهم لبعض أهل العلم مشرقةً مضيئةً، سارَّةً مؤنسةً، وجلُّها مثبتٌ في كتابي " من أقوال المنصفين في الصحابي الخليفة معاوية رضي الله عنه ".
الإمام مالك بن أنس (179ه ) رحمه الله:
قال البغوي في شرح السنة (1/229): " قال مالك: مَن يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليه غِلٌّ فليس له حقٌّ في فَيءِ المسلمين، ثم قرأ قولَه سبحانه وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِي مَانِ} الآية، وذُكر بين يديه رجلٌ ينتقص أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالكٌ هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، ثم قال: مَن أصبح من الناس في قلبه غِلٌّ على أحدٍ من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ".
الإمام أحمد بن حنبل (241ه ) رحمه الله:
قال في كتابه السنة: " ومن السنَّة ذكرُ محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم أجمعين، والكفّ عن الذي جرى بينهم، فمَن سبَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وأحداً منهم فهو مبتدعٌ رافضيٌّ، حبُّهم سنَّةٌ والدعاءُ لهم قربةٌ والاقتداءُ بهم وسيلةٌ والأخذُ بآثارهم فضيلةٌ ".
وقال: " لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئاً من مساوئهم ولا يطعن على(8/138)
ص -134- ... أحدٍ منهم فمَن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبُه وعقوبتُه ليس له أن يعفوَ عنه بل يعاقبُه ثمَّ يستتيبُه فإن تاب قبِلَ منه وإن لَم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويراجع ".
الإمام أبو زرعة الرازي (264ه ) رحمه الله:
روى الخطيبُ البغدادي في كتابه الكفاية (ص:49) بإسناده إليه قال: " إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ ".
الإمام أبو جعفر الطحاوي (322ه ) رحمه الله:
قال في عقيدة أهل السنة والجماعة: " ونحبُّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلاَّ بخيرٍ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ ".
الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (327ه ) رحمه الله:
قال في كتابه الجرح والتعديل (1/87): " فأمَّا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين شهدوا الوحيَ والتنزيلَ، وعرفوا التفسيرَ والتأويلَ، وهم الذين اختارهم اللهُ عزَّ وجلَّ لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونصرتِه وإقامةِ دينه وإظهارِ حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوةً، فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلَّغهم عن الله عزَّ وجلَّ، وما سنَّ وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدّب، ووعَوْه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمرَ الله ونهيه(8/139)
ص -135- ... ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسيرَ الكتاب وتأويله، وتلقّفهم منه واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ عزَّ وجلَّ بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إيَّاهم موضع القدوة "، إلى أن قال: " فكانوا عدولَ الأمَّة وأئمَّةَ الهدى وحججَ الدِّين ونقلةَ الكتاب والسنة.
وندب الله عزَّ وجلَّ إلى التمسُّك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم، فقال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية.
ووجدنا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطبُ أصحابَه فيها، منها أن دعا لهم فقال: "نضَّر اللهُ امرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتّى يبلِّغها غيرَه"، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "فليبلِّغ الشّاهدُ منكم الغائبَ"، وقال: "بلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".
ثمَّ تفرَّقت الصحابةُ رضي الله عنهم في النَّواحي والأمصار والثغور، وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحدٍ منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكموا بحكم الله عزَّ وجلَّ وأمضوا الأمور على ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفتوا فيما سُئلوا عنه مِمَّا حضرهم من جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل، وجرّدوا أنفسهم مع تقدمة حسن النيّة والقربة إلى الله تقدّس اسمُه، لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام، حتّى قبضهم اللهُ عزَّ وجلَّ رضوانُ الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين ".
الإمام ابن ابن أبي زيد القيرواني (386ه ) رحمه الله:
قال في مقدَّمة رسالته:" وأنَّ خيرَ القرون القرنُ الذين رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به،(8/140)
ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاءُ(8/141)
ص -136- ... الراشدون المهديّون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان،ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وأن لا يُذكر أحدٌ من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلاَّ بأحسن ذكرٍ، والإمساك عمَّا شجر بينهم، وأنَّهم أحقُّ الناس أن يُلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظنَّ بهم أحسنَ المذاهب ".
الإمام أبوعثمان الصابوني (449ه ) رحمه الله:
قال في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث: " ويَرون الكفَّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمَّن عيباً لهم أو نقصاً فيهم ويرون التَّرحُّم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم ".
الإمام أبو المظفَّر السمعاني (489ه ) رحمه الله:
نقل الحافظ في الفتح (4/365) عنه أنَّه قال: " التعرُّضُ إلى جانب الصحابة علامةٌ على خذلان فاعله، بل هو بدعةٌ وضلالةٌ ".
شيخ الإسلام ابن تيمية (728ه ) رحمه الله:
قال في كتابه العقيدة الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِي مَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، وطاعة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنَّ أحدَكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" إلى أن قال: ويتبرَّءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبّونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهلَ البيت بقول أوعملٍ، ويُمسكون عمَّا جرى بين الصحابة، ويقولون إنَّ هذه الآثار المرويّة في مساوئهم منها ما(8/142)
ص -137- ... هو كذبٌ ومنها ما قد زِيد فيه ونُقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيحُ منه هم فيه معذورون إمَّا مجتهدون مصيبون وإمَّا مجتهدون مخطئون ".
وقد مرَّ ذِكرُ بقيَّة كلامه في عدالة الصحابة قريباً.
الحافظ ابن كثير (774ه ) رحمه الله:
قال في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية قال: " فقد أخبر اللهُ العظيم أنَّه قد رضي عن السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، فيا ويلَ مَن أبغضَهم أو سبَّهم أو أبغضَ أو سبَّ بعضَهم ولا سِيَما سيِّدُ الصحابة بعد الرَّسول صلى الله عليه وسلم وخيرُهم وأفضلُهم أعني الصِّديقَ الأكبرَ والخليفةَ الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإنَّ الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضلَ الصحابة، ويبغضونهم ويسبُّونهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدلُّ على أنَّ عقولَهم معكوسةٌ وقلوبَهم منكوسةٌ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون مَن رضي الله عنهم، وأمَّا أهلُ السنة فإنَّهم يترَضَّوْن عمَّن رضي الله عنه ويسبون من سبَّه اللهُ ورسولُه ويوالون من يوالي اللهَ ويعادون من يعادي اللهَ، وهم متَّبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزبُ الله المفلحون وعبادُه المؤمنون ".
الشيخ ابن أبي العزّ الحنفي (792ه ) رحمه الله:
قال في شرح الطحاوية (ص:469): " فمن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيِّين، بل قد فضَلهم اليهودُ والنصارى بخصلة، قيل لليهود مَن خيرُ أهل ملَّتكم؟ قالوا: أصحابُ(8/143)
ص -138- ... موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ عيسى، وقيل للرافضة:من شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمد، ولم يستثنوا منهم إلاَّ القليل، وفيمن سبّوهم من هو خير مِمَّن استثنوهم بأضعافٍ مضاعفةٍ ".
وهذا المعنى جاء في شعر أحد علمائهم بين القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري، وهو كاظم الأزري، فقال:
أهم خير أمة أخرجت للناس هيهات ذاك بل أشقاها!!!
وقفتُ عليه في نقد الأستاذ محمود الملاح لقصيدته الأزرية المطبوع بعنوان: " الرزيّة في القصيدة الأزرية " (ص:51).
وما جاء في هذا البيت غايةٌ في الجفاء والخبث، ومثله في الغلوِّ في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه والجفاء في الصحابة قوله (ص:45):
أَنَبِيٌّ بلا وَصِيٍّ؟!! تعالى الل ه عمَّا يقوله سفهاها!!!
ومن غلوِّه في علي رضي الله عنه قوله كما في (ص:34):
وهو الآيةُ المحيطة في الكون ففي عين كل شيء تراها!!!
وقوله كما في (ص:36):
ورأت قسوراً لو اعترضته الإنسُ والجنُّ في وغى أفناها!!!
والبيتان الأخيران يصدق عليهما الوصف المشهور: يُضحك النمل في قراها، والنحل في خلاياها!
الحافظ ابن حجر العسقلاني (852ه ) رحمه الله:
قال في كتابه فتح الباري (13/34): " واتّفق أهلُ السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من حروبٍ ولو عُرف(8/144)
ص -139- ... المحقُّ منهم؛ لأنَّهم لَم يقاتلوا في تلك الحروب إلاَّ عن اجتهادٍ وقد عفا اللهُ تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنَّه يؤجر أجراً واحداً وأنَّ المصيبَ يؤجر أجرين ".
الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري (893ه ) رحمه الله:
قال في كتابه الرياض المستطابة في من له روايةٌ في الصحيحين من الصحابة (ص:311): " وينبغي لكلِّ صيِّنٍ متديِّنٍ مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر والاعتذار عن مخطئهم وطلب المخارج الحسنة لهم وتسلِيم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه، فهم أعلم بالحال، والحاضرُ يرى ما لا يرى الغائبُ، وطريقةُ العارفين الاعتذارُ عن المعائب، وطريقةُ المنافقين تتبُّعُ المثالب، وإذا كان اللاَّزمُ من طريقة الدين سترُ عورات المسلمين فكيف الظنُّ بصحابة خاتم النبيّين مع اعتبار قوله صلى الله عليه وسلم : "لا تسبُّوا أحداً من أصحابي"، وقوله: "من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه" هذه طريقةُ صلحاء السلف وما سواها مهاوٍ وتلف ".(8/145)
ص -140- ... آياتٌ وأحاديث في حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في خير:
وقد رأيتُ من المناسب أن أورد هنا آياتٍ من كتاب الله وأحاديثَ من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهميّة حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في الخير؛ وذلك نصيحة لنفسي وللمالكي ولِمَن شاء الله أن يطَّلع على هذه الرسالة، وأسأل اللهَ للجميع التوفيقَ لِمَا تُحمد عاقبتُه في الدنيا والآخرة.
قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، وفي صحيح مسلم (2589) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون ما الغيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم، قال: ذكرُك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لَم يكن فيه فقد بهتَّه ".
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}.
روى البخاري في صحيحه (10) عن عبد الله بن عمرو عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " المسلمُ مَن سلم المسلمون من لسانه ويده "، ورواه مسلم في صحيحه (64) أنَّ رجلاً(8/146)
سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال: " مَن سلم المسلمون من لسانه ويده ".(8/147)
ص -141- ... وروى مسلمٌ أيضاً من حديث جابر (65) بلفظ حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري.
أقول: ولا شكَّ أنَّ أولى المسلمين بالسلامة من اللسان ومن الكتابة باليد أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الحافظ في شرح الحديث: " والحديث عامٌّ بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأنَّ اللسانَ يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم! يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإنَّ أثرها في ذلك لعظيم ".
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتاب تِي ... بأنَّ ي دي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
وروى البخاري في صحيحه (6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَن يضمن لي ما بين لحْيَيْه وما بين رجليه أضمن له الجنَّة "، المراد بِما بين اللّحْيَيْن والرِّجْلَين اللسانُ والفرْجُ.
وروى البخاري في صحيحه (6475) ومسلم في صحيحه (74) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " الحديث.
قال الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه روضةُ العقلاء ونزهة الفضلاء (ص:45): " الواجبُ علىالعاقل أن يلزم الصمتَ إلى أن يلزمه التكلُّمُ، فما أكثرَ مَن ندم إذا نطق، وأقلَّ من يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسانٍ مطلقٍ، وفؤادٍ مطبقٍ ".
وقال أيضاً (ص:47): " الواجبُ على العاقل أن يُنصف أذنيه من فيه،(8/148)
ص -142- ... ويعلم أنَّه إنَّما جُعلت له أذنان وفم واحدٌ ليسمع أكثر مِمَّا يقول؛ لأنَّه إذا قال ربَّما ندم، وإن لَم يقل لَم يندم، وهو على ردِّ ما لَم يقل أقدر منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملكَتْه، وإن لَم يتكلَّم بها ملكها ".
وقال أيضاً في (ص:49): " لسانُ العاقل يكون وراء قلبه، فإذا أراد القولَ رجع إلى القلب، فإن كان له قال، وإلاَّ فلا، والجاهلُ قلبُه في طرف لسانه، ما أتى على لسانه تكلَّم به، وما عقل دينَه من لَم يحفظ لسانه ".
وروى البخاري في صحيحه (6477) ومسلم في صحيحه (2988)، واللفظُ لمسلم عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب ".
وفي آخر حديث وصيّة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ أخرجه الترمذي (2616) وقال: " حديثٌ حسنٌ صحيحٌ "، قال صلى الله عليه وسلم : " وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخِرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم "، قاله جواباً لقول معاذ رضي الله عنه: " يا نبيَّ الله! وإنَّا لمؤاخذون بِمَا نتكلَّم به؟ ".
قال الحافظ ابن رجب في شرحه من كتابه جامع العلوم والحكم (1/147): " والمرادُ بحصائد الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيِّئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمَن زرع خيراً مِن قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامة، ومن زرع شراًّ من قولٍ أو عملٍ حصد غداً الندامة ".
وروى مسلم في صحيحه (2581) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون مَن المُفلِس؟ قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا دِرهم له ولا متاع، فقال: إنَّ المفلسَ من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا،(8/149)
ص -143- ... فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيَتْ حسناتُه قَبْل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمَّ طُرح في النار ".
وروى مسلم في صحيحه (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً طويلاً جاء في آخره: " بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعرضُه ".
وروى البخاري في صحيحه (1739) ومسلم في صحيحه واللفظُ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ يوم النحر، فقال: يا أيُّها الناس! أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومٌ حرامٌ، قال: أيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حرامٌ، قال: فأيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرامٌ، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومِكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً، ثم رفع رأسَه فقال: اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: فوالَّذي نفسي بيده! إنَّها لوصيَّتُه إلى أمَّته، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض ".
وروى مسلم في صحيحه (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَن دعا إلى هُدى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ".
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (1/65) تعليقاً على حديث " إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاَّ من إحدى ثلاث ... " الحديث، قال: " وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مِمَّا(8/150)
ص -144- ... يوجب الإثمَ، عليه وزره ووزر مَن قَرَأَه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لِمَا تقدم من الأحاديث "مَن سنَّ سُنَّةً حسنة أو سيِّئة"، والله أعلم ".
وروى البخاري في صحيحه (6502) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ قال: مَن عادَى لِي وَلِياًّ فقدآذنتُه بالحرب " الحديث.
وإذا كان هذا في وَلِيٍّ واحدٍ من آحاد الأولياء، فكيف بالكثيرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم ساداتُ الأولياء رضي الله عنهم وأرضاهم.
وإلى هنا انتهت هذه الرسالة التي هي من أحبِّ كُتُبِي إلى نفسي، وأرجاها لي عند ربِّي؛ لِمَا تضَمَّنتْه من الدِّفاع عن الصحابة الأخيار والذَّبِّ عنهم، والحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بِحُبِّهم، وبغض مَن يُبغضهم، وبغير الخير يَذكرُهم، ورضي الله عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أظهر فرحَ الصحابة الشديد لحديث " المرء مع من أحبَّ " فقال بعد روايته للحديث كما في صحيح البخاري (3688): " فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببتَ، قال أنس: فأنا أُحبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعُمر، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إيَّاهم، وإن لَم أعمل بمثل أعمالِهم "، والحديث متواترٌ، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره سورة الشورى، عند قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.
أقول: وأنا أُحبُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا والحَسَن والحُسين وأمَّهما فاطمة وأمَّهات المؤمنين وأنس بنَ مالك قائل هذا الكلام وسائرَ الصحابة رضي الله عنهم، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إيَّاهم، وإن لَم أعمل بمثل أعمالِهم.(8/151)
ص -145- ... اللَّهمَّ إنَّك تعلمُ ما في قلبِي من الحبِّ للصحابةِ الأخيار والقرابة الأطهار، وتعلم سلامةَ لساني وقلبي مِمَّا لا يليق بهم، وتعلم أنَّ ما كتبتُه انتصارٌ لصحابةِ نبيِّك صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، اللَّهمَّ إنِّي أسألك بهذا الحبِّ والسلامة والانتصار أن تُثبِّتَنِي بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن تُحسِنَ عاقبَتِي في الأمور كلِّها، وتُجيرَنِي من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأن تدخلَنِي الجنَّة، وتُعيذَنِي من النار، ربِّ أوزِعنِي أن أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والِديَّ وأن أعمل صالِحاً ترضاه، وأدخلنِي برحمتِك في عبادك الصَّالحين، ربِّ أوزِعنِي أن أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والدَيَّ وأن أعمل صالِحاً ترضاه، وأَصلِح لي في ذُريَّتِي إنِّي تُبتُ إليك وإنِّي من المسلمين، اللَّهمَّ اغفر لي ولآبائي وأمَّهاتِي وأهلِي وأبنائي وبناتِي وإخوانِي وأخواتِي وأعمامي وعمَّاتي وأخوالِي وخالاتي وأصهاري وسائر أقربائي وشيوخي وأصدقائي وزملائي وتلاميذي وسائر المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنَّك سميعٌ مجيبُ الدَّعوات، ربَّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيِّء لنا من أمرنا رشداً، ربَّنا لا تُزِغ قلوبَنا بعد إذ هديتَنا وهَب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهَّاب، ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربِّ العالمين.
وكان الفراغ من تأليف هذه الرسالة صباح يوم الجمعة
27 شوال 1422ه .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.(8/152)
عنوان الكتاب:
التحذير من تعظيم الآثار غير المشروعة
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الدار الحديثة مصر
الطبعة الأولى 1425هـ -2004م(9/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالَمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد اطَّلعتُ على المقال المنشور في (صحيفة المدينة ـ ملحق الرسالة)، الصادرة الجمعة 18 المحرم 1424هـ، للدكتور: عمر كامل، بعنوان: "لا خوف على بلاد الحرمين من الشرك والوثنية، وهل في إحياء آثار النبوة ومواطئ الرسالة ما يدعو إلى التخوف من الشرك؟ وهل الاهتمام بتلك الآثار يؤدِّي بالضرورة إلى عبادتها من دون الله؟"
وتعقيباً على هذا المقال أقول:
اشتمل مقالُه على تقرير أنَّ الشركَ لا يعود إلى مهد الإسلام، وأنَّ الإسلامَ يأرز إلى المدينة(9/2)
ص -4- ... والحجاز، وتتبعِ ابن عمر لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وذِكرِ آثار فيها إباحة التبرك بقبر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومنبره.
أمَّا ما قرَّره من أنَّ الشركَ لا يعود إلى مهد الإسلام، فقد قال: "بعد أن انتشر الدينُ الإسلامي في أرجاء المعمورة ودخل الناس في دين الله أفواجاً، تكفَّل الله بحفظ مهد رسالة الإسلام من عودة الكفر والوثنية والشرك إليها، وبشرنا بذلك على لسان مبلِّغ الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، عن جابر قال: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الشيطان قد أيِسَ من أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" [صحيح مسلم 4/2166: 2812] "، ثم ذكر حديثاً عند الترمذي (2159) في خطبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر، وفيه: "ألا وإنَّ الشيطانَ قد أيس من أن يُعبد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من(9/3)
ص -5- ... أعمالكم، فسيرضى به"، ثم قال بعد ذلك: "ومع ذلك فبين الفينة والأخرى يخرج علينا خارجٌ يدَّعي الغيرة على دين الله والخوف على بلاد الحرمين من عودة الشرك إليها!!! ولعلَّ أمثال هؤلاء قد غفلوا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوضح لنا مصدر الخوف الذي كان يخافه على أمته، عن عبادة بن نسي قال: دخلت على شدَّاد بن أوس رضي الله عنه في مصلاه وهو يبكي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ما الذي أبكاك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وما هو؟ قال: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رأيت بوجهه أمراً ساءني، فقلت: بأبي وأمِّي يا رسول الله، ما الذي أرى بوجهك؟ قال: أمر أتخوَّفه على أمتي من بعدي، قلت: وما هو؟ قال: الشرك وشهوة خفية، قال: قلت: يا رسول الله، أتشرك أمَّتُك من بعدك؟ قال: يا شدَّاد، أما(9/4)
ص -6- ... إنَّهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولا حجراً، ولكن يُراؤون الناسَ بأعمالهم، قلت: يا رسول الله، الرياء شرك هو؟ قال: نعم، قلت: فما الشهوة الخفية؟ قال: يصبح أحدُكم صائماً فتعرض له شهوة من شهوات الدنيا فيفطر. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. [المستدرك على الصحيحين 4/366 ـ 7940]، فهل هناك أوضح من هذا البيان؟ فقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع الشرك وعبادة الأوثان والأحجار من بعده، وكلُّ ما خاف منه هو الرياء، فهل نصدِّق رسول الله أم نركن إلى إرجاف المرجفين وأوهام المتنطعين؟!"
والجواب: أنَّ حديث شدَّاد بن أوس رضي الله عنه غيرُ صحيح؛ لأنَّ في إسناده عبد الواحد بن زيد، وقد قال فيه الذهبي في تلخيص المستدرك متعقِّباً تصحيح الحاكم: "عبد الواحد متروك"، والمتروك(9/5)
ص -7- ... لا يُحتجُّ بروايته، وقال الذهبي في ترجمته في الميزان: "روى عباس عن يحيى: ليس بشيء، وقال البخاري: عبد الواحد صاحب الحسن: تركوه، وقال الجوزجاني: سيِّء المذهب، ليس من معادن الصدق"
وأمَّا حديث جابر الذي أخرجه مسلم في صحيحه في إياس الشيطان من أن يُعبَد في جزيرة العرب، فليس فيه دليل على عدم عودة الكفر والشرك إلى الجزيرة، وذلك لثبوت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومنها حديث أبي هريرة في صحيح مسلم (2906) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة"، وكانت صنَماً تعبدُها دوسٌ في الجاهلية بتبالة، ومنها حديث عائشة في صحيح مسلم (2907) قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهبُ الليل والنهار حتى تُعبَد(9/6)
ص -8- ... اللاَّت والعُزَّى" الحديث، ومنها حديث أنس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من بلد إلاَّ سيطؤه الدَّجَّال إلاَّ مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقبٌ إلاَّ عليه الملائكة صافِّين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رَجَفات، فيخرج الله كلَّ كافر ومنافق" رواه البخاري (1881)، ومسلم (2943)، فهذه أحاديث صحيحة محكمة تدلُّ على عودة الشرك والكفر إلى الجزيرة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومِمَّا يوضح ذلك أنَّ بعضَ العرب ارتدُّوا بعد وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فرجع أكثرُهم، وقتل بعضهم على ردَّته، وهؤلاء هم الذين عُنوا في حديث الذيادة عن الحوض، وقال عنهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أصحابي"، فقيل له:"إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أخرجه البخاري (6582).
ويُجمع بين هذه الأحاديث وحديث جابر في(9/7)
ص -9- ... إياس الشيطان من أن يُعبد في جزيرة العرب من وجهين:
أحدهما: بحمل حديث جابر على نفي عودة الجميع إلى الشرك دون البعض، فإنَّه يقع منهم.
الثاني: أنَّ إياس الشيطان من عبادته في جزيرة العرب هو ظنٌّ من الشيطان، وهو لا يعلم الغيب، كما أخبر الله عن الجنِّ في قوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}، وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، وقد ذكر هذه الأجوبة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في إجابته على سؤال عن ثلاثة أحاديث، هذا أحدها (ص:35 ـ 36).
وأمَّا أحاديث كون الإيمان يأرز إلى المدينة وإلى(9/8)
ص -10- ... الحجاز، فهي لا تنافي الأحاديث الصحيحة الدَّالَّة عل عودة الشرك إلى الجزيرة.
وأمَّا الآثار التي أوردها الكاتب في تتبُّع آثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المكانية، فهي عن ابن عمر رضي الله عنه، وهذا مشهور عنه، والمشهور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم خلاف ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/278 ـ 279):
"فأمَّا قصدُ الصلاة في تلك البقاع التي صلَّى فيها اتفاقاً، فهذا لم يُنقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حُجَّاجاً وعُمَّاراً ومسافرين، ولَم يُنقل عن أحد منهم أنَّه تحرَّى الصلاة في مصلَّيات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنَّ هذا لو كان عندهم مستحبًّا لكانوا إليه أسبقَ؛ فإنَّهم أعلمُ بسنَّته وأتبعُ لها من(9/9)
ص -11- ... غيرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، وتَحرِّي هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مِمَّا ابتُدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟! أيضاً فإنَّ تحرِّي الصلاة فيها ذريعةٌ إلى اتِّخاذها مساجد، والتشبُّه بأهل الكتاب مِمَّا نُهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارعُ قد حسَم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان قد نهي عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدًّا للذريعة، فكيف يُستحبُّ قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه، أو صلاتهم فيه(9/10)
ص -12- ... ، من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟!"
أقول: بل إنَّ عمر رضي الله عنه نهى عن ذلك، فعن المعرور بن سويد قال: "كنت مع عمر بين مكة والمدينة، فصلى بنا الفجر فقرأ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}، ثمَّ رأى قوماً ينزلون فيُصلُّون في مسجد فسأل عنهم، فقالوا: مسجد صلَّى فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّما هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيَعا، مَن مرَّ بشيء من المساجد فحضرت الصلاة فليُصلِّ، وإلاَّ فليمض" رواه عبد الرزاق (2/118 ـ 119) وابن أبي شيبة (2/376 ـ 377) بإسناد صحيح، قال شيخ الإسلام معلِّقاً على هذا الأثر: "فلمَّا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصَه بالصلاة فيه، بل صلَّى فيه لأنَّه موضع نزوله، رأى عمر أنَّ(9/11)
ص -13- ... مشاركتَه في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبِّه بالنَبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبِّه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب" مجموع الفتاوى (1/281)( ).
وأمَّا الآثار في التبرُّك بالقبر والمنبر، فإنَّ ما جاء من آثار في التبرُّك بالمنبر إنَّما كان في منبره الذي كان يجلس عليه، والرمانة التي يضع يده عليها، وهو تبرُّك بما لاَمَسَه جسدُه صلى الله عليه وسلم، وهذا سائغ؛ فإنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا يتبرَّكون بشعره وعرقه ومخاطه وبصاقه وغير ذلك مِمَّا ثبت في(9/12)
ص -14- ... الأحاديث الصحيحة، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك يُحمل ما جاء عن الإمام أحمد في ذلك، وفي التبرُّك بشعرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقصعته إن صحَّ ذلك عنه، وكذلك ما جاء عن غيره في منبره صلى الله عليه وسلم، وقد احترق المنبر، فلم يكن هناك مجال للتبرُّك بشيء مسَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء (2/244 ـ 245)، وقال: "فقد رخَّص أحمد وغيرُه في التمسح بالمنبر والرمانة، التي هي موضع مقعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويده، ولَم يرخِّصوا في التمسح بقبره"، وقال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب (8/206): "لا يجوز أن يُطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ويُكره إلصاق الظَّهر والبطن بجدار القبر، قاله أبو عبيد الله الحليمي وغيره، قالوا: ويُكره مسحُه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يَبعد منه كما يَبعد منه لو حضره في حياته صلى الله عليه وسلم، هذا(9/13)
ص -15- ... هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ولا يغتر بمخالفة كثير من العوام وفعلهم ذلك؛ فإنَّ الاقتداءَ والعملَ إنَّما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يُلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله ما معناه: "اتبع طريق الهدى ولا يضرك قلَّة السالكين، وإيَّاك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين"، ومَن خطر بباله أنَّ المسحَ باليد ونحوه أبلغ في البركة، فهو من(9/14)
ص -16- ... جهالته وغفلته؛ لأنَّ البركة فيما وافق الشرع، وكيف يُبتغى الفضل في مخالفة الصواب".
وآثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الآثار المروية، وهي حديثه وسنَّتُه صلى الله عليه وسلم، فهذا القسم تجب المحافظة عليه؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي" الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" الحديث، رواه البخاري ومسلم.
الثاني: الآثار المكانية، وهذا القسم يؤخذ منه بما ثبتت به السنَّة، كالصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وفي مسجد قباء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشدُّ الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" رواه البخاري (1189) ومسلم(9/15)
ص -17- ... (1397)، واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام" رواه البخاري (1190) ومسلم (1394) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" رواه الترمذي (324) وابن ماجه (1411) عن أسيد بن ظهير رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقوله صلي الله عليه وسلم: "من تطهَّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاةً، كان له كأجر عمرة" رواه ابن ماجه (1412) عن سهل بن حنيف رضي الله عنه، و"كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبت ماشياً وراكباً فيصلي فيه ركعتين" رواه البخاري (1193) ومسلم (1399) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وأمَّا المساجد والأماكن التي لَم ترِد فيها سُنَّةٌ(9/16)
ص -18- ... عن الرسول صلى الله عليه وسلم فتُترك ولا تُقصَد، وهو الذي يُفيده نهيُ عمر رضي الله عنه عن قصد الصلاة في المسجد الذي بين مكة والمدينة، كما في الأثر الذي ذكرته عنه قريباً، وإنَّما جاء النهي عن التعلق بالآثار المكانية غير الشرعية؛ لأنَّه وسيلة إلى الشرك، كما هو واضح من كلام ابن تيمية الذي تقدَّم قريباً، وسدُّ الذرائع التي تؤدِّي إلى محذور أصلٌ من أصول الشريعة، ومقصَدٌ من مقاصدها، وقد أورد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين (3/147) وما بعدها تسعة وتسعين دليلاً من أدلَّة سدِّ الذرائع، ومنها قوله في (ص:151): "الوجه الثالث عشر: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور، ولَعَن مَن فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأَمَرَ بتسويتها، ونهى عن(9/17)
ص -19- ... اتخاذها عيداً، وعن شدِّ الرحال إليها؛ لئلاَّ يكون ذلك ذريعةً إلى اتخاذها أوثاناً والإشراك بها، وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافَه سدًّا للذريعة"
الثالث: الآثار الجسدية، والمراد بها ما مسَّه جسدُه صلى الله عليه وسلم، فهذه التبرُّك بها سائغ، وقد تقدَّم الكلام فيها قريباً، وقد ظفر بذلك الصحابة رضي الله عنهم، ومَن وصلَه شيءٌ منها من التابعين ومَن بعدهم، وبعد ذلك انقرضت، ولَم يكن لها وجود على الحقيقة، ولا مجال للتعلق بها.
وتقدَّم أيضاً أنَّ هذا من خصائصه؛ لِمَا جعل الله فيه من البركة، وغيرُه صلى الله عليه وسلم لا يُقاس عليه، ولهذا لَم يفعل الصحابة رضي الله عنهم مثلَ ذلك مع خيارهم، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لا في حياته ولا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد أشار(9/18)
ص -20- ... إلى هذا الإمام البخاري رحمه الله، حيث عقد "باب صبِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَضوءَه على مغمى عليه"، وساق الحديث (194) عن جابر رضي الله عنه قال: "جاء رسول الله يعودني وأنا مريض لا صلى الله عليه وسلم أعقل، فتوضَّأ وصبَّ عليَّ من وَضوئه، فعقلت، فقلت: يا رسول الله! لِمَن الميراث، إنَّما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض"
فتعبيره رحمه الله في الترجمة بـ "صبِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَضوءه على مغمى عليه" إشارة إلى أنَّه من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يقل: باب صبِّ الإمام أو العالِم أو الكبير أو الزائر وَضوءه على مغمى عليه.
وقد ذكر الشاطبي في كتاب الاعتصام (2/6): "أنَّه ثبت في الصحاح عن الصحابة رضي الله عنهم أنَّهم يتبرَّكون بأشياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري عن أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: خَرَج علينا(9/19)
ص -21- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوَضوئه فتوضَّأ، فجعل الناسُ يأخذون من فضل وَضوئه فيتمسَّحون به، الحديث، وفيه: كان إذا توضَّأ يقتتلون على وَضوئه، وعن المِسْوَر رضي الله عنه في حديث الحديبية: "وما انتخم النَّبيُّ صلى الع عليه وسلم نخامة إلاَّ وقعت في كفِّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلدَه""، ثم قال: "فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعاُ في حقِّ مَن ثبتت ولايته واتِّباعه لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يتبرَّك بفضل وَضوئه، ويتدلَّك بنخامته، ويُستشفى بآثاره كلِّها، ويُرجى نحو مِمَّا كان في آثار المتبوع الأصل صلى الله عليه وسلم"
ثم ذكر أنَّ هذا الاحتمال لقياس غيره صلى الله عليه وسلم عليه في التبرُّك به عارضه أصلٌ مقطوع به، فقال: "إلاَّ أنَّه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، مشكل في تنزيله، وهو أنَّ الصحابة رضي الله عنهم(9/20)
ص -22- ... بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى مَن خَلفَه؛ إذ لَم يترك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعده في أمَّته أفضلَ من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفتَه، ولَم يُفعل به شيء من ذلك ولا عمر رضي الله عنهما، وهو كان أفضل الأمَّة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمَّة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أنَّ متبرِّكاً تبرَّك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فهذا إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء.
وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يعتقدوا فيه الاختصاص، وأنَّ(9/21)
ص -23- ... مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير ... فصار هذا النوع مختصًّا به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بُضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات وشبه ذلك، فعلى هذا المأخذ لا يصح لِمَن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومَن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.
الثاني: أن لا يعتقدوا الاختصاص، ولكنَّهم تركوا ذلك من باب الذرائع؛ خوفاً من أن يجعل ذلك سنة كما تقدَّم ذكره في اتباع الآثار والنهي عن ذلك، أو لأنَّ العامَّة لا تقتصر في ذلك على حدٍّ، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة حتى يداخلها للمتبرَّك به تعظيم يخرج به عن(9/22)
ص -24- ... الحدِّ، فربَّما اعتقد في التبرُّك به ما ليس فيه، وهذا التبرُّك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو كان أصلَ عبادة الأوثان في الأمم الخالية، حسبما ذكره أهل السير ..."
ولا تأثير للشك بتنزيل المنع على أحد الوجهين المذكورَين؛ لأنَّ كلاًّ منهما مقتض ترك التبرُّك بغيره صلى الله عليه وسلم، وسواء عُلِّل التركُ بهذا أو بهذا فالنتيجة واحدة، وما أشار إليه الشاطبي رحمه الله من تقدُّم ما ذكره في اتِّباع الآثار والنهي عن ذلك تقدَّم ذكرُه عنده في (1/285).
وقال: الإمام محمد بن وضاح القرطبي في كتابه البدع والنهي عنها (ص:91 ـ 92): "وكان مالك بن أنس وغيرُه من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما عدا(9/23)
ص -25- ... قباء وأُحداً، قال ابن وضاح: وسمعتهم يذكرون أنَّ سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلَّى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيرُه أيضاً مِمَّن يُقتدى به، وقدِم وكيعٌ أيضاً مسجد بيت المقدس فلَم يَعْدُ فِعْلَ سفيان، قال ابن وضاح: فعليكم بالإتباع لأئمَّة الهدى المعروفين، فقد قال بعضُ مَن مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى، ومتحبِّب إليه بما يبغضه عليه، ومتقرِّب إليه بما يُبعدُه منه، وكلُّ بدعة عليها زينة وبهجة"
وقوله: "كلُّ بدعة عليها زينة وبهجة" يعني: أنَّ الشيطان يزيِّنها للناس حتى يقعوا فيها.
وقال شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/353 ـ 354) في بيان أنَّه لا يُتبرَّك بغيره صلي الله عليه وسلم قياساً عليه، قال:(9/24)
ص -26- ... "ولا شكَّ أنَّ هذا تبرُّك خاصٌّ بالنَّبيِّ صلي الله عليه وسلم ولا يُقاس عليه غيرُه لأمرين:
الأول: ما جعله الله سبحانه في جسده وشعره من البركة التي لا يلحقه فيها غيرُه.
الثاني: أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم لَم يفعلوا ذلك مع غيره، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من كبار الصحابة، ولو كان غيرُه يُقاس عليه لفعله الصحابةُ مع كبارهم الذين ثبت أنَّهم من أولياء الله المتَّقين، بشهادة النَّبيِّ صلي الله عليه وسلم لهم بالجنَّة )).
وقال أيضاً رحمه الله تعليقاً على قول ابن حجر في فتح الباري (1/327): "وفي هذا الحديث من الفوائد ... وتحنيك المولود والتبرُّك بأهل الفضل"، قال: "هذا فيه نظر، والصواب أنَّ ذلك خاصٌّ بالنَّبيِّ صلي الله عليه وسلم ولا يُقاس عليه غيرُه؛ لِمَا جعل الله فيه من البركة وخصَّه به دون غيره، ولأنَّ الصحابةَ(9/25)
ص -27- ... رضي الله عنهم لَم يفعلوا ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بالشرع، فوجب التأسِّي بهم، ولأنَّ جواز مثل هذا لغيره صلى الله عليه وسلم قد يُفضي إلى الشرك، فتنبَّه!".
ومن الآثار السيِّئة للتعلُّق بالآثار والافتتان بمَن يُدَّعى فيهم الولاية وتعظيم أضرحتهم، ما ذكره عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروسي في كتابه النور السافر عن أخبار القرن العاشر، في ترجمة أبي بكر بن عبد الله العيدروس المتوفى سنة (914هـ)، قال في (ص: 79 ـ 80): "وأمَّا كراماته فكثيرة كقطر السحاب، لا تدرك بعَدٍّ ولا حساب، ولكن أذكر منها على سبيل الإجمال دون التفصيل، ثلاث حكايات تكون كالعنوان على باقيها بالدلالة والتمثيل، منها:
أنَّه لَمَّا رجع من الحجِّ دخل زيلع، وكان الحاكم(9/26)
ص -28- ... بها يومئذ محمد بن عتيق، فاتفق أنَّه ماتت أمُّ ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفاً بها، فكاد عقلُه يذهب بموتِها، فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدَّة الجزع؛ ليُعزِّيه ويأمره بالصبر والرضاء بالقضاء، وهي مُسجاة بين يدي الحاكم بثوبٍ، فعزَّاه وصبَّره، فلَم يُفِد فيه ذلك، وأكبَّ على قدم سيِّدي الشيخ يُقبِّلُها، وقال: يا سيدي! إن لَم يُحيي الله هذه متُّ أنا أيضاً، ولَم تبق لي عقيدة في أحد، فكشف سيِّدي وجهَها، وناداها باسمِها، فأجابته: لبَّيك! وردَّ اللهُ روحَها، وخرج الحاضرون، ولَم يَخرج سيدي الشيخ حتى أكلتْ مع سيِّدها الهريسةَ، وعاشت مدَّة طويلة!!!
وعن الأمير مرجان أنَّه قال: كنتُ في نفرٍ من أصحاب لي في محطَّة صنعاء الأولى، فحمل علينا العدوُّ، فتفرَّق عنِّي أصحابي، وسقط بي فرسي(9/27)
ص -29- ... لكثرة ما أُثخن من الجراحات، فدار بِي العدوُّ حينئذٍ من كلِّ جانب، فهتفتُ بالصالِحين، ثمَّ ذكرتُ الشيخ أبا بكر رضي الله عنه، وهتفتُ به، فإذا هو قائمٌ، فو الله العظيم! لقد رأيتُه نهاراً وعاينتُه جهاراً، أخذ بناصيتِي وناصية فرسي، وشلَّنِي من بينهم حتى أوصَلَنِي المحطة، فحينئذ مات الفرس، ونجوتُ أنا ببَرَكتِه رضي الله عنه ونفع به!!!
وعن المُريد الصادق نعمان بن محمد المهدي أنَّه قال: بينما نحن سائرون في سفينةٍ إلى الهند، إذ وقع فيها خرقٌ عظيمٌ، فأيقَنوا بالهلاك، وضجَّ كلٌّ بالدعاء والتضرُّع إلى الله تعالى، وهتف كلٌّ بشيخِه، وهتفتُ أنا بشيخي أبي بكر العيدروس رضي الله عنه، فأخذتنِي سِنَة، فرأيتُه داخل السفينة، وبيده منديلٌ أبيض، وهو قاصدٌ نحو الخَرْق، فانتبهتُ فرحاً مسروراً، وناديتُ بأعلى صوتِي: أنْ أَبشِروا يا أهل السفينة(9/28)
ص -30- ... ! فقد جاء الفرَج، فقالوا: ماذا رأيتَ؟ فأخبرتُهم، فتفقَّدوا الخَرْقَ، فوجدوه مسدوداً بمنديل أبيض كما رأيتُ، فنجونا ببركته رضي الله عنه ونفع به" اهـ.
ومن المفتونين بالآثار المكانية غير المشروعة والدعوة إلى المحافظة عليها الأستاذ يوسف هاشم الرفاعي من الكويت، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي من الشام، فقد سوَّد الأول أوراقاً زعمها نصيحة لعلماء نجد، دعا فيها إلى كثير من أنواع البدع والضلال، ومنها الدعوة إلى المحافظة على الآثار المكانية غير المشروعة، وقدَّم الثاني للنصيحة المزعومة بمقدمة طويلة، أيَّده على ما فيها من أنواع البدع والضلال، وقد كتبت ردًّا عليهما صدر في عام (1421هـ) بعنوان: "الردُّ على الرفاعي والبوطي في كذبهما على أهل السنة(9/29)
ص -31- ... ودعوتهما إلى البدع والضلال"، وقد جاء في آخر هذا الردِّ ما يلي:
للكاتب شغفٌ عظيمٌ بالآثار المكانية التي تُنسبُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كمكان مولِده صلى الله عليه وسلم، والبئر التي سقط فيها خاتَمُه صلى الله عليه وسلم، ومكان مَبرك ناقته صلى الله عليه وسلم في قباء عند قدومِه في هجرتِه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وغير ذلك.
ويَعتِب بشدَّة على مَن زعم نُصحَهم؛ لعدمِ الاهتمامِ بذلك والمحافظةِ عليه، ويستدلُّ للمحافظة على مثل هذه الآثار بقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}، وبِما جاء في قصَّة طالوت: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
قال: "وقال المفسِّرون: إنَّ البقيَّةَ المذكورة هي(9/30)
ص -32- ... عَصاة موسى ونعليه (كذا) و... إلخ".
وبالإشارةِ إلى الأحاديث الصحيحة الواردة فيما يتعلَّق بآثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم واهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بها المذكورة في ثنايا أبواب صحيح البخاري.
والجواب عن الدليل الأول: أنَّ اتِّخاذ مقام إبراهيم مُصلَّى دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، ولا دلالة فيه للكاتب على المحافظة على الآثار التي ذكرها؛ لأنَّ الآيةَ في اتِّخاذ المقام مصلَّى، ولا يصحُّ القياس عليه.
وأيضاً فإنَّ اتِّخاذ المقام مصلَّى مِمَّا أشار به على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه فنزلت الآيةُ في ذلك.
وعمرُ رضي الله عنه هو الذي جاء عنه المنعُ من التعلُّق بمثلِ هذه الآثار؛ لأنَّه هو الذي أَمر بقطع الشجرة(9/31)
ص -33- ... التي حصلت تحتها بيعةُ الرِّضوان، ولأنَّه جاء في الأثر عن المعرور بن سُويد قال: "كنتُ مع عمر بين مكة والمدينة، فصلَّى بنا الفجر، فقرأ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} ثمَّ رأى قوماً ينزلون فيُصلُّون في مسجد، فسأل عنهم، فقالوا: مسجدٌ صلَّى فيه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّما
هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتَّخذوا آثارَ أنبيائِهم بِيَعاً، مَن مرَّ بشيءٍ من المساجد فحضرَت الصلاة فليُصلِّ، وإلاَّ فلْيَمضِ ))، رواه عبد الرزاق (2/118 ـ 119)، وأبو بكر بن أبي شيبة (2/376 ـ 377) بإسنادٍ صحيح.
والجوابُ عن الدليل الثاني: أنَّ البقيَّةَ المذكورة في الآية لو صحَّ تفسيرُها بِما ذُكر، فإنَّه لا دلالة فيها على التعلُّق بالآثار؛ لأنَّ النَّهيَ عن التعلُّق بالآثار ثبت عن عمر، كما مرَّ آنفاً، وفيه: "إنَّما(9/32)
ص -34- ... هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتَّخذوا آثار أنبيائِهم بيَعاً"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ".
والجواب عن الدليل الثالث: أنَّ الأحاديث الواردة في صحيح البخاري وغيره تدلُّ على تبرُّك الصحابة بعَرَق النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وفَضل وَضوئه وشعرِه، وغير ذلك مِمَّا مَسَّ جسدَه صلى الله عليه وسلم، وكلُّ ذلك ثابتٌ، وقد حصل للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأمَّا الآثار المكانيَّة، فقد مرَّ في أثر عمر رضي الله عنه ما يدلُّ على منع التعلُّق بها.
ونَهيُ عمر رضي الله عنه عن التعلُّق بآثار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المكانيَّة التي لَم يأتِ بها سُنَّةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنَّما كان لِما يُفضي إليه ذلك من الغلُوِّ والوقوع في المحذور.(9/33)
ص -35- ... ومِمَّا يُوضِّح ذلك أنَّ الكاتبَ ـ وقد افتُتِن بالآثار ـ أدَّاه افتتانُه بها إلى الإشادةِ بالبناء على القبور، وقد جاء تحريمه في السُّنَّة، وقد مرَّ ذكرُ إشادتِه بمشهد العيدروس بعَدَن، ووصفِه قبَّته بأنَّها مباركة.
بل أدَّاه افتتانُه بالآثار أن عاب على مَن زعم نُصحَهم عدم محافظتهم على أثر مَبرَك ناقة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "كان هناك أثر (مبرك الناقة) ناقة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في مسجد (قباء) يوم قدومه مُهاجراً إلى المدينة في مكان نزل فيه قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، فأزَلتُم هذا الأثر، وكنَّا نُشاهدُه حتى وقتٍ قريب!!".
ويُقال للكاتب: مِن أين لكَ وجود مكان هذا المَبرك، وبقاؤه إلى هذا الزمان؟(9/34)
ص -36- ... إنَّ ذلك لا يتأتَّى إلاَّ لو ثبت أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أحاطه بجدار، وتوارثه الخلفاءُ الرَّاشدون ومَن بعدهم إلى هذا الوقت، وأنَّى ذلك؟!!
ومعلومٌ أنَّ خلافةَ عمر رضي الله عنه تزيدُ على عشر سنين، ومقرُّها المدينة، وهو الذي أمر بقطع الشجرة التي في الحديبية قُرب مكة، وهو الذي نهى عن تتبُّع آثار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المكانيَّة التي لَم تأت بها سُنَّة، كما مرَّ في الأثر قريباً، فهل من المعقول أن يَمنَعَ عمرُ رضي الله عنه من آثار بعيدة عن المدينة ويُبْقِى على أثر مَبرك الناقة الذي زعمه الكاتب، وهو عنده في المدينة؟!!
ولَم يقف الكاتبُ عند حدِّ الرَّغبة في المحافظة على الآثار المكانيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم التي لَم يأت فيها سُنَّة، بل تعدَّاه إلى الرغبة في بقاءِ أثرٍ وُجد في عصرٍ متأخِّرٍ، فقال وهو يعِيبُ مَن زعم نُصحَهم: "وهدَمتُم بجوار بيتِ أبي أيُّوب(9/35)
ص -37- ... الأنصاري رضي الله عنه مكتبةَ شيخ الإسلام (عارف حكمت) المليئة بالكتب والمخطوطاتِ النَّفيسة، وكان طرازُ بنائها العثماني رائعاً ومُمَيَّزاً!! هدمتُم كلَّ ذلك في حين أنَّه بعيدٌ عن توسعةِ الحرَم، ولا علاقةَ له بها!!".
وهذه نتيجة الشَّغَف بالآثار!
وموقعُ المكتبة المُشار إليها بينه وبين الجدار الأمامي لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بضعةُ أمتار، وهو الآن ضمن ساحات المسجد.
والكتب التي فيها، الاستفادةُ منها قائمةٌ؛ لأنَّ المكتبات الموجودة بالمدينة ـ ومنها هذه المكتبة ـ جُمعت في مكتبة واحدة قرب المسجد النبوي، وهي مكتبة الملك عبد العزيز.
هذا ولَم يقِف الكاتبُ عند حدِّ العتب واللَّوم لِمَن زعم نصحَهم؛ لعدم المحافظة على الآثار(9/36)
ص -38- ... المكانية للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي لَم تأتِ به سُنَّة، بل تعدَّاه إلى وصفِهم بأنَّهم يكرهون النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم!
ولا أدري هل شَعر الكاتبُ أو لَم يشعُر أنَّ مَن يكره الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم لا يكون مسلماً، بل يكون كافراً؟!
وسبق للكاتب أنَّ مَن زعم نُصحَهم يتَّهمون المسلمين بالشرك، وأنَّهم يُكفِّرون الصوفيَّة قاطبة، وأنَّهم يُكفِّرون الأشاعرة، وذلك كذبٌ عليهم، وهم برآء منه، وهنا يصف مَن زعم نصحَهم ـ زوراً وبُهتاناً ـ بأنَّهم يكرهون النَّبيَّ، ولا شكَّ أنَّ ذلك كفرٌ، نعوذ بالله من الكفر والشرك والنفاق.
ثمَّ مِمَّا ينبغي أن يُعلَم أنَّ الصحابةَ الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم ومن تبعهم بإحسانٍ لَم يكونوا يذهبون إلى الآثار المكانية التي لَم يأت بها سُنَّة، كمكان مولده صلى الله عليه وسلم، ومكان مَبْرَك الناقة(9/37)
ص -39- ... المزعوم، ولو كان خيراً لسبقوا إليه.
فلَم يكونوا يحافظون على مثل هذه الآثار، وإنَّما كانوا يحافظون على آثارٍ أُخرى، وهي الآثارُ الشرعيَّةُ التي هي حديثُه صلى الله عليه وسلم المشتمل على أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، ويحافظون على فعل السُّنن وترك البدع ومحدثاتِ الأمور، ولقد أحسن مَن قال:
دين النبي محمد أخبار ... نعم المطيَّةُ للفتى آثارُ
لا ترغَبنَّ عن الحديث وأهلِه ... فالرأيُ ليْلٌ والحديثُ نهارُ
ولَرُبَّما جهل الفتى أثرَالهُدى ... والشَّمسُ بازغَةٌ لَها أنوارُ
وقال آخر:
الفقهُ في الدين بالآثار مقترن فاشغَل زمانَك في فقهٍ وفي أثَرِ(9/38)
ص -40- ... فالشغل بالفقة والآثار مرتفع ... بقاصد الله فوق الشمسوالقمرِ
ومقدِّمة الدكتور البوطي لأوراق الأستاذ الرفاعي تشتمل على الثناء على الرِّفاعي، وموافقته على كلِّ ما في نصيحتِه المزعومة المسمومة، وعلى وَصْفها بأنَّها (تذكرة هادئة، ولطيفة في أسلوبها!!).
وتشتملُ على الغلوِّ في الآثار المكانيَّة التي لَم يأت بها سنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وزعم أنَّ القرون الثلاثة وما بعدها إلى هذا الوقت مُجمعةٌ على التبرُّك بهذه الآثار، وأنَّه لَم يُخالِف في ذلك إلاَّ علماء نجد المزعوم نُصحهم، وأنَّ ذلك بدعة.
ومن قوله في ذلك: "ولا نشكُّ في أنَّهم يعلمون كما نعلم أنَّ عصورَ السلف الثلاثة مرَّت شاهدة بإجماع على تبرُّك أولئك السلف بالبقايا التي تذكِّرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، من دار ولادتِه، وبيت(9/39)
ص -41- ... خديجة رضي الله عنها، ودار أبي أيوب الأنصاري التي استقبلته فنزل فيها في أيامه الأولى من هجرتِه إلى المدينة المنورة، وغيرها من الآثار كبئر أَريس، وبئر ذي طوى، ودار الأرقم ثم إنَّ الأجيالَ التي جاءت فمرَّت على أعقاب ذلك كانت خيرَ حارسٍ لَها، وشاهد أمين على ذلك الإجماع"
وتشتملُ أيضاً على اتِّهام المزعوم نُصحهم بـ
"تكفير سواد هذه الأمة بحجَّة كونهم أشاعرة أو ماتريديين!"
وتشتملُ أيضاً على الإنكار على علماء نجد في تحذيرِهم من الغلُوِّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُفرِّق بين الغُلُوِّ والإطراء، فيَمنعُ الإطراءَ ويُجيزُ الغلُوَّ، قال: "ولو قلتُم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم" لكان كلاماً مقبولاً، ولكان ذلك نصيحةً غاليةً.(9/40)
ص -42- ... أمَّا الحبُّ الذي هو تعلُّق القلب بالمحبوب على وجه الاستئناس بقُربِه والاستيحاش من بُعده، فلا يكون الغلوُّ فيه ـ عندما يكون المحبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إلاَّ عنواناً على مزيدِ قُربٍ من الله!! وقد علمنا أنَّ الحبَّ في الله من مُستلزمات توحيد الله تعالى، ومهما غلا مُحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُبِّه له أو بالَغ، فلن يصِل إلى أَبعد من القَدْر الذي أَمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم!!! إذ قال فيما اتَّفق عليه الشيخان: "لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من مالِه وولدِه والناس أجمعين"، وفي رواية للبخاري: "ومن نفسه" ".
والجواب: على ذلك أن نقول:
أولاً: أمَّا ثناء البوطي على الرفاعي فيصدق على المثنِي والمثنَى عليه قول الشاعر:(9/41)
ص -43- ... ذهب الرِّجال المُقتدَى بفعالِهم ... والمنكرون لكلِّ فعل منكرِ
وبقيتُ في خَلْف يُزكِّي بعضُهم ... بعضاً ليدفع معور عن معور
ثانياً: إنَّ وصفَ البوطي لنصيحة الرِّفاعيِّ المزعومة بـ (أنَّها تذكرة هادئة، وأنَّها لطيفة في أسلوبها!!) بعيدٌ عن الحقيقة والواقع؛ يتَّضحُ ذلك بالوقوف على بعض الجُمل التي أوردتُها من كلام الرِّفاعيِّ، ففيها الكذب والجفاء.
ثالثاً: وأمَّا موافقتُه للرِّفاعي فيما جاء في أوراقه، فإنَّ كلَّ ما تقدَّم في الردِّ على الرِّفاعي هو ردٌّ على البوطي.
رابعاً: وأمَّا إجماع العصور الثلاثة وما بعدها الذي زعمه البوطي على التبرُّك بآثار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المكانيَّة، كمكان مولدِه وبئر أريس التي سقط فيها(9/42)
ص -44- ... خاتَمُه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فلا يتأتَّى له إثبات هذا الإجماع، بل ولا إثبات القول به عن واحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم!
وأيُّ إجماعٍ يُزعمُ من الصحابة ومَن بعدهم على ذلك، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه الأمر بقطع شجرة بيعة الرضوان في الحديبية قرب مكة، وجاء عنه أيضاً التحذيرُ من التعلُّق بمثل هذه الآثار، وقال:
"إنَّما هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتَّخذوا آثار أنبيائهم بِيَعاً"؟! كما مَرَّ ثبوت ذلك عنه في مصنَّفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة.
خامساً: وأمَّا زعمه بأنَّه لَم يُخالف هذا الإجماعَ المزعوم إلاَّ علماءُ نجد، فغيرُ صحيح؛ لأنَّ كلَّ متَّبع للكتاب والسُّنَّة وما كان عليه سلف الأُمَّة يقول بهذا الذي ثبت عن عمر رضي الله عنه، وهم في هذا العصر كثيرون، منتشرون في الأقطار المختلفة، ومنها(9/43)
ص -45- ... الكويت والشام التي منها الرفاعي والبوطي!
سادساً: وأمَّا زعمه أنَّ المزعومَ نُصحهم يُكفِّرون سوادَ الأُمَّة بحُجَّة كونهم أشاعرةً أو ماتريديِّين، فهو كذبٌ منه وافتراءٌ، كما أنَّه كذبٌ وافتراءٌ من الرفاعي، وقد مرَّ الردُّ عليه.
وأزيد هنا فأقول: إنَّ الفِرَقَ الواردةَ في قوله صلى الله عليه وسلم: "ستفترِقُ هذه الأُمَّة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة" الحديث، هم من المسلمين؛ لأنَّ أُمَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتان: أمَّة الدعوة، يدخل فيها اليهود والنصارى، وكلُّ إنسيٍّ وجِنِّي من حين بِعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة.
وأمَّةُ الإجابة: وهم الذين دخلوا في هذا الدِّين، وفيهم الفِرق المذكورة في الحديث، وكلُّ هذه الفِرَق مسلمون مُستحقُّون للعذاب بالنَّار، سوى فرقةٍ واحدة، وهي مَن كان على ما كان عليه الرسول(9/44)
ص -46- ... صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم.
سابعاً: وأمَّا تفريقُه بين الإطراءِ والغُلُوِّ، ومَنعُه الأولَ وتجويزُه الثاني، فهو من التفريقِ بين متماثِلَين، وكما أنَّ النَّهيَ جاء عنه صلى الله عليه وسلم عن الإطراء، فإنَّ الغُلُوَّ جاء فيه النَّهيُ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}، وقد لَقَطَ ابنُ عبَّاسٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصَى الجِمار، وهنَّ مثل حصى الخذف، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يَرموا بمِثلِها، قال: "وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّين، فإنَّما أهلَكَ مَن كان قبلكم الغلُوُّ في الدِّين"، وهو حديث صحيح، أخرجه النسائيُّ وغيرُه.
ومعلومٌ أنَّ مَحبَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يجبُ أن تكون في قلب كلِّ مسلم أعظمَ من مَحبَّته لنفسِه وأهله والناس أجمعين، لكن لا يجوز فيها الغُلُوُّ الذي قد(9/45)
ص -47- ... يُؤدِّي إلى أن يُصرَف إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ من حقِّ الله، كالذي حصل للبوصيريِّ في أبياتِه التي أشرتُ إليها فيما تقدَّم في الردِّ على الرفاعي.
وليت شعري! ما الذي سوَّغ للبوطيِّ تجويز الغلوِّ في محبَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من أعظم أُسُس الدِّين، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدِّم آنفاً: "وإيَّاكم والغلو في الدِّين، فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين"؟!
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يهدي مَن ضلَّ من المسلمين سبل السلام، وأن يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن يوفِّق المسلمين جميعاً للفقه في الدِّين والثبات على الحقِّ، إنَّه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/46)
عنوان الكتاب:
الحث على اتباع السنة والتحذير من البدع وبيان خطرها
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
مطبعة سفير
الأولى، 1425هـ(10/1)
ص -3- ... الحث على اتباع السنة والتحذير من البدع وبيان خطرها
تأليف: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له،وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدِّين كلِّه، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة،وجاهد في الله حقَّ جهاده، اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وسلك سبيله إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فإنَّ نعمَ الله عزَّ وجلَّ على عباده كثيرة لا تُعدُّ ولا تُحصى، وأجلُّ نعمة أنعم الله بها على الإنس والجنِّ في آخر الزمان أن بعث فيهم رسولَه(10/2)
ص -4- ... الكريم محمداً عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم، فبلَّغهم ما أُرسل به إليهم من ربِّهم على التمام والكمال، وقد قال الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله: "مِن الله عزَّ وجلَّ الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ،وعلينا التسليم" ،ذكره البخاري عنه في أول باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} من كتاب التوحيد من صحيحه (13/503 ـ مع الفتح).
فالذي من الله الرسالة،وقد حصل ذلك،كما قال الله عزَّ وجلَّ {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(10/3)
ص -5- ... والذي على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو البلاغ قد حصل على أكمل الوجوه وأتمِّها، كما قال الله عزَّ وجلَّ {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
وأمَّا الذي على العباد وهو التسليم والانقياد، فقد انقسم الناس فيه إلى موفَّق متَّبع لسبيل الحقِّ،وغير موفَّق متَّبع للسبل الأخرى، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
من صفات الشريعة البقاء والعموم والكمال
وهذه الشريعة التي بعث الله بها رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم متصفةٌ بثلاث صفات، هي البقاء والعموم والكمال، فهي باقية إلى قيام الساعة،قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ(10/4)
ص -6- ... وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، وروى البخاري (71) ومسلم (1037) عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدِّين، وإنَّما أنا قاسمٌ والله يُعطي، ولن تزال هذه الأمَّةُ قائمةً على أمر الله، لا يضرُّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".
وهي عامَّة للثقلَين الجن والإنس،وهم أمَّتُه صلى الله عليه وسلم أمَّة الدعوة، فإنَّ كلَّ إنسيٍّ وجنيٍّ من حين بعثته إلى قيام الساعة مدعوٌّ إلى الدخول في الدِّين الحنيف الذي بعث الله به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، ففي هذه الآية الكريمة الإشارة إلى أمَّة الدعوة وأمَّة الإجابة، فأمَّة الدعوة في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ}، أي: يدعو كلَّ أحد، فحُذف المفعول لإفادة العموم، وأمَّة(10/5)
ص -7- ... الإجابة في قوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فإنَّ الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم هم الذين استجابوا لدعوته صلى الله عليه وسلم ودخلوا في دينه الحنيف، فكانوا من المسلمين، وحصول الهداية لأمَّة الإجابة إنَّما هو بفضل الله وتوفيقه، وهذه الهداية إلى الصراط المستقيم توفيق من الله لِمَن هداهم، ولا يملك هذه الهداية إلاَّ الله سبحانه، كما قال الله عزَّ وجلَّ {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وأمَّا هداية الدلالة والإرشاد، فقد أثبتها الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، أي: تدلُّ وتُرشد، ومن أدلَّة شمول دعوته صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً قول الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثم(10/6)
ص -8- ... يموت ولم يؤمن بالذي أُرسِلتُ به إلاَّ كان من أصحاب النار" رواه مسلم في صحيحه (153)، ومصداق ذلك في كتاب الله، كما جاء عن سعيد ابن جُبير ـ رحمه الله ـ في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، ذكره عنه ابن كثير في تفسيره هذه الآية من سورة هود.
ومن أدلَّة شمول دعوته للجنِّ قوله الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ(10/7)
ص -9- ... مُبِينٍ}، وقال الله عزَّ وجلَّ في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، وهي خطاب من الله للإنس والجنِّ، وقد ذُكِرت هذه الآية في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة.
وفي سنن الترمذي (3291) عن جابر رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أوَّلِها إلى آخرها فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجنِّ ليلة الجنِّ فكانوا أحسنَ مردوداً منكم؛ كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قالوا: لا بشيء من نعمك ربَّنا نكذِّب، فلك الحمد"، وله شاهد عن ابن عمر عند ابن جرير، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (2150)، ومن سور القرآن سورة الجن، وقد حكى الله فيها عنهم جُملاً من أقوالهم.
وأمَّا الصفة الثالثة من صفات هذه الشريعة،(10/8)
ص -10- ... وهي صفة الكمال، فقد قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاَّ هالك" حديث صحيح، رواه ابن أبي عاصم في السنة (48) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، ورواه أيضاً (47) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ، وفي صحيح مسلم (262) عن سلمان رضي الله عنه قال: قيل له: "قد علَّمكم نبيُّكم صلى الله عليه وسلم كلَّ شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم"، وهو يدلُّ على كمال الشريعة واستيعابها لكلِّ ما تحتاجه هذه الأمَّة، حتى آداب قضاء الحاجة، وفي صحيح مسلم(10/9)
ص -11- ... أيضاً (1844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّه لم يكن نبيٌّ قبلي إلاَّ كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمَّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم"، وروى البخاري في صحيحه (5598) عن أبي الجويرية قال: "سألتُ ابنَ عباس عن الباذق، فقال: سبق محمد صلى الله عليه وسلم الباذق، فما أسكر فهو حرام، قال: الشراب الحلال الطيب، قال: ليس بعد الحلال الطيب إلاَّ الحرام الخبيث"، والباذق نوعٌ من الأشربة، والمعنى أنَّ الباذق لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولكن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مستوعب له ولغيره، وذلك في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر فهو حرام"، فإنَّ عموم هذا الحديث يدلُّ على أنَّ كلَّ مسكر مِمَّا كان في زمنه صلى الله عليه وسلم أو وُجد بعد زمنه، سواء كان سائلاً أو جامداً، فهو حرام، وأنَّ ما لم يكن كذلك(10/10)
ص -12- ... فهو حلال، ويُقال في شرب الدخان الذي وُجد في أزمنة متأخرة ما قيل في الباذق، وهو أنَّ الشريعة بعموماتها دالَّةٌ على تحريمه، وذلك في قوله سبحانه وتعالى عن نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، وهو ليس من الطيبات، بل هو من الخبائث، فيكون محرَّماً، ويُضاف إلى ذلك أيضاً أنَّه يجلب الأمراض التي تؤدِّي إلى الوفاة، وفيه إضاعة المال، وإيذاء الناس برائحته الكريهة، وكلُّها دالَّةٌ على تحريمه، وقال أبو ذررضي الله عنه: "ترَكَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلاَّ عندنا منه علم" أخرجه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه (65)، وقال: "معنى (عندنا منه) يعني بأوامره ونواهيه وأخباره وأفعاله وإباحته صلى الله عليه وسلم"، صححه الشيخ الألباني في صحيح موارد الظمآن في زوائد ابن حبان للهيثمي (1/119)، ومن العلم الذي(10/11)
ص -13- ... عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطير ما رواه مسلم في صحيحه (1934) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلِّ ذي ناب من السِّباع، وعن كلِّ ذي مخلب من الطير"، وهو يدلُّ على تحريم أكل كلِّ طائر له مخلب يفترس به، وذلك من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهذا في الأحكام، وأمَّا الأخبار، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم، وقال الترمذي "حسن صحيح"، وهو أحد الأحاديث التي زادها ابن رجب على الأربعين النووية.
قال الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين (4/375 ـ 376) في بيان كمال الشريعة، قال: "وهذا الأصل من أهمِّ الأصول وأنفعها، وهو(10/12)
ص -14- ... مبنيٌّ على حرف واحد، وهو عمومُ رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كلِّ ما يحتاج إليه العبادُ في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنَّه لَم يُحْوِج أمَّتَه إلى أحد بعده، وإنَّما حاجتهم إلى مَن يبلِّغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرَّق إليهما تخصيصٌ؛ عمومٌ بالنسبة إلى المرسَل إليهم، وعمومٌ بالنسبة إلى كلِّ ما يَحتاج إليه مَن بُعث إليه في أصول الدِّين وفروعه، فرسالتُه كافيةٌ شافيةٌ عامَّة، لا تحوج إلى سواها، ولا يتمُّ الإيمانُ به إلاَّ بإثبات عمومِ رسالته في هذا وهذا، فلا يَخرج أحدٌ من المكلَّفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحقِّ الذي تحتاج إليه الأمَّة في علومها وأعمالها عمَّا جاء به، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يقلِّب جناحيه في السَّماء إلاَّ ذكَر للأمَّة منه علماً وعلَّمهم كلَّ شيء حتى آداب التخلِّي وآدابَ الجِماع والنوم،(10/13)
ص -15- ... والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسَّفر والإقامة، والصَّمت والكلام، والعُزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووَصَفَ لهم العرشَ والكرسيَّ، والملائكة والجنَّ، والنار والجنة، ويوم القيامة وما فيه حتى كأنَّه رأيُ عَين، وعرَّفهم معبودَهم وإلَههم أتمَّ تعريف، حتى كأنَّهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعرَّفهم الأنبياء وأمَمَهم وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم، حتى كأنَّهم كانوا بينهم، وعرَّفهم مِن طُرق الخير والشرِّ دقيقَها وجليلَها ما لَم يعرِّفه نبيٌّ لأمَّته قبله، وعرَّفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النَّعيم والعذاب للروح والبدن، ما لَم يعرِّف به نبيٌّ غيرَه، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم من أدلَّةَ التوحيد والنبوة(10/14)
ص -16- ... والمعاد، والردَّ على جميع فرق أهل الكفر والضلال، ما ليس لِمَن عرفه حاجة مِن بعده، اللهمَّ إلاَّ إلى مَن يبلِّغه إياه ويبيِّنه ويوضح منه ما خفي عليه، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم مِن مَكايد الحروب ولقاء العدوِّ وطرُق النَّصر والظَّفَر ما لو عَلِموه وعقِلُوه ورعَوْه حقَّ رعايَتِه لَم يقم لَهم عدوٌّ أبداً، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم مِن مكايد إبليس وطرُقِه التي يأتيهم منها، وما يتحرَّزون به مِن كيده ومَكرِه، وما يدفعون به شرَّه ما لا مَزيد عليه، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم مِن أحوال نفوسِهم وأوصافِها ودسائسِها وكمائِنها ما لا حاجة لهم مَعه إلى سِواه، وكذلك عرَّفهم صلى الله عليه وسلم مِن أمور مَعايشِهم ما لو عَلِموه وعمِلُوه لاستقامت لهم دنياهم أعظمَ استقامة.
وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برُمَّته، ولَم يُحْوِجْهُم الله إلى أحد سواه، فكيف يُظَنُّ أنَّ(10/15)
ص -17- ... شريعتَه الكاملةَ التي ما طرق العالَم شريعةٌ أكملَ منها ناقصةٌ، تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكمِّلها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارجٍ عنها، ومَن ظنَّ ذلك فهو كمَن ظنَّ أنَّ بالناس حاجةً إلى رسول آخَر بعده، وسبَبُ هذا كله خفاءُ ما جاء به على مَن ظنَّ ذلك، وقلَّةُ نصيبه مِن الفَهم الذي وفَّق الله له أصحابَ نبيِّه الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عمَّا سواه، وفتحوا به القلوبَ والبلادَ، وقالوا: هذا عهدُ نبيِّنا إلينا، وهو عهدُنا إليكم".
إطلاقات لفظ السنَّة
وهذه الشريعةُ الكاملةُ هي سنَّته صلى الله عليه وسلم بالمعنى العام؛ فإنَّ السنَّةَ تُطلقُ أربعة إطلاقات:
الأول: أنَّ كلَّ ما جاء في الكتاب والسنَّة هو سنَّته صلى الله عليه وسلم، وهي طريقتُه التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فمَن رغب عن سنَّتي فليس(10/16)
ص -18- ... منِّي" رواه البخاري (5063) ومسلم (1401).
الثاني: أنَّ السنَّة بمعنى الحديث، وذلك إذا عُطفت على الكتاب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيُّها الناس! إنِّي قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلَن تضلُّوا أبداً: كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم"، وقوله: "إنِّي قد تركت فيكم شيئين لن تضلُّوا بعدهما: كتاب الله وسنَّتي" رواهما الحاكم في مستدركه (1/93)، ومنه قول بعض العلماء عند ذكر بعض المسائل: وهذه المسألة دلَّ عليها الكتاب والسنَّة والإجماع.
الثالث: أنَّ السنَّة تُطلق في مقابل البدعة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: "فإنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛(10/17)
ص -19- ... فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" أخرجه أبو داود (4607) ـ وهذا لفظه ـ والترمذي (2676) وابن ماجه (43 ـ 44)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ومنه تسمية بعض المتقدِّمين من المحدثين كتبهم في العقيدة باسم (السنة)، مثل السنة لمحمد بن نصر المروزي، والسنة لابن أبي عاصم، والسنة للالكائي، وغيرها، وفي كتاب السنن لأبي داود كتاب السنة يشتمل على أحاديث كثيرة في العقيدة.
الرابع: أنَّ السنَّة تُطلق بمعنى المندوب والمستحب، وهو ما جاء الأمر به على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الإيجاب، وهذا الإطلاق للفقهاء، ومن أمثلته قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاة" رواه البخاري (887) ومسلم (252)، فإنَّ الأمرَ(10/18)
ص -20- ... بالسواك استحباباً حاصل، وإنَّما تُرك خشية المشقَّة على سبيل الإيجاب.
آياتٌ وأحاديث وآثار في اتِّباع السنن والتحذير من البدع والمعاصي
وقد ورد في كتاب الله آياتٌ كثيرة تدلُّ على الترغيب في اتِّباع ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والحث على ذلك والتحذير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الحق والهدى والوقوع في الشرك والبدع والمعاصي، فمِن ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقوله: {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}، وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ(10/19)
ص -21- ... أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال ابن كثير في تفسيره: "أي: عن أمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزَن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبل، وما خالفه فهو مردودٌ على قائله وفاعله كائناً من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي: فليحذر وليخش مَن خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}أي: في الدنيا بقتل أو حدٍّ أو حبس أو نحو ذلك".
وقال تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}،(10/20)
ص -22- ... قال ابن كثير في تفسيره: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كلِّ مَن ادَّعى محبَّةَ الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنَّه كاذبٌ في نفس الأمر حتى يتَّبع الشرعَ المحمدي والدِّينَ النَّبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ، إنَّما الشأن أن تُحَبَّ، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قومٌ أنَّهم يُحبُّون اللهَ فابتلاهم الله بهذه الآية فقال. : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وقال تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا(10/21)
ص -23- ... يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، وقال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا(10/22)
ص -24- ... وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}،(10/23)
ص -25- ... وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}، وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقال عن الجنِّ لَمَّا ولَّوا إلى قومهم منذرِين: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
وورد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديثُ عديدة تدلُّ على الترغيب في اتِّباع السنن والتحذير من البدع، وتبين خطرَها، منها:
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما(10/24)
ص -26- ... ليس منه فهو ردٌّ" رواه البخاري (2697) ومسلم (1718)، وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وهذه الرواية عند مسلم أعمُّ من الرواية الأخرى؛ لأنَّها تشمل مَن أحدث البدعة ومَن تابَعَ مَن أحدثها، وهو دليل على أحد شرطي قبول العمل، وهو اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ كلَّ عمل يُتقرَّب به إلى الله لا يكون مقبولاً عند الله إلاَّ إذا توفَّر فيه شرطان:
أحدهما: تجريد الإخلاص لله وحده، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلاَّ الله.
والثاني: تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مقتضى شهادة أنَّ محمداً رسول الله، قال الفضيل بن عياض كما في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (18/250) في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}: "أخلصُه وأصوَبُه، قال: فإنَّ العملَ إذا(10/25)
ص -27- ... كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنَّة"، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} قال: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}أي: ما كان موافقاً لشرع الله، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وهو الذي يُراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبَّل، لا بدَّ أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
2 ـ وقال العرباض بن ساريةرضي الله عنه: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قال قائل: يا رسول الله! كأنَّ هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال:(10/26)
ص -28- ... أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنَّه مَن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607) ـ وهذا لفظه ـ والترمذي (2676)، وابن ماجه (43 ـ 44)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن حصول الاختلاف قريباً من زمنه صلى الله عليه وسلم، وأنَّه يكون كثيراً، وأنَّ مَن عاش من أصحابه يرى ذلك، ثم أرشد إلى ما فيه العصمة والسلامة، وهو اتِّباع سنَّته وسنَّة الخلفاء الراشدين وترك البدع ومحدثات الأمور، فرغَّب في السنَّة وحثَّ عليها بقوله: "فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين"، ورهَّب من البدع والمحدثات(10/27)
ص -29- ... بقوله: "وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة".
3 ـ وروى مسلم في صحيحه (867) عن جابر ابن عبد الله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يوم الجمعة قال: "أمَّا بعد، فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة".
4 ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي" رواه البخاري (5063) ومسلم (1401).
5 ـ وقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيُّها الناس! إنِّي تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبداً، كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم"، وقال: "إنِّي قد تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنَّتي" رواهما الحاكم (1/93)، وفي صحيح مسلم(10/28)
ص -30- ... (1218) حديث جابر الطويل في حجة الوداع قوله صلى الله عليه وسلم: "وقد تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنَّك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللَّهمَّ اشهد! اللَّهمَّ اشهد! ثلاث مرات".
6 ـ وروى البخاري في صحيحه (7280) عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ أمَّتي يدخلون الجنَّة إلاَّ من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنَّة، ومَن عصاني فقد أبى".
7 ـ وروى البخاري (7288) ومسلم (1337) ـ وهذا لفظه ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه،(10/29)
ص -31- ... وما أمرتُكم به فافعلوا منه ما استطعتم؛ فإنَّما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم".
8 ـ وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تَبَعاً لِما جئتُ به" صححه النووي في الأربعين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الحافظ في الفتح (13/289): "وأخرج البيهقي في المدخل وابن عبد البر في بيان العلم عن جماعة من التابعين، كالحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي بأسانيد جياد ذم القول بالرأي المجرَّد، ويجمع ذلك كلَّه حديثُ أبي هريرة "لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبَعاً لِما جئتُ به"، أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين".
9 ـ وروى البخاري (1597) ومسلم (1270)(10/30)
ص -32- ... أنَّ عمر رضي الله عنه جاء إلى الحجر الأسود وقبًَّله، وقال: "إنِّي أعلمُ أنَّك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتُك".
10 ـ وروى مسلم (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".
وكما وردت نصوصُ الكتاب والسنَّة في الترغيب في اتِّباع السنن والتحذير من البدع، فقد جاءت آثارٌ كثيرة عن سلف هذه الأمَّة المتَّبعين للكتاب والسنَّة من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، فيها الحثُّ على اتِّباع السنَّة والتحذير من البدع وبيان خطرها، ومن ذلك:(10/31)
ص -33- ... 1 ـ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتِّبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتُم" رواه الدارمي (211).
2 ـ قال عثمان بن حاضر: "دخلتُ على ابن عباس، فقلت: أوصني، فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتَّبع ولا تبتدع" رواه الدارمي (141).
3 ـ قال عبد الله بن مسعود: "مَن سرَّه أن يلقى اللهَ غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهنَّ؛ فإنَّ الله شرع لنبيِّكم سنن الهدى، وإنَّهنَّ من سُنن الهدى، ولو أنَّكم صلَّيتُم في بيوتكم كما يُصلِّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتُم سنَّة نبيِّكم، ولو تركتم سنَّة نبيِّكم لضللتُم ..." رواه مسلم (654).
4 ـ قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها الناسُ حسنة" رواه(10/32)
ص -34- ... محمد بن نصر المروزي في السنة.
5 ـ قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "فإيَّاكم وما يُبتدَع؛ فإنَّ ما ابتُدع ضلالة" رواه أبو داود (4611).
6 ـ كتب رجلٌ إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب: "أمَّا بعد، أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتِّباع سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكُفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنَّة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة ..." رواه أبو داود (4612).
7 ـ قال سهل بن عبد الله التستري: "ما أحدث أحدٌ في العلم شيئاً إلاَّ سُئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السنَّة سلِم، وإلاَّ فلا" فتح الباري (13/290).(10/33)
ص -35- ... 8 ـ قال أبو عثمان النيسابوري: "مَن أمَّر السنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة" حلية الأولياء (10/244).
9 ـ قال الإمام مالك رحمه الله: "مَن ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنَّ محمداً خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فما لَم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً" الاعتصام للشاطبي (1/28).
10 ـ قال الإمام أحمد رحمه الله: "أصول السنة عندنا التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة" شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (317).(10/34)
ص -36- ... اتِّباع السنَّة لازمٌ في الفروع كالأصول
واتِّباع سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأخذ بما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة كما أنَّه لازمٌ في الأمور العقدية بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين" الحديث، فهو لازمٌ في الأمور الفرعية التي يسوغ فيها الاجتهاد عند ظهور الدليل، وقد أوصى العلماء من سلف هذه الأمة ـ ومنهم الأئمَّة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ـ بالأخذ بما دلَّ عليه الدليل، وترك أقوالهم التي قالوها إذا جاء حديثٌ صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافها، وقد اشتهر عن الإمام مالك قوله: "كلٌّ يؤخذ من قوله ويُردُّ إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "أجمع الناسُ على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن(10/35)
ص -37- ... يَدَعها لقول أحد" الروح لابن القيم (ص: 395 ـ 396)، وقال ابن القيم قبل ذكر هذا الأثر بقليل: "فمَن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزَنَها بها وخالف منها ما خالف النصَّ لم يُهدِر أقوالَهم ولَم يهضِم جانبهم، بل اقتدى بهم؛ فإنَّهم كلَّهم أمروا بذلك، فمتَّبعُهم حقًّا مَن امتثل ما أوصوا به لا مَن خالفهم".
وقد جاء عن بعض العلماء المشتغلين بفقه أصحاب المذاهب الأربعة التعويل على الأدلة الصحيحة إذا جاءت بخلاف أقوالهم، فقال أصبغ بن الفرج: "المسح (يعني على الخفين) عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن أكابر أصحابه في الحضر أثبت عندنا وأقوى من أن نتَّبعَ مالكاً على خلافه" فتح الباري (1/306)، وقال الحافظ في الفتح (1/276): "المالكية لا يقولون بالتتريب في الغسل من ولوغ(10/36)
ص -38- ... الكلب، قال القرافي منهم: قد صحَّت فيه الأحاديث، فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها!".
وقال ابن العربي المالكي: "قال المالكية: ليس ذلك ـ أي الصلاة على الغائب ـ إلاَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم، قلنا: وما عمل به محمدٌ صلى الله عليه وسلم تعملُ به أمَّتُه؛ يعني لأنَّ الأصلَ عدم الخصوصية، قالوا: طُويت له الأرض وأُحضرت الجنازة بين يديه! قلنا: إنَّ ربَّنا عليه لقادر، وإنَّ نبيَّنا لأهلٌ لذلك، ولكن لا تقولوا إلاَّ ما رويتم، ولا تَخترعوا حديثاً من عند أنفسكم، ولا تحدِّثوا إلاَّ بالثابتات ودَعُوا الضِّعافَ؛ فإنَّها سبيل إتلاف إلى ما ليس له تلاف" الفتح (3/189)، وانظر: نيل الأوطار للشوكاني (4/54)، وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تعيين الصلاة الوسطى: "وقد ثبتت السنة بأنَّها العصر، فتعيَّن المصيرُ إليها"، ثم نقل عن الشافعي أنَّه(10/37)
ص -39- ... قال: "كلُّ ما قلتُ فكان عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بخلاف قولي مِمَّا يصح، فحديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أولَى، ولا تقلِّدوني، وقال أيضاً: إذا صحَّ الحديث وقلتُ قولاً فأنا راجعٌ عن قولي وقائل بذلك"، ثم قال ابن كثير: "فهذا من سيادته وأمانته، وهذا نفَسُ إخوانه من الأئمَّة رحمهم الله ورضي الله عنهم أجمعين، آمين، ومن هنا قطع القاضي الماوَردي بأنَّ مذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ أنَّ صلاة الوسطى هي صلاة العصر ـ وإن كان قد نصَّ في الجديد وغيره أنَّها الصبح ـ لصحة الأحاديث أنَّها صلاةُ العصر، وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدِّثي المذهب، ولله الحمد والمنَّة"، تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}، وقال ابن حجر في الفتح (2/222): "قال ابن خزيمة في رفع اليدين عند القيام من(10/38)
ص -40- ... الركعتين: هو سنة وإن لم يذكره الشافعي، فالإسناد صحيح، وقد قال: قولوا بالسنَّة ودَعوا قولي"، وقال في الفتح أيضاً (3/95): "قال ابن خزيمة: ويحرم على العالِم أن يخالف السنَّة بعد علمه بها"، وقال في الفتح (2/470): "روى البيهقي في المعرفة عن الربيع قال: قال الشافعي: قد روي حديث فيه أنَّ النساءَ يُتركن إلى العيدين، فإن كان ثابتاً قلتُ به، قال البيهقي: قد ثبت، وأخرجه الشيخان ـ يعني حديث أم عطية ـ فيلزم الشافعية القول به"، وذكر النووي في شرح صحيح مسلم (4/49) خلاف العلماء في الوضوء من لحم الإبل، وقال: "قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في هذا ـ أي الوضوء من لحم الإبل ـ حديثان: حديث جابر وحديث البراء، وهذا المذهب أقوى دليلاُ وإن كان الجمهور على خلافه"، وقال(10/39)
ص -41- ... ابن حجر في شرح حديث ابن عمر: "أمرتُ أن أقاتل الناس" في قصة مناظرة أبي بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة، قال: "وفي القصة دليلٌ على أنَّ السنَّة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة، ويطَّلع عليها آحادهم، ولهذا لا يُلتفتُ إلى الآراء ـ ولو قويت ـ مع وجود سنة تخالفها، ولا يُقال: كيف خفي ذا على فلان؟!" الفتح (1/76)، وقال أيضاً (3/544): "وبذلك ـ أي بإشعار الهدي ـ قال الجمهور من السلف والخلف، وذكر الطحاوي في اختلاف العلماء كراهته عن أبي حنيفة، وذهب غيرُه إلى استحبابه للاتِّباع، حتى صاحباه محمد وأبو يوسف، فقالا: هو حسن".(10/40)
ص -42- ... البدع ضلال وليس فيها بدعة حسنة
والبدع كلُّها ضلالٌ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديثي جابر والعرباض المتقدمين: "وكلُّ بدعة ضلالة"، وهذا العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: "وكلُّ بدعة ضلالة" يدلُّ على بطلان قول مَن قال: إنَّ في الإسلام بدعة حسنة، وقد قال ابن عمر رضي الله عنه في الأثر الذي تقدَّم ذكره قريباً: "كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة"، ولا يُقال: إنَّ في الإسلام بدعة حسنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيِّئة كان عليه وزرُها ووِزرُ من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" رواه مسلم (1017)؛ لأنَّ المرادَ به السَّبق إلى فعل الخير(10/41)
ص -43- ... والاقتداء بذلك السابق كما هو واضح من سبب الحديث المذكور في صحيح مسلم قبل إيراد هذا الحديث، وحاصله أنَّ جماعة من مُضَر قدِموا المدينة، يظهر عليهم الفقر والفاقة، فحثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّة كادت يده تعجز عن حملها، فتتابع الناس بعده على الصدقة، فعند ذلك قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة" الحديث، ويدخل في معناه أيضاً من أحيا سنَّةً ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلد لم تكن ظاهرة فيه، وأمَّا أن يكون معناه الإحداث في الدِّين فلا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وقد تقدَّم، فإنَّ الشريعة كاملةٌ لا تحتاج إلى محدثات، وفي إحداث البدع اتِّهام لها بالنقصان وعدم الكمال، وقد مرَّ قريباً قول ابن عمر رضي الله عنه: "كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها الناس(10/42)
ص -44- ... حسنة"، وقول مالك: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنَّ محمداً خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، ، فما لَم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".
وأمَّا جمعُ عمر رضي الله عنه الناسَ في صلاة التراويح على إمام يصلِّي بهم، فهو من قبيل إظهار السنَّة وإحيائها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى بالناس بعضَ الليالي في قيام رمضان، وترك الاستمرار فيه خشية أن يُفرض على الأمَّة، روى ذلك البخاري (1129)، ولَمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وزال مقتضي الفرض بانقطاع الوحي بقي الاستحباب، فجَمَعَ عمرُ رضي الله عنه الناسَ على صلاة التراويح، وقول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح كما في البخاري (2010): "نِعْمَ البدعة هذه"، المراد به البدعة في اللغة لا في الشرع.(10/43)
ص -45- ... الفرق بين البدعة في اللغة والبدعة في الشرع
المعاني اللغوية غالباً أعمُّ من المعاني في الشرع، والمعنى الشرعي غالباً جزء من جزئيات المعنى اللغوي، ومن أمثلة ذلك التقوى والصيام والحج والعمرة والبدعة، فإنَّ التقوى في اللغة أن يجعل الإنسانُ بينه وبين كلِّ شيء يخافه وقاية تقيه منه، كاتخاذه البيوت والخيام للوقاية من حرارة الشمس والبرد، واتخاذ الأحذية للوقاية من كلِّ شيء يؤذي في الأرض، وأمَّا تقوى الله، فأن يجعل المسلمُ بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، والصيامُ في اللغة كلُّ إمساك، وفي الشرع إمساكٌ مخصوص، وهو الإمساكُ عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والحجُّ لغة كلُّ قصد، وفي الشرع قصد مكة لأداء شعائر مخصوصة،(10/44)
ص -46- ... والعمرة في اللغة كلُّ زيارة، وفي الشرع زيارة الكعبة للطواف بها والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير، والبدعة في اللغة كلُّ ما أُحدث على غير مثال سابق، وفي الشرع ما أُحدث مِمَّا لَم يكن له أصل في الدِّين، وهي مقابلة للسنَّة.(10/45)
ص -47- ... ليس من البدع المصالح المرسلة
المصلحة المرسلة هي المصلحة التي لَم يأت الشرعُ باعتبارها أو إلغائها، وهي وسيلة إلى تحقيق أمر مشروع، مثل جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، وتدوين الدواوين، وكتابة أصحاب العَطاء في ديوان؛ فإنَّه لَم يأت في الشرع نصٌّ على إثباتهما أو المنع منهما، فأمَّا جمع القرآن فهو سبيل إلى حفظه وعدم ضياع شيء منه، وفيه تحقيق قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقد توقَّف أبو بكر رضي الله عنه عندما(10/46)
ص -48- ... أشار عليه عمر رضي الله عنه في جمعه، وقال: "كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلَم يزل عمر يُراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيتُ الذي رأى عمر" رواه البخاري (4679)، وجَمْعُ أبي بكر رضي الله عنه القرآنَ كان في صُحف، وأمَّا جَمْعُ عثمان رضي الله عنه فكان في مصحف.
وأمَّا تدوين الدواوين فكان في عهد عمر رضي الله عنه لَمَّا كثرت الفتوحات وكثرت الغنائم والفيء، فاحتيج إلى تدوين أسماء الجنود وغيرهم من أهل العَطاء، ولم يكن ذلك موجوداً قبل زمنه رضي الله عنه ، وذلك سبيل إلى إيصال الحقوق إلى أهلها وعدم سقوط شيء منها، ولا يُقال: إنَّ من البدع ما هو حسن إلحاقاً بالمصالح المرسلة؛ لأنَّ المصالح المرسلة فيها الوصول إلى تحقيق أمر مشروع، بخلاف البدع
التي فيها اتِّهام الشريعة بالنقصان، كما مرَّ بيانُ ذلك في كلام الإمام مالك رحمه الله.
لا بدَّ مع حسن القصد من موافقة السنَّة
وقد يقول من يهوِّن مِن شأن البدع: إنَّ الذي يأتي بالبدعة متقرِّباً بها إلى الله قصدُه حسن، فيكون فعلُه محموداً بهذا الاعتبار، والجواب: أنَّه لا بدَّ مع حسن القصد أن يكون العملُ موافقاً للسنَّة، وهو أحد الشرطين اللَّذين تقدَّم ذكرُهما لقبول العمل الصالح، وهما الإخلاصُ لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد مرَّ الحديثُ الدَّال على ردِّ البدع المحدثة على صاحبها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومِمَّا يدلُّ على أنَّه لا بدَّ مع حسن القصد من موافقة السنَّة قصة الصحابي الذي ذبح(10/47)
ص -49- ... أُضحيته قبل صلاة العيد، وقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "شاتُك شاةُ لحم" رواه البخاري (955) ومسلم (1961)، قال الحافظ في شرح الحديث في الفتح (10/17): "قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أنَّ العملَ وإن وافق نية حسنة لَم يصح إلاَّ إذا وقع على وفق الشرع".
ويدلُّ لذلك أيضاً ما في سنن الدارمي (210) بإسناد صحيح أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاء إلى أناس متحلِّقين في المسجد، وبأيديهم حصى، وفيهم رجلٌ يقول: كبِّروا مائة، فيُكبِّرون مائة يعدُّون بالحصى، ويقول: هلِّلوا مائة، سبِّحوا مائة كذلك، فوقف عليهم فقال: "ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبيرَ والتهليلَ والتسبيحَ، قال: فعُدوا سيِّئاتكم فأنا ضامنٌ أن لا يَضيعَ من حسناتكم شيءٌ،(10/48)
ص -50- ... وَيْحَكم يا أمّة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابةُ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابُه لَم تَبْلَ، وآنيتُه لَم تُكسر، والذي نفسي بيده إنَّكم لَعلَى مِلَّةٍ هي أهدى من مِلَّة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلاَّ الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه ..."، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2005).
خطر البدع وبيان أنَّها أشدُّ من المعاصي
والبدعُ خطرُها كبير، وخطْبُها جسيم، والمصيبة بها عظيمة، وهي أشدُّ خطراً من الذنوب والمعاصي؛ لأنَّ صاحبَ المعصية يعلم أنَّه وقع في أمر حرام، فيتركه ويتوب منه، وأمَّا صاحب البدعة، فإنَّه يرى أنَّه على حقٍّ فيستمرّ على بدعته حتى يموت عليها، وهو في الحقيقة متَّبع للهوى(10/49)
ص -51- ... وناكبٌ عن الصراط المستقيم، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حجب التوبةَ عن كلِّ صاحب بدعة حتى يدَع بدعتَه"، أورده المنذري في كتاب الترغيب والترهيب (86)، في الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدع والأهواء، وقال: "رواه الطبراني، وإسناده حسن"، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني(1620).(10/50)
ص -52- ... البدع اعتقادية وفعلية وقولية
والبدعُ أنواع: اعتقادية، وقولية، وفعلية، والفعلية زمانية ومكانية، فأمَّا البدع الاعتقادية، فمثل بدع الخوارج والروافض والمعتزلة وغيرهم مِمَّن تعويلهم على علم الكلام، وفيهم مَن تعويلهم مع ذلك على الروايات المكذوبة، قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/95): "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أنَّ أهل الكلام أهلُ بدع وزيغ، ولا يُعدُّون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنَّما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز".
والبدعُ القولية، منها التلفظ بالنية، كأن يقول: نويتُ أن أصلي كذا، نويتُ أن أصوم كذا، وغير(10/51)
ص -53- ... ذلك، ولا يُستثنى من ذلك إلاَّ المناسك، فللمعتمر أن يقول: لبَّيك عمرة، وللمفرد أن يقول: لبَّيك حجًّا، وللقارن أن يقول: لبَّيك عمرة وحجًّا؛ لأنَّه ورد في السنَّة ما يدلُّ على ذلك.
ومنها سؤال الله بجاه فلان وبحقِّ فلان، ونحو ذلك مِمَّا لم يَرِد به سنَّةٌ ثابتةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن البدع القولية ما يكون كفراً، كدعاء أصحاب القبور وطلب الغوث منهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مِمَّا لا يُطلَبُ إلاَّ من الله، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}وأمَّا الحكم على مَن حصل منه ذلك بالكفر فيكون بعد إقامة الحجة، وهو قول كثير من أهل العلم،(10/52)
ص -54- ... ذكرتُ منهم سبعة في الفصل الخامس من مقدمة تطهير الاعتقاد وشرح الصدور، أوَّلهم الإمام محمد ابن إدريس الشافعي رحمه الله، وآخرهم الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
والبدعُ الفعلية مكانية وزمانية، فمِن البدع المكانية التمسح بالقبور وتقبيلها، قال النووي في المجموع شرح المهذب في شأن مسح وتقبيل جدار قبره صلى الله عليه وسلم (8/206): "ولا يُغتر بمخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك؛ فإنَّ الاقتداءَ والعملَ إنَّما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يُلتفتُ إلى مُحدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)، وعن أبي هريرة(10/53)
ص -55- ... رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ ما معناه: "اتَّبع طرق الهدى ولا يضرك قلَّة السالكين، وإيَّاك وطرق الضلالة ولا تغترَّ بكثرة الهالكين"، ومَن خَطَرَ على باله أنَّ المسحَ باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأنَّ البركةَ إنَّما هي فيما وافق الشرع، وكيف يُبتغى الفضل في مخالفة الصواب؟!".
ومن البدع الزمانية الاحتفال بالموالد، كالاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، فإنَّها من البدع المحدثة في القرن الرابع الهجري، ولَم يأت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه وصحابته شيءٌ من ذلك، بل ولَم يأت عن التابعين وأتباعهم، وقد مضت الثلاثمائة سنة(10/54)
ص -56- ... الأولى قبل أن توجد هذه البدعة، والكتب التي أُلِّفت في تلك الفترة لا ذكر للموالد فيها، وإنَّما كانت ولادة هذه البدعة في القرن الرابع الهجري، أحدثها العبيديُّون الذين حكموا مصر، فقد ذكر تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في كتابه المواعظ بذكر الخطط والآثار (1/490) أنَّه كان للفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، فذكرها وهي كثيرة جدًّا، ومنها مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومولد علي وفاطمة والحسن والحُسين رضي الله عنهم، ومولد الخليفة الحاضر، وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة (567هـ)، وهي السنة التي انتهت فيها دولتهم بموت آخرهم العاضد، قال: "ظهرت في دولتهم البدعُ والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعُبَّاد(10/55)
ص -57- ... وذكر ابن كثير قبل ذلك بقليل أنَّ صلاح الدين قطع الأذان بـ(حيَّ على خير العمل) من مصر كلِّها، ومن أحسن ما أُلِّف في هذه المسألة كتاب: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرُّسْل، للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري رحمه الله، ولا شكَّ أنَّ محبَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون في قلب كلِّ مسلم أعظمَ من محبَّته لأبيه وأمِّه وابنه وبنته وسائر الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" رواه البخاري ومسلم، ومحبَّته صلى الله عليه وسلم إنَّما تكون باتِّباعه والسير على نهجه صلى الله عليه وسلم، وليس بالبدع المُحدَثة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(10/56)
ص -58- ... بدعة امتحان الناس بالأشخاص
ومن البدع المنكرة ما حدث في هذا الزمان من امتحان بعض من أهل السنَّة بعضاً بأشخاص، سواء كان الباعث على الامتحان الجفاء في شخص يُمتحن به، أو كان الباعث عليه الإطراء لشخص آخر، وإذا كانت نتيجة الامتحان الموافقة لِمَا أراده الممتحِن ظفر بالترحيب والمدح والثناء، وإلاَّ كان حظّه التجريح والتبديع والهجر والتحذير، وهذه نقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية في أوَّلها التبديع في الامتحان بأشخاص للجفاء فيهم، وفي آخرها التبديع في الامتحان بأشخاص آخرين لإطرائهم، قال ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى (3/413 ـ 414) في كلام له عن يزيد بن معاوية: "والصواب هو ما عليه الأئمَّة، من أنَّه لا يُخَصُّ بمحبة ولا يلعن، ومع هذا فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر(10/57)
ص -59- ... للفاسق والظالم، لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّل جيش يغزو القسطنطينيَّة مغفورٌ له"، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه ...
فالواجب الاقتصاد في ذلك، والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به؛ فإنَّ هذا من البدع المخالفة لأهل السنَّة والجماعة".
وقال (3/415): "وكذلك التفريق بين الأمَّة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم".
وقال (20/164): "وليس لأحد أن ينصب للأمَّة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويُوالي ويُعادي عليها غير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويُعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت(10/58)
ص -60- ... عليه الأمَّة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرِّقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويُعادون".
وقال (28/15 ـ 16): "فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك نظر فيه: فإن كان قد فعل ذنباً شرعيًّا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنباً شرعيًّا لم يجز أن يُعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره.
وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البرِّ والتقوى، كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.(10/59)
ص -61- ... ولو ساغ امتحان الناس بشخص في هذا الزمان لمعرفة مَن يكون من أهل السنَّة أو غيرهم بهذا الامتحان، لكان الأحقَّ والأولى بذلك شيخ الإسلام ومفتي الدنيا وإمام أهل السنَّة في زمانه شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المتوفى في 27 من شهر المحرم عام 1420هـ، رحمه الله وغفر له وأجزل له المثوبة، الذي عرفه الخاصُّ والعام بسعة علمه وكثرة نفعه وصدقه ورِفقه وشفقته وحرصه على هداية الناس وتسديدهم، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً؛ فقد كان ذا منهج فذٍّ في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، يتَّسم بالرِّفق واللِّين في نصحه وردوده الكثيرة على غيره، منهج سديد يقوِّم أهلَ السنَّة ولا يُقاومهم، وينهض بهم ولا يُناهضهم، ويَسْمو بهم ولا يسِمُهم، منهج يجمع ولا يُفرِّق، ويلمُّ ولا يمزِّق، ويُسدِّد ولا يبدد،(10/60)
ص -62- ... ويُيسِّر ولا يُعسِّر، وما أحوج المشتغلين بالعلم وطلبته إلى سلوك هذا المسلك القويم والمنهج العظيم؛ لِمَا فيه من جلب الخير للمسلمين ودفع الضَّرر عنهم.
والواجب على الأتباع والمتبوعين الذين وقعوا في ذلك الامتحان أن يتخلَّصوا من هذا المسلك الذي فرَّق أهلَ السنَّة وعادى بعضُهم بعضاً بسببه، وذلك بأن يترك الأتباعُ الامتحان وكلَّ ما يترتَّب عليه من بُغض وهجر وتقاطع، وأن يكونوا إخوةً متآلفين متعاونين على البرِّ والتقوى، وأن يتبرَّأ المتبوعون من هذه الطريقة التي توبعوا عليها، ويُعلنوا براءتَهم منها ومِن عمل مَن يقع فيها، وبذلك يسلم الأتباع من هذا البلاء والمتبوعون من تبعة التسبُّب بهذا الامتحان وما يترتَّبُ عليه من أضرار تعود عليهم وعلى غيرهم.(10/61)
ص -63- ... التحذير من فتنة التجريح والتبديع من بعض أهل السنة في هذا العصر
وقريبٌ من بدعة امتحان الناس بالأشخاص ما حصل في هذا الزمان من افتتان فئة قليلة من أهل السنَّة بتجريح بعض إخوانهم من أهل السنة وتبديعهم، وما ترتَّب على ذلك من هجر وتقاطع بينهم وقطع لطريق الإفادة منهم، وذلك التجريح والتبديع منه ما يكون مبنيًّا على ظنِّ ما ليس ببدعة بدعة، ومن أمثلة ذلك أنَّ الشيخين الجليلين عبد العزيز بن باز وابن عثيمين ـ رحمهما الله ـ قد أفتيا جماعة بدخولها في أمر رأيَا المصلحة في ذلك الدخول، ومِمَّن لم يُعجبهم ذلك المفتَى به تلك الفئة القليلة، فعابت تلك الجماعة بذلك، ولَم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل انتقل العيب إلى مَن يتعاون معها بإلقاء المحاضرات، ووصفه بأنَّه مُميِّع لمنهج(10/62)
ص -64- ... السلف، مع أنَّ هذين الشيخين الجليلين كانا يُلقيان المحاضرات على تلك الجماعة عن طريق الهاتف.
ومن ذلك أيضاً حصول التحذير من حضور دروس شخص؛ لأنَّه لا يتكلَّم في فلان الفلاني أو الجماعة الفلانية، وقد تولَّى كبر ذلك شخص من تلاميذي بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، تخرَّج منها عام (1395 ـ 1396هـ)، وكان ترتيبه الرابع بعد المائة من دفعته البالغ عددهم (119) خرِّيجاً، وهو غير معروف بالاشتغال بالعلم، ولا أعرف له دروساً علميَّة مسجَّلة، ولا مؤلَّفاً في العلم صغيراً ولا كبيراً، وجلُّ بضاعته التجريح والتبديع والتحذير من كثيرين من أهل السنَّة، لا يبلغ هذا الجارحُ كعبَ بعض مَن جرَحهم لكثرة نفعهم في دروسهم ومحاضراتهم ومؤلفاتهم، ولا ينتهي العجب إذا سمع عاقل شريطاً له يحوي تسجيلاً لمكالمة هاتفية(10/63)
ص -65- ... طويلة بين المدينة والجزائر، أكل فيها المسئول لحومَ كثير من أهل السنَّة، وأضاع فيها السائل مالَه بغير حقٍّ، وقد زاد عدد المسئول عنهم في هذا الشريط على ثلاثين شخصاً، فيهم الوزير والكبير والصغير، وفيهم فئة قليلة غير مأسوف عليهم، وقد نجا مِن هذا الشريط مَن لم يُسأل عنه فيه، وبعض الذين نجوا منه لم ينجوا من أشرطة أخرى له، حوتها شبكة المعلومات الإنترنت، والواجب عليه الإمساك عن أكل لحوم العلماء وطلبة العلم، والواجب على الشباب وطلاَّب العلم ألاَّ يلتفتوا إلى تلك التجريحات والتبديعات التي تضرُّ ولا تنفع، وأن يشتغلوا بالعلم النافع الذي يعود عليهم بالخير والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، وقد قال الحافظ ابن عساكر ـ رحمه الله ـ في كتابه تبيين كذب المفتري (ص: 29): "واعلم ـ يا أخي! وفَّقنا الله(10/64)
ص -66- ... وإياك لمرضاته، وجعلنا مِمَّن يَخشاه ويتَّقيه حق تقاته ـ أنَّ لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة"، وقد أوردتُ في رسالتي "رفقاً أهل السنَّة بأهل السنَّة" جملة كبيرة من الآيات والأحاديث والآثار في حفظ اللسان من الوقيعة في أهل السنَّة، ولا سيما أهل العلم منهم، ومع ذلك لَم تُعجب هذا الجارح، ووصفها بأنَّها غير مؤهَّلة للنشر، وحذَّر منها ومن نشرها، ولا شكَّ أنَّ مَن يقف على هذا الجرح ويطَّلع على الرسالة يجد أنَّ هذا الحكم في واد والرسالة في واد آخر، وأنَّ الأمر كما قال الشاعر:
قد تُنكر العينُ ضوء الشمس من رمَد ... ويُنكر الفمُ طعمَ الماء من سَقَمِ
وأمَّا قول التلميذ الجارح لرسالة "رفقاً أهل السنَّة بأهل السنَّة": "فمثلاً في كلام أنَّ منهج(10/65)
ص -67- ... الشيخ عبد العزيز بن باز ومنهج الشيخ ابن عثيمين على خلاف منهج أهل السنَّة الآخرين، هذا خطأ لا شك، يعني لا يُكثرون الردود ويردون على المخالف، هذا لو صحَّ هو خلاف منهج أهل السنَّة والجماعة، وهو طعن في الشيخين في الحقيقة، وفي غيرهم مِمَّن يمكن أن يُقال عنه هذا الكلام!!!".
فالجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنَّه ليس في الرسالة أنَّ الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ لا يكثر الردود، بل ردوده كثيرة، وقد جاء في الرسالة (ص: 51): "أن يكون الردُّ برفق ولين ورغبة شديدة في سلامة المخطئ من الخطأ، حيث يكون الخطأ واضحاً جليًّا، وينبغي الرجوع إلى ردود الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ للاستفادة منها في الطريقة التي ينبغي أن يكون الردُّ عليها".(10/66)
ص -68- ... الوجه الثاني: أنَّني لَم أتعرَّض لذكر منهج الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في الردود؛ لأنِّي لا أعرف له مؤلَّفاً صغيراً أو كبيراً في الردود، وسألتُ أحدَ تلاميذه الملازمين له عن ذلك، فأخبرني أنَّه لا يعلم له شيئاً من الردود، وذلك لا يقدح فيه؛ لأنَّه مشغول بتقرير العلم ونشره والتأليف.
الوجه الثالث: أنَّ منهج الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ يختلف عن منهج التلميذ الجارح ومَن يشبهه؛ لأنَّ منهج الشيخ يتَّسم بالرِّفق واللِّين والحرص على استفادة المنصوح والأخذ بيده إلى طريق السلامة، وأمَّا الجارحُ ومَن يشبهه فيتَّسمُ بالشدَّة والتنفير والتحذير، وكثيرون مِن الذين جرحهم في أشرطته كان يُثني عليهم الشيخ عبد العزيز ويدعو لهم ويحثُّهم على الدعوة وتعليم الناس، ويَحثُّ على الاستفادة منهم والأخذ عنهم.(10/67)
ص -69- ... والحاصلُ أنَّنِي لَم أنسب إلى الشيخ عبد العزيز ابن باز ـ رحمه الله ـ عدم الردِّ على غيره، وأمَّا ابن عثيمين فلَم أتعرَّض له بذكر في قضيَّة الردود، وأنَّ ما ذكره الجارحُ غير مطابق لِمَا في الرسالة، وهو من أوضح الأدلة على تخبُّطه وعدم تثبُّته، وإذا كان هذا منه في كلام مكتوب، فكيف يكون الحال فيما لا كتابة فيه؟!
وأمَّا قول جارح الرسالة: "وأنا في الحقيقة قد قرأتُ الرسالةَ، وعرفت موقفَ أهل السنَّة منها، ولعلَّكم رأيتم الردودَ من بعض العلماء والمشايخ، وما أظنُّ الردودَ تقف عند ذلك، إنَّما هناك مَن سَيَرُدُّ أيضاً؛ لأنَّه كما يقول الشاعر:
جاء شقيق عارض رمحه ... إنَّ بني عمِّك فيهم رماح
كذا: عارضٌ، والصواب عارضاً.(10/68)
ص -70- ... فالجواب: أنَّ أهل السنَّة الذين عناهم هم الذين يختلف منهجهم عن منهج الشيخ عبد العزيز ـ رحمه الله ـ الذي أشرتُ إليه قريباً، وهو بهذا الكلام يستنهض هِمَمَ مَن لم يعرفهم للنيل من الرسالة بعد أن استنهض هِمَم مَن يعرفهم، وأنا في الحقيقة لَم أعرض رمحاً، وإنَّما عرضتُ نصحاً لم يقبله الجارحُ ومَن يشبهه؛ لأنَّ النصحَ للمنصوح يشبه الدواءَ للمريض، ومن المرضى مَن يستعمل الدواء وإن كان مُرًّا؛ لِمَا يُؤَمِّله من فائدة، ومن المنصوحين من يصدُّه الهوى عن النصح لا يقبله، بل ويُحذِّر منه، وأسأل الله للجميع التوفيق والهدايةَ والسلامةَ من كيد الشيطان ومكره.
وقد شارك التلميذَ الجارح ثلاثةٌ: اثنان في مكة والمدينة، وهما من تلاميذي في الجامعة الإسلامية بالمدينة، أولهما تخرَّج عام (1384 ـ 1385هـ)، والثاني عام (1391 ـ 1392هـ)، وأمَّا الثالث ففي(10/69)
ص -71- ... أقصى جنوب البلاد، وقد وصف الثاني والثالث مَن يُوزِّع الرسالةَ بأنَّه مبتدع، وهو تبديع بالجملة والعموم، ولا أدري هل علموا أو لم يعلموا أنَّه وزَّعها علماء وطلبة علم لا يُوصَفون ببدعة، وآملُ منهم تزويدي بالملاحظات التي بنوا عليها هذا التبديع العام إن وُجدت للنظر فيها.
وللشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام خطبة ألقاها من منبر المسجد الحرام حذَّر فيها من وقيعة أهل السنَّة بعضهم في بعض، نلفتُ الأنظارَ إليها؛ فإنَّها مهمَّة ومفيدة.
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفِّق الجميعَ لِمَا يُرضيه وللفقه في الدِّين والثبات على الحقِّ، والاشتغال بما يعني عمَّا لا يعني، إنَّه وليَّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.(10/70)
عنوان الكتاب:
الحج فضله وفوائده
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
العدد الأول - السنة الرابعة - 1391هـ ـ 1971م(11/1)
ص -21- ... الحج فضله وفوائده
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد - المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
الحج عبادة من العبادات افترضها الله وجعلها إحدى الدعامات الخمس التي يرتكز عليها الدين الإسلامي والتي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام ".
وقد حج بالناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة من الهجرة حجته التي رسم لأمته فيها عملياً كيفية أداء هذه الفريضة وحث على تلقي ما يصدر منه قول وفعل فقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". فسميت حجته -صلى الله عليه وسلم- "حجة الوداع" وقد رغّب صلى الله عليه وسلم أمته في الحج وبَيَّن فضله وما أعد الله لمن حج وأحسن حجه من الثواب الجزيل فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة" متفق عليه(11/2)
ص -22- ... من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين -أيضاً- عنه رضي الله عنه. قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا ؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا ؟ قال: حج مبرور". وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله...". وروى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال لا ولكن أفضل الجهاد حج مبرور". ويتضح من هذه الأحاديث وغيرها فضل الحج وعظم الأجر الذي أعده الله للحجاج ويتضح أن هذا الثواب العظيم إنما هو لمن كان حجه مبروراً. فما هو بر الحج الذي رتب الله عليه ذلك الثواب العظيم ؟.
إن برّ الحج أن يأتي المسلم بحجه على التمام والكمال خالصاً لوجه الله وعلى وفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأن يحافظ فيه على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي لازم للمسلم. دائماً وأبداً ولكنه يتأكد في الأزمنة والأمكنة الفاضلة؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته؛ وهي: طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. قال الله تعالى:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً..} وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }.
فيكون المسلم ملازماً للطاعة وبعيداً عن المعصية حين حجه وقبله وبعده؛ ليوافيه الأجل المحتوم وهو على حالة حسنة؛ فتكون نهايته طيبةً وعاقبته حميدةً كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وقال تعالى:{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وقال -صلى الله عليه(11/3)
وسلم-:"وإنما الأعمال بالخواتيم".
ومن البر في الحج أن يحرص أثناءه على التأمل في أسراره وعبره، والوقوف على ما فيه من فوائد عاجلة وآجلة، وهي كثيرة أجملها الله تعالى في قوله:{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } وفيما يلي إشارة إلى بعض هذه الفوائد.(11/4)
ص -23- ... والأسرار التي تضمنتها هذه الجملة من الآية:
أولاً:
إن صلة المسلم ببيت الله الحرام صلة وثيقة تنشأ هذه الصلة منذ بدء انتمائه لدين الإسلام وتستمر معه ما بقيت روحه في جسده. فالصبي الذي يولد في الإسلام أول ما يطرق سمعه من فرائض الإسلام أركانه الخمسة التي أحدها حج بيت الله الحرام. والكافر إذا شهد شهادة الحق لله بالوحدانية ولنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة الشهادة التي كان بها من عداد المسلمين، أول ما يوجه إليه من فرائض الإسلام بقية أركانه بعد الشهادتين وهي إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام. وأول أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلوات الخمس التي افترضها الله على المسلمين في كل يوم وليلة وجعل استقبال بيت الله الحرام شرطاً من شروطها، فصلة المسلم ببيت الله الحرام مستمرة في كل يوم وليلة يستقبله مع القدرة في كل صلاة يصليها فريضة كانت أو نافلة. كما يستقبله في الدعاء.
وهذه الصلة الوثيقة التي حصل بها الارتباط بين قلب المسلم وبيت ربه بصفة مستمرة تدفع بالمسلم -ولا بد- إلى الرغبة الملحة في التوجه إلى ذلك البيت العتيق ليتمتع بصره بالنظر إليه ولأداء الحج الذي افترضه الله على من استطاع السبيل إليه. فالمسلم متى استطاع الحج بادر إليه؛ أداء للفريضة ورغبة في مشاهدة البيت الذي يستقبله في جميع صلواته وليشهد المنافع التي نوه الله بشأنها في قوله:{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ }. فإذا وصل المسلم إلى بيت ربه رأى بعيني رأسه أشرف بيت وأقدس بقعة على وجه الأرض الكعبة المشرفة ملتقى وجهات المسلمين في صلاتهم في مشارق الأرض ومغاربها ورأى المسلمين مستديرين حول هذا البيت في صلواتهم وأصغر دائرة هي التي تلي الكعبة ثم التي تليها وهكذا حتى تكون أكبر دائرة في أطراف الأرض فالمسلمون في صلواتهم مستقبلين بيت ربهم يشكلون نقاط محيطات لدوائر صغيرة وكبيرة مركزها جميعاً الكعبة المشرفة.(11/5)
ص -24- ... ثانياً:
إذا يسر الله للمسلم التوجه إلى بيت ربه ووصل إلى الميقات الذي وقته -رسول الله صلى الله عليه وسلم- للإحرام تجرد من ثيابه ولبس أزاراً على نصفه الأسفل ورداء على نصفه الأعلى مما دون رأسه وفي هذه الهيئة من اللباس يستوي الحجاج لا فرق بين الغني والفقير والرئيس والمرؤوس وتساويهم في ذلك يذكر بتساويهم في لباس الأكفان بعد الموت. فإن الكل يجردون من ملابسهم ويلفون بلفائف لا فرق فيها بين الغني والفقير. فإذا تجرد الحاج من لباسه ولبس الإحرام تذكر الموت الذي به تنتهي الحياة الدنيوية وتبتدئ الحياة الأخروية فاستعد لما بعده بالأعمال الصالحة والابتعاد عن المعاصي وهذا الاستعداد هو الزاد الذي لا بد منه في سفره إلى الآخرة وهو الزاد الذي نوه الله بذكره في قوله:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}؛ ولهذا لما سأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً متى الساعة ؟ قال صلى الله عليه وسلم له: "وماذا أعددت لها ؟..." منبهاً بذلك -صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن أهم شيء للمسلم أن يكون معيناً بما بعد الموت مستعداً له في جميع أحواله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات..(11/6)
ثالثاً:
إذا دخل المسلم في النسك لَبَّى بالتوحيد قائلاً -كما قال صلى الله عليه وسلم في تلبيته-: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". يقولها وهو مستشعر لما دلت عليه من إفراد الله بالعبادة وأنه وحده الذي يخص بها دون ما سواه، فكما أنه سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق والإيجاد فهو الذي يجب أن تفرد له العبادة دون غيره كائناً من كان، وصرف شيء منها لغير الله هو أظلم الظلم وأبطل الباطل. وهذه الكلمة يقولها المسلم إجابة لدعوة الله عباده لحج بيته الحرام.. فيستشعر المسلم عظمة الداعي، وعظم أهمية المدعو إليه فيسعى في الإتيان بما دعى إليه على الوجه الذي يرضي ربه تعالى مع استيقانه بأن المدار في هذه العبادة وغيرها من العبادات على الإخلاص لله كما دلت عليه كلمة التوحيد التي تضمنتها هذه التلبية وعلى المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرشد إلى ذلك -صلى الله عليه وسلم- في حجته حيث قال: "خذوا عني مناسككم".(11/7)
ص -25- ... رابعاً:
وإذا وصل المسلم إلى الكعبة المشرفة يشاهد عبادة الطواف حولها وهي عبادة لا تجوز في الشريعة الإسلامية إلا في المكان، وكل طواف في غير ذلك المكان إنما هو من تشريع الشيطان ويدخل فاعله في جملة من عناهم الله بقوله:{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }.
ويشاهد أيضاً تقبيل الحجر الأسود واستلامه واستلام الركن اليماني، ولم تأت الشريعة بتقبيل أو استلام شيء من الأحجار والبنيان إلاّ في هذين الموضعين، ولما قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر الأسود بيّن أنه فعل ذلك متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم في تقبيله إياه وقال: "ولو لا أني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك".
خامساً:
ويشهد الحاج في حجه أعظم تجمع إسلامي وذلك في يوم عرفة، في عرفة إذ يقف الحجاج جميعاً فيها ملبين مبتهلين إلى الله يسألونه من خير الدنيا والآخرة.
وهذا الاجتماع الكبير يذكر المسلم بالموقف الأكبر يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون ينتظرون فصل القضاء؛ ليصيروا إلى منازلهم حسب أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فيشفع لهم جميعاً إلى الله عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليقضي بينهم فيشفعه الله. وذلك هو المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهي الشفاعة العظمى التي يختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وفي هذا التجمع الإسلامي الكبير في عرفة -وكذا في بقية المشاعر- يلتقي المسلمون في مشارق الأرض بالمسلمين في مغاربها؛ فيتعارفون ويتناصحون، ويتعرف بعضهم على أحوال بعض؛ فيتشاركون في الأفراح والمسرات كما يشارك بعضهم بعضاً في آلامه ويرشده إلى ما ينبغي له فعله ويتعاونون جميعاً على البر والتقوى كما أمرهم الله سبحانه بذلك..(11/8)
ص -26- ... سادساً:
ويشهد الحاج مظهراً عجيباً من مظاهر التعاون؛ إذ يرى أرض منى كلها مغطاة بالخيام فلا يكاد يمضي يوم النفر الأول إلا وقد عادت كما كانت تقريبا،ً وذلك لقيام كل بما يخصه فإذا أقام كل مسلم بما يقدر عليه في خدمة الإسلام وتعاونوا على ذلك فإن المجهودات الفردية وإن قلت تكون كثيرة بضم بعضها إلى بعض.
وهذه الفوائد القليلة التي أشرت إليها إشارة هي من جملة المنافع الكثيرة التي أجمل ذكرها في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}. وإن أعظم فائدة للمسلم بعد إنهاء حجه أن يكون حجه مقبولاً وأن يكون بعده خيراً منه قبله وأن يحدث ذلك تحولاً في سلوكه وأعماله فيتحول من السيئ إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن.
والله المسؤول أن يوفق المسلمين جميعاً للفقه في دينه والثبات عليه وأن يمكن لهم في الأرض وينصرهم على عدوه وعدوهم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(11/9)
عنوان الكتاب:
الدفاع عن الصحابي أبي بكرة ومروياته والاستدلال لمنع ولاية النساء على الرجال
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة الأولى 1425هـ(12/1)
ص -3- ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي جعل أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، وشرف أول قرن فيها بصحبة سيد العرب والعجم، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له الأعلى الأجل الأكرم، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
أما بعد:
فقد فوجئت بما لم يكن يخطر لي ببال ولا يقع في خيال، عندما سمعت أنَّ الشيخ محمد بن سليمان الأشقر - وفَّقَه الله لما فيه الخير والسلامة من الشرِّ - قدح في الصحابي الجليل: أبي بكرة رضي الله عنه وفي مروياته التي انفرد بها عن غيره من الصحابة في صحيح البخاري وغيره، وفي مقدمتها حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، فاستبعدت صدور ذلك منه، ولم أصدق بذلك، ثم وصل(12/2)
ص -4- ... إليَّ صورة من مقال له نشر في صحيفة الوطن الكويتية، بتاريخ: 29/5/2004م بعنوان "نظرة في الأدلة الشرعية حول مشاركة المرأة في الوظائف الرئاسية والمجالس النيابية ونحوها".
وأكد صحّة نسبة هذا المقال إليه، بمكالمة هاتفية أجرتها الصحيفة معه نشرتها بتاريخ: 31/5/2004م، فاتصلت به هاتفياً أعتب عليه هذه الجرأة، والإقدام على شيء لم يسبقه إليه أحد طيلة القرون الماضية، ورجوت منه بإلحاح أن يرجع عن هذا الذي انفرد به عن علماء المسلمين سلفاً وخلفاً، وسبب قدحه في أبي بكرة رضي الله عنه ثم في مروياته التي انفرد بها؛ أنَّ عمر رضي الله عنه جلده واثنين معه لشهادتهم على المغيرة بن شعبة بالزنى، وكونه رضي الله عنه لم يتب، وذكرت له ما بينه العلماء من أنَّ أبا بكرة شاهد ولم يكن قاذفاً، وفرق بين الشاهد والقاذف، وقد اتفق العلماء سلفاً وخلفاً على قبول مروياته، ولم يُنقل الطعن فيها عن أحد قبله، ثم إني بعثت إليه كتاباً أكدت عليه فيه إلحاحي برجاء الرجوع عما صدر(12/3)
ص -5- ... منه، وأرفقت به أوراقاً مشتملة على شيء من كلام العلماء في فضل أبي بكرة والثناء عليه، وفي قبول مروياته وعدم ردّ شيء منها، ولا زلت آمل رجوعه إلى الحق.
وحاصل ما اشتمل عليه المقال، رميه أبا بكرة رضي الله عنه بالكذب، وزعمه أنَّ صحيح البخاري مشتمل على ما هو موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القدح الخطير في أبي بكرة رضي الله عنه وفي صحيح البخاري، كله من أجل تسويغ وتجويز أن تتولى المرأة الولاية العامة، وهي وسيلة سيئة إلى غاية سيئة، فأبو بكرة رضي الله عنه بريء مما رماه به من الكذب، وصحيح البخاري خال مما زعم وجوده فيه من الموضوع المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، والغاية التي قصدها باطلة بالكتاب والسّنّة والإجماع، وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح (4/364) عن رجل من الحنفية قدح في حديث المصراة بأنَّه من رواية أبي هريرة وأنَّه لم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ بما رواه مخالفاً للقياس الجلي، قال: "وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي(12/4)
ص -6- ... حكايته غنى عن تكلف الرد عليه"، وكلام هذا الحنفي في أبي هريرة أسهل بكثير من كلام الشيخ محمد الأشقر في أبي بكرة، والشيخ محمد الأشقر من أهل العلم والفضل عرفته قبل أربعين سنة حين كان مدرِّساً بالجامعة الإسلامية بالمدينة، وهذا الذي حصل منه في أبي بكرة رضي الله عنه ومروياته سقطة شنيعة، لا يجوز أن يتابَع عليها ولا أن يُغترَّ بها، ويجب الحذر منها.
وهذا ردّ يشتمل - بعد إيراد مقاله - على ما يلي:
أولاً: فضل أبي بكرة رضي الله عنه وثناء العلماء عليه.
ثانياً: قبول العلماء مرويات أبي بكرة رضي الله عنه وأنَّ ما حصل له لا تأثير له في روايته.
ثالثاً: سلامة ما في صحيح البخاري من الانتقاد مما دون الوضع.
رابعاً: ذكر الأدلة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة، ولا ما دونها من الولاية على الرجال.
خامساً: التعليق على جمل من المقال.(12/5)
ص -7- ... مقال الشيخ محمد الأشقر
نظرة في الأدلة الشرعية حول مشاركة المرأةفي الوظائف الرئاسية والمجالس النيابية ونحوها
إنَّ أهم مستند يستند إليه من يدعون أن الشرع الإسلامي يمنع من مشاركة المرأة في الميادين المتقدمة هو الحديث المشهور الذي أخرجه البخاري ح (4425) و(7099)، وأخرجه أيضا الإمام أحمد في مسنده برقم (20438) و(20402) و(20455)، كلاهما عن أبي بكرة رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة"، هذا لفظ البخاري، وعند أحمد: "لا يفلح قوم تملكهم امرأة"، هذا الحديث هو المستند الرئيسي لكلِّ من يتكلم في هذا الأمر، ولم يرد هذا الحديث من رواية أي صحابي آخر غير أبي بكرة.
وتصحيح البخاري وغيره لهذا الحديث وغيره من(12/6)
ص -8- ... مرويات أبي بكرة رضي الله عنه هو أمر غريب لا ينبغي أن يقبل بحال، والحجّة في ذلك ما عرف في كتب التاريخ الإسلامي كما عند الطبري وابن كثير وغيرهما، أنَّ أبا بكرة قذف المغيرة بن شعبة بالزنى، ووصل الخبر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأمر بحضور الرجلين من الكوفة إليه في المدينة، فسألهما عن ذلك وطلب عمر رضي الله عنه من أبي بكرة أن يأتي بشهوده على ما ادعاه، فلم تتم الشهادة التي هي كما قال الله تعالى أربعة شهود، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، فحكم على من يقذف امرأة محصنة والرجل المحصن مثلها بثلاثة أحكام: الأول: أن يجلد ثمانين جلدة، والثاني: أن تسقط شهادته فلا تقبل شهادته بعد ذلك على شيء، والثالث: أنَّه محكوم عليه بالفسق، وتمام الآية: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.(12/7)
ص -9- ... ولذلك جلد عمر رضي الله عنه أبا بكرة ثمانين جلدة حد القذف بالزنى، ثم قال له: تب أقبل شهادتك، فأبى أن يتوب وأسقط عمر رضي الله عنه بعد ذلك شهادته، فكان أبو بكرة بعد ذلك إذا استشهد على شيء يأبى أن يشهد ويقول: إن المؤمنين قد أبطلوا شهادتي.
وقد قال الله تعالى في آية لاحقة: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، أي أنَّهم في حكم الله تعالى كاذبون لا يثبت بقولهم حق، هكذا حكم الله تعالى على من قذف محصناً وهذا منطبق على أبي بكرة، فإن الآية تدمغه بالفسق وبالكذب، وهذا يقتضي رد ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما انفرد به كهذا الحديث العجيب: "لن يفلح قوم تملكهم امرأة"، فينبغي أن يضم هذا الحديث إلى الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، على أنا نقول جدلاً: لو صح هذا الحديث افتراضاً جدلياً لكان حجة فقط في منع أن تتولى المرأة الملك أو رئاسة الدولة، ولا يصلح حجة لمنع(12/8)
ص -10- ... أن تتولى المرأة القضاء أو إمارة قرية أو مدينة، فليس معنى كون الرجل لا يصلح أن يكون ملكا أنَّه لا يصلح أن يكون قاضيا أو أمير مدينة أو قرية أو يكون رئيس دائرة أو وزيرا أو رئيس وزراء أو نائبا في البرلمان، من احتج بهذا الحديث على ذلك فهو مخطىء خطأ كبيرا بل إنني أعتبره يسيء الفهم جدا، على أنَّ مما يدلُّ على بطلان هذا الحديث أنَّه يقتضي أنَّه لا يمكن أن يفلح قومٌ تتولى رئاسة دولتهم امرأة في حال من الأحوال، ومعنى هذا أنَّه لو وُجدت امرأة على رأس إحدى الدول ونجحت تلك الدولة في أمورها الدنيوية، فيكون ذلك دالاًّ على أنَّ هذا الحديث كذبٌ مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وُجد في العصور الحديثة دولٌ كثيرة تولَّت رئاستها نساءٌ، ونجحت تلك الدول نجاحات باهرة تحت رئاسة النساء، نذكر من ذلك رئاسة أنديرا غاندي للهند ورئاسة مارغريت تاتشر لبريطانيا، وغيرهما كثير في القديم والحديث، وإنما قلنا في الأمور الدنيوية لأنَّ الحديث ورد على ذلك.(12/9)
ص -11- ... ففي رواية البخاري قال أبو بكرة: "لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى" قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
بل أقول إن القرآن العظيم قد نقل قصة قوم ملكتهم امرأة، وروى القرآن العظيم أنها نجحت أيما نجاح، وهي ملكة اليمن التي وردت قصتها في القرآن العظيم وأنَّ سليمان جاءه طيره الهدهد فقال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:22-23]، وأنَّ سليمان عليه السلام أرسل إليها كتابا يدعوها إلى الإسلام وأن تأتي إليه مقرة بذلك.
فأحسنت التدبير كل الإحسان فاستشارت رجال دولتها وبذلك ضمنت ولاءهم وطاعتهم لقراراتها، وأرسلت إلى سليمان عليه السلام هدية تستجلب بها وده، فرفض الهدية وأصر على أن يصله منها ومن قومها الطاعة والإذعان، فكان عاقبة ذلك أن سارت بنفسها ومن معها(12/10)
ص -12- ... إلى سليمان عليه السلام في مدينة القدس، فذكرت الآيات القصة إلى أن قالت: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]، فآل أمرها إلى هذه العاقبة الجميلة (اقرأ القصة في سورة النمل 23 - 44).
فأي ثناء أثناه الله تعالى على هذه الملكة وعلى النجاح الذي وصلت إليه بحنكتها ودهائها وحسن تقديرها للأمور، حيث استطاعت تجنيب قومها وبلادها من إفساد الجيوش الغازية وإذلالهم لقومها، ولهذا نقل ابن كثير في تفسيره عن قتادة قال: رحمها الله ورضي عنها ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها، يعني حيث أخرجت قومها من عبادة الشمس إلى عبادة الله تعالى.
هذا وإن في مشاركة المرأة في المجالس النيابية خيراً كثيراً من حيث مشاركتها في الشورى في الأمور العامة، خاصة وأنَّ النساء يلتفتن أكثر من الرجال إلى الأمور(12/11)
ص -13- ... الخاصة بالبيوت والأسر والأطفال، وعلى مجلس الأمة قبل أن يتيح للنساء المشاركة في الترشيح والانتخاب أن يضع الضوابط الشرعية لمنع الانفلات المخالف للشرع قدر الإمكان، والله تعالى المسؤول أن يوفق العاملين لمصلحة البلاد إلى ما فيه خيرها وأن يجنبهم المزالق والأضرار.(12/12)
ص -14- ... فضل أبي بكرة رضي الله عنه وثناء العلماء عليه
أبو بكرة: هو نفيع بن الحارث، وقيل ابن مسروح الثقفي، تدلّى من حصن الطائف ببكرة، فقيل له أبو بكرة، واشتهر بها، وكان عبداً فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وعُدّ من مواليه، وكانت وفاته في خلافة معاوية سنة (52هـ)، وكل ما جاء من ثناء على الصحابة، رضي الله عنهما فأبو بكرة رضي الله عنه داخل فيه، وجاء عن جماعة من العلماء الثناء عليه على سبيل الخصوص، ومن ذلك:
1- قال الحسن البصري رحمه الله: "لم ينزل البصرة من الصحابة ممن سكنها أفضل من عمران بن حصين وأبي بكرة" (الاستيعاب مع الإصابة 4/24).
2- وقال سعيد بن المسيب: "وكان مثل النصل من العبادة حتى مات رحمه الله" (الاستيعاب مع الإصابة 4/24).
3- وقال أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي: "لم(12/13)
ص -15- ... يسكن البصرة قط بعد عمران بن حصين أفضل من أبي بكرة، وكان أقول بالحق من عمران" ذكره علاء الدين مغلطاي في (إكمال تهذيب الكمال 12/76).
4- وقال ابن سعد في الطبقات (7/16): "وكان رجلاً صالحاً ورعاً".
5- وقال ابن عبد البر وابن حجر: "وكان من فضلاء الصحابة" (الاستيعاب مع الإصابة: 4/24)، و(الإصابة: 6/252).
6- وقال أبو الحسن العجلي: "كان من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" ذكره المزي في ترجمته في (تهذيب الكمال).
7- وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: (1/198): "وكان أبو بكرة من الفضلاء الصالحين، ولم يزل على كثرة العبادة حتى توفي".
8- وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (3/6): "وكان من فقهاء الصحابة".(12/14)
ص -16- ... 9- وقد قسم ابن القيم في إعلام الموقعين: (1/12) أئمة الفتوى من الصحابة إلى مكثرين ومتوسطين ومقلين، وذكر في المتوسطين في الفتوى أبا بكرة رضي الله عنه.
10- وقال ابن كثير في (البداية والنهاية:11/249): "وأما أبو بكرة، فصحابي جليل كبير القدر".
11- وقال يحيى بن أبي بكر العامري في الرياض المستطابة (ص:283): "وكان أبو بكرة من ذوي المزايا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قبول العلماء مرويات أبي بكرة رضي الله عنه، وأنَّ ما
حصل له لا تأثير له في روايته
أجمع علماء المسلمين سلفاً وخلفاً طيلة أربعة عشر قرناً وزيادة على قبول مرويات أبي بكرة رضي الله عنه، وأثبتها علماء الحديث في دواوين السّنّة، ومنهم الأئمة الستّة، البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وله في هذه الكتب الستة خمسة وخمسون حديثاً، ذكر أطرافها(12/15)
ص -17- ... المزي في تحفة الأشراف من رقم (11654) إلى رقم (11708)، وله في مسند الإمام أحمد اثنان وخمسون ومائة حديث بالمكرر، من رقم (20373) إلى رقم (20524)، وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (1/198): "رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وثلاثون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على ثمانية أحاديث، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بحديث".
وأما جلد أبي بكرة رضي الله عنه في شهادته على المغيرة رضي الله عنه بالزنى، وكونه لم يتب، فذلك لا تأثير له في قبول روايته، لأنَّه لم يكن قاذفاً وإنما كان شاهداً، وفرق بين الشاهد في الزنى والقاذف فيه، وما زعمه من أنَّ آية: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، تدمغه بالفسق والكذب، وأنَّ هذا يقتضي ردّ ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما انفرد به، فهو زعم باطل وفهم خاطئ، فإنَّ الآية في القذفة وليست في الشهود، فهو داخل في الشهداء في الآية وليس من القذفة،(12/16)
ص -18- ... وجلده لعدم كمال النصاب، وعدم توبته لا تأثير له في قبول روايته؛ لأنَّ كمال النصاب ليس من فعله، وعلى القول بتأثير ما حصل له في شهادته تحمُّلاً وأداءً، فإنَّ ذلك قد انتهى بوفاته رضي الله عنه، ولا تأثير له في روايته التي قبلها العلماء واحتجُّوا بها على مختلف العصور، وشذوذ الشيخ محمد الأشقر عنهم بعد أربعة عشر قرناً وجوده مثل عدمه لا اعتبار له، وقد أوضح ذلك العلماء وبينوه، ومما جاء عنهم في ذلك:
1- قال أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي في كتابه (الواضح في أصول الفقه:5/27): "قال أحمد: ولا يرد خبر أبي بكرة ولا من جُلد معه لأنَّهم جاؤوا مجيء الشهادة، ولم يأتوا بصريح القذف، ويسوغ فيه الاجتهاد ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد".
ثم قال ابن عقيل: "ولما نص على أنَّه لا ترد الشهادة في ذلك، كان تنبيهاً على أنَّه لا يرد الخبر، لأنَّ الخبر دون(12/17)
ص -19- ... الشهادة، ولأنَّ نقصان العدد معنى في غيره، وليس بمعنى من جهته".
2- قال أبو بكر الإسماعيلي في (المدخل): "لم يمتنع أحد من التابعين فمن بعدهم من رواية حديث أبي بكرة والاحتجاج به، ولم يتوقف أحد من الرواة عنه ولا طعن أحد على روايته من جهة شهادته على المغيرة، هذا مع إجماعهم أن لا شهادة لمحدود في قذف غير تائب فيه، فصار قبول خبره جارياً مجرى الإجماع، كما كان رد شهادته قبل التوبة جارياً مجرى الإجماع" ذكره علاء الدين مغلطاي في (إكمال تهذيب الكمال: 12/77).
3- قال أبو إسحاق الشيرازي في (شرح اللمع: 2/638): "وأما أبو بكرة ومن جُلد معه في القذف، فإن أخبارهم مقبولة لأنَّهم لم يُخرجوا القول مخرج القذف، وإنما أخرجوه مخرج الشهادة، وجلدهم عمر رضي الله عنه باجتهاده، فلا يجوز ردّ أخبارهم".(12/18)
ص -20- ... 4- قال الإمام أبو بكر البيهقي: "كل من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ممن صحبه أو لقيه فهو ثقة لم يتهمه أحد ممن يحسن علم الرواية فيما روى" ذكره العلائي في كتابه (تحقيق منيف الرتبة ص:90).
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجل من أن يقال في الواحد منهم ثقة، ويكفيه شرفاً وفضلاً ونبلاً أن يقال فيه: صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النسائي في سفيان الثوري: "هو أجلُّ من أن يُقال فيه: ثقة، وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون الله ممن جعله للمتقين إماماً" ذكره الحافظ في ترجمته في تهذيب التهذيب، فأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بأن يُقال في أحدهم: أجل من أن يُقال فيه: ثقة.
5- قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني في (التمهيد:3/127): "إذا كان الراوي محدوداً في قذف فلا يخلو: أن يكون قذف بلفظ الشهادة أو بغير لفظها، فإن كان بلفظ الشهادة لم يرد خبره، لأنَّ نقصان عدد الشهادة ليس من فعله، فلم يرد به خبره، ولأنَّ الناس اختلفوا: هل يلزمه(12/19)
ص -21- ... الحد أم لا؟ وإن كان بغير لفظ الشهادة ردّ خبره، لأنَّه أتى بكبيرة إلاّ أن يتوب".
6- قال ابن قدامة في (روضة الناظر:1/303): "المحدود في القذف إن كان بلفظ الشهادة فلا يرد خبره؛ لأنَّ نقصان العدد ليس من فعله، ولهذا روى الناس عن أبي بكرة، واتفقوا على ذلك وهو محدود في القذف، وإن كان بغير لفظ الشهادة فلا تقبل روايته حتى يتوب".
وقال الشيخ عبد القادر بدران في حاشيته على روضة الناظر: "المحدود بسبب كونه قذف غيره إما أن يكون قذفه بلفظ الشهادة مثل أن يشهد على إنسان بالزنا، أو بغير لفظ الشهادة مثل من قال لغيره يا زان، فإن كان قذفه بلفظ الشهادة لم يرد خبره وقبلت روايته لأنَّه إنما يُحدُّ والحالة هذه لعدم كمال نصاب الشهادة بالزنا وهو أربعة، إذ لو كملوا لحُدّ المشهود عليه دون الشهود، وعدم كمال نصاب الشهادة ليس من فعل هذا الشاهد المحدود حتى يعاقب برد شهادته، وإن كان قذفه بغير لفظ الشهادة كقوله: يا زان(12/20)
ص -22- ... يا عاهر ونحوه ردت شهادته حتى يتوب؛ لأنَّ هذا القاذف كان بسبب من فعله وهو قذْفُه فعوقب عليه بالحد وسُلب منصب الشهادة، فإذا تاب قبلت شهادته قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أي: فاقبلوا شهادتهم بعد التوبة".
وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في مذكرته في أصول الفقه على روضة الناظر (ص:125): "حاصل ما ذكر في هذا الفصل أنَّ في إبطال الرواية بالحد في القذف تفصيلاً، فإن كان المحدود شاهداً عند الحاكم بأنَّ فلاناً زنى وحُدّ لعدم كمال الأربعة، فهذا لا ترد به روايته؛ لأنَّه إنما حُدّ لعدم كمال نصاب الشهادة في الزنى، وذلك ليس من فعله، وإن كان القذف ليس بصيغة الشهادة، كقوله لعفيف: يا زان ويا عاهر ونحو ذلك،(12/21)
ص -23- ... بطلت روايته حتى يتوب أي ويصلح، بدليل قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}، واستدل المؤلف رحمه الله لما ذكره من الفرق بين الحد على سبيل القذف والحد على سبيل عدم كمال النصاب في الشهادة بقصة أبي بكرة؛ لأنَّه متفق على قبول روايته مع أنَّه محدود في شهادته على المغيرة بن شعبة الثقفي بالزنا، والشهادة في هذا ليست كالرواية، فلا تقبل شهادة المحدود في قذف أو شهادة حتى يتوب ويصلح، بدليل قول عمر لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك، خلافاً لمن جعل شهادته كروايته فلا ترد وهو محكي عن الشافعي، والحاصل أن القاذف بالشتم تُرد شهادته وروايته بلا خلاف حتى يتوب ويصلح، والمحدود في الشهادة لعدم كمال النصاب تقبل روايته دون شهادته، وقيل تقبل شهادته وروايته، وقصة أبي بكرة المشار إليها أنَّه شهد على المغيرة بن شعبة بالزنا هو وأخوه زياد ونافع بن(12/22)
ص -24- ... الحارث وشبل بن معبد(1)، فتلكأ زياد أو غيره في الشهادة، فجلد عمر الثلاثة المذكورين.
قال مقيده عفا الله عنه: يظهر لنا في هذه القصة أنَّ المرأة التي رأوا المغيرة رضي الله عنه مخالطاً لها عندما فتحت الريح الباب عنهما، إنما هي زوجته ولا يعرفونها، وهي تشبه امرأة أخرى أجنبية كانوا يعرفونها تدخل على المغيرة وغيره من الأمراء، فظنوا أنَّها هي، فهم لم يقصدوا باطلاً، ولكن ظنهم أخطأ وهو لم يقترف إن شاء الله فاحشة لأنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فيهم الوازع الديني الزاجر عما لا ينبغي في أغلب الأحوال، والعلم عند الله".
وهذا الذي ذكره شيخنا رحمه الله من توجيه ما جاء في القصة، هو اللائق بمقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في المطبوعة (سعيد بن سهل)، والمعروف أنَّ أحد الشهود (شبل بن معبد)، فيكون فيها قلب وتصحيف.(12/23)
ص -25- ... 7- قال العلائي في كتابه تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة (ص:92): "وقد ذكر جماعة من أئمة الأصول في هذا الموضع قصة أبي بكرة ومن جلد عمر رضي الله عنه في قذف المغيرة بن شعبة وأنَّ ذلك لم يقدح في عدالتهم، لأنَّهم إنما أخرجوا ذلك مخرج الشهادة ولم يخرجوه مخرج القذف، وجلدهم رضي الله عنه باجتهاده، فلا يجوز ردّ أخبارهم بل هي كغيرها من أخبار بقية الصحابة رضي الله عنهم".
8- قال الزركشي محمد بن بهادر الشافعي في (البحر المحيط:4/299): "قال الصيرفي والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وغيرهم: وأما أمر أبي بكرة وأصحابه، فلما نقص العدد أجراهم عمر رضي الله عنهم مجرى القذفة، وحدّه لأبي بكرة بالتأويل، ولا يوجب ذلك تفسيقاً، لأنَّهم جاؤوا مجيء الشهادة، وليس بصريح في القذف، وقد اختلفوا في وجوب الحدّ فيه، وسوغ فيه الاجتهاد، ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد".(12/24)
ص -26- ... ويتحصَّل من هذه النقول ما يلي:
الأول: أنَّ رواية أبي بكرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مقبولةٌ عند العلماء باتفاق، ولم يخالف في ذلك واحد منهم في القديم والحديث، وأوَّل من تفوَّه بخلاف ذلك الشيخ محمد الأشقر في القرن الخامس عشر، وكنت قد سألته هاتفيًّا: هل تعلم أحداً سبقك إلى القول بردِّ رواية أبي بكرة؟ فأجاب بالنفي، وتقدَّم في كلام الإسماعيلي المتوفى سنة (371هـ) قوله: "لم يمتنع أحد من التابعين فمن بعدهم من رواية حديث أبي بكرة والاحتجاج به، ولم يتوقف أحد من الرواة عنه ولا طعن أحد على روايته من جهة شهادته على المغيرة"، وتقدَّم أيضاً قول البيهقي المتوفى سنة (458هـ): "كلُّ من روى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ممَّن صحبه أو لقيه فهو ثقة لم يتَّهمه أحد ممَّن يحسن علم الرواية فيما روى".
الثاني: أنَّ القاذفَ بلفظ الشتم كأن يقول: "يا زان! أو يا عاهر!" تُردُّ شهادته وروايته اتفاقاً، إلاَّ أن(12/25)
ص -27- ... يتوب ويصلح.
الثالث: أنَّ القاذفَ بلفظ الشهادة دون الشتم مختلف في ردِّ شهادته إذا لم يتب دون روايته، ومن العلماء من قال بقبول شهادته كروايته، ومنهم من قال بعدم إقامة الحدِّ عليه، والتفصيل الذي ذكره شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله الذي تقدَّم نقله تحرير بديع وتحقيق بالغ الأهمية.
سلامة ما في صحيح البخاري من الانتقاد مما دون الوضع
صحيح البخاري هو أصح الكتب المدونة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل على حديث أبي بكرة رضي الله عنه: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، الذي قال فيه الشيخ محمد الأشقر: "فينبغي أن يضم هذا الحديث إلى الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم"، ولم أسمع قبل هذا الكلام عن أحد من أهل العلم دعوى أن في(12/26)
ص -28- ... صحيح البخاري شيئاً موضوعاً مكذوباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الجهابذة النّقّاد من العلماء غربلوا أحاديثه للوقوف على علة لبعض الأحاديث فيه، وكان كل ما اجتمع لهم من ذلك شيئاً يسيراً، ولم يُسَلَّم لهم ذلك الانتقاد إلاّ في شيء نادر، وقد ذكرت خلاصة ذلك في مقدمة كتابي "عشرون حديثاً من صحيح البخاري" المطبوع قبل خمسة وثلاثين عاماً أنقله هنا:
انتقاد بعض الحفاظ بعض الأحاديث في صحيح البخاري والجواب عن ذلك:
ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أنَّ الدارقطني وغيره من الحفاظ انتقدوا على الصحيحين مائتين وعشرة أحاديث، اشتركا في اثنين وثلاثين حديثا وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثاً وانفرد مسلم عن البخاري بمائة حديث، وقد عقد فصلاً خاصاً للكلام على الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري أورد فيه الأحاديث على ترتيب الصحيح وأجاب عن الانتقادات فيها تفصيلاً،(12/27)
ص -29- ... وقد أجاب عنها في أول الفصل إجمالاً حيث قال: والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، ثم ذكر بعض ما يؤيد ذلك، ثم قال: فإذا عرف وتقرر أنَّهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلاّ أنَّها غير مؤثرة عندهما فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضاً لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل فالأحاديث التي انتقدت عليهما تنقسم أقساماً:
الأول: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد.
الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.
الثالث: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها.(12/28)
ص -30- ... الرابع: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة.
الخامس: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله.
السادس: ما اختلف فيه بتعيين بعض ألفاظ المتن.
وفي ضمن ذكره لهذه الأقسام ذكر الجواب عن ذلك في الجملة وأشار إلى بعض الأحاديث المنتقدة التي فصل القول فيها بما يوضح الجواب الإجمالي، ثم قال: فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح وقد حررتها وحققتها وقسمتها وفصلتها، لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلاّ النادر وقال في نهاية الفصل: هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد المطلعون على خفايا الطرق، إلى أن قال: فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنَّف في نفسه وجل تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم.(12/29)
ص -31- ... ذكر الأدلة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية
العامة ولا ما دونها من الولاية على الرجال
دلَّت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع العلماء على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية على الرجال، ومنها ما يلي:
الدليل الأول: قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، وقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، ففي الآية الأولى: أنَّ رسل الله من الرجال لا من النساء، وفي ذلك تفضيل لهم عليهن، وفي الآية الثانية: بيان أنَّ القوامة إنما هي للرجال على النساء، لما فُضلوا به عليهن، وفي الآية الثالثة: تفضيل الرجال على النساء؛ لأنَّ لهم عليهن درجة، وهذا فيه دلالة على أنَّ الولاية العامة إنما تكون لمن جعل الله الرسالة فيهم، وهم الرجال ومن جعلهم الله قوامين(12/30)
ص -32- ... على النساء، وجعل لهم عليهن درجة، وأنَّها لا تكون لمن لم يُرسل منهن أحد، ومن هن مَقُوم عليهن لا قوّامات، ومن هن دون الرجال درجة، وقد جاءت الشريعة بتفضيل الرجال على النساء في الميراث والشهادة والعتق والعقيقة والدية، حيث جُعلت المرأة على النصف من الرجل في هذه الخمس.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي بكرة رضي الله عنه في موضعين (4425) و(7099) بهذا اللفظ، وليس في صحيحه: "أسندوا أمرهم إلى امرأة" كما ذكر ذلك الشيخ محمد الأشقر، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (20402)، (20474)، (20477) بلفظ: "أسندوا أمرهم إلى امرأة" و(20438)، (20478)، (20517) بلفظ: "تملكهم امرأة" و(20508) بلفظ: "ما أفلح قوم تلي أمرهم امرأة"، وأخرجه النسائي في كتاب القضاء من سننه (5388)(12/31)
ص -33- ... [باب: النهي عن استعمال النساء في الحكم]، ولفظه: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وأخرجه الترمذي (2262) بمثل لفظ البخاري والنسائي، وقال: "هذا حديث صحيح".
وهذا الحديث واضح الدلالة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة، بل في ذكر النسائي له في كتاب القضاء، دلالة على أنَّها ليست أهلاً لما دون ذلك وهو القضاء.
وتصحيح الحديث والاعتماد عليه في أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة هو الذي عليه العلماء سلفاً وخلفاً، ولا عبرة بمخالفة الشيخ محمد الأشقر وحده لهم في الطعن في الحديث وفي تسويغ تولِّي المرأة الولاية العامة؛ فإنَّ القدح في هذا الحديث والصحابي الذي رواه من محدثات القرن الخامس عشر.
الدليل الثالث: أنَّ الشريعة جاءت باحتجاب النساء عن الرجال، ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء، وقد(12/32)
ص -34- ... قال صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان" رواه الترمذي (1173) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وانظر إرواء الغليل (273)، وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عن هذا الحديث في كتابه "أضواء البيان" في تفسير سورة الأحزاب (6/596): "وما جاء فيه من كون المرأة عورة يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة".
ومن أوضح ما يستدل به من السنة على وجوب تغطية المرأة وجهها عن الرجال الأجانب، ما جاء فيها أنَّ النساء يغطين أقدامهن، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمة: فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبراً"، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن! قال: "فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه" رواه أهل السنن وغيرهم وقال الترمذي (1731): "هذا حديث حسن(12/33)
ص -35- ... صحيح"، فإنَّ مجيء الشريعة بتغطية النساء أقدامهن يدل دلالة واضحة على أنَّ تغطية الوجه واجب؛ لأنَّه موضع الفتنة والجمال من المرأة، وتغطيته أولى من تغطية الرجلين.
وفي صحيح البخاري (870) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مُقامه يسيراً قبل أن يقوم، قال: نرى - والله أعلم - أنَّ ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال" ورواه النسائي (1333) ولفظه: "أنَّ النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كنَّ إذا سلّمن من الصلاة قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال"، وقد جاء في القرآن الكريم أنَّ ترك الاختلاط بين الرجال والنساء كان في الأمم السابقة، قال الله عز وجل عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى(12/34)
ص -36- ... يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:23-24]، ففي هذه القصة أنَّ هاتين المرأتين احتاجتا إلى سقي غنمهما وانتظرتا حتى ينتهي الرجال من سقي أغنامهم، واعتذرتا لموسى عليه الصلاة والسلام بأنَّ أباهما شيخ كبير لا يتمكن من الحضور لسقي الغنم مع الرجال، فسقى لهما موسى عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنَّ ولاية المرأة لا تتأتى إلاّ مع الاختلاط، وقد جاءت الشريعة بمنعه، وفي كون النساء يحتجبن عن الرجال دلالة على أنَّهن لسن أهلاً للولاية العامة، بل ولا ما دونها من الولايات التي يكنَّ فيها مرجعاً للرجال.
قال ابن القيم في الطرق الحكمية (ص:280): "ومن ذلك أنَّ ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفُرَج ومجامع الرجال"، وقال (ص:281): "ولا ريب أنَّ تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنَّه من أسباب فساد أمور العامة(12/35)
ص -37- ... والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة".
الدليل الرابع: أنَّ المرأة ممنوعة من السفر إلاّ ومعها محرم، وممنوعة من خلوة الرجل الأجنبي بها إلاّ ومعها محرم، ففي صحيح البخاري (1862) ومسلم (3272) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلاّ ومعها محرم"، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج؟ فقال: "اخرج معها"، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الرجل السائل في هذا الحديث إلى ترك الجهاد ليسافر مع امرأته للحج، وقد وردت أحاديث أخرى في تحريم الخلوة بالمرأة إلاّ مع ذي محرم، وتحريم سفرها إلاّ مع ذي محرم، وهي دالة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة ولا ما دونها من الولايات على الرجال، وكيف تلي الأمر من لا تسافر إلاّ مع ذي محرم؟ ومن لا(12/36)
ص -38- ... يخلو بها رجل إلاّ مع ذي محرم؟
الدليل الخامس: أنَّ ولي الأمر إذا كان في جماعة وحضرت الصلاة، أولى بالإمامة من غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يؤُمَنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلاّ بإذنه" رواه مسلم (1533) عن أبي مسعود رضي الله عنه، ورواه النسائي (783) بلفظ: "لا يُؤَم الرجل في سلطانه، ولا يُجلس على تكرمته إلاّ بإذنه"، أورده في ترجمة (اجتماع القوم وفيهم الوالي)، والمرأة لا يجوز أن تؤم الرجال في الصلاة، فلا تؤمهم في أمور الدنيا، والنساء لا تجب عليهن الجماعة، وصلاتهن في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المساجد، وإذا حضرن إلى المساجد ابتعدن عن الرجال، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" رواه مسلم (985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الدليل السادس: أنَّ من صفات النساء الضعف والجزع، والرجال أشد منهن قوة وأكثر تحملاً، ولهذا جاء(12/37)
ص -39- ... الوعيد في النياحة على الميت مضافاً إلى النساء، لأنَّ الجزع وعدم الصبر غالب عليهن، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ على النساء عند البيعة ألاّ يَنحن، فعن أم عطية رضي الله عنهم قالت: "أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح" رواه البخاري (1306) ومسلم (2164). وفي صحيح مسلم (288) عن أبي موسى رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "برىء من الصالقة والحالقة والشاقة"، والصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق رأسها، والشاقة التي تشق ثوبها، والولاية في الشرع ثبتت لأهل القوة والصبر، لا لذوات الجزع والضعف، و(تاتشر) البريطانية، التي استشهد الشيخ محمد الأشقر بولايتها لبريطانيا، لما وقعت الحرب بين بريطانيا والأرجنتين، على جزر (فوكلاند) وضُربت إحدى السفن البريطانية، بكت كما أذيع في حينه؛ لأنَّ الجزع والضعف من صفات النساء.
الدليل السابع: أنَّ تاريخ الإسلام خال من ولاية النساء الولاية العامة، بل وحتى الولايات الخاصة التي(12/38)
ص -40- ... تكون فيها النساء مرجعاً للرجال، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تولية امرأة في قضاء أو إمارة قرية، أو غير ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث العرباض بن سارية: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..." الحديث.
قال ابن قدامة في المغني (14/13): "ولا تصلح للإمامة العظمى، ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا مَن بعدهم امرأة قضاءً ولا ولاية بلدٍ، فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يَخلُ منه جميع الزمان غالباً"، وكانت وفاة ابن قدامة سنة (620هـ).
الدليل الثامن: أنَّ الأمة مجمعة على أنَّ المرأة لا تتولى الولاية العامة، حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم ابن حزم، قال في كتابه الفصل (4/179): "وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة..."، وقال البغوي في شرح السنة (10/77): "اتفقوا(12/39)
ص -41- ... على أنَّ المرأة لا تصلح أن تكون إماماً ولا قاضياً؛ لأنَّ الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز"، وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (1/55): "من شروط الإمام الأعظم كونه ذكراً، ولا خلاف في ذلك بين العلماء "، والقول بأنَّ المرأة لا تتولى القضاء ولا غيره من الولايات التي تكون فيها المرأة مرجعاً للرجال، هو الذي دلت عليه الأدلة التي تقدم ذكرها، من أنَّ المرأة تحتجب عن الرجال ولا تخالطهم، وكذا خُلُوّ تاريخ الإسلام من ذلك، كما ذكره صاحب المغني، وتقدم قريباً.
وكما أنَّ المرأة ليست أهلاً للولاية العامة، فهي أيضاً ليست أهلاً لأنَّ تولي غيرها، ولهذا لما بايع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه لم يُنقل أنَّه كان فيهم امرأة واحدة، لا في سقيفة بني ساعدة، ولا في المسجد بعد ذلك، بل الولاية يتولاها الرجال، والذين يُولونها غيرهم هم الرجال.(12/40)
ص -42- ... التعليق على جُمل من المقال
اشتمل مقال الشيخ محمد الأشقر على القدح في حديث أبي بكرة رضي الله عنهم: "لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة" من جهة إسناده ومتنه، أمَّا قدحه في إسناده، فعلَّتُه عنده كونه من رواية أبي بكرة رضي الله عنه، وقد أسرف على نفسه، فنال من أبي بكرة رضي الله عنه ووصفه بالكذب والوضع، وعاب على البخاري وغيره إخراج حديثه؛ فقد جاء في مقاله قوله: "وتصحيح البخاري وغيره لهذا الحديث وغيره من مرويات أبي بكرة رضي الله عنه هو أمر غريب لا ينبغي أن يُقبل بحال..."!! وقوله: "... وهذا منطبق على أبي بكرة؛ فإنَّ الآية تدمغه بالفسق والكذب، وهذا يقتضي رد ما رواه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا انفرد به، كهذا الحديث العجيب "لن يفلح قوم تملكهم امرأة"، فينبغي أن يُضَمَّ هذا الحديث إلى الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم"!!.(12/41)
ص -43- ... وهذا الكلام في أبي بكرة رضي الله عنه من أبطل الباطل وأقبح ما يكون من الكلام، ومن أعجب العجب أن يُقدح في إسناد حديث من أجل صحابيِّه الذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأوَّل مرة في حياتي أسمع القدح في حديث في صحيح البخاري من رجل من أهل السنة له اشتغال بالعلم الشرعي، من أجل الصحابي الذي رواه ووَصْفه بأسوأ صيغ الجرح، وهي: وضع الحديث والكذب فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّها - والله! - لإحدى الكبر أن يأتي آت في القرن الخامس عشر فيتفوَّه في صحابي جليل بما لم يسبقه إليه بشر، وإنَّ ذلك لبهتان عظيم وإفك مبين!
وكان الأليق بقائل هذا الكلام أن يتَّهم رأيه ولا يتَّهم هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه.
وأمَّا قدحه في متن الحديث، فقد قال: "على أنَّا نقول جَدلاً: لو صحَّ هذا الحديث افتراضاً جدليًّا لكان حجةً فقط في منع أن تتولى المرأة الملك أو رئاسة الدولة، ولا(12/42)
ص -44- ... يصلح حجة لمنع أن تتولى المرأة القضاء أو إمارة قرية أو مدينة ... مَن احتج بهذا الحديث على ذلك فهو مخطئٌ خطأ كبيراً بل إنني أعتبره يسيء الفهم جدًّا"!!
وقال: "على أنَّ مما يدلُّ على بطلان هذا الحديث أنَّه يقتضي أنَّه لا يمكن أن يفلح قومٌ تتولى رئاسة دولتهم امرأة في حال من الأحوال، ومعنى هذا أنَّه لو وُجدت امرأة على رأس إحدى الدول ونجحت تلك الدولة في أمورها الدنيوية فيكون ذلك دالاًّ على أنَّ هذا الحديث كذبٌ مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وُجد في العصور الحديثة دولٌ كثيرة تولَّت رئاستها نساءٌ، ونجحت تلك الدول نجاحات باهرة تحت رئاسة النساء ... "!!
والجواب عن الإيراد الأول أنَّ الحديث شامل لمنع المرأة من الولاية العامة والخاصة، وقد مرَّ عن الإمام النسائي الاستدلال به على منع المرأة من القضاء، حيث أورده في كتاب القضاء، في "باب النهي عن استعمال(12/43)
ص -45- ... النساء في الحكم"، واستدلَّ به أيضاً الشوكاني في السيل الجرار (4/273)، فقال: "وليس بعد نفي الفلاح شيء من الوعيد الشديد، ورأس الأمور هو القضاء بحكم الله عزَّ وجلَّ، فدخوله فيها دخولاً أوَّليًّا"، وكذا ما تقدَّم من احتجاب النساء ومنع اختلاطهنَّ بالرجال، وأنَّ المرأة لا تسافر إلاَّ مع ذي محرم، ولا يخلو بها رجل إلاَّ مع ذي محرم، فإنَّ الحكم في ذلك يشمل الولاية العامة والخاصة، وأيضاً ما تقدَّم نقله عن صاحب المغني من عدم وجود الولايات الخاصة للنساء في زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين وما بعد ذلك إلى زمنه في القرن السابع.
والجواب عن الإيراد الثاني أنَّه لو تسلَّطت امرأة على الرجال أو سلَّطوها على أنفسهم - وهو غير جائز لهم شرعاً - وحصل لها نجاح في سياستها إن سُلِّم ذلك النجاح، فإنَّ ذلك من الأمور النادرة، والنادر لا حكم له، وإنَّما الحكم للغالب، وعلى هذا فالواجب اتهام العقول واحترام النقول(12/44)
ص -46- ... وتعظيمها، ومثل هذا العموم في الحديث العموم في قول الله عزَّ وجلَّ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 43]، فإنَّ المراد به الغالب، قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عند تفسير هذه الآية {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (7/218): "لأنَّ الأنثى غالباً لا تقدر على القيام بحجَّتها، ولا الدفاع عن نفسها".
ومثل هذا العموم أيضاً حديث أنس رضي الله عنه في صحيح البخاري (7068): "لا يأتي عليكم زمان إلاَّ والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربَّكم"، قال الحافظ ابن حجر في شرحه في الفتح (13/21): "وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب"، وقال أيضاً: "واستدلَّ ابن حبان في صحيحه بأنَّ حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي، وأنَّه يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً".(12/45)
ص -47- ... والواجب فهم النصوص وفقاً لما فهمه السلف، لا أن تُفهم النصوص فهوماً خاطئة ثم يُقدح فيها بناءً على ذلك.
وأمَّا ما ذكره من أنَّ نفي الفلاح في الحديث إنَّما هو في الأمور الدنيوية، فجوابه أنَّ الحديث شامل لنفي الفلاح الدنيوي والأخروي، أمَّا الدنيوي فواضح، وأمَّا الأخروي فلأنَّ الكفَّار - في أصحِّ قولي العلماء - مخاطَبون بفروع الشريعة؛ وفائدة ذلك أنَّهم يُؤاخذون على ترك الأصول والفروع، ولهذا فإنَّ من كفر وصدَّ عن سبيل الله أعظم جرماً وعذاباً مِمَّن كفر ولم يصدَّ عن سبيل الله، والكفار في النار دركات، بعضهم أسفل من بعض، كما أنَّ أهل الجنَّة فيها درجات بعضهم فوق بعض، قال الله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
ومن أوضح ما يتبيَّن به نفي الفلاح الأخروي في ولاية المرأة أنَّها لا يمكنها الإلزام بتنفيذ أحكام الشرع(12/46)
ص -48- ... المتعلقة بالنساء من القرار في البيوت وترك التبرج ومنع الاختلاط بالرِّجال والخلوة بالنساء وسفرهنَّ بدون محرم وغير ذلك؛ لأنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه.
وأمَّا استشهاده بقصَّة المرأة التي ملكت اليمن، وجاءت قصتها في سورة النمل، فالجواب أنَّه لا يُستدل بها على ولاية المرأة على الرجال؛ لأنَّه حكاية عمَّن كان قبلنا، وليس فيه ذكر أنَّها شريعة من الشرائع، بل كانت وقومها كفَّاراً يسجدون للشمس، ومع ذلك فقد جاء في شريعتنا ما يدلُّ على خلاف ذلك، ومنها الأدلة الثمانية التي أوردتها، وقد نقل ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] قول الحسن البصري رحمه الله ذامًّا الذين فوَّضوا الأمر إليها: "فوَّضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها".
وقول الشيخ محمد الأشقر في معرض ثنائه على نجاحها: "حيث استطاعت تجنيب قومها وبلادها من(12/47)
ص -49- ... إفساد الجيوش الغازية وإذلالهم لقومها"، لا يصح هذا الإطلاق في كلامه، بل يتعيَّن تقييده بما يفيد أنَّ إفساد تلك الجيوش إنَّما كان في ظنِّها في أوَّل الأمر، لأنَّه لا يسوغ أن توصف جيوش سليمان عليه السلام بالإفساد.
وقد زعم في مقاله أنَّ في مشاركة المرأة في المجالس النيابية خيراً كثيراً، وأوصى بوضع الضوابط لهذه المشاركة!
والجواب أنَّ في زجِّ المرأة في هذه الميادين تعطيلاً لوظيفتها ومهمَّتها، وهي القرار في البيت ورعاية الأولاد، وليس للمرأة أن تتولَّى على غيرها من الرجال، ولا أن تشارك الرِّجال في تولية الرِّجال، ومن المعلوم أنَّ سقيفة بني ساعدة التي تمَّت مبايعة أبي بكر رضي الله عنه فيها في أول الأمر لم يكن فيها امرأة واحدة، ولو كان في تميكن النساء من المشاركة في هذه الأمور خيرٌ لسبق إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنَّهم السبَّاقون إلى كلِّ خير، لكنَّه شرٌّ سلَّمهم الله منه وسلَّم منه قروناً كثيرة بعدهم، وابتُلي به كثير من المسلمين(12/48)
ص -50- ... تقليداً لأعدائهم في هذا الزمن الذي انفلتت فيه النساء
وأمَّا وصيته بوضع ضوابط لمشاركة النساء لمنع الانفلات المخالف للشرع، فإنَّ الدعوة إلى تولي المرأة وإلى مشاركتها في تولية غيرها مخالف للشرع لما سبق ذكره من الأدلة، والدعوة إلى مشاركة المرأة في هذه الأمور مع وضع الضوابط المزعومة لمنع الانفلات يصدق عليه قول الشاعر:
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له ... إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماء
وقد ختم مقاله بدعاء فقال: "والله تعالى المسؤول أن يوفق العاملين لمصلحة البلاد إلى ما فيه خيرها، وأن يجنِّبهم المزالق والأضرار".
وأقول: إنَّ ما اشتمل عليه مقاله من قدح في الصحابي أبي بكرة رضي الله عنه ومروياته التي انفرد بها في صحيح البخاري وغيره، واهتمامه بتمكين النساء من الولايات العامة والخاصة على الرجال، وأن تشارك في تولية غيرها، أقول:(12/49)
ص -51- ... إنَّ ذلك من أعظم المزالق والأضرار التي ابتلي بها كثير من المسلمين في هذا الزمان، وقد أساء الشيخ محمد الأشقر بما اشتمل عليه هذا المقال من الوسيلة والغاية إلى أهل السنة إساءة عظيمة، وأثلج صدور المتربصين بهم، من الذين في قلوبهم حقدٌ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الدعاة إلى تحرير المرأة المسلمة من كلِّ القيود والضوابط الشرعية.
تناقضات متباينة للرجال والنساء
وفي الختام أقول: لقد اختلَّت الموازين في هذا الزمان بين الرِّجال والنساء، فتشبَّه الرجال بالنساء والنساء بالرِّجال، وفي صحيح البخاري (5885) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبِّهين من الرِّجال بالنساء، والمتشبِّهات من النساء بالرِّجال"، وقد حصل في هذا الزمان ما لم يحصل في الجاهلية الأولى من تبرُّج النساء، حتى وصل ذلك في كثير من بلاد المسلمين إلى إخراج(12/50)
ص -52- ... بعض النساء في الأسواق والطرقات رؤوسهنَّ ونحورهنَّ وأذرعهنَّ وأعضادهنَّ وسوقهنَّ وبعض أفخاذهنَّ، وفي مقابل ذلك أسبل الرِّجال ثيابهم حتى غطوا كعابهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" رواه البخاري (5787)، وفي صحيح مسلم (106) عن أبي ذر رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يُكلِّمهم اللهُ يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا! مَن هم يا رسول الله؟ قال: المُسبلُ، والمنَّان، والمُنَفِّق سلعته بالحلف الكاذب"، فهذا الصنف من الرجال نُهوا عن الإسبال فأسبلوا، وذاك الصنف من النساء أُمرنَ بالحجاب وتغطية أقدامهنَّ فخالفن وأظهرن كثيراً من زينتهنَّ، وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والديُّوث، ورَجلة النساء" رواه الحاكم (1/72) وصححه، ووافقه الذهبي.(12/51)
ص -53- ... والمرأة التي تُمكَّن من الولايات العظمى أو ما دونها من الولايات على الرجال من أهل هذا الوعيد في هذا الحديث، وبتولِّي النساء على الرجال ورِضَى الرجال بذلك تطبيق للمَثَل: "اسْتَنْوَق الجمل، واسْتَدْيَكت الدجاجة"، وهذا من اختلال الموازين وقلب الحقائق، ومنه ما جاء في قول الشاعر كما في معجم الأدباء لياقوت الحموي (17/198):
قد قُدِّم العَجْبُ على الرُّوَيس ... وشارف الوهدُ أبا قُبيسِ
وطاول البقلُ فروعَ الميْس ... وهبت العنز لقرع التيسِ
وادَّعت الروم أبًا في قيس ... واختلط الناس اختلاط الحيسِ
إذ قرا القاضي حليف الكيس ... معاني الشعر على العبيسي
وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفِّق المسلمين في كلِّ مكان لتطبيق شريعة ربِّهم ليظفروا بالسعادة في دنياهم وآخرتهم، وأسأل الله تعالى أن يوفِّق الشيخ محمد بن سليمان الأشقر(12/52)
ص -54- ... للرجوع إلى الحقِّ، وأن يسلمه من التمادي في الباطل الذي وقع فيه، وأن يتولَّى الجميع بتوفيقه وتسديده لما تُحمد عاقبته في الدنيا والآخرة؛ إنَّه سميع مجيب، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/53)
ص -55- ... الفهرس
المقدمة 3
مقال الشيخ محمد الأشقر 7
فضل أبي بكرة رضي الله عنه وثناء العلماء عليه 14
قبول العلماء مرويات أبي بكرة رضي الله عنه، وأنَّ ما حصل له لا تأثير له في
روايته 16
سلامة ما في صحيح البخاري من الانتقاد مما دون الوضع 27
ذكر الأدلة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة ولا ما
دونها من الولاية على الرجال 31
التعليق على جُمل من المقال 42
تناقضات متباينة للرجال والنساء 51(12/54)
عنوان الكتاب:
الرد على الرفاعي والبوطي في كذبهما على أهل السنة ودعوتهما إلى البدع والضلال
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار ابن الأثير، الرياض، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1421هـ/2000م(13/1)
ص -3- ... الرَّدٌّ على الرفاعي والبوطي في كذبهما على أهل السنة ودعوتهما إلى البدع والضلال
إعداد: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام الأتَمَّان الأكملان على سيِّد المرسَلين وإمام المتقين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تَبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقد اطَّلعتُ على أوراقٍ للكاتب الأستاذ يوسف هاشم الرِّفاعي سوَّدها بِما زعمَ أنَّه نصيحةٌ لعلماء نَجد، أَفرَغ فيها ما في جُعبتِه وجُعَبِ الذين تعاونوا معه على الإثمِ والعدوان، من تهجُّمٍ على مَن زعم نُصحَهم وكذبٍ عليهم ودعوةٍ إلى البدعِ والضلال، وكأنَّه لَم يَجد في بلدِه الكويت مَن يَشُدُّ أَزرَه على وِزرِه، فيَمَّم نحوَ الشام ليجِد في الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بُغيتَه المطلوبة وضالَّتَه المنشودة، فيُقدِّمَ لأوراقِه، ويتَّفِقَ معه في الوقيعة(13/2)
ص -4- ... بالمتمسِّكين بالكتاب والسُنَّة وما كان عليه سلف الأمَّة.
وقبل مناقشتِه في كثير مِمَّا اشتَملت عليه أوراقُه أُشيرُ إجمالاً إلى أمور هي:
1 جعل الكاتبُ ما زعمه نصيحةً موجَّهاً لعلماء نجد، وهو في الحقيقةِ موجَّهٌ لكلِّ ملتزمٍ بالكتاب والسُنَّة وما كان عليه سلفُ الأمَّة.
2 أَورَدَ الكاتبُ أموراً عابَها على مَن زعم نصحَهم، وهي من الحقِّ الذي لَم يُوفَّق للهدايةِ إليه هداه الله وأصلح حالَه .
3 أورَدَ أموراً هي من البدعِ ومُحدَثات الأمور عاب على مَن زعم نصحَهم عدمَ الأخذِ بها، ودعوتَهم إلى تركِها والابتعادِ عنها.
4 عاب على مَن زعم نصحَهم أموراً لا حقيقةَ لها، وهم بُرآءُ منها.
5 أورَد أموراً لاحَظَها على فردٍ أو أفرادٍ وأسندها إلى مَن زعم نُصحَهم؛ ليُكثِّر بذلك خصومَه يوم القيامة.(13/3)
ص -5- ... 6 شمل الكاتبُ بعطفِه وشفقتِه الفِرَقَ المختلفة، بل حتى السّحَرةَ ومُهربيِّ المخدرات، ولَم يبخَل بذلك إلاَّ على مَن زعم نصحَهم، وكأنَّه ليس أمامَه في الميدانِ إلاَّ مَن يتَّبع الكتاب والسُنَّة وما كان عليه سلف هذه الأمة.
7 تعرَّض في أوراقِه للنيل من حُكَّام المملكة وقُضاتِها ومُفتيها وبعضِ الأئمَّة والخُطباء، وكيفية القبول في الجامعات، وتعيين الخرِّيجين والدعاة وغير ذلك، فكان بذلك مُجيداً لِما يُقال له: التدخُّل في الشؤون الداخلية.
وذكّرني صنيعُه هذا كلمةً قالَها الإمامُ يحيى بن معين رحمه الله في أحد الرواة، حيث قال: "يُفسدُ نفسَه، يدخل في كلِّ شيء"!
8 كلُّ ما في أوراق الكاتب يُوافقه عليه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، كما ذكر ذلك في تقديمِه للأوراق، وكلُّ ردٍّ على الكاتبِ هو ردٌّ على المقدِّم لها.
وهذا أوانُ الشروع في مناقشة الكاتب في بعض ما اشتملت عليه أوراقُه، وما يُذكر دليلٌ على ما لَم يُذكر.(13/4)
ص -6- ... 1- قال الكاتب: "كان أسلافُكم حنابلة المذهب يتَّبعون ويُقلِّدون مذهبَ الإمام الشيخ أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، ابتداءً من ابن تيمية وابن القيم".
ثم ذكر جماعةً من الحنابلةِ منهم: ابن قدامة المقدسي، وابن هُبيرة، ثمَّ قال: "وختاماً بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده والمفتي محمد بن إبراهيم وابن حميد رحمهم الله تعالى جَميعاً ولكنَّكم الآن تخلَّيتم عن هذا المذهب، وقلتُم (إنَّكم سلفيُّون)... وأنَّكم تلتزمون بالكتاب والسنة فقط...".
ويُجاب عن كلامه من وجوه:
الأول: أنَّه ذكر ابنَ قدامة وابنَ هبيرة بعد ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرهم، والواقع أنَّهما متقدِّمان عليهم؛ لأنَّ وفاةَ ابن تيمية سنة (728ه)، أما ابن قدامة فكانت وفاتُه سنة (620ه)، وقبله ابن هبيرة كانت وفاته سنة (560ه)، فلَم يُميِّز الكاتبُ بين مَن هو متقدِّمٌ ومَن هو متأخِّرٌ!(13/5)
ص -7- ... الثاني: أنَّ علماءَ نجد الذين وصفهم الكاتبُ بأنَّهم تَخلَّوا عن المذهب الحنبلي لَم يتخلَّوا عنه كما زعم، بل دَرَسوه ودرَّسوه، فالشيخ عبد العزيز بن باز رحِمه الله كان يُدرِّس في كلية الشريعة بالرياض الروضَ المربع شرح زاد المستقنع، وأنا مِمَّن دَرَسَ عليه، والشيخ ابن عثيمين يُدرِّس زاد المستقنع، وقد طُبع من شرحه عدةُ مجلدات، وكذلك غيرهما، بل إنَّ الكاتبَ وغيرَه يسمعون في إذاعة القرآن الكريم شرحَ الشيخ صالح الفوزان "زاد المستقنع"، وشرح الشيخ عبد الرحمن الفريان "آداب المشي إلى الصلاة" للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
وعلى هذا فهُم لَم يتخلَّوا عن المذهب الحنبليِّ، ولكنَّهم تَخلَّوا عن التعصُّب له، وإذا وُجد الدليلُ الصحيح على خلاف المذهب صاروا إلى ما دلَّ عليه الدليلُ.
وإذاً فلا فرقَ بين الذين زعم نصحَهم، ووصفهم بأَنَّهم تَخلَّوا عن المذهب الحنبليِّ، وبين مَن وصفهم باتِّباعه كابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرِهم، فإنَّ الكلَّ درسوا(13/6)
ص -8- ... المذهب الحنبليَّ واستفادوا من كتب المذهب، وإذا تبيَّن أنَّ الدليلَ على خلافه صاروا إليه.
الثالث: أنَّ هذا المسلكَ الذي عليه علماء الحنابلة الملتزمون بالدليل من الكتاب والسُّنَّة هو الذي عليه أهلُ الإنصافِ من مذاهب الأئمَّة الآخرين، ومن أمثلة كلامهم في ذلك:
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/306): "قال أصبغ: المسحُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن أكابر أصحابه في الحضَر أثبتُ عندنا وأقوى من أن نتَّبع مالكاً على خلافه".
وقال في الفتح (1/276): "المالكيَّةُ لا يقولون بالتتريب في الغسل من ولوغ الكلب، قال القرافيُّ منهم: قد صحَّت فيه الأحاديث، فالعجبُ منهم كيف لَم يقولوا بها!".
وقال في الفتح (3/189): "قال ابن العربيُّ المالكي: قال المالكيَّةُ: ليس ذلك أي الصلاة على الغائب إلاَّ لِمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، قلنا: وما عمل به محمدٌ صلى الله عليه وسلم تعمَلُ به أمَّتُه(13/7)
ص -9- ... يعني لأنَّ الأصلَ عدم الخصوصية، قالوا: طُويت له الأرضُ وأُحضرت الجنازةُ بين يديه! قلنا: إنَّ ربَّنا عليه لقادرٌ، وإنَّ نبيَّنا لأهلٌ لذلك، ولكن لا تقولوا إلاَّ ما رويتم، ولا تَخترعوا حديثاً من عند أنفسكم، ولا تُحدِّثوا إلاَّ بالثابِتات ودَعُوا الضعافَ؛ فإنَّها سبيلُ إتلاف إلى ما ليس له تَلاف". وانظر: نيل الأوطار للشوكاني (4/54).
وقال ابنُ كثير رحمه الله في تعيين الصلاة الوسطى: "وقد ثبتت السُنَّةُ بأنَّها العصرُ، فتعيَّن المصيرُ إليها"، ثمَّ نقل عن الشافعيِّ أنَّه قال: "كلُّ ما قلتُ فكان عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بخلاف قولي مِمَّا يصِحُّ، فحديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أولَى، ولا تُقلِّدوني، وقال أيضاً: إذا صحَّ الحديثُ وقلتُ قولاً، فأنا راجعٌ عن قولي وقائلٌ بذلك"، ثمَّ قال ابنُ كثير: "فهذا من سيادتِه وأمانتِه، وهذا نَفَسُ إخوانِه من الأئمَّة رحمهم الله ورضي الله عنهم أجمعين، آمين، ومن هنا قطع القاضي الماوَردي بأنَّ مذهبَ الشافعيّ رحمه الله أنَّ صلاةَ الوسطى هي صلاةُ العصر وإن كان قد نصَّ في الجديد(13/8)
ص -10- ... وغيره أنَّها الصبح لصحَّة الأحاديث أنَّها صلاةُ العصر، وقد وافقه على هذه الطريقةِ جماعةٌ من مُحدِّثي المذهب، ولله الحمد والمِنَّة". تفسير ابن كثير (1/294) عند قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}
وقال ابنُ حجر في الفتح (2/222): "قال ابنُ خزيمة في رفع اليدين عند القيام من الركعتين: هو سنَّةٌ وإن لَم يذكره الشافعي، فالإسنادُ صحيح، وقد قال: قولوا بالسنَّة ودَعُوا قولي".
وقال في الفتح أيضاً (3/95): "قال ابنُ خزيمة: ويَحرُم على العالم أن يُخالف السنَّة بعد علمِه بها".
وقال في الفتح (2/470): "روى البيهقي في المعرفة عن الربيع قال: قال الشافعيُّ: قد روي حديث فيه أنَّ النساءَ يُتركن إلى العيدين، فإن كان ثابتاً قلتُ به، قال البيهقي: قد ثبت وأخرجه الشيخان يعني حديث أمِّ عطية فيلزم الشافعيَّة القول به".(13/9)
ص -11- ... وذكر النووي في شرح صحيح مسلم (4/49) خلافَ العلماء في الوضوء من لحم الإبل، وقال: "قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في هذا أي الوضوء من لحم الإبل حديثان: حديث جابر وحديث البراء، وهذا المذهبُ أقوى دليلاً وإن كان الجمهور على خلافه".
وقال ابن حجر في شرح حديث ابن عمر: "أمرتُ أن أقاتِل الناس" في قصَّة مناظرة أبي بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة، قال: "وفي القصةِ دليلٌ على أنَّ السُّنَّة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة ويطَّلع عليها آحادُهم، ولهذا لا يُلتفتُ إلى الآراء ولو قَوِيت مع وجود سُنَّة تخالفُها، ولا يُقال: كيف خَفيَ ذا على فلان؟!". الفتح (1/76).
وقال في الفتح (3/544): "وبذلك أي بإشعار الهدي قال الجمهور من السلف والخلف، وذكر الطحاويُّ في اختلاف العلماء كراهتَه عن أبي حنيفة،(13/10)
ص -12- ... وذهب غيرُه إلى استحبابه للاتِّباع، حتى صاحباه محمد وأبو يوسف، فقالا: هو حسن".
الرابع: أنَّ أهلَ السنَّة المتَّبعين لنصوص الكتاب والسُّنَّة أسعدُ من غيرِهم باتِّباع الأئمَّة الأربعة؛ لأنَّهم المنَفِّذون لوصاياهم، قال ابن القيم في كتاب الروح (ص:395 396): "فمَن عرضَ أقوال العلماء على النصوص ووَزَنها بها وخالف منها ما خالف النصَّ لَم يُهدِر أقوالَهم ولَم يهضِم جانبَهم، بل اقتدى بهم؛ فإنَّهم كلَّهم أَمروا بذلك، فمتَّبِعُهم حقًّا مَن امتثلَ ما أَوْصَوا به لا مَن خالفهم؛ فخِلافُهم في القول الذي جاء النَّصُّ بخلافه أسهل من مخالفتِهم في القاعدة الكليَّة التي أَمروا ودَعَوا إليها من تقديم النصِّ على أقوالهم، مِن هنا يتبيَّن الفرقُ بين تقليد العالِم في كلِّ ما قال وبين الاستعانة بفهمِه والاستضاءةِ بنور علمِه، فالأول يأخذ قولَه من غير نظرٍ فيه ولا طلبٍ لدليله من الكتاب والسُّنَّة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يُلقيه في عُنقِه ويُقلِّده به، ولذلك سُمِّيَ تقليداً، بخلاف مَن(13/11)
ص -13- ... استعان بفهمِه، واستضاءَ بنورِ علمِه في الوصول إلى الرَّسول صلواتُ الله وسلامُه عليه، فإنَّه يجعلُهم بمنزلةِ الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصلَ إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمَن استدلَّ بالنَّجم على القبلة فإنَّه إذا شاهدها لَم يبقَ لاستدلالِه بالنجم معنى، قال الشافعيُّ: "أجمع النَّاسُّ على أنَّ مَن استبانت له سنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَم يكن له أن يَدَعها لقول أحدٍ".
الخامس: أنَّ أهلَ السنَّة الآخذين بوصايا الأئمَّة باتِّباع ما دلَّ عليه الدليل ومنهم مَن زعم الكاتب نصحَهم يوافقون الأئمَّةَ في أصول الدِّين، ويستفيدون من فقههم في الفروع، بخلاف كثيرٍ من المتعصِّبين لهم؛ فإنَّهم يُخالفونهم في العقيدة فيتَّبعون مذهبَ الأشاعرة، ويُقلِّدونهم في الفروع.(13/12)
ص -14- ... 2 - أنكر الكاتِبُ على مَن زعم نصحَهم عدمَ السماح بإدخال كتاب "دلائل الخيرات" للجزولي إلى البلاد السعودية.
ويُجاب بأنَّ كتاب دلائل الخيرات مشتملٌ على صلواتٍ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم محدَثة، وفيها غُلُوٌّ، وما ثبت في الصحيحين وغيرهما من كيفيات للصلاة على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيها غُنيةٌ وكفاية عمَّا أحدثه المحدِثون، ولا شكَّ أنَّ ما جاءت به السُنَّة وفَعَلَه الصحابةُ الكرام والتابعون لهم بإحسانٍ هو الطريقُ المستقيمُ والمنهجُ القويم، والفائدةُ للآخِذِ به محقَّقةٌ، والمضرَّةُ عنه منتفيةٌ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديين مِن بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ".
وكتاب دلائل الخيرات اشتمل على أحاديث موضوعة وكيفيات للصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيها غُلُوٌّ ومُجاوَزةٌ للحدِّ ووقوعٌ في المحذور الذي لا يرضاه اللهُ ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم ، وهو(13/13)
ص -15- ... طارئٌ لَم يكن من نهج السابقين بإحسان، قال الشيخ محمد الخضِر بن مايابى الشنقيطي في كتابه "مشتهى الخارف الجاني في ردِّ زلقات التجاني الجاني": "فإنَّ الناسَ مولَعةٌ بحبِّ الطارئ، ولذلك تراهم يَرغبون دائماً في الصلوات المرويَّة في دلائل الخيرات ونحوه، وكثيرٌ منها لَم يثبت له سندٌ صحيح، ويَرغبون عن الصلوات الواردةِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري".
ومِمَّا ورد في دلائل الخيرات من الكيفيات المنكرة للصلاة على النَّبِيِّ قولُ مؤلِّفه: "اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيءٌ، وارحم محمداً وآل محمدٍ حتى لا يبقى من الرحمةِ شيءٌ، وبارِك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من البركة شيءٌ، وسلِّم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من السلام شيءٌ".
فإنَّ قولَه: (حتى لا يبقى من الصلاة والرحمة والبركة والسلام شيء)، مِن أسوإِ الكلام وأبطلِ الباطلِ؛ لأنَّ هذه(13/14)
ص -16- ... الأفعالَ لا تنتهي، وكيف يقول الجزولي: حتى لا يبقى من الرحمة شيء، والله تعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}؟!
وقال في (ص:71): "اللَّهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمد بحر أنوارِك، ومعدن أسرارك، ولسان حُجَّتك، وعروس مملكتك، وإمام حضرتك، وطراز ملكك، وخزائن رحمتك... إنسان عين الوجود، والسبب في كلِّ موجود...".
وقال في (ص:64): "اللَّهمَّ صلِّ على مَن تفتَّقت من نوره الأزهارُ... اللَّهمَّ صلِّ على من اخضرَّت من بقيَّة وضوئه الأشجار، اللَّهمَّ صلِّ على من فاضت من نورِه جميع الأنوار...".
فإنَّ هذه الكيفياتِ فيها تكلُّفٌ وغُلُوٌّ لا يرضاه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قال: "لا تُطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، إنَّما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله". أخرجه البخاري في صحيحه.(13/15)
ص -17- ... وقال في (ص:144، 145): "اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم، وحمَت الحوائم، وسرحت البهائم، ونفعت التمائم، وشُدَّت العمائم، ونمت النوائم...".
فإنَّ في قوله: "ونفعت التمائم" إشادة بالتمائمِ وحثًّا عليها، وقد حرَّمها صلى الله عليه وسلم فقال: "مَن تعلَّق تَميمة فلا أتَمَّ الله له".
ومِمَّا ورد فيه من الأحاديث الموضوعة قوله في (ص:15):
"وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَن صلَّى عليَّ صلاةً تعظيماً لِحَقِّي خلق الله عزَّ وجلَّ من ذلك القول مَلَكاً له جناح بالمشرق والآخر بالمغرب، ورِجلاه مقرورتان في الأرض السابعة السفلى، وعُنُقُه ملتويةٌ تحت العرش يقول الله عزَّ وجلَّ له: صلِّ على عبدي كما صلَّى على نبيِّي، فهو يُصلِّي عليه إلى يوم القيامة".(13/16)
ص -18- ... وقال في (ص:16): "وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من عبدٍ صلَّى عليَّ إلاَّ خرجت الصلاةُ مسرعة من فيه، فلا يبقى بَرٌّ ولا بحرٌ ولا شرقٌ ولا غربٌ إلاَّ وتَمرُّ به وتقول: أنا صلاةُ فلان ابن فلان صلَّى على محمدٍ المختار خير خلق الله، فلا يبقى شيءٌ إلاَّ وصلَّى عليه، ويُخلقُ من تلك الصلاة طائرٌ له سبعون ألف جناح، في كلِّ جناحٍ سبعون ألف ريشة، في كلِّ ريشة سبعون ألف وجه، في كلِّ وجهٍ سبعون ألف فمٍ، في كلِّ فمٍ سبعون ألف لسان، يُسبِّح الله تعالى بسبعين ألف لغة، ويكتب الله له ثوابَ ذلك كلَّه".
هذان حديثان من أحاديث دلائل الخيرات يَصدق عليهما قولُ العلاَّمة ابن القيم في كتابه "المنار المنيف": "والأحاديثُ الموضوعة عليها ظُلمة وركاكةٌ ومجازفات باردة تُنادي على وضعها واختلاقها"، ثمَّ ضرب لذلك بعضَ الأمثلة، ثم قال: "فصل: ونحن نُنبِّه على أمورٍ كُليَّة، يُعرفُ بها كون الحديث موضوعاً، فمنها اشتمالُه على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ،(13/17)
ص -19- ... وهي كثيرةٌ جدًّا، كقوله في الحديث المكذوب: من قال لا إله إلاَّ الله خلق الله من تلك الكلمة طائراً له سبعون ألف لسان، لكلِّ لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له، ومَن فعل كذا وكذا أُعطي في الجنَّة سبعين ألف مدينة، في كلِّ مدينة سبعون ألف قصر، في كلِّ قصرٍ سبعون ألف حوراء، وأمثال هذه المجازفات الباردة التي لا تخلو حال واضعها من أحد أمرين: إمَّا أن يكون في غاية الجهل والحُمق، وإمَّا أن يكون زنديقاً قصد التنقيص برسول الله صلى الله عليه وسلم بإضافة مثل هذه الكلمات إليه".
ومن الواضحِ الجَليِّ أنَّ مثلَ هذه الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايِنَةٌ تَمام المبايَنة لِما أوتيَه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلمِ، كقولِه صلى الله عليه وسلم : "إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "دَعْ ما يُريبُك إلى ما لا يُريبُك"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "الدِّينُ النصيحةُ، قالوا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا أمرتكم(13/18)
ص -20- ... بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه".
وبعد هذا الإيضاح والبيان لبعض ما اشتمل عليه كتاب "دلائل الخيرات" من الأحاديث الموضوعة، والكيفيات المُحدَثة للصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم يتبيَّن أنَّ المنعَ من دخوله المملكة منعٌ في مَحلِّه، وأنَّ فيما ثبتت به السُّنَّةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ما يُغنِي عن إحداث المحْدِثين وتكلُّف المتكلِّفين.
3 - قال الكاتب: "ضيَّقتُم ثمَّ أوْصدتُم وأقْفلتُم بابَ النصيحة من المسلمين لأئمَّتهم وحُكَّامهم وأولي الأمر منهم، وأفتيتُم بمعصيةِ مَن يُخالفُ ذلك، وعاديتموه، في الوقت الذي فيه المسلمون وحُكَّامهم بأمَسِّ الحاجة إلى الوعظِ والنصيحةِ بالحُسنى، وصلى الله تعالى على القائل:(13/19)
ص -21- ... "الدِّينُ النصيحةُ، قلنا: لِمَن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم".
والجواب: أنَّ النصحَ للولاة وغيرِهم يكون نافعاً إذا كان سرًّا وبالرِّفق واللِّين، قال الله تعالى للنَّبيَّيْن الكريمَيْن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }، وعن عائشة رضي الله عنها، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيءٍ إلاَّ زانه، ولا يُنزعُ من شيء إلاَّ شانَه"، رواه مسلم.
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي وائلٍ قال: قيل لأسامة هو ابن زيد رضي الله عنهما : لو أتيتَ فلاناً هو عثمان بن عفان رضي الله عنه فكلَّمتَه؟ قال: إنَّكم لَتَرونَ أَنِّي لا أُكلِّمه إلاَّ أُسمِعُكم؟ إنِّي أُكلِّمه في السِّرِّ دون أن أفتَح باباً لا أكون أوَّل مَن فتحه".
قال الحافظ في شرحه: "أي: كلَّمتُه فيما أَشرتُم إليه، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السر، بغير أن يكون(13/20)
ص -22- ... في كلامي ما يُثير الفتنةَ أو نحوَها".
وثبت في مسند الإمام أحمد والسُّنة لابن أبي عاصم ومستدرك الحاكم عن عياض بن غنم رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أراد أن ينصحَ لسلطانٍ بأمرٍ فلا يُبدِ له علانية، ولكن ليأخذ بيدِه فيخلو به، فإن قَبِل منه فذاك، وإلاَّ كان قد أدَّى الذي عليه له".
أمَّا إذا خلا النصحُ من الرِّفقِ ولَم يكن سرًّا، بل كان علانيةً، فإنَّه يضُرُّ ولا ينفع، ومن المعلوم أنَّ أيَّ إنسانٍ إذا كان عنده نقصٌ يُحِب أن يُنصحَ برِفقٍ ولينٍ، وأن يكون ذلك سرًّا، فعليه أن يُعاملَ الناسَ بِمثلِ ما يُحبُّ أن يُعاملوه به.
ففي صحيح مسلم في حديث طويل عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "فمَن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويُدخل الجنَّة فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتى إليه".(13/21)
ص -23- ... والنُّصحُ بالطريقة الأولى هو المشروع، وهو الذي يحصلُ به النفعُ والفائدةُ، ولا أحد يمنع هذا، بل لا يُستطاعُ منعُه؛ لأنَّه من الأمور الخفيَّة، فمِن أين للكاتب أنَّ مَن زعم نصحهم أفتوا بمنع ذلك؟! وهل أحدٌ منهم حالَ بين الكاتب وبين النصحِ لولاة الأمر في بلده أو غيرهم؟!
وأمَّا إذا كان النُّصحُ صدرَ من أفرادٍ في نفوسهم شيءٌ على مَن زعموا نصحَه، فكتبوا نصيحةً بذلك، وجمعوا توقيعاتٍ عليها، ثمَّ وصلت إلى إذاعة لندن، وإلى رويبضات الزَّمن في لندن قبل أن تصلَ إلى مَن أُريد نصحُه، فهذا النُّصحُ غيرُ سائغٍ، ولا لومَ على مَن أفتى بكونه غيرَ سائغ.
والعلماءُ الذين زعم الكاتبُ نصحَهم وكذا طلبة العلم في بلادهم ينصحون لولاة الأمور في بلادهم وغير بلادهم، بالطريقة الأُولَى المشروعة، دون الطريقة الثانية، وبهذه المناسبة يجِد صاحبُ هذا الرَّدّ على الكاتب أنَّه لا بأس من الإشارةِ إلى شيء من ذلك، فعندما حصل احتلالُ حُكَّام(13/22)
ص -24- ... العراق للكويت قبل عشر سنوات، وكانت حكومةُ الكويت في ذلك الوقت في مدينة الطائف، كتبتُ لِسُمُوِّ أمير الكويت كتاباً جاء فيه:
"فإنَّ ما حدث للكويت حكومة وشعباً في ليلة الحادي عشر من شهر المحرَّم هذا العام (1411ه) من هجوم مباغتٍ قام به طغمة حزب البعث الحاكم في العراق بزعامة المجرم الأثيم صدام حسين، وما ترتَّب على ذلك من هلاك ودمار وانتهاك أعراض وسلب أموال وتشريد للرعاة والرعية، إنَّ ما حدث لا شكَّ أنَّه مصيبةٌ كبرى وكارثةٌ عظمى أزعجت كلَّ مسلمٍ وأحزنت كلَّ عاقل، وأظهرت بوضوح مدى خطر العدوِّ الذي يظهر نفسه في صورة الصديق، والله المسؤول أن ينصر المظلوم ويدحر الظالم، وأن تعود إلى الكويت سلامته وأمنه وأن يعود أهله إليه عوداً حميداً.
ولا يخفى على سُموِّكم وأنتم تقرؤون القرآن أنَّ الله بيَّن في كتابه الأسبابَ الحقيقية لحصول المصائب ووقوع(13/23)
ص -25- ... الكوارث، والأسبابَ الحقيقية لحصول النِّعم وبقائها، والتمكين في الأرض والنصر على الأعداء، فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }، وقال: {إنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغِيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.
والله تعالى يبتلي بالنِّعم، ويبتلي بالنِّقم كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وهذه النَّكبةُ العظيمة التي حلَّت بالكويت هي ابتلاءٌ وامتحانٌ من الله لأهلِه، وفيها عِبرةٌ وعِظةٌ لهم ولغيرِهم؛ ليُفكِّرَ كلُّ عاقل في أسباب سعادة الدنيا والآخرة، فيأخذ بها ويسلك الطرقَ الموصلة إليها، ويحذر كلُّ ناصح لنفسِه سلوكَ كلّ طريق يُؤدِّي بصاحبِه إلى سخط الله وعقوبتِه، ومن المعلوم(13/24)
ص -26- ... أنَّ تلكَ الأسبابَ ترجع إلى امتثال أوامر الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم واجتناب ما نهى الله عنه ورسولُه صلى الله عليه وسلم ، والالتزام بشرع الله، ولا شكَّ أنَّ المسؤوليَّةَ العُظمى في كلِّ قُطرٍ من أقطارِ المسلمين تقع على وُلاة الأمر فيه الذين يُمكنُهم بإذن الله وتوفيقه تطبيقُ شريعة الله وحكم شعوبهم بكتاب ربِّهم وسُّنَّةِ نبيِّهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ونبذ القوانين الوضعيَّة الوضيعةِ، والله المسؤول أن يُنهيَ هذه الفتنة التي جاءت من العراق على خير، لكن ماذا بعد انتهاء الأزمة؟
إنَّ الخيرَ لكم وللشعب الكويتي أن يحصُلَ منكم العزم والتصميم على أن يكون شكرُكم لله على رفع البلاء عنكم ودحر المعتدى عليكم أن تُحكِّموا شريعة الله، وأن يكون وضع الكويت فيما بعد انتهاء الأزمة غيرَه قبلها، وذلك بالالتزام بالحقِّ والهدى الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وقبل ثلاثة عشر عاماً في بداية تولِّي سمُوِّكم إمارة دولة الكويت بعثتُ لكم الرسالةَ المرفق صورتها وفيها تذكير سُمُوِّكم بالواجب عليكم في ولايتِكم، وأسأل الله أن يَكشف(13/25)
ص -27- ... الغُمَّة، ويقطع دابرَ الفتنة، وأن يُوفِّقكم لِما تُحمدُ عاقبته في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
والرسالة المشار إليها هي بتاريخ 6/2/1398ه وقد جاء فيها:
"ومِمَّا هو معلومٌ لسُمُوِّكم أنَّ واجبَ مَن يتولَّى أمر المسلمين في قطر من أقطارهم أن يُقيم فيهم شرعَه، ويقفَ بهم عند حدوده وفاءً بمسؤوليَّة ولايتِه أمام ربِّه، واقتداء بما كان عليه سلفُنا الصالح إذا ولي أحدهم أمرَ المسلمين، وأنَّ ذلك هو الطريق الوحيد لعلاج حال المسلمين وسعادتهم في دنياهم وفوزهم في أخراهم، فما أصاب المسلمين مِمَّا أصابهم ومكَّن منهم أعداءهم إلاَّ بسبب إعراضهم عن هدى ربِّهم وتَنَكُّبهم عن صراطه المستقيم، واتِّباعهم السُبل الأخرى التي تفرَّقت بهم عن سبيله، وهم أحوجُ ما يكونون إلى حُكَّام يعودون بهم إلى سبيل ربِّهم، ويَحملونهم على اتِّباع أوامره واجتناب نواهيه، ويحكمونهم بشرعه، فيستعيدون عزَّتَهم ومجدَهم ومكانتَهم(13/26)
ص -28- ... بين الأمم، كما وصفهم الله عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}، {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وإنَّ ما عُرف فيكم يا صاحب السُموِّ من عقل راجح وفِطنةٍ وحكمة، وبصيرة وبُعد نظر ليُقوِّي الرجاء في أن يتحقَّق في عهدكم لشعب الكويت كلُّ ما رَجوه من خير وتقدُّم وازدهار في ظلِّ حياة إسلامية قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتطبيق شريعتِه في دستور الدولة وقوانينها ونظمها وتعليمها وسائر شؤونها.
تولاَّكم الله عزَّ وجلَّ ورعاكم وأمدَّكم بتوفيقه وأعانكم على ما فيه العزَّة لدينه والخير لعباده، إنَّه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وأول رسالة نصح لوَلِيِّ أمرٍ كانت للملِك فيصل رحمه الله، بعثتُها في تاريخ (2/10/1383ه)، وكانت إجابته عليها قبل مُضيِّ نصف شهر، بكتاب هذه صورته:(13/27)
ص -30- ... 4 قال الكاتب: "سَمَّيتُم المصحف الشريف الذي أمر بطبعِه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد جزاه الله خيراً ب (مصحف المدينة النبوية) بدلاً من أن يُسمَّى (مصحف المدينة المنورة)، وكأنَّكم لا تُقرُّون أنَّ هذه المدينةَ المباركةَ قد استنارت، بل استنارت الدنيا كلُّها ببعثة ورسالة سيِّدنا محمد عليه الصلاة والسلام...".
والجواب: أنَّه قد ورد لفظ (المدينة) في الكتاب والسُّنَّة غير مقيَّد بوصفها ب (النبوية) أو (المنورة) أو غير ذلك.
وإطلاق لفظ المدينة ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال ابنُ عقيل في شرح ألفية ابن مالك: "من أقسام الألف واللاَّم أنَّها تكون للغلبة، نحو (المدينة) و(الكتاب)؛ فإنَّ حقَّهما الصدق على كلِّ مدينة وكلِّ كتاب، لكن غلبت (المدينة) على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، و(الكتاب) على كتاب سيبويه رحمه الله تعالى، حتى إنَّهما إذا أُطلقا لَم يتبادر إلى الفهم غيرهما".(13/28)
ص -31- ... ثمَّ إنَّه حصل وصفُ المدينة ب (النبوية) في كلام بعض العلماء المتقدِّمين، كابن كثير في البداية والنهاية والتفسير، وكابن حجر في فتح الباري.
انظر: البداية والنهاية (10/262)، والتفسير (4/143)، وفتح الباري لابن حجر (1/569)، و(5/88)، و(6/128، 623)، و(7/198)، و(11/250، 262)، و(13/101).
وفي العصور المتأخرة وُصفت المدينة ب (المنورة)، ولا شكَّ أنَّ المدينة وسائر أقطار الأرض عمَّها نورُ الهداية ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد وُصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنَّه سراجٌ منير، ووُصف القرآن بأنَّه نورٌ، والمراد بالنورِ المضاف إلى القرآن وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم نور الهداية، وأهل السنَّة المتَّبعون للسلف الصالِح يُصدِّقون بذلك، ويَدعون الناسَ إلى هذا النور، وأما غيرُهم من أهل البدع فإنَّهم يصرفونهم عن النور، ويَدعونهم إلى البدع ومُحدثات الأمور.(13/29)
ص -32- ... ووصفُ المدينة ب (النبوية) في العصور المتقدِّمة اصطلاح، ووصفُها ب (المنوَّرة) في عصور متأخرة اصطلاح، ولا مُشاحة في ذلك، فلا وجه لإنكار الكاتب على مَن زعم نُصحَهم وصفها ب (النبوية) مع أنَّه وصفٌ فيه إضافتُها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو أيضاً من عمل المتقدِّمين.
5 قال الكاتب: "تُصرِّون على تسمية الجهة المشرِفة على شؤون الحرمين الشريفين (رئاسة الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف)، ولا تقولون (الحرم النبوي الشريف)، وكذلك في إعلانات الطرق الدَّالة على ذلك والموجهة إليه، فلماذا لا يكون مسجدُه صلى الله تعالى عليه وسلَّم حَرَماً؟ كيف وقد جعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة كلَّها حرَماً؟". ثمَّ ذكر حديثين في تحريم المدينة.
والجواب: أنَّ الجهة المسؤولة عن المسجد الحرام والمسجد النبوي سُمِّيت أول إنشائها باسم (الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين) ثمَّ عُدِّل الاسم إلى (الرئاسة العامة(13/30)
ص -33- ... لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي) ولا تزال تلك التسمية، بل إنَّ المياه المبردة في المسجد الحرام والمسجد النبوي مكتوب على أوعيتها هذا الاسم، وكذلك على ثياب العمال في المسجدين، بل إنَّ مَن يضْغَط على رقم هاتف مُقسِّم هذه الرئاسة بمكة يسمع تسجيلاً بهذه التسمية.
ولَم تُسَمَّ الجهةُ المشرِفة على المسجدين الشريفين باسم (رئاسة الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف) كما زعم الكاتب، لكنَّها الرغبة في الاعتراض، ولو كان المعترَض فيه ليس له أساس، فمِن أين جاءت هذه التسمية المزعومة، فضلاً عن الإصرار عليها المزعوم؟!
وهذه الورطة التي وقع فيها الكاتب هي من جملة الجنايات التي جناها عليه الذين جَمعوا له مادَّة أوراقه!!
وأهل السُّنَّة يؤمنون بِما صحَّت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم المدينة، وأفضل بُقعة في حرم(13/31)
ص -34- ... المدينة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ الصلاةَ فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام، بخلاف سائر حرم المدينة.
لكن إطلاق "الحرم" على خصوص مسجده صلى الله عليه وسلم هو من الخطأ الشائع، ومثله إطلاق "ثالث الحرمين" على المسجد الأقصى، فإنَّ الحرمين هما مكة والمدينة، وليس لهما ثالث، والتعبير الصحيح أن يُقال: ثالث المسجدين، أي: المشرفين المعظَّمَين.
6 أنكر الكاتب على من زعم نصحَهم عدم إيجاد علامة تدلُ على القبلة الأولى إلى المسجد الأقصى، وذلك في المسجد المسمَّى "مسجد القبلتين".
والجواب: أنَّني لَم أجد شيئاً ثابتاً يدلُّ على أنَّ تحويل القبلة كان والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي في مسجد بني سَلِمة الذي قيل: إنَّه مسجد القبلتين، وإنَّما جاء ذلك في كلام(13/32)
ص -35- ... الواقدي، ذكره عنه ابنُ سعد في الطبقات، عبَّر عنه الواقديُّ بقوله: "ويُقال"، وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
والواقديُّ قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب:
"متروك مع سعة علمه"، ولو صحَّ لَم يكن فيه دليل على فضل هذا المسجد؛ لأنَّ الفضلَ إنَّما يَثبتُ بالنَّصِّ عليه مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك لمسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء.
ثمَّ لا أدري ماذا يريد الكاتب من إيجاد علامة تدل على القبلة الأولى عند بناء المسجد؟
هل يريد أن يوضع محرابٌ إلى جهة بيت المقدس، كالذي جُعل إلى جهة الكعبة؟!
فإنَّ ذلك لا يجوز؛ وفي تحقيقه فتنة للناس، بأن يُصلي بعض الجُهَّال إلى جهة بيت المقدس، وقد حصل ذلك بدون وجود محراب، كما ذكر ذلك بعضُ مَن شاهده حتى في موسم الحجِّ في العام الماضي (1420ه)!!(13/33)
ص -36- ... وقد سألني قبل عدَّة سنوات وأنا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم سائلٌ يقول: إنِّي رأيتُ أناساً يُصلُّون فرادى إلى الجهة الخلفية من مسجد القبلتين، فصليتُ ركعتين إلى تلك الجهة؟!
وهذه هي النتيجة التي تترتَّب على رغبة الكاتب في إيجاد علامة إلى القبلة الأولى المنسوخة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
7 قال الكاتبُ: "لا يجوز اتِّهامُ المسلمين الموحِّدين الذي يُصلُّون معكم ويَصومون ويُزكُّون ويَحُجُّونَ البيتَ مُلبِّين مُردِّدين: (لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والملك، لا شريك لك)، لا يجوز شرعاً اتِّهامُهم بالشِّرك، كما تطفَح كتبُكم ومنشوراتكم، وكما يجأرُ خطيبُكم يوم الحجِّ الأكبر من(13/34)
ص -37- ... مسجد الخيف بِمِنى صباح عيد الحُجَّاج وكافة المسلمين، وكذلك يُروِّعُ نظيرُه في المسجد الحرام يوم عيد الفطر بهذه التهجُّمات والافتراءات أهلَ مكة والمعتمرين، فانتهوا هداكم الله تعالى!
وترويعُ المسلم حرامٌ، لا سيما أهالي الحرمين الشريفين، وفي هذا المعنى نصوصٌ شريفةٌ صحيحة".
وقال أيضاً: "لقد كفَّرتُم الصوفية ثم الأشاعرة، وأنكرتم واستنكرتُم تقليدَ واتباعَ الأئمة الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل) في حين أنَّ مُقلِّدي هؤلاء كانوا ولا زالوا يُمثِّلون السوادَ الأعظم من المسلمين، كما أنَّ المنهجَ الرَّسميَ لدولتِكم والذي وَضعه الملك عبد العزيز رحمه الله يَنصُّ على اعتماد واعتبار المذاهب الأربعة، فانتهوا هداكم الله تعالى".
وقال أيضاً: "... ولكنَّكم تُكفِّرون الصوفيَّة كافَّة، وتَصفونَهم بالابتداع والشرك!!".(13/35)
ص -38- ... والجوابُ من وجوه:
الأول: أنَّ قولَه في الذين زعم نصحَهم أنَّهم يتَّهمون المسلمين بالشِّرك، وأنَّهم يُكفِّرون الصوفيةَ كافَّة والأشاعرة هو افتراءٌ عليهم، وهم بُرآءُ من ذلك، وعقيدتُهم هي عقيدة أهل السنَّة والجماعة، وأنَّهم لا يُكفِّرون إلاَّ مَن كفَّره الله ورسولُه، ولا يُكفَّرُ المسلمُ بذنبٍ إلاَّ إذا استحلَّه، وكان ذلك الذنبُ مِمَّا عُلِم من الدِّين تحريمُه بالضرورة، قال الإمامُ الطحاويُّ رحمه الله في عقيدة أهل السنة والجماعة: "ولا نُكفِّر أحداً من أهلِ القبلة بذنبٍ ما لَم يستحلَّه".
والبدعُ تنقسِمُ إلى قسمَين:
بدعةٌ مكفِّرةٌ: كالاستغاثة بالأموات والجِنِّ والملائكةِ ونحوِهم، وطلبِ الحاجات وكشفِ الكُرُبات منهم، قال الله عزَّ وجلَّ: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ءَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}.(13/36)
ص -39- ... وبدعةٌ مفسِّقةٌ: كالتوسُّلِ إلى الله بالأموات والملائكةِ ونحوهم.
والصوفية المذمومون الذين يلهَج بهم الكاتب من جملة أهل البِدع، فيهم مَن بدعتُه مكفِّرة، كابن عربي وأضرابِه، ومَن بدعتُه مفسِّقة.
الثاني: أنَّ الذي اشتملتْ عليه كتبُ مَن زعم نصحَهم، وكذا خطب الخُطباء الذين أشار إليهم، إنَّما هو التحذيرُ من الشِّرك، والدعوةُ إلى إخلاصِ العبادةِ لله عزَّ وجلَّ، وهذه هي وظيفةُ الرُّسُل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمًّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
والمسلمون في الحَرَمين وكذا غيرُهم في كلِّ مكانٍ يسمعون الخُطبَ من المسجدَين الشريفين في مكة والمدينة بواسطة الإذاعة، وليس فيها بِحمد الله ما يُروِّع،
كما زعم الكاتب، بل فيها ما يَسُرُّ النفوسَ ويُثلِجُ(13/37)
ص -40- ... الصُّدورَ؛ لأنَّها دعوة إلى الحقِّ والهُدى الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ونسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يَهديَ قلبَ الكاتب ومَن على شاكلتِه ليَرَوا الحقَّ حقًّا فيتَّبعوه، والباطلَ باطلاً فيَجتنِبوه.
الثالث: أما قول الكاتب عمَن زعم نصحَهم أنَّهم يُنكرون ويستنكرون التقليدَ والاتباعَ للأئمَّة الأربعة، فهو غير صحيح؛ لأنَّ مَن عنده علمٌ ومعرفةٌ بالدَّليل من الكتاب والسُّنَّة يجبُ عليه الأخذُ بالدليل، كما قال الشافعيُّ رحمه الله: "أجمع النَّاسُّ على أنَّ مَن استبانت له سنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَم يكن له أن يَدَعها لقول أحدٍ"، وقال ابنُ خزيمة: "ويَحرُم على العالم أن يُخالف السنَّة بعد علمِه بها". (فتح الباري 3/95)، وقال أيضاً في رفع اليدين عند القيام من الركعتين: "هو سنَّةٌ وإن لَم يَذْكره الشافعي، فالإسنادُ صحيح، وقد قال: قولوا بالسنَّة ودَعُوا قولي". (الفتح 2/222).
وأما العاميُّ ومَن لا يتمكَّن من معرفة الدليل فإنَّه(13/38)
ص -41- ... يسوغ له التقليد؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ قد قال: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ أهلَ السُّنَّة لَم يقُل أحدٌ منهم: إنَّ إجماعَ الأئمَّة الأربعة حُجَّةٌ معصومةٌ، ولا قال: إنَّ الحقَّ مُنحصِرٌ فيها، وأنَّ ما خرج عنها باطلٌ، بل إذا قال مَن ليس من أتباع الأئمة
كسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، ومَن قبلهم من المجتهدين قولاً يُخالف قول الأئمَّة الأربعة، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وكان القول الرَّاجحُ هو القول الذي قام عليه الدليل". منهاج السنة (3/412).
وقال شيخنا شيخ الإسلام العلاَّمة عبد العزيز بن باز
رحمه الله في ردِّه على الصابوني في قوله عن تقليد الأئمة الأربعة: "إنَّه من أوجب الواجبات" قال: "لا شكَّ أنَّ هذا الإطلاقَ خطأٌ؛ إذ لا يجب تقليدُ أحد من الأئمَّة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمُه؛ لأنَّ الحقَّ في اتِّباع الكتاب والسنَّة لا في تقليد أحد من الناس، وإنَّما(13/39)
ص -42- ... قُصارى الأمر أن يكون التقليدُ سائغاً عند الضرورة لِمَن عُرِف بالعلم والفضل واستقامة العقيدة، كما فصَّل ذلك العلاَّمةُ ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين"، ولذلك كان الأئمَّة رحمهم الله لا يَرضون أن يُؤخذ من كلامِهم إلاَّ ما كان موافقاً للكتاب والسُّنَّة، قال الإمام مالك رحمه الله: (كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُرَدُّ، إلاَّ صاحب هذا القبر)، يُشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهكذا قال إخوانُه من الأئمَّة في هذا المعنى.
فالذي يتمكَّن من الأخذ بالكتاب والسنَّة يتعيَّن عليه ألاَّ يُقلِّد أحداً من الناس، ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحقِّ، والذي لا يستطيع ذلك فالمشروع له أن يسألَ أهل العلم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}". مجموع فتاوى ومقالات متنوِّعة (3/52).
وقال شيخنا العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان (7/553 555): "لا خلاف(13/40)
ص -43- ... بين أهل العلم في أنَّ الضرورةَ لها أحوالٌ خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار، فكلُّ مسلم ألْجأَتْه الضرورةُ إلى شيء إلْجاءً صحيحاً حقيقيًّا فهو في سعةٍ من أمره
فيه" إلى أن قال: "وبهذا تعلم أنَّ المضطرَّ للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقيًّا، بحيث يكون لا قدرة له ألبتَّة على غيره، مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلاً على الفهم، أو له قدرة على الفهم وقد عاقَتْه عوائقُ قاهرة عن التعلُّم، أو هو في أثناء التعلُّم، ولكنَّه يتعلَّم تدريجاً؛ لأنَّه لا يقدر على تعلُّم كل ما يحتاجه في وقتٍ واحد، أو لم يَجِد كُفْئاً يتعلَّم منه ونحو ذلك، فهو معذورٌ في التقليد المذكور للضرورة؛ لأنَّه لا مَندوحة له عنه.
وأما القادر على التعلُّم المفرِّط فيه والمقدِّم آراء الرجال على ما علم من الوحي فهو الذي ليس بمَعذور".
وقال أيضاً (7/555): "اعلم أنَّ موقفَنا من الأئمَّة
رحمهم الله من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المُنصِفين منهم، وهو موالاتُهم ومحبَّتُهم وتعظيمُهم(13/41)
ص -44- ... وإجلالُهم والثناءُ عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعُهم في العمل بالكتاب والسنة، وتقديمهما على رأيِهم، وتعلُّم أقوالِهم للاستعانة بها على الحق، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها.
وأمَّا المسائل التي لا نصَّ فيها، فالصواب النظر في اجتهادهم فيها، وقد يكون اتِّباعُ اجتهادهم أصوبَ من اجتهادنا لأنفسنا؛ لأنَّهم أكثر علماً وتقوى منَّا.
ولكن علينا أن ننظرَ ونحتاطَ لأنفسِنا في أقرب الأقوال إلى رِضى الله، وأحوطها وأبعدِها من الاشتباه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : "دَع ما يَريبُك إلى ما لا يريبُك"، وقال: "فمَن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه".
وحقيقة القول الفصل في الأئمة رحمهم الله أنَّهم من خيار المسلمين، وأنَّهم ليسوا معصومين من الخطأ، فكلُّ ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجرُ الإصابة، وما أخطأوا فيه فهم مأجورون على كلِّ حال، لا يلحقُهم ذمٌّ ولا عيبٌ ولا نقصٌ في ذلك.(13/42)
ص -45- ... ولكن كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم حاكمان عليهم وعلى أقوالهم، كما لا يخفى.
فلا تَغْلُ في شيءٍ من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
فلا تكُ مِمَّن يذُمُّهم وينتقصُهم، ولا مِمَّن يعتقد أقوالَهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدَّمة عليهما". اه.
هذه بعض أقوال المحقِّقين من أهل العلم في حكم التقليد، وعلى هذا فليس هناك إنكارٌ ولا استنكارٌ كما زعم الكاتب، بل إنَّ الشيخَ العلاَّمة المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله وهو الذي له نصيبٌ كبيرٌ من حِقد الرِّفاعي والبوطي قد قال في ردِّه على أبي غدَّة:
"إنَّ الانتسابَ إلى أحدٍ من الأئمَّة كوسيلة للتعرُّف على ما قد يفوت طالبَ العلم من الفقه بالكتاب والسنَّة أمرٌ لا بدَّ منه شرعاً وقدَراً؛ فإنَّ ما لا يقوم الواجب إلاَّ به فهو واجب، وعلى هذا جرى السَّلفُ والخلفُ جميعاً، يتلقَّى بعضُهم العلمَ عن بعض، ولكن الخلف إلاَّ قليلاً منهم(13/43)
ص -46- ... خالف السَّلفَ حين جعل الوسيلةَ غايةً، فأوجب على كلِّ مسلم مهما سَما في العلم والفقه عن الله ورسوله من بعد الأئمة الأربعة أن يُقلِّدَ واحداً منهم، لا يَميلُ عنه إلى غيره، كما قال أحدهم: وواجبٌ تقليد حَبْرٍ منهم!".
وهذا الذي قاله الشيخ الألبانيُّ رحمه الله عن المُتعصِّبة للمذاهب قد جاء عن الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين عند قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ}؛ إذ فهِم الآية فهماً خاطئاً، وبَنَى عليه حكماً من أبطلِ الباطل، أوضح الردَّ عليه شيخُنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان عند قول الله عزَّ وجلَّ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، وكلام الصاوي الباطلُ هو قولُه وبئس ما قال : "ولا يجوز تقليدُ ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قولَ الصحابة والحديثَ الصحيح والآية!! فالخارجُ عن المذاهب الأربعة ضالٌّ مُضِلٌّ، وربَّما أدَّاه ذلك للكفر؛ لأنَّ الأخذَ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر!!!".(13/44)
ص -47- ... وهذا كلام من الصاوي من أسوإ الكلام وأبطل الباطل، ولو بحث أحدٌ عن كلامٍ سيِّءٍ يُنسبُ إلى مسلم قد لا يَجِد أسوأ منه، وقد جاء ذلك نتيجة لتفسيره للقرآن بالرأي والتعصُّب للمذاهب، نسأل الله السلامةَ والعافية.
الرابع: وأمَّا الملك عبد العزيز رحمه الله فإنَّه على منهج السَّلف، يحترمُ الأئمَّة الأربعة ويُوقِّرُهم، ويُعوِّلُ على الأدلَّة من الكتاب والسنَّة، قال رحمه الله: "إنَّنا لم نُطِع (ابن عبد الوهاب) وغيره إلاَّ في ما أيَّدوه بقول من كتاب الله وسنَّة رسوله، وقد جعلنا الله أنا وآبائي وأجدادي مُبشِّرين ومُعلِّمين بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، ومتى وجدنا الدليلَ القويَّ في أيِّ مذهب من المذاهب الأربعة رجعنا إليه وتَمسَّكنا به، وأمَّا إذا لَم نَجد دليلاً قويًّا أخذنا بقول الإمام أحمد". من تاريخ البلاد العربية السعودية لمنير العجلاني (1/229).(13/45)
ص -48- ... 8 قال الكاتبُ: "تُرَدِّدون جملة الحديث الشريف: "كلُّ بدعة ضلالة" بدون فهم للإنكار على غيركم، بينما تُقِرُّون بعضَ الأعمال المخالفة للسُنَّة النَّبوية،
ولا تنكرونها ولا تَعُدُّونها بدعةً، سنذكر بعضاً منها فيما يأتي...".
ويُجاب عن هذا من وجوه:
الأول: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن في حديث العرباض بن سارية أنَّه سيوجد الاختلافُ في هذه الأُمَّة، ومع وجوده يكون كثيراً، حيث قال: "فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً"، ثم أرشدَ صلى الله عليه وسلم عند وجود هذا الاختلاف
إلى الطريق الأمثل والمنهج الأقوم، وهو اتباع السنن
وترك البِدع، فقال: "فعليكم بسُنَّتِي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومُحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، فإنَّه صلى الله عليه وسلم رغَّب في السُّنن بقوله: "فعليكم بسُنَّتي..."، ورهَّب من البدع بقوله: "وإيَّاكم(13/46)
ص -49- ... ومُحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة".
ومثل ذلك حديث "ستفترق هذه الأُمَّة على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النَّار إلاَّ واحدة. قالوا: مَن هي
يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ أمَّةَ الإجابة ستفترق هذا التفرُّق الكثير، وأنَّه لا ينجو مِن العذاب إلاَّ مَن كان على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، وهم الذين يتَّبعون الكتابَ والسنَّةَ وما كان عليه سلفُ الأُمَّة، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها".
وروى الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كلُّ بدعة ضلالةٌ وإن رآها الناس حسنة".
وذكر الشاطبِيُّ في الاعتصام (1/28) أنَّ ابن الماجشون قال: سمعتُ مالكاً يقول: "مَن ابتدع في الإسلام بدعةً(13/47)
ص -50- ... يراها حسنةً فقد زعم أنَّ محمداً خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليومَ ديناً".
وقال أبو عثمان النيسابوري: "مَن أمَّر السنَّةَ
على نفسِه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهَوَى على نفسِه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة". انظر: حلية الأولياء (10/244).
وقال سَهل بن عبد الله التستري: "ما أحدثَ أحدٌ في العلم شيئاً إلاَّ سُئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السُّنَّةَ سَلِم، وإلاَّ فلا". فتح الباري (13/290).
وعلى هذا، فإنَّ الفهمَ الصحيحَ لقوله صلى الله عليه وسلم : "وكلُّ بدعة ضلالة" هو بقاءُ اللفظ على عمومه، وأنَّ كلَّ ما أُحدث في دين الله فهو بدعة، وهو مردودٌ على مَن جاء به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحَّته: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظٍ لمسلم: "مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ".(13/48)
ص -51- ... أمَّا القولُ بأنَّ مِن البدعِ ما هو حَسنٌ فغير صحيح؛ لأنَّه يُخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "وكل بدعة ضلالة"، كما مرَّ إيضاحه في كلام ابن عمر ومالك وغيرهما المتقدِّم قريباً.
ولا يَصِحُّ الاستدلالُ لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم : "مَن سَنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر مَن عمل بها..."، الحديث رواه مسلم؛ لأنَّ سياقَه في القدوة في الخير؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حثَّ على الصدَقة، أتى رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كبيرة، فتابعه الناس على الصدقة، فعند ذلك قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ما قال.
الثاني: ذكر الكاتب أنَّ مَن زعم نُصحَهم يُقرُّون بعضَ الأعمال المخالفة للسُّنَّة، ولا يعدُّونَها بدعة، ومن أمثلة ذلك عنده وضعُ حواجز بين الرِّجال والنِّساء في المسجد النَّبوي، قال عن ذلك: "وهذه بدعةٌ شنيعةٌ؛ لأنَّه إحداثُ ما لم يحدُث في زمنه عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح، فقد كان يَلِي الإمامَ صفوفُ الرِّجال، ثم(13/49)
ص -52- ... الصِّبيان، ثم النِّساء، يُصلُّون جميعاً وبلا حاجز خلفه صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلم".
ويُجاب عن ذلك: بأنَّ من عجيب أمرِ الكاتب أن يرى أنَّ هذا العملَ بدعةٌ، مع أنَّ فيه ستراً للنساء، وصيانةً لهنَّ من نظرِ الرِّجال إليهنَّ، ونظرهنَّ إلى الرِّجال، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما تركتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرِّجال من النساء"، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خيرُ صفوف الرِّجال أوَّلُها، وشرُّها آخرُها، وخير صفوف النِّساء آخرُها، وشرُّها أوَّلُها".
وجاء في آداب النساء في صلاتِهنَّ مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُصلِّي الصبحَ فينصرفَ النساءُ مُتلفِّعاتٍ بِمُروطِهنَّ، ما يُعرفنَ من الغَلَس"، رواه البخاري ومسلم.
وفي صحيح البخاري عن أمِّ سلمة رضي الله عنها:(13/50)
ص -53- ... "أنَّ النساءَ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنَّ إذا سلَّمنَ من المكتوبة قُمْنَ، وثبتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن صلَّى من الرِّجال ما شاء الله، فإذا قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قام الرِّجال".
فهذان حديثان عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الترغيب في تباعد النساء عن الرجال، وبعدَهما حديثان في آداب صلاة النساء مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد ذلك تغيَّرت حال النساء، حتى قالت عائشةُ رضي الله عنها: "لو أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أَحْدَثَ النساءُ لَمَنَعَهنَّ المسجد، كما مُنعت نساءُ بَنِي إسرائيل"، رواه البخاري ومسلم.
وفي هذا الزمان تغيَّرت أحوال النساء كثيراً، وحصل منهنَّ التبرُّجُ والسُّفور، وسَهُل الوصول إلى مكة والمدينة للرِّجال والنِّساء، والمسجدان الشريفان حصل فيهما توسعةٌ كبيرة، والنساء تأتي إليهما من جهاتٍ مختلفة، وخُصِّص لهنَّ أماكن مُعيَّنة، وجُعل حواجز؛ حتى لا يختلِطنَ بالرِّجال، فأيُّ مانعٍ يَمنَعُ من ذلك؟! بل وكيف يجوز أن يصفَه الكاتبُ بأنَّه بدعةٌ شنيعة؟!(13/51)
ص -54- ... مع أنَّ أوراق الكاتب اشتمَلت على بدَعٍ واضحة جليَّة لَم يعتبِرها بدعاً، كبدعة بناء القِباب على القبور، والاحتفال بالمولد النَّبويِّ!!
9 أشاد في أوراقه بتعظيم القبور وبناء القباب عليها، فوصف العيدروس فقال: "الإمام الربَّاني الحبيب العدني، بركة عدن وحضرموت رحمه الله تعالى"، ونَوَّه بِمشهده وبناء قُبَّتِه، ووصفها بأنَّها "مباركة!!".
والجواب: أنَّ البناءَ على القبور واتخاذها مساجد قد جاءت أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه والتحذير منه؛ لأنَّه من وسائل الشرك، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي الهيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: "ألاَ أبعثُكَ على ما بعثنِي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تَدَعَ تِمثالاً إلاَّ طمَستَه، ولا قبراً مُشرفاً إلاَّ سوَّيتَه"، وفي لفظ: "ولا صورةً إلاَّ طَمستَها".(13/52)
ص -55- ... وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: "لَمَّا نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِق يطرحُ خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد يُحذِّرُ ما صنعوا".
وقولهما رضي الله عنهما في الحديث: "لَمَّا نُزل" يَعنيَان الموتَ، وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الدعاء على اليهود والنصارى باللَّعن.
الأمر الثاني: بيان سبب اللَّعن، وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
والأمر الثالث: بيان الغرض من ذكر ذلك، وهو تحذيرُ هذه الأمَّة من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، فيستحقُّوا اللَّعنة.
وثبت في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البَجَليِّ أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ،(13/53)
ص -56- ... وهو يقول: "إنِّي أبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ألاَ وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالِحيهم مساجد، ألاَ فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، إنِّي أنهاكم عن ذلك".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قاتَل الله اليهودَ؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها وصْفُ الذين يَبنونَ المساجد على القبور بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله.
وهذه الأحاديثُ الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتملت على التحذير من اتِّخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك منه قبل أن يموت بخمسٍ، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك عند نزول الموتِ به.
والتحذيرُ من ذلك جاء على صِيَغٍ متعدِّدة، فجاء(13/54)
ص -57- ... بصيغة الدعاء باللَّعنة على اليهود والنصارى، وجاء بصيغة الدعاء بمقاتلَة الله لليهود، وجاء بوصف فاعلي ذلك بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله، وجاء بصيغة "لا" الناهية في قوله:
"ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد"، وبصيغة لفظ النَّهي بقوله: "إنِّي أنهاكم عن ذلك".
وهذا مِن كمال نُصحِه لأمَّتِه صلى الله عليه وسلم ، وحرصِه على نَجاتِها وشفقتِه عليها، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وجزاه أوفَى الجزاء، وأثابَه أَتَمَّ مثوبَة.
واتِّخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم في النصارى: "أولئك إذا كان فيهم الرَّجل الصالِح فمات بَنَوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئك شرارُ الخلق عند الله"، وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها.
ويَشمل قَصدَها واستقبالَها في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم : "لا تجلِسوا على القبور، ولا تُصلُّوا إليها"، أخرجه مسلم من حديث أبي مَرثَد الغنَويِّ رضي الله عنه. ويَشمل(13/55)
ص -58- ... السجودَ على القبر من باب أولى؛ إذ هو أخصُّ من الصلاة إليه.
وذكر الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء (8/27) في ترجمة عبد الله بن لهيعة أنَّ الدَّفنَ في البيوت من خصائص النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
وأورد ابنُ كثير في البداية والنهاية ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد القرشية الهاشمية في حوادث سنة (208ه)، ونقل عن ابن خلِّكان أنَّه قال: "ولأهل مصر فيها اعتقاد"، ثم قال ابنُ كثير: "وإلى الآن قد بالغَ العامَّةُ في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيراً جدًّا، ولا سيما عوامُّ مصر، فإنَّهم يُطلقون فيها عبارات بَشِعة، فيها مجازَفةٌ تؤدِّي إلى الكفر والشِّرك، وألفاظاً كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنَّها لا تجوز..."، إلى أن قال: "... والذي ينبغي أن يُعتقد فيها: ما يليق بِمِثلِها من النساء الصالحات، وأصلُ عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسِها، والمغالاةُ في البَشَر حرامٌ...".(13/56)
ص -59- ... وكانت وفاةُ ابنِ كثير رحمه الله سنة (774ه).
وقد ألَّف في هذه المسألة العلاَّمةُ الشوكاني المتوفى سنة (1250ه) رسالةً سَمَّاها "شرح الصدور بتحريم رفع القبور" أجادَ فيها وأفاد، قال فيها: "اعلم أنَّه قد اتَّفق الناسُ سابقهم ولاحِقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة إلى هذا الوقت أنَّ رفعَ القبور والبناءَ عليها بدعةٌ من البدع التي ثبت النَّهيُ عنها واشتدَّ وعيدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلِها، ولم يُخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين أجمعين، لكنَّه وقع للإمام يحيى مقالة تدلُّ على أنَّه يرى أنَّه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يَقل بذلك غيرُه ولا روي عن أحدٍ سواه، ومَن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله واقتداء به، ولم نجد القول بذلك مِمَّن عاصَرَه أو تقدَّم عصره عليه، لا من أهل البيت ولا من غيرهم، ثم ذكر أنَّ صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم لم(13/57)
ص -60- ... ينسب القول بجواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء إلاَّ إلى الإمام يحيى وحده، فقال ما نصُّه: مسألة: الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك؛ لاستعمال المسلمين ولم ينكر. انتهى..." إلى أن قال الشوكاني رحمه الله: "فإذا عرفتَ هذا تقرَّر لك أنَّ هذا الخلافَ واقعٌ بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء من الصحابة والتابعين ومن المتقدِّمين من أهل البيت والمتأخرين، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية مَن حكى قول الإمام يحيى في مؤلَّفِه مِمَّن جاء بعده من المؤلِّفين، فإنَّ مجردَ حكاية القول لا يدلُّ على أنَّ الحاكي يختاره ويذهب إليه...". إلى أن قال رحمه الله: "فإذا أردتَ أن تعرفَ هل الحق ما قاله الإمام يحيى أو ما قاله غيرُه من أهل العلم فالواجبُ عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالردِّ إليه وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...".(13/58)
ص -61- ... ثم ذكر بعضَ الآيات المقتضية ذلك، وبيَّن وجهَ دلالتها على المطلوب، ثم ذكر جملةً من الأحاديث الكثيرة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تحريم اتِّخاذ القبور مساجد، والتي مرَّ ذكر بعضها، وبيَّن أنَّ ذلك يُفضي بفاعله إلى الشرك بالله، ثم قال: "فلا شكَّ ولا ريب أنَّ السببَ الأعظمَ الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما يُزيِّنه الشيطان للناس من رفعِ القبور ووضعِ الستور عليها وتجصيصِها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإنَّ الجاهلَ إذا وقعت عينُه على قبرٍ من القبور قد بُنيت عليه قُبَّة فدخلها ونظر على القبور الستورَ الرائعة والسُّرُجَ المتلألئة وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شكَّ ولا ريب أنَّه يمتلئ قلبُه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذِهنُه عن تصوُّر ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الرَّوعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد، مِمَّا يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من(13/59)
ص -62- ... صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه، فيصير في عدادِ المشركين، وقد يحصل له هذا الشركُ بأولِ رؤيةٍ لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أول زَورة؛ إذ لا بدَّ له أن يخطرَ ببالِه أنَّ هذه العنايةَ البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلاَّ لفائدة يرجونها منه، إمَّا دُنيوية أو أُخرويَّة، فيستصغرُ نفسَه بالنِّسبة إلى مَن يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر وعاكفاً عليه ومُتمسِّحاً بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانِه من بني آدم يَقفون على ذلك القبر يُخادعون مَن يأتي إليه من الزائرين، يُهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم وينسبونها إلى الميت على وجهٍ لا يفطن له مَن كان من المغفَّلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يُسمُّونَها كراماتٍ لذلك الميت، ويَبُثونها في الناس، ويُكرِّرون ذكرَها في مجالِسهم وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض ويتلقَّاها مَن يحسن الظنَّ بالأموات، ويَقبَل عقلُه ما يُروى عنهم من الأكاذيب فيرويها كما(13/60)
ص -63- ... سَمِعها، ويتحدَّث بها في مجالِسِه، فيقع الجُّهالُ في بليَّةٍ عظيمة من الاعتقاد الشركيِّ، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكِهم ما هو أحبُّها إلى قلوبهم؛ لاعتقادِهم أنَّهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً وأجراً كبيراً، ويعتقدون أنَّ ذلك قربةٌ عظيمةٌ وطاعةٌ نافعةٌ وحَسنةٌ متَقبَّلةٌ، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطانُ من إخوانِه من بني آدم على ذلك القبر، فإنَّهم إنَّما فعلوا تلك الأفاعيل، وهوَّلوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب لينالوا جانباً من الحُطام من أموال الطغام الأغتام، وبهذه الذريعةِ الملعونةِ والوسيلةِ الإبليسيَّة تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلَغاً عظيماً حتى بلغت غلاَّتُ ما يُوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافُه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بِيعت تلك الحبائسُ الباطلة لأغنى اللهُ بها طائفةً كبيرةً من الفقراء، وكلُّها من النَّذر في معصية الله، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا نذر في(13/61)
ص -64- ... معصية الله"، وهي أيضاً من النَّذر الذي لا يُبتَغَى به وجه الله، بل كلُّها من النذور التي يستحقُّ بها فاعلُها غضب الله وسخطه؛ لأنَّها تُفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهيَّة في الأموات من تزلزل قدَم الدِّين؛ إذ لا يَسمحُ بأحبِّ أمواله وألصقها بقلبه إلاَّ وقد زرع الشيطان في قلبه مِن مَحبَّةِ وتعظيم وتقديس ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالِماً، نعوذ بالله من الخذلان...".
إلى أن قال: "وأمَّا ما استدلَّ به الإمام يحيى حيث قال: (لاستعمال المسلمين ذلك ولم ينكروه)، فقولٌ مردودٌ؛ لأنَّ علماءَ المسلمين ما زالوا في كلِّ عصرٍ يروون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن مَن فعل ذلك، ويُقرِّرون شريعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسِهم ومجالسِ حُفَّاظهم، يرويها الآخرُ عن الأوَّلِ، والصغيرُ عن الكبير، والمتعلِّمُ عن العالِمِ من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدِّثون في كتبهم المشهورة من الأمَّهات(13/62)
ص -65- ... والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسِّرون في تفاسيرِهم، وأهلُ الفقه في كتبهم الفقهية، وأهلُ الأخبار والسِّيَر في كتب الأخبار والسِّيَر، فكيف يُقال إنَّ المسلمين لم يُنكروا على مَن فعل ذلك، وهم يروون أدلَّةَ النَّهيِ عنه واللَّعن لفاعله خلفاً عن سلف في كلِّ عصرٍ؟! ومع هذا فلم يزل علماءُ الإسلام منكرين لذلك مبالِغين في النهي عنه، وقد حكى ابن القيِّم عن شيخه تقيِّ الدِّين رحمهما الله وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفِها أنَّه قد صرَّح عامةُ الطوائفُ بالنَّهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: وصرَّح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفةٌ أطلقت الكراهة، لكن ينبغي أن يُحمل على كراهة التحريم؛ إحساناً للظنِّ بهم، وأن لا يُظنَّ بهم أن يُجوِّزوا ما تواتَر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه". انتهى.
هذه مقتطفاتٌ مِمَّا اشتملت عليه رسالة هذا الإمام من الإيضاح والتحقيق في هذه المسألة التي تواترت(13/63)
ص -66- ... الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأَجمعَ العلماءُ على حكمِها، ومع ذلك فقد تحقَّق للشيطان مراده في كثير من البلاد الإسلامية من مخالفة كثير من الناس ما تواتر وانعقد عليه الإجماع من تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد، وكأنَّ الإجماعَ في نظرهم انعقد على جواز واستحباب ذلك، فالله المستعان ونعوذ بالله من الخذلان.
وعلى قاعدة ابن جرير التي ذكرها ابنُ كثير عند تفسيره قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}، وهي أنَّ خلاف الواحد أو الإثنين لا يُؤثِّر في الإجماع، فإنَّ هذه المسألةَ من مسائل الإجماع، وعلى قول الحافظ ابن حجر في الفتح (2/219) أنَّه لا يُعتدُّ بخلاف الزيدية، فإنَّ المسألةَ أيضاً من مسائل الإجماع.
وهذا المعنى الذي ذكره الشوكانيُّ رحمه الله من الافتتان بالقبور وتحبيس الأموال عليها وعمل النذور لها نَظَمه الشاعر المصري حافظ إبراهيم المتوفى سنة (1351ه) فقال يَصف واقعَ المسلمين المؤلِم:(13/64)
ص -67- ... أحياؤنا لا يُرزقون بدرهم ... وبألفِ ألفٍ تُرزَقُ الأمواتُ
مَن لِي بِحَظِّ النَّائِمين بِحفرة ... قامت على أحجارها الصلواتُ
يسعى الأنام لَها ويجري حولَهَا ... بَحْرُ النذور وتُقرأالآياتُ
ويُقال هذا القطب باب المصطفى ... ووسيلةٌ تقضَى بها الحاجاتُ
وإذا تأمَّل العاقلُ ما ورد عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الكثيرة في تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد، وإجماع أهل العلم على ذلك وما نُقل عنهم في ذلك، ولا سيما قول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها"، ثم نظر في كلام الكاتب عن العيدروس ووَصفه بأنَّه بركة عدَن وحضرموت، وتنويهه بمشهده وبناء قُبَّته، ووصفها بأنَّها(13/65)
ص -68- ... مباركة، تبيَّن له الفرقُ بين الحقِّ والباطل، والهُدى والضلال، ومَن يدعو إلى الجَنَّة ومَن يدعو إلى النار!!
وإنِّي أنصَحُ الأستاذ الرفاعي والدكتور البوطي أن يتَّقوا الله في أنفسِهم وفي المسلمين، فلا يكونون عوناً لهم على الافتتان بالقبور، بل يكونون عوناً لهم على الهداية إلى الصراط المستقيم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً"، رواه مسلم.
10 أشاد الكاتب في أوراقه بقصيدة البُردة للبوصيري في مدحِ الرسول صلى الله عليه وسلم !
والجواب: أنَّ مدحَ الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما هو محمودٌ، ومنه ما هو مذمومٌ، فالمحمودُ مَدْحُه صلى الله عليه وسلم بِما يليقُ به من غير(13/66)
ص -69- ... غُلُوٍّ وإطراء، والمذمومُ منه ما كان مُشتملاً على الغُلُوِّ والإطراء، ومجاوزة الحدِّ، ومنه بعض أبيات البُردة للبوصيري.
وقد مدحتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بما يليقُ به في كتابي "من أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "، ومِمَّا قلتُ في شرح الحديث: "لا تُطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنَّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله" من كتابي "عشرون حديثاً من صحيح البخاري" المطبوع قبل ثلاثين عاماً، قلتُ:
مَدْحُ الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما هو محمودٌ، ومنه ما هو مذمومٌ، فالمحمودُ هو أن يُوصَف بكلِّ كمالٍ يليق بالإنسان، فهو صلى الله عليه وسلم أعلمُ الناس وأنصحُهم وأخشاهم لله وأتقاهم وأفصحُهم لساناً وأقواهم بياناً، وأرجحُهم عقلاً، وأكثرُهم أدباً، وأوفرُهم حِلماً، وأكملُهم قوَّةً وشجاعة وشفقة، وأكرمُهم نفساً، وأعلاهم منزلة، وكلُّ وصف هو كمالٌ في حقِّ الإنسان فلِسيِّد ولد آدم صلوات الله وسلامه(13/67)
ص -70- ... عليه منه القِسطُ الأكبر والحظُّ الأوفر، وكلُّ وصفٍ يُعتبر نقصاً في الإنسان، فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه، فلقد اتَّصف بكلِّ خُلُق كريم، وسَلِم مِن أدنى أيِّ وصفٍ ذميمٍ، وحَسبُه شرفاً قول الله تعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، قد والله بلَّغ البلاغَ المبين، وأدَّى الأمانةَ على أكمل وجه، ونصَح للأمَّة غايةَ النُّصح، ببيان ليس وراءَه بيان، ونصحٍ يفوق نصحَ أيِّ إنسان، فكلُّ ثناءٍ على سيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل فهو حقٌّ، مع الحَذر من تجاوز الحدِّ والخروج عن الحقِّ، وما أحلى وأجملَ وصفه صلى الله عليه وسلم بكونِه عبد الله ورسوله، تحقيقاً لرغبته عليه الصلاة والسلام، وامتثالاً لأمرِه في قوله في هذا الحديث: "وقولوا عبد الله ورسوله".
والمدحُ المذمومُ هو الذي يتجاوز فيه الحدّ، ويقع به المادحُ في المحذور الذي لا يرضاه الله ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن يُوصف صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز أن يوصف به إلاَّ الله تبارك وتعالى، أو أن يُصرف له صلى الله عليه وسلم ما لا يستحقُّه إلاَّ(13/68)
ص -71- ... الباري جلَّ وعلا، ومن ذلك بعض الأبيات التي قالَها البوصيري في البُردة مثل قوله:
يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ به ... سواك عند حلول الحادِث العَمِمِ
فهذا المعنى الذي اشتمل عليه هذا البيت لا يجوز أن يُصرف لغير الله عزَّ وجلَّ، ولا يستحقُّه إلاَّ هو وحده لا شريك له، فهو الذي يُعاذ به ويُلاذ به ويُلتجأ إليه ويُعتصم بحبلِه ويُعوَّل عليه، وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم مُبيِّناً تفَضُّلَه وامتنانَه على عباده وأنَّه ما بِهم من نعمة فمنه تفضُّلاً وامتناناً: "لن يَدخل أحدُكم بعمله الجنَّةَ، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلاَّ أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل"، وهو الذي يُجيبُ المضطَرَ إذا دعاه ويكشف السوءَ، كما قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ءَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، أي: لا أحد سواه يكون كذلك، لا مَلَكاً مُقرَّباً، ولا نبيًّا مرسلاً، فضلاً عمَّن سواهما، وقال(13/69)
ص -72- ... تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}، وقال: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرْونَ}.
والحاصل أنَّ المدحَ الذي اشتمل عليه هذا البيت مدحٌ بالباطلِ الذي حذَّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويكون حقًّا لو قال منادياً ربَّه:
يا خالق الخلق ما لي مَن ألوذ به سواكَ عند حلول الحادث العمم
ومثل قوله أيضاً يُخاطبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم :
فإنَّ مِن جُودِك الدنيا وضَرَّتَها ... ومِن علومك علم اللَّوحِ والقَلَمِ
وهذا لا يليق إلاَّ بِمَن بيدِه ملكوت كلِّ شيءٍ سبحانه وتعالى، فهو القائل عن نفسه: {وَمَا بِكُمْ مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ(13/70)
ص -73- ... اللهِ}، والقائل عنه نبيُّه صلى الله عليه وسلم : "واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك"، الحديث، فهو وحده الذي من جوده الدنيا والآخرة، وهو وحده الذي من علمِه علم اللوح والقلم، أما الرَّسول صلى الله عليه وسلم فهو لا يَملك إلاَّ ما أعطاه الله، ولا يعلم من الغيب إلاَّ ما أطلعه عليه، وقد أمره الله أن يقول: {لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ} الآية، وقال له: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا}، وثبت في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بَنِي عبد مَناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفيَّة عمَّة رسول الله لا أغني عنكِ من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سَلِينِي ما شئتِ من مالي، لا أغنِي عنكِ من الله شيئاً"، وروى البخاريُّ في صحيحه عن أبي هريرة رضي(13/71)
ص -74- ... الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذَكر الغُلولَ فعظَّمه وعظَّم أمرَه قال: "لا أُلفينَّ أحدَكم يوم القيامة على رقبَته فرسٌ له حمحمة يقول: يا رسول الله أَغِثنِي، فأقول: لا أملكُ لك شيئاً قد أبلغتُك"، الحديث.
11 قال الكاتب: "تَمنعون دفنَ المسلم الذي يموت خارج المدينة المنوَّرة ومكة المكرَّمة من الدَّفن فيهما، وهما مِن البقاع الطيِّبة المباركة التي يُحبُّها الله ورسولُه، فتَحرِمون المسلمين ثوابَ الدَّفنِ في تلك البقاع الشريفة المباركة، فعن عبد الله بن عدي الزهري رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلتِه واقفاً بالحزوَرة، يقول: (والله إنَّك لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أخرجتُ منك ما خرجتُ)، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من استطاع أن يموت في المدينة فليَمت بها، فإنَّي أشفع لِمَن يموت بها").(13/72)
ص -75- ... والجواب: أنَّ الأصلَ أن يُدفن كلُّ ميتٍ في بلد وفاته إلاَّ لضرورة تدعو إلى نقله إلى غيره، وفي هذا الزمان سهُل الوصول إلى الحرمين الشريفين بوسائل النقل المختلفة، فلو مُكِّن كلُّ مَن أراد الدفن في الحرمَين لأوشك أن تتحوَّل المدينتان المُقدَّستان إلى قبور، والمُهمُّ للمسلم أن يكون
في حياته على حالة حسنةٍ وأعمالٍ صالحة، وأن يُختم له بخير.
والحديثان المذكوران: الأول في فضل مكة، والثاني في فضل المدينة، وهو يدلُّ على فضل الموت بالمدينة، ومن المعلوم أنَّ كلَّ من مات بالحرمين يُدفن فيهما، ولا دلالة في ذلك على النقل إلى الحرمين للدَّفن فيهما.
ثم لماذا يعيبُ الكاتب على مَن زعم نصحَهم منْعَ النقل إلى الحرمين للدَّفن فيهما، مع أنَّه مُعجَبٌ بالصوفية، وقد ذُكر عن بعضهم حكاياتٌ مفادُها أنَّ من الأمواتِ
من تنقلُه الملائكةُ من المكان الذي دُفن فيه إلى مكان آخر!! وقد ذكر السخاويُّ في كتابه "المقاصد الحسنة فيما(13/73)
ص -76- ... يدور من الأحاديث على الألسنة" حديث: "إنَّ لله ملائكة تنقل الأموات!!"، وقال: "لم أقف عليه"، ثم ذكر حكاياتٍ، منها أنَّ العزَّ يوسف الزرندي أبا السادة الزرنديين المدنيين وهو مِمَّن لم يَمت بالمدينة رؤي في النوم وهو يقول للرائي: سلِّم على أولادي، وقل لهم: إنِّي قد حُملتُ إليكم، ودُفنت بالبقيع عند قبر العباس، فإذا أرادوا زيارتي فليَقفوا هناك، ويُسلِّموا ويدعوا!!!
وذكر هذا الحديثَ العجلوني في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس فيما يدور من الحديث على ألسنة الناس"، ونقل الحكايات التي ذكرها السخاوي، ثم قال: "وقال الشعراني أيضاً في كتابه البدر المنير في غريب أحاديث البشير النذير: قد ثبت وقوعه لطائفة، منهم سيدي أبو الفضل الغريق من أولاد السادات بني الوفاء، غرق في بحر النيل فوجدوه عند جدِّه بالقرافة مدفوناً!! وأما نقل الحديث فكثير، يتكلَّم الرَّجل بمصر فينتقل إلى مكة في ليلة فيجده الناس هناك!! انتهى".(13/74)
ص -77- ... وكانت وفاة الشعراني صاحب هذا الكلام سنة (973ه).
وأهل السنة والجماعة ومنهم مَن زعم الكاتبُ نصحَهم يُؤمنون بأنَّ اللهَ على كلِّ شيء قدير، ويُصدِّقون بكرامات أولياء الله حقًا، وهم الصحابة ومَن تبعهم بإحسانٍ، ولا يُصدِّقون بالحكايات المنامية وغير المناميَّة التي ليس لها خطامٌ أو زِمام.
وكلُّ ميت دُفن في مكان فإنَّه يُبعث منه يوم القيامة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}، والقبور تنشقُّ عن أصحابِها يوم القيامة، وأوَّلُ قبرٍ ينشقُّ عن صاحبِه قبرُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم : "أنا سيِّدُ ولد آدم يوم القيامة، وأوَّلُ مَن ينشقُّ عنه القبرُ، وأوَّلُ شافعٍ وأوَّلُ مُشَفّع"، رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولم يثبت في السُّنَّة ما يدلُّ على خلاف ذلك، وأنَّ الملائكةَ تنقل الموتى من مكان إلى مكان، بل قد جاء في(13/75)
ص -78- ... جامع الترمذي حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه في سؤال منكر ونكير للمؤمن والمنافق، وأنَّ كلاًّ منهما يكون في مضجعه، وفيه أنَّه يُقال للمؤمن: "نَمْ كنومَة العروس الذي لا يوقظُه إلاَّ أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك".
وفيه أنَّه يُقال للأرض في حقِّ المنافق: "الْتَئمِي عليه، فتَلْتَئمُ عليه، فتختلف أضلاعُه، فلا يزال فيها مُعذَّباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك"، وهو حديثٌ ثابتٌ، رجاله رجال مسلم.
12 عاب الكاتب على مَن زعم نصحَهم تعيينَ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أستاذاً بالجامعة الإسلامية بالمدينة، وعضواً في مجلسِها الأعلى، وزعم أنَّ الملكَ فيصلاً رحمه الله طرَدَه، وأنَّه أُعيد إلى نفس المنصب بعد ذلك، ووصف كتبَه بأنَّها كاسدة!!!(13/76)
ص -79- ... والجواب: أنَّ الشيخَ العلاَّمةَ المحدِّث محمد ناصر الدِّين الألباني رحمه الله معروفٌ لدى أهل الإنصاف بجهودِه العظيمة في خدمة السنَّة، وتسهيل الوصول إلى معرفة الأحاديث، وبيان مظانِّها وطرُقِها ومتابعاتها وشواهدها والحكم عليها.
وقد عُيِّن مدرِّساً في الجامعة الإسلامية بالمدينة في السنوات الأولى من إنشائها، وعُيِّن عُضواً في مجلسها الأعلى، ثم انتهى التعاقد معه كما ينتهي التعاقد مع المدرِّسين غير السعوديين، وكنتُ مدرِّساً في الجامعة الإسلامية منذ تأسيسها، وما سمعتُ أنَّ الملكَ فيصلاً رحمه الله طرد الشيخَ الألبانيَّ كما زعم الكاتب!
والمجلسُ الأعلى للجامعة سابقاً يتألَّف من أعضاء، فيهم عشرة من خارج المملكة يصدر بتعيينهم أمرٌ مَلَكيٌّ لمدَّة ثلاث سنوات بناءً على ترشيح رئيس الجامعة.
وقد كنتُ منذ عهد الملك فيصل رحمه الله على وظيفة نائب رئيس الجامعة الإسلامية، وبعد انتقال الشيخ(13/77)
ص -80- ... عبد العزيز بن باز رحمه الله من رئاسة الجامعة الإسلامية إلى رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في شوال عام 1395ه، كنتُ المسئول الأول في الجامعة مدَّة أربع سنوات، فرشَّحتُ عشرة أعضاء في المجلس الأعلى للجامعة، فيهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وتَمَّت الموافقة على تعيينهم، ويرجع اختيار الشيخ الألباني رحمه الله إلى علمِه وفضله وجهودِه في خدمة السنَّة، وإلى كونه ناصراً للسُنَّة محذِّراً من البدع، رادًّ على المبتدعة.
وأمَّا وصف الكاتب لكُتبِه بأنَّها كاسدة، فنعم هي كاسدةٌ عنده وأمثاله! أمَّا مَن له اشتغالٌ بالعلم واهتمامٌ بالسُنَّة فيحرص على اقتنائها والاستفادة منها.
13 أشاد الكاتبُ في أوراقه بإقامة احتفالات لِمولدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأَنكَرَ على مَن زعم نُصحَهم إنكارهم لذلك.(13/78)
ص -81- ... والجواب: أنَّ مَحَبَةَ الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون في قلبِ كلِّ مسلم أعظمَ من محبَّتِه لوالديه وولده والناسِ أجمعين، كما قال صلى الله عليه وسلم : "لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناس أجمعين"، رواه البخاري ومسلم.
بل يجبُ أن تكون أعظمَ من مَحبَّتِه لنفسِه، كما ثبت ذلك في حديث عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري، وإنَّما وجب أن تكون مَحبَّتُه صلى الله عليه وسلم أعظمَ مِن مَحبَّة النفسِ والوالِدِ والولَدِ؛ فلأنَّ النِّعمةَ التي ساقها اللهُ للمسلمين على يديه صلى الله عليه وسلم وهي نعمةُ الهدايةِ للصراطِ المستقيم، نعمةُ الخروج من الظلمات إلى النُّورِ هي أَجَلُّ النِّعم وأعظَمُها، لا يُساويها نعمةٌ ولا يُماثلُها نعمة.
والعلامةُ الواضحةُ الجليَّةُ لِمَحبَّتِه صلى الله عليه وسلم اتِّباعُ ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه الكرام رضي الله عنهم، وذلك بتصديقِ الأخبار، وامتثالِ الأوامرِ، واجتنابِ النَّواهي، وأن تكون العبادةُ لله مُطابقةً لِما جاء في الكتاب والسُّنَّة.(13/79)
ص -82- ... ومِن المعلوم أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يأتِ عنه شيءٌ يدلُّ على احتفاله بِمولِده، وكذا لَم يأتِ شيءٌ من ذلك عن أصحابِه الكرام، ولا عن التابعين وأتباعِ التابعين، ومَضتِ القرونُ الثلاثةُ الأولى ليس فيها شيءٌ من الاحتفالات بمولِده صلى الله عليه وسلم ، وأولُ مَن عُرف عنه إحداثُ الاحتفال بالموالدِ ومنها مولده صلى الله عليه وسلم العُبَيدِيُّون الذين حَكموا مصرَ، الذين يُقال لهم: الفاطميين، وكان بدءُ حكمهم مصر في القرن الرابع الهجري، فقد ذكر تقيُّ الدِّين أحمد بن علي المقريزي في كتابه: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/490) أنَّه كان للفاطميِّين في طول السَّنة أعياد ومواسم، فذكرها وهي كثيرةٌ جدًّا، ومنها مولدُ الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومولد عليٍّ وفاطمة والحسن والحُسين رضي الله عنهم، ومولد الخليفة الحاضر.
وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة (567ه)، وهي السنةُ التي انتهت فيها دولتُهم بموتِ آخرهم العاضد، قال: "ظهرتْ في دولتِهم البدعُ(13/80)
ص -83- ... والمنكرات، وكثُرَ أهلُ الفساد، وقلَّ عندهم الصالِحون من العلماء والعُبَّاد...".
وذكر ابن كثير قبل ذلك بقليل أنَّ صلاح الدِّين قطع الأذانَ بِحيَّ على خير العمل من مصر كلِّها.
وفي القول بالاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم تقليدٌ للنصارى في احتفالهم بميلادِ عيسى عليه الصلاة والسلام، فقد قال السخاويُّ في كتابه التبر المسبوك في ذيل السلوك (ص:14): "وإذا كان أهلُ الصَّليب اتَّخذوا ليلة مولِد نبيِّهم عيداً أكبر، فأهل الإسلام أولَى بالتكريمِ وأجدَر!!!".
وتعقَّبه مُلاَّ علي القاري في كتابه المورد الروي في المولد النبوي (ص:29، 30) بقوله: "قلت: مِمَّا يَرِدُ عليه أنَّا مأمورون بمخالفة أهل الكتاب".
أورد النقل عنهما الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري رحمه الله في كتابه القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرُّسل وهو ضمن رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النَّبوي (2/630 631).(13/81)
ص -84- ... وكتاب الأنصاريِّ هذا من أحسن ما أُلِّف في هذه المسألةِ التي ابتُلي بها كثيرٌ من الناس منذ أن أُحدثت في القرن الرابع إلى الآن.
وإذاً فالمُحْدِثون لبدعة الموالدِ الرافضةُ العُبيديُّون، والمقلَّدون فيها النصارى الضَّالُّون، وصدق الرسول الكريمُ صلى الله عليه وسلم في قوله: "لتَتبعُنَّ سَنَن مَن كان قبلكم، شِبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جُحرَ ضبٍّ تَبِعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمَن؟"، رواه البخاريُّ ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
14 قال الكاتبُ: "كان للمذاهب الأربعة في الحَرم المكيِّ منابر، فهدمتُموها، ثمَّ كراسي للتدريس، فمنعتموها...".
واستنكرَ قولَ أحد المُدرِّسين في المسجد النَّبوي: إنَّ(13/82)
ص -85- ... أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في النار، واستشهد لإنكارِه بقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذابًا مُهِينًا}، وبقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}!!! وعوَّل في نجاةِ الأَبَوين على رسائل للسيوطي في ذلك.
والجواب: أن يُقال: يُريد الكاتبُ بالمنابر المهدومة المقامات التي على أطراف المطاف سابقاً، والتي يُقال لها: مقام الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، وكانت موجودةً قبل ولاية الملك عبد العزيز رحمه الله، وكان كلُّ أصحاب مذهبٍ يُصلُّون على حِدَةٍ عند هذه المقامات، فكان من أعظمِ حسناتِ الملك عبد العزيز رحمه الله أنَّه منذ بدء ولايتِه قضَى على هذا التفرُّق في الصلاة حول الكعبة، وجمع النَّاسَ على إمامٍ واحد يُصلِّي بهم مجتمعين غير متفرِّقين، وقد بقيت البناياتُ التي يُقال لها المقامات إلى أن أُزيلت عند توسِعة المطاف، وقد شاهدتُها عندما حججتُ فرضي سنَة (1370ه).(13/83)
ص -86- ... وقد سمعتُ من الدكتور محمد تقي الدِّين الهلالي رحمه الله، وهو مِمَّن أدرك ذلك الوقت يذكر أنَّ واحداً مِمَّن آلَمَهم ذلك التفرُّق تحدَّث مع واحدٍ من المتعصِّبين مُنكِراً لذلك التفرُّق، فكان جواب ذلك المتعصِّب أن قال: الدليل على أنَّكم لستم على حقٍّ أنَّه ليس لكم مقامٌ حول الكعبة، فكان جواب المنكِر لذلك التفرُّق: يكفي المسلمين جميعاً مقامُ إبراهيم، ولا يحتاجون إلى مقامات أخرى!!
والكاتبُ في أوراقِه يُظهرُ التألُّمَ من فُرقة المسلمين في هذا الزمان، فيقول: "بلادُ أمريكا وأوربا وصلها داؤكم الدَّفين، فاشتعلَ الخلافُ في مساجدِ ومدارس المسلمين، هذا تابعٌ لابن باز وابن عُثيمين، يُكفِّرُ الصوفيةَ والذَّاكرين، وهذا أشعريٌّ أو ماتريديٌّ، وهذا ديوبَنديٌّ أو بريلوي... إلخ، يُحاربُ بعضُهم بعضاً، ويُحرِّم الصلاة خلفهم، والزواج والتواصل فيما بينهم، ويقطع أواصرَ الدِّين...".
فإذا كان هذا تألُّمُه لفُرقةِ المسلمين في أوربا وأمريكا،(13/84)
ص -87- ... فما باله يتألَّم ويحزن لوِحدتِهم وزوال فُرقتِهم عند الكعبة، فينقمُ على مَن كانوا سبباً في هذه الوِحدةِ، ويقول: "كان للمذاهب الأربعة في الحَرم المكيِّ منابر، فهدمتُموها"؟!!
وهذا التناقضُ من الكاتبِ في تأَلُّمِه على الفُرقة في أمريكا وأوربا، وتألُّمه وحُزنِه على وِحدة المسلمين في صلاتِهم عند الكعبة ناشيءٌ عن اتِّباعِ الهَوَى والنَّيلِ مِمَّن يَدْعو إلى الحقِّ والهدى، وما أحسن قول أبي عثمان النيسابوري رحمه الله: "مَن أمَّر السُّنَّةَ على نفسِه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومَن أمَّر الهوى على نفسِه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة".
ثمَّ ما علاقةُ مَن أراد نُصحَهم بتفَرُّق غيرهم إلى أشعريٍّ أو ماتريديٍّ، وديوبَنديٍّ أو بريلويٍّ... إلخ، على حدِّ قوله.
وقوله: "هذا تابعٌ لابن باز وابن عُثيمين، يُكفِّرُ الصوفيةَ والذَّاكرين"، هو من الإفكِ المُبين، كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك.(13/85)
ص -88- ... وأمَّا التدريسُ في المسجد الحرام والمسجد النَّبَويِّ، فهو مستَمرٌّ وقائمٌ والحمد لله في التفسير والحديث والفقه وغيرها، وأذكرُ أنَّ مِمَّا دُرِّس في المسجد النَّبَويِّ موطأ الإمام مالك رحمه الله، درَّسه كلٌّ من الشيخ عطية محمد سالم، والشيخ عمر محمد فلاتة رحمهما الله، ومقتضى الولاية والأمانة والنُّصح للمسلمين ألاَّ يُسمح لكلِّ مَن أراد أن يفتحَ فاه في المسجدَين الشريفين.
وأمَّا إنكارُه القول بأنَّ أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في النار فلا وجه له؛ لأنَّ الذي قال ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار"، فلمَّا قَفَّى دعاه، فقال: "إنَّ أبي وأباك في النَّار".
وقد بوَّب النَّوويُّ لهذا الحديث في شرحه لصحيح مسلم بقوله: "باب: بيان أنَّ مَن مات على الكفر فهو في النار، ولا تناله شفاعة، ولا تنفعه قرابة المقرَّبين".
وقال في شرحه: "وفيه أنَّ مَن مات في الفترة على ما(13/86)
ص -89- ... كانت عليه العربُ من عبادة الأوثان فهو في النَّار، وليس هذا مُؤاخذة قبل بلوغ الدَّعوة؛ فإنَّ هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوةُ إبراهيم وغيره من الأنبياء صلواتُ الله تعالى وسلامه عليهم".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استأذنتُ ربِّي أن أستغفرَ لأُمِّي فلَم يأذن لِي، واستأذنتُه أن أزورَ قبرَها فأذِن لِي".
وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "زار النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قبرَ أُمِّه، فبَكى وأبْكى مَن حوله، فقال: استأذنتُ ربِّي في أن أَستغفرَ لَها فلَم يُؤذن لِي، واستأذنتُه في أن أزورَ قبرَها فأذِنَ لِي، فزوروا القبورَ؛ فإنَّها تُذكِّرُ الموتَ".
قال النوويُّ في شرحه هذا الحديث: "فيه جوازُ زيارةِ المشركين في الحياة، وقبورِهم بعد الوفاة؛ لأنَّه إذا جازت زيارتُهم بعد الوفاة ففِي الحياة أولَى، وقد قال الله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، وفيه النَّهيُ عن الاستغفار للكفَّار، قال القاضي عياض رحمه الله: سببُ(13/87)
ص -90- ... زيارتِه صلى الله عليه وسلم قبرها أنَّه قصَد قوة الموعظة والذِّكرى بمُشاهدةِ قبرِها؛ ويُؤيِّده قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "فزوروا القبور؛ فإنَّها تُذِّكركم الموت".
وقال أيضاً: "قوله: فبكى وأَبْكى من حوله، قال القاضي: بكاؤُه صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من إدراك أيَّامِه والإيمان به".
وقال البيهقيُّ في السنن الكبرى (7/190): "وأبواه كانا مشركَين؛ بدليل ما أخبرنا..."، ثمَّ ساق بإسناده حديثَ أنسٍ: "إنَّ أبي وأباك في النَّار"، وبإسنادِه حديث أبي هريرة في استئذانِه صلى الله عليه وسلم في أن يستغفرَ لأمِّه فلَم يُؤذن له، وهما اللَّذان أخرجهما مسلم.
وعلى هذا فالثابتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كون أَبوَيه ماتا مشركَين، وأنَّهما في النَّار، ولَم يثبت شيءٌ يدلُّ على خلاف ذلك، وما ذكره مَن قال بإحيائهما له صلى الله عليه وسلم وإسلامِهما ليس بصحيح؛ لعدم ثبوته من حيث الإسناد؛ لأنَّ فيه مجاهيل، كما ذكر ذلك ابنُ كثير وغيرُه.(13/88)
ص -91- ... وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/324 327):
"سُئل الشيخ رحمه الله تعالى:
هل صحَّ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تبارك وتعالى أحيا له أَبَويه حتى أَسلَما على يديْه، ثمَّ ماتَا بعد ذلك؟
فأجاب: لَم يصحَّ ذلك عن أحدٍ من أهل الحديث، بل أهلُ المعرفة مُتَّفقون على أنَّ ذلك كذبٌ مُختَلَقٌ، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر يعني الخطيب في كتابه السابق واللاحق، وذكره أبو القاسم السُّهيلي في شرح السيرة بإسنادٍ فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد الله القرطبيُّ في التذكرة، وأمثال هذه المواضع، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنَّه من أظهرِ الموضوعات كذباً كما نصَّ عليه أهلُ العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدَة في الحديث، لا في الصحيح، ولا في السنن، ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يَروُون الضعيفَ مع الصحيح؛(13/89)
ص -92- ... لأنَّ ظهورَ كذب ذلك لا يخفى على مُتديِّن، فإنَّ مثلَ هذا لو وقعَ لكان مِمَّا تتوافرُ الهِمَمُ والدَّواعي على نقلِه، فإنَّه من أعظمِ الأمورِ خرقاً للعادة من وجهين:
من جهة إحياءِ الموتى، ومن جهةِ الإيمانِ بعد الموتِ، فكان نقلُ مثل هذا أولَى من نقلِ غيرِه، فلَمَّا لَم يروِه أحدٌ من الثقاتِ عُلِم أنَّه كذبٌ.
والخطيبُ البغداديُّ هو في كتاب "السابق واللاحق" مقصوده أن يذكر مَن تقدَّم ومَن تأخَّر من المُحدِّثين عن شخصٍ واحد، سواء كان الذي يروونه صدقاً أو كذباً، وابنُ شاهين يروي الغثَّ والسَّمينَ، والسُّهيليُّ إنَّما ذكر ذلك بإسنادٍ فيه مجاهيل.
ثمَّ هذا خلاف الكتاب والسُّنَّة الصحيحة والإجماع، قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ(13/90)
ص -93- ... الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}.
فبيَّن الله تعالى أنَّه لا توبة لِمَن مات كافراً، وقال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ}، فأخبر أنَّ سنَّتَه في عبادِه أنَّه لا ينفع الإيمانُ بعد رؤية البأس، فكيف بعد الموت؟ ونحو ذلك من النصوص.
وفي صحيح مسلم: أنَّ رجلاً قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : أين أبي؟ قال: "إنَّ أباكَ في النار"، فلمَّا أدبَر دعاه، فقال: "إنَّ أبي وأباك في النَّار".
وفي صحيح مسلم أيضاً أنَّه قال: "استأذنتُ ربِّي أن أزورَ قبرَ أمِّي فأذِن لِي، واستأذنته في أن أستغفرَ لها فلَم يأذن لِي، فزوروا القبورَ؛ فإنَّها تُذكِّرُ الآخرة".
وفي الحديث الذي في المسند وغيره قال: "إنَّ أمِّي مع أُمِّك في النَّار".
فإن قيل: هذا في عام الفتح، والإحياءُ كان بعد ذلك(13/91)
ص -94- ... في حَجَّة الوداع، ولهذا ذكر ذلك مَن ذكره، وبهذا اعتذر صاحبُ التذكرة، وهذا باطلٌ لوجوه:
الأول: إنَّ الخبرَ عمَّا كان ويكون لا يدخله نسخٌ، كقوله في أبي لَهب: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}، وكقوله في الوليد: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}.
وكذلك في: "إنَّ أبي وأباك في النار"، و"إنَّ امِّي وأمَّك في النَّار"، وهذا ليس خبراً عن نارٍ يخرج منها صاحبُها كأهل الكبائر؛ لأنَّه لو كان كذلك لجاز الاستغفارُ لهما، ولو كان قد سبق في علمِ الله إيمانُهما لَم يَنهَهُ عن ذلك، فإنَّ الأعمالَ بالخواتيم، ومَن ماتَ مؤمناً فإنَّ الله يغفرُ له، فلا يكون الاستغفارُ له مُمتَنِعاً.
الثاني: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زارَ قبرَ أُمِّه؛ لأنَّها كانت بطريقه بالحجون عند مكة عام الفتح، وأمَّا أبوه فلم يكن هناك، ولم يَزُره؛ إذ كان مدفوناً بالشام في غير طريقه، فكيف يُقال: أُحْيِيَ له؟!
الثالث: إنَّهما لو كانا مؤمنين إيماناً ينفع كانا أحقَّ(13/92)
ص -95- ... بالشُّهرةِ والذِّكر من عمَّيه: حمزة، والعباس، وهذا أبعد مِمَّا يقوله الجُهَّال من الرافضة ونحوهم مِن أنَّ أبا طالب آمن، ويحتجُّون بِما في السيرة من الحديث الضعيف، وفيه أنَّه تكلَّم بكلامٍ خفيٍّ وقت الموت.
ولو أنَّ العبَّاس ذكر أنَّه آمن لَمَا كان قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : عمُّك الشيخ الضَّال كان ينفعُك، فهل نفعتَه بشيءٍ؟ فقال: "وجدتُه في غمرة من نارٍ، فشفعتُ فيه حتى صار في ضحضاحٍ من نار، في رجليه نعلان من نارٍ يَغلِي منهما دماغُه، ولولا أنا لكان في الدَّرك الأسفل من النار".
هذا باطلٌ مُخالفٌ لِما في الصحيح وغيره، فإنَّه كان آخر شيءٍ قاله: هو على ملَّة عبد المطلب، وأنَّ العبَّاس لَم يشهد موتَه، مع أنَّ ذلك لو صحَّ لكان أبو طالبٍ أحقَّ بالشُّهرةِ من حمزة والعبَّاس، فلَمَّا كان من العلم المتواترِ المستفيض بين الأُمَّة خلفاً عن سلَفٍ أنَّه لَم يُذكَر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يُذكرُ من أهله المؤمنين، كحمزة، والعبَّاس، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين(13/93)
ص -96- ... رضي الله عنهم، كان هذا من أَبيَنِ الأدلَّةِ على أنَّ ذلك كذبٌ.
الرابع: أنَّ الله تعالى قال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ} إلى قوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِن شَيْءٍ}، الآية، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}.
فأمرَ بالتَّأسي بإبراهيم والذين معه، إلاَّ في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار، وأخبرَ أنَّه لَمَّا تبيَّن له أنَّه عدوٌ لله تبرَّأ منه، والله أعلم". اه.
وأمَّا تعويلُ الكاتب على رسائل السيوطي في نجاةِ الأَبَوَين، فجوابُه أنَّ السيوطيَّ لَم يأت بشيء ثابتٍ في ذلك يُعوَّلُ عليه، وقد ألَّف الشيخ علي مُلاَّ القاري الحنفي رسالةً في الردِّ عليه، وبيان أدلة معتقد أبي حنيفة في ذلك.
وقال فيها (ص:85 87): "والعجبُ من الشيخ(13/94)
ص -97- ... جلال الدِّين السيوطي مع إحاطتِه بهذه الآثار التي كادت أن تكون متواترةً في الأخبار أنَّه عَدَل عن مُتابعةِ هذه الحجَّة، وموافقة سائر الأئمَّة، وتَبِع جماعةً من العلماء المتأخِّرين، وأورد أدلَّةً واهيةً في نظر الفضلاء المعتَبَرين، منها أنَّ الله سبحانه أحيا له أبويه حتى آمنا به؛ مُستدلاًّ بِما أخرجه ابنُ شاهين في الناسخ والمنسوخ، والخطيب البغدادي في السابق واللاحق، والدارقطني وابن عساكر، كلاهما في غرائب مالك بسندٍ ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت: (حجَّ بنا رسول الله صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم حجَّةَ الوداع، فَمَرَّ بي على عَقبة الحجون، وهو باكٍ حزينٌ مغتَمٌّ، فنزل، فمكث عنِّي طويلاً، ثمَّ عاد إليَّ وهو فرِحٌ، فتبسَّم، فقلتُ له؟ فقال: ذهبتُ لقبر أُمِّي، فسألتُ الله أن يُحيِيَها، فآمنت بِي، وردَّها الله عزَّ وجلَّ).
وهذا الحديثُ ضعيفٌ باتِّفاق المُحدِّثين، كما اعترف به السيوطي، وقال ابن كثير: إنَّه منكرٌ جدًّا، ورواتُه مجهولون". اه.(13/95)
ص -98- ... ثمَّ كيف يزعم الكاتبُ أنَّ القولَ بكون أَبَوي الرسول صلى الله عليه وسلم في النار فيه إيذاءٌ للرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وهو مَبنِيٌّ على سُنَّةٍ ثابتةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره؟!! بخلاف القول بإحياءِ الأبَوين وإسلامهما وهو الذي عوَّل عليه الكاتب فإنَّه لَم يثبت في السُّنَّةِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قولٌ على الله ورسوله بغير علم، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
15 قال الكاتبُ: "كفَّرتُم ابنَ عَرَبي، ثمَّ أَلحقتُم به حُجَّةَ الإسلام الغزالي، ثمَّ التَفَتُّم لأبي الحسن الأشعري".
والجواب: أن يُقال: أمَّا أبو الحسن الأشعريّ، فإنَّ آخرَ أمرِه أنَّه في الاعتقاد على طريقةِ أهل الحديث، كما جاء ذلك عنه في كتابَيه: المقالات، والإبانة.(13/96)
ص -99- ... والأشاعرةُ المنتَسِبون إليه ليسوا على عقيدتِه التي هو عليها في آخر أمرِه، وعلى هذا فأيُّ تكفيرٍ أو تبديعٍ حصل له مِمَّن زعم الكاتبُ نُصحَهم؟!
وأمَّا الغزالي فهو في الاعتقادِ على طريقة المتكلِّمين، ولكن نقل بعضُ العلماء ما يدلُّ على رجوعِه، قال ابنُ أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية (ص:243 244) وهو في مَعرض ذكره جماعةً من المتكلِّمين حصلت لهم الحيرة قال: "وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخرُ أمرِه إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلاميَّة، ثمَّ أعرَضَ عن تلك الطُّرُق، وأقبَل على أحاديث الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، فمات و(البخاري) على صدره".
وكتابه "إلجام العوام عن علم الكلام" اشتمل على التحذير من الاشتغال بعلم الكلام، والحثِّ على الاشتغال بالكتاب والسُّنَّة وما كان عليه سلف الأُمَّة.
وعلى هذا فمن أين للكاتبِ أنَّ مَن زعم نُصحَهم كفَّروه؟!(13/97)
ص -100- ... وأمَّا ابن عَربي الطائي صاحب الفصوص، القائل بوحدة الوجود، فإنَّ مَن يقف على كلامِه في فصوصه لا يتوقَّف في تكفيرِه، وقد ألَّف الشيخ برهان الدِّين البقاعي المتوفى سنة (885ه) كتاباً سَمَّاه: "تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي"، يقع في (241) صفحة، قال في مقدِّمتِه:
"وبعد، فإنِّي لَمَّا رأيتُ الناسَ مضطربِين في ابن عربي المنسوب إلى التصوُّف، الموسوم عند أهل الحق بالوحدة، ولم أرَ مَن شفى القلبَ في ترجمته، وكان كفرُه في كتابه الفصوص أظهرَ منه في غيره أحببتُ أن أذكرَ منه ما كان ظاهراً؛ حتى يُعلم حالُه، فيُهجر مقالُه، ويُعتقَد انحلالُه، وكفرُه وضلالُه، وأنَّه إلى الهاوية مآبُه ومآلُه، وامتثالاً لِما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لَم يستطع فبلسانه، فإن لَم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان"، وفي رواية عن عبد الله بن مسعود: "وليس وراء ذلك من الإيمان مثقالُ حبَّةٍ من خَردَل".(13/98)
ص -101- ... وما أَحضَر إليَّ النسخة التي نقلتُ ما تراه إلاَّ شخصٌ من كبار مُعتقديه وأتباعه ومُحبِّيه".
إلى أن قال: "وسَمَّيتُ هذه الأوراق "تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي"، وإن شئتَ فسمِّها "النصوص من كفر الفصوص"؛ لأنِّي لَم أستشهد على كفرِه وقبيحِ أمرِه إلاَّ بما لا ينفع معه التأويل من كلامِه، فإنَّه ليس كلُّ كلامٍ يُقبل تأويلُه وصرفُه عن ظاهرِه". اه.
وأَكتفي بأن أنقلَ للأذكياء والأغبياء جُملاً من كلام ابن عربي في فصوصه التي أوردها البقاعيُّ في كتابه، مشيراً في ذلك إلى الصفحات المنقول منها، ثمَّ أُشيرُ إلى جملة الذين نقل عنهم القول بتكفيره أو ذمِّه ذمًّا شنيعاً، مع ذكر أسماء جماعة من الذين صرَّحوا بكفرِه أو ذمِّه ذمًّا شنيعاً، ونقل شيءٍ من كلامِهم في ذلك.
فمِن أقوال ابن عربي:
قوله (ص:49): "{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا}: وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري!!(13/99)
ص -102- ... {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ}: أي بِما يَميل بكم إليه، فإذا مال بكم إليه رأيتُم صورتَكم فيه، فمَن تخيَّل منكم أنَّه رآه فما عرف! ومَن عرف منكم أنَّه رأى نفسَه فهو العارف!! فلهذا انقسم الناسُ إلى غير عالِم وعالِم!!!".
وقوله (ص:51): {وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}: أي حكم، فالعالم يعلم مَن عَبد، وفي أيِّ صورةٍ ظهر حتى عُبد، وأنَّ التفريقَ والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقِوى المعنويَّة في الصورة الروحانية، فما عُبد غير الله في كلِّ معبود!!!".
وقوله (ص:60): {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ}: أي: تَدَعهم وتتركهم، {يُضلُّوا عِبَادَكَ}: إلى الخير!! فيُخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فينظرون أنفسهم أرباباً بعد ما كانوا عند أنفسِهم عبيداً، فهم العبيد الأرباب!!!".
وقوله (ص:60 61): {رَبِّ اغْفِرْ لِي}: استرني، واستر من أجلي، فيُجهل مقامي وقدري، كما جُهل(13/100)
ص -103- ... قدرُك في قولك، {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ}.
{وَلِوَالِدَيَّ}: من كنتُ نتيجة عنهما، وهما العقل والطبيعة!!
{وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ} أي: قلبي!!
{مُؤْمِنًا}: أي مصدِّقاً لما يكون فيه من الإخبارات الإلَهية، وهو ما حدثت به أنفسها!!
{وَلِلمُؤْمِنِينَ}: من العقول!!
{وَلِلمُؤْمِنَاتِ}: من النفوس!!".
وقوله (ص:61): "ومن أسمائه الحسنى: العلي، على مَن وما ثمَّ إلاَّ هو؟!!! فهو العليُّ لذاته.
أو عن ماذا، وما هو إلاَّ هو؟!!! فعلُوُّه لنفسه، وهو من حيث الوجود عينُ الموجودات، فالمسمَّى مُحدثات هي العليَّة لذاتها، وليست إلاَّ هو!!".
وقوله (ص:62): "فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال(13/101)
ص -104- ... ظهوره، وما ثمَّ من يراه غيره، وما ثَمَّ مَن يُبطنُ عنه، فهو ظاهر لنفسه، باطنٌ عنه، وهو المسمَّى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المُحدثات!!!".
وقوله (ص:68): {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: فما نكح سوى نفسه، فمنه الصاحبة والولد، والأمر واحدٌ في العدد!!!".
وقوله (ص:84): "{مَا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: فكلُّ ماشٍ فعلى صراط الربِّ المستقيم، فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه، ولا ضالُّون، فكما كان الضلالُ عارضاً، فكذلك الغضبُ الإلَهي عارض، والمآل إلى الرَّحمة التي وسعت كلَّ شيء!!!".
وقوله (ص:89): "ألا ترى عاداً قوم هود كيف قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}؟ فظنُّوا خيراً بالله تعالى
وهو عند ظنِّ عبده به فأضرب لهم الحقُّ عن هذا القول، فأخبرهم بما هو أتَمُّ وأعلى في القُرب؛ فإنَّه إذا(13/102)
ص -105- ... أمطرهم فذلك حظُّ الأرض وسقي الحبِّ، فما يَصِلون إلى نتيجة ذلك المطر إلاَّ عن بُعد، فقال لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فجعل الرِّيحَ إشارةً إلى ما فيها من الراحة؛ فإنَّ بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة!!
وفي هذه الريح عذابٌ، أي: أمرٌ يستعذبونه إذا ذاقوه، إلاَّ أنَّه يوجِعُهم لفُرقة المألوف!!".
وقوله (ص:93): "فقُلْ في الكون ما شئتَ، إن شئتَ قلتَ: هو الخلق، وإن شئتَ قلتَ: هو الحق، وإن قلتَ: هو الحقُّ الخلق، وإن شئتَ قلتَ: لا حق من كلِّ وجه، ولا خلق من كلِّ وجه، وإن قلتَ بالحيرة في ذلك؛ فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب، ولولا التحديدُ ما أخبرت الرُّسل بتحوُّل الحقِّ في الصُّوَر، ولا وصفته بخلع الصُّوَر عن نفسه:
فلا تنظر العينُ إلاَّ إليه ولا يقع الحكم إلاَّ عليه!!".
وقوله (ص:102): "وأمَّا أهل النار فمآلُهم إلى(13/103)
ص -106- ... النَّعيم، ولكن في النَّار؛ إذ لا بدَّ لصورة النَّار بعد انتهاء مدَّة العقاب أن تكون برداً وسلاماً على مَن فيها!! وهذا نعيمُهم، فنعيمُ أهل النَّار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين أُلقيَ في النَّار!!! فإنَّه عليه السلام تعذَّب برؤيتِها وبما تعوَّد في علمِه وتقرَّر من انَّها صورةٌ تؤلِم مَن جاوَرَها من الحيوان، وما علم مرادَ الله فيها ومنها في حقِّه، فبعد وجود هذه الآلام وَجَدَ برداً وسلاماً، مع شهود الصورة اللونية في حقِّه، وهي نارٌ في عيون الناس، فالشيءُ الواحد يتنوَّع في عيون الناظرين، هكذا هو التجلِّي الإلَهي!!!".
وقوله (ص:112): "وكان موسى عليه السلام أعلمَ بالأمر من هارون؛ لأنَّه علم ما عَبَده أصحابُ العِجل؛ لعلمه بأنَّ الله قضى ألاَّ نعبدَ إلاَّ إيَّاه، وما حكم الله بشيء إلاَّ وقع، فكان عتْبُ موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتِّساعه؛ فإنَّ العارفَ مَن يرى الحقَّ في كلِّ شيء، بل يراه عينَ كلِّ شيء!!!".(13/104)
ص -107- ... قال الشيخ زين الدِّين العراقي: "هذا الكلامُ كفرٌ من قائلِه من وجوه:
أحدها: أنَّه نسب موسى عليه السلام إلى رضاه بعبادة قومِه للعجل.
الثاني: استدلالُه بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، على أنَّه قدَّرَ أن لا يُعبد إلاَّ هو، وأنَّ عابدَ الصنَمِ عابدٌ له.
الثالث: أنَّ موسى عليه السلام عتبَ على أخيه هارون عليهما السلام إنكاره لِما وقع، وهذا كذبٌ على موسى عليه السلام، وتكذيب لله فيما أخبر به عن موسى من غضبِه لعبادتِهم العجل.
الرابع: أنَّ العارفَ يرى الحقَّ في كلِّ شيءٍ، بل يراه عين كلِّ شيء، فجعل العجلَ عين الإلَه المعبود!!! فليعجب السامعُ لمثل هذه الجُرأة التي لا تصدر مِمَّن في قلبِه مثقال ذرَّة من إيمان!".(13/105)
ص -108- ... وقوله (ص:118) عند قوله تعالى: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}: "وكان قرَّةَ عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهراً مطهَّراً، ليس فيه شيءٌ من الخبَث؛ لأنَّه قبضه عند إيمانِه قبل أن يكتسبَ شيئاً من الآثام، والإسلامُ يَجُبُّ ما قبله، وجعله آيةً على عنايتِه سبحانه وتعالى بِمَن شاء؛ حتى لا ييأس أحدٌ من رحمة الله، فإنَّه لا ييأس من رَوْحِ الله إلاَّ القوم الكافرون!!!".
وبعد وقوفِ القارئ على هذه النقول من كتاب الفصوص لابن عربي بواسطة كتاب الشيخ برهان الدِّين البقاعي، وهي في غاية السوءِ، وقائلُها في غاية الجُرأة على الله، أُضيف إلى ذلك نقلاً عنه في مطلع كتابه الفصوص، فيه الجرأةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في رؤيا مناميَّة زعم فيها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه كتاب الفصوص، وأمره بأن يخرجَ به إلى الناس لينتفعوا به، وهو قوله (ص:38):
"أمَّا بعد، فإنِّي رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في مُبَشرة أُريتُها في العشر الآخر من محرَّم سنة سبعٍ وعشرين وستمائة(13/106)
ص -109- ... بمحروسة دمشق، وبيده كتابٌ، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحِكَم! خذْه، واخرُج به إلى الناس ينتفعون به، فقلتُ: السَّمعُ والطاعةُ لله ولرسوله وأولي الأمر منَّا، كما أُمرنا، فحققتُ الأُمنية، وأخلصتُ النيَّة، وجرَّدتُ القصدَ والهِمَّة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدَّه لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادةٍ ولا نقصان".
وإذا كان ابنُ عربي صادقاً في حصول رؤياه، فلا شكَّ أنَّه لَم ير النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، وإنَّما رأى شيطاناً، وقد قال الشيخ بدر الدِّين بنُ جماعة: "وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن في المنامِ فيما يُخالفُ أو يُضادُّ قواعدَ الإسلامِ، بل ذلك من وساوِس الشيطان ومحنتِه، وتلاعبه برأيه وفتنتِه، وأمَّا إنكارُه يعني ابن عربي ما ورد في الكتاب والسُّنَّة من الوعيد، فهو كافرٌ به عند علماء التوحيد، وكذلك قوله في نوح وهود عليهما السلام قول لغو باطل مردود". تنبيه الغبي (ص:140).
وبعد هذا أقول للبوطي والرِّفاعي: هذا التَّائه الذي(13/107)
ص -110- ... يقول (بإيمان فرعون، وأنَّ عذابَ النَّار نعيمٌ لأهلها، وأنَّ عُبَّادَ العِجل إنَّما عبدوا الله؛ لأنَّه حالٌّ في المخلوقات، وأنَّ الريحَ التي عُذِّبت بها عادٌ راحةٌ لهم وأمرٌ يستعذبونه!!!).
أقول: هذا التَّائهُ القائل بهذا الكفر، ألاَ يكون كافراً عدوًّا لله؟!
ومع هذه الأقوال القبيحة الشنيعة هو عند جماعات من الصوفيَّة ولِيٌّ من أولياء الله!!
ثمَّ ألاَ يستحقُّ ابنُ عربي الذمَّ من البوطيِّ والرفاعيِّ، أم أنَّ الأحقَّ بذمِّهما مَن زعمَا نُصحَهم، وعابَا عليهم تكفيره؟! {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟! {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}؟! ومعلومٌ أنَّ الباءَ في مثل هذا تدخل على المتروك.
وأمَّا العلماء الذين نقل عنهم البقاعيُّ تكفيرَ ابن عربي أو ذمَّه ذمًّا شنيعاً، فعددهم يُقاربُ الخمسين.
ومِمَّن نقل عنهم القولَ بكفره:(13/108)
ص -111- ... الحافظ ابن حجر العسقلاني وشيخه سراج الدِّين عمر البلقينِي (ص:159)، وزين الدِّين العراقي (ص:52)، وابنه أبو زرعة وليُّ الدِّين العراقي (ص:124)، وشمس الدِّين الذهبي (ص:161)، وعبد الرحمن بن خلدون (ص:163)، وبدر الدِّين بن جماعة (ص:140)، وشمس الدِّين محمد بن يوسف الجزري (ص:141)، وحفيدُه إمام القرَّاء محمد بن محمد الجزري صاحب الجزرية (ص:176)، وعلي بن يعقوب البكري (ص:144)، ومحمد بن عقيل البالسي (ص:146)، وابن هشام، صاحب مغني اللبيب، وأوضح المسالك في ألفية ابن مالك (ص:150)، وشمس الدِّين محمد العيزري (ص:152)، وعلاء الدِّين البخاري الحنفي (ص:164)، وعلي بن أيوب (ص:182)، وشرف الدِّين عيسى بن مسعود الزواوي المالكي (ص:143)، وشمس الدِّين الموصلي (ص:154)، وزين الدِّين عمر الكتاني (ص:142)، وبرهان الدِّين السفاقينِي (ص:159)، وسعد الدِّين الحارثي الحنبلي (ص:153)،(13/109)
ص -112- ... ورضي الدِّين بن الخياط (ص:163)، وشهاب الدِّين أحمد ابن علي الناشري (ص:163).
ومِن الذين ذمُّوه ذمًّا شنيعاً يدلُّ على تكفيره: محمد بن علي النقاش، قال في وحدة الوجود (ص:147): "وهو مذهبُ المُلحدين، كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض، مِمَّن يجعلُ الوجودَ الخالق هو الوجود المخلوق!!".
ومنهم: أبو حيَّان الأندلسي صاحبُ التفسير، فقد ذكر في تفسير سورة المائدة عند قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ بنُ مَرْيَمَ} (ص:142 143): "ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط مَن أقرَّ بالإسلامِ ظاهراً، وانتمى إلى الصوفية حلولَ الله في الصُّوَر الجميلة، ومَن ذهب من ملاحدَتِهم إلى القول بالاتِّحاد والوحدة كالحلاَّج، والشعوذي، وابن أحلى، وابن عربي المقيم بدمشق، وابن الفارض، وأتباع هؤلاء كابن سبعين" وعدَّ جماعةً ثمَّ قال : "وإنَّما سردتُ هؤلاءِ نصحاً لدين الله يعلمُ اللهُ ذلك وشفقَةً على ضعفاء المسلمين.(13/110)
ص -113- ... وليُحذَروا؛ فإنَّهم شرٌّ من الفلاسفة الذي يُكذِّبون اللهَ ورسلَه، ويقولون بِقِدم العالَم، ويُنكرون البعثَ، وقد أُولِع جهلةٌ مِمَّن ينتمي إلى التصوُّف بتعظيمِ هؤلاء، وادِّعائهم أنَّهم صفوةُ الله!!".
ومِنهم: تقيُّ الدِّين السُّبكي (ص:143)، فقد قال:
"ومَن كان من هؤلاء الصوفية المتأخِّرين كابن عربي وغيره، فهم ضُلاَّلٌ جُهَّالٌ، خارجون عن طريقة الإسلام، فضلاً عن العلماء".
وقد مرَّ نقلُ كلام بدر الدِّين بن جماعة وزين الدِّين العراقي في تكفير ابن عربي، ومِن أقوال الذين صرَّحوا بتكفيره قول إمام القرَّاء شمس الدِّين بن الجزري (ص:175 176): "ومِمَّا يجب على ملوك الإسلامِ، ومَن قَدَرَ على الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكر أن يُعدِموا الكتبَ المخالفةَ لظاهِر الشرع المُطهَّر من كتب المذكور وغيره، ولا يُلتَفَتُ إلى قول مَن قال: هذا الكلام المخالف للظاهر ينبغي أن يُؤوَّل؛ فإنَّه غلطٌ من قائلِه، إنَّما(13/111)
ص -114- ... يُؤوَّل كلام المعصوم، ولو فُتِح بابُ تأويلِ كلِّ كلام ظاهرُه الكفر، لَم يكن في الأرضِ كافر".
ومعلومٌ أنَّ تأويلَ كلام المعصومِ صلى الله عليه وسلم إنَّما يكون بردِّ المتشابه إلى المُحكَم.
وبعد نقل هذه الجُمَل من كلام ابن عربي المقتضية لكفره، وذِكر هؤلاء العلماء الذين كفَّروه، لا يبقى وجهٌ لأَن يعيبَ الكاتبُ على مَن زعم نُصحَهم تكفيرَهم لابن عربي، حيث قال: "كفَّرتُم ابنَ عربي"، والله المستعان، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
16 قال الكاتب تحت عنوان: "تزوير التراث":
"دأبتُم على أن تحذِفوا ما لا يُعجِبُكم ويُرضيكم من كتب التراث الإسلامي...".
وقال: "ومِمَّا حُذف أو غُيِّر وزُوِّر"، فذكر أشياءَ(13/112)
ص -115- ... منها: "حاول الشيخُ ابن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (سابقاً) أن يستدرك على ما لا يُعجبُه في كتاب "فتح الباري بشرح البخاري" للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، فأصدرَ مع مُعاوِنيه ثلاثة أجزاء، ثمَّ توقَّف عن التعليق، وقد فتح بابَ شرٍّ بهذه التعليقات" !!!
والجواب: أنَّ ما ذكره على زعمه يرجع إلى الحذف أو التغيير والتزوير، وما نسبه إلى الشيخ عبد العزيز ابن باز لا علاقة له بالحذف، فبقي أن يكون من قبيل التغيير والتزوير، وأيُّ تغيير وتزوير يكون بالتعليق على كتاب وتعقُّبِ بعضِ ما فيه؟! وهذه طريقةٌ مسلوكةٌ قديماً وحديثاً، مع أنَّ الشيخَ رحمه الله عند تعقُّبه في غاية الأدب، حيث يقول: "هذا القول فيه نظر، والصوابُ كذا وكذا".
أمَّا قول الكاتب عن تعليقات الشيخ رحمه الله: "وقد فتح باب شرٍّ بهذه التعليقات!!!" فهو من سوء الأدب(13/113)
ص -116- ... مع أهل العلم، وأيُّ بابِ شرٍّ فُتِح بهذا العمل؟!
فإنَّ الشيخَ عبد العزيز بن باز رحمه الله معروفٌ لدى كلِّ مُنصِفٍ بأنَّه من مفاتيح الخير ومغاليق الشرِّ، وقد قال الإمامُ الطحاويُّ رحمه الله في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: "وعلماء السَّلف من السَّابقين ومَن بعدهم من اللاَّحقين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنَّظر، لا يُذكرون إلاَّ بالجميل، ومَن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السَّبيل".
والشيخ عبد العزيز رحمه الله جمع اللهُ له بين الخبر والأثر، والفقه والنّظر، فهو محدِّثٌ فقيهٌ.
وأحسَبُ الشيخَ عبد العزيز رحمه الله ولا أُزكِّي على الله أحداً، مِن خيار الناسِ في هذا الزَّمان، وأرجو أن يكون من الذين قال الله فيهم: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنَّ الله يقول: مَن(13/114)
ص -117- ... عادى لِي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب"، وكانت وفاةُ الشيخ عبد العزيز رحمه الله في 27 من شهر المحرم من عام 1420ه، وقد ألقيتُ عقِبَ وفاتِه محاضرةً في الجامعة الإسلامية بالمدينة بعنوان: "الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، نموذجٌ من الرَّعيل الأول"، وقد تَمَّ طبعُها.
ومنها قال الكاتب: "فُسح إلى أبي بكر الجزائري بأن يعملَ تفسيراً للقرآن الكريم يكون بديلاً ومنافساً لتفسير الجلالَين، ولبَّس على الناسِ أنَّه هو؛ ليَتمَّ ترويجُه على العامة!!".
والجواب: أنَّ اسمَ تفسير الشيخ أبي بكر الجزائري: "أيسرُ التفاسير لكلام العليِّ الكبير"، ويقع في خمسة مجلدات، وهو فيه يُثبتُ الآيات، ويأتي بمعاني الكلمات، ثمَّ معاني الآيات، ثمَّ هداية الآيات، وهي عبارة عن فوائد تُستنبَطُ من الآيات، وهو بخلاف تفسير الجلالَين، الذي هو مشهور بهذا الاسم، وهو تفسيرٌ على طريقة المتكلِّمين في غاية الاختصار، يكون التفسير بين كلمات الآيات،(13/115)
ص -118- ... ومِن أمثلة ذلك تفسيرُه لآخر آيةٍ من سورة المائدة، حيث جاء فيه كما هو في الطبعة التي عليها حاشية الصاوي:
"{للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} خزائن المطر والنبات والرِّزق وغيرها، {وَمَا فِيهِنَّ} أتى بِ (ما) تغليباً لغير العاقل، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ومنه إثابةُ الصادقين وتعذيب الكاذبين، وخصَّ العقلُ ذاتَه، فليس عليها بقادر!".
والضمير في ذاتِه يرجع إلى الله، وهو من تكلُّف المتكلِّمين!!
وأهل السُّنَّةِ والجماعة لا ينقدِحُ في أذهانِهم دخولُ ذات الله تحت قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، حتَّى يُفكِّروا في إخراجِها.
وعلى هذا، فأيُّ تشابُه بين تفسير الشيخ الجزائري، وتفسير الجلالَين؟!
وأيُّ تلبيسٍ حصل سوَّغ للكاتب أن يقول: "ولبَّس على الناس أنَّه هو؛ ليَتِمَّ ترويجه على العامة"؟!!(13/116)
ص -119- ... ولا يكون الكاتبُ صادقاً إلاَّ لو كان اسم تفسير الجزائري: "تفسير الجلالين" وما أحوج الكاتب إلى التحلِّي بقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}!
وقد ذكر الكاتبُ أشياءَ ادَّعى الحذفَ فيها، لَم أتعرَّض لها لعدم تَمَكُّنِي من معرفة الصدق أو الكذب فيها، ولو صحَّ شيءٌ منها، فإنَّه يُنسبُ إلى مَن فَعَلَه من الناشرين وغيرهم، ولا تَسُوغُ نسبةُ ذلك إلى مَن زعم الكاتبُ نُصحَهم في قوله: "دأبتُم على أن تحذِفوا ما لا يُعجِبُكم ويُرضيكم من كتب التراث الإسلامي...!!".
17 ذكر الكاتب عمَّن زعم نصحهم أنَّهم أنشأوا جامعةً في المدينة المنورة سَمَّوها: "الجامعة الإسلامية"، وهَرَع الناسُ إليها؛ ظانِّين أنَّهم ستزيدُهم مَحبَّةً واتِّباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم ، فصار الأمرُ إلى خلاف ذلك بزعمه!(13/117)
ص -120- ... والجواب: أنَّ الجامعةَ الإسلامية بالمدينة أُنشئت سنة (1381ه)، وهي من أعظم حسنات حكومة المملكة العربية السعودية، وأجلّ هداياها للعالَم الإسلاميِّ؛ لأنَّ نسبةَ الطلاَّب غير السعوديين فيها تعادِل 80 % تقريباً.
ومنذ إنشائها والإقبالُ عليها عظيمٌ من داخل المملكة وخارجها، وهي مشتمِلَةٌ على كليَّات: الشريعة، والدعوة وأصول الدِّين، والقرآن الكريم، والحديث الشريف، واللغة العربية، وفيها دراسات عليا لمنحِ درَجَتَي الماجستير والدكتوراه.
وطلبتُها يَدرسون فيها الكتاب والسُّنَّة وسائرَ العلوم الشرعية، وهي تُعنَى بتوجيه طلبتِها إلى الاهتمامِ بهذه العلوم الشريفة؛ ليسيروا إلى الله على هدى وبصيرة، ويسلكوا الصراطَ المستقيم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}.
وتُعنى أيضاً بتوجيه طلبَتِها إلى مَحبَّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم(13/118)
ص -121- ... وأصحابه الكرام والتابعين لهم بإحسانٍ، وأن تكون مَحبَّتُهم للرَّسول صلى الله عليه وسلم أعظمَ من محبَّة النَّفس والوالد والولد والناس أجمعين، كما ثبت ذلك عن الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، لكن بدون غلُوٍّ وإطراء كما هو شأن أهل البِدع، وتُعلِّمُهم أيضاً العنايةَ باتِّباع السنن وترك البدع ومُحدثات الأمور.
وقد تخرَّج فيها حتى الآن ألوف كثيرة، عادوا إلى بلادِهم وغير بلادِهم، وهم في الجملة دعاةٌ إلى الخير وإلى الصراط المستقيم، وفيهم كثيرون تعاقدت معهم حكومة المملكة العربية السعودية للقيام بالدعوة إلى الله والتوجيه إلى الخير في بلاد كثيرة إسلامية وغير إسلامية.
ومعلومٌ أنَّ هذا المنهج القويم الذي تسير عليه الجامعة لا يُعجِبُ أهلَ البدع والدعاة إليها، كما هو شأن الكاتب؛ إذ صارت هذه الحسنات في نظرِه سيِّئات، نسأل الله له وللمقدِّم لأوراقِه الهدايةَ إلى اتِّباع الحقِّ وسلوك طريقه المستقيم.(13/119)
ص -122- ... 18 أنحى الكاتب باللَّوم على حُكَّام المملكة العربية السعودية وقُضاتها لقتلِهم مُهرِّبي المخدِّرات، وكذلك أنحى باللَّوم عليهم لقتلهم السَّحرة، وقال: "وتوَسَّعتُم في إصدار الأحكام باسم الشرع الحنيف في قتل المخالِفين لكم من أصحاب الرُّقية والعلاج الرُّوحي، وسَمَّيتُموهم (سحرة)! ولَم تُفرِّقوا بين المُحقِّين منهم وبين المُبطلين منهم، وتركتم لأنفسكم مطلق الفتوى والحكم بذلك، فأَسَلْتُم دماءَ الكثيرين من الأبرياء بحُجَّة أنَّهم سحرةٌ تُستباحُ دماؤهم، متناسين قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}، وقول البشير النذير صلى الله عليه وسلم : "أَوَّلُ مَا يُقْضَى به بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ"، فقِفوا عند الحدودِ، وادرؤوها بالشبهات!!".
والجواب من وجهين:
الأول: أنَّ هذا من عجيب أمر الكاتب؛ يتألَّم لعقوبة الظالمين وهم قليلون، ولا يتألَّم لتضرُّر المظلومين وهم كثيرون لا يحصون، يُشفق على الذئاب ولا يُشفق على(13/120)
ص -123- ... فرائسِها!! يَعطِفُ الرِّفاعي على الأفاعي، ولا يعطِف على هلكى سُمومها!! وإنَّ مِن حسن حظِّ المرء أن لا يكون ظهيراً للمجرمين!
الثاني: وأمَّا زعمه أنَّ الحُكَّامَ والقُضاةَ توسَّعوا في قتل أصحابِ الرُّقية والعلاج الروحي، وأنَّهم سَمَّوهم سحرة، وأنَّهم لَم يُفرِّقوا بين المُحقِّين منهم والمُبطلين، وأنَّهم تركوا لأنفسِهم مطلق الفتوى والحكم بذلك، فأسالوا دِماءَ الكثيرين من الأبرياء، وأنَّهم لَم يدرأوا الحدودَ بالشُّبهات، فجوابه أن نقول:
مِن أين للكاتبِ أنَّ الحُكَّامَ والقُضاةَ لَم يُفرِّقوا بين المُحِقِّ والمُبطِل، وأنَّ مَن قتلوهم أبرياء، وأنَّ هناك شبهات لَم تُدرأ بها الحدود، حتى قال ما قال؟!
لكنَّه الرَّجم بالغيب واتِّباع الهوى!
ثمَّ لماذا الاعتراض على الحُكَّام في حُكمهم، والقضاة في قضائِهم، والمُفتين في إفتائهم؟!
وما هي منزلة هذا المعترِض في العلمِ والدِّين؟(13/121)
ص -124- ... رحم الله امرأً عَرفَ قَدر نفسِه، وترك ما لا يَعنيه إلى ما يَعنيه!
والقضاةُ لَم يَنسَوا الآيةَ والحديث، ولَم يتناسوهما، ولكنَّهم اجتهدوا للوصول إلى الحقِّ، وهم مأجورون على كلِّ حال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد"، رواه البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
19 قال الكاتب: "تتّهتَمُّون المخالفِين لكم من المسلمين بأنَّهم جهمية أو معتزلة مارقين (كذا)، وأنتم الجهميَّة؛ لأنَّكم وافقتموهم في بعض آرائِهم!
وحقًّا أنتم المعتزلة؛ لأنَّكم شاركتموهم في إنكار الولايةِ والأولياء، والكرامة والكرامات، وحياة الموتى، وتحكيم العقل في المغيَّبات من أمور الدِّين!!".(13/122)
ص -125- ... والجواب: أن يُقال:
أوَّلاً: إنَّ مَن زعم الكاتب نُصحَهم لا يتَّهمون أحداً بِما ليس فيه، بل مَن كان على عقيدة الجهميَّة التي تَظهر في أقواله ومؤلَّفاته وَصَفوه بِما ظهر منه، والمشهور عن الجهميَّة نفي الأسماء والصفات، فهم أهلُ تعطيل، وأهل السنة أهلُ إثبات، لكن بدون تشبيه؛ عملاً بقوله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، فأثبت لنفسه السمعَ والبصر، ونفى مشابهَتَه لغيره ومشابهةَ غيره له، فلا يوافِق أهلُ السُّنَّة الجهميَّةَ في شيءٍ من آرائِهم ومعتقداتهم، فهم أبعَدُ الناسِ عنهم، وأسعدُهم في مجانبَتِهم.
ثانياً: إنَّ الذين زعم الكاتب نُصحَهم لا يُنكرون الولايةَ والأولياء، والكرامةَ والكرامات، كما زعم الكاتبُ قائلاً: إنَّهم شاركوا المعتزلة في ذلك!
وهم يُقرُّون بالولاية والأولياء، والأولياء عندهم هم الذين قال الله فيهم: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ(13/123)
ص -126- ... وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
ويُصدِّقون بِما حصلَ ويَحصل لهؤلاء الأولياء من الكرامات، إذا حصل ذلك على وجهٍ ثابتٍ، كقصَّة أُسَيد ابن حُضَير وعبَّاد بن بشر رضي الله عنهما، وخروجهما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمةٍ وبين أيديهما نورٌ، فلَمَّا تفرَّقا تفرَّق النُّورُ معهما، وهي في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه.
وقصَّةِ تكثير الطعام لأضيافِ أبي بَكر رضي الله عنه، وهي في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، ومِمَّا قالَه الإمامُ الطحاويُّ في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في الأولياء: "والمؤمنون كلُّهم أولياءُ الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعُهم وأتبعُهم للقرآن"، وقال: "ونؤمنُ بِما جاء من كراماتِهم، وصحَّ عن الثقات من رواياتِهم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السُّنَّة: التصديقُ بكرامات(13/124)
ص -127- ... الأولياء، وما يُجرِي اللهُ على أيديهم من خوارقِ العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات.
والمأثور من سالف الأُمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وسائر قرون الأُمَّة، وهي موجودةٌ فيها إلى يوم القيامة".
وأمَّا إذا كان الأمرُ الخارقُ للعادة جاء في حكايات هي أشبه بالخرافات، لا سيما إذا كانت واضحةً في مُخالفةِ الشرعِ، كالاستغاثةِ بغير الله من الأمواتِ والأحياء الغائبين، ويُزعم أنَّها كرامةٌ لِمن ادُّعيت له الولاية، والله أعلم بحقيقة الحال، فإنَّه لا يُلتفتُ إليه، ولا يُغتَرُّ به.
وأكتفي بالتمثيل لذلك بِما ذُكر أنَّه من كرامات العيدروس الذي قال عنه الكاتبُ: إنَّه بركةُ عدَن وحضرموت، وأشاد بِمشهدِه، ونوَّه ببناءِ قُبَّتِه، ووصفها بأنَّها مباركة!!
فقد قال عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروسي في كتابه النور السافر عن أخبار القرن العاشر في ترجمة(13/125)
ص -128- ... أبي بكر بن عبد الله العيدروس المتوفَّى سنة (914ه) في (ص:79 80): "وأمَّا كراماته فكثيرة كقطر السحاب، لا تدرك بِعدٍّ ولا حساب، ولكن أذكر منها على سبيل الإجمال دون التفصيل، ثلاث حكايات تكون كالعنوان على باقيها بالدلالة والتمثيل، منها:
أنَّه لَمَّا رجع من الحجِّ دخل زيلع، وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق، فاتفق أنَّه ماتت أمُّ ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفاً بها، فكاد عقلُه يذهب بموتِها، فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدَّة الجزع؛ ليُعزِّيه ويأمره بالصبر والرضاء بالقضاء، وهي مُسجاة بين يدي الحاكم بثوبٍ، فعزَّاه وصبَّره، فلَم يُفِد فيه ذلك، وأكبَّ على قدم سيِّدي الشيخ يُقبِّلُها، وقال: يا سيدي! إن لَم يُحي الله هذه متُّ أنا أيضاً، ولَم تبق لي عقيدة في أحد، فكشف سيِّدي وجهَها، وناداها باسمِها، فأجابته: لبَّيك! وردَّ اللهُ روحَها، وخرج الحاضرون، ولَم يَخرج سيدي الشيخ حتى أكلتْ مع سيِّدها الهريسةَ، وعاشت مدَّة طويلة!!!(13/126)
ص -129- ... وعن الأمير مرجان أنَّه قال: كنتُ في نفرٍ من أصحاب لي في محطَّة صنعاء الأولى، فحمل علينا العدوُّ، فتفرَّق عنِّي أصحابي، وسقط بي فرسي لكثرة ما أُثخن من الجراحات، فدار بِي العدوُّ حينئذٍ من كلِّ جانب، فهتفتُ بالصالِحين، ثمَّ ذكرتُ الشيخ أبا بكر رضي الله عنه، وهتفتُ به، فإذا هو قائمٌ، فوالله العظيم! لقد رأيتُه نهاراً وعاينتُه جهاراً، أخذ بناصيتِي وناصية فرسي، وشلَّنِي من بينهم حتى أوصَلَنِي المحطة، فحينئذ مات الفرس، ونجوتُ أنا ببَرَكتِه رضي الله عنه ونفع به!!!
وعن المُريد الصادق نعمان بن محمد المهدي أنَّه قال: بينما نحن سائرون في سفينةٍ إلى الهند، إذ وقع فيها خرقٌ عظيمٌ، فأيقَنوا بالهلاك، وضجَّ كلٌّ بالدعاء والتضرُّع إلى الله تعالى، وهتف كلٌّ بشيخِه، وهتفتُ أنا بشيخي أبي بكر العيدروس رضي الله عنه، فأخذتنِي سِنَة، فرأيتُه داخل السفينة، وبيده منديلٌ أبيض، وهو قاصدٌ نحو الخَرْق، فانتبهتُ فرحاً مسروراً، وناديتُ بأعلى صوتِي: أنْ أَبشِروا يا(13/127)
ص -130- ... أهل السفينة! فقد جاء الفرَج، فقالوا: ماذا رأيتَ؟ فأخبرتُهم، فتفقَّدوا الخَرْقَ، فوجدوه مسدوداً بمنديل أبيض كما رأيتُ، فنجونا ببركته رضي الله عنه ونفع به!!!" اه.
ومُجرَّد ذكر هذه الحكايات يُغنِي عن التعليق عليها!!
ومؤلِّف هذا الكتاب، القائلُ فيه هذا الكلام من أهل القرن الحادي عشر، ولكلِّ قومٍ وارث!
فأهل السُّنَّة والحديث يَرثون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه الكرام، والخرافيُّون يَرِثون أهلَ الخُرافة!
وقول هذا القائل عن كرامات العيدروس أنَّها (كقطر السحاب، لا تُدرك بِعدٍّ ولا حساب!!) قد لا يسمع مسلمٌ مثلَ هذه العبارة في كرامات أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو سيِّدُ الأولياء، وخيرُ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خيرُ الأُمم.
وأمَّا الحكايات الثلاث المزعوم أنَّها كرامات العيدروس فهي مِن المُضحكات المُبكيات!(13/128)
ص -131- ... مُضحكاتٌ لشدَّة غرابتِها! ومُبكياتٌ؛ لأنَّها تدلُّ بوضوح على مدى تلاعب الشيطان بالمفتونين بأصحاب القبور!!
وقد قال ابن كثير رحمه الله: "وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاةُ في البَشر حرام".
والحكايةُ الأولى من الحكايات الثلاث فيها أنَّ الرَّجلَ الذي ماتت أمُّ ولده أكبَّ على رِجل العيدروس يُقبِّلُها، قائلاً: "يا سيدي! إن لَم يُحيِ الله هذه متُّ أنا أيضاً، ولَم تبق لي عقيدة في أحد!!
فكشف سيِّدي وجهَها، وناداها باسمِها، فأجابته: لبَّيك! وردَّ اللهُ روحَها... وعاشت مدَّة طويلة!!!".
والله عزَّ وجلَّ يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، ومَن مات قامت قيامتُه،والإنسانُ في الدنيا له حياةٌ واحدة، لا حياتان أو أكثر، قال الله عزَّ وجلَّ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ(13/129)
ص -132- ... يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وأمَّا الحكايتان الأخريان، فإنَّ فيهما دعاءَ غير الله، والاستغاثة به عند الشدائد، والله يقول: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}!!
وأمَّا حياةُ الموتى، فإنَّ مَن زعم الكاتب نُصحَهم يؤمنون بأنَّ للموتى في قبورهم حياةً برزخيَّةً، الله أعلم بكيفيتها، وليست شبيهةً بالحياة الدنيا، ولا بالحياة بعد البعث، وفيهم المُنعَّمون في قبورهم والمعذَّبون فيها، والنعيمُ والعذابُ للروح وللجسد؛ لأنَّ الإحسانَ حصل منهما جميعاً، والإساءةَ حصلت منهما جميعاً.
وهم أيضاً لا يُحكِّمون العقل في الأمور الغيبيَّة، بل التعويلُ عندهم على النصوص الشرعية، وعندهم أنَّ العقلَ السليم لا يُخالف النقلَ الصحيح، ولشيخ الإسلام في ذلك كتابٌ واسع، هو درء تعارض العقل والنقل.(13/130)
ص -133- ... 20 للكاتب شغفٌ عظيمٌ بالآثار المكانية التي تُنسبُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، كمكان مولِده صلى الله عليه وسلم ، والبئر التي سقط فيها خاتَمُه صلى الله عليه وسلم ، ومكان مَبرك ناقته صلى الله عليه وسلم في قباء عند قدومِه في هجرتِه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وغير ذلك.
ويَعتِب بشدَّة على مَن زعم نُصحَهم؛ لعدمِ الاهتمامِ بذلك والمحافظةِ عليه، ويستدلُّ للمحافظة على مثل هذه الآثار بقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى}، وبِما جاء في قصَّة طالوت: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ}.
قال: "وقال المفسِّرون: إنَّ البقيَّةَ المذكورة هي عَصاة موسى ونعليه (كذا) و... إلخ".
وبالإشارةِ إلى الأحاديث الصحيحة الواردة فيما يتعلَّق بآثار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم واهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بها المذكورة في ثنايا أبواب صحيح البخاري.(13/131)
ص -134- ... والجواب عن الدليل الأول: أنَّ اتِّخاذ مقام إبراهيم مُصلَّى دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، ولا دلالة فيه للكاتب على المحافظة على الآثار التي ذكرها؛ لأنَّ الآيةَ في اتِّخاذ المقام مصلَّى، ولا يصحُّ القياس عليه.
وأيضاً فإنَّ اتِّخاذ المقام مصلَّى مِمَّا أشار به على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه، فنزلت الآيةُ في ذلك.
وعمرُ رضي الله عنه هو الذي جاء عنه المنعُ من التعلُّق بمثلِ هذه الآثار؛ لأنَّه هو الذي أَمر بقطع الشجرة التي حصلت تحتها بيعةُ الرِّضوان، ولأنَّه جاء في الأثر عن المعرور بن سُويد قال: "كنتُ مع عمر بين مكة والمدينة، فصلَّى بنا الفجر، فقرأ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ}، و{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}، ثمَّ رأى قوماً ينزلون فيُصلُّون في مسجد، فسأل عنهم، فقالوا: مسجدٌ صلَّى فيه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: إنَّما هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتَّخذوا آثارَ أنبيائِهم بِيَعاً، مَن مرَّ بشيءٍ من المساجد فحضرَت الصلاة فليُصلِّ،(13/132)
ص -135- ... وإلاَّ فلْيَمضِ"، رواه عبد الرزاق (2/118 119)، وأبو بكر بن أبي شيبة (2/376 377) بإسنادٍ صحيح.
والجوابُ عن الدليل الثاني: أنَّ البقيَّةَ المذكورة في الآية لو صحَّ تفسيرُها بِما ذُكر، فإنَّه لا دلالة فيها على التعلُّق بالآثار؛ لأنَّ النَّهيَ عن التعلُّق بالآثار ثبت عن عمر، كما مرَّ آنفاً، وفيه: "إنَّما هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتَّخذوا آثار أنبيائِهم بِيَعاً"، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ".
والجواب عن الدليل الثالث: أنَّ الأحاديث الواردة في صحيح البخاري وغيره تدلُّ على تبرُّك الصحابة بعَرَق النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وفَضل وَضوئه وشعرِه، وغير ذلك مِمَّا مَسَّ جسدَه صلى الله عليه وسلم ، وكلُّ ذلك ثابتٌ، وقد حصل للصحابة رضي الله عنه وأرضاهم.
وأمَّا الآثار المكانيَّة، فقد مرَّ في أثر عمر رضي الله عنه ما يدلُّ على منع التعلُّق بها.(13/133)
ص -136- ... ونَهيُ عمر رضي الله عنه عن التعلُّق بآثار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المكانيَّة التي لَم يأتِ بها سُنَّةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنَّما كان لِما يُفضي إليه ذلك من الغلُوِّ والوقوع في المحذور.
ومِمَّا يُوضِّح ذلك أنَّ الكاتبَ وقد افتُتِن بالآثار أدَّاه افتتانُه بها إلى الإشادةِ بالبناء على القبور، وقد جاء تحريمه في السُّنَّة، وقد مرَّ ذكرُ إشادتِه بمشهد العيدروس بعَدَن، ووصفِه قبَّته بأنَّها مباركة.
بل أدَّاه افتتانُه بالآثار أن عاب على مَن زعم نُصحَهم عدم محافظتهم على أثر مَبرَك ناقة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: "كان هناك أثر (مبرك الناقة) ناقة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في مسجد (قباء) يوم قدومه مُهاجراً إلى المدينة في مكان نزل فيه قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ}، فأزَلتُم هذا الأثر، وكنَّا نُشاهدُه حتى وقتٍ قريب!!".
ويُقال للكاتب: مِن أين لكَ وجود مكان هذا المَبرك، وبقاؤه إلى هذا الزمان؟(13/134)
ص -137- ... إنَّ ذلك لا يتأتَّى إلاَّ لو ثبت أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أحاطه بجدار، وتوارثه الخلفاءُ الرَّاشدون ومَن بعدهم إلى هذا الوقت، وأنَّى ذلك؟!!
ومعلومٌ أنَّ خلافةَ عمر رضي الله عنه تزيدُ على عشر سنين، ومقرُّها المدينة، وهو الذي أمر بقطع الشجرة التي في الحديبية قُرب مكة، وهو الذي نهى عن تتبُّع آثار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المكانيَّة التي لَم تأت بها سُنَّة، كما مرَّ في الأثر قريباً، فهل من المعقول أن يَمنَعَ عمرُ رضي الله عنه من آثار بعيدة عن المدينة ويُبْقِى على أثر مَبرك الناقة الذي زعمه الكاتب، وهو عنده في المدينة؟!!
ولَم يقف الكاتبُ عند حدِّ الرَّغبة في المحافظة على الآثار المكانيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم التي لَم يأت فيها سُنَّة، بل تعدَّاه إلى الرغبة في بقاءِ أثرٍ وُجد في عصرٍ متأخِّرٍ، فقال وهو يعِيبُ مَن زعم نُصحَهم: "وهدَمتُم بجوار بيتِ أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه مكتبةَ شيخ الإسلام (عارف حكمت) المليئة بالكتب والمخطوطاتِ النَّفيسة، وكان(13/135)
ص -138- ... طرازُ بنائها العثماني رائعاً ومُمَيَّزاً!! هدمتُم كلَّ ذلك في حين أنَّه بعيدٌ عن توسعةِ الحرَم، ولا علاقةَ له بها!!".
وهذه نتيجة الشَّغَف بالآثار!
وموقعُ المكتبة المُشار إليها بينه وبين الجدار الأمامي لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بضعةُ أمتار، وهو الآن ضمن ساحات المسجد.
والكتب التي فيها، الاستفادةُ منها قائمةٌ؛ لأنَّ المكتبات الموجودة بالمدينة ومنها هذه المكتبة جُمعت في مكتبة واحدة قرب المسجد النبوي، وهي مكتبة الملك عبد العزيز.
هذا ولَم يقِف الكاتبُ عند حدِّ العتب واللَّوم لِمَن زعم نصحَهم؛ لعدم المحافظة على الآثار المكانية للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم التي لَم تأتِ به سُنَّة، بل تعدَّاه إلى وصفِهم بأنَّهم يكرهون النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم !
ولا أدري هل شَعر الكاتبُ أو لَم يشعُر أنَّ مَن يكره الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم لا يكون مسلماً، بل يكون كافراً؟!(13/136)
ص -139- ... وسبق للكاتب أنَّ مَن زعم نُصحَهم يتَّهمون المسلمين بالشرك، وأنَّهم يُكفِّرون الصوفيَّة قاطبة، وأنَّهم يُكفِّرون الأشاعرة، وذلك كذبٌ عليهم، وهم برآء منه، وهنا يصف مَن زعم نصحَهم زوراً وبُهتاناً بأنَّهم يكرهون النَّبِيَّ، ولا شكَّ أنَّ ذلك كفرٌ، نعوذ بالله من الكفر والشرك والنفاق.
ثمَّ مِمَّا ينبغي أن يُعلَم أنَّ الصحابةَ الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم ومن تبعهم بإحسانٍ لَم يكونوا يذهبون إلى الآثار المكانية التي لَم يأت بها سُنَّة، كمكان مولده صلى الله عليه وسلم ، ومكان مَبْرَك الناقة المزعوم، ولو كان خيراً لسبقوا إليه.
فلَم يكونوا يحافظون على مثل هذه الآثار، وإنَّما كانوا يحافظون على آثارٍ أُخرى، وهي الآثارُ الشرعيَّةُ التي هي حديثُه صلى الله عليه وسلم المشتمل على أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم ، ويحافظون على فعل السُّنن وترك البدع ومحدثاتِ الأمور، ولقد أحسن مَن قال:(13/137)
ص -140- ... دينُ النَّبِيِّ مُحمَّد أخبار ... نعم المطيَّةُ للفتى آثارُ
لا ترغَبنَّ عن الحديث وأهلِه ... فالرأيُ ليْلٌ والحديثُ نهارُ
ولَرُبَّما جهل الفتى أثرَ الهُدى ... والشَّمسُ بازغَةٌ لَها أنوارُ
وقال آخر:
الفقهُ في الدين بالآثار مقترنٌ ... فاشغَل زمانَك في فقهٍ وفي أثَرِ
فالشُّغلُ بالفقه والآثار مرتفعٌ ... بقاصد الله فوق الشمس والقمرِ
21 ومقدِّمة الدكتور البوطي لأوراق الأستاذ الرفاعي تشتمل على الثناء على الرِّفاعي، وموافقته على كلِّ ما في نصيحتِه المزعومة المسمومة، وعلى وَصْفها بأنَّها"تذكرة هادئة، ولطيفة في أسلوبها!!".
وتشتملُ على الغلوِّ في الآثار المكانيَّة التي لَم يأت بها(13/138)
ص -141- ... سنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل وزعم أنَّ القرون الثلاثة وما بعدها إلى هذا الوقت مُجمعةٌ على التبرُّك بهذه الآثار، وأنَّه لَم يُخالِف في ذلك إلاَّ علماء نجد المزعوم نُصحهم، وأنَّ ذلك بدعة.
ومن قوله في ذلك: "ولا نشكُّ في أنَّهم يعلمون كما نعلم أنَّ عصورَ السلف الثلاثة مرَّت شاهدة بإجماع على تبرُّك أولئك السلف بالبقايا التي تذكِّرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، من دار ولادتِه، وبيت خديجة رضي الله عنها، ودار أبي أيوب الأنصاري التي استقبلته فنزل فيها في أيامه الأولى من هجرتِه إلى المدينة المنورة، وغيرها من الآثار كبئر أَريس، وبئر ذي طوى، ودار الأرقم... ثم إنَّ الأجيالَ التي جاءت فمرَّت على أعقاب ذلك كانت خيرَ حارسٍ لَها، وشاهد أمين على ذلك الإجماع".
وتشتملُ أيضاً على اتِّهام المزعوم نُصحهم ب "تكفير سواد هذه الأمة بحجَّة كونهم أشاعرة أو ماترديين!".
وتشتملُ أيضاً على الإنكار على علماء نجد في تحذيرِهم(13/139)
ص -142- ... من الغلُوِّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويُفرِّق بين الغُلُوِّ والإطراء، فيَمنعُ الإطراءَ ويُجيزُ الغلُوَّ، قال: "ولو قلتُم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لاتطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم" لكان كلاماً مقبولاً، ولكان ذلك نصيحةً غاليةً.
أمَّا الحبُّ الذي هو تعلُّق القلب بالمحبوب على وجه الاستئناس بقُربِه والاستيحاش من بُعده، فلا يكون الغلوُّ فيه عندما يكون المحبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ عنواناً على مزيدِ قُربٍ من الله!! وقد علمنا أنَّ الحبَّ في الله من مُستلزمات توحيد الله تعالى، ومهما غلا مُحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُبِّه له أو بالَغ، فلن يصِل إلى أَبعد من القَدْر الذي أَمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم !!! إذ قال فيما اتَّفق عليه الشيخان: "لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من مالِه وولدِه والناس أجمعين"، وفي رواية للبخاري: "ومن نفسه".
والجواب: على ذلك أن نقول:
أولاً: أمَّا ثناء البوطي على الرفاعي فيصدق على المثنِي والمثنَى عليه قول الشاعر:(13/140)
ص -143- ... ذهب الرِّجال المُقتدَى بفعالِهم ... والمنكرون لكلِّ فعل منكر
وبقيتُ في خَلْف يُزكِّي بعضُهم ... بعضاً ليدفع معور عن معورِ
ثانياً: إنَّ وصفَ البوطي لنصيحة الرِّفاعيِّ المزعومة ب (أنَّها تذكرة هادئة، وأنَّها لطيفة في أسلوبها!!) بعيدٌ عن الحقيقة والواقع؛ يتَّضحُ ذلك بالوقوف على بعض الجُمل التي أوردتُها من كلام الرِّفاعيِّ، ففيها الكذب والجفاء.
ثالثاً: وأمَّا موافقتُه للرِّفاعي فيما جاء في أوراقه، فإنَّ كلَّ ما تقدَّم في الردِّ على الرِّفاعي هو ردٌّ على البوطي.
رابعاً: وأمَّا إجماع العصور الثلاثة وما بعدها الذي زعمه البوطي على التبرُّك بآثار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المكانيَّة، كمكان مولدِه وبئر أريس التي سقط فيها خاتَمُه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فلا يتأتَّى له إثبات هذا الإجماع، بل ولا إثبات القول به عن واحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم!(13/141)
ص -144- ... وأيُّ إجماعٍ يُزعمُ من الصحابة ومَن بعدهم على ذلك، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه الأمر بقطع شجرة بيعة الرضوان في الحديبية قرب مكة، وجاء عنه أيضاً التحذيرُ من التعلُّق بمثل هذه الآثار، وقال: "إنَّما هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتَّخذوا آثار أنبيائهم بِيَعاً"؟! كما مَرَّ ثبوت ذلك عنه في مصنَّفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة.
خامساً: وأمَّا زعمه بأنَّه لَم يُخالف هذا الإجماعَ المزعوم إلاَّ علماءُ نجد، فغيرُ صحيح؛ لأنَّ كلَّ متَّبع للكتاب والسُّنَّة وما كان عليه سلف الأُمَّة يقول بهذا الذي ثبت عن عمر رضي الله عنه، وهم في هذا العصر كثيرون، منتشرون في الأقطار المختلفة، ومنها الكويت والشام التي منها الرفاعي والبوطي!
سادساً: وأمَّا زعمه أنَّ المزعومَ نُصحهم يُكفِّرون سوادَ الأُمَّة بحُجَّة كونهم أشاعرةً أو ماترديِّين، فهو كذبٌ منه وافتراءٌ، كما أنَّه كذبٌ وافتراءٌ من الرفاعي، وقد مرَّ الردُّ عليه.(13/142)
ص -145- ... وأزيد هنا فأقول: إنَّ الفِرَقَ الواردةَ في قوله صلى الله عليه وسلم : "ستفترِقُ هذه الأُمَّة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلاَّ واحدة..." الحديث، هم من المسلمين؛ لأنَّ أُمَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتان: أمَّة الدعوة، يدخل فيها اليهود والنصارى، وكلُّ إنسيٍّ وجِنِّي من حين بِعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة.
وأمَّةُ الإجابة: وهم الذين دخلوا في هذا الدِّين، وفيهم الفِرق المذكورة في الحديث، وكلُّ هذه الفِرَق مسلمون مُستحقُّون للعذاب بالنَّار، سوى فرقةٍ واحدة، وهي مَن كان على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم.
سابعاً: وأمَّا تفريقُه بين الإطراءِ والغُلُوِّ، ومَنعُه الأولَ وتجويزُه الثاني، فهو من التفريقِ بين متماثِلَين، وكما أنَّ النَّهيَ جاء عنه صلى الله عليه وسلم عن الإطراء، فإنَّ الغُلُوَّ جاء فيه النَّهيُ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}، وقد لَقَطَ ابنُ عبَّاسٍ(13/143)
ص -146- ... لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصَى الجِمار، وهنَّ مثل حصى الخذف، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يَرموا بمِثلِها، قال: "وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّين، فإنَّما أهلَكَ مَن كان قبلكم الغلُوُّ في الدِّين"، وهو حديث صحيح، أخرجه النسائيُّ وغيرُه.
ومعلومٌ أنَّ مَحبَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يجبُ أن تكون في قلب كلِّ مسلم أعظمَ من مَحبَّته لنفسِه وأهله والناس أجمعين، لكن لا يجوز فيها الغُلُوُّ الذي قد يُؤدِّي إلى أن يُصرَف إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ من حقِّ الله، كالذي حصل للبوصيريِّ في أبياتِه التي أشرتُ إليها فيما تقدَّم في الردِّ على الرفاعي.
وليت شعري! ما الذي سوَّغ للبوطيِّ تجويز الغلوِّ في محبَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي من أعظم أُسُس الدِّين، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدِّم آنفاً: "وإيَّاكم والغلو في الدِّين، فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين"؟!(13/144)
ص -147- ... وفي الختام، أقول في النهاية كما قلتُ في البداية: إنَّ الردَّ على الرفاعي إنَّما هو ردٌّ على بعض ما اشتملت عليه أوراقُه، وأنَّ ما ذُكر دليلٌ على ما لم يُذكر.
وأُضيف هنا أنَّنِي لَم أرَ في نصيحة الرفاعي المزعومة ولا في تقديم البوطي لها مسألةً واحدةً حالفهما فيها الصواب، بل إنَّ هذه النصيحة المزعومة المُؤيَّدة من البوطي هي في الحقيقة فضيحة لهما؛ لاشتمالِها على الكذب الواضح على أهل السنَّة والدعوة إلى البدع والضلال.
وأسأل الله لهما الهدايةَ للحقِّ والعملِ به، والسلامةَ مِمَّا يُخالفه، وأسأله تعالى أن يُوفِّقنا جميعاً لِما فيه رضاه والفقه في دينه، والسير على ما كان عليه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.(13/145)
عنوان الكتاب:
الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله نموذج من الرعيل الأول
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1421هـ/2000م(14/1)
ص -1- ... الشيخ عبد العزيز بن باز نموذج من الرعيل الأول
محاضرة ألقاها: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
في الجامعة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلاّ اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه، وخليلُه وخيرتُه من خَلْقِه، أرسلهُ اللهُ تعالى بين يدي السّاعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فدلَّ أمّتَهُ على كلِّ خير، وحذّرها من كلِّ شرّ، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلكَ سبيلَهُ واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.(14/2)
ص -2- ... أمّا بعدُ:
أيُّها الإخوةُ، إنّ حديثي معكم هذه اللّيلة1 في شخصٍ عرفهُ الخاصُّ والعامُّ، عرفتْهُ الدُّنيا مسلمُها وكافرُها، رجلٌ فيما أحسبُ أكبرُ شخصيّةٍ علميّةٍ في هذا العصر، يذكّرنا بما كان عليه سلفُ هذه الأمّة من العلماء العاملين والهداة المصلحين من غزارة علم، وكرم أخلاق، وسعة اطّلاع، وعموم نفع ونصح للإسلام والمسلمين، وهو بحقّ نموذج من الرّعيل الأوّل.
وهو سماحةُ الإمام العَلاّمة، المحدِّث الفقيه، شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، مجدِّد القرن الخامس عشر، الشّيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه اللهُ وغفرَ له، ولن آتي بشيءٍ جديدٍ لا يعرفُه النّاسُ، فموضوعُ الحديث معروفٌ لدى الخاصِّ والعامِّ، ولكن أحببتُ أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي محاضرة ألقيت ليلة الجمعة السّادس من شهر صفر عام 1420ه في مسجد الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة، وقد فُرّغت من شريط التّسجيل وأُدخل عليها بعضُ التّعديلات.(14/3)
ص -3- ... أُدْلِيَ بدَلْوي مع الدِّلاء، وأن أذكُرَ شيئاً ممّا يتعلّقُ بهذا الرّجُل العظيم، ولكي تكون المعلوماتُ عن هذا الرّجُل العظيم محصورةً فأنا أوجزُها في عشر نقاطٍ وهي:
أوّلاً: نسبُه، وولادتُه، ونشأتُه.
ثانياً: شيوخُه وتلاميذُه.
ثالثاً: أعمالُه التي تولاّها.
رابعاً: علمُه.
خامساً: عمومُ نفعِه.
سادساً: عبادتُه.
سابعاً: مؤلّفاتُه.
ثامناً: صلتي الخاصّةُ به.
تاسعاً: وفاتُه، وعَقِبُهُ، ومَنْ خَلَفَهُ.
عاشراً: أمنيّاتٌ ومقترحاتٌ.
هذه هي النِّقاطُ التي سيدورُ حولها الكلامُ عن هذا الرّجل الإمام العظيم رحمه الله.(14/4)
ص -4- ... أوّلاً: أقولُ كما أسلفتُ :
هو الإمامُ العلاّمةُ، المحدِّثُ الفقيهُ، شيخُ الإسلام، مفتي الأنام، مجدِّدُ القرن الخامس عشر، الشّيخُ عبدُ العزيز بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله آل باز.
وُلد في مدينة الرّياض في اليوم الثّاني عشر من الشّهر الثّاني عشر من عام ثلاثين بعد الثّلاثمائة والألف.
ونشأَ في أسرةٍ كريمةٍ فيها أهلُ علمٍ وفضلٍ، وكان رحمه الله منذ نشأته ذا همّةٍ عاليةٍ، وحرصٍ على تحصيل العلم، وجِدٍّ فيه، وقد حفظ القرآنَ قبل البلوغ، وكان رحمه اللهُ بصيراً، وحصلَ له مرضٌ في السَّنَة السّادسة عشرة من عُمُرِه، ضعفَ فيها بصرُه، وأخذَ في الضَّعْفِ حتّى انتهى تماماً في سنِّ العشرين، ولكنّ الله عزّ وجلّ عوّضهُ بصيرةً في قلبِه، ونُوراً وإيماناً، فنشأ على علمٍ وفضلٍ، وجِدٍّ واجتهادٍ في تحصيل العلم، حتّى نبغَ في سنٍّ مبكِّرةٍ رحمه الله.(14/5)
ص -5- ... ثانياً: أمّا شيوخُه الذين أخذَ عنهم العلمَ فمنهم
الشّيخُ محمّد بن عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن بن حسن بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمةُ الله على الجميع.
والشّيخُ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرّحمن ابن حسن قاضي الرّياض.
والشّيخُ سعد بن حَمَد بن عَتيق قاضي الرّياض.
والشّيخُ حَمَد بن فارس وكيل بيت المال.
والشّيخُ سعد وَقّاص البخاريُّ أخذ عنه علمَ التّجويد في مكّة المكرّمة في سنة خمسٍ وخمسين وثلاثمائة وألف.
أمّا شيخُه الذي تتلمذَ عليه كثيراً، والذي لازمه سنينَ طويلةً، واستفادَ من علمِه، فهو سماحةُ الشّيخ محمّد بن إبراهيم بن عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن ابن حسن بن الشّيخ الإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمةُ الله على الجميع، فقد دَرَسَ عليه العلومَ الكثيرةَ المتنوّعة، واستفادَ من علمه كثيراً، وكان رحمه اللهُ يُجِلُّ شيخَهُ، ويثني عليه، ويدعُو له كثيراً، رحمةُ الله(14/6)
ص -6- ... على الجميع، فهؤلاء هم أبرزُ شيوخه.
أمّا تلاميذُه:
فهم كثيرون يصعبُ عدُّهم، وأستطيعُ أن أقولَ: إنّ الغالبيّةَ العظمى من القُضاة وأساتذة الجامعات في الكليّات الشّرعيّة، وكذلك في كثيرٍ من المعاهد والمدارس هم تلاميذُه أو تلاميذُ تلاميذِه، أو تلاميذُ تلاميذِ تلاميذِه، بل إنّ الأفواجَ الخمسةَ الأُولى الذين تخرّجُوا من كليّة الشّريعة في الرّياض، وهم الفوجُ الأوّلُ الذي تخرّج في عام ستّةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، وكذلك الأفواجُ التي تلتهُم، وآخرُها الفوجُ الذي تخرّج سنة ثمانين وثلاثمائة وألف، وهي السَّنَةُ التي تسبقُ انتقالَهُ إلى الجامعة الإسلاميّة حيث كان يدرِّسُ في كليّة(14/7)
ص -7- ... الشّريعة، فهذه الأفواجُ الخمسةُ هم تلاميذُه مباشرةً، أخذُوا عنه مباشرةً، وأوّلُ فوجٍ تخرّجَ وأخذَ عنه العلمَ هو الذي تخرّج في عام ستّةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، ومن حين تخرّجُوا وهم إمّا في تدريسٍ وإمّا في قضاءٍ، ومن أخذَ عن هؤلاء المدرّسين هم تلاميذُ تلاميذِه، وكذلك الشّأنُ في الأفواج الأربعة الأخرى. وهكذا فيكون الكثيرُ من القُضاة والمدرِّسين في الجامعات وفي غيرها في العلوم الشّرعيّة هم كما قلتُ إمّا من تلاميذِه، أو تلاميذِ تلاميذِه، أو تلاميذِ تلاميذِ تلاميذِه.
وقد كان من فضل الله عزّ وجلّ عَلَيَّ أن كنتُ من تلاميذه الذين هم في الفوج الرّابع من الأفواج الخمسة الذين أخذُوا عن الشّيخ رحمه الله وغفرَ له.
وبعد انتقاله من المدينة إلى الرّياض كان له دروسٌ في جامع الإمام تركي بن عبد الله، وفي أحد المساجد القريبة من منزله، وأخذ عنه العلم فيها كثيرون من(14/8)
ص -8- ... أساتذة الجامعات وغيرهم، فهؤلاء أيضاً من تلاميذه الذين أخذُوا عنه العلمَ.
ثالثاً: الأعمالُ التي تولاّها
أوّلُ عملٍ أُسند إليه القضاءُ في الخَرْجِ، وكان ذلك في شهر جُمادى الآخرة من عام سبعةٍ وخمسين وثلاثمائة وألفٍ، أي وهو في السّابعة والعشرين من عمره رحمه الله، واستمرّ في القضاء في الخَرْجِ إلى نهاية عام واحدٍ وسبعين وثلاثمائة وألفٍ.
ثمّ بعد ذلك انتقلَ إلى التّدريس في معهد الرّياض العلميّ، وكذلك في كليّة الشّريعة بعد إنشائها، واستمرّ في هذا العمل إلى نهاية عام ثمانين وثلاثمائة وألفٍ حيث فُتحت الجامعةُ الإسلاميّةُ في أوّل عام واحدٍ وثمانين وثلاثمائة وألف، وكان هو المباشرُ لإنشائها وتأسيسها نائباً لرئيسها سماحة المُفتي الشّيخ محمّد بن إبراهيم رحمه الله.(14/9)
ص -9- ... واستمرّ في الجامعة من العاشر من شهر ربيع الأوّل من سنة واحدٍ وثمانين وثلاثمائة وألفٍ إلى الرّابع عشر من شهر شوّال من سنة خمسٍ وتسعين وثلاثمائة وألفٍ، أي أنّه مكثَ فيها خمسةَ عشرَ عاماً.
ثمّ انتقلَ إلى رئاسة إدارة البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد واستمرّ فيها، وفي عام أربعة عشر وأربعمائة بعد الألف عُيِّن مفتياً عامّاً للملكة، ورئيساً لهيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلميّة والإفتاء.
وبالإضافة إلى ذلك كان يقومُ برئاسة المجلس التّأسيسي لرابطة العالَم الإسلامي، ورئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد، ويقومُ أيضاً برئاسة المجمع الفقهي التّابع لرابطة العالَم الإسلامي، وأيضاً بعد انتقاله عن الجامعة صارَ عضواً في مجلسها الأعلى، وكان رئيسُها الأعلى خادمُ الحرمين الشّريفين حفظهُ اللهُ، وكان إذا غابَ عن الجَلَسات يُنيبُ سماحةَ الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.(14/10)
ص -10- ... رابعاً: علمُه
كان رحمه الله عالماً كبيراً كما يعرفُ ذلك الخاصُّ والعامُّ، وكان عالماً ربّانيّاً، وقد نقلَ الحافظُ ابن حجر في فتح الباري عن ابن الأعرابي أنّه قال: لا يُقال للعالِم ربّانيّ حتّى يكون عالِماً عاملاً مُعلِّماً.
وقد كان كذلك فهو عالِمٌ وعاملٌ ومعلِّمٌ، وداعيةٌ إلى الله عزّ وجلّ على بصيرةٍ رحمه الله.
وكان إماماً في الدِّين، وقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: بالصّبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدِّين، قال اللهُ عزّ وجلّ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}
وكان رحمه الله عالِماً بالحديث والفقه، له عنايةٌ بالدّليل، وحرصٌ على الرُّجوع إلى الأدلّة والتّمسُّك بها، والحثِّ على سلوك هذا المسلك، فكان معنيّاً بالحديث، ومعرفة صحيحه وضعيفه، ورجاله، ومن(14/11)
ص -11- ... يُتكلَّمُ فيه منهم، وكان في فتاواه وفي دروسه يذكرُ ذلك فيقول: الحديثُ الفلانيُّ صحيحٌ، أو ضعيفٌ؛ لأنّ في سنده فلاناً، أو أنّه منقطعٌ، أو أنّه مرسلٌ، أو أنّه كذا، أو أنّه كذا.
وكان معنيّاً بالفقه رحمه الله، وهو المرجعُ في الفتوى في داخل المملكة وخارجها، وهو مفتي الأنام كما ذكرتُ، يرجعُ النّاسُ إليه في مختلف المسائل.
وكان يُعنى بذِكْرِ القول أو الحكم مقروناً بدليله، وبيان وجهه، سواءً كان من المنقول أو من المعقول، رحمه اللهُ.
وكان رحمه اللهُ في تعقّبه على القول الذي يرى أنّه خلافُ الصّواب في غاية الأدب مع أهل العلم، فيقول: هذا القولُ فيه نظرٌ، والصّوابُ هو كذا وكذا، ومن يطّلع على حاشيته على فتح الباري التي تقع في الثّلاثة المجلّدات الأُولى يجد ذلك واضحاً جليّاً، فإنّه(14/12)
ص -12- ... عندما يتعقّبُ الحافظَ ابن حجرٍ أو من ينقل عنه في بعض المسائل يبدأُ بقوله: هذا القولُ فيه نظرٌ، والصّوابُ هو كذا وكذا، ويذكرُ الدّليلَ على ذلك، أمّا إذا كان القولُ ساقطاً أو باطلاً ظاهرَ البطلان مجانباً للحقِّ ومخالفاً للدّليل فإنّه يقول: هذا القولُ ظاهرُ البطلان، أو هذا القولُ غيرُ صحيحٍ، أو لا يصحُّ، قولٌ باطلٌ، أو ما إلى ذلك من العبارات.
وكان رحمه الله قد حصلَ له سؤددٌ في العلم، ومنزلةٌ عاليةٌ، ومكانةٌ رفيعةٌ، يشهدُ بذلك الخاصُّ والعامُّ، ولم يحصل هذا السُّؤدد من فراغٍ وإخلادٍ إلى الرّاحة، وإنّما حصّله بالجِّدِّ والاجتهاد منذ نعومة أظفاره، وهو رجلٌ عاملٌ جادٌّ، ذو همّةٍ عاليةٍ، والشّاعرُ يقول:
وإذا كانت النّفوسُ كباراً ... تعبتْ في مرادها الأجسادُ(14/13)
ص -13- ... فلم ينل ما نال بعد توفيق الله إلاّ بالجِّدِّ والاجتهاد، والتّعب والنَّصَب والمشقّة، وبذل الجهد والصحّة و العافية في الاشتغال بالعلم، و نفع النّاس، رحمه الله.
وقد قال يحيى بن أبي كثيرٍ اليَماميّ كما ذكرهُ عنه الإمامُ مسلمٌ في صحيحه: لا يُستطاعُ العلمُ براحة الجسم.
ويقول الشّاعرُ:
لولا المشقّةُ سادَ النّاسُ كلّهمُ ... الجُودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قتّالُ
وقد كان رحمه الله صابراً محتسباً، جادّاً مُجِدّاً في جميع مراحل حياته، إلى أن توفّاهُ اللهُ عزّ وجلّ، وكان عاملاً في محلِّ العمل الرّسميّ، وفي المسجد، وفي الطّريق، وفي البيت، لا يعرفُ وقتاً للرّاحة إلاّ الشّيء اليسير، فبابُه مفتوحٌ رحمه الله لاستقبال النّاس للاستفتاء،(14/14)
ص -14- ... وطلب الشّفاعة والمُساعدة والنُّصح، وغير ذلك من الأمور التي يحتاجُ إليها النّاسُ.
فهو إنّما حصّلَ هذا السُّؤددَ وهذه المنزلةَ العاليةَ الرّفيعةَ بالجِّدِّ والاجتهاد، وبذل النّفس و النّفيس، رحمه الله وغفرَ له.
خامساً: عمومُ نفعِه
كان رحمه الله نافعاً للنّاس في علمِه، وفي نُصحِه، وأمرِه بالمعروف ونهيِه عن المنكر، والدّعوةِ إلى الخير، ومُساعدة النّاس بماله وبجاهه، كلُّ ذلك من أوجه عموم نفعه.
فهو داعيةٌ إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، في محاضراته وكلماته وكتاباته.
وكان يقوم بتعيين الدُّعاة في خارج المملكة على نفقة بعض المحسنين.(14/15)
ص -15- ... ومن عموم نفعه كثرةُ فتاويه سواءً عن طريق المقابلة واللِّقاء المباشر، أو عن طريق المهاتفة، أو عن طريق المراسلة، كلُّ ذلك كان يحصلُ من سماحته رحمه اللهُ في نفع النّاس.
وكان رحمه الله عندما يقف على بعض الأخطاءِ في بعض الصّحف والمجلاّت يُنبِّهُ عليها بكلماتٍ تنشرُ في الصّحف أو في رسائل يكتبُها وتطبعُ مستقلّةً.
وكانت مجالسُه رحمه الله معمورةً بالعلم والنُّصح والنّفع وإفادة النّاس والإحسان إليهم، وهي مجالسُ تحضرُها الملائكةُ لأنّها معمورةٌ بذِكْرِ الله وبالعلم النّافع وبالنُّصح وبالنّفع للمسلمين، رحمه اللهُ وغفرَ له.
وكان حريصاً على مساعدة المحتاجين، وتعمير المساجد، في داخل المملكة وخارجها، وفي مكتبه الخاصّ في بيته سجلاّتٌ بأشخاصٍ وبجهاتٍ مختلفةٍ(14/16)
ص -16- ... يتلقّون المساعدات، سواءً كانوا من الفقراء أو من الدُّعاة، في داخل المملكة وخارجها.
وكان رحمه الله ذا لطفٍ وكرمٍ، وحسن ضيافةٍ، فعندما يأتيه الإنسانُ ويكونُ من بلدٍ غير البلد الذي هو فيه يبادرُ إلى دعوته إلى تناول طعام الغداء أو العَشاء، ويسألُ عن حاله وحال أبيه وأمِّه إذا كانا موجودين، أو عن حال بعض أقاربه، وعن البارزين من أهل العلم في بلده، وهذا من كريم أخلاقه وفضله ونبله رحمه اللهُ.
وكان يرتادُ منزلَه الفقراءُ والمحتاجُون، ومن جاءَ مستفتياً أو طالباً مساعدةً، ويشاركُونه في طعام الغداء أو العَشاء الذي يهيّأ كلّ يوم على قدرٍ يكفي لتلك الأعداد من ضيوفه رحمه اللهُ.
وفي حجّ عام ألف وأربعمائة وتسعة عشر وهو العام الذي تخلّف فيه عن الحجّ في آخر حياته لمرض نصحه الأطبّاء بعدم السّفر للحجّ من أجله كلّف من(14/17)
ص -17- ... يقومُ بفتح بيته في مكّة، ومخيّمه في منى، وصُنْعِ الولائم وتقديمها للنّاس الذين اعتادُوا أن يأتُوا إليه ليستفيدوا من علمه، ويشاركوه في طعامه، وكان يتّصلُ بمن كلّفه بذلك بالهاتف للاطمئنان على ذلك.
وكان يبذلُ جاهَهُ في الشّفاعة للنّاس وفي مساعدتهم في تحصيل مطالبهم وقضاء حوائجهم.
ثمّ إنّه كان يتيسّرُ لي أن أزورهُ في وقت الحجِّ في منزله وفي المخيّم في منى، وفي هذه السَّنَة لمّا تخلّف عن الحجِّ سافرتُ إلى مكّة لَمَّا كان فيها قبل ذهابه إلى الطّائف بيومين، وذلك في يوم الخميس الموافق التّاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة، ذهبتُ أنا وبعضُ أبنائي خصِّيصاً لزيارته، ولَمَّا جئنا إليه وسلّمنا عليه كعادته يبادرُ إلى السُّؤال عن الحال وعن الوالدين، ويدعُو إلى تناول طعام الغداء، فقلتُ له: إنّا قد جئنا من المدينة خصِّيصاً لزيارتك، ونتناولُ طعامَ الغداء معك ثمّ نرجعُ(14/18)
ص -18- ... إلى المدينة، فقال رحمه الله: قال اللهُ عزّ و جلّ: "وجبتْ محبّتي للمتحابِّين والمُتزاورين فِيَّ".
وفي ذلك اللّقاء كان في مجلسه ستّون من أصحاب الحاجات، وقد ذكرَ عددَهُم أحدُ الذين كانوا يتولّون قراءةَ المعاملات عليه، وكان وصولنا إليه في السّاعة العاشرة صباحاً، ومنذ ذلك الوقت إلى أن أذّن لصلاة الظّهر وعنده كاتبان كلُّ واحدٍ منهما عنده عددٌ من المعاملات، يتناوبان القراءة عليه، وإذا حصلَ اتِّصالٌ بالهاتف رفع السّمّاعةَ وأجابَ على استفتاء من يستفي.
ولَمَّا أُذّن لصلاة الظّهر سأل كم عددُ الذين بقيت معاملتهم؟ قيل: إنّه بقي ثمانيةٌ، فقال: إن شاء اللهُ بعد الصّلاة ننهي معاملاتهم، وبعد الصّلاة رجعَ وأنهى ما بقي وجلسَ إلى أن قُدّم طعامُ الغداء، فقام الجميعُ لتناول طعامَ الغداء، وكان الطّعامُ كثيراً كعادته لأنّ الذين يحضرُون كثيرون، وكان عددُ الصّحون التي تحلّق(14/19)
ص -19- ... عليها النّاسُ في ذلك اليوم ستّة صحون كبيرة، رحمه اللهُ وغفرَ له.
ولم يكتف رحمه الله في بذله النّفعَ للنّاس وحرصه على مساعدتهم فكتبَ كتاباً لأحد المشايخ الكبار وذلك في اليوم الثّامن من الشّهر الثّالث من عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف، قال فيه: يسرُّني أن أخبركم بأنّه منذ زمنٍ طويلٍ وأنا قائمٌ بالعمل على مساعدة كثيرٍ من المحتاجين في داخل المملكة وخارجها، وتعمير المساجد في داخل المملكة وخارجها، وتعيين الدُّعاة في خارج المملكة وذلك على نفقه خادم الحرمين الشّريفين ووليّ عهده وعدد من الأمراء وأصحاب الخير والتُّجّار، ثمّ قال بعد ذلك: والدّوامُ لله، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فإذا حدثَ بي حادثُ الموت أرجُو أن تتولّوا هذه الأعمالَ، وأن تحتسبُوا الأجرَ عند الله عزّ وجلّ.(14/20)
ص -20- ... سادساً: عبادتُه
كان رحمه الله عاملاً بعلمه، وثمرةُ العلمِ العملُ، فكان كثيرَ الذِّكْرِ لله عزّ وجلّ، وكثيرَ الدُّعاء، وكان ملازماً للحجِّ، وقد حجّ سبعاً وأربعين حجّةً رحمه الله، عرفتُ هذا لمّا زارَ منطقةَ الباحة في عام ألف وأربعمائة في شعبان سُئل، وكان من جواب السُّؤال أن ذكرَ عمرَهُ وأنّه في ذلك الوقت يبلغُ السّبعين من العُمُرِ، وأنّه حجّ ثمانياً وعشرين حَجَّةً، أخبرني بذلك أحدُ الحاضرين، وكان مواصلاً للحجّ حتّى العام الذي قبل العام الذي انصرمَ وهو العامُ الثّامنُ عشر بعد الأربعمائة والألف، فيُضافُ إلى الثّمان والعشرين تسعَ عشرة حَجَّةً، فيكونُ عددُ الحَجّات التي حجّها رحمه الله سبعاً وأربعين حَجَّةً.
ومِمَّا وقفتُ عليه مِمَّا يدلّ على عظم عنايته بالعبادة والاشتغال بها أنّه في عام سبعةٍ وتسعين وثلاثمائة وألفٍ(14/21)
ص -21- ... في آخر شهر ذي القعدة ذهبتُ من المدينة إلى مكّة لحاجةٍ تتعلّقُ بالعمل إذ كنتُ نائبَه في الجامعة الإسلاميّة، وبتُّ عنده تلك اللّيلة في منزله، وكان في بيته مكان مستطيل، فكان يمشي فيه ذاهباً آيباً ويقرأُ القرآنَ، يريدُ أن يتحرّك ويقرأ القرآنَ الكريم.
وأيضاً أذكرُ أنّه في سنةٍ من السّنوات لمّا كان في الجامعة دخلتُ معه إلى المسجد النّبويّ بعد أذان الظُّهر، وكنتُ بجواره، فصلّى أربعَ ركعاتٍ وأنا صلّيتُ ركعتين، ومعلومٌ أنّه جاءَ أنّ السّننَ الرّاتبةَ عشرٌ وأنّها اثنتا عشرة والأكملُ هو اثنتا عشرة، ولمّا سلّم التفتَ إليَّ وقال: أنتَ ما صلّيتَ إلاّ ركعتين، فقلتُ: نعم، فقال: إنّ الاثنتي عشرة هي الأكملُ والأفضلُ.
فكان رحمه الله ملازماً لما هو الأكملُ والأفضلُ، وينبِّهُ ويرشدُ ويلفتُ النّظرَ إلى تحصيل الأكمل والأفضل رحمه الله.(14/22)
ص -22- ... وأذكرُ أيضاً لمّا ذهب إلى القصيم في عام خمسةٍ وثمانين وثلاثمائة وألف ليتزوّج من هناك كنتُ مع المشايخ الذين ذهبُوا معه، ولمّا كنّا في أثناء الطّريق في وادٍ من الأودية فيه شجرٌ، وفي وسط النّهار كسفت الشّمسُ فقام فصلّى بنا صلاةَ الكسوف في ذلك الوادي، رحمه الله.
سابعاً: مؤلّفاتُه
مؤلّفاتُ الشّيخ رحمه الله كثيرةٌ، وهي رسائلُ مفيدةٌ وعظيمةٌ، وقد بدىء بجمع هذه الرّسائل وكذا الفتاوى، وطُبع منها حتّى الآن اثنا عشر مجلَّداً، تسعةُ مجلّداتٍ تتعلّق بالعقيدة والدّعوة إلى الله في موضوعات مختلفة، ثمّ المجلّدُ العاشرُ والحادي عشر والثّاني عشر بدىء فيها بالفقه بكتاب الطّهارة وإلى نهاية كتاب الجمعة من كتاب الصّلاة.(14/23)
ص -23- ... ومن مؤلّفاته:
الفوائد الجليّة في المباحث الفَرَضِيّة.
وكتاب التّحقيق والإيضاح لكثيرٍ من مسائل الحجِّ والعمرة والزّيارة على ضوء الكتاب والسُّنّة، وهو كتابٌ عظيمُ النّفع، كثيرُ الفائدة كما يعلمُ ذلك الخاصُّ والعامُّ. وقد طُبع في حياة الملك عبد العزيز رحمه الله، وتوالت طبعاتُه حتّى بلغت الملايين من النّسخ، كما ترجم وطبع في لغات مختلفة.
ومنها نقدُ القوميّة العربيّة على ضوء الإسلام والواقع:
وكان ذلك في الزّمن الذي حصلت فيه هذه الفتنةُ، وكثُر الكلامُ فيها في الإذاعات والصّحف، فكان منه رحمه الله أن ألّف كتاباً عظيماً نافعاً في ذلك وطبع طبعته الأُولى عام خمسةٍ وثمانين وثلاثمائة وألف، مع أنّ بعض الشّباب في هذا العصر يتكلّمُون في كبار العلماء(14/24)
ص -24- ... ويقولون عنهم: إنّهم لا يفقهون الواقع، وهذا الكتابُ الذي كتبه اسمُه: "نقدُ القوميّة العربيّة على ضوء الإسلام والواقع"، وكان ذلك قبل أن يُولد كثيرٌ من هؤلاء الذين يقولون: إنّهم يعرفُون الواقع، ومن اطّلع عليه عرفَ ما فيه من الفقه والفهم على ضوء الكتاب والسُّنّة والواقع.
ومنها ثلاث رسائل في الصّلاة.
والتّحذير من البدع: يشتمل على التّحذير من أربع بدعٍ، وهي بدعةُ الاحتفال بالمولد النّبويّ، وليلة النّصف من شعبان، وليلة الإسراء والمعراج، والرّدّ على الوصاية المنامية المزعومة من المدعو أحمد خادم الحجرة النّبويّة.
ثامناً: صلتي الخاصّةُ به
عرفتُ الشّيخَ رحمه الله في السَّنَةِ التي قدمَ فيها من الخَرْجِ إلى الرّياض؛ لأنّه قدم في أوّل عام اثنين(14/25)
ص -25- ... وثلاثمائة وألف، ودخلتُ في معهد الرّياض العلمي، وكان هو بدأ التّدريسَ في تلك السَّنَة، ولكنّه لم يكن يُدرِّسُنا بل يدرّس بعض الأفواج الذين قبلنا، وما ظفرتُ بتدريسه إلاّ في السَّنَةِ الأخيرةِ في عام تسعةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، حيثُ كان مدرِّساً لطلاّب السَّنَة النِّهائيّة طلاّب السَّنَة الرّابعة من كليّة الشّريعة، وأوّل رؤيتي إيّاه ولقائي به في عام اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف، وكان في ذلك الوقت عددٌ من المشايخ الكبار يقومون بإلقاء الدّروس في مسجد الشّيخ محمّد ابن إبراهيم رحمه الله بين المغرب والعِشاء، وهم الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي رحمه الله، والشّيخ عبد الرّحمن الإفريقي رحمه الله، والشّيخ عبد الرّزّاق عفيفي رحمه الله، وكان(14/26)
ص -26- ... المسجدُ يَعُجُّ بطلبة العلم، وأذكر أنّه كان يلقي دروساً في التّفسير في سورة مريم.
ثمّ كان اتّصالي به كثيراً في الفسح بين الدّروس وفي المسجد وأزورهُ في منزله، ولمّا جاء عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف كنتُ بحمد الله من الذين رُشّحُوا للتّدريس في الجامعة الإسلاميّة في آخر عام تسعةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، حيثُ طلبتُ من الشّيخ محمّد بن إبراهيم رحمه الله أن يجعلني في سِلْكِ التّدريس فقال: إنّه يوافقُ على ذلك ولكنّه يريدُ أن أدرّس في الجامعة الإسلاميّة عند افتتاحها، فقلتُ: أنا على أتمِّ الاستعداد، وفي عام ثمانين وثلاثمائة وألف لم تُفتح الجامعةُ الإسلاميّةُ، وكان يُذكرُ بعضُ الأشخاص الذين سيتولّون رئاستَها، ولَمَّا جاء افتتاحُها عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف، وعلمتُ أنّ الشّيخ عبد العزيز بن باز هو الذي سيتولّى إدارتَها نائباً عن رئيسها الشّيخ محمّد(14/27)
ص -27- ... ابن إبراهيم رحمه الله فرحتُ فرحاً شديداً لما لهذا الرّجُل العظيم من منزلةٍ في نفسي، فصحبتُه خمسةَ عشرَ عاماً من أوّل عام واحدٍ وثمانين وثلاثمائة وألف إلى قرب نهاية عام خمسةٍ وتسعين وثلاثمائة وألف وهو منتصفُ شهر شوّال من ذلك العام، حيث كان هو المسؤولُ في الجامعة في عشر سنواتٍ كان نائباً للرّئيس، ولكنّه هو المباشرُ للتّنفيذ، والقائمُ على إدارتها وتنفيذ أعمالها، وبعد ذلك كان رئيساً للجامعة. وكنتُ في تلك المدّة معه في مجلس الجامعة، وكان رحمه الله قد جعلني في مجلس الجامعة منذ إنشائها، وفي عام ثلاثةٍ وتسعين عيّنتُ نائباً للرّئيس بترشيح منه وموافقة من الملك فيصل رحمهما الله؛ فكنتُ ملازماً له في العمل، وأتّصلُ به باستمرارٍ، وكنتُ آتي إليه في المنزل أحيانا قبل الذّهاب إلى الجامعة وأجلسُ معه قليلاً، وكان معه الشّيخُ إبراهيم الحصيّن رحمه اللهُ، وكان يقرأُ عليه(14/28)
ص -28- ... المعاملات من بعد صلاة الفجر إلى بعد ارتفاع الشّمس.
وفي يوم من الأيّام قال لي: رأيتُ البارحةَ رؤيا وهو أنّني رأيتُ كأنّ هناك بَكْرَةٌ جميلةٌ [أي: ناقةٌ] وأنا أقودُها وأنتَ تسُوقُها، وقال: أوّلتُها بالجامعة الإسلاميّة، وقد تحقّق ذلك بحمد الله فكنتُ معه في النّيابة مدّة سنتين ثمّ قمتُ بالعمل بعده رئيساً بالنِّيابة أربعةَ أعوامٍ، وحصلَ للجامعة في ذلك خيرٌ كثيرٌ ولله الحمدُ. فكانت صلتي بالشّيخ رحمه الله وثيقةً، وبعد انتقاله إلى رئاسة البحوث العلميّة استمرّت صلتُه بالجامعة حيث كان عضواً في مجلسها الأعلى كما أسلفتُ، وكان يرأسُ المجالسَ نيابةً عن خادم الحرمين الشّريفين إذا غابَ، لأنّ الرّئيسَ الأعلى للجامعة خادمُ الحرمين الشّريفين، وقد أنابَ سماحةَ الشّيخ في حال غيابه نيابةً مطلقةً.(14/29)
ص -29- ... تاسعاً: وفاتُه
توفِّي رحمه اللهُ كما يعلمُ الجميعُ في صبيحة يوم الخميس السّابع والعشرين من شهر المحرّم، قبل أذان الفجر بدقائق، وصُلِّي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة، ودُفن في مقبرة العَدْلِ في مكّة المكرّمة، وشهدَ جنازتَهُ العددُ الذي لا يحصيه إلاّ اللهُ.
وذلك لما للشّيخ رحمه اللهُ من المنزلة العظيمة والمحبّة في النّفوس، وأرجُو أن يكون ممّن قال اللهُ عزّ وجلّ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}، ومن الذين جاء ذِكْرُهُمْ في الحديث: "إنّ الله إذا أحبَّ العبدَ نادى جبريل وقال: إنّي أحبُّ فلاناً فأحبّهُ، ثمّ يُنادى في أهل السّماوات: إنّ الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبُّه أهلُ السّماوات، ثمّ يوضع له القَبولُ في الأرض".(14/30)
ص -30- ... ولو كنتُ أقولُ الشِّعْرَ لقلتُ الشِّعْرَ في رثائه ولكنّني لستُ بشاعرٍ، إنّما أتمثّلُ بشعر الشّعراء، وعندما كان يُوارى في قبره رحمه الله تذكّرتُ بيتاً هو مطلعُ قصيدةٍ للشّيخ محمّد بن عبد الله بن عثيمين المتوفّى سنة ثلاثٍ وستّين وثلاثمائة وألف، رثى فيها الشّيخ سعد بن عتيق وهو شيخُ الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمةُ اللهِ على الجميع، وقد توفِّي سنة تسعٍ وأربعين وثلاثمائة وألف، وكان عمرُ الشّيخ لمّا توفِّي شيخُه سعد بن عتيق تسعةَ عشر عاماً، وبين وفاتيهما إحدى وسبعون سَنَةٌ، وهذا البيتُ هو قولُه:
أهكذا البَدْرُ تُخْفي نُورَهُ الحُفَرُ ... ويُفْقَدُ العلمُ لا عَيْنٌ ولا أَثَرُ
هذا هو مطلعُ القصيدةِ. ولمّا عدتُّ إلى المدينة رجعتُ إلى ديوانه المسمّى ب: "العقد الثّمين من شعر الشّيخ محمّد بن عثيمين"، واطّلعتُ على القصيدة وهي(14/31)
ص -31- ... تبلغُ ثلاثةً وأربعين بيتاً، اخترتُ منها بعضَ الأبيات، وهي تنطبقُ على الشّيخ تماماً:
أهكذا البَدْرُ تُخْفي نورَهُ الحُفَرُ ... ويُفْقَدُ العلمُ لا عَيْنٌ ولا أَثَرُ
خَبَتْ مصابيحُ كنّا نستضىءُ بها ... وطوّحَتْ للمغيب الأنجُمُ الزُّهُرُ
واستحكمتْ غُرْبَةُ الإسلام وانكسفتْ ... شمسُ العلومِ التي يُهدى بها البَشَرُ
تُخُرِّمَ الصّالِحُون المقتدَى بهِمُ ... وقامَ منهم مقامَ المُبتدا الخَبَرُ
فلستَ تسمعُ إلاّ كانَ ثمّ مضى ... ويلحَقُ الفارطَ الباقي كما غَبَرُوا
وأذكرُ أنّ الحافظَ ابن حجرٍ رحمه اللهُ ذكرَ في "الإصابة" في ترجمة قيس بن عاصمٍ المنقري التّميمي رضى الله عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،(14/32)
ص -32- ... وكان سيّداً في قومه، وقد رثاهُ عبدةُ بن الطّيّب في قصيدةٍ منها قولُه:
وما كان قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ ... واحدٍ ولكنّهُ بنيانُ قومٍ تهدّمَا
وهو ينطبق على الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه اللهُ.
فهو لم يكن فقيدَ أسرةٍ، ولا فقيدَ قريةٍ أو مدينةٍ، ولا فقيدَ قطرٍ أو إقليمٍ، وإنّما هو فقيدُ العالَم الإسلاميّ رحمه الله وغفرَ له.
وقد خلف رحمه اللهُ أربعةً من البنين وستّاً من البنات، وأحدُ البنين وهو أحمد من طلبة العلم، أصلحَ اللهُ بنيه، وبارك فيهم، وغفرَ للشّيخ ولنا جميعاً، ولكنّه خلّفَ الألوفَ من البنين الذين يستفيدون من علمه ويدعون له، وقد قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: "إذا مات ابنُ آدم انقطعَ عملُه إلاّ من ثلاثٍ، صدقةٍ جارية، أو(14/33)
ص -33- ... علم ينتفعُ به، أو ولد صالح يدعُو له"، فأبناؤُه من نسبه وأبناؤُه في العلم كلُّهم يدعون له، والمسلمُون يدعون له رحمه الله وغفر له.
وخلفَهُ في عمله في الإفتاء في المملكة ورئاسة هيئة كبار العلماء ورئاسة إدارة البحوث العلميّة والإفتاء نائبُه في الإفتاء الشّيخُ عبد العزيز بن عبد الله بن محمّد آل الشّيخ حفظهُ اللهُ وباركَ فيه، وجعلهُ خيرَ خلفٍ لخير سلفٍ، وهو معروفٌ في جدّه بالاشتغال بالعلم وفي خطبه النّافعة المفيدة في جامع الإمام تركي وفي مسجد نمرة بعرفة.
وكان القائم بأعمال رئاسة البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد قبل انتقال سماحة الشّيخ عبد العزيز بن باز من الجامعة الإسلاميّة إليها هو الشّيخ إبراهيم بن محمّد ابن إبراهيم آل الشّيخ.
وإنّا نفرحُ كثيراً إذا رأينا في آل الشّيخ مَنْ هم من أهل العلم.(14/34)
ص -34- ... وأقول: إنّ من محاسن ولاة الأمر في هذه البلاد عنايتَهم بآل الشّيخ، وحرصَهم على تمكينهم من الأعمال المهمّة، وذلك أنّ أصلَ هذه الولاية التي حصلَ النّفعُ فيها على مدى قرنين من الزّمان أو أكثر إنّما كان بالتقاء إمامين عظيمين هما الإمامُ محمّد بن سعود رحمه الله، والإمامُ الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله، وقيامهما بالدّعوة إلى الله عزّ وجلّ، ونصرة دِين الله.
عاشراً: أمنيّات ومقترحات
وأختم هذه الكلمات بأمنيّات ومقترحات هي:
أوّلاً: أنّ الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان مرجعاً للعُلماء، إذا جاءت المشكلاتُ رجعُوا إليه في حلِّها ومعرفة حكمها، وقد ذهبَ ورحلَ رحمه الله، والعلمُ الذي في صدره ذهبَ معه، ولكن بقي علمُه الذي في الأوراق والرّسائل والفتاوى، والذي نتمنّاه ونرجُوه ونقترحُه أن يعتني خَلَفُه في إتمام ما بُدىء به من(14/35)
ص -35- ... جمع هذه الرّسائل والفتاوى وطبعها ونشرها للاستفادة منها، وقد طبع منها اثنا عشر مجلّداً كما أسلفتُ، وهي تبلغُ المجلّدات الكثيرة، ونسألُ الله عزّ وجلّ أن ييسّر جمعَها وطبعَها وتمكين طلبة العلم من الاستفادة منها.
ثانياً: وصيّةٌ لي ولطلبة العلم عموماً وهي الجِدُّ والاجتهادُ في طلب العلم وبذل الوُسْع في تحصيله، والعناية بأخذه ونشره وبذله؛ كما كانت حالُ الشّيخ رحمه اللهُ تعلّماً وعملاً وتعليماً ودعوةً ونصحاً.
ثالثاً: أوصي بعض ذوي الهمم العالية من طلبة العلم بالاتّجاه إلى إعداد رسائل علميّة وأبحاث تتناول إبراز جوانب مختلفة من جهود الشّيخ العلميّة في العقيدة والتّفسير والحديث والفقه والدّعوة إلى الله وغير ذلك.
رابعاً: من المعلوم أنّ الجامعةَ الإسلاميّةَ بالمدينة المنوّرة عالميّةُ النّفعِ، والشّيخُ عبدُ العزيز بن باز عالميُّ النّفع، وهو الذي باشر تأسيسها، وتولّى غرسها منذ(14/36)
ص -36- ... افتتاحها واستمرّ فيها خمسةَ عشرَ عاماً، وإنّ اسمَ الجامعة الإسلاميّة اسمٌ جميلٌ، ويزدادُ جمالاً إذا أطلق عليها اسمُ: "جامعة الشّيخ عبد العزيز بن باز الإسلاميّة"، وقد بذلتُ لذلك أسباباً نفع اللهُ بها.
هذه بعضُ الأمنيّات والمقترحات التي في ذهني يسّر الله تحقيقها، وأسألُ الله عزّ وجلّ أن يغفر لسماحة الشّيخ، وأن يجزيهُ أحسنَ الجزاء، وأن يبارك في علمه، وأن يثيبهُ على ما قدّم، وعلى ما حصل منه من الصّدقات الجارية، وأن يعظم له الجزاء، وأن يوفّقنا جميعاً لما يرضيه، ولما فيه تحصيل العلم النّافع والعمل به، إنّه سبحانه وتعالى جوادٌ كريمٌ، وصلّى اللهُ وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمّدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين(14/37)
عنوان الكتاب:
الشيخ عمر بن محمد فلاته رحمه الله وكيف عرفته
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية
الأولى، 1421هـ/2000م(15/1)
ص -1- ... الشيخ عمر بن محمد فلاته رحمه الله وكيف عرفته
محاضرة ألقاها:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
في الجامعة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلاّ اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه، وخليلُه وخيرتُه من خَلْقِه، أرسلهُ اللهُ بين يدي السّاعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فدلَّ أمّتَهُ على كلِّ خير، وحذّرها من كلِّ شرّ، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلكَ سبيلَهُ واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.(15/2)
ص -2- ... أمّا بعدُ:
فإنّ الحديث معكم أيّها الإخوة في هذا اللّقاء1 عن الشّيخ عمر محمّد فلاته رحمه اللهُ، ولو كان الحديثُ في بلد آخر غير المدينة في أناس لا يعرفون الشّيخ عمر رحمه الله معرفةً تامّةً أمكن أن يكون فيما أقول لهم فائدة، أمّا والكلامُ عنه رحمه الله في المدينة وفي أناسٍ يعرفونه فإنَّ الفائدة قد لا تكونُ كبيرةً جدّاً.
وكلامي عن الشّيخ عمر رحمه الله تعالى يتعلّق في أمور:
أوّلاً: اسمُه، وولادتُه، ونشأتُه.
ثانياً: عقيدتُه، ودعوتُه، ومنهجُه.
ثالثاً: تدريسُه في المسجد النّبويّ.
رابعاً: إدارتُه لدار الحديث في المدينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محاضرة ألقيت في قاعة المحاضرات في الجامعة الإسلامية في أوائل شهر المحرّم من عام 1420 هـ.(15/3)
ص -3- ... خامساً: أعمالُه الأخرى في غير الدّار، بالإضافة إلى إشرافه على الدّار.
سادساً: عددُ حجّاته.
سابعاً: كيف عرفتُ الشّيخ عمر ومدى الصّلة التي بيني وبينه.
ثامناً: صفاتُه والتّشابهُ بينه وبين شيخه وشيخي الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ رحمه الله تعالى.
تاسعاً: ذكر أمثلة من دُعابته وطرائفه رحمه الله تعالى.
عاشراً: وفاتُه وعقبُه.
فأقول:
أوّلاً: اسمُه
هو رفيقي وصديقي وحبيبي الشّيخ عمر بن محمّد بكر الفُلاَّنِيُّ الشّهيرُ بفُلاَّتَه، هكذا أُثبت في نموذج الإجازة التي يمنحها، وأنا أعرف أنّه أحياناً(15/4)
ص -4- ... يقول: الفُلاَّني، وأحياناً يقول: فُلاَّته، والفُلاَّني: نسبة إلى قبيلة في إفريقيا.
أمّا ولادتُه: فكانت في عام 1345هـ، وكان ذلك على مقربة من مكة، وذلك أنّ أبويه هاجرا من إفريقيا، ومكثا في الطّريق ما يقرب من سنة، وعلى مقربة من مكّة ولد الشّيخ عمر رحمه الله، وكان يقول: شاء الله أن يبدأ أبواه في الرّحلة وهما اثنان، وأن تنتهي وهم ثلاثة، أي: بوجود هذا المولود الذي صار ثالثاً لهما.
أمّا نشأتُه: فقد انتقل مع والديه بعد عام من ولادته إلى المدينة، ونشأ فيها وترعرع وبدأ تعليمه بالكُتّاب عند العريف محمّد بن سالم، ثمّ دخل في دار العلوم الشّرعيّة، ونال شهادتها الابتدائيّة، ثمّ نال الشّهادة الابتدائيّة من مديرية المعارف العمومية(15/5)
ص -5- ... وذلك في عام 1363هـ، ثمّ بعد ذلك واصل الدّراسة في ما فوق الابتدائيّة، ودخل دار الحديث وأخذ شهادتها العالية، وكان ذلك في سنة 1367هـ، ولازم الشّيخ عبد الرّحمن بن يوسف الإفريقيّ رحمه الله، واستفاد من علمه، وله مشايخ آخرون استفاد منهم ولكن الفائدة الكبيرة والملازمة المستمرّة إنّما هي للشّيخ عبد الرّحمن بن يوسف الإفريقيّ رحمه الله، ودرّس في دار الحديث، ودرّس أيضاً في غيرها، وبعد وفاة الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ رحمه الله الذي كان هو النّاظر على دار الحديث تولّى إدارتها الشّيخ عمر رحمه الله.
ثانياً: أمّا عقيدتُه ومنهجُه:
فقد كان رحمه الله على عقيدة السّلف ومنهجهم، ملتزماً بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، حريصاً على معرفة الدّليل، واقتفاء آثار السّلف(15/6)
ص -6- ... الصّالح، وكان يكرهُ المناهج المخالفة لطريقة السّلف الصّالح رحمهم الله.
وأمّا دعوتُه إلى الله: فكان داعيةً ناجحاً، وذلك في فصاحته وبلاغته وأسلوبه الحسن، وفي نصحه وصدقه وإخلاصه رحمه الله، فكان في دعوته مفيداً ونافعاً لمن يسمعه، وكان رحمه الله عندما يتحدّث في بعض الدّروس وفي بعض الكلمات التي يلقيها في الدّعوة إلى الله عزّ وجلّ ـ وقد سمعتُ جملةً منها في الحجّ ـ فإنّه كان يشدّ انتباه الحاضرين إلى كلامه، وذلك لفصاحته وبلاغته وعلمه ومعرفته وجودة إلقائه وتمكّنه من المادّة التي يتكلّم فيها.
وقد قام رحمه الله بالدّعوة إلى الله عزّ وجلّ عن طريق تدريسه في المسجد النّبويّ، وعن طريق مشاركته في توعية الحجّاج فإنّه منذ أنشأت التّوعية التّابعة لرئاسة البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة(15/7)
ص -7- ... والإرشاد في عام 1392هـ إلى أن توفّي وهو في التّوعية، فكان يفيد السّامعين ويفيد الحجّاج وغير الحجّاج رحمه الله، وكذلك ذهب للدّعوة إلى الله عزّ وجلّ منتدباً من الجامعة الإسلاميّة، وأيضاً للتّدريس في الإجازة الصّيفيّة في الدّورات التي تقيمها الجامعة، وكان داعيةً إلى الله عزّ وجلّ في البلاد المختلفة التي ذهب إليها.
ثالثاً: أمّا تدريسُه في المسجد النّبويّ
فقد كان بداية ذلك في عام 1370هـ إلى أن توفّي رحمه الله تعالى في أواخر العام الماضي 1419هـ، أي أنّه درّس في المسجد النّبويّ ما يقارب نصف قرن قضاها في التّدريس في هذا المسجد المبارك مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم، وكان مكانُه قريباً من الرّوضة، وكنتُ عندما بدأت بالتّدريس في المسجد النّبويّ حلقتي قريبة من حلقته، وكنّا نسمع صوته الرّخيم الواضح(15/8)
ص -8- ... الجهوريّ، وكان صوتُه ـ رحمه الله ـ يرتفع وينخفض، وكنّا نداعبُه عند ذلك في الطّلعات التي تكون في صوته حيث ينزل ثمّ يرتفع ويسمعه من يكون بعيداً منه.
وعلى هذا فقد مكث هذه المدّة الطّويلة التي لم يكن أحدٌ يماثلُه فيها في هذا الزّمان، والذي يقاربُه فيها الشّيخ أبو بكر الجزائريّ حفظه الله فإنّه بدأ بالتّدريس في المسجد النّبويّ في عام ثلاثة وسبعين وثلاثمائة وألف، ولا يزال في التّدريس بارك الله في جهوده وفي دعوته ونفع به المسلمين.
رابعاً: إدارتُه لدار الحديث بالمدينة
بعدما توفّي الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ ـ رحمه الله ـ في عام 1377هـ وكان هو النّاظر عليها خلفه الشّيخ عمر في إدارتها والنّظارة عليها، وكانت لها منزلة عنده ومكانة رفيعة، وكان يحدب عليها(15/9)
ص -9- ... ويحرص عليها وهي شغله الشّاغل رحمه الله تعالى، واستمرّ فيها مديراً لها ومربّياً وموجّهاً لطلاّبها.
وفي عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف انتقل إلى الجامعة الإسلاميّة في الأعمال المختلفة التي سأشير إليها بعد قليل، ولكنّه مع ذلك محتفظ بإدارة هذه الدّار والإشراف عليها مع أعماله التي أنيطت به في الجامعة الإسلاميّة، واستمرّ على ذلك في الجامعة يقوم بالأعمال التي أنيطت به بالإضافة إلى إشرافه على دار الحديث، ولمّا تقاعد رجع إلى الجلوس فيها وإدارتها حتّى توفّاه الله عزّ وجلّ.
وكان رحمه الله قد اعتنى بهذه الدّار، ولمّا أدخلت المباني القريبة من المسجد النّبويّ في مشروع المسجد النّبويّ، وكانت الدّارُ قريبةً من المسجد، وكانت إمّا داخلة في المسجد أو في السّاحة القريبة منه، وكان قد رُصد لها مبلغ من المال تعويضاً لذلك(15/10)
ص -10- ... الوقف للأرض والمنشآت التي عليه، فقيل له: لو أنّك طلبت منهم أن يزيدوا في المقدار الذي خصّص تعويضا لهذه الدّار؟ فقال: لا أفعل لأنّها ـ أي الأرض ـ داخلة في المسجد النّبويّ أو في ساحاته ويكون الأجر والثّواب إن شاء الله لِمن أسّسها وأوقفها حيث تكون في جملة المسجد أو في ساحات المسجد. ثمّ إنّه بعدما رُصد المبلغ لهذه الدّار اجتهد في البحث عن مكان مناسب وكان أن انتهى إلى شراء تلك الأرض التي بنيت عليها الدّار الآن، وتمّ بناؤُها على وجه حسن وبناء فيه إتقان ومتانة، وتصميمُ هذه الدّار صار له تميّزٌ في هذه المدينة ونال جائزة المدينة في التصميم العمراني.
خامساً: الأعمال التي أنيطت به
في عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف نُقل إلى الجامعة وكُلّف بعمل الأمين العام المساعد، واستمرّ(15/11)
ص -11- ... على ذلك، ثمّ عيّن أمينا عاما، ثمّ بعدما صنّف هيئة التّدريس وتحوّلوا من الوظائف القديمة إلى الوظائف التي هي في كادر المدرّسين على النّظام الحديث وذلك في عام 1396هـ صنّف على أستاذ مساعد.
وكان مع قيامه في العمل الإداري يؤدّي دروساً في كليّة الحديث، ثمّ بعد ذلك صار مسؤولاً عن مركز الدّعوة في الجامعة، ثمّ مسؤولاً عن مركز خدمة السّنّة والسّيرة النّبويّة في الجامعة، وهو الذي تمّ على يديه تأسيسُه والبداءةُ به، وتقاعد وهو يقوم بذلك العمل.
سادساً: عددُ حجّاته
حجّ فرضه في عام 1365هـ واستمرّ في الحجّ إلى عام 1418هـ لم يتخلّف عن الحجّ إلاّ سنة واحدة وهي سنة 1367 هـ بسبب تمريض مريض كان عنده، وقد بلغت حجّاتُه رحمه اللهُ ثلاثا وخمسين حَجَّةً.(15/12)
ص -12- ... سابعاً: صفاتُه والتّشابهُ بينه وبين شيخه وشيخي الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ رحمه الله تعالى
كان من صفاته رحمه الله ـ كما هو معلوم لكلّ من عرفه ـ طلاقةُ الوجه وحسنُ الاستقبال، وكان رحمه اللهُ مع قلّة ماله وضعف حاله غنيّ النّفس سخيّ اليد رحمه الله تعالى، وكان حريصاً على نفع المسلمين، ومدّ يد العون لهم ومساعدتهم، وكان رحمه الله تعالى ذا تواضع جمّ يعرفُه من خالطه ومن رافقه في السّفر، وقد رافقتُه كما رافقه غيري وكلٌّ يعرف منه تواضعه وأنّه مع كونه يكبر من يكون معه في السّنّ إلاّ أنّه يبادر إلى أن يسبق إلى الخدمة مع أنّه هو الحقيق بأن يُخدم لفضله ولكبر سنّه رحمه الله تعالى.
وكان بينه وبين شيخه الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ شبه واضح بيّن، وأنا درستُ على الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ في الرّياض في عام 1372هـ(15/13)
ص -13- ... وعام 1373هـ درستُ عليه في الحديث والمصطلح، وكان مدرّسا ناصحا وعالما كبيرا، وموجّها ومرشدا وقدوة في الخير رحمه الله تعالى. والتّشابهُ بينه وبين الشّيخ عمر رحمه الله قويٌّ فإنّ الصّفات التي ذكرتُها عن الشّيخ عمر موجودة في شيخه الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ وكلٌّ منهما له محبّة في النّفوس وقبول عند النّاس. وللشّيخ عمر رحمه الله محاضرة واسعة عن الشّيخ عبد الرّحمن الإفريقيّ ألقاها في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلاميّة في 13/ 4/ 1398هـ، وهي مطبوعةٌ في المجلّد الخامس ضمن محاضرات الجامعة الإسلاميّة المطبوعة في ستّة مجلّدات للأعوام: من 1394 إلى 1399هـ، كلُّ مجلّد منها يشتملُ على خمس عشرة محاضرة، وهي موجودة في مكتبات الجامعة.
ثامناً:
أمّا كيف عرفتُ الشّيخ عمر محمّد فلاّته ومدى الصّلة التي بيني وبينه فأوّل ما عرفتُه(15/14)
ص -14- ... عندما قدمتُ إلى المدينة عند افتتاح الجامعة الإسلاميّة في عام 1381هـ كنتُ أسمع ويتردّد على سمعي الشّيخ عمر مدير دار الحديث، فذهبتُ إليه ودخلتُ مع باب الدّار الذي هو إلى جهة الجنوب، وبعدما يدخل الإنسانُ مع هذا الباب يجد أمامه ساحة واسعة وعلى يساره غرفة هي مكان مدير الدّار وإذا الشّيخ عمر رحمه الله تعالى في زاوية من زوايا هذه الغرفة على مكتبه، فسلّمتُ عليه ورأيتُ من أوّل وهلةٍ منه السّماحة واللّطف والبُشر والدّعاء ومحبّة الخير للنّاس.
فكان هذا أوّل لقاء حصل لي معه وأوّل تعرّف عليه في تلك الجلسة التي دخل حبُّه في قلبي، وبعد ذلك توطّدت العلاقة بيني وبينه ولاسيّما بعدما انتقل إلى الجامعة الإسلاميّة، فكنتُ لا يمرّ يومٌ غالبا إلاّ وألتقي به وأجلس معه وأستأنس به كثيراً رحمه الله تعالى، ثمّ في عام 1389هـ وكذلك في العام الذي(15/15)
ص -15- ... يليه ذهبتُ أنا وإيّاه للتّعاقد مع مدرّسين للجامعة الإسلاميّة إلى الأردن وسوريا ولبنان ومصر، وبلغت تلك المدّة التي اصطحبنا فيها ما يقرب من شهرين في كلّ من هاذين العامين، وقد رأيتُ أخلاقه الكريمة وتواضعه الجمّ.
وأذكر أنّه كنّا في فندق من الفنادق، وكنّا نسكن في غرفة وفي داخلها حمّام، وكان في الحمّام يقضي حاجته رحمه الله، فدخل شخص فقال: أين رئيس اللّجنة؟ فقلتُ له: اجلس يأتي الآن، وكان يسمع وهو في داخل الحمّام، ولَمَّا خرج قال: هذا رئيس اللّجنة يشير إليّ: لستُ أنا رئيس اللّجنة، فقلتُ: لا أبداً لستُ رئيسَ اللّجنة أنت رئيسُها، فصار الأمرُ يدور بيني وبينه كلٌّ يقول للآخر: أنا لستُ الرّئيس وإنّما الرّئيسُ أنتَ، فتعجّب هذا الشّخصُ الذي دخل وكان يسأل عن رئيس اللّجنة، وهذا من لطافته وتواضعه وسماحته رحمه الله تعالى.(15/16)
ص -16- ... ثمّ كانت العلاقة بيني وبينه وطيدةً جدّا بحيث لا ينقطع أحدُنا عن الآخر، وكان يزورني وأزوره، ويتّصل بي وأتّصل به، إذا تأخّر أحدُنا عن الآخر فترة وجيزة اتّصل بالهاتف يسألُ عنّي واتّصلتُ به أيضا أسألُ عنه، وكانت المودّة بيننا قائمة، وكان ذلك كلّه في الله ومن أجل الله، ليس هناك رابطة تربطني به إلاّ الحبّ في الله والموالاة في الله عزّ وجلّ، وأرجو أن أكون وإيّاه من السّبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلَّ إلاّ ظلُّه الذين ورد ذِكْرُهُمْ في الحديث الصّحيح وفيهم: (( ورجلان تحابّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه )).
وكان رحمه اللهُ مأذوناً لعقد الأنكحة، وهذا من المجال الذي ينفع فيه النّاس ويحسن فيه إلى النّاس رحمه الله تعالى، وكان باذلاً نفسه لهذه المهمّة وذلك في وقت مبكّر.(15/17)
ص -17- ... تاسعاً:
أمّا الأمثلةُ من دعابته وطرائفه فأذكر من لطائفه حول موضوع عقد الأنكحة أنّه جاء إلى موظّف في إدارة في حاجة من الحاجات، وكأنَّ ذلك الموظّفُ تلكّأ وما قام بتيسير أمر الشّيخ عمر، وكان قد عقد لوالد هذا الموظّف على أمّه، فكان منه أن قال: هذا ابنُ فلان؟ هذا الذي عقدتُّ لأبيه على أمّه، أنا الذي أخطأتُ لمّا عقدتُّ لأبيه على أمّه!! فضحك النّاسُ وقام الموظّفُ حالاً بإنهاء حاجته، فهذا من لطافته وظرافته رحمه الله تعالى.
ومن طرائفه أنّا كنّا في سفر إلى مصر وكان في الأزهر طلبة كثيرون جاءوا من الأرياف، وكانوا يتّخذون من أروقة الأزهر سكنا لهم، وللمسجد إمام وكان يدعو للطّلاّب فيقول: اللّهمّ نجّح الطّلاّب، ووفّقهم للحكمة والصّواب. ومن دعابة الشّيخ عمر أنّه كان يُؤَمِّنُ ويقول: نحن من الطّلاّب أي: طلاّب المدرّسين لأنّنا جئنا في طلبهم والتّعاقد معهم.(15/18)
ص -18- ... ومن طرائفه أنّه كان معنا في السّفر نقود هي دولارات أمريكيّة، وكنّا نسمعُ إذاعة لندن، وعندما يأتي في آخر الأخبار بيان أسعار العملة فيذكر انخفاض سعر الدّولار فيظهر التّأثّر مداعبةً لأنّ النّقود التي معنا دولارات.
ومن طرائفه أنّني كنتُ معه في مجلس وفيه أحدُ المشايخ وقد حجّ فرضه بعد ولادتي بسنة، وكنتُ أعرفُ ذلك فسألتُه قائلاً: متى حججتَ فرضَك؟ فقال له الشّيخ عمر: انتبه لا يجرّ لك لسانك، يعني بذلك التّوصّل إلى مقدار عمر ذلك الشّيخ.
ومن الطّرائف العجيبة أنّني أداعب الشّيخ عمر حول سنّه وأنّه كبير، ولا يظهر عليه أثر الكِبَر، وفي سنة من السّنوات كنّا في الحجّ، ودخلنا مخيّم التّوعية في عرفات، وإذا فيه رجل قد ابيضّ منه كلُّ شيء حتّى حاجباه، فقلتُ للشّيخ عمر: هذا من أمثالك أي: كبار السّنّ، وبعد أن جلسنا قال ذلك الرّجل(15/19)
ص -19- ... يخاطبني: أنا تلميذ لك درّستني في مدرسة ليلية ابتدائية في الرّياض ـ وكان ذلك في سنة 1374 هـ تقريباً ـ، وكنتُ في زمن دراستي في الرّياض أدرّس مساء متبرّعاً في تلك المدرسة التي غالبُ طلاّبها موظّفون، فوجد ذلك الشّيخ عمر رحمه الله مناسبة ليقلب الموضوع عليّ، فكان يكرّر مخاطباً ذلك الرّجل: أنت تلميذ الشّيخ عبد المحسن؟
عاشراً: وفاته
لقد توفّي رحمه الله في صبيحة يوم الأربعاء الموافق التّاسع والعشرين من شهر ذي القعدة من عام 1419هـ، وهو آخر يوم في ذلك الشّهر إذ ثبت دخول ذي الحجّة ليلة الخميس، وكان ـ رحمه الله ـ يرقد في مستشفى في الرّياض، وكنتُ عزمتُ على أن أزوره في الرّياض ولكنّه قيل: إنّ الأطبّاء سيأذنون له بالخروج آخر الأسبوع، وعاد إلى المدينة في صبيحة اليوم الثّامن والعشرين، وشاء الله عزّ وجلّ(15/20)
ص -20- ... أن تقبض روحه وهو في المدينة من الغد؛ وصل السّاعة الثّامنة والنّصف من يوم الثّلاثاء يوم الثّامن والعشرين وفي الثّامنة والنّصف من يوم الأربعاء التّاسع والعشرين توفّي رحمه الله. وصلّي عليه في المسجد النّبويّ بعد صلاة العصر، ودفن في البقيع، وشهد جنازته خلق كثير من الحجّاج و غيرهم رحمه الله وغفر له.
وقد خلف بعده سبعة من البنين واثنتين من البنات أصلحهم الله جميعا وبارك فيهم.
وفي الختام أسأل الله عزّ وجلّ أن يغفر للشّيخ عمر وأن يعلي درجته، وأن لا يفتننا بعده، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(15/21)
عنوان الكتاب:
الشيخ محمد بن عثيمين من العلماء الربانيين
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الناشر:
مطبعة النرجس
الأولى، 1422هـ/2001م(16/1)
ص -3- ... الشيخ محمد بن عثيمين من العلماء الربانيين
محاضرة ألقاها: عبد المحسن بن حمد العبادر البدر
في الجامعة الإسلامية بالمدينة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له،ومَن يُضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وخليلُه وخيرتُه مِن خَلْقه،أرسله اللهُ تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً،وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فدلَّ أمَّتَه على كلِّ خير، وحذَّرها من كلِّ شرٍّ.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:(16/2)
ص -4- ... فإنِّي أتحدَّث إليكم أيُّها الإخوة هذه الليلة1 عن شيخٍ فاضلٍ من شيوخ المملكة العربيَّة السعودية، وعَلَمٍ من أعلامها بل عن عَلَمٍ من أعلام العالَم الإسلامي، له جهودٌ كبيرةٌ في العنايةِ بالعلمِ ونشرِه وبذلِه، وإفادةِ طلبة العلم، ألا وهو الشيخ العلاَّمة محمد بن صالِح بن عُثيمين رحمه الله وأسكنه فسيح جنَاته.
فأقول: إنَّ أعظمَ مصيبةِ موتٍ حصلت في الإسلام المصيبةُ بوفاة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمصائبُ العظمى بعد تلك المصيبة إنَّما هي بموت ورثتِه صلى الله عليه وسلم،وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لَم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنَّما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذ به، أخذ بحظٍّ وافر"، رواه أبو داود (3641) وغيرُه،وسنده حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه محاضرة أُلقيت في مسجد الجامعة الإسلامية بالمدينة ليلة الجمعة (24/10/1421هـ).(16/3)
ص -5- ... والشيخُ ابنُ عُثيمين ـ رحمه الله ـ قد أخذ من العلمِ بحظٍّ وافر، وبَذَل جهوداً عظيمةً في نشرِه، وإفادةِ طلاَّب العلم.
وكلامي عن هذا الشيخ الفاضل عن: نسبه، وولادته ونشأته، وشيوخه وتلاميذه، وبذلِه للعلم وقيامِه بالدَّعوة، ومؤلفاتِه،ومكانتِه عند الناس، ووفاتِه وعقِبِه، ووصايا ومقترحات.
أولاً: نسبه
هو محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أحمد بن مُقبل، من الوهَبة، من بنِي تميم،وجدُّه الرابع عثمان أُطلق عليه عُثيمين، واشتهرت هذه الأسرة بالنسبة إليه بهذا الإطلاق (عُثيمين مأخوذ من عثمان).
أفادنِي بهذا النسب ابنُ عمِّه الدكتور عبد الرحمن(16/4)
ص -6- ... ابن سليمان بن عُثيمين.
وانظر كتاب: "علماء نجد خلال ستة قرون" للشيخ عبد الله البسَّام (2/422).
ثانياً:ولادته ونشأته
وُلد في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1347هـ في مدينة عُنيزة، إحدى مدن القصيم، ونشأ نشأة صالِحة طيِّبة.
تعلَّم القراءةَ والكتابةَ في الكتَّاب، وتعلَّم القرآنَ على جدِّه لأمِّه عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ، فحفظ القرآن وتتلمذ على الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن ابن ناصر السَّعدي رحمه الله، ولَمَّا فُتح معهد الرياض العلمي استأذن شيخَه عبد الرحمن بن سعدي في الالتحاق به، فدرس فيه،وكانت مدَّةُ الدراسة في ذلك الوقت بعد الابتدائي وقبل الكلية أربعَ سنوات، ودخل في السنة الثانية، وكان في ذلك الوقت نظام القفز، وهو أنَّ مَن(16/5)
ص -7- ... يكون عنده استعدادٌ للتقدُّم في الدراسة، فإنَّه تُتاح له الفرصة في العطلة الصيفية أن يدرسَ مقرَّرات السنة التي بعد سنته التي انتهى منها، وإذا جاء الدور الثاني اختبر في مواد تلك السنة، فينتقل منها إلى السنة الأخرى، وكان ـ رحمة الله عليه ـ دَرَسَ في السنة الثانية، وفي الصيف درس مقرَّرات السنة الثالثة، وانتقل منها إلى السنة الرابعة،وبعد انتهائه منها فُتح المعهد العلمي بعُنيزة سنة 1374هـ، وصار يدرسُ على شيخه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ويقوم بالتدريس في معهد عُنيزة العلمي، وكان مع ذلك منتسباً إلى كليَّة الشريعة، يذهب إلى الرياض لأداء الاختبار في نهاية كلِّ سنة دراسية، حتى أنهى الدراسة في الكليَّة.
وبعد افتتاح كليَّة الشريعة وأصول الدِّين بالقصيم انتقل من التدريس في المعهد إليها، واستمرَّ في التدريس فيها إلى أن توفي رحمه الله.(16/6)
ص -8- ... ولَمَّا تُوفِّيَ شيخُه عبد الرحمن بن سعدي سنة 1376هـ تولَّى الإمامةَ والخطابةَ والتدريس في المسجد الجامع الكبير بعُنيزة، واستمرَّ على ذلك حتى توفَّاه الله.
ثالثاً:شيوخه وتلاميذه
أبرز شيوخه الذين درس عليهم: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي،درس عليه في المسجد الكبير بعُنيزة، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمهما الله، درس عليهما في معهد الرياض العلمي.
وأمَّا تلاميذه، فهم كثيرون، أخذوا عنه العلمَ في معهد عنيزة العلمي، وكلية الشريعة وأصول الدِّين بالقصيم، وفي المسجد الجامع الكبير بعُنيزة، فتدريسُه في المسجد الجامع الكبير مدَّتُه خمسٌ وأربعون سنة، وتدريسه في المعهد والكليَّة مدَّتُه سبعٌ وأربعون سنة،(16/7)
ص -9- ... فتلاميذه في هذه المُدَّة الطويلة كثيرون جدًّا.
وكان عددٌ كبير من الطلبة من داخل المملكة وخارجها يرتحِلون إليه لتلقِّي العلمَ عنه لا سيما في الصيف، حيث يكون له فيه دروسٌ كثيرة، في الصباح وبعد العصر وبعد المغرب، ولا ينقطع عن التدريس بعد المغرب في جميع أيَّام السنة.
وفي المسجد الجامع الكبير بعُنيزة مكتبة أسَّسها الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، وبعد وفاته واصل الشيخ محمد بن عُثيمين تزويدها بالكتب، ولَمَّا أعاد الملك خالد ـ رحمه الله ـ بناءَ المسجد الجامع الكبير بعُنيزة، بنى بجواره عمارةً جعلها وقفاً على الطلبة الذين يرتحلون إلى عُنيزة للدراسة على الشيخ ابن عُثيمين رحمه الله، ونُقلت المكتبة إلى تلك العمارة، فكانت هذه العمارة فيها سكن الطلاَّب والمكتبة.(16/8)
ص -10- ... رابعاً: بذلُه العلمَ وقيامُه بالدَّعوة
علمنا مِمَّا تقدَّم أنَّه بدأ بالتدريس في معهد عُنيزة عام 1374هـ،وأنَّه بدأ بالخطابة والإمامة والتدريس في المسجد الجامع الكبير عام 1376هـ،وأنَّه أخذ العلمَ عنه طلبةٌ كثيرون في معهد عُنيزة العلمي، وفي كليَّة الشريعة وأصول الدِّين بالقصيم، والمسجد الجامع الكبير بعُنيزة، ولَم يقتصر بذلُه للعلمِ وقيامُه بالدَّعوة على بلاده القصيم، بل كان يبذل العلمَ عن طريق التدريس، والمحاضرات في البلاد التي ينتقل إليها داخل المملكة، وكان يذهب إلى مكة في أوقات مختلفة، ويقوم بالتدريس في المسجد الحرام، لا سيما في شهر رمضان، وكان من عادته أن يذهب إليه بعد ما يمضي جزءٌ من رمضان فيُدرِّس في المسجد الحرام، ويلتفُّ حولَه عددٌ كبير من الطلبة الذين يحرصون على تلقِّي دروسِه والأخذ عنه، وكذا إذا حضر إلى المدينة لإلقاء محاضرات(16/9)
ص -11- ... أو لغير ذلك، فإنَّه يُدرِّس في المسجد النبوي، ويسرُّ الطلاَّبُ إذا علموا بقدومه إلى المدينة ليَحضُروا دروسَه، ويستفيدوا من علمه، وكنتُ من المدرِّسين في هذا المسجد، فكان الطلاَّبُ يطلبون منِّي أن أوقف الدرسَ ليَحضُروا دروسَه، فكنتُ أوقفُها ليتمكَّنوا من الاستفادةِ منه، وكنتُ أحضُرُ دروسَه معهم في بعض الأحيان.
ومن مجالات تعليمه ودعوته إلقاؤه المحاضرات في مختلف مدن المملكة، في المساجد والجامعات.
وقد ألقى محاضرات عديدة في الجامعة الإسلامية بالمدينة، في مسجدها، وفي قاعة المحاضرات، وفي أماكن الصلاة في كليَّاتها ومعاهدها.
وأذكر أنَّ من محاضراته التي ألقاها في الجامعة الإسلامية، محاضرة واسعة بعنوان: منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل، وكذا محاضرة بعنوان: آداب طلب العلم.(16/10)
ص -12- ... وكان يُلقي محاضرات عن طريق الهاتف في أوربا وأمريكا وغيرها.
ومن مجالات تعليمه ودعوته مشاركته في المؤتمرات في داخل المملكة، وقد عُقد في الجامعة الإسلامية ثلاثة مؤتمرات، مؤتمران في توجيه الدعوة وإعداد الدعاة، ومؤتمر في مكافحة المسكرات والمخدِّرات، وقد حضر هذه المؤتمرات وأفاد فيها في بحوثه ومناقشته.
ومن مجالات تعليمه ودعوته، مشاركته في توعية الحُجَّاج في مواسم الحج بالفتاوى، وإلقاء الدروس والمحاضرات، وقام بالإشراف على الدعاة لتوعية الحجاج في بعض السنوات لجنةٌ فيهم الشيخ رحمه الله، وكنتُ في هذه اللجنة، وكانت اللجنة تجتمع للنظر في شؤون توعية الحجاج، وكان الشيخ ـ رحمه الله ـ يُفيد اللجنة في رأيه وعلمه، وأذكرُ أنَّه عندما كُتب التقريرُ من(16/11)
ص -13- ... اللجنة قيل له: هل ترغب أخذ نسخة من التقرير؟ فقال: لا آخذ نسخة منه، حتى لا أحتاج إلى إحراقها؛ لأنَّه ـ رحمه الله ـ كان مشغولاً بالعلم والاحتفاظ بما يتعلَّق به.
ومن مجالات دعوته ونفع المسلمين قيامه بالفتاوى على ما يَرِدُ إليه من أسئلة من داخل المملكة وخارجها، سواء بالمراسلة أو المقابلة أو عن طريق الهاتف،وقد خصَّص وقتاً معيَّناً للإفتاء عن طريق الهاتف، وكان يُواظب على الإفتاء في هذا الوقت وهو في بلده عُنيزة، وإذا سافر جعل تسجيلاً على الهاتف يُرشد إلى رقمٍ في البلد الذي ينتقل إليه.
وأذكر أنَّه لَمَّا كان في لجنة توعية الحُجَّاج في مدينة الطائف لكتابة تقرير عن أعمال التوعية عام 1409هـ، وتخلَّف عن الاجتماع بعض الوقت، ذكر أنَّه تأخَّر للإجابة عن الأسئلة عن طريق الهاتف.(16/12)
ص -14- ... ومن مجالات تعليمه ودعوته مشاركته الكثيرة المفيدة في الإذاعة، فله برامج ثابتة في الإذاعة، هي: برنامج "نور على الدرب" ،وبرنامج "سؤال على الهاتف"، وبرنامج "من أحكام القرآن الكريم"، وله أحاديث في الإذاعة غير ثابتة في موضوعات متنوِّعة.
وبرنامج "من أحكام القرآن" مهمٌّ، عظيمُ الفائدة، يُعنى فيه بالتأمُّل في القرآن، واستخراج ما فيه من حِكَم وأحكام، وهو يدلُّ على مدى تَمكُّنه في الفهم والفقه في الدِّين، وقد وصل إلى قرب نهاية الجزء الثالث من القرآن الكريم، وقد قام الأخ الفاضل عبد الكريم بن صالح المقرن المذيع في إذاعة القرآن الكريم باستخراج ما يتعلَّق بالجزء الأول من القرآن من الأشرطة، وطُبع في مجلد، وهو مفيدٌ لا يستغنِي عنه طلبة العلم، وعسى اللهُ أن يُيَسِّر استخراج وطباعة ما يتعلَّق بالجزأين الباقيين ليَعُمَّ النفع بهما.(16/13)
ص -15- ... والحاصل أنَّ مجالات تعليمه ودعوته تتلخَّص فيما يلي:
1 ـ التدريس في معهد عُنيزة العلمي،ثمَّ في كليَّة الدعوة وأصول الدِّين في القصيم، ابتداء من عام 1374هـ.
2 ـ التدريس في الجامع الكبير في عنيزة، ابتداءً من عام 1376هـ.
3 ـ الخطابة والإمامة في المسجد الكبير بعنيزة ابتداء من عام 1376هـ.
4 ـ التدريس في المسجد الحرام والمسجد النبوي.
5 ـ المحاضرات التي يُلقيها في المساجد والجامعات في مدن المملكة، والمحاضرات التي يُلقيها عبر الهاتف في أوربا وأمريكا وغيرها.
6 ـ مشاركته في بعض المؤتمرات التي عُقدت في المملكة.(16/14)
ص -16- ... 7 ـ الفتاوى عن طريق المقابلة والمراسلة والهاتف.
8 ـ مشاركته في توعية الحجاج في مواسم الحج.
9 ـ برامج وأحاديث في الإذاعة.
خامساً:مؤلَّفاته
للشيخ مؤلفاتٌ كثيرة، وغالبها رسائل صغيرة، لكنَّها عظيمةُ النفع، كبيرةُ الفائدة، تنقسم إلى قسمين:
قسمٌ حرَّره بنفسه، وأخرجه بعد تحريره.
وقسمٌ لَم يُحرِّره، ولكن استُخرِج من أشرطة دروسه وطُبع.
ومِمَّا حرَّره:
ـ القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى.
ـ عقيدة أهل السنة والجماعة.
ـ شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرَّشاد.
ـ أحكام الأضحية والذكاة.(16/15)
ص -17- ... ـ فتح ربِّ البَريَّة بتلخيص الحموية.
ومِمَّا استُخرج من الأشرطة وطُبع بعضُه:
ـ الشرح الممتع على زاد المستقنع.
وقد بلغت آثاره العلمية التي ذكرها تلميذه الشيخ وليد الحسين في مقاله عن الشيخ المنشور في العدد الثاني من مجلة الحكمة الصادر في 1/9/1414هـ خمسة وخمسين أثراً.
وله رسائل في أصول الفقه والمصطلح والعقيدة مقرَّرة في المعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية.
سادساً:مكانته عند الناس
للشيخ ـ رحمه الله ـ مكانةٌ مرموقةٌ ومنزلةٌ رفيعةٌ، فقد رُزق القبول، وأحبَّه الناسُ، وحرصوا على سماع دروسه وفتاواه، واقتناء آثاره العلمية، وأشرطة دروسه(16/16)
ص -18- ... ومحاضراته، وهو عالٍمٌ كبيرٌ، وفقيهٌ متمكِّن، وهو محلُّ التوقير والإجلال من الولاة والعلماء وطلبة العلم.
وكان من تقدير الولاة في هذه البلاد له أنَّهم عندما يزورون القصيم يزورونه في منزله، فقد زاره الملك خالد، والملك فهد، والأمير عبد الله، والأمير سلطان، وهو أهل للتوقير والاحترام.
وهو مع ذلك من أشدِّ الناس تواضعاً، ومحبَّةً للخير، ونفعاً للناس، وإشفاقاً على الطلبة،وحرصاً على إفادتهم، وتحصيلهم العلم،وجمعهم بين العلم والعمل.
سابعاً:وفاته وعَقِبه
أُصيب ـ رحمه الله ـ بمرض عُضال، فسافر إلى أمريكا للعلاج أيَّاماً قليلة، وهي سفرتُه الوحيدة خارج المملكة، فاستغلَّ فرصة وجوده فيها في الدعوة إلى الله، وألقى خطبة الجمعة هناك، وعند رجوعه دخل المستشفى التخصُّصي بالرياض، واشتدَّ به المرض، وبعدما مضى(16/17)
ص -19- ... جزءٌ من شهر رمضان رغب أن ينتقل إلى مكة للتدريس في المسجد الحرام على عادته في السنوات الماضية، وهُيِّئت له غرفة خاصَّة في المسجد، فكان يُلقي الدروسَ وهو على فراشه بواسطة مكبِّرات الصوت، فيسمع الناسُ صوتَه المتأثر بالمرض ولا يرون شخصَه.
ونُقل بعد انتهاء رمضان إلى مستشفى في جدة، وتوفي هناك مساء يوم الأربعاء، الخامس عشر من شهر شوال عام 1421هـ، وصُلِّي عليه في المسجد الحرام عقِب صلاة العصر من يوم الخميس، ودُفن في مقبرة العدل بمكة، وشهد الصلاةَ عليه وتشييع جنازته خلقٌ كثير رحمه الله، وكنتُ مِمَّن شهد الصلاةَ عليه وتشييعه، ورأيتُ كثرة الناس في الصلاة عليه وعند المقبرة.
وقد تأثَّر الكثيرون لوفاته، وحزنوا عليه لِما له من المكانة العلمية، ولِما فيه من النفع العظيم للإسلام(16/18)
ص -20- ... والمسلمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنُه إبراهيم: "إنَّ العينَ تدمع، والقلبَ يحزن، ولا نقول إلاَّ ما يُرضي ربَّنا،و إنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، رواه البخاري (1303)، واللفظ له،ومسلم (2315)، فرحمه الله وغفر له، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
وكانت وفاته ـ رحمه الله ـ من أعظم المصائب التي حلَّت بالمسلمين في هذا العام، وفي العام الذي قبله 1420هـ أُصيب المسلمون بوفاة شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في صباح يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم سنة 1420هـ، ووفاة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله،مساء السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1420هـ،ونسأل اللهَ عزَّ وجلَّ أن يغفرَ للجميع، وأن يُوفِّق طلبةَ العلم للاستفادة من علم العلماء المحقِّقين الذين مضوا، ومنهم هؤلاء الثلاثة، والاستفادة من علم العلماء(16/19)