أما الإسلام الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون فهو من حيث التوحيد والعقيدة كالإسلام الذي بُعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد في أصوله وأكثر فروع الاعتقاد والتوحيد. وأما من حيث الشريعة فإنه يختلف؛ فإن شريعة الإسلام غير شريعة اليهودية، غير شريعة عيسى عليه السلام، غير شريعة موسى إلى آخر الشرائع. وقد جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأنبياء أخوة لعلات الدين واحد والشرائع شتى».
فقوله هنا عليه الصلاة والسلام (بُنِيَ الإسْلامُ) يعني الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، فلا يتصور من هذا أنّه يعم ما كان عليه الأنبياء من قبل، فالأنبياء ليس عندهم هذه الشريعة؛ من جهة إقام الصلاة على هذا النحو، أو إيتاء الزكاة على هذا النحو، أو صيام رمضان إلخ، فهذا بقيوده مما اُختصت به هذه الأمة.
قال (عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله)
صدق الله العظيم ويجوز في (شَهَادَةِِ) ونظائرها أن تكون مجرورةً على أنها بَدَل بعض من كل، يعني تقول: (عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ) فخمس شُمول، وشهادة بعض ذلك الشمول، فتكون بدل بعض من كل.
صدق الله العظيم ويجوز أن تستأنفها، فتقول: (عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله) على القطع كما قال جل وعلا { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } [النحل:76] (رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا).
وهذا شائع كثير، وإذا ذكرت نظائرها فيجوز فيها الوجهان: الجرّ على البدلية، والرفع على القطع والاستئناف.(48/4)
(شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله) الشهادة مأخوذة مِنْ: شَهِدَ، يَشْهَدُ، شُهُودًا، وشَهادَةً، إذا علِم ذلك بقلبه فأخبر به بلسانه وأعلَمَ به غيْرَه، ولا تكون شهادة حتى يجتمع فيها هذه الثلاث: أن يعتقد ويعلم بقلبه، وأن يتلفظ؛ يقول بلسانه، مُعْلِمًا بها الغيْر، طبعاً إذا لم يكن ثمة عذر شرعي عن الإعلام؛ إعلام الغير كالإكراه أو اختفاء أو ما أشبه ذلك مما تجوز فيه التَّقِيَّة.
فإذًا قوله (شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله) يعني العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والنطق بذلك، والإعلام به. وكلّ شهادة هي بهذا المعنى، والشاهد عند القاضي لا يُسمّى شاهداً حتى يكون علِم ثم نطق؛ تكلم بذلك فأعلَمَ به القاضي؛ سمي شاهداً لأجل ذلك. وقد يُتوسع فيقال في المعاني إنها شواهد؛ لأجل تنزيلها في النهاية منزلة الشهادة الأصلية.
(شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله)، (أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله):
صدق الله العظيم (أنْ) هذه هي التفسيرية، وضابطها أنها تأتي بعد كلمة فيها معنى القول دون حروف القول. وقد يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة أيضا، يعني شهادة أنّه لا إله إلا الله.
صدق الله العظيم (لاَ إلَهَ إِلَا الله) هي كلمة التوحيد، و(لاَ إلَهَ) نفي، و(إِلَا الله) إثبات، والمنفي استحقاق أحد العبادة؛ لأن الإله هو المألوه؛ هو المعبود، و(إِلَا الله) هذا إثبات، يعني إثبات استحقاق العبادة لله جل وعلا دونما سواه، ونفي هذا الاستحقاق عما سواه.(48/5)
فإذا قلنا: كلمة التوحيد نفي وإثبات. فهذا معناه أنها تنفي استحقاق العبادة عما سوى الله، وتثبت استحقاق العبادة في الله جل وعلا وحده. فمن شهد أن لا إله إلا الله يكون اعتقد وأخبر بأنه لا أحد يستحق شيئا من أنواع العبادة إلا الله وحده لا شريك له. وفي ضمن ذلك أن مَن توجّه بالعبادة إلى غيره فهو ظالم متعدٍّ باغٍ على ذلك على حق الله جل جلاله.
(وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله) يعني أن يعتقد ويخبر ويعلن بأن محمداً -وهو محمد بن عبد الله القُرَشِي المكّي- أنّه رسول من عند الله حق، وأنه نزَل عليه الوحي؛ فأخبره بما تكلم الله جل وعلا به، وأنّه إنّما يبلِّغ عن الله جل وعلا وهذا واضح من كلمة رسول فإن الرسول مبلِّغ. الرسل البشريون مبلغون من لفظ الرسالة، كما أن الملائكة رسل من لفظ الملائكة، فالرسول يأخذ من الله جل وعلا ويبلِّغ الناس ما أخذه عن الله جل وعلا.([8]) ومعلوم أن الرسل من البشر لم يجعل الله لهم -عليهم الصلاة والسلام- لم يجعل الله لهم خاصيةَ أن يأخذوا الوحي منه مباشرة، وأن يسمعوا الكلام منه، يعني في عامة الوحي، وقد يسمعون بما أذِنَ الله جل وعلا لهم في بعض الرسل.
فالمَلَك رسول، فيلقي الخبر على هذا الرسول، فاعتقاداً أن محمدا رسول الله؛ اعتقاد أنه مُبَلَّغٌ ومُبَلِّغٌ، هو رسول من الله جل وعلا لم يلكمه الله جل وعلا بكلِّ الوحي مباشرة، وإنما أوحى إليه عن طريق جبريل عليه السلام، واعتقاد أيضاً أنه خاتم المرسلين؛ (وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله) يعني أنّه خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام.
وهذا معنى الشهادة من اعتقاد أنه موحَى إليه من الله، وأنه رسول حق، وأنه خاتم الرسل، تمت له هذه الشهادة. وهذه الشهادة بأن محمد رسول الله لها مقتضى، وهذا المقتضى هو طاعته عليه الصلاة والسلام فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(48/6)
قال (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) التعبير عن الصلاة بلفظ (إِقَامِ الصَّلَاةِ) هذا لأجل مجيئها في القرآن هكذا { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } [الإسراء:78]، { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ([9]), { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } ([10]) ونحو ذلك من الآيات. ففي القرآن أنّ الصلاة تُقام، ومعنى كونها تقام يعني أنْ تكون على صفة تكون قائمة بإيمان العبد، وهذا هو معنى قول الله جل وعلا { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر } [العنكبوت:45]، فمن لم يُقم الصلاة لم تَنْهَهُ الصلاة عن الفحشاء والمُنكر.
(وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أيضاً لفظ الإيتاء المقصود به أو قيل فيه: إيتاء؛ لأجل مجيئه في القرآن.
(وَحَجِ الْبَيْتِ) كذلك.
و(وَصَوْمِ َرمَضَانَ) كذلك.
يعني اختيرت هذه الألفاظ، بلَّغها النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا لموافقتها لما جاء في القرآن فيها، فلو قيل في الزكاة: إعطاء الزكاة لجاز، ولو قيل في الصلاة: تأْدِيَة الصلاة جاز ذلك، ولكن إتباع ما جاء في القرآن أولى في هذا الأمر. هذا من جهة ألفاظ الحديث.
هذا الحديث دلّ على أن هذه الخمسَ أركانٌ، وقد ذكرتُ لك البارحة أن التعبير عن هذه الخمس بالأركان إنما هو مصطلح حادث عند الفقهاء؛ لأنهم عرَّفوا الركن بأنّه ما تقوم عليه ماهية الشيء، وأنّ الشيء لا يُتصور أن يقوم بلا ركنه. فمثلاً يقولون: البيع أركانه ما تقوم عليه ماهية البيع. لا يمكن أن تتصور بيعاً موجوداً إلا أن يكون هناك بائع ومشتري وهناك سلعة تُباع وتُشترى، يعني سلعة يقوم عليها ذلك، وهناك صيغة يعني واحد يقول: خذ وهات، أو بِعْتُ، والثاني يقول: اشتريتُ، أو ما أشبه ذلك.(48/7)
فإذًا الأركان كيف نستنتجها؟ ما تقوم عليها حقيقة الشيء، تتصور شيئا، كيف يوجد؟ دعائمُ وجوده هي الأركان. النكاح مثلاً؛ أركان النكاح ما هي؟ ما يقوم عليها النكاح، ما يُتصور أن يوجد نكاح إلا بزوجين -أليس كذلك؟- وبصيغة. زوج يعني رجل وامرأة، وصيغة. هذا حقيقته يعني من حيث هو. يأتي هناك أشياء شرعية لتصحيح هذه الأركان، يقال: يُشترط في الزوج المواصفات كذا وكذا، يشترط في المرأة أن يعقد لها وليّها، يشترط في الصيغة أن تكون كذا وكذا إلى آخره، فغيرُها تكون شروطاً.
فإذًا الركن عندهم ما تقوم عليه ماهية الشيء أو حقيقة الشيء، فهذه الخمس سميت أركانا، أو قيل عنها أركان الإسلام. وهذه التسمية يُشكِل عليها -أو هذا الإطلاق على أنها أركان الإسلام- يُشكل عليها أن أهل السُّنة قالوا: إنّ من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأدّى الصلاة المفروضة، وترك بقية الأركان تهاوناً وكسلاً، فإنّه يطلق عليه لفظ المسلم، ولا يُسلب عنه اسم الإسلام بتركه ثلاثة أركان تهاوناً وكسلاً، وهذا متّفق مع قولهم في الإيمان: الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويعنون بالعمل جنس العمل، ويمثِّلُه في أركان الإسلام الصلاة.
فإذًا نقول مرادهم بهذا ما دلّت عليه الأدلة الشرعية، ودلت عليه قواعد أهل السنة مِنْ أنّ هذه الأركان ليس معنى كونها أركاناً أنه إن فُقد منها ركن لم تقم حقيقة الإسلام، كما أنه إذا فُقد من البيع ركن لم تقم حقيقة البيع، لا يُتصور أن هناك بيع بلا بائع، أليس كذلك؟ ولا نكاح بلا زوج، أما الإسلام فيتصور أن يوجد الإسلام شرعاً بلا أداء للحج، يعني لو تُرك الحج تهاوناً؛ فإنه يقال عنه مسلم، أو ترك تأدية الزكاة تهاوناً لا جحدًا؛ فإنّه يقال عنه مسلم، وهكذا في صيام رمضان.
الصلاة اختلفوا فيها؛ اختلف فيها أهل السنة: هل ترْكُ الصلاة تهاوناً وكسلاً يسلُب عنه اسم الإسلام أم لا؟(48/8)
¨ فقالت طائفة من أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً لا يسلب عن المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لا يسلب عنه اسم الإسلام، وإنما يكون على كبيرة، وهو في كفر أصغر. وهذا قول طائفة قليلة من علماء أهل السنة.
¨ وقال جمهور أهل السنة: إنَّ تَرْكَ الصلاة تهاوناً وكسلاً كُفْرٌ، وأنّه مَن ترَكَ الصلاة فليس له إسلام، يعني ولو أتى بتأدية الزكاة وصيام رمضان والحج، وهذا هو الصحيح لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك. والصحابة أجمعوا على أن الأعمال جميعاً المأمور بها تركُها ليس بكفر إلا الصلاة، كما قال شقيق بن عبد الله فيما رواه الترمذي وغيره: «كانوا -يعني الصحابة- لا يرون من الأعمال شيئا تركُه كُفر([11])».
والصلاة يُجمع على أنّ تركَها كفر، وهو الذي دل عليه قول الله جل وعلا { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } [المدثر:42-43] الآيات، وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم: «بين الرجل وبين الشرك أو قال: الكفر ترك الصلاة» وفي السنن الأربعة وفى المُسنَد وفي غيرها بإسناد صحيح من حديث بريده - رضي الله عنه - مرفوعا: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» وقوله عليه الصلاة والسلام «بين الرجل وبين الشرك أو قال الكفر ترك الصلاة» دلّنا على أن ترك الصلاة كفرٌ أكبر.
وذلك أن القاعدة أن لفظ الكفر إذا جاء في النصوص فإنه يأتي على وجهين: الوجه الأول يأتي مُعرَّفًا. والوجه الثاني يأتي منكَّراً بلا تعريف.
صدق الله العظيم فإذا أتى منكَّراً فإنه يكون معناه الكفر الأصغر.
صدق الله العظيم وإذا أتى معرَّفا فتكون (الـ) فيه إما للعهد؛ عهد الكفر الأكبر، العهد الشرعي في ذلك. وإما أن تكون للاستغراق؛ يعني استغراق أنواع الكفر.(48/9)
مثلاً في الكفر المنكَّر قال عليه الصلاة والسلام «ثِنْتَانِ فِي النّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطّعْنُ فِي النّسَبِ وَالنّيَاحَةُ عَلَى الْمَيّتِ »، «ثنتان في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن» هذا حديث آخر. قال أيضاً عليه الصلاة والسلام: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض» وأشباه ذلك مِن ذكر كلمة الكفر مُنَكَّرَة (كفر).
فإذا قيل في الكفر: كُفْرٌ، فهذا الأصل فيه أنه كفر أصغر؛ لأن الشارع جعله منكراً في الإثبات، وإذا كان منكرا في الإثبات فإنه لا يعم كما هو معلوم في قواعد الأصول، أما إذا أتى معرَّفاً فإن المقصود به الكفر الأكبر.
فإذن نقول الصحيح أنَّ ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً كفر أكبر، لكن كفره باطن وليس كفره ظاهرا، وليس بباطن وظاهر جميعاً حتى يثبت عند القاضي؛ لأنه قد يكون له شبهة من خلاف أو فهم أو نحو ذلك. ولهذا لا يحكم بردة من ترك الصلاة بمجرد تركه، وإنما يُطلق على الجنس أنّ مَن ترك الصلاة فهو كافر الكفر الأكبر، وأما المعيَّن فإنّ الحكم عليه بالكفر وتنزيل أحكام الكفر كلها عليه هذا لا بد فيه من حكم قاضٍ يدرأ عنه الشبهة ويستتيبه حتى يؤدي ذلك، وهذا هو المعتمد عند جمهور أهل السنة كما ذكرت لك.(48/10)
وغير الصلاة الأمر على عكس ما ذكرتُ، جمهور أهل السنة على أن مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً أو من ترك الصيام أو من ترك الحج فإنه لا يكفر بتركها تهاوناً وكسلاً؛ لأنه ما دلّ الدليل على ذلك وقالت طائفة من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم: إن من ترك بعض هذه أنه كافر على خلاف بينهم في هذا. عمر - رضي الله عنه - ظاهر قوله: أن ترك الحج مع القدرة عليه ووجود الاستطاعة المالية والبدنية أنه كفر، حيث قال لعمّاله في الأمصار: أن يكتبوا له مَن وجد سعة من المسلمين ثم لم يحجوا أن تضرب عليهم الجزية، قال: ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. وكَفَّر أيضاً بعض الصحابة كابن مسعود مَن ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وهذا خلاف ما عليه الجمهور جمهور الصحابة ومن بعدهم في أن من تركها بلا امتناع وإنما ترك الزكاة أو ترك الصيام أو ترك الحج تهاوناً منه أنّه لا يُكفَّر، ومنهم من قال بكفره يعني على عكس مسألة الصلاة.
فنقول إذن مسألة الصلاة الجمهور جمهور أهل السنة على تكفير من تركها تهاوناً وكسلاً، وهناك من أهل السنة من لم يكفِّر من تركها تهاوناً وكسلاً، وبقية الثلاثة الأركان العملية جمهور أهل السنة على أنه لا يكفر وهناك من كفَّره.
هذه الأركان منقسمة إلى ثلاثة أقسام، وخُصّت بالذكر لعظم مقامها في هذه الشريعة وعظم أثرها على العبد.
فالشهادتان نصيب القلب والإيمان، فبهما يتحقق الإيمان الذي هو أصل الاعتقاد والعمل.
والصلاة عبادة بدنية محضة.
والزكاة عبادة مالية محضة.
والحج مركب من العبادة المالية والعبادة البدنية.
وصوم رمضان عبادة بدنية محضة.(48/11)
لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم إنه جاء في هذه الرواية تقديم الحج على الصوم فقال: (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ َرمَضَانَ) وصوم رمضان في بقية الروايات قدم على الحج فقال: «وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً». وسبب تقديم الحج على الصيام أن الأمر على ما ذكرت لك من أنّ الصوم من حيث جنسُ دلالته مُمَثَّلٌ في الصلاة، فالصلاة حق البدن المحض يعني عبادة وجبت وتعلقت بالبدن محضة، والزكاة عبادة تعلقت بالمال محضة، والحج عبادة تركبت من المال والبدن فصارت قسماً ثالثاً مستقلاً، وأما الصوم فهو من حيث هذا الاعتبار مكرر للصلاة، وعلى هذا الفهم بنى البخاري رحمه الله تعالى صحيحه فجعل كتاب الحجّ مقدما على كتاب الصوم؛ لأجل أن الحج عبادة مركبة من المال والبدن؛ فهي جنس من حيث هذا الاعتبار جديد، والصيام جنس سبق مثله وهو إقام الصلاة.(48/12)
الحديث الرابع -
عن أبي عبدِ الرحمن عبدِ الله بنِ مسعودٍٍِ - رضي الله عنه - قال: حَدَّثَنََا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الصدوق «إن أَحدكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فيِ بَطْنِ أُمِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمََا نُطْفَةًََ، ثُمَّ يَكُونُ علقةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِِكَ، ثُمَ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَ يُؤْمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلُهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فوالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ؛ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بَعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْنَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بَعَمَلِ أَهْلِ الْنَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا»[رواه البخاري و مسلم]
[الشرح]
هذا الحديث هو الرابع من هذه الأحاديث المباركة، وهو حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، فيه ذكر القدَر، وذكر جمع الخلق في رحم الأم.
وهذا الحديث أصل في باب القدر والعناية بذلك، والخوف من السوابق، والخوف من الخواتيم، وكما قيل قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون ماذا يُختم لنا؟، وقلوب السابقين أو المقربين معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا؟.
وهذا وهو الإيمان بالقدر والخوف من الكتاب السابق والخوف من الخاتمة، هذا من آثار الإيمان بالقدر خيره وشره، فإنّ هذا الحديث دل على أنّ هناك تقديرًا عُمْريًا لكل إنسان، وهذا التقدير العُمْري يكتُبه المَلك بأمر الله جل وعلا كما جاء في هذا الحديث.(49/1)
إذًا هذا الحديث مَسُوقٌ لبيان التقدير العُمْري لكل إنسان؛ وليَخاف المرء السوابق والخواتيم؛ وليؤمن بأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، والسوابق في عمل العبد والخواتيم متصلة كما قيل: الخواتيم ميراث السوابق. فالخاتمة ترثُها لأجل السوابق، فما من خاتمة إلا وسببُها -بلطف الله جل وعلا ورحمته، أو بعدله وحكمته- سوابق المرء في عمله، وهي جميعاً متعلقة بسوابق القدر.
هذا الحديث قال فيه ابن مسعود - رضي الله عنه - (حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق)، قوله(حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هذا فيه استعمال لفظ التحديث من ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو أحد ألفاظ التَّحَمُّل المعروفة عند المحدثين؛ ولهذا استعملها العلماء كثيراً في صيغ التحديث، واستعملوا أيضاً لفظ أخبرنا، وقد رواه الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالمحدثون اختاروا من ألفاظ التحمّل (حدثنا) وهي أعلاها؛ لأجل قول الصحابة حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحديث مثال لذلك، واختاروا (أخبرنا) أيضاً لقول الصحابة أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أخبرني النبي - صلى الله عليه وسلم - بكذا، وزادوا عليها ألفاظاً من ألفاظ التحمّل.(49/2)
قوله (وهو الصادق المصدوق)، (هو الصّادق) يعني الذي يأتي بالصدق، والصّدق حقيقته الإخبار بما هو موافق للواقع، والكذب ضده؛ وهو الإخبار بما يخالف الواقع، و(المصدوق) هو المصدَّق يعني الذي لا يقول شيئاً إلا صُدِّقَ. وقول ابن مسعود هنا (وهو الصادق المصدوق) هذه تهيئة، هذه فيها أدب للمعلم أنْ يهيئ العلم لمن يعلمه ومن يخبره بالعلم؛ لأنّ هذا الحديث فيه شيء غيبي لا يُدرَك لا بالحس ولا بالتجربة، وإنما يُدرك بالتسليم والعلم بالخبر لصدق المخبِرِ به عليه الصلاة والسلام ففيه ذكر تنوّع الحَمْل. ومعلوم أن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يعلمون، وكذلك الناس في ذلك الزمان لم يكونوا يعلمون تطور هذه المراحل بعلم تجريبي، أو برؤية أو نحو ذلك، وإنما هو الخبر الذي يصدقونه، فكانوا علماء لا بالتجريب وإنما بخبر الوحي على النبي صلوات الله وسلامه. قال (وهو الصادق المصدوق) يعني الذي لا يخبر بشيء على خلاف الواقع، وهو الذي إذا أخبر بشيء صُدِّق مهما كان، وهذا من جراء التسليم له عليه الصلاة والسلام بالرسالة.
قال (إن أَحدكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فيِ بَطْنِ أُمِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمََا نُطْفَةًََ) لفظ (يُجْمَعُ) كأنّه كان قبل ذلك متفرقاً فجُمع نطفة، والنطفة معروفة، وهي ماء الرجل وماء المرأة، أو ما شابه ذلك قبل أن يتحول إلى دم، والعلقة قطعة الدم التي تعلق بالشيء وهي تعلق بالرحم، والمضغة هي قطعة اللحم.(49/3)
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - هنا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثهم (إنَّ أَحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فيِ بَطْنِ أُمِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمََا نُطْفَةًََ) يعني أنه يكون ماءً لمدة أربعين يوماً لا يتحول إلى دم هذه المدة؛ يعني من بداية وضع النطفة في الرحم تستمر أربعين يوماً على هذا النحو. وهل يعني استمرارها هذه المدة أنها في هذه المدة لا يكون فيها أي نوع من التصوير أو الخلق أو نحو ذلك؟ لا يدل هذا الحديث على ذلك وإنما يدل على أن هذه المدة تكون نطفة، أما مسألة التصوير، ومتى تكون فهذه لم يُعرض لها في هذا الحديث، وإنما في أحاديث أُخَر.
قال (ثُمَّ يَكُونَ علقةً مِثْلَ ذَلِكَ) يعني يكون دماً متجمداً في رحم الأم أربعين يوماً أخرى.
قال (ثُمَّ يَكُونَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِِكَ) يعني يتحول إلى مضغة، وهي قطعة اللحم أيضاً أربعين يوماً أخرى، وهذه؛ تحوُّل من الدم إلى اللحم إلى آخره قال فيها عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ يَكُون)وكلمة (ثُمَّ) هذه تفيد التراخي والتراخي كما هو معلوم في كل شيء بحسَبِه.(49/4)
والتصوير يكون في أثناء هذه المدة، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا بلغت النطفة ثِنْتَينِ وَأَرْبَعينَ لَيْلَةً أُرسل إليها الملك، فيأمره الله جل وعلا بتصويرها، ثم يقول: أي ربي، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَىَ؟ فيأمُرُ الله مَا شَاءَ. وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمّ يَقُولُ: أي ربي، شقي أم سعيد؟ فيقول الله أو يأمر الله بمَا شَاءَ ثُمّ يَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمّ يَقُولُ: أي ربي، رِزْقُهُ؟ فيقول الله مَا شَاءَ. ثُمّ يَكْتُبُ الْمَلَكُ». فهذا يدل على أن التصوير سابق لتمام هذه المدة، وأن التصوير يكون بعد ثنتين وأربعين ليلة، وقد قال جل وعلا { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الإنفطار:8] وهذا التصوير معناه التخطيط، فإنّ هناك ثلاثة ألفاظ، ألفاظ التكوين: تكوين المخلوق وهي التصوير، والخلق، والبَرْء { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } [الحشر:24].
فالمصور معناه: الذي يجعل الشيء على هيئة صورة مخططة.
والخلق؛ خلق الشيء؛ خلق الجنين: أن يجعل لها مقاديرها من الأطراف والأعضاء ونحو ذلك.
والبرء: أن تتم وتكون تامّة، يعني: أن يبرأ ما سبق.(49/5)
وهذا في الجنين واضح، فإن الجنين يصور أولاً قبل أن تخلق له الأعضاء، فلو رُئي الجنين، بعض الأجنة إذا سقط في تسعين يوماً أو في أكثر من ثمانين يوماً ونُظر إليه إذا أسقطته الأم ونظر إليه وُجد أنه كلوحة عليها خطوط، يعني العين مرسومة رسمًا { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون:14]، وتجد أنه كالتخطيط في شيء شفاف، وهذا لم تتكون الأعضاء، وإنما هذا التصوير، وهذا كما جاء في حديث حذيفة يفعله الملَك بأمر الله جل جلاله، والملائكة موكلون بما يريد الله جل وعلا منهم كما قال سبحانه { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [السجدة:11]، فالملائكة موكلون بما شاء الله جل وعلا أن يفعلوه { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6].(49/6)
نستفيد أيضاً من هذا أن في هذه المدة يُكتب هل هو ذكر أم أنثى؟ كما جاء في حديث حذيفة الذي ذكرت لك في مسلم أنه بعد الثنتين والأربعين ليلة يسأل الملَك فيقول «أي ربي، ذكر أم أنثى؟ فيقول الله جل وعلا أو يأمر الله جل وعلا بما شاء فيكتب الملك». قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه بذلك -يعني بعد الثنتين والأربعين- يخرج علم نوع الجنين من كونه ذكرا أو أنثى عن اختصاص الله جل وعلا به؛ لأنّ الله جل وعلا اختص بخمسة من علم الغيب؛ اختص بخمسة لا يعلمها إلا الله، ومنها أنه جل وعلا { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } [لقمان:34]، وما في الأرحام كثيرة ما في الأرحام يشمل مَن في الرحم، ويشمل ما في الرحم { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد:8]، وهذا العلم الشّمولي بتطور الجنين في رحم أمه لحظة بلحظة لا أحد يعلمها إلا الله جل جلاله. أما العلم بكون الجنين ذكرا أم أنثى فهذا من اختصاص علم الله جل وعلا قبل الثنتين وأربعين ليلة، فإذا أعْلَم الملَك بذلك دلّ الحديث على خروجه عن العلم الذي لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ولهذا في بعض الأعصر المتقدمة كان بعض أهل التجريب -كما ذكر ذلك ابن العربي في تفسيره ”أحكام القرآن“- بعض أهل التجريب كان ينظر إلى رحم المرأة ينظر إلى المرأة الحامل، ويقول في بطنها ذكر أم أنثى، يعني إذا عظُم بطنها. وذكر العلماء أن هذا ليس فيه ادعاء علم الغيب؛ لأن الاختصاص فيما قبل ذلك، منهم من يقيِّد الاختصاص بما قبل نفخ الروح، فيهم وهو الصحيح أن يقيد الاختصاص بما قبل ثنتين وأربعين ليلة كما دل عليه الحديث الصحيح الذي ذكرتُ لك.(49/7)
وفي الزمن هذا يُعرف أيضاً هل هو ذكر أم أنثى بالوسائل الحديثة، وليس في هذا ادعاء علم الغيب؛ لأنهم لا يعلمونه قطعاً ولا يستطيعون أنْ يعلموه إلا بعد هذه المدة التي ذكرنا، وأما قبلها فإنها من اختصاص علم الله جل وعلا مع أنهم لا يعلمونها إلا بعد أن تنفصل؛ أو تتميز آلة الذكر من آلة الأنثى، يعني فرْج الذكر من فرْج الأنثى وهذا يكون بعد مدة.
قال عليه الصلاة والسلام هنا (يَكُونَ علقةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِِكَ) وهذه مائة وعشرون يوماً، يعني أربعة أشهر.
قال (ثُمَ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ) هذا ملك آخر، ملَك موكَّل بنفخ الروح أو هو الملك الأول ولكن هذا إرسال آخر.
قال (فَيَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَ يُؤْمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلُهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ).
هنا نظر العلماء في ذلك فقالوا هذا الحديث يدل على أن نفخ الروح لا يكون إلاّ بعد أربعة أشهر، وعلى هذا بنى الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم قولهم: إن الجنين إذا سقط لأربعة أشهر غُسِّل وصُلِّي عليه؛ لأنه قد نفخ فيه الروح بدلالة هذا الحديث، وأحاديث أُخَر دلّت على أنه يُكتب رزقُه وأجله -كما ذكرنا- وشقي أو سعيد قبل ذلك. فكيف نوفق ما بين الأحاديث التي فيها ذكر الكتابة قبل هذه المدة، وذكر الكتابة بعد تمام المائة وعشرين يوماً أي بعد تمام الأربعة أشهر؟(49/8)
للعلماء أقوال في ذلك وأظهرها عندي أنّ هذا الذي جاء في هذا الحديث على وجه التقديم والتأخير، وذلك أنّ إدخال الكتابة في أثناء ذكر تدرّج الحمل هذا من حيث اللغة غير مناسب، بل المراد أولاً أن يُذكر التدرج، ثم بعد ذلك ذُكر نفخ الروح؛ لتعلقه بما قبله، وأما الكتابة فإنها وإن كانت في أثناء تلك المائة وعشرين يوماً فأُخّرت لأجل أنه لا يناسب إدخالها لترتيب تلك الأطوار بعض}ها على بعض. يعني أن اللغة يقتضي حُسْنُها أن لا تدخل الكتابة بين هذه الأطوار فالمقصود هنا ذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، فذِكر الكتابة في أثنائها يقطع الوصل، وهذا له نظائر في اللغة، ومنه قول الله جل وعلا في سورة السجدة { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ(7)ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8)ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ } [السجدة:89] الآية، فهنا كان الترتيب { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ(7)ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ?[السجدة:89] مع أن النسل هذا ليس لآدم هنا، يعني نفخ الروح سبق وجود النسل، بدأ خلق الإنسان من طين ثم نُفِخَتِ الروح ثم جُعل النسل من ماء مهين، فهنا أخَّر نفخ الروح مع أنه بينهما؛ لأجل أن يتناسب الماء مع الماء أوالطين مع الماء، قال (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ(7)ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)، وبهذا تتفق الأحاديث ولا يحسن في مثل هذه المجالس المختصرة أن نعرض اختلاف الروايات في هذا وكثرة الاعتراضات أو الإشكالات فيها؛ لكن هذا هو أولى الأقوال في هذه المسألة وأقربها من حيث اللغة ومن حيث جمع الأحاديث.
إذا تقرر هذا فنفخ الروح هل هو متعلق بالكتابة أو هو بعد المائة والعشرين يومًا؟ اختلف العلماء أيضاً في ذلك:(49/9)
¨ فقالت طائفة من أهل العلم لا يكون نفخ الروح إلا بعد الأربعة أشهر؛ لأنه قال هنا (ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ) و(ثُمَّ) تقتضي التراخي الزمني؛ ولهذا قال طائفة من الصحابة واختاره الإمام أحمد وجماعة أنه ينفخ فيه الروح في العشرة أيام التي تلي الأربعة أشهر.
¨ وقال آخرون من أهل العلم: إنه ينفخ فيه الروح بعد تمام أربعة أشهر وعشرة لروايات رويت عن الصحابة في ذلك.
¨ وقال آخرون: أن نفخ الروح هنا عُلِّق أو جُعل مقترنا به الكتابة، فقال عليه الصلاة والسلام: (ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) فجعل الأمر بأربع كلمات مع نفخ الروح، ونعلم بالأحاديث الأُخَر أنّ الكتابة؛ كتابة هذه الكلمات كانت قبل ذلك، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تتعارض بل تتفق؛ لأن الحق لا يعارض الحق وكلها يُصدق بعضها بعضاً؛ فلهذا قالوا هذا بناءً على الأغلب، وقد تنفخ الروح وتوجد الحركة قبل ذلك؛ لأنها هنا قُرن نفخ الروح بالكتابة، والكتابة دلت أحاديث على سبقها، فمعنى ذلك أنه يمكن أن يكون نفخ الروح في أثناء المائة وعشرين يوماً.
هل تكون الكتابة بعد نفخ الروح؟ هذا الحديث ليس فيه دلالة وإنما فيه ترتُّب الكتابة على الروح بالواو فقال (ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، ... وَيُؤْمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) والواو لا تقتضي ترتيباً، وإنما تقتضي اشتراكاً، فمعنى ذلك أنه قد تتقدم الكتابة، وقد يتقدم نفخ الروح والأظهر تقدم الكتابة على نفخ الروح كما دلت عليه أحاديث كثيرة.(49/10)
فإذًا نخلص من هذا في خلاف طويل لأهل العلم، لكن ذكرت لكم لُبَّهُ وخلاصته، أن الغالب أن يكون نفخ الروح كما جاء في هذا الحديث بعد مائة وعشرين يوماً، وقد يتحرك الجنين وينفخ قبل ذلك، وهذا مشاهد؛ فإنه كثير ما تحصل الحركة والإحساس بالجنين من قِبَل الأم وتنقلِه في رحمها قبل تمام الأربعة أشهر، والنبي { - صلى الله عليه وسلم -مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3-4] وكلماته وأحاديثه يصدِّق بعضها بعضا.
قال هنا (وَيُؤْمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) قال قبل ذلك (فَيَنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ) (الرُّوحَ) مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا لا نعلم كيفية هذا النفخ، ولا كيف تتلبس الروح بالبدن، والروح أُضِيفَتْ إلى الله جل وعلا تشريفا لها وتعظيما لشأنها. ([12]) قال جل وعلا { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } ([13]) الإضافة هنا إضافة خلق، وإضافة تشريف، ليست هي صفة لله جل وعلا.
والروح هي سر الحياة كما هو معلوم، وتعلُّق الرّوح ببدن الجنين في رحم الأم تعلق ضعيف؛ لأنّ الروح لم تكتسب شيئا، ولم تقوَ، فتبدأ الروح بالقوّة في تعلقها بالبدن كلما تقدم بالجنين الزمن في رحم الأم، حتى إذا خرج صار التعلق تعلقا آخر.
يقول العلماء إنّ تعلق الروح بالبدن أربعة أنواع:
تعلق في رحم الأم؛ هذا النوع الأول: وهو تعلق ضعيف، الحياة فيه للبدن، والروح تعلقها بالبدن ضعيف.
والثاني في الحياة الدنيا: والحياة فيه للبدن، والروح تبع، وتعلقها بالبدن تعلُّقٌ مناسب لبقاء البدن في الدنيا.
النوع الثالث من التعلق بعد الموت: والحياة فيه للروح، والبدن تبع.
والنوع الرابع تعلق الروح بالبدن بعد قيام الناس لرب العالمين يوم القيامة: وهذا التعلق أكمل التعلقات، فتكون الحياة للبدن وللروح جميعا في أعظم أنواع التعلق.(49/11)
قال (وَيُؤْمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ). هذه الكتابة تُسمَّى القدر العُمْري أو التقدير العُمْري، والتقديرات أنواع: منها القدر اليومي، ومنها القدر السنوي أرفع منه، ومنها القدر والتقدير العُمْري، ومنها التقدير أو القدر السابق الذي في اللوح المحفوظ.
والقدر السابق الذي في اللوح المحفوظ، هذا الذي يعم الخلائق جميعا، كما جاء ذلك في قول الله جل وعلا { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج:70]، { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر } [القمر:49]، قال عليه الصلاة والسلام «قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، (قدَّر مقادير الخلائق) يعني كتبها، أما العلم فإنه أول ليس مقصورا بقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فتحصَّل من هذا أن هذا التقدير اسمه التقدير العمري، وهو بعض القدر السابق، يعني أنك إذا تصورت التقدير العمري للناس جميعا، فإن هذا يوافق التقدير الذي في اللوح المحفوظ، كل أحد بحسبه، فالتقدير الذي في اللوح المحفوظ عام وخاص أيضا، وأما هذا التقدير فهو تقدير عمري يخص كل إنسان.(49/12)
وهذا القَدَر ليس معناه أنه إجبار؛ يعني يؤمر الملك بكتب أربع كلمات، يؤمر بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. هذه الأربع كلمات ليست إجبارا؛ يعني لا يكون العبد بها مجبرا، وإنما هي إخبار للملك بأنْ يكتب ما كتبه الله جل وعلا ليظهر موافقَةُ علم الله جل وعلا في العباد، ليظهر علم الله فيهم جل وعلا، وهذا التقدير لا يمكن لأحد أن يخالفه؛ من كُتِبَ عليه أنه شقي فإنه سيكون شقيا؛ لأنّ علم الله جل وعلا نافذ، بمعنى أن الله جل وعلا يعلم ما سيكون عليه العباد، وسيكون عليه ما خلق إلى قيام الساعة، وما بعد ذلك أيضا.
فهذا التقدير العمري كتابةً، فتكون بيد الملك، وهو يختلف عن التقدير الذي في اللوح المحفوظ بشيء، وهو أنّه يقبل التغيير، وأما الذي في اللوح المحفوظ فإنه لا يقبل التغيير، بمعنى أنَّ ما كتبه الله جل وعلا في أم الكتب لا يقبل المَحْوَ ولا التغيير، وغيره من أنواع التقديرات يعني السنوية أو العمرية فإنها تقبل التغيير. قال جل وعلا { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد:39]، قال ابن عباس (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) يعني فيما في صحف الملائكة،(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاب) عنده اللوح المحفوظ، لا يتغير ولا يتبدل. ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - يقول في دعائه: ”اللهم إن كنت كتبتني شقيا فاكتبني سعيدا“، وهذا يعني به الكتابة في صحف الملائكة، لا الذي في اللوح المحفوظ؛ فإن الذي في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل، وهذا له حكمة بالغة، وهو أن ينشط العبد فيما فيه صلاحه، وأن يعظم الرغب إلى الله جل وعلا، وأن الله سبحانه يعلم ما العباد عاملون، ومما يعلم دعاؤهم ورجاؤهم بالله جل وعلا ووسائلهم إليه سبحانه في تحقيق ما به صلاحهم في الآخرة.(49/13)
(بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ) كما ذكرت لك هذه ليس فيها إجبار، والعبد عندنا أهل السنة العبد مُخَيَّر، وفي اختياره لا يخرج عن قدر الله جل وعلا السابق، وليس بمجبر على ما يفعل، وليس أيضا خالقا لفعل نفسه؛ بل الله جل وعلا هو الذي يخلق فعل العبد.
هنا قال (فوالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ) هذه الكلمة مُدْرَجَة من كلمات ابن مسعود - رضي الله عنه - كتعليق على ما سبق من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (فوالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ؛ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بَعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْنَّارِ فَيَدْخُلُهَا) لأن الكتاب فيه ذكر الخاتمة، شقي أو سعيد، وهذا باعتبار الخاتمة، سار طول عمره في طاعة، ثم بعد ذاك اختار الشقاء، فوافق ما كتبه الملك أنه شقي، وليس معنى ذلك أنه مجبر، ولكن وافق ذلك.
وكما قلت لك قال جماعة من السلف ”الخواتيم ميراث السوابق“. فلهذا يبعث هذا الحديث وكلام ابن مسعود هذا يبعث على الخوف الشديد من الخاتمة؛ لأن العبد لا يدري بما يُخْتَم له، والسوابق هي التي تكون وسائل للخواتيم، والعبد بين خوف عظيم في أمر خاتمته، وما بين رجاء عظيم، وإذا جاهد في الله حق الجهاد، واستقام على الطاعة، فإنّه يُرْجَى له أن يُخْتَم له بخاتمة السعادة.(49/14)
قال (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بَعَمَلِ أَهْلِ الْنَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ) يعني عن القرب، أن الأجل قريب، لكن يسبق عليه الكتاب، فيكون أمره في آخر أمره على الردة والعياذ بالله. وعمله بعمل أهل الجنة، هذا فيما يظهر للناس، وفي قلبه الله أعلم به، ما ندري ماذا كان في قلوب الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، لكن نعلم على اليقين أنّ الله جل وعلا حَكَمٌ عَدْل، لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
قال (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بَعَمَلِ أَهْلِ الْنَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا)رواه البخاري ومسلم. وهذا من فضل الله العظيم على بعض عباده أن يختم له بخاتمة السعادة.(49/15)
هذا الحديث كما ذكرت لك، وكلام ابن مسعود في آخره يبعث على الخوف الشديد من الخواتيم، ويبدأ المرء يفكر فيما سبق له، وإن المرء أحيانا لينظر إلى السوابق، فلا يدري ماذا كتب له فيبكي، كما قال بعض السلف من الأئمة، قال ”ما أبكَى العيونَ ما أبكاها الكتاب السابق“، فالمرء ينظر ويتأمل، ويودّ أنه لو اطلع على ما كتبه الملك، هل الملك كتبه شقيا أم كتبه سعيدا؟ فإن كان كتبه سعيدا فهي سعادة له وطمأنينة، وإن كان كتبه شقيا فيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُكْتَب من الأتقياء، ولكن الله جل وعلا بحكمته غَيَّبَ هذا عن العباد ليبقى الجد في العمل، ولتبقى حكمة التكليف، وأن يكون الناس متفاضلين في البِر والتقوى، فليس سواءً حازم ومضيع، ليس سواءً من هو مجاهد يجاهد نفسه ويجاهد عدوه إبليس، ومن هو مضيع ويتبع نفسه هواها. قال ”ما أبكَى العيونَ ما أبكَاها الكتاب السابق“، وقال بعضهم ”قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يُختم لنا؟، وقلوب السابقين أو قال المقربين معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا؟“، وهذا مثال للخوف الشديد الذي يكون في قلوب أهل الإيمان، وإذا كان هذا الخوف فإنه لا يعني أن يكون مترددا ليس على طاعة، ولكن يبعثه هذا الخوف على الأخذ بالحزم، وأنْ يعد العدة للقاء الله جل وعلا.
الإيمان بالقدَر له ثمراته العظيمة في العمل واليقين، وصلاح قلوب العباد، فالأتقياء هم الذين آمنوا بالقدَر، والمضيِّعون هم الذين اعترضوا على القدر، ولكلٍّ درجات عند الله جل وعلا من الفضل والنعمة، يعني من المقربين والسابقين، وأصحاب اليمين إلى آخره، ولأهل الشقاء دركات في النار، نعوذ بالله من الخِذلان.
نكتفي بهذا القدْر، وأول الأحاديث، يعني إلى ثماني أو عشرة أحاديث، هذه جوامع تحتاج إلى طول، ثم بعد ذلك نمشي إن شاء الله لأن ما بعدها يكون قد سبق فيما قبل، أو يكون الكلام عليه قليلا.(49/16)
بارك الله فيكم، ونفعني وإياكم، وثبتنا وإياكم على الحق والعلم والهدى، صلى الله وسلم على نبينا محمد.(49/17)
الحديث الخامس -
وعن أمِّ المؤمنين أمِّ عبدِ الله عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [رواه البخاري مسلم]، وفي رواية لمسلمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
[الشرح]
هذا الحديث حديث عظيم جدّا، وعَظَّمَه العلماء، وقالوا إنه أصل في رد كل المحدثات والبدع والأوضاع المخالفة للشريعة، فهو أصل في ردّ البدع في العبادات، وفي ردّ العقود المحرمة، وفي ردّ الأوضاع المحدثة على خلاف الشريعة في المعاملات، وفي عقود النكاح، وما أشبه ذلك، ولهذا جعل كثير من أهل العلم هذا الحديث مستمسكا في ردّ كل مُحدَث، كل بدعة من البدع التي أحدثت في الدين، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحرص على هذا الحديث حرصا عظيما، وأن يحتج به في كل مورد يحتاج إليه فيه في رد البدع والمحدثات، في الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ فإنه أصل في هذا كلِّه.(50/1)
قال رحمه الله تعالى (عن أمِّ المؤمنين أمِّ عبدِ الله عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وفي رواية لمسلم -وقد علَّقَها البخاري في الصحيح أيضا- «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»)، قال عليه الصلاة والسلام (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) قال(مَنْ أَحْدَثَ) ولفظ (مَنْ) هذا للاشتراك، وجوابه (فَهُوَ رَدٌّ) والحَدَث في قوله (أَحْدَثَ) هو كل ما لم يكن على وفق الشريعة، على وفق ما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لهذا قال فيه (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا) والأمر هنا هو الدين، كقوله جل وعلا { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:63]. فمن أحدث في الدين ما ليس منه فهو مردود عليه، وقوله هنا (مَا لَيْسَ مِنْهُ) لأنّه قد يُحْدِث شيئا باعتبار الناس، ولكنه سنة مهجورة؛ هجرها الناس، فهو قد سَنَّ سنة من الدين، وذَكَّر بها الناس، كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال«ومن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، فإذن قوله أولا (مَنْ أَحْدَثَ) هذا فيه المحدثات في الدين، ودل عليها قوله (فِي أَمْرِنَا هَذَا) يعني في ديننا هذا، وما عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو شريعته. قال (مَا لَيْسَ مِنْهُ) وهذه هي الرواية المشتهِرة في الصحيحين وفي غيرهما، ورُوي في بعض كتب الحديث (مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) يعني ما ليس في أمرنا، فهذا يدل يعني هذه الرواية تدل على اشتراط العمل بذلك الشيء، ولا يُكْتَفَى فيه بالكليات في الدلالة، قال (فَهُوَ رَدٌّ) يعني فهو مردود عليه كما قال علماء اللغة (ردٌّ) هنا بمعنى مردود، كسد بمعنى مسدود،(50/2)
ففعل تأتي بمعنى مفعول، يعني من أتى بشيء محدث في الدين لم يكن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود عليه كائنا من كان، وهذا فسرته الرواية الأخرى (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)، فأرجعه إلى الأعمال، والعمل هنا المراد به الدين أيضا، يعني من عملا عملا يتدين به من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات ليس عليه أمرنا فهو رد، يعني مردودا عليه. وهذا فيه إبطال كل المحدثات، وإبطال كل البدع، وذم ذلك، وأنها مردودة على أصحابها، وهذا الحديث -كما ذكرت لك- أصلٌ في رد البدع في الدين، والأعمال التي في الدين يعني أمور الدين منقسمة إلى عبادات وإلى معاملات، والمحدثات تكون في العبادات وتكون في المعاملات، فهذا الحديث دَلَّ على إبطال المحدثات وإبطال البدع؛ لأن كل محدثة بدعة، يعني كل محدثة في الدين بدعة.
والعلماء تكلموا كثيرًا عن البدع والمحدثات، وجعلوا هذا الحديث دليلا على رد المحدثات والبدع، فالبدع مذمومة في الدين، وهي شر من كبائر الذنوب العملية؛ لأن صاحبها يستحسنها، ويستقيم عليها تقربا إلى الله جل وعلا.
إذا تبين هذا الشرح العام للحديث، فما المراد بالبدع والمحدثات؟ هذه مما اختلف العلماء في تفسيرها، والمحدثات والبدع منقسمة إلى محدثات وبدع لغوية، وإلى محدثات وبدع في الشرع.
¨ أما المحدث في اللغة: هو كل ما كان أُحْدِثَ، سواء أكان في الدين، أو لم يكن في الدين، وإذا لم يكن في الدين فإنّ هذا معناه أنه لا يدخل في هذا الحديث، وكذلك البدع، ولهذا قسم بعض أهل العلم المحدثات إلى قسمين: محدثات ليست في الدين، وهذه لا تُذَم، ومحدثات في الدين، وهذه تذم.(50/3)
مثل المحدثات التي ليست من الدين: مثل ما حصل من تغير في طرقات المدينة، وتوسعة عمر الطرقات، أو تجصيص البيوت، أو استخدام أنواع من البُسط فيها، واتخاذ القصور في المزارع، وما أشبه ذلك مما كان في زمن الصحابة وما بعده، أو اتخاذ الدواوين، أو ما أشبه ذلك، فهذه أُحدثت في حياة الناس فهي محدثة، ولكنها ليست بمذمومة؛ لأنها لم تتعلق بالدين.
كذلك البدع، منها بدع في اللغة يصح أن تسمى بدعة، باعتبار أنها ليس لها مثال سابق عليها في حال مَنْ وصفها بالبدعة، وبدع في الدين، وهذه البدع التي في الدين كان الحال على خلافها، ثم أُحْدِثَتْ.
مثاله قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس على إمام واحد، وكانوا يصلون أشتاتا في رمضان، جمعهم في التراويح على إمام واحد قال ”نعمت البدعة هذه“، فسماها بدعة باعتبار اللغة؛ لأنها في عهده بدعة، يعني لم يكن لها مثال سابق في عهد عمر، فتعلقت باللغة أولا، ثم بالمتكلم ثانيا.(50/4)
إذا تبين هذا فالمقصود بهذا الحديث المحدثات والبدع في الدين، والبدعة في الدين دَلَّ الحديث على ردها، ودل على ذلك آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، كما قال جل وعلا { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [الشورى:21]، فسماهم شركاء؛ لأنهم شرعوا من الدين شيئا لم يأتِ به محمد عليه الصلاة والسلام، لم يأذن الله به شرعا، وقد قال جل وعلا { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة:3]، وقال جل وعلا { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [آل عمران:31]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، ويصلح أن يكون منها قوله جل وعلا { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر:7]، وقد جاء أيضا في الأحاديث ذم البدع والمحدثات، كما كان عليه الصلاة والسلام يقول في الجمعة وفي غيرها «ألا إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وقد جاء أيضا في السنن من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أنه قال «وَعَظَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فقلنا: يا رسول الله، كأنها مَوْعِظَةُ مُوَدّعٍ» الحديث. وفيه قال عليه الصلاة والسلام «إِنّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فسيَرَ اخْتِلاَفَاً كَثِيراً، فَعَلَيْكم بِسُنّتِي وَسُنّةِ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ المُهْدِيّينَ من بعدي، تمسكوا بها، وعَضّوا عَلَيْهَا بالنّوَاجِذِ؛ فإنّ كل محدثة بدعة» والعلماء؛ علماء السلف أجمعوا على إبطال البدع، فكل بدعة في الدين أُجْمِعَ على إبطالها إذا صارت بدعة في الدين، دخل العلماء في تعريف البدعة، ما هي التي يحكم عليها بأنها رَدّ؟ لأن هذا الحديث دل على أن(50/5)
كل محدثة ردّ (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ).
فالبدعة في الدين عُرِّفَتْ بعدة تعريفات، يهمنا منها تعريفان لضيق المقام:
أولها: التعريف المشهور الذي ذكره الشاطبي في الاعتصام، وهذا التعريف جيد؛ لأنه جعل البدعة طريقة ملتَزَمة، وأن المقصود من السلوك عليها مضاهاة الطريقة الشرعية، وشرح التعريف والكلام عليه يطول، فتراجعونه في مكانه.
لكن يهمنا من التعريف هذا شيئان:
الأول: أن البدعة ملتزم بها؛ لأنه قال طريق في الدين، والطريقة هي الملتزم بها، يعني: أصبحت طريقة يطرقها الأول والثاني والثالث، أو تتكرر، فهذه الطريقة يعني ما التُزِم به من هذا الأمر.
والثاني: أنها مُخْتَرَعة، يعني أنها لم تكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثالث: أن هذه الطريقة تُضَاهَى بها الطريقة الشرعية من حيث إن الطريقة الشرعية لها وصف ولها أثر، أما الوصف فمن جهة الزمان والمكان والعدد، وأما الأثر فهو طلب الأجر من الله جل وعلا.
فتحصل لنا أن خلاصة ما يتصل بتعريف الشاطبي للبدعة يتعلق بثلاثة أشياء:
أنّ البدعة يُلْتَزَم بها.
الثاني: أنها مخترعة، لم يكن عليها عمل سابق، وهذه توافق الرواية الثانية (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ).
والثالث: أنه تُضَاهَى بها الطريقة الشرعية، من حيث الزمان والمكان والوصف والأثر، يعني العدد الذي هو الوصف مع الزمان والمكان، والأثر وهو طلب الأجر من الله جل وعلا بذلك العمل.
وعرَّفَه غيره بتعريف أوضح، وهو تعريف السُّمُنِّي، حيث قال: إنّ البدعة ما أُحْدِثَ على خلاف الحق المُتَلَقَّى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول أو عمل أو اعتقاد، وجُعِلَ ذلك دينا قويما وصراطا مستقيما.(50/6)
وهذا التعريف أيضا صحيح، ويتضح لنا منه أنّ البدعة أحدثت على خلاف الحق، فهي باطل، وأنها تكون في الأقوال، وفي الأعمال، وفي الاعتقادات، وأنها مُلْتَزَمٌ بها؛ لأنه قال في آخره جُعل ذلك دينا قويما وصراطا مستقيما.
إذا تقرّر ذلك فمن المهمات في معرفة البدعة أنّ البدعة تكون في الأقول والأعمال والاعتقادات، إذا كان القول على غير وصف الشريعة، يعني جُعِلَ للقول طريقة من حيث الزمان والمكان، أو من حيث العدد، تُعُبِّدَ بقول ليس على وفق الشريعة، وجُعِلَ له وفق من حيث الزمان أو المكان أو العدد، وطُلِبَ به الأجر من الله جل وعلا، أو الأعمال، يُحْدِثُ أعمالا يتقرب بها إلى الله جل وعلا ويجعل لها صفة تُضَاهَى بها الصفة الشرعية على نحو ما ذكرنا، أو يعتقد اعتقادات على خلاف الحق المُتَلَقَّى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذه كلها من أحدثها؛ بمعنى من أنشأها فهي مردودة عليه، ومن تبعه على ذلك فهو أيضا عمله مردود عليه، ولو كان تابعا؛ لأن التابع أيضا محدث بالنسبة لأهل زمانه، وذاك محدث بالنسبة لأهل زمانه، فكل من عمل ببدعة فهو محدثٌ لها.(50/7)
لهذا يتقرر من هذا التأصيل أن البدع مُلْتَزَمٌ بها، في الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات، فلا يقال إنه من أخطأ مرة في اعتقاد ولم يلتزم به أنه مبتدع، ولا يدخل فيمن فعل فعلا على خلاف السنة إنه مبتدع، إذا فعله مرة، أو مرتين أو نحو ذلك، ولم يلتزمه، فوصف الالتزام ضابط مهم، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كلامه أن ضابط الالتزام مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة، فنقول: هذا خالف السنة في عمله، ولا نقول إنه مبتدع، إلا إذا إلتزم مخالفة السنة، وجعل ذلك دينا يلتزمه، فإذن من أخطأ في عمل من الأعمال في العبادات، وخالف السنة فيه، فإنه إن كان يتقرب به إلى الله فنقول له: هذا الفعل منك مخالف للسنة. فإن التزمه بعد البيان، أو كان ملتزما له، دائما يفعل هذا الشيء، فهذا يدخل في حيز البدع، وهذا ضابط مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة.(50/8)
مما يتصل أيضا بهذا الحديث، والكلام على البدع والمحدثات يطول، لكن ننبه على أصول فيها، مما يتصل به من الفرق بين مُحْدَث ومُحْدَث، أن هناك محدَثات لم يجعلها الصحابة رضوان الله عليهم من البدع؛ بل أقروها، وجعلوها سائغة، وعُمِلَ بها، وهذه هي التي سماها العلماء فيما بعد المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة للعلماء فيها وجهان من حيث التفسير، ومعنى المصالح المرسلة أن هذا العمل أَرسل الشارع حكمه باعتبار المصلحة، فإذا رأى أهل العلم أن فيه مصلحة فإنّ لهم أن يأذنوا به لأجل أن الشارع ما عَلَّق به حُكما، وهذا يأتي بيان صفاته. قال العلماء: المصالح المرسلة تكون في أمور الدنيا، لا أمور العبادات. وفي أمور الدنيا؛ في الوسائل منها التي يُحَقَّقُ بها أحد الضروريات الخمس، يعني أن الشريعة قامت على حفظ الضروريات الخمس معلومة لديكم: الدين، والنفس، والمال، والنسل، والعقل. هذه الخمس وسائل حفظها هذه من المصالح المرسلة؛ وسائل حفظ الدين مصلحة مرسلة، لك أن تُحْدِثَ فيها ما يحفظ دين الناس، مثل تأليف الكتب، تأليف الكتب لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأُحْدِثَ تأليف الكتب، تأليف الرّدود، جمع الحديث ما كان، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُكْتَب حديثه، ونهى عمر أن يُكْتَب حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم كُتِب، هذا وسيلة لم يكن المُقْتَضِي لها في هذا الوقت قائما، ثم قام المقتضي لها، فصارت وسيلة لحفظ الدين، صارت مصلحة مرسلة، وليست بدعة.
فإذن من المهمات في هذا الباب أن تُفَرِّق ما بين البدعة وما بين المصلحة المرسلة:
¨ فالبدعة في الدين، متجهة إلى الغاية، وأما المصلحة المرسلة فهي متجهة إلى وسائل تحقيق الغايات، هذا واحد.
¨ الثاني: أن البدعة قام المقتضي لفعلها في زمن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولم تُفْعَل، والمصلحة المُرْسَلَة لم يقمْ المقتضي لفعلها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -.(50/9)
فإذن إذا نظرنا مثلا إلى جمع القرآن، جَمْعُ القرآن جُمِعَ بعد النبي عليه الصلاة والسلام، في عهده عليه الصلاة والسلام لم يُجْمَع، فهل نقول جمع القرآن بدعة؟ العلماء أجمعوا من الصحابة ومن بعدهم أن جمع القرآن من الواجبات العظيمة التي يجب أن تقوم بها الأمة، هنا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قام المقتضي للفعل؛ لأن الوحي يتنزل، فلو نُسِخَ القرآن كاملا لكان هناك إدخال للآيات في الهوامش أو بين السطور، وهذا عرضة لأشياء غير محمودة، فكان من حكمة الله جل وعلا أنه ما أمر نبيه بجمع القرآن في كتاب واحد في حياته عليه الصلاة والسلام؛ وإنما لما انتهى الوحي بوفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام جمعه أبو بكر، ثم جُمِعَ بعد ذلك.
وفيه أشياء شتى من إنشاء دواوين الجند، ومن استخدام الآلات، ومن تحديث العلوم، ومن الاهتمام بعلوم مختلفة، وأشباه ذلك من فتح الطرقات، وتكوين البلديات والوِزارات، وأشباه هذا في عهد عمر - رضي الله عنه - وفي عهد أمراء المؤمنين فيما بعد ذلك.
إذن فالحاصل من هذا أن المصلحة المرسلة مُحْدَثَة، ولكن لا ينطبق عليها هذا الحديث(مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) لأن:
¨ هذه ليست في الأمر وإنما هي في وسيلة تحديث الأمر، فخرجت عن شمول هذا الحديث لها من هذه الجهة.
¨ ومن جهة ثانية أنها إحداث ليس في الدين؛ وإنما هو في الدنيا لمصلحة شرعية تعلقت بهذا العمل.
سمَّاها العلماء مصالح مرسلة، وجُعِلَتْ مطلوبة من باب تحقيق الوسائل؛ لأن الوسائل لها أحكام الغايات، فهي واجبة ولا بد من عملها؛ لأن لها حكم الغاية.(50/10)
العبادات قسم من الشريعة، والمعاملات قسم من الشريعة، فالعبادات إحداث أمر في عبادة على خلاف سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - محدثٌ وبدعة في الدين، وكذلك في المعاملات، إحداث أوضاع في المعاملات على خلاف ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أيضا مردود؛ لأنه مُحْدَثٌ في الدين. مثاله: أن يُحَوِّلَ مثلا عقْد الربا من كونه عقدا محرما إلى عقد جائز([14])، فهذا تبديل للحكم، أو إحداث لتحليل عقد حَرَّمه الشارع، أو يُبطل شرطا من الشروط الشرعية التي دَلَّ عليها الدليل، فإبطاله لهذا الشرط مُحْدَثٌ أيضا، فيعود عليه بالرد. أو أن يُحَوِّلَ مثلا عقوبة الزنا من كونها رجما للمُحْصَن، أو الجلد والتغريب لغير المحصن، إلى عقوبة مالية، فهذا ردّ على صاحبه، ولو كانت في المعاملات؛ لأنها إحداث في الدين ما ليس منه.
وهذا يختلف عن القاعدة المعروفة أن: الأصل في العبادات التوقيف، والأصل في المعاملات الإباحة وعدم التوقيف. هذا يعني فيما يكون في معاملات الناس، أما إذا كان هناك شرط شرعي أو عقد، شرط شرعه الشارع، وأمر به واشترطه، أو عقد أبطله الشارع، فلا يدخل فيه جواز التغيير؛ وإنما جواز التغيير، أو التجديد في المعاملات، وأنها مبنية على الإباحة والسَّعة، هذا فيما لم يدل الدليل على شرطيته، أو على عقده، أو على إبطال ذلك العقد، وما شابه ذلك. وعلى هذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث بَريرَة المشهور «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط». فهذا الحديث يأتي في جميع أبواب الدين، يأتي في الطهارة، وفي الصلاة، وفي الزكاة، والصيام، والحج، وفي البيوع والشركات، والقرض، والصرف، والإجارة إلى آخره، النكاح والطلاق، وجميع أبواب الشريعة، كما هو معروف في مواضعه من تفصيل الكلام عليه.(50/11)
الحديث السادس -
عن أبي عبدِ ا لله النُّعمانَ بِنِ بشيرٍ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَاعِي يَرْعَى حَوْل الحِمَى, يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكّلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ»[رواه البخاري ومسلم].
[الشرح]
هذا الحديث حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عَدَّه العلماء ثلث الدين أو ربع الدين؛ فإن الإمام أحمد قال: أحاديث الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: حديث عمر «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ» وحديث عائشة السابق «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ » وحديث النعمان بن بشير، وذلك أن حديث النعمان دَلَّ على أن الأشياء منقسمة إلى حلال بَيِّن، وإلى حرام بَيِّن، وإلى مشتبه.
فالحلال البَيِّن والحرام البَيِّن واضح الحُكم، والمشتبه جاء حكمه في هذا الحديث، والحلال يحتاج إلى نية، وإلى متابعة، وعدم إحداث فيه من أمور العبادات والمعاملات، وكذلك الحرام يحتاج إلى نية في تركه حتى يؤجر عليه، إلى آخر ذلك، فصار هذا الحديث ثلث الإسلام.
وأبو داود صاحب السنن جعل الأحاديث أربعة، وزاد عليها حديث «الدَّينُ النَصِيحَُة» الحديث الذي سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
هذا يدل على أن هذا الحديث موضعه عظيم في الشريعة؛ فهو ثلث الدين لمن فهمه، ففيه أن الأحكام ثلاثة:
1. حلال بَيِّن واضح لا اشتباه فيه.(51/1)
2. وحرام بَيِّن واضح لا اشتباه فيه.
3. وثالث مشتبه لا يعلمه كثير من الناس، ولكن يعلمه بعضهم.
فالحلال البَيِّن الواضح من أتاه فهذا على بينة، بَيِّنٌ للناس، والحرام البين الواضح أيضا بَيِّن للناس، لا اشتباه فيه، فمن انتهى عنه فهو مأجور، ومن وقع فيه فهو مأزور. وهناك ما هو مُشتبِه، ومن أجل هذا المشتبه جاء هذا الحديث من الرءوف الرحيم عليه الصلاة والسلام.
فقال (الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ)
1. الحلال البين مثاله أنواع المأكولات المباحة، تأكل اللحم والخبز، وتشرب الماء إلى آخره، أنواع العلاقات المالية المباحة، البيع الواضح، الصرف الواضح إلى آخره، أنواع الإجارة الواضحة، الزواج الواضح، وأشباه ذلك مما اكتملت فيه الشروط ولا شبهة فيه، فهذا بين يعلمه الناس، وأيضا هو درجات.
2. والحرام بيِّن أيضا واضح مثل حرمة الخمر، وحرمة السرقة، وحرمة الزنا، وحرمة قذف الغافلات المؤمنات، وحرمة الرِّشوة، وأشباه ذلك مما الكلام فيها واضح لا اشتباه فيه.
3. القسم الثالث: قال (وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ) قال عليه الصلاة والسلام (وَبَيْنَهُمَا) فجعل هذا القسم بين الحلال والحرام؛ وذلك لأنه يجتذبه الحلال تارة ويجتذبه الحرام تارة، عند من اشتبه عليه، فالذي اشتبه عليه هذا الأمر يكون عنده بين الحلال والحرام، لا يدري هل هو حرام أو هو حلال، إنْ نظر فيه من جهة قال هو حلال، وإن نظر فيه من جهة جعله حراما، وهذا عند كثير من الناس، وأما الراسخون في العلم فيعلمونه؛ يعلمون حكمه، هل هو حلال أو حرام؟. فقال عليه الصلاة والسلام: (وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) فدل قوله (لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ) على أن هناك كثيرا من الناس يعلمون الحكم.(51/2)
هذه المشتبهات اختلف العلماء في تفسيرها، ما هي المشبهات؟ في أقوال كثيرة جدا، وصُنِّفَتْ فيها مصنفات، وشروح هذا الحديث في الكتب المطولة طويل أيضا في تفسير المشتبهات، ووضوحُها ينبني على فهم معنى المشتبه في اللغة وفي القرآن أيضا.
أما في اللغة: فاشتبه الشيء بمعنى اختلط، يعني صار يتنازعه أشياء متعددة جعلته مختلطا على الناظر أو على السامع، اشتبهت الأشياءُ عند عينه، بمعنى اختلطت، ما يميز هذا من هذا، اشتبهت الأصوات عليه، يعني تداخلت، فلم يميز هذا من هذا. فالمشتبهات في اللغة لا يتضح منها الأمر عند كثير من الناس لضعف قوته، فكما أن الناظر لضعف بصره اشتبه عليه، والسامع لضعف سمعه اشتبه عليه، فكذلك المسائل التي تُدْرَك بالقلب؛ تدرك بالبصيرة، تشتبه من جهة ضعف البصيرة؛ ضعف العلم.(51/3)
أما في القرآن: فجعل الله جل وعلا المشتبهات أو المتشابهات فيما يقابل المحكمات، في آية سورة "آل عمران"، وهي قوله جل وعلا { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7]، فدلت الآية على أن المحكم ما كان واضحا بَيّنًا، والمشتبه ما يشتبه علمه على الناظر فيه، وما في الحديث غير ما في الآية، من جهة أن ما في الآية من جهة المعاني؛ معاني الآيات لأنه قال { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات } [آل عمران:7]، فمعنى الآية يشتبه، والحديث من جهة العمل، من جهة الحكم، هل هذه من الحلال، أو هي من الحرام؟ فإذن من جهة الاشتباه الأمر واحد، أن المشتبه فيما دلت عليه آية آل عمران هو غير الواضح، وهذا نستمسك به في تفسير المشتبه في هذا الحديث؛ لأنّ الكلمةَ إذا اشتبه معناها، أو اختلف العلماء في معناها، فإرجاعها إلى عُرْفِ الشارع، في كلامه، يعني إلى ما كان عليه استعمال الشارع في القرآن، فهذا يريحنا من إشكال تفسير الكلمة، فإذا نظرنا في هذه الكلمة (مشتبهات)، فجعلها بعض العلماء -اختلاط المال المباح مع المال الحرام- جعلها بعضهم فيما اختلف فيه العلماء في أقوال ربما يأتي بعضها. فتفسيرها الصحيح أن نجعلها مثل آية آل عمران، يعني ما اتضح ما لم يتضح للمرء، ما لم يتضح حكمه فهو مشتبه، وما اتضح حكمه من الحلال فهو حلال، وما اتضح حكمه من الحرام فهو حرام، وهذه محكمات، وما اشتبه حكمه فهو من غير الواضح من المتشابهات، أو(51/4)
المشتبِهات، أو المشبَّهات كما هي روايات في هذا الحديث.
الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق وجماعة من أهل العلم فسروا المشتبهات بما اختلف الصحابة في حِلِّه وحرمته، أو اختلف العلماء في حله وحرمته، فقالوا مثلا أكل الضب اختلفوا فيه، فيكون من قبيل المشتبه، وقالوا: إن أكل ذي الناب من السباع اختلف فيه العلماء، فيكون من قبيل المشتبه، أو لبس بعض الملابس اختلفوا فيها، فيكون من قبيل المشتبه، وجعلوا اختلاط المال الحلال والحرام، هذا من قبيل المشتبه في أشياء، وشرب ما يسكر كثيره من قبيل المشتبه، من جهة الناظر فيه، وهذا في الحقيقة ليس واضحا، وهذه إذا جُعِلَتْ من المشتبهات فهذا من جهة التأويل، لا من جهة كونها مشتبهات بينة. فالإمام أحمد وإسحاق وجماعة إذا قالوا عن هذه الأشياء إنها مشتبهات، فيعنون أنه ينبغي لمن ذهب إلى القول المبيح أن يستبرئ؛ من ذهب إلى القول المبيح في المُسْكِر لا بد له أن يستبرئ لدينه ويذهب إلى القول الآخر، في أكل الضب السنة فيه واضحة، فينبغي أن يترك رأيه إلى السنة للأمر الواضح، يعني قالوا إنها من المشتبهات باعتبار الخلاف، وهذا ليس هو المقصود بالحديث؛ وإنما هم نظروا في اختلاف العلماء في ذلك.
والذي ينبغي حمل الأحاديث عليه ما ذكرت لك من أن المشبهات، أو المشتبهات، أو المتشابهات هي ما اشتبه علمه، ما اشتبه حكمه على من يحتاج إليه، فإذا اشتبه عليه حكم هذا البيع فاستبراؤه له حماية لعلمه، حماية لدينه، إذا اشتبه عليه حكم هذه المرأة، هل هي مباحة له أم غير مباحة؟ فالاستبراء أن يتوقف حتى يأتيه إما أن تكون حلالا بينا أو حراما بينا.
إذا تقرر ذلك فإنّ المشتبهات هذه لها حالان:(51/5)
الحال الأولى: ما يتوقف فيه العلماء، فيتوقف العالم في حكم المسألة، يقول: أنا متوقف فيها. والعلماء توقفوا في شيء مثل بعض المسائل الحادثة الآن، تأتي مسألة مثلا من مسائل البيوعات أو مسائل المال الجديدة التي يُحدثها الناس، والعلماء حتى ينظروا فيها لا بد أن يتوقفوا، في بعض المسائل الطبية مثلا توقف العلماء، والعلماء توقفهم ليس عن عجز، ولكن حماية لدينهم هم؛ لأنهم سيُفتون الأمة، وإذا أفتوا الأمة فالحلال -الذي صار في الأمة حلالا- منسوب إليهم، وهم وقعوا عن رب العالمين جل وعلا يعني أفتوا عن الله سبحانه، فينبغي أن يتوقفوا حتى تتبين لهم، فإذا توقف العلماء في مسألة فإذن هي من المشتبهات حتى يتبين حكمها للعالم، هذا النوع الأول.
والنوع الثاني من المشتبهات ما تشتبه على غير العالم: فينبغي أن لا يواقعها حتى يردَّها إلى العالم، ينبغي يعني وجوبا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال (وَبَيْنَهُمَا-يعني بين الحلال والحرام- أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). في قوله (لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) إرشاد إلى أن هناك من يعلم، فتسأل من يعلم عن حكم هذه المسألة، قال (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ) يعني قبل أن يصل إليه العلم، أو في المسألة التي توقف فيها أهل العلم، (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ) أما استبراء الدين فهو من جهة الله جل وعلا؛ حيث إنّه إذا استبرأ فقد أتى ما يجب عليه، متوقَّف فيها فأنا لا أقدم عليها؛ لأنها ربما كانت حراما، والمؤمن مُكَلَّف، فينبغي عليه وجوبا ألا يأتي شيئا إلاّ وهو يعلم أنه حلال، وإذا أراد أن يُقْدِم على شيء، يقدم على شيء يعلم أنه غير حرام. فمن توقف عن الحلال المشتبه أو عن الحرام المشتبه فقد استبرأ للدين؛ لأنه ربما واقع، فصار حراما، وهو لا يدري.(51/6)
هل يقال هنا هو لا يدري معذور؟ لا، غير معذور؛ لأنه يجب عليه أن يتوقف، حتى يتبين له حكم هذه المسألة، يأتيها على أي أساس؟ هو مكلف، لا يعمل عمل إلا بأمر من الشرع، فلهذا قال (فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ). قال (وَعِرْضِهِ) وَعِرْضِهِ لأنه في أهل الإيمان من أقدم على الأمور المشتبهات فإنه قد يُوقَع فيه، قد يُتَكَلَّم فيه بأنه قليل الديانة؛ لأنه لم يستبرئ لدينه، فإنه إذا ترك مواقعة المشتبهات استبرأ لعرضه، وفي هذا حثّ على أن المرء لا يأتي ما يُعاب عليه في عرضه، فالمؤمن يرعى حال إخوانه المؤمنين، ونظرة إخوانه المؤمنين إليه، ولا يأتي بشيء يقول أنا لا أهتم بقول أهل الإيمان، لا أهتم بقول أهل العلم، لا أهتم بقول طلبة العلم؛ فإن استبراء العرض حتى لا يوقع فيه هذا أمر مطلوب. وقد جاء في الأثر: ”إياك وما يشار إليه بالأصابع“. يعني من أهل الإيمان، حيث ينتقدون على العامل عمله فيما لم يوافق فيه الشريعة.
قال (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) هنا (وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) فُسِّرَتْ بتفسيرين:
1. الحرام الذي هو أحد الجانبين الذي الشبهات فيما بينهما؛ لأن جانب حلال، وجانب حرام، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام الذي هو أحد الجهتين.
2. وفُسِّرَ الحرام بأنه وقع في أمر مُحَرَّم؛ حيث لم يستبرئ لدينه، حيث وقع في شيء لم يعلم حكمه، شيء مسألة واقعتها بلا علم منك أنّه جائز، فلا شك أن هذا إقدام على أمر دون حجة.(فَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ).
وهذا في المسائل التي تتنازعها الأمور بوضوح، هناك مسائل من الورع يستحب تركها، ليست هي المقصودة بهذه الكلمة؛ لأنه قال (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ).(51/7)
ثم مَثَّلَ ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله (كَالرَاعِي يَرْعَى حَوْل الحِمَى, يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) الراعي يكون معه شيء من الماشية، الماشية من طبيعتها أنها في بعض الأحيان تخرج عن مجموع الماشية وتذهب بعيدا، فإذا قارب حمى محمية، مثلا أرض محمية للصدقة، أو محمية في ملك فلان، أو ما أشبه ذلك، فإن مقاربته بماشيته للحمى لا بد أن يحصل من بعضها منهم، ويأخذ من حق غيره.
وهذا تمثيل عظيم في أن (حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ) وما هو داخل هذا الحمى هو الدين، وهذه المحارم حمى، فمن قارب فلا بد أن يحصل منه مرة أن يتوسع، فيدخل في الحرام، حتى في الأمور التي يكون عنده فيها بعض التردد، لا كل التردد.
فلهذا مَثَّلَ عليه الصلاة والسلام بهذا المثال العظيم، فقال (كَالرَاعِي يَرْعَى حَوْل الحِمَى, يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) لأنه قَارَب. قال (أَلاَ وَإِنَّ لِكّلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ) فحمى الله محارمه، بها يقوَى دين المرء.
فهذا الحديث واضح الدِّلالة في أن من قارب الحمى، من قارب المحارم، من قارب الحرمات فإنه يوشك أن يقع في المحرم من جرّاء تساهله.
نفهم من هذا الحديث أن الحلال البَيِّن واضح، والحرام البين واضح، والمشبَّهات المشتبهات عرفنا تعريفها، وحكمها، وتقسيمات الكلام عليها، وأنه يجب على صاحب الدين؛ يجب على المسلم ألا يأتي شيئا إلا وهو يعلم حكمه، إذا لم يعلم فليسأل، فتكون إذن المسألة مشتبهة عليه، ويزول الاشتباه بسؤال أهل العلم، فإن بقيت مشتبهة على أهل العلم، فإنه يعني حتى يحكموا فيها فإنه يتوقف معهم حتى يعمل ذلك.(51/8)
هناك مسائل ليست مشتبهة يعني في الأحكام لكونها تبع الأصل جريان القواعد عليها، دخولها ضمن الدليل، فإذن المسائل التي اختلف العلماء فيها لا تدخل ضمن هذا الحديث من جهة كونها مشتبهة؛ فلا نقول هذه مسألة اختلف فيها العلماء، فإذن يخرج منها بتاتا على جهة أن من وقع فيها وقع في الحرام. لا؛ ولكن هذا على وجه الاستحباب. وهذا هو الذي فهمه العلماء من الحديث: أن الخروج من خلاف العلماء مستحب، يعني أن العلماء إذا اختلفوا في مسألة، فالخروج من خلافهم إلى متيقن، هذا مستحب، وهذا صحيح باعتبارات، وفي بعض تطبيقاته قد لا يكون صحيحا في تفاصيل معلومة.
مثاله مثلا قصر الصلاة في السفر، جمهور العلماء يعني جمهور الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد حَدّوا المدة بنية إقامة أربعة أيام فصاعدا؛ في أنّه إذا نوَى إقامة أربعة أيام فصاعدا لم يترخص برخصة السفر، وهناك قول ثانٍ للحنفية بأن له أن يترخص ما لم يُزْمِع إقامة أكثر من خمسة عشر يوما، وهناك قول ثالث لشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم بأن له أن يترخص حتى يرجع إلى بلده. فهذه أقوال ثلاثة: القول الأول وهو كونها أربعة أيام رُجِّحَ على غيرها من جهة أن المسألة من حيث الدليل مشتبهة، وإذا كان كذلك فالأخذ فيها باليقين استبراءٌ للدين؛ لأن الصلاة ركن الإسلام الثاني، فأَخْذُ اليقين في أمر الصلاة هذا مما دَلَّ عليه هذا الحديث، لأنه استبراءٌ للدين؛ لأنّ الأربعة أيام هذه بالاتفاق أنه يترخص فيها، وأما ما عداها فهو مختلف فيه، فإذا كان كذلك فالخروج من الخلاف هنا مستحب، فنأخذ بالأحوط. ولهذا رجح كثير من المحققين هذا القول باعتبار الاستبراء، وأنّ في الأخذ به اليقين في أمر الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وأعظم الأركان العملية.(51/9)
من المسائل التي أيضا يتعرض لها العلماء في هذا الحديث الأكل من مال من اختلط في ماله الحلال الحرام، أعني رجلا مثلا في ماله حرام، نعلم أنه يكتسب من مكاسب محرمة؛ إما أنه يرتشي، أو عنده مكاسب من الربا، أو ما أشبه ذلك، وعنده مكاسب حلال، فما الحكم في شأنه؟
¨ جعله بعض العلماء داخلا في هذا الحديث، وأن الورع الترك على سبيل الاستحباب؛ لأنه استبراء.
¨ وطائفة من أهل العلم قالوا بحسب ما يغلب، فإن كان الغالب عليه الحرام فإنه يُسْتَبْرَأ، وإن كان الغالب عليه الحلال فإنه يجوز أن تأكل منه، ما لم تعلم أن عَيْن ما قُدِّمَ لك من الحرام.
¨ وقال آخرون منهم ابن مسعود - رضي الله عنه - لك أن تأكل، والحرام عليه، لتَغَيُّر الجهة، فهو اكتسبه من حرام، وحين قدم لك قدمه على أنه هدية، أو على أنه إضافة أو هِبَة، أو ما أشبه ذلك، وتَغَيُّر الجهة يغير الحكم كما في حديث بريرة: قالوا: يا رسول الله، في اللحم إنه تصدق به على بريرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل الصدقة، فقال عليه الصلاة والسلام «هو عليها صدقة، ولنا هدية». لاختلاف الجهة، مع أنه عين المُهْدَى وهو اللحم، فقال جماعة من الصحابة ومن أهل العلم إنّه يأكل والحرام على صاحبه، على من قدمه، وأما هذا فقدمه على أنه هدية، فلا بأس بذلك.
¨ وقال آخرون في هذه المسألة: إنه يأكل منه ما لم يعلم أن هذا المال بعينه حرام، يعني أن عين ما قَدَّم حرام، فإذا علم أن عين ما قدم حرام فلا يجوز له أكل هذا المعين، ويجوز أكل ما سواه، واستدلوا على ذلك بأن اليهود كانوا يقدمون الطعام للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يأكلون الربا، وكان عليه الصلاة والسلام ربما أكل من طعامهم. فيه تفاصيل.(51/10)
المقصود من هذا كمثال لاختلاف العلماء في تنازعٍ في هذه المسألة، هل تدخل في هذا الحديث أم لا؟ وجملتهم على دخوله من جهة الورع، وليس على دخوله من جهة أنه من أكل فقد أكل حراما، مع أن عددا من المحققين رَجَّحوا قول ابن مسعود، وهو ترجيح ظاهر من حيث الدليل، كابن عبد البر في "التمهيد"، وكغيره من أهل العلم في تفاصيل يطول الكلام عليها.
قال عليه الصلاة والسلام (أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ). فهذا فيه أن صلاح القلب الذي هو معدن الإيمان به يكون التورّع، به يكون التوقف عن الشبهات، به يكون الإقدام على المحرمات، هذا راجع إلى القلب، والقلب إذا صلح، صلح الجسد كله في تصرفاته، وإذا فسد فسد، الجسد كله. تعليق هذا بالقلب، قال (أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً) والقلب من حيثُ إدراك المعلومات هو الذي يُدرك، فعند المحققين من أهل العلم، والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة أنّ هذا معلق بالقلب، يعني حصول الإدراكات، وحصول العلوم، والصلاح والفساد والنيات إلى آخره، هذا معلق بالقلب. إذا كان كذلك، فما وظيفة الدماغ أو المخ؟ وظيفته الإمداد، هذا على قول المحققين من أهل العلم، فاختلفوا في العقل؛ هل هو في القلب أم هو في الرأس؟ والصحيح أنه في القلب، والعقل ليس جُرْمًا؛ وإنما المقصود به إدراك المعقولات، والدماغ وما في الرأس هذه وسيلة تُمِدُّ القلب بالإدراكات. القلب هل يدرك من جهة كونه مضغة؟ لا، يدرك من جهة كونه بيت الروح، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:(51/11)
سبق في الكلام على حديث النعمان بن بشير في قوله عليه الصلاة والسلام (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) ونزيد المسألة بيانا بأن قوله عليه الصلاة والسلام (مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) أنه لشدة مقاربته للحرام، فإنه صُوِّرَ كأنه واقع فيه، فإنّ الذي يقع في الشبهات يؤدي به ذلك إلى مواقعة الحرام، كما مَثَّلَ له عليه الصلاة والسلام بقوله (كَالرَاعِي يَرْعَى حَوْل الحِمَى, يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ).
والقول الثاني: أن الوقوع في الحرام، أنّه لاشتباه الأمر عليه، وعدم دخوله فيه بحجة أنه ربما وقع في الحرام، يعني في أنّ هذا الأمر حكمه الحرمة، فوقع فيه من غير علم، وكان وقوعه فيه نتيجة لعدم استبرائه وبعده عن المشتبهات.
وهذان توجيهان وَجَّه بهما جماعة من الشُّرَّاح، وقد ذكرت لكم أيضا بالأمس توجيهان لأهل العلم تدخل في هذين.(51/12)
الحديث السابع -
وعن أبي رُقَيَّة تَميمٍ بنِ أَوْسٍ الدّارِي - رضي الله عنه - قال: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الدَّينُ النَصِيحَُة»، قلنا: لِمنْ يا رسول الله؟ قال «لله،وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المْسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمُ» [رواه مسلم].
[الشرح]
هذا الحديث حديث تميم الدّاري من الأحاديث الكلية العظيمة التي اشتملت على الدين كله؛ على حقوق الله، وحقوق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى حقوق عباده. فليس ثَمَّ أجمع في بيان تلك الحقوق من لفظ النصيحة.
والنصيحة هذه فَعِيلَة من النصح، وأصل النصح في لغة العرب فُسِّرَ بأحد تفسيرين:
الأول: أن النُّصح بمعنى الخلوص من الشوائب والشركة، فيقال: عَسَلٌ ناصح أو نصوح، إذا لم يَشُبْهُ شيء.
الثاني: فُسِّرَتْ النصيحة بأنها التئام شيئين بحيث لا يكون ثَمَّ تنافر بينهما، فيُعْطَى هذا الصلة بهذا حتى يكون التئام يوافق ما بين هذا وهذا. قالوا ومنه قيل للخياط: ناصح؛ لأنه ينصح الطرفين، إذ يجمعهما بالخياطة.
والنصيحة عُرِّفَتْ يعني في هذا الحديث بأنها إرادة الخير للمنصوح له، وهذا يتعلق بنصح أئمة المسلمين وعامتهم، أما في الثلاثة الأول، فإن النصيحة كما ذكرنا أن تكون الصلة بين الذاتين على التئام، بحيث يكون هذا قد أعطى حق هذا، فلم يكن بينهما تنافر، ومعلوم أنّ العبد في صلته بربه أن عليه حقوقًا كثيرة واجبة ومستحبة، وكذلك في حق القرآن، وكذلك في حق المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فقال عليه الصلاة والسلام (الدَّينُ النَصِيحَُة) وجعل الدينَ كلَّه النصيحة؛ كما سيأتي تفصيله لأن النصيحة تجمع الدين كله بواجباته ومستحباته، ففسرها بعد ذلك بقوله (قلنا: لمن يا رسول الله؟) إلى آخر الحديث.(52/1)
قال بعض العلماء (الدَّينُ النَصِيحَُة) يعني أن معظم الدين وجُلّ الدين: النصيحة، وهذا على أخذ نظائره، كقوله «الدعاء هو العبادة» و «الحج عرفة» وأشباه ذلك؛ لكن إذا تأملت في كون هذه الأشياء لها النصيحة رأيت أنها جمعت الدين كلَّهُ، في العقائد، وفي العبادات والمعاملات، وفي حقوق الخلق، وحقوق من له الحق بجميع صوره.
قالوا (لمن يا رسول الله ؟) واللام هنا في قولهم: لمن، يعني: للاستحقاق، النصيحة لله، يعني مستحقة، قالوا: (لمن؟) يعني من يستحقها في الدين؟ فأجابهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله، قال (لله، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المْسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمُ) فاشتملت على أشياء، على أمور:
الأول: النصيحة لله: وهي كلمة جامعة لأداء حق الله جل وعلا الواجب والمستحب، فحق الله الواجب هو الإيمان به، بربوبيته وإلهيته، وبأسمائه وصفاته:
1. إيمان بأنه هو الرب المتصرف في هذا الملكوت وحده، لا شريك له في ربوبيته، ولا في تدبيره للأمر، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد سبحانه وتعالى.
2. والنصيحة لله في ألوهيته أن يُعْطَى الحق الذي له في ألوهيته، وهو أن يُعْبَد وحده بجميع أنواع العبادات، وألا يُتَوَجَّه لأحد بشيء من العبادات إلا له سبحانه وتعالى، كل عبادة تُوُجِّه بها إلى غير الله جل وعلا فهي خروج عن النصيحة لله جل وعلا، يعني عن أداء الحق الذي له سبحانه وتعالى.(52/2)
3. وفي الأسماء والصفات: النصيحة لله جل وعلا أن نؤمن بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وأنّه لا سَمِي له، ولا نِدّ له، ولا كفوَ له، كما قال جل وعلا { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم:65]، وكما قال جل وعلا { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:4]. وكما قال جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، إلى غير ذلك من الآيات، فيعتقد المسلم أن الله جل وعلا له ما أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى، ومن الصفات العلا، وأنّه في أسمائه وفي صفاته ليس له مثيل، كما أخبر عن نفسه بقوله(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). فالغلو في الصفات بالتجسيم ترك للنصيحة الواجبة، والتفريط فيها، والجفاء بالتعطيل ترك للنصيحة الواجبة، والنصيحة بالتئام ما بينك وبين الله جل وعلا في شأن أسمائه وصفاته أن تثبت له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن غير تحريف ولا تأويل يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله جل وعلا.
أيضا من النصيحة لله جل وعلا أن يُحَبَّ جل وعلا، وأن يُتَّبَع أمره، وأن تتبع شريعته جل وعلا، وأن يُصدق خبره جل وعلا، وأن يُقبل عليه المرء بقلبه مخلصا له الدين، فالإخلاص في الأقوال والأعمال حق الله جل وعلا، والذي يقع في قلبه غير الله في الأعمال من جهة الرياء أو من جهة التسميع ما أدى الذي لله جل وعلا.
وهناك أيضا أشياء مستحبة لله جل وعلا مِنْ مثل أن -يعني في حق الله جل وعلا- من مثل ألا يقوم بالقلب غيره جل وعلا، فيُزْدَرَى الخلق في جنب الله جل جلاله، وأن يراقب الله جل وعلا دائما في السّرّ والعلن، فيما يأتي وما يذر من الأمور المستحبة، وأن يستحضر مقامه بين يدي الله جل وعلا دائما في الآخِرة، ونحو ذلك مما يدخل في المستحبات؛ فإنّ النصيحة فيه لله جل وعلا مستحبة.(52/3)
فهي منقسمة إلى ما أوجبه الشرع في حق الله، فيكون واجبا، وما كان مستحبا، فيكون من النصيحة المستحبة.
قال (وَكِتَابِهِ) يعني النصيحة مستحقة للكتاب، وهو القرآن، ومعنى ذلك أن يُعْطَى القرآن حقه، وهو أن يُوقن بأنه كلام الله جل وعلا. ([15])
قال: "وكتابه" يعني النصيحة مستحقة للكتاب، وهو القرآن، ومعنى ذلك أن يُعْطَى القرآنُ حقه، وهو أن يُوقَن بأنه كلام الله جل وعلا، تكلم به سبحانه وتعالى، وأنّه آية عظيمة، وأعظم الآيات التي أوتيها الأنبياء، وأنه الحجة البالغة إلى قيام الساعة. وأنّ هذا القرآن فيه الهدى والنور { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء:9]، وأنّ حكمه واجب الإنفاذ، ما أمر الله به في القرآن وجب إنفاذه، وما نهى عنه وجب الانتهاء عنه، وما أخبر به سبحانه فيه وجب تصديقه، وعدم التردّد فيه، إلى غير ذلك ممَّا يستحقُّه القرآن.
وأيضا من الحقوق المستحبَّة والنصيحة المستحبة للقرآن أن يُكثر من تلاوته، وألا يهجره في تلاوته وتدبره، وفي العلاج به، وأشباه ذلك مما جاءت به السنة في حق القرآن.
فهذا من التواصل ما بين ذي النصيحة وهو العبد المكلَّف وما بين القرآن؛ فإن النصيحة إلتآم واجتماع فيما بين هذا وهذا، ولا يكون الاهتمام إلا بأداء الحق، وهذا الحق على العبد للقرآن على نحو المعنى الذي أسلفت.(52/4)
كذلك النصيحة للرسول - صلى الله عليه وسلم - تكون بطاعته عليه الصلاة والسلام فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نَهَى عليه الصلاة والسلام وزجر، وألا يُعْبَد الله إلا بما شرع رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يؤمن العبد بأنه عليه الصلاة والسلام هو خاتَم الأنبياء والمرسلين، وأنّ كل دعوة للرسالة بعده عليه الصلاة والسلام كذب وزور وباطل وطغيان، وأنّه عليه الصلاة والسلام هو الذي يطاع { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر:7]، وأنه يُحَب عليه الصلاة والسلام لأمر الله جل وعلا بذلك، ولما يستحقه عليه الصلاة والسلام من المحبة الواجبة، وأن تُقَدَّمَ مَحَابُّه على مَحَابّ العبد، ونحو ذلك من النصيحة التي هي أيضا منقسمة إلى واجبة ومستحبة.
قال (وَلأَئِمَّةِ المْسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمُ) والنصيحة لأئمة المسلمين أن يُعْطَوا حقهم الذي أعطاهم الله جل وعلا إياه، وبينه تعالى في الكتاب، وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة؛ من طاعتهم في المعروف، وعدم طاعتهم في المعصية، وأن يُجتمع معهم على الحق والهدى، وعلى ما لم نعلم فيه معصية، وأن تُؤلف القلوب لهم، وأن يُجْتَمع عليهم، وأن يُدْعَى لهم، وهذا يشمل الحق الواجب والحق المستحب، وأن يُتْرَك الخروج عليهم بالسّيف طاعة لله جلَّ وعلا وطاعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يُبايع ولي الأمر المسلم، وألا يموت المرء، وثمَّ والٍ مسلم، وليس في عنقه بيعة له، وأن يأتمر إذا أمره بما ليس بمعصية، وأن ينتهي إذا نهاه عن غير الطاعة، يعني ما كان من قبيل الواجبات، فإن أمره بخلافها لا يُطاع فيه، وإذا أمر بمعصية لا يُطاع فيه، وما كان من قبيل المستحبات والاجتهادات يعني ما يدخله الاجتهاد فإنه يُتْرَك الرأي لما يراه الإمام المسلم؛ لأنّ في ذلك مصالح العباد والبلاد، كما قرره أهل العلم في هذا الموضع.(52/5)
أيضًا من النصيحة لهم أن تبذل النصح لهم، بمعنى النصح الذي يعلمه الناس، بأن تنبههم على ما يخطئون فيه، وما يتجاوزون فيه الشريعة لمن وصل له، وهذه المرتبة كما قال ابن دقيق العيد في شرحه وغيره هذه فرض كفاية تسقط بفعل البعض من أهل العلم ونحوهم، فحق ولي الأمر المسلم أن يُنْصَح، بمعنى أن يُؤْتَى إليه، وأن يُبَيَّن له الحق، وأن يُبَصَّر به، وأنْ يوضح له ما أمر الله جل وعلا به، وما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنْ يُعان على الطاعة، ويسدد فيها، ويُبَيَّن له ما قد يقع فيه من عصيان أو مخالفة للأمر، وهذه النصيحة الخاصة لولاة الأمر جاءت لها شروط وضوابط معلومة في شروح الأحاديث، ومن أمثل من تكلم عليها في هذا الموضع ابن رجب رحمه الله في ”جامع العلوم والحكم“، وساق عن ابن عباس وعن غيره أنواعا من الآداب والشروط التي ينبغي للناصح أن يتحلى بها إذا نصح ولي الأمر المسلم:
1. فمن ذلك أن تكون النصيحة برفقٍ، وسهولة لفظ؛ لأن حال ولي الأمر في الغالب أنه تَعُزّ عليه النصيحة، إلا إذا كانت بلفظ حسن، وهذا ربما كان في غالب الناس أنهم لا ينتصحون يعني لا يقبلون النصيحة إلا إذا كانت بلفظ حسن، وقد قال جل وعلا لموسى وهارون { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه:44]، فمن الآداب والشروط في ذلك أن تكون النصيحة بلفظ حسن؛ لأنه ربما كان اللفظ خشنا، فأداه ذلك إلى رفض الحق، ومعلوم أن الناصح يريد الخير للمنصوح له، كما قال أهل العلم في تفسير النصيحة: أنها إرادة الخير للمنصوح له. فكلما كان السبيل لإرادة الخير للمنصوح له فإنه يؤتى.(52/6)
2. ومن الشروط في ذلك أن تكون النصيحة لولي الأمر سرًّا وليست بعلن؛ لأن الأصل في النصيحة بعامة لولي الأمر ولغيره أن تكون سرا، بخلاف الإنكار كما سيأتي عند شرح أبي سعيد الخدري: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده» فإن الأصل في الإنكار أن يكون علنا، وأن الأصل في النصح أن يكون سرا. فالنصيحة لولي الأمر يجب ويشترط لكونها شرعية أن تكون سرا، بمعنى: أنه لا يعلم بها من جهة الناصح إلا هو، وألا يتحدث بها بأنه نصح وعمل وكذا؛ لأنه ربما أفسد المراد من النصيحة بذكره، وصعُب قبول النصيحة بعد اشتهار أن ولي الأمر نُصِح، وأشباه ذلك، وعلى هذا جاء الحديث المعروف الذي صحَّحه بعض أهل العلم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن ليخْلُ به، وليدْنُ منه، فإن قبل منه فذاك، وإلا فقد أدَّى الذي عليه ». فقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما هل أُنْكِر على الإمام علنا؟ فقال: لا، بل دَارِهِ بذلك سرا. وفي صحيح البخاري أيضا «أن أسامة بن زيد جاءه جماعة، وقالوا له: ألا تنصح لعثمان؟ ألا ترى ما نحن فيه؟ فقال: أما إني لا أكون فاتح باب فتنة وقد بذلته له سرا» أو كما جاء عن أسامة بن زيد في صحيح البخاري. فدل ذلك على اشتراط أن تكون النصيحة سرا، وهذا من حقه.
إلى غير ذلك من الشروط التي ذكرها أهل العلم في هذا الموضع.
والنصيحة لعامة المسلمين (وَلأَئِمَّةِ المْسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمُ) العامة هم غير الأئمة، والأئمة إذا أطلقت فإنه يراد بهم الأئمة في الأمر العام، وليس الأئمة في العلم؛ لأنّ على هذا جرى الاصطلاح.
أما لفظ (ولي الأمر) فإنه في الأصل أن ولي الأمر يُعْنَى به الإمام العام للمسلمين؛ لأن ولاة الأمر في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهد معاوية، لأن ولاة الأمر في ذاك الزمان كانوا يجمعون بين فهم الدنيا وفهم الشريعة.(52/7)
وأما بعد ذلك فقد قال العلماء: إن ولاة الأمر كلًّا فيما يخصه، هم العلماء والأمراء؛ الأمراء في الأمر العام الذي يتعلق بأمور المسلمين العامة، والعلماء في أمر دين الناس، فهذا حصل تفسير بأنّ ولاة الأمر يُعنَى بهم هذا وهذا؛ لأنه صار الأمر فيما بعد أنه تولّى الأمر مَن ليس بعالم لما شاع الملك في عهد بن أمية، ثم في عهد بني العباس، فما بعد ذلك.
فالنصيحة الأئمة المسلمين المقصود بهم في الحديث الأئمة الذين يلون الأمر العام، أما أئمة الدين فإنه أيضا لهم نصيحة، ولهم الحق، والنصيحة لهم يعني العلماء أن تحبَّهم لأجل ما هم عليه من الدين، وما يبذلون للناس من العلم والخير، وأن يُنصَروا فيما يقولونه من أمر الشريعة، وفيما يبلغونه عن الله جل وعلا، وأن يُذَبَّ عنهم وعن أعراضهم، وأن يُحبوا أكثر من محبة غيرهم من المؤمنين؛ لأن الله جل وعلا عقد الولاية بين المؤمنين بقوله { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [التوبة:71]. يعني بعضهم يحب بعضا، وينصر بعضا، ومن المعلوم أن أعلى المؤمن إيمانا هم الراسخون في العلم، أو هم أهل العلم العاملون به، كما قال جل وعلا { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11]، فالنصيحة لأهل العلم أن يُحَبُّوا، وأن يُذب عن أعراضهم، وأن يؤخذ ما ينقلونه من العلم، وأن ينصروا فيما نصروا فيه الشريعة، وأن تُحْفَظ لهم مكانتهم وسابقتهم، ونشرهم للعلم، ونشرهم للدين، وهذه كلها حقوق واجبة لهم؛ لأن لهم في الملة مقاما عظيما، وإذا طُعِنَ في أهل العلم، أو لم تُبْذَل لهم النصيحة الواجبة بهذا المعنى، فإن ذلك يعني أن الشريعة تضعف في الهيبة في نفوس الناس؛ فإنه إذا نِيلَ من العالم، أو لم يُنْصَر، ولم يُحْتَرم فإن الشريعة تضعف في نفوس الناس، لأنه إنما ينقلها أهل العلم.(52/8)
وأما النصيحة لعامة المسلمين فهي إرشادهم لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، لما فيه صلاحهم في دنياهم وفي آخرتهم، هذا جماع النصيحة للمؤمنين، بأن يحبوا في الله، وأن ينصروا في الحق، وأن يتعاون معهم على الخير والهدى، وألا يتعاون معهم على الإثم والعدوان، وأن يُبيَّن لهم الحق، وينصحوا فيه، ويُرشدوا إلى ما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم، بأنواع النصح بالقول والعمل، وأن يُنكر عليهم المنكر إذا واقعوه لحق الله جل وعلا، وأنهم إذا رُئي أنهم يحتاجون إلى عقاب شرعي أو تعزير يعني بحد أو تعزير فإنه يرحمهم بذلك، فإن هذه الأمور مبناها على الرحمة، فالنصيحة لعامة المسلمين أن تَبْذُل وتَحْكم فيهم بشرع الله، وأن تعطيهم حقهم، وأن تُلزمهم بأمر الله جل وعلا إذا كانوا تحت يدك، وهذا على قدر الاستطاعة. ثم إنه إذا حصل منهم ضدُّ ذلك فيُسْعَى فيهم بما يصلحهم، وما فيه سعادتهم وإرشادهم بالبيان، أو بالإلزام بحسب الأحوال.
وكل حق للمسلم على المسلم يدخل في النصيحة لعامة المسلمين، فكلمة النصيحة إذن كما ترى كلمة جامعة دخلت فيها جميع الحقوق الشرعية لله، وللكتاب، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المسلمين ولعامتهم، فهي كلمة عظيمة جامعة، جمعت الحقوق جميعا لما فيه خير الدنيا والآخرة للناصح، يعني للذي قام بالنصيحة، فكل مفرِّط في أمر من أمر الله فقد فرط في شيء من النصيحة الواجبة. والله المستعان.(52/9)
الحديث الثامن -
عن ابنِ عمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَه إَلاَّ الله، وَأنَّ مُحَمَدًا رَسُولُ الله، وَيُقيمُوا الصََّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا ِمنيّ دِمَاءهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقَّ الإسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله تَعَالى» [ رواه البخاري و مسلم]
[الشرح](53/1)
هذا الحديث حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال(أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَه إَلاَّ الله، وَأنَّ مُحَمَدًا رَسُولُ الله، وَيُقيمُوا الصََّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)، قوله (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا) يعني أن شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وما يلزم عنها من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، هذه لا بد من مطالبة الناس بها جميعا، المؤمن والكافر، والناسُ جميعا أُرْسِلَ إليهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأُمِرَ أن يقاتلهم بقول الله جل وعلا?وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً?[التوبة:36]، وبقوله { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } [التوبة:29]الآية?حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ?[التوبة:29]، أمر الله جل وعلا بالقتال حتى تُلْتَزم الشريعة، وهذا لا يعني أنه يُبْتَدأ بالقتال؛ بل هذا يكون بعد البيان، وبعد الإنذار، فقد كان عليه الصلاة السلام لا يغزو قوما حتى يؤذنهم، يعني حتى يأتيهم البلاغ بالدين، فقد أرسل عليه الصلاة والسلام الرسائل المعروفة إلى عظماء أهل البلاد فيما حوله، يبلغهم دين الله جل وعلا، ويأمرهم بالإسلام، أو فالقتال، وهذا ذائع مشهور.(53/2)
إذن فقوله عليه الصلاة والسلام (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا) يعني بعد البيان والإعذار، فهو يقاتلهم حتى يلتزموا بالدين، وهل هذا يعني أنه هو الخيار الوحيد؟ الجواب: هذا في حق المشركين؛ ولهذا حمل طائفة من أهل العلم أن الناس هنا هم المشركون الذين لا تُقْبَل منهم الجزية، ولا يقرون على الشرك. أما أهل الكتاب، أو من له شبهة كتاب، فإنه يُخيَّر، أهل تلك الملل ما بين المقاتلة يعني بين القتال أو أن يُعطُوا الجزية، حتى يكونوا في حماية أهل الإسلام، يعني أنهم تُدخل البلد ويكون هؤلاء رعايا لدولة الإسلام، وبذلك لا يُقتلون. وهذا في حق أهل الكتاب واضح؛ فإن أهل الكتاب مخيَّرون بين ثلاثة أشياء:
¨ إمَّا أن يسلموا، فتُعْصَم دماؤهم وأموالهم.
¨ وإما أن يُقَاتَلُوا حتى يظهر دين الله.
¨ وإما أن يرضوا بدفع الجزية، وهي ضريبة على الرءوس، مال على كل رأس، فيبقوا رعايا في دولة الإسلام، ويُسمَّون أهل الذمة.(53/3)
قوله عليه الصلاة والسلام (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أن لا إله إلا الله) المقصود بالشهادة هنا شهادة لا إله إلا الله، يعني: أن يقولوا: لا إله إلا الله، فأول الأمر أنه يُكَفّ عن قتالهم بأن يقولوا هذه الكلمة، وقد يكون قالها تعوذا، فتعصمه هذه الكلمة حتى يُنْظر عمله، ومعلوم في الصحيح قصة أسامة، وقصة خالد، حيث قُتل من قال لا إله إلا الله، فلما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - القاتل، قال «أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا يعني من القتل قال: فكيف تفعل بها إذا جاء يحاجُّ بها يوم القيامة؟» فندم، وود أنه لم يفعل ذلك، فهذا يُكتفى فيه بالقول، فإذن قوله عليه الصلاة والسلام (حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَه إَلاَّ الله، وَأنَّ مُحَمَدًا رَسُولُ الله) المقصود به هنا يعني في مبدأ الأمر أن يقول الكافر: أشهد أن لا إله إلا الله، أو أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ومن هنا اختلف العلماء؛ لم أضاف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعدها؟ قال (حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَه إَلاَّ الله، وَأنَّ مُحَمَدًا رَسُولُ الله، وَيُقيمُوا الصََّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)، ومن المعلوم أنه لا يشترط يعني بالإجماع أنه لا يشترط في الكفّ عن قتال الكافر أن يقيم الصلاة وأن يؤتي الزكاة، فقالوا هذا باعتبار المآل، يعني قالت طائفة: هذا باعتبار المآل، يعني يُكْتَفَى منه بالشهادتين، فيُكف عن دمه، ثم يطالب بحقها، وأعظم حقوقها الظاهرة إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، حتى يكون دخل في الدين بصدق، كما قال جل وعلا { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [التوبة:11]، فتبين بهذا أن قوله (وَيُقيمُوا الصََّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) ليست على ظاهرها، من أنه لا يُكَفّ عنه حتى تجتمع الثلاثة: الشهادة، والصلاة،(53/4)
والزكاة.
معلوم أنه قد يشهد قبل حلول ووقت الصلاة، ووقت الصلاة ربما، والصلاة تحتاج إلى طهارة، وإلى غسل، إلى غير ذلك، والزكاة تحتاج إلى شروط؛ من دوران الحول، وشروط أُخَر معروفة لوجوبها.
قال طائفة من أهل العلم: إنّ المقصود هنا (وَيُقيمُوا الصََّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) أنْ يلتزموا بها، يعني أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويلتزم بجميع شعائر الإسلام، وأعظمها حقّ البدن، وحقّ الله جل وعلا المتعلق بالبدن، وهو الصلاة، وحق الله جل وعلا المتعلق بالمال وهو الزكاة، ومعنى الالتزام أن يقول: أنا مخاطب بهذه، فمعناها أنه دخل في العقيدة، وفي الشريعة، فإنه قد يقول لا إله إلا الله. ولا يؤدي بعض الواجبات، لا يؤدي الصلاة، ولا يؤدي الزكاة، ويقول أنا لم أدخل إلا في التوحيد، ما التزمت بهذه الأعمال. فقالوا: دل قوله (وَيُقيمُوا الصََّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) على وجوب الالتزام بالعبادات، يعني: أن يعتقد أنه مخاطب بكل حكم شرعي، وأنه لا يخرج عن الأحكام الشرعية؛ لأن هناك من العرب من قبلوا بشرط ألا يُخَاطبوا بترك شرب الخمر، أو ألا يكونوا مخاطبين بعدم نكاح المحارم، وأشباه ذلك.(53/5)
فالالتزام بالشريعة معناه أن يكون معتقدا دخوله في الخطاب بكل حُكم من أحكام الشريعة، وهذا كما هو معلوم مقترن بالشهادتين. لهذا قال العلماء تُقاتَل الطائفة الممتنعة عن أداء شريعةٍ من شعائر الله، قالوا تقاتل الطائفة الممتنعة عن أداء التزام شعيرة من شعائر الإسلام، واجبة أو مستحبة، ومعنى قولهم”تقاتل الطائفة الممتنعة“: أنه لو اجتمع أناس فقالوا: نحن نلتزم بأحكام الإسلام، لكن لا نلتزم بالأذان؛ بمعنى أن الأذان ليس لنا، وإنما لطائفة من الأمة أخرى. أو يقولون: نلتزم إلا أن بالزكاة، فالزكاة لسنا مخاطبين بأن نعطيها الإمام، يعني أنهم يعتقدون أن شيئا من الشريعة ليسوا داخلين فيه، هذا الذي يسمى ”الامتناع“، الطائفة الممتنعة يعني: التي تقول هذا الحكم ليس لي، وإنما لكم، مثل مانعي الزكاة في عهد أبي بكر، يعني بعض مانعي الزكاة الذين ارتدوا، ومثل الذين يزعمون سقوط التكاليف عنهم، وأنهم غير مخاطبين بالصلاة والزكاة، وأنهم غير مخاطبين بتحريم الزنا وأشباه ذلك، فيه تفاصيل لهذا.
المقصود أن قوله عليه الصلاة والسلام (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَه إَلاَّ الله، وَأنَّ مُحَمَدًا رَسُولُ الله، وَيُقيمُوا الصََّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) أن هذا لأداء حقوق كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله.
اختلف العلماء في الفرد الذي يمتنع عن أداء الصلاة، يمتنع يعني يقول لا أؤديها. أما الذي لا يلتزم، بمعنى يقول أنا غير مخاطب. فسواء كان فرد أو جماعة، فإنه كافر، ليس له حق، ولا يُعْصَم ماله ولا دمه، لكن الذي يمتنع عن الأداء، مع التزامه بذلك، فاختلفوا: هل يُقْتَل تارك الصلاة؟ والصحيح فيها أن لا يُقْتَل حتى يستتيبه إمام أو نائبه، ويتضايق وقت الثانية عنها، ويؤمر بها ثلاثا، ثم بعد ذلك يقتل مرتدا على الصحيح.(53/6)
واختلفوا أيضا في المانع للزكاة هل يُقْتَل ؟ على روايتين عند الإمام أحمد، وعلى قولين أيضا عند بقية العلماء، يعني قوله: أنه يقتل، والثاني أنه لا يقتل في الفرد الذي يمتنع عن أداء الزكاة.
وهكذا في سائر الأحكام والصوم والحج، ثَمَّ خلاف بين أهل العلم فيمن تَرَكَ، هل يُقْتَل ؟ يعني وأصر على الترك، ودعاه الإمام وقال: افعل، هل يقتل أو لا يقتل؟ اختلفوا في هذا كله بما هو مبسوط في كتب الفروع، ومعروفة.
قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك (فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا ِمنيّ دِمَاءهُمْ وَأَمْوَا لَهُمْ) دَلَّ على أن الكافر مباح المال، ومباح الدم، وأن ماله وهو الحربي أن ماله مباح، يعني لا شيء في سرقة مال حربيٍّ، وهو من بينك وبينه حرب، تحاربه، فوجدت شيئا من ماله، فلا له لا يحرم ماله؛ لأنه قد أُبِيحَ دمه، وأبيح ماله بالتبع، بخلاف المعاهد والمستأمن، أو من خانك؛ فإنه لا يجوز أن تعتدي على شيء من أموالهم، حتى ولو كان غير مسلم، إلا إذا كان حربيا. يعني أنّ المستأمن والمعاهد والذِّمي ولو خانوا في المال فإنه لا يجوز التعدي على أموالهم، وإذا لم يخونوا من باب أولى؛ لأنهم لم يُبَحْ مالهم، وقد جاء في الحديث: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» لأنك تعاملهم لحق الله جل وعلا، فلا تستبيح مالهم لأجل ما هم عليه؛ بل تؤدي فيهم حق الله جل وعلا.
أما مَن ليس كذلك يعني المشرك الذي أبَى أن يشهد ألا إله إلا الله، وأن يقيم الصلاة، وأن يؤتي الزكاة فهذا لا يحرم ماله ودمه؛ بل يباح منه الدم، فيقتل على الكفر؛ لأنه أصر على ذلك، يعني بعد إقامة الحجة عليه، أو بعد الإعذار؛ لأن هذه هو الأصل.(53/7)
وجاء في صحيح مسلم ما هو بخلاف الأصل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ابن عباس المعروف: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا قوما وهم غارُّون» يعني بدون أن يؤذنهم. وهذا كالاستثناء للأصل، وله بعض أحكامه مما هو استثناء من القاعدة، فالأصل أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يقاتل قوما حتى يؤذنهم، حتى يبلغهم، وربما فعل غير ذلك في قصة بني المصطلِق المعروفة، أنه غزاهم وهم غارُّون، في تفاصيل ذلك.
قال (فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا ِمنيّ دِمَاءهُمْ وَأَمْوَا لَهُمْ إِلاَّ بِحَقَّ الإسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله جل وعلا) حق الإسلام يعني ما جاء في الإسلام التشريع به، من إباحة الدم، أو إباحة المال، فإذا شهدوا الشهادتين، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فإنهم إخوانُنا، فتحرم دماؤُهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، يعني إلا بما أباح الإسلام، أو شرع الله جل وعلا في هذه الشريعة أن دمهم مباح، مثل الثيب الزاني، والنفس بالنفس، وما أشبه ذلك مما هو معروف، وسيأتي بعضه في الحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى الثلاث».
قال( وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله - عز وجل -) هذا لما تقدم من أنه قد يشهد، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة ظاهرا، فنقول نقبل منه الظاهر، ونَكِلُ سريرته إلى الله جل وعلا كحال المنافقين، المنافقون نعلم أنهم كفار، لكن نعصم دمهم ومالهم بما أظهروه، وحسابهم على الله جل وعلا. بهذا نقول الكفر كفران:
1. كفر رِدّة: تترتب عليه الأحكام، من إباحة المال والدم.
2. وكفر نفاق: نعلم أنه كافر، ويُحْكَم عليه بأنه كافر، لكن لا تترتب عليه أحكام الكفر؛ لأنه ملحق بالمنافقين، وهذا معروف في تفاصيله في كلام أهل العلم.(53/8)
الحديث التاسع -
عن أبي هُرَيرَةَ عبدِ الرحمن بنِ صَخْرٍ - رضي الله عنه -قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ماَ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَما أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإَنَّمَا أَهْلَكَ الْذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفُهُم عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» [ رواه البخاري ومسلم ].
[الشرح]
هذا الحديث هو الحديث التاسع من هذه الأربعين النووية، وهو حديث أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر الدَّوسي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال(ماَ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَما أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، قال عليه الصلاة والسلام (ماَ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ) فما نهى عنه فإنّه يُجتَنَب، وهذا عام في كل منهي عنه، والمنهي عنه قسمان:
¨ منهي عنه للتحريم.
¨ ومنهي عنه للأفضلية، يعني يكون النهي فيه للكراهة.
وما كان للتحريم يجب فيه الاجتناب، وما كان للكراهية يستحب فيه الاجتناب.
إذن قوله عليه الصلاة والسلام (ماَ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ) هذا كقول الله جل وعلا { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر:7]، فالذي نهى عنه عليه الصلاة والسلام نحن مأمورون بالانتهاء عنه، فإن كان محرما فالأمر بالانتهاء عنه أمرُ إيجاب، وإن كان مكروها فالأمر بالانتهاء عنه أمر استحباب.(54/1)
إذا تقرر هذا، فالمنهي عنه خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الشريعة ليس هو النهي، وإنما الأصل فيها الأمر، والمنهيات بالنسبة للأوامر قليلة، وما نُهِيَ عنه لأجل أنه خلاف الأصل لم يجعل الله جل وعلا النفوسَ محتاجة إليه في حياتها؛ بل هي مستغنية عما نُهِيَ عنه؛ فإذا نظرت في باب الأطعمة فإن ما أُهِلَّ به لغير الله ليس محتاجا إليه، الميتة ليس محتاجا إليها، والأشربة المسكرة ليس المرء محتاجا إليها، والألبسة المحرمة ليس المرء محتاجا إليها؛ وإنما في الحلال كثير كثير غُنْيَة عن هذه المحرمات، فتكون هذه المحرمات في كل باب كالاستثناء من ذلك الباب، فالمحرمات من الأشربة استثناء مما أُبِيحَ وهو الكثرة في باب الأشربة، والمحرمات من الأطعمة استثناء مما أُبِيحَ وهو الكثرة في باب الأطعمة، وهكذا في باب الألبسة، وهكذا في البيوعات والعقود، وأشباه ذلك، وهذا من لطف الله جل وعلا بالعباد؛ فإنّه جل وعلا ما جعل شيئا منهيًّا عنه فيه إقامة الحياة، بل كل المنهيات عنها إنما ابتلَى الله جل وعلا العباد بها.(54/2)
وما لم يُنْهَ عنه فإنه، أو ما أُمِرَ به فإنه خير، سواء أَفَعَلَه المرء رغبة في الأجر بإخلاص، أو فعَلَه لغير مرضاة الله، هذا التفصيل يذكره العلماء عند قول الله جل وعلا في سورة النساء { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } [النساء:114]، فقال(لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) هذه المأمورات فيها خير، ولو فعلها بغير نية صالحة؛ لأنها متعدية النفع، متعدية الأثر، وإن فعلها بنية صالحة فإنه يؤجر مع بقاء الخير، وإن فعلها بغير نية فإنه لا يؤجر عليها مع بقاء خيرية هذه الأفعال، ولهذا وصفها بالخيرية، وبعد ذاك قال { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:114]، فمن أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس بلا نية، فقد أتى خيرا، ولو كانت نيته غير صالحة؛ لأن هذه الأفعال متعدية، وإذا أتاها بنية صالحة فإنه يؤجر عليها، بخلاف المحرمات؛ فما حُرِّم ونُهي عنه فإنه يجب اجتنابه، فلا خير فيه ألبتة، يعني من حيث تعدي الخير أو تعدي المصلحة، وقد يكون فيه منفعة دنيوية، لكنها مقابلة بالمضرة، كما قال جل وعلا في الخمر والميسر { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة:219]، ففيها نفع باعتبار المُعَيَّن، لكن باعتبار الضرر فيها إثم كبير، وهذا بخلاف الأوامر التي فيها خير.(54/3)
إذا تقرر هذا، فنقول قوله عليه الصلاة والسلام (ماَ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ) هذا عامٌّ في كل منهي، وجواب الشرط (فَاجْتَنِبُوهُ)، والمنهي عنه إما أن يكون محرما، وإما أن يكون مكروها كما ذكرت لك، والأصل في المنهيات يعني فيما نهى عنه عليه الصلاة والسلام إذا كان في أمور العبادات أنه للتحريم، وإذا كان في أمور الآداب أنه للكراهية، يعني إذا جاء النهي في أمر من العبادات فهو للتحريم؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، وإذا جاء النهي في أدب من الآداب، فالأصل فيه أن يكون للكراهة. بهذا أجمع العلماء على أن النهي الوارد في بعض الآداب، والأمر الوارد في بعض الآداب أنه للاستحباب في الأوامر، وللكراهة في النواهي، ومنه أخذ طائفة من أهل العلم أن النهي في الآداب للكراهة، يعني الأصل فيه للكراهة إلا إذا جاءت قرينة تدل على أن الأصل فيه للتحريم. مثلا: قال عليه الصلاة والسلام، أو جاء في مثلا في الحديث الذي رواه البخاري: «وألا أكف ثوبا ولا شعرا في الصلاة» هل هذا متصل في العبادة ؟ يعنى هو عبادة، أو هو أدب لشرط من شرائط العبادة وهو اللباس؟ هو أدب، ألا يكف ثوبا، ألا يكف شعرا هذا أدب، ولهذا ذهب عامة أهل العلم إلا عدد قليل ذهبوا إلى أن النهي هنا للكراهة، فلو صلَّى وهو كافٌّ ثوبه، أو وهو عاقص شعره، فالصلاة صحيحة، ولا إثم عليه، ولو كان النهي للتحريم لصارت الصلاة فاسدة كنظائرها. مثل الأوامر: «سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك»، (كُلْ بيمينك) عامة أهل العلم على أن الأكل باليمين مستحب، والأكل بالشمال مكروه، وهناك من قال بالتحريم، وفي كل المسائل هذه خلاف بتعارض الأصول فيما بين أهل العلم. لكن الجمهور هنا قالوا: هذا أدب، كل بيمينك، فلما كان أدب صار الأصل فيه أنه للاستحباب، و(كُلْ مما يليك) الأصل فيه أنه للاستحباب. ولهذا ترى في كثير من كتب أهل العلم يقول: النهي هذا للكراهة؛ لأنه من الآداب، والأمر(54/4)
للاستحباب؛ لأنه من الآداب، فيجعلون من الصوارف كون الشيء من الآداب، وهذا مهم.
قال عليه الصلاة والسلام هنا (ماَ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ) ولم يقيد بالاستطاعة، بل أوجب الاجتناب، بل قيد كما قلنا لأنّ الانتهاء من المنهيات ليس فيه تحميل فوق الطاقة؛ بل المنهيات لا حاجة للعبد بها، يعني لا تقوم حياته بها، بل إذا استغنى عنها تقوم حياتُه، فليس محتاجا ولا مضطرا إليها، وأما إذا احتاج لبعض المنهيات فهنا الحاجة يكون لها ترخيص بحسبها.
قال (وَما أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لأن الأوامر كثيرة، ليست مثل المنهيات، ومنها ما قد لا يستطيعه العبد، ولهذا جاءت القواعد بناء على هذا الحديث ”لا واجب مع العجز“. يعني أن المرء إذا عجز عن الشيء فلا يجب عليه، كما جاء في حديث عمران: «صلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع، فعلى جنب». فهنا يأتي ما استطاع، وقد قال جل وعلا { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِه } [البقرة:286]،([16]) وقال جل وعلا: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن:16]، وقال جل وعلا { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج:78] إلى آخر الأدلة على تعليق الوجوب بالقدرة والاستطاعة. إذن دلنا قوله عليه الصلاة والسلام (وَما أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أن الأوامر كثيرة، وأنه لا واجب إلا مع القدرة، تجب إذا قَدِرْت عليها، وإذا كنت عاجزا وغير مستطيع فلا يجب عليك ذلك بنص النبي عليه الصلاة والسلام.(54/5)
هنا اختلف العلماء في مسألة يطول الكلام عليها: هل منزلة النهي أعظم، أو منزلة الأمر؟ يعني هل الانتهاء عن المنهيات أفضل، أم فعل الأوامر والإتيان بها الأفضل؟ تنازع العلماء في هذا على قولين:
¨ القول الأول: أن الانتهاء عن المنهيات أفضل من فعل الأوامر، واستدلوا عليه بأدلة منها هذا الحديث، بأنه أمر بالانتهاء مطلقا، فقالوا الانتهاء فيه كلفة؛ لأنها أشياء تتعلق بشهوة المرء، و«حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» فالانتهاء عن المنهيات أفضل.
¨ وقال جماعة: بل الأمر أفضل، يعني امتثال الأمر أفضل وأعظم منزلة، واستدلوا عليه بأدلة منها أن آدم عليه السلام أُمِرَتْ الملائكة بالسجود له، فلم يسجد إبليس، يعني لم يمتثل الأمر، فخسر الدنيا والآخرة، فصار ملعونا إلى يوم يبعثون، وثم هو في النار أبد الآبدين، وهذا لعظم الأمر. قالوا وآدم أكل من الشجرة التي نهي عنها، فغُفِرَ له بذلك، فهذا أمر بالأمر فلم يمتثل فخسر، ذاك فعل المنهي عنه ثم أعقبته توبة.
وهذا القول الثاني هو الأرجح والأظهر في أن فعل الأوامر أعظم درجة، وأما المنهيات ارتكابها فإنه على رجاء الغفران، أما التفريط في الأوامر يعني الواجبات الشرعية، الفرائض والأركان ونحو ذلك فهذا أعظم وأعظم مما نهى الله جل وعلا عنه، مع ارتباط عظيم بين هذا وهذا.
وهذا يفيدنا في تعظيم مسألة الأمر، وأنّ الأمر في تعليق العباد به أعظم من تعليقهم بترك المنهي، خلاف ما عليه كثيرون مثلا من الدعاة وغيرهم والوعاظ، في أنهم يعظمون جانب المنهي عنه في النفوس الناس، وينهونهم عنه، ويفصلون في ذلك، ولا يفصلون لهم في المأمورات، ولا يحضونهم عليها، وهذا ليس بجيد؛ بل أمر الناس بما أمر الله جل وعلا به وحضهم على ذلك هذا أولى يعني أرفع درجة مع وجوب كلٍّ من الأمرين في البيان على الكفاية.(54/6)
قال( فَإَنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفُهُم عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ )، (أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلِكُمْ) أو (الْذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفُهُم عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) هذا لأن السؤال عن الأشياء لم تحرم لزيادة معرفةٍ، أو لتنطع، أو ما أشبه ذلك، هذا محرم، فما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - نأتي منه ما استطعنا، وفي وقت التشريع، في وقت نزول الوحي نُهِيَ الصحابة أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسائل؛ لأنه ربما حُرِّمَ عليهم بسبب المسألة، قد جاء في الحديث «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَّرمَ أَشْيَاءَ، فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا» ، وجاء أيضا في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما رجل سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّمَ لأجل مسألته»، فكثرة المسائل لا تجوز، قد كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت مسألتهم قليلة كلها في الفرائض، وكانوا يفرحون بالرجل يأتي من البادية ليسأل وليستفيدوا، وهذا من الأدب المهم الذي يُلْتَزَم به؛ فإن كثرة المسائل ليست دالة على دِين، ولا على ورع، ولا على طلب علم؛ وإنما ينبغي على طالب الحق، وصاحب الدِّين والخير أن يُقِلَّ المسائل ما استطاع، وقد قال جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } [المائدة:101]، فالسؤال عن أشياء لم يأتِ فيها تنزيل هذا ليس من فعل أهل الاتّباع، بل يُسأل عمَّا جاء به التنزيل؛ لأن الله جل وعلا في هذه(54/7)
الآية قال(لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فدلَّ على أن السؤال إذا كان متعلقا بفهم القرآن، ويتبعه فهم السنة فإنّ هذا لا بأس به، أما أن تكثر المسائل في أمور ليس وراءها طائل، فهذا مما ينبغي تركه واجتنابه، وقد قال هنا عليه الصلاة والسلام (فَإَنَّمَا أَهْلَكَ الْذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَ فُهُم عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)، وأنت تلحظ هذا، الذين يكثرون السؤال يكثر عندهم الخلاف، ولو أخذوا بما عليه العمل، وما تعلموه وعملوا به، وازدادوا علما بفقه الكتاب والسنة لحصلوا خيرا عظيما، أما كثرة الأسئلة تؤدي إلى كثرة الخلاف.
فلهذا ما يُسْكَت عنه ينبغي أن يظل مسكوتا عنه، وألا يُحَرَّك، إلا فيما كان فيه نص، أو تتعلق به مصلحة عظيمة للمسلمين، فيُسْكَت لا يُحَرَّك عن شيء؛ لأنه ربما لو حُرِّكَ بالسؤال لاختلف الناس ووقعت مصيبة الاختلاف والافتراق، وهذا ظاهر لكم في بعض الأحوال والوقائع، في التاريخ القديم والحديث.(54/8)
الحديث العاشر -
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيَّبٌ لََا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّبًا، وَإنَّ الله أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا بِهِ الْمُرْسلِينْ، فَقَالَ تَعَالَى { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [المؤمنون:51]، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة:172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغَْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبَّ؛ ياَ رَبَّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغَذيَ باِلْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟»[رواه مسلم ].
[الشرح]
هذا الحديث أيضا من الأحاديث التي قيل فيها: إنها أصل من أصول الدين، يعني أن كثيرا من الأحكام تدور عليها، وهذا الحديث فيه الأمر بالأكل من الطيّب، وأنه سمة المرسلين، وسمة المؤمنين بالمرسلين، وأثر ذلك الأكل الطيب من الحلال على عبادة المرء، وعلى دعائه، وعلى قَبول الله جل وعلا لعمله، فقال رحمه الله تعالى (وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ لََا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّبًا».) وقوله (إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ) يعني أنه جل وعلا منزَّه عن النقائص والعيوب، وأنه جل وعلا له أنواع الكمالات في القول والفعل، فكلامه جل وعلا أطيب الكلام، وأفعاله جل وعلا كلها أفعال خير وحكمة، والشر ليس إلى الله جل وعلا، فالله سبحانه طيب بما يرجع إلى ذاته، وإلى أسمائه، وإلى صفاته جل وعلا، ومن أوجه كونه طيبا أنه جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه، وهو المستحق لأنْ يُسلم المرء وجهه وقلبه إليه سبحانه دونما سواه.(55/1)
ولكونه جل وعلا طيبا لا يقبل إلا طيب، فقال عليه الصلاة والسلام (إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ لََا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّبًا).
ومعنى قوله (لََا يَقْبَلُ) يعني لا يرضى، ولا يحب إلا الطيب، وأيضا يعني لا يثيب، ولا يأجر إلا على الطيب.
فإنّ كلمة (لََا يَقْبَلُ) هذه في نظائرها مما جاء في السنة:
1. قد تتوجه إلى إبطال العمل.
2. وقد تتوجه إلى إبطال الثواب.
3. وقد تتوجه إلى إبطال الرضا بالعمل، وهو مستلزِم في الغالب لإبطال الثواب والأجر؛ يعني أن العمل قد يقع مُجْزئًا ولا يكون مقبولا، كما جاء في الحديث «لا يقبل الله صلاة عبد إذا أبق حتى يرجع». و«من أتى كاهنا أو عرافا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» وأشباه ذلك.
فتقرر أن كلمة (لََا يَقْبَلُ) هذه تتجه إلى نفي أصل العمل، يعني إلى إبطاله، كما في قوله «لا يَقْبَلُ الله صَلاَةَ حائِضٍ إِلاّ بِالخِمارٍ»، «لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةَ أحَدِكُم إذَا أحْدَثَ حَتّى يَتَوَضّأَ»، هذه فيه إبطال العمل إلا بهذا الشرط، وقد تتجه إلى إبطال الرضا به، أو الثواب عليه، فهذه ثلاثة أقسام.
هنا (إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ لََا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّبًا) تحتمل بحسب العمل:
¨ أن يكون المنفي الإجزاء.
¨ أو أن يكون المنفي الأجر والثواب.
¨ أو أن يكون المنفي الرضا به والمحبة له، يعني لهذا العبد حين عمل هذا العمل.
فقال (لََا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّبًا) يعني الذي يوصف بأنه مجزئ، وأنه مرضي عنه عند الله جل وعلا وأنه يثاب عليه العبد هو الطيب، وأما غير الطيب فليس كذلك، فقد يكون غير مرضي، أو غير مثاب عليه، وقد يكون غير مجزئ أصلا، بحسب تفاصيل ذلك في الفروع الفقهية.(55/2)
إذا تقرر هذا فقوله عليه الصلاة والسلام هنا (لََا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّبًا) هذا فيه أنّ الله جل وعلا إنما يقبل الطيب على الحصر، والطيب جاءت النصوص ببيان أن الطيب يرجع إلى الأقوال، وإلى الأعمال، وإلى الاعتقادات، فحصل أن الله جل وعلا من آثار أنه طيب أنه لا يقبل من الأقوال إلا الطيب، ولا يقبل من الأعمال إلا الطيب، ولا يقبل من الاعتقادات إلا الطيب.
ما هو القول الطيب، والعمل الطيب، والاعتقاد الطيب؟ فسّرْنا الطيب أولا بأنه هو المبرأ من النقائص والعيوب، وكذلك القول والعمل والاعتقاد هو المبرأ من النقص والعيب، يعني الذي صار بريئا من خلاف الشريعة.
فالطيب هو الذي وُوفِقَ فيه الشرع، فالقول والطيب هو الذي كان على منهاج الشريعة، والعمل الطيب هو الذي كان على منهاج المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، والاعتقاد الطيب ما كان عليه الدليل من الكتاب ومن السنة، فهذا هو الطيب من الأقوال والأعمال والاعتقادات. وإذا صار قول المرء طيبا فإنه لا يكون خبيثا، والخبيث لا يستوي والطيب، كما في آية المائدة { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [المائدة:100]، وكذلك في الأعمال والاعتقادات، فنتج من ذلك أن العبد إذا تحقق بالطِيبِ في قوله وعمله واعتقاده صار طيبا في ذاته، والطيب له دار الطيبين، كما قال جل وعلا { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ } [النحل:32]، ومن صار عنده خبث في بدنه وروحه، نتيجة لخبث قوله، أو خبث عمله، أو خبث اعتقاد، ولم يغفر الله جل وعلا له، فإنه يُطَهَّر بالنار حتى يدخل الجنة طيبا؛ لأن الجنة طيبة لا يصلح لها إلا الطيب.(55/3)
وهذا في الحقيقة فيه تحذير شديد، ووعيد وتخويف من كل قول أو عمل أو اعتقاد خبيث، يعني لم يكن على وَفْقِ الشريعة، فالطيب هو المبرأ من النقص، وأعظم النقص في العمل، أو من أعظم ما ينقص العمل أن يتوجه به إلى غير الله جل وعلا، وأن تُقْصَد به الدنيا.
فتَحَصَّل هنا أن قوله (إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ لََا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيَّبًا) يعني لا يقبل من العمل والقول والاعتقاد إلا ما كان على وفق الشريعة، وأُرِيدَ به وجهه جل وعلا، هذا حاصل تعريف الطيب؛ لأن العلماء نظروا في كلمة (طيب) في وصف الله جل وعلا وفيما ما يقابلها، وتنوعت أقوالهم، والذي يحقق المقام هو ما ذكرته لك.
قال عليه الصلاة والسلام «وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين» المرسلون أُمِرُوا، وأتباع المرسلين الذين هم المؤمنون أُمروا أيضا بما أُمر به المرسلون، فقال جل وعلا في قوله { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [المؤمنون:51]في آية المؤمنون، وقال جل وعلا في وصف المؤمنين، أو في أمره للمؤمنين في آية البقرة { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة:172] فأمر المؤمنين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر المرسلين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر الجميع بأن يعملوا صالحا، وهذا يدل على أثر أكل الطيبات في العمل الصالح؛ لأن الاقتران في قوله { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [المؤمنون:51] لأن الاقتران يدل على أن بينهما صلة، والصلة ما بين أكل الطيب والعمل الصالح هي تأثير الأكل الطيب في العمل الصالح، ولهذا قال كثير من أهل العلم: إن العمل لا يكون صالحا حتى يكون من مال طيب.
فالصلاة لا تكون صلاة صالحة مقبولة حتى يكون فيها الطيب من الأقوال، ويكون لباس المرء طيبا، ويكون تخلَّص من الخبيث من النجاسات وغيرها، إلى آخر ذلك.(55/4)
والزكاة لا تكون مقبولة حتى تكون طيبة، بأن تكون عن نفس طيبة، وألا يراد بها رياء ولا سمعة إلى آخر ذلك.
والحج كذلك؛ فمن حج من مال حرام لم يُقْبَل حجه؛ لأن الله جل وعلا لا يقبل إلا الطيب.
ثم ذكر عليه الصلاة والسلام مثالا من أمثلة تأثير الأكل الطيب في بعض الأعمال الصالحة، وأثر أكل الحرام في بعض الأعمال الصالحة، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه - (ثُمَّ ذَكَرَ -يعني النبي عليه الصلاة والسلام- الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغَْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبَّ؛ ياَ رَبَّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذيَ باِلْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك). قال: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغَْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ) ذكر هذه الصفات؛ لأن هذه الصفات مظنة الإجابة؛ فالسفر من أسباب إجابة الدعاء، قد جاء في الحديث الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة يستجاب لهم» وذكر منهم المسافر، فالسفر من أسباب الإجابة، وهذا قد تعرَّض لسبب من أسباب الإجابة وهو السفر، ووصفه بقوله (يُطِيلُ السَّفَرَ) وإطالة السفر تعطي كثيرا من الاغتراب، وفيه انكسار النفس، وحاجة النفس إلى الله جل وعلا إذا كان السفر للحاجة، قد يطيل السفر، يعني من حاجته يحتاج إلى السفر في معيشته، يحتاج إلى السفر في أموره، وإلا فإن المرء لا يختار إطالة السفر إلا لحاجة.
قال (يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغَْبَرَ) وهاتان الصفتان تدلان على ذِلّته، وعلى استكانته، وهذه يحبها الله جل وعلا، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لبس شيئا خَلِقًا، ولم يتزين، وإنما صار أشعث، ثم توجه في خلوة، ودعا الله جل وعلا وقال إنه أقرب للإجابة؛ لما في هذه الصفة من انتفاء الكبر، وقرب التذلل والاستكانة، وهذه يكون معها الاضطرار والرغب، وعدم الاستغناء.(55/5)
فذكر عليه الصلاة والسلام هذه الصفة، فقال (أَشْعَثَ أَغَْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ) وهذه الصفة أيضا ثالثة، في أنه يمد يديه إلى السماء في رغب أن يكون أتى بما يُجَابُ معه دعاء، ورفع اليدين في الدعاء سنة، كما سيأتي بيان بعض ذلك. يقول (يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبْ؛ ياَ رَبْ) وذكره هنا (ياَ رَبَّ) مكررة، ويجوز أن تقول: ياَ رَبَّ على حذف الياء، أو يا ربُّ على القطع، في تكريرها ذكر لصفة الربوبية، ومعلوم أن إجابة الدعاء من آثار ربوبية الله جل وعلا على خلقه، ولهذا لم تكن إجابة الدعاء للمؤمن دون الكافر، بل قد يجاب للكافر، ويجاب للمارد، وقد أجيب لإبليس؛ وذلك لأن إجابة الدعاء من آثار الربوبية، كرزق الله جل وعلا لعباده، وكإعطائه لهم، وكإصحاحه إياهم، وإمدادهم بالمطر، وأشباه ذلك مما قد يحتاجون إليه، فقد يدعو النصراني ويستجاب له، وقد يدعو المشرك ويستجاب له، إلى آخر ذلك، وتكون هنا الاستجابة لا لأنه متأهل لها؛ ولكن لأنه قام بقلبه الاضطرار والاحتياج لربه جل وعلا، والربوبية عامة للمؤمن وللكافر.(55/6)
ذكر هنا (يَا رَبَّ؛ ياَ رَبَّ) وهذا من آداب الدعاء العام كما سيأتي، وذكر هذا بلفظ الربوبية أيضا من أسباب إجابة الدعاء. قال في وصف حاله مع أنه تعرض لهذه الأنواع مما يجاب معه الدعاء قال في وصف حاله (وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ) بالتخفيف، فغلط من يقولها بالتشديد غُذِّيَ، لا، هي غُذِيَ من الغذاء، (غَذِيَ باِلْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك)، يعني فبعيد ويتعجب أن يستجاب لذلك وهو على هذه الحال، فمن كان ذا مطعم حرام، وذا مشرب حرام، وذا ملبس حرام، وغذي بالحرام، فهذه يستبعد أن يستجاب له، وقد جاء في معجم الطبرانى بإسناد ضعيف: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، اُدع الله لى أن أكون مجاب الدعاء. فقال «يا سعد، أَطِبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة»، وهذا في معنى هذا الحديث، فإن إطابة المطعم من أسباب الإجابة، فهذا تعرض لأنواع كثيرة من أسباب الإجابة، ولكنه لم يأكل طيبا؛ بل أكل حراما، فمُنِعَ الإجابة، واستُغْرِب أن يجاب له.
وقد جاء أيضا في بعض الآثار الإلهية أن موسى عليه السلام طلب من ربه أن يجيب لقومه دعاءهم، فقال: يا موسى، إنهم يرفعون أيديهم، وقد سفكوا بها الدم الحرام، وأكلوا بها الحرام، واستعملوها في حرام، فكيف يجابون؟
وهذا لا شك أنه مما يخيف المؤمن؛ لأن حاجته للدعاء أعظم حاجة، فدل هذا على أنّ إطابة المطعم من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وأنه إذا تخلف هذا السبب ولو وُجدت الأسباب الأخر فإنها لا تجاب الدعوة غالبا لقوله (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك).(55/7)
هذا الحديث دَلَّنَا في آخره على آداب من آداب الدعاء، فذكر منها السفر يعني من أسباب إجابة الدعاء، فالسفر يُتَحَرَّى فيه الدعاء، والإتيان للدعاء بتذلل واستكانة في الظاهر والباطن، هذا أيضا من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء في الدعاء، هذا أيضا من أسباب إجابة الدعاء، ورفع اليدين إلى السماء له ثلاث صفات في ثلاثة أحوال دلت عليها السنة:
أما الأول: فهو بالنسبة للخطيب القائم، فإنه إذا دعا يشير بإصبعه فقط، بإصبعه السبابة، وهذا دليل دعائه وتوحيده، ولا يُشْرع له أن يرفع يديه إذا خطب قائما على المنبر أو على غيره، إلا إذا استسقى، فإنه يرفع يديه، ويرفع الناس معه أيديهم، كما جاء في حديث أنس وغيره في البخاري والنسائى وغيرهما، هذه الحالة الأولى، رفع اليدين بالاكتفاء برفع الإصبع.
والثاني: أن يرفع يديه إلى السماء رفعا شديدا، بحيث يُرَى بياض الإبطين، يعني شديد جدا هكذا، وهذا إنما يكون في الاستسقاء، وفي الأمر الذي يصيب المرء معه كرب شديد، بما فيه استجارة عظيمة، وكرب شديد، فهذا يرفع يديه إلى السماء بشدة، وهذه لها صفتان: إما أن تكون اليدان بَطْنُهما إلى السماء، وإما أن تكون اليدان ظهرهما إلى السماء، ورد هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وورد هذا، وتفاصيل هذا يعني تحتاج إلى وقت.
الثالث: أن يرفع يديه مبسوطة الكفين إلى الصدر، يعني إلى موازاة ثديي الرجل والمرء، وهذا هو أغلب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، بل كان دعاؤه في عرفه هكذا؛ يرفع يديه إلى الثديين، ويمدهما كهيئة المستطعم، لا يجعلهما إلى الوجه هكذا، ولا بعيدة عنه بحيث ما تكون إلى الثديين، بل يبسطها كهيئة المستطعم المسكين، يعني: كهيئة المسكين الذي يريد أن يُعْطَى شيئا في يديه.(55/8)
وقد ثبت بالسنن من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله حَييٌّ كريم، يستحيي من عبده أن يمد إليه يديه، يطلب فيها خيرا، فيرُدَّهما صفرا خائبتين»، وهذا من أعظم الآداب.
فإذن نخلص من ذلك إلى أن آداب الدعاء كثيرة، وهذا مثل قاله عليه الصلاة والسلام يعني مثل أثر الحلال الطيب في العبادة ذكر الدعاء، كذلك له أثر في الصلاة،، له أثر في العبادات، في الذكر، إلى آخره. فالله جل وعلا لا يقبل إلا طيبا، فمن أكل حراما فيتحرك بجسده في حرام، فقد تجزؤه صلاته، لكن لا يكون بتحركه في بدنه بحرام مرضيا عند الله جل وعلا، ولو كانت صلاته خاشعة؛ بل أعظم ما يُبَرّ به البدن أن يكون البدن طيبا بالأكل، فلا يأكل إلا ما يعلم أنه حلال، بما يعلم أنه طيب، فهذا له أثر في رضا الله جل وعلا عن العبد، وقبوله لصلاته وصيامه، وقبوله لأعماله كلها.
قوله في آخره (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك) يعني عجيب وبعيد أن يستجاب له، وقد يستجاب له، قد يستجاب له لعارض آخر، صادفه اضطرار، وشدة إلحاح، وحاجة ماسة، فهذه يُعْطَى معها حتى الكافر { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت:65]، المشرك قد يستجاب له، وكذلك المؤمن العاصي الذي أكل الحرام قد يستجاب له، لكن في حالات قليلة، وذلك إذا كان معها حالة اضطرار، أو شفع له غيره، وكان مع مُجاب الدعوة فأَمَّنَ عليه، أو ما شابه ذلك من الاستثناءات التي ذكرها أهل العلم.(55/9)
الحديث الحادي عشر -
عن أبي مُحمَّدٍ الحسنِ بنِ عليَّ بنِ أَبي طالبٍ سِبْطِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَيْحَانَتِهِ-رضي الله عنهما- قال: حَفِظْتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «دَعْ مَا يَريبُكَ إِلَى مَا لاَ يَريبُكَ » [رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حيث حسن صحيح.]
[الشرح]
هذا الحديث عظيم أيضا، وهو في المعنى قريب من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث النعمان بن بشير « فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ».
فهذا الحديث قال فيه الحسن - رضي الله عنه -: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (دَعْ مَا يَريبُكَ إِلَى مَا لاَ يَريبُكَ) وهذا أمر، وقوله (يَريبُكَ) بفتح الياء، ويجوز يُريبك بالضم، لكن الفتح أفصح وأشهر، (دَعْ مَا يَريبُكَ) يعني ما تشك فيه، ولا تطمئن له، وتخاف منه؛ لأن الرَّيب هو الشك وعدم الطمأنينة، وما يخاف منه من يأتيه فلا يدري هل هو له أم عليه؟.
(دَعْ مَا يَريبُكَ) يعني إذا أتاك أمر فيه عدم طمأنينة لك، أو أنت إذا أقبلت عليه، أو إذا أردت عمله، استربت منه، وصرت في خوف أن يكون حراما، فدعه إلى شيء لا يريبك؛ لأن الاستبراء مأمور به، فترك المشتبِهات إلى اليقين هذا أصل عام، وهذا الحديث دل على هذه القاعدة العظيمة: أنّ المرء يبحث عن اليقين؛ لأن فيه الطمأنينة، وإذا حصل له اليقين سيدع ما شك فيه، فمثلا إذا اشتبه عليه في أمر مسألة ما، هل هي حلال أم حرام؟ فإنه يتركها إلى اليقين، وهو أن يستبرئ لدينه، فيترك المسألة، أو إلى ما هو حلال بيقين عنده، أو مال اشتبه عليه، فيدع ما يريبه منه، ويأتي ما لا يريبه. وكذلك في العبادات، وإذا قلنا العبادات، فنعني بها الشعائر؛ لأن العلماء إذا قالوا:(56/1)
¨ العبادة بالإفراد أرادوا منها ما يدخل في تعريف العبادة: ”اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.. “إلى آخره.
¨ وإذا قيل: العبادات بالجمع فيريدون بها الشعائر: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وأشباه ذلك.
ففرق ما بين الإفراد والجمع، كما فرقوا بين السماء والسماوات، ونظائر ذلك.
في العبادات أيضا يأتي اليقين، وإذا طرأ الشك عليه فلا يدع هذا اليقين لشك طرأ؛ لأن اليقين لا يريبه، وما وقع فيه من الشك هذا يريبه، ولا يطمئن إليه، فإذا اشتبه عليه مثلا في الصلاة هل أحدث، أم لم يحدث ؟ هل خرج من شيء، أم لم يخرج منه شيء ؟ فيبني على الأصل، وهو ما لا يريبه، وهو أنه دخل في الصلاة على طهارة، متيقن منها، فيبني على الأصل، ويدع ما طرأ عليه من الشك إلى اليقين، كان متطهرا فشكَّ هل أحدث أم لا؟ يبني على الأصل، ويدع الشك.
وهذا أصل عظيم -كما ذكرنا هذا الحديث- أصل عظيم من أصول الشريعة كما مَرَّ معنا في حديث النعمان بن البشير، فيدخل فيه ترك جميع ما يَريب المسلم إلى شيء يتيقن من جوازه، وألا يلحقه به، وأنه لا يلحقه به إثم، أو شيء في دينه أو عرضه، لهذا جاء هذا المعنى في أحاديث كثيرة، وقال ابن مسعود رحمه الله: ”دَعْ الواحد الذي يريبك -يعني الشيء الواحد الذي يريبك- إلى أربعة آلاف لا تريبك“ يعني ابن مسعود رحمه الله أن الذي يريب قليل، والذي لا يريب المرء سواء في الأقوال أو في الأعمال أو في الاعتقادات هذا كثير ولله الحمد، فالذي يريب اتركه، الذي يريبك من العلم، الذي يريبك من القول، الذي يريبك من الأعمال، الذي يريبك من العلاقات، الذي يريبك من الظن، كل ما يريبك، تخاف منه، ولا تطمئن إليه، فدعه واتركه إلى أمر لا يريبك، وهو كثير ولله الحمد، فهذا فيه طلب براءة الذمة إلى الأشياء المتيقنة.(56/2)
وإذا تقرر هذا فالحديث له تكملة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام «فإن الصدق طمأنينة، أو إن الخير طمأنينة، وإن الكذب ريبة» يعني في تكملة في بعض الروايات، وهذا يدل على أن كل ما فيه خير تطمئن له نفس المؤمن، فأنت تأتي إلى ما تتلفظ به من أقوال، فتزنها بهذا الميزان، ما تأتيه من أعمال فتزنها بهذا الميزان، والعجب ممن يتكلم بشيء وهو بداخله غير مرتاح له، ومع ذلك يغشاه، فهذا مخالف لهذا الأمر العظيم، كذلك أعمال لا يرتاح لها، أو صُحبة لا يرتاح لها، ومع ذلك يأتيها وهو غير مطمئن لذلك، وهذا لا شك أنه مخالفة لهذه الوصية العظيمة (دَعْ مَا يَريبُكَ إِلَى مَا لاَ يَريبُكَ) وهذا توجيه نبوي عظيم الفائدة عظيم العائدة، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستعملون هذا.
وهذا الحديث أصلٌ في الورع، أصلٌ في ترك المشتبهات، أصل في التَخَوُّف من أي نوع من الحرام، والورع سهل، قد قال بعض السلف أظنه حسان بن أبي سِنَان قال: ”إذا أتاني أمر وفيه ريبة تركته، وما أسهلها على النفس“، وهذا ولا شك عند نفس المؤمن الذي أخبت لربه، فإنه إذا أتاه ما يريبه يتركه، ويكون في ذلك راحة النفس وطمأنينة القلب، وهذا أمر واضح في الشريعة.(56/3)
الحديث الثاني عشر -
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ » [حديث حَسَن رواه الترمذي وغيره هكذا ].
[الشرح]
هذا الحديث أيضا من الأحاديث الأربعة التي قال فيها طائفة من أهل العلم منهم ابن أبي زيد القيرواني المالكي المعروف: إنه أحد أحاديث أربعة هي أصول الأدب في السنة؛ فهذا الحديث أصل من الأصول في الآداب، كما ذكرنا لكم في أول هذه الدروس أن النووي رحمه الله اختار هذه الأحاديث كلية في أبواب مختلفة، في كل باب أصل من الأصول فيه.
قال هنا (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ».) (مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ) (مِنْ) هنا تبعيضية، يعني ترك ما لا يعني، وبعض ما يحصل به إحسان الإسلام.([17])
(مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ) (مِنْ) هنا تبعيضية، يعني: أن ترك ما لا يعني هو بعض ما يحصل به إحسان الإسلام، وحسن الإسلام؛ يعني (مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ) بعض ما به حُسْن إسلام المرء ترك ما لا يعني، وهذا ظاهر مِن اللغة، وقوله عليه الصلاة والسلام هنا (حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ) حسن الإسلام جاء هذا اللفظ ومشتقاته في أحاديث متعددة منها مثلا قول النبي عليه الصلاة والسلام «إذا أحْسَن أحدُكم إسلامَه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا عمل بالسيئة كانت السّيئة بمثلها» وله ألفاظ أُخَر، فدلّ هذا وغيره على أن إحسان الإسلام مرتبة عظيمة، وفيها فضل عظيم.
وإحسان الإسلام مما اختَلَف فيه أهل العلم:(57/1)
1. فقالت طائفة: إحسان الإسلام أنْ يأتي بالواجبات، وأن ينتهي عن المحرمات، وهي مرتبة المقتصدين، يعني الذين جاءوا بقول الله جل وعلا { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } [فاطر:32] فالمقتصد هو الذي يأتي بالواجبات، ويترك المحرمات، ويجعل مع الواجبات بعض النوافل، فقالوا المحسن لإسلامه هم أهل هذه الصفة، يعني الذين يأتون بالواجبات وبعض النوافل، ويدعون المحرمات جميعا، فمن كان كذلك فقد حسن إسلامه.
2. والقول الثاني: أَنَّ إحسان الإسلام معناه أن يكون على رتبة الإحسان في العبادة التي جاءت في حديث جبريل المعروف قال «فأخبرني عن الإحسان؟»، قال«أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ»، فالذي يُحسن إسلامه هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان، إما على درجتها الأولى؛ درجة المراقبة، أو على كمالها وهو درجة المشاهدة، وهذا القول الثاني ظاهر في الكمال، ولكنه ليس ظاهرا في كل المراتب.(57/2)
3. ولهذا قالت طائفة أيضا من أهل العلم: إن إحسان الإسلام ليس مرتبة واحدة بل الناس مختلفون فيها، فبقدر إحسان الإسلام يكون له الفضل والثواب الذي أعطيه من أحسن إسلامه، فمثلا في قوله عليه الصلاة والسلام «إذا أحسن أحدكم إسلامَه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف» قالوا هنا: (عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف)، عشر حسنات لكل من أحسن الإسلام، يعني لمن كان له الإسلام، وحسن منه فإنه يبدأ من عشر أضعاف للحسنة؛ يعني تكتب له الحسنة بعشر أمثالها (إلى سبعمائة ضعف)، هذا بحسب درجته في إحسان الإسلام، فدل تنوع الثواب على تنوع الإحسان، يعني أن درجة الإحسان تختلف، وأهل إحسان الإسلام فيه متفاوتون لتفاوت الفضل والمرتبة والأجر على ذلك، فقال (إلى سبعمائة ضعف)، فمن أسباب مزيدها إلى سبعمائة ضعف أن يكون إحسانه للإسلام عظيما؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن الحسنة بعشر أمثالها لكل أحد. يعني لكل مسلم في قوله جل وعلا في آخر الأنعام { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام:160] قال هذا لكل أحد، أمّا من أحسن إسلامه فإنه في قول الله جل وعلا { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:40] وهذا تقرير صحيح، فإنّ الناس في إحسان الإسلام مراتب.
وهذه المسألة مشكلة، يعني لو راجعت في الشروح، وكلام أهل العلم مشكلة، لكن كلام أهل التحقيق الذين قرروا هذه المسألة: بينوا أن إحسان الإسلام له مراتب، يعني ليس مرتبة واحدة، وأن أهل المعصية، يعني من ظلم نفسه، ليس من أهل إحسان الإسلام.(57/3)
فقال (مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ) يعني هذا الفعل، وهو ترك ما لا يعني من حُسن إسلامه، وهذا ظاهر في المرتبتين جميعا، فإن الذي يأتي الطاعات، ويبتعد عن المحرمات فإنه منشغل بطاعة ربه عن أن يتكلف ما لا يعنيه، وأما أهل الإحسان في مقام المراقبة، أو ما هو أعظم منها، وهو مشاهدة آثار العِصمة والصفات في خليقة الله جل وعلا فهؤلاء منشغلون بإحسان العمل الظاهر والباطن عن أن يكون لهم همٌّ فيما لا يعنيهم.
إذا تقرر هذا فما معنى قوله (مَا لاَ يَعْنِيهِ)؟ ما هو الذي يعني والذي لا يعني؟ العناية في اللغة: شدة الاهتمام بالشيء، أو الشيء المهم الذي يُهْتَمُّ به، والذي لا يعني وليس لي به عناية هو الشيء الذي لا ينفع المعتني به؛ يعني لا ينفع المتوجه إليه، وليس له به مصلحة، ومعلوم أن أمور الشرع المسلم له بها عناية، وأنّ فقه الكتاب والسنة له به لكل مسلم به عناية، يعني فيشتد اهتمامه بها.
فإذن الاهتمام مما فيه فقه للنصوص هذا مما يدل على حسن إسلام المرء، قال (مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ) بالمفهوم أن من حسن إسلام المرء الاهتمام بما يعنيه، ما لا يعني المرء المسلم من الأقوال التي ليس لها نفع له في دينه، ولا في دنياه أو في آخرته أو في أولاه، فإنّ تركها من حسن إسلام المرء، وهذا عام يشمل ما يتصل بفضول العلوم التي لا تنفعه، وبفضول المعاملات، وبفضول العلاقات، ونحو ذلك، فتركه ما لا يعنيه في دينه فإنه –هذا- دليل حسن إسلامه، يعني دليل رغبته في الخير؛ لأن التوسع، أو إتيان ما لا يعنيه في العلاقات، أو في الأقوال أو في السمع إلى آخره، هذا زريعة لأن يرتكب شيئا محرما، أو أن يفرط في واجب، تفوته رتبة المقتصدين التي هي أقل رتب أهل حسن الإسلام.(57/4)
أدخل الشراح أيضا -وهذا واضح وبَيِّن، وقد جاء في بعض الأحاديث- أن مما لا يعني المرء الكلام أو السماع، الكلام نطقا أو سماع الكلام، يعني أن من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الكلام سماعا أو نطقا، وهذا ظاهر بين؛ لأن اللسان هو مورد الزلل، والأذن أيضا هي مورد الزلل، فاللسان نطقا محاسب عليه العبد { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق:18]، وهذه الآية عامة، فإنّ الملَكَ يكتب كل شيء حتى الأشياء التي لا تؤاخذ بها، قال بعض السلف: يكتب حتى أنين المريض، يعني حتى ما لا يؤاخذ به فإنه يكتبه، وهذا هو الراجح في أنه يكتب كل شيء، ولا تختص كتابته بما فيه الثواب والعقاب، وذلك لدليلين:
¨ الأول: أن قوله (مِنْ قَوْلٍ) هذه نكرة في سياق النفي، وسبقتها من، وهذا يدل على التنصيص الصريح في العموم يعني: الذي لا يتخلف معه شيء من أفراده ألبته، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) فأي قول لُفِظَ فإنه يكتب.(57/5)
¨ الدليل الثاني: أن تقسيم ما يكتبه الملك إلى أنه يكتب ما فيه الثواب والعقاب، هذا يُحتاج له، أن يُثبت أن الملَك الذي يكتب عنده التمييز في الأعمال ما بين ما فيه الثواب، وما لا ثواب فيه، والتمييز في النيات وأعمال القلب والأقوال التي تصدر عن أعمال القلوب وإلى آخره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان: وهذا لا دليل عليه، يعني: أن الملك يعلم ما يثاب عليه من الأقوال، وما لا يثاب عليه، وإنما الملك كاتب، كما قال جل وعلا { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف:80]، { كِرَامًا كَاتِبِينَ } [الإنفطار:11] إلخ. دل هذا على أن ترك ما لا يعني في الأقوال في القول لفظا أو سماعا أن هذا مما تعظم به درجة العبد. { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } [النساء:114].
فلهذا يظهر من الحديث عند كثيرين أن المراد به كما ذكرت القول أو السماع، فيدخل فيه إذن البحث عن أحوال لا تخصك، أو لا تعنيك في دينك، أو الحرص على معرفة الأخبار، أخبار فلان، وإيش عمل، وأيش سوَّى وقال وفعل، وخبره مع فلان، وأيش عندك من الأخبار، وأيش قال فلان، والناس أيش عملوا، ونحو ذلك، فالاهتمام بهذه الأشياء بما لا يعني هذا مخالف لما يدل عليه حسن الإسلام، فمن أدلة حسن الإسلام ترك ما لا يعني من فضول الأقوال، وفضول ما يسمع.(57/6)
فإذن هذا الحديث من أحاديث الآداب العظيمة فينبغي لنا وجوبا أن نحرص على حسن الإسلام؛ لأن فيه من الفضل العظيم ما فيه، ومن حسن الإسلام أن نترك ما لا يعني من الكلام أو السماع، الكلام، الأسئلة التي ليس لها داع، يأتي يستفصل، وتارة مع من هو أكبر منه، أو من قد يحرج باستفصاله، وتدقيق في الأسئلة، تجميع الأخبار عن الناس، وهذا فَعَل، وهذا ترك، وهذا ذهب، وهذا جاء إلى آخره، والتحدث بها، وتوسيع ذلك هذا كله مذموم، ويسلب عن العبد حسن الإسلام إذا غلب عليه، ولهذا نقول: في هذا الحديث وصية عظيمة في هذا الأدب العظيم من المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ فإنّ من حسن إسلام المرء أن يترك ما لا يعنيه، ما لا يعنيه في دينه، ما لا يعنيه في أمر دنياه، ما لا يعنيه من الأقوال، ومما يَسمع أو مما لا يُسمع، وأشباه ذلك، فإن في هذا الأثر الصالح له في صلاح قلبه، وصلاح عمله، والناس يؤتون من كثرة ما يسمعون أو يتكلمون، ولهذا قال بعض السلف في أناس يُكثرون الكلام والحديث مع بعضهم قال: هؤلاء خفَّ عليهم العمل، فأكثروا الكلام، وهذا مذموم أن نكثر الكلام بلا عمل، نجلس مجالس طويلة ساعة، ساعتين، ثلاث في كلام مكرّر، وضار لا نفع فيه والواجبات لو تأمَّلها كثيرة، تجد أنه يتوسع في مباح، وربما كان معه بعض الحرام في الأقوال والأعمال ويترك واجبات كثيرة، وهذا ليس من صفة طلاب العلم، فطالب العلم يتحرى أن يكون عمله دائما فيما فيه نفعٌ له، يعني فيما يعنيه مما أُمر به في الشريعة أو حُثَّ عليه، وأن يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.(57/7)
هذا الحديث قال عنه النووي في آخره (حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا)، وتحسينه من جهة كثرة طرقه، من كثرة شواهده، والراجح عند علماء العلل أنه مرسل، فقد قال أحمد ويحيى بن معين وجماعة: إن الصواب فيه أنه مرسل، ولكن له شواهد كثيرة قريب من لفظه؛ ولهذا حسنه النووي رحمه الله وقال(حديث حسن، رواه الترمذي وغيره هكذا) فالصواب أنه حسن لغيره لشواهده.(57/8)
الحديث الثالث عشر -
عن أبي حمزةَ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - -خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِه »[رواه البخاري و مسلم ]
[الشرح]
هذا حديث أنس - رضي الله عنه - وهو الحديث الثالث عشر من هذه الأحاديث النووية. قال(عن أبي حمزةَ أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - -خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لاَ يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُهُ لِنَفْسِه»)
(لاَ يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ) هذه الكلمة تدل على أنّ ما بعدها مأمور به في الشريعة، إما أمر إيجاب أو أمر استحباب، ونفي الإيمان هنا قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان كما أحضرنيه بعض الأخوة (لاَ يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ) أن هذا نفي لكمال الإيمان الواجب، فإذا نُفِي الإيمان بفعل دل على وجوبه، يعني على وجوب ما نفي الإيمان لأجله، (لاَ يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِه) دل على أن محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه واجبة، قال: لأن نفي الإيمان لا يكون لنفي شيء مستحب، فمن ترك مستحبا لا يُنفي عنه الإيمان، فنفي الإيمان دال على أن هذا الأمر واجب، فيكون إذاً نفي الإيمان نفيٌ لكماله الواجب، فيدلّ على أن الأمر المذكور، والمعلّق به النفي يدلّ على أنّه واجب.
إذا تقرر هذا فقوله هنا (لاَ يُؤْمِنَ أَحدُكُمْ حَتَّى) له نظائر كثيرة في الشريعة يعني في السنة «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»، (لاَ يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِه)، «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» وهكذا، إذا تقرر ذلك فإن نفي الإيمان فيها على باب واحد، وهو أنه ينفي كمال الإيمان الواجب.(58/1)
ثم قوله عليه الصلاة والسلام (حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِه) هذا يشمل الاعتقاد والقول والعمل، يعني يشمل جميع الأعمال الصالحة من الأقوال والاعتقادات والأفعال، فقوله: (حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِه) يشمل أن يحب لأخيه أن يعتقد الاعتقاد الحسن كاعتقاده، وهذا واجب، ويشمل أن يحب لأخيه أن يكون مصليا كفعله.
فلو أحب لأخيه أن يكون على غير الهداية فإنه ارتكب محرما فانتفى عنه كمال الإيمان الواجب، لو أحب أن يكون فلان من الناس على غير الاعتقاد الصحيح الموافق للسنة، يعني على اعتقاد بدعي فإنه كذلك ينفي عنه كمال الإيمان الواجب، وهكذا في سائر العبادات، وفي سائر أنواع اجتناب المحرمات، فإذا أحب لنفسه أن يترك الرشوة، وأحب لأخيه أن يقع في الرشوة حتى يبرز هو كان منفيا عنه كمال الإيمان الواجب، وهكذا في نظائرهما.
وقد جاء في النسائي؛ يعني في سنن النسائي وفي غيره تقييد ما يحب هنا بما هو معلوم، وهو قوله «حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِه مِنَ الخَيْر» وهذا ظاهر غير بين، ولكن التنصيص عليه واضح.
أما أمور الدنيا فإن محبة الخير لأخيه كما يحب لنفسه هذا مستحب؛ لأن الإيثار بها مستحب، وليس بواجب، فيحب لأخيه أن يكون ذا مال مثل ما يحب لنفسه، هذا مستحب، يحب لأخيه أن يكون ذا وجاهة مثل ما له، هذا مستحب، يعني لو فرط فيه لم يكن منفيا عنه، لم يكن كمال الإيمان الواجب منفيا عنه؛ لأن هذه الأفعال مستحبة.
فإذن صار المقام هنا على درجتين:(58/2)
1. إذا كان ما يحبّه لنفسه متعلقا بأمور الدين فهذا واجب أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، وهذا هو الذي تسلط نفي الإيمان عليه، (لاَ يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِه) يعني من أمور الدين أو من الأمور التي يرغب فيها الشارع وأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب وكذلك ما نهى عنه الشارع، فيحب لأخيه أن ينتهي عن المحرمات ويحب لأخيه أن يأتي الواجبات، هذا لو لم يحب لأنتفى عنه كمال الإيمان الواجب.
2. أما أمور الدنيا كما ذكرنا فإنها على الاستحباب يحب لأخيه أن يكون ذا سعة في الرزق فهذا مستحب، يحب أن يكون لأخيه مثل ما له من الجاه مثلا، أو من المال، أو من حسن الترتيب، أو من الكتب أو إلى آخره، فهذا كله راجع إلى الاستحباب.
ويتفرع عن هذا مسألة الإيثار، والإيثار منقسم إلى قسمين: إيثار بالقرب، وإيثار بأمور الدنيا.
1. أما الإيثار بالقرب فإنه مكروه لأنه يخالف ما أمرنا به من المسابقة في الخيرات والمسارعة في أبواب الطاعات { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } [الحديد:21]، { وَسَارِعُوا إِلَى } [آل عمران:133]، فالمسارعة والمسابقة تقتضي أن كل باب من أبواب الخير يسارع إليه المسلم ويسبق أخاه إليه { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين:26].
2. والقسم الثاني الإيثار في أمور الدنيا يعني: في الطعام في الملبس في المركب في التصدر في مجلس أو ما أشبه ذلك فهذا مستحب أن يؤثر أخاه في أمور الدنيا، كما قال جل وعلا في وصف خاصة المؤمنين { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر:9]، فدلت الآية على أن الإيثار بأمور الدنيا من صفات المؤمنين وهذا يدل على استحبابه.(58/3)
صلة هذا بالحديث، قال (لاَ يُؤْمِنَ أَحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه مَا يُحِبُهُ لِنَفْسِه) يحب للأخ ما يحب للنفس، قد يقتضي هذا أن يقدمه، فهل إذا كان في أمور الدنيا يقدمه؟ على ما ذكرنا أن الإيثار بالقرب مكروه، الإيثار في أمور الدنيا مستحب فحبه لأخيه ما يحب لنفسه من أمور الدنيا مستحب هنا أيضا، يستحب أن يقدم أخاه على نفسه في أمور الدنيا.
هذا خلاصة ما في الحديث من البحث، وبهذا يظهر ضابط قوله (لاَ يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ) وما يتصل بها من الفعل (حَتَّى يُحِبَّ لأخِيِه)، «حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين» لأنّ هذا أمر مطلوب شرعا، «من لا يأمن جاره بوائقه» إلى آخره.
نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فكثر السؤال بعد درس البارحة عن معنى (الإيثار بالقُرَب)، وأنا ظننت أنها واضحة عند الجميع فنكرِّرها لمن لم تتضح له.
الإيثار بالقُرَب معناه أن المسألة إذا كانت قربة إلى الله جل وعلا فإن الإيثار إيثار أخيك بها مكروه؛ لأن هذا ينافي المسابقة التي ذكرنا لكم أدلتها والمسارعة في الخيرات والمنافسة.
فمثلا أن يكون هناك فرجة في الصف الأول، أو مكان متقدم خلف الإمام فتقف أنت وأخوك المسلم فتقول له: تقدم، تفضل، فيقول لك: لا، تقدم فتقول: تقدم، فمثل هذا لا ينبغي؛ لأنه مكروه بل ينبغي المسارعة في تحصيل هذه القربة، وهي فضيلة الصف الأول.
مثلا أتى رجل محتاج إلى مبلغ من المال يسد عوزه، خمسين، مائة ريال، أكثر، فأنت مقتدر وأخوك أيضا المسلم مقتدر فتقول له: ساعده أنا معطيك الفرصة، تفضل ساعده، وهذا يقول: لا أنت تفضل من باب المحبة، يعني: أن كل واحد يقدم أخاه، فمثل هذا أيضا مكروه لا ينبغي؛ لأن في هذا الباب المسارعة والمسابقة في الخيرات.(58/4)
كذلك من جهة القراءة، قراءة العلم على الأشياخ، وأخذ الفرص لنيل الطاعات، والجهاد وأشباه هذا، فمثل هذه المسائل تسمى قُرَبا يعني طاعات، فالإيثار في الطاعات يعني بالقرب لا ينبغي، مكروه؛ لأنه كما ذكرنا ينافي الأمر بالمسارعة والمسابقة، والتنافس في الخير.(58/5)
الحديث الرابع عشر -
وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يَحِلُ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدى ثَلاَثٍ: الثَّيْبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ» [رواه البخاري ومسلم]
[الشرح]
هذا الحديث حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - فيه ذكر ما به يحل دم المرء المسلم، فإنه تقدم لنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَه إَلاَّ الله، وَأنَّ مُحَمَدًا رَسُولُ الله، وَيُقيمُوا الصََّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا ِمنيّ دِمَا ءهُمْ وَأَمْوَا لَهُمْ إِلاَّ بِحَقَّ الإسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله - عز وجل -»، فهذا الحديث فيه أن دم المسلم معصوم، وأنه إذا شهد لا إله إلا الله، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، يعني أدّى حقوق التوحيد فإنه معصوم الدم، وحرام المال.(59/1)
هذا الحديث -حديث ابن مسعود- فيه الأحوال التي يباح بها دم المسلم الموحد، الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأتى بحقوق ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام (لاَ يَحِلُ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ) وقوله (لاَ يَحِلُ) يعني يحرم، وهو كبيرة من الكبائر أن يباح دم مسلم بغير حق؛ ولهذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض» فجعل ضرب المسلم أخاه المسلم، وقتلَه بغير حق من خصال أهل الكفر، وثبت عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» وهذا يدلّ على أن من سعى في قتل المسلم، وأتى بالأسباب التي بها يقتل المسلم فإنه في النار، قال: «فالقاتل والمقتول في النار» وهذا لا ينافي عدم المؤاخذة، مؤاخذة المسلم بهمِّه، وما جاء في الحديث «إذا هَمَّ عبدي بالسيئة فلا تكتبوها عليه» والحديث الآخر أيضا الذي في الصحيح «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم»؛ لأنّ هذا الحديث الذي هو «القاتل والمقتول في النار» المقتول وإنْ لم يفعل فهو في النار؛ لأنه قد سعى في الأسباب، وعدم الحصول لم يكن لإرادته عدم الحصول، وإنما لتخلف ذلك عنه بأمر قدري، فيدل هذا على أنّ من سعى في أسباب القتل، أو في أسباب المحرّم، وتمكن منها لكن تخلفت عنه لسبب ليس إليه فإنه يُعتبر كفاعلها من جهة الإثم، بل إنّ الذي يرضى بالذنب كالذي فعله يعني من جهة الإثم، وهذا ظاهر من الأدلة، فقوله عليه الصلاة والسلام هنا (لاَ يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدى ثَلاَثٍ) يدل على تعظيم حرمة دم المرء المسلم، وقوله (دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ) هنا قال (مُسْلِمٍ)، والمقصود بالمسلم هو الذي حقق الإسلام، يعني أصبح مسلما على الحقيقة، لا على الدعوة، يعني من شهد أن لا إله إلا(59/2)
الله، وأن محمدا رسول الله، وأتى بالتوحيد، أما المشرك الشرك الأكبر والمبتدع البدعة المكفرة المخرجة من الدين وأشباه ذلك فلا يدخلوا في وصف الإسلام في هذا الحديث، ولا في غيره؛ لأن المسلم هو من حقق الإسلام بتحقيق التوحيد؛ يعني بإتيانه بالشهادتين ومقتضى ذلك، وكونه لم يرتكب مكفرا، ولا شركا أكبر، قال(إِلاَّ بِإِحْدى ثَلاَثٍ) وهذا استثناء أو يسمى حصرا؛ لأنه استثناء بعد النفي، والاستثناء بعد النفي يدل على الحصر، وقوله عليه الصلاة والسلام في أولها (لاَ يَحِلُّ) أتى على النفي، ومجيء النفي يدل على النهي، بل مجيء النفي أبلغ من مجرد النهي، يعني كأنه صار حقيقة ماضية، أنه لا يحلّ، بحيث إن النهي عنه قد تقرر، وإنما ينفي وجوده في الشريعة أصلا، وله نظائر كقوله { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة:79] وأشباه ذلك مما يعدل فيه من النهي إلى النفي للمبالغة في النهي، وهذه قاعدة معروفة في اللغة وفي أصول الفقه.(59/3)
قال (إِلاَّ بِإِحْدى ثَلاَثٍ) هذه الثلاث أصول، قال فيها(الثَّيْبُ الزَّانِي)، والزاني له حالان: إما أن يكون ثيبا، يعني أنه قد ذاق العُسيلة من قبل، يعني أنه سبق له أن أحصن أن تزوج بعقد شرعي صحيح، فهذا يقال له ثيب، إذا كان كذلك، فإنه لا يكون ثيبا بزنا، ولا يكون ثيبا بعقد فاسد باطل، ولا يكون ثيبا بعقد متعة، متعة زواج وأشباه ذلك، لا يكون محصنا ثيبا في الشريعة إلا إذا تزوّج؛ نكح نكاحا صحيحا مستوفيا للشروط، فالثيب إذا زنى فإنه يحل دمه، وقد كان فيما أنزل ونسخ لفظه وبقى حكمه قوله جل وعلا (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم)، وفيما بقي لفظا وحكما قول الله جل وعلا { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [النور:2]، فدلت الآية على عموم أن الزاني يُجلد مائة، ودلت الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها أنه يُرجم، وكذلك السنة دلت على الرجم، ودلت أيضا على الجمع بين الجلد والرجم؛ ولهذا اختلف العلماء في الزاني الثيّب هل يجمع له بين الجلد والرجم؟ يعني هل يجلد أولا ثم يرجم؟ أم يكتفى فيه بالرجم؟ والنبي عليه الصلاة والسلام رجم أو أمر برجم ماعز والغامدية، وأمر برجم اليهودي واليهودية، وأشباه ذلك في حوادث تدل على أن الرجم فُعل من غير جلد، وقد قال بعض أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم كعلي - رضي الله عنه - إنه يجلد ثم يرجم، كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله أن عليا جَلَدَ زانيا ثيبا ثم رجمه فقال: جلدته بكتاب الله ورجمته بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يريد -- رضي الله عنه -- أنّه جلده بعموم قوله جل وعلا (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) لأن الآية ليس فيها تفصيل هل هو محصن أم غير محصن؟ هل هو ثيّب أم بكر؟ والسنة فيها الرجم، فدل هذا عنده - رضي الله عنه - على الجمع بين الجلد والرجم، وهو رواية عن الإمام أحمد،(59/4)
وكثير من أهل العلم على الاكتفاء بالرجم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بالرجم في حوادث كثيرة، أو في حوادث متعددة، حيث رجم ماعزا والغامدية، واليهودي واليهودية دون جلد كما هو معروف.
فقال بعضهم: الجمع بين الجلد والرجم راجع إلى الإمام فيما يراه من جهة كثرة النكال، والمبالغة فيه.
المقصود من هذا أنّ الثيب إذا زنى، وتحققت شروط الزنا كاملة، بما هو معروف بشهادة أربعة، أو باعترافه على نفسه اعترافا محققا، لا يرجع فيه أنه يُرجم، وذلك حتى يموت، قال هنا (الثَّيْبُ الزَّانِي) يعني يحل دمه؛ يحل دم الثيب إذا زنى.(59/5)
قال (وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ) هذه كما قال جل وعلا في القرآن { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة:45] وقال جل وعلا أيضا: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى } [البقرة:178] الآية، فدلّ ذلك على أن النفس تقتل بالنفس، فإذا اعتدى أحد على نفس معصومة فإنه يقتل، إذا كان اعتداؤه بالقتل عمدا، ثم نظر أهل العلم في قوله (النَّفْسُ بِالنَّفْسِ) هل هذا عام لا تخصيص فيه؟ أو هو عام مخصوص؟ أو هو مقيد في أقوال لهم؟ والذي عليه جمهور أهل العلم أن قوله (النَّفْسُ بِالنَّفْسِ) هذا يقيد بأن النفس تكون مكافئة للنفس لِدلالة السنة على ذلك، كما قال جل وعلا(الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى).([18]) والسنة دلت على أن المسلم لا يقتل بكافر، وعلى أن الحر لا يقتل بعبد، حتى في القصاص في الأطراف بين الحر والعبد لا توجد المكافأة وهكذا، فإذن لا بد من وجود المكافأة من جهة الدين، ومن جهة الحرية فقوله عليه الصلاة والسلام هنا(النَّفْسُ بِالنَّفْسِ) يعني فيما دلت عليه الآية آية البقرة ودلت عليه مواضعها من السنة أن النفس المكافئة للنفس، أما قتل كل نفس بكل نفس فهذا خلاف السنة، وذهب أبو حنيفة الإمام المعروف رحمه الله وأصحابُه إلى أن المسلم يقتل بالكافر لعموم الآية { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة:45] ولعموم الحديث، وعلى أن الحر يقتل بالعبد، والجمهور على إعمال الأحاديث الأُخَر في هذا الباب من أن النفس بالنفس تُقيَّد بما جاء في الأحاديث، فيكون هذا من العام المخصوص.
قال (وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ)، (التَّارِكُ لِدِينِهِ) فُسِّرت بتفسيرين:
¨ الأول: التارك لدينه يعني المرتد الذي ترك دينه كله فارتد عن الدين، فيباح دمه.(59/6)
¨ والتفسير الثاني: أن التارك للدين هو من ترك بعض الدين، مما فيه مفارقة للجماعة، يعني ترك بعض أمر الدين، مما فيه المفارقة للجماعة، قالوا ولهذا عَطف (الْمُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ) على (التَّارِكُ لِدِينِهِ)، فقال (وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ) فجعل مفارقة الجماعة عطفا لبيان ترك الدّين، فدلّ هذا على أن إباحة الدم في ترك الدّين يكون بترك الجماعة.
وترك الجماعة يراد بها:
1- ترك الجماعة التي اجتمعت على الدين الحق بمفارقته للدين، وتركه للدين بما يكفره.
2- والثاني:-يعني مفارق للجماعة، جماعة الدين أو الاجتماع في الدين- أنّ المفارقة للجماعة يعني بالخروج على الإمام، أو البغي.
فيكون المفارقة للجماعة المقصود بها الاجتماع بالأبدان.
وهنا تكلم العلماء في كثير من المسائل التي تدخل تحت ترك الدين، فجعلوا باب الردة فيه، أو باب حكم المرتد فيه مسائل كثيرة، فيها يخرج المرء من الدين، ويكون مرتدا بذلك، فكل مسألة حكم العلماء فيها على أنها من أسباب الردة، أو بها يرتد المسلم، فإنه بعد اكتمال الشروط، وانتفاء الموانع يحل دمه، يعني يحل دم المرتد، وكذلك المفارق للجماعة بالأبدان يحل دمه لقوله عليه الصلاة والسلام «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائنا من كان»، فدل هذا على أن ترك الجماعة، ومفارقة الجماعة يحصل بترك الدين، بالردة عن الدين، وبمفارقة الاجتماع على الإمام، وهذا ظاهر بين في تعلية ترك الدين بمفارقة الجماعة، ولهذا جعل أهل العلم في ترك الدين هذا كل المسائل التي يقتل بها.(59/7)
إذا تقرر هذا فإن إحلال الدم هذا متوجه إلى الامام -إمام المسلمين-، فإنه لا يجوز لأحد أن يستبيح دم أحد؛ لأنه عنده قد أتى بشيء من هذه الثلاث. فإذا قال: أنا رأيت هذا يزني، رأيته بعيني فاستبحت دمه لذلك فإنه يقتل، ولا يجوز له؛ لأن الله جل وعلا جعل ثبوت الزنا منوطا بشهادة أربعة، ولو شهد ثلاثة من أعظم المسلمين صلاحا على حصول الزنا، وأنهم رأوا ذلك بأعينهم لَدُرِئَ الحدُّ، ولأقيم على هؤلاء الصلحاء حد القذف؛ لأنهم قذفوه، ولم يَكْمُل أربعة من الشهداء، كما هو بين لكم في أوائل سورة النور، كذلك من قال هذا ارتد عن دينه فأنا أقيم عليه الحد وأقتله، وأبيح دمه لأجل هذا الحديث فإن هذا افتئات وتعد، ولا يباح له أن يفعل ذلك، ودمه لا يحل لكل أحد.
فإذن قوله عليه الصلاة والسلام (لاَ يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدى ثَلاَثٍ) إحلاله لولي الأمر أو لنوابه ممن جعل الله جل وعلا إليهم إنفاذ الحدود وقتل من يستحق القتل، أما لو جُعل هذا لكل أحد لصار في ذلك استباحة عظيمة للدماء؛ إذْ المختلفون كثيرا ما يُكفِّر أحدهم الآخر إذا لم يكونوا من أهل السنة والاعتدال، فإذا قيل بظاهره ولا قائل به فإنه يعني أن من حكم على الآخر بأنه كافر فإنه ينفذ ذلك.(59/8)
ثم ها هنا مسألة متعلقة بذلك: إذا كان في بلد لا يوجد إمام أو ولي أمر يُنَفِّذ الأحكام، فهل للمسلم إذا ثبت عنده شيء من ذلك أن ينفذ الأحكام ؟ والجواب: لا، كما هو قول عامة أهل العلم، إذ يُشترط لإنفاذ الأحكام التي فيها استباحة للدم أو المال أو الأعراض، أو ما أشبه ذلك، هذا إنما يكون للإمام، فإذا لم يوجد لم يجز لأحد أن ينفذ هذا، إلا في حالة واحدة وهو أن يأتي أحد إلى من يرى فيه العلم أو الصلاح ويقول: أنا ارتكبت حدّا فيما دون القتل يعني ارتكبت زنا، وكان غير محصن أو قال: شربت الخمر أو قذفت فلانا فطهرني بالجلد؛ يعني بما دون القتل فهذا لا بأس به عند كثير من أهل العلم؛ لأنّ إرادة التطهير له، وإذا جلد فإن هذا له، وليس فيه استباحة الدم، أما استباحة الدم، أو تطبيق الحدود في غَيْرِ حال مَنْ يرضى بتطبيقها عليه فإنه لا يجوز بقول عامة أهل العلم، فتلخص من هذا أن إقامة هذه الأشياء راجعة إلى الإمام ولي الأمر المسلم، أو من ينيبه.
والثاني: أنه في بلد لا يوجد فيها من ينفذ أحكام الله جل وعلا فلا يجوز إنفاذ أحكام القتل؛ لأن هذه معلقة بولي الأمر المسلم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة، والصحابة في بعض البلاد التي لا يقام فيها، لم يقيموا فيها ذلك، وكذلك العلماء في بعض البلاد كما كان في الدولة العبيدية، وأشباه ذلك فإن العلماء لم يقيموا الحدود بالقتل، وأشباه ذلك.
الحال الثالثة: فيما دون القتل، يعني فيما فيه تطهير بجلد ونحوه؛ إذا اختار المسلم عالما وقال: طَهٍّرني بالجلد من ذلك. فإن ذلك جائز؛ لأن هذا فيه حق له، ويريد التطهير ولا يتعدى ضرره، وهذا عند بعض أهل العلم.
وآخرون يشترطون في الجميع إذن الإمام، أو وجود ولي الأمر المسلم.(59/9)
الحديث الخامس عشر -
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باِ لله وَاليَومِ الآخر: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باِلله وَالْيَوْمِ الآخِرِ: فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ: فَلْيُكُرِمْ ضَيْفَهُ » [رواه البخاري ومسلم ].
[الشرح]
هذا الحديث أدب من الآداب العظيمة، وهو صِنْوُ حديث «مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» من جهة أنه أصل في الآداب العامّة، وهذا الحديث دلّ على أن من صفات المؤمن بالله وباليوم الآخر، الذي يخاف الله ويتَّقيه، ويخاف ما يحصل له في اليوم الآخر، ويرجو أن يكون ناجيا في اليوم الآخر، أنّ من صفاته أنه يقول الخير أو يصمت، ومن صفاته أنه يكرم الجار، ومن صفاته أنه يكرم الضيف، ومن صفاته أنه يكرم الجار، هذا بعموم ما دل عليه الحديث، الحديث دل على أن الحقوق منقسمة إلى: حقوق لله، وحقوق للعباد.
وحقوق الله جل وعلا مدارها على مراقبته، ومراقبة الحق جل وعلا أعسر شيء أن تكون في اللسان، ولهذا نبّه بقوله (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باِلله وَاليَومِ الآخر: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِِيَصْمُتْ) على حقوق الله جل وعلا، والتي من أعسَرها من حيث العمل والتطبيق حفظ اللسان، وهنا أَمَرَهُ بأن يقول خيرا أو أن يصمت، فدل على أن الصمت متَراخ في المرتبة عن قول الخير؛ لأنه:
¨ ابتدأ الأمرَ بقول الخير فقال (فَلْيَقُلْ خَيْرًا) فهذا هو الاختيار، هو المقدم أن يسعى في أن يقول الخير.
¨ والمرتبة الثانية أنه إذا لم يجد خيرا يقوله أن يختار الصمت؛ وهذا لأن الإنسان محاسب على ما يتكلم به، وقد قال جل وعلا { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } [النساء:114].(60/1)
فهذا الحديث فيه (فَلْيَقُلْ خَيْرًا) وعلق هذا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وقَوْلُ الخير متعلق بالثلاثة التي في آية النساء قال(إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) فالصدقة واضحة، والإصلاح أيضا واضح، والمعروف هو ما عُرِف حسنه في الشريعة، ويدخل في ذلك جميع الأمر بالواجبات والمستحبات، وجميع النهي عن المحرمات والمكروهات، وتعليم العلم والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى آخره.
فإذن قوله عليه الصلاة والسلام (فَلْيَقُلْ خَيْرًا) يعني: فليقل أمرا بالصدقة، فليقل أمرا بالمعروف، فليقل بما فيه إصلاح بين الناس، وغير هذه ليس فيها خير، ما خرج عن هذه فإنه ليس فيها خير، وقد تكون من المباحة، وقد تكون من المكروهة، وإذا كان كذلك فالاختيار أن يصمت، وخاصة إذا كان في ذلك إحداث لإصلاح ذات البَيْن، يعني أن يكون ما بينه وبين الناس صالحا على جهة الاستقامة بين المؤمنين الأخوة.(60/2)
قال عليه الصلاة والسلام هنا (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باِلله وَاليَومِ الآخر: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِِيَصْمُتْ) يعني أنّ حفظ اللسان من الفضول بقول الخير، أو بالصمت إن لم تجد خيرا أن هذا من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنّ أشدّ شيء على الإنسان أن يحفظه لسانه، لهذا جاء في حديث معاذ المعروف أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له عليه الصلاة والسلام «وكف عليك هذا» فاستعجب معاذ فقال: يا رسول الله أوإنا مؤاخذون بما نقول؟ فقال «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو قال: على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» فدل على أن اللسان خطير تحركه، إذا لم يكن تحركه في خير فإنه عليك لا لك، والتوسع في الكلام المباح قد يؤدي إلى الاستئناس بكلام مكروه أو كلام محرم كما هو مجرّب في الوقع، فإنّ الذين توسعوا في الكلام، وأكثروا منه في غير الثلاثة المذكورة في الآية جرهم ذلك إلى أن يدخلوا في أمور محرمة من غيبة أو نميمة أو بهتان أو مداهنة، أو ما أشبه ذلك مما لا يُحْمَد.
فإذن الإيمان بالله واليوم الآخر يحض على حفظ اللسان، وفي حفظ اللسان الإشارة لحفظ جميع الجوارح الأُخر؛ لأن حفظ اللسان أشد ذلك، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «من ضَمِنَ لي ما بين لَحيَيْهِ وما بين فخذيه ضمنت له الجنة».
ثم قال عليه الصلاة والسلام (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باِلله وَالْيَوْمِ الآخِرِ: فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) وإكرام الجار يعني أن يكون معه على صفة الكرم.
والكرم: هو اجتماع الصفات المحمودة التي يحسن اجتماعها في الشيء فيُقال هذا كريم؛ لأنه ذو صفات محمودة، وفي أسماء الله جل وعلا الكريم، والكريم في أسماء الله جل وعلا هو الذي تفرد بصفات الكمال، والأسماء الحسنى فاجتمع له جل وعلا الحُسن الأعظم في الأسماء، والعلو في الصفات، والحكمة في الأفعال.(60/3)
فالكريم: من فاق -يعني في اللغة- من فاق جنسه في صفات الكمال، فالإكرام هو أن تسعى في تحقق صفات الكمال، أو في تحقيقها:
- فإكرام الجار: أنْ تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها المَجُورة.
- وإكرام الضيف: أنْ تسعى في تحقيق صفات الكمال التي تتطلبها الضيافة.
وقوله (فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) على هذا، يدخل فيه إكرام الجار بالألفاظ الحسنة، إكرام الجار بحفظ الجار في أهله، حفظ الجار في عرضه، في الاطلاع على مسكنه، ويدخل في هذا حفظ الجار في أداء الحقوق العامة له؛ في الجدار الذي بينهما، أو النوافذ التي تُطِلُّ على الجار، أو في موقف السيارات مثلا أو في إعتداء الأطفال، أو ما أشبه ذلك، فيدخل هذا جميعا في إكرام الجار، ويدخل فيه أيضا أن يكرم الجار في المطعم والملبس، وأشباه ذلك؛ يعني أنه إذا كان عنده طعام فإنه يطعم جاره منه، وقد كان عليه الصلاة والسلام ربما طها في بيته بعض اللحم فقال «أرسلوا لجارنا اليهودي من مرقة هذا اللحم» وهذا في حق الجار الكافر، ولهذا رأى طائفة من أهل العلم كأحمد في رواية، وكغيره، أن إكرام الجار في هذا الحديث عام يدخل فيه إكرام الجار المسلم، وإكرام الجار الكافر، وإكرام الجار المسلم له حقان لإسلامه ولجواره.
فإذا إكرام الجار كلمة عامة يدخل فيها:
¨ أداء ما له من الحقوق.
¨ وكف الأذى عنه.
¨ وبسط اليد له بالطعام وما يحتاجه، وهذا أيضا مع قول الله جل وعلا { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6)وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون:6-7]، والماعون هو ما يحتاج إليه في الإعارة، (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) يعني يمنعون ما يحتاج إليه المسلمون في الإعارة، فإذا احتاج جارك إلى أن تعيره شيئا من أدوات الطهي أو شيئا من أدوات المنزل، أو من الأثاث، أو ما أشبه ذلك فإن من إكرامه أن تعطيه ذلك، أما إذا كان يتعدى على أشيائك، ويتلف المال فهذا لا يكون له الحق في إكرامه بذلك؛ لأنه مظنة التعدي.(60/4)
الجار هنا قسمان: جار قريب، وجار بعيد، وفي القسمين جاء قول الله جل وعلا في سورة النساء { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } [النساء:36]، فقوله (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) فسرت بتفسيرين:
¨ الأول: أن الجار ذي القربى هو من له جِوار وقَرَابة، فقدمه على الجار الجنب يعني الذي ليس له قرابة.
¨ التفسير الثاني: أن الجار ذا القربى في قوله (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) أنه الجار القريب والجار الجُنُب أنه الجار البعيد؛ لأن كلمة (جُنُب) في اللغة تعني البعيد، ومنه سميت (الجنابة) جنابة، وفلان جُنُب لأنه مِنَ البُعْد، فدلّ هذا على أن إكرام الجار يدخل فيه الجار القريب والجار البعيد.
ما حد الجار البعيد؟ بعضهم حدّه بسبعة يعني سبعة بيوت، وبعضهم حده بأربعين بيتا من يمين وشمال، وأمام وخلف، وهذه كلها تقديرات لم يصحَّ فيها شيء عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا محكوم بالعرف فما كان فيه العرف أنه قريب فهو قريب، وما كان فيه العرف أنه جار بعيد فيدخل في ذلك، وهذا يتنوع بتنوع البلاد والأعراف، فيه تفاصيل أُخر تقرءونها في المطولات إن شاء الله.(60/5)
قال (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ: فَلْيُكُرِمْ ضَيْفَهُ) إكرام الضيف أن تَبْذُل للضيف من الصفات المحمودة ما به يحصل له الحق، والصفات المحمودة التي تعطى للضيف، وبشاشة الوجه، وانطلاق الأسارير، والكرم باللسان يعني أن يضاف بألفاظ حسنة، ومنها أيضا من إكرام الضيف أن تطعمه، وهو المقصود؛ لأنّ الأضياف يحتاجون لذلك، وقوله هنا (فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)، (فَلْيُكُرِمْ ضَيْفَهُ)، (فَلْيَقُلْ خَيْرًا) كلها أوامر، وهي على الوجوب، وإكرام الضيف واجب كما دل عليه الحديث بإطعامه، وهذا فيه تفصيل وهو أنه يجب أن يضاف الضيف بالإطعام يوما وليلة، كما جاء في الحديث أنها جائزة الضيف يوم وليلة، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها، يعني يومين بعد اليوم والليلة الأولى، فيجب أن تُكْرِم الضيف يوما وليلة، يعني بأن تعطيه ما يحتاجه، قال العلماء: هذا في حق أهل القرى الذين ليس ثم مكان يمكن الضيف أن يستأجر له، أما في المدن الكبار الذي يوجد فيها الخان، ويوجد فيها الدور التي تؤجر فإنه لا تجب الضيافة؛ لأنه لا يضيف مع ذلك إلا إذا كان محتاجا لها، ولا مكان له يؤويه فإنه يجب على الكفاية أن يعطيه كفايته، وأن يضيفه يوما وليلة، وتمام الثلاثة مستحب، يعني في مكان لا يوجد فيه دار يمكنه أن يستأجرها، أما مثل الآن في مدننا الكبار هذه فإنها لا تجب، وإنما تستحب، في القرى في الأطراف، وأهل الخيام، ونحو ذلك إذا نزل بهم الأضياف فإنه يجب عليه أن يَقْرِيهم يوما وليلة، وتمام الضيافة ثلاثة أيام بلياليها.(60/6)
إذا تقرر هذا فما الذي يقدمه؟ الذي يقدمه للضيف ما تيسر له، يعني ما يطعمه هو وأهله، ولا يجب عليه أن يتكلف له في ذبح، أو تكلف طعام كثير، أو ما أشبه ذلك، فالذي يجب ما يطعمه به، ويسد عَوْزة هذا الضيف، أو ما يسد جوعه يعني من الطعام المعتاد الذي يأكله، وقد جاء في الأثر أن قوما من أهل الكتاب أرسلوا لعمر - رضي الله عنه - عمر بن الخطاب فقالوا له: إن المسلمين إذا مرّوا بنا كلفونا ذبح الدجاج لهم، وإنّ هذا لا نطيقه، فأرسل إليهم عمر بما حاصله أن أطعموهم مما تأكلون ولا تتكلفوا لهم. وهذا ظاهر من حيث الأصول في أن الإكرام لا يعني التكلف، وهذا الوجوب في حق من عنده فضل في ماله، يفيض ويزيد عن حاجته الضرورية، وحاجة من يمُونُه، أما إذا كان محتاجا هو ومن يمُونُه محتاج لهذا الطعام، فإن من يمُونُه أولى من الضيف في الشرع.(60/7)
الحديث السادس عشر -
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رجلاً قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْصِني، قال«لاَ تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قال «لاَ تَغْضَبْ» [رواه البخاري].
[الشرح]
هذا أيضا من أحاديث الآداب العظيمة، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل سأله: أوصني. قال «لاَ تَغْضَبْ».
والسؤال بالوصية حصل مرارا من عدد من الصحابة رضوان الله عليهم يسألون المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيقولون له: أوصنا، أوصني، واختلف جوابه عليه الصلاة والسلام، فمرة قال مثل ما هنا«لاَ تَغْضَبْ»، وقال لرجل قال له: أوصني. قال «لا يزال لسانك رطبا مِنْ ذكر الله»، وقال له رجل: أوصني. فقال له كذا، وتكرر هذا، واختلفت الإجابة.
قال العلماء: اختلاف الإجابة يُحمل على أحد تفسيرين:
¨ الأول: أنّه عليه الصلاة والسلام نوّع الإجابة بحسب ما يعلَمه عن السائل، فالسائل الذي يحتاج إلى الذكر أرشده للذكر، والذي يحتاج إلى أن لا يغضب أرشده إلى عدم الغضب.
¨ والقول الثاني: أنه نوّع الإجابة لتتنوع خصالُ الخير في الوصايا للأمة؛ لأن كل واحد سينقل ما أوصى به النبي عليه الصلاة والسلام فتتنوع الإجابة، وكل من قال: أوصني محتاج لكل جواب، لكن لم يكثر النبي عليه الصلاة والسلام الوصايا بأن قال «لا تغضب»، «ولا يزال لسانك رطبا بذكر الله» وكذا وكذا حتى لا تكثر عليه المسائل، فإفادة من طلب الوصية بشيء واحد أدعى للاهتمام، ولتطبيقه لتلك الوصية.(61/1)
قال هنا (أوصني)، والوصية الدلالة على الخير، يعني: دلني على كلام تخصني به من الخير، الذي هو خير لي في عاجل أمري وآجله. قال (لاَ تَغْضَبْ)، وقوله هنا عليه الصلاة والسلام (لاَ تَغْضَبْ) دلّ على أن من طلب منه الوصية أن يجتهد في الوصية الجامعة، وفيما يحتاجه الموصَى، وألاّ يتخلف عن الجواب، وهذا يناسب أن يكون المعلم أو المربي مستحضرا لوصايا النبي عليه الصلاة والسلام ولوصايا أهل العلم حتى يعطيها متى ما سنحت الحاجة في طلب الوصية، وأشباه ذلك.
وقوله عليه الصلاة والسلام (لاَ تَغْضَبْ) هذا أيضا له مرتبتان:
?المرتبة الأولى: لا تغضب إذا أتت دواعي الغضب فاكظم غضبك، واكظم غيظِك، وهذا جاءت فيه آيات، ومنها قول الله جل وعلا { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ } [آل عمران:134]، وكظم الغيظ من صفات عباد الله المؤمنين المحسنين، الذين يكظمون الغضب عند ثورته، وجاء أيضا في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه، دعي يوم القيامة على رءوس الخلائق إلى الجنة» أو كما قال عليه الصلاة والسلام والحديث في السنن، وهو حديث صحيح، فكظم الغيظ ومَسْك الغضب هذا هو الحالة الأولى التي دل عليها قوله (لاَ تَغْضَبْ)، وكظم الغيظ، وإمساك الغضب هذا من الصفات المحمودة، ويأتي تفصيل الكلام على كونه من الصفات المحمودة.(61/2)
?الثاني التفسير الثاني: لا تَسْعَ فيما يغضبُِك؛ لأنه من المتقرر أن الوسائل تؤدي إلى الغايات، فإذا كنتَ تعلم أن هذا الشيء يؤدي بك إلى غاية تغضبُك فلا تَسْعَ إلى وسائلها، ولهذا كان كثير من السلف يمدحون التغافل، وقال رجل للإمام أحمد؛ كان وكيع يقول، أو أحد الأئمة غير وكيع -النسيان مني- الخير تسعة أعشاره في التغافل. وقال الإمام أحمد: أخطأ، الخير كله في التغافل يعني أن إحقاق الأمور إلى آخرها في كل شيء هذا غير ممكن؛ لأن النفوس مطبوعة على التساهل ومطبوعة على التوسع، وعندها ما عندها، فتغافل المرء عما يحدث له الغضب، ويحدث له ما لا يرضيه، تغافله عن ذلك من أبواب الخير العظيمة، بل قال: الخير كله في التغافل، التغافل عن الإساءة، التغافل عن الكلام فيما لا يحمد، التغافل أيضا عن بعض التصرفات بعدم متابعتها ولحوقها إلى آخرها إلى آخر ذلك فالتغافل أمر محمود وهذا مبني أيضا على النهي عن التحسس والتجسس.
قوله أيضا هنا (لاَ تَغْضَبْ) بمعنى لا تدخل في وسائل الغضب في أنواعها، فكل وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى الغضب فمنهي عن اتباعها، فإذا رأيت الشيء، وأنت تعلم من نفسك أنه يؤدي بك إلى الغضب، فالحديث دلّ على أن تنتهي عنه من أوله، ولا تُتبع نفسك هذا الشيء، وتتمارى فيه أو تتمادى فيه حتى يغضبك ثم بعد ذلك قد لا تستطيع أن تكظم الغضب أو الغيظ.
إذا تقرر هذا، وأن الحديث له معنيان:
¨ وأن النهي عن الغضب يشمل النهي عن إنفاذ الغضب بكتمان الغضب.
¨ ويشمل أيضا النهي عن غشيان وسائل الغضب.(61/3)
إذا تقرر هذا فإن الغضب من الصفات المذمومة التي هي من وسائل إبليس، فالغضب دائما يكون معه الشر، فكثير من حوادث القتل والاعتداءات كانت من نتائج الغضب، كثير من الكلام السيئ الذي ربما لو أراد الإنسان أن يرجع فيه لرجَع، لكنه أنفذه من جراء الغضب، كثير من العلاقات السيئة بين الرجل وبين أهله، وحوادث الطلاق، وأشباه ذلك كان منشؤها الغضب، وكثير من قطع صلة الرحم، وتقطيع الأواصر التي أمر الله جل وعلا بوصلها كان سبب القطيعة الغضبُ، ومجاراة الكلام، وتبادل الكلام والغضب إلى أن يخرجه عما يعقل، ثم بعد ذلك ”لات ساعة إصلاح“، وهكذا في أشياء كثيرة، فالغضب مذموم، وهو من الشيطان، ومن وسائل الشيطان لإحداث الفرقة بين المؤمنين، وإشاعة الفحشاء والمحرمات فيما بينهم.
علاج الغضب: جاء في السنة أحاديث كثيرة في علاج الغضب، نجملها في الآتي:
- أولا أن الغضب يعالج بالوضوء؛ لأنه فيه ثورة، والوضوء فيه تبريد؛ ولأن الغضب من الشيطان، والوضوء فيه استكانة لله جل وعلا وتعبد لله، فهو يُسكِّن الغضب، فمن غضب فيشرع له الوضوء.
- كذلك مما جاء في السنة أنه إذا غضب وكان قائما أن يقعد، وهذا من علاج آثار الغضب؛ لأنه يُسكّن نفسه.
- ومن أيضا علاج الغضب أن يسعى في كظمه وإبداله بالكلام الحسن، لمن قدر على ذلك.
ومن المعلوم أن الإنسان يبتلى، وابتلاؤه يكون معه درجاته وأجره وثوابه، فإذا ابتلى بما يغضبه فكظم ذلك، وامتثل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما حثَّ الله جل وعلا عليه بقوله { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } [آل عمران:134] وكظم غيظه، وهو يقدر على إنفاذه، كان حَرِيًّا بكل فضل مما جاء في الأحاديث، بأن يدعى على رءوس الخلائق إلى الجنة، وأشباه ذلك.(61/4)
فهذا الحديث دل على هذا الأدب العظيم، فحرى بطالب العلم، وبكل مستقيم على أمر الله أن يوطن نفسه على ترك الغضب، وترك الغضب لا بد له من صفة تحمل عليه، والصفة التي تحمل عليه الحلم والأناة، ومن اتصف بالحلم والأناة كان حكيما؛ ولهذا الغضوب لا يصلح أن يكون معالجا للأمور، بل يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون حكيما.
وكان للغضب بعض الآثار السيئة في قَصص متنوعة، ولهذا نقول قوله عليه الصلاة والسلام (لاَ تَغْضَبْ) ينبغي أن يكون بين أعيننا دائما في علاقاتنا مع إخواننا، ومع أهلينا ومع الصغار، ومع الكبار فكلما كان المرء أحلم وأحكم في لفظه وفعله، كلما كان أقرب إلى الله جل وعلا، وهذا من صفات خاصة عباد الله.(61/5)
الحديث السابع عشر -
عن أبي يعلى شدَّادِ بنِ أَوْسٍ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَ إِذَ ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَةَ؛ وَ لْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» [رواه مسلم].
[الشرح]
هذا الحديث في باب آخر، وهو باب الإحسان، فقال فيه عليه الصلاة والسلام (إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء) فلفظ كتب يدلنا على أن الإحسان واجب؛ لأن لفظ (كَتَبَ) عند الأصوليين من الألفاظ التي يُستفاد بها الوجوب، وما تصرّف منها، يعني ما تصرف من الكتابة، قال الله جل وعلا مثلا { الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } [النساء:103]، فدلّ على وجوبها أشياء منها أنه وصفها بأنها كتاب، وقال جل وعلا { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } [البقرة:183]، وقال جل وعلا { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } [البقرة:180]، وقال جل وعلا { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [النساء:24]، وقال جل وعلا?وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ?[المائدة:45]، في آيات كثيرة فيها لفظ (الكتاب)، فلفظ (كَتَبَ) وما تصرف منه يدل على أنه واجب، يعني يدل على أن المكتوب واجب، ومنه الإحسان، (إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء)، وقوله هنا (كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء)، كلمة (عَلَى) هنا فيها:
¨ احتمال أن تكون كتابته الإحسان على كل شيء كتابة قدَرية، يعني أنّه كتبها قدرا بأن الأشياء تمشي على الإحسان، وأنّ الله جل وعلا ألهم مخلوقاته الإحسان.(62/1)
¨ ويحتمل أن تكون الكتابة هنا شرعية، فيكون معنى قوله (كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء) أن تكون (عَلَى) هنا بمعنى (في)، يعني كتب الإحسان في كل شيء، يعني لكل شيء، وهذا يتجه إذا كانت الكتابة شرعية يتجه الخطاب للمكلَّفين، فلهذا مثَّل بمثال يتعلق بالمكلَّفين.
وهذا الثاني أظهر، يعني أن تكون الكتابة شرعية، وأن يكون معنى (كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء) يعني في كل شيء، أو لكل شيء، فـ(عَلَى) هنا بمعنى (فِي)، كقوله عليه الصلاة والسلام حيث سُئل أيّ الأعمال أحب إلى الله؟ فقال «الصلاةُ على وقتها» يعني في وقتها، فيما هو معلوم في مجيء (عَلَى) بمعنى (فِي) في مواضع، ومجيء (فِي) بمعنى (عَلَى) أيضا في مواضع.([19])
إذا تقرر هذا فالإحسان الذي كُتِب على المكلف بكل شيء، ما هو؟ الإحْسَانُ مصدر أَحْسَنَ الشيء، يُحْسِنُهُ إحسانا، وإذا كان كذلك فالإحسان يختلف باختلاف الشيء، فإذا كان الشيء هذا عبادة صار الإحسان فيها -يعني الإحسان الواجب- بتكميل ما به يكون أجزاؤها، وصحتها وحصول الثواب بها، يعني تكميل الأركان والواجبات والشرائط، فيخرج عن ذلك المستحبات؛ لأنها مما لم يكتب، مع أنه يكون بها الإحسان، لكن الإحسان المستحب، فـ(الشّيء) هنا (كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء) يعني في كل شيء، (الشّيء) هنا أخذنا منه العبادات وعرفنا الكلام فيها، هنا (كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء) يعني فيما تزاوله من أمرك في حياتك، وهذا الإحسان مطلوب منك دائما، هو أن تحسن في تعاملك مع نفسك؛ بأن تمتثل الواجبات، وأن تنتهي عن المحرمات؛ لأن من لم يحسن هذا الإحسان كان ظالما لنفسه، والظالم لنفسه من ارتكب بعض المنهيات، أو فرط في بعض الواجبات، لهذا أمر الله جل وعلا في سورة النحل بالإحسان فقال جل وعلا?اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى?[النحل:90] وهذا يشمل جميع الشريعة.(62/2)
الإحسان في التعامل مع الخلق، وهذا يكون بأداء الحقوق التي لهم، وعدم ظُلْمِهم فيما لهم، والخلق متنوعون، أصناف شتى، فكل أحد من الخلق له حق:
1. فأعلى الخلق مقاما مما له حق النبي عليه الصلاة والسلام، فالإحسان المتعلق بالمصطفى عليه الصلاة والسلام أن تحسن في الشهادة له بالرسالة؛ بأن تصدقه عليه الصلاة والسلام فيما أخبر، وأن تعبد الله على ما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأن تقدم مراده عليه الصلاة والسلام في الدين على ما تشتهيه أنت من الأهواء والبدع، فهذا إحسان في حق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
2. إحسان في حق الوالدين، أمر الله جل وعلا به في قوله: ?وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?([20])، ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ?[ الإسراء:23] فهذا إحسان في حق الوالدين بإعطاء الوالدين الحقوق الواجبة التي لهم.
3. إحسان في حق المؤمنين بعامة.
4. إحسان في حق العصاة.
5. إحسان في حق العلماء.
6. إحسان في حق ولاة الأمر.
7. إحسان في حق الكافر أيضا.(62/3)
وهكذا فكل نوع من أنواع الخلق يتعلق به نوع من أنواع الإحسان جاءت الشريعة بتفصيله، حتى الحيوان من الخلق تعلق الإحسان به، بما مثل به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ)، هذا تمثيل لنوع من أنواع الإحسان، تعلق بنوع من أنواع المخلوقات، فذكرنا أن الإحسان على كل المخلوقات؛ يعني في كل المخلوقات التي تعاشرها، ومن هذه المخلوقات الحيوانات، فالحيوان كيف تحسن... ؟ مثَّلَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بالحيوان تمثيلا وتنبيها للإحسان في غيره، فقال عليه الصلاة والسلام (فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَةَ؛ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) يعني أن تسعى في القتل بأحسن الطرائق، وفي الذبح بأحسن الطرائق، وقوله (فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ) هذا يشمل قتل من يستحق القتل من ابن آدم، أو من الحيوانات، والظاهر من السياق أن المقصود به الحيوان، وحتى الإنسان مأمور بأن تحسن قِتلته، فيضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه، يعني: بما يكون، يعني على رقبته بما يكون أسرع في إزهاق روحه، حتى الكفار أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يمثل بهم «لا تمثلوا بهم» وألا يقتل شيخ، وألا يقتل امرأة، ولا طفل إلى آخر ما جاء في السنة في ذلك.(62/4)
قال (وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَةَ)، (أحْسِنُوا) يعني ابحثوا عن أحسن طريق للذبح فاذبحوا، (وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ) يعني بحيث لا يتألم المذبوح حين الذبح، ليحد أحدكم شفرته؛ بحيث يكون إمرارها مسرعا في إزهاق الروح؛ بحيث لا يأتي يحاول ويحاول فيكون مع ذلك إتعاب الحيوان في إزهاق روحه، وهذا يدل على استخدام الآلات الجيدة في إزهاق الروح في الحيوان، فيخالف الإحسان ما قد يفعله بعضهم من أنه لا يحسن الذبح، ويذهب يتعلم كيف يذبح، يذهب يتعلم، فيأتي عشر دقائق أو خمس دقائق، وهو يعالج هذه الذبيحة، وربما فرت منه، أو يعني جَمَزَت من يديه، وقامت والدم يتناثر، ونحو ذلك مما قد يجرب بعضهم الذبح، وهذا مخالف للأمر بالإحسان، الأمر بالإحسان؛ إحسان القتلة، وإحسان الذبحة أن يكون مسرعا في إزهاق الروح في الحيوان بإحداد الشفرة، وأن تكون يده أيضا محسنة لاستعمال الشفرة في ذلك، وهذا من الإحسان الذي أُمرنا به، حتى جاء من الإحسان الذي أمرنا به ألا تذبح بهيمة عند بهيمة؛ حتى لا تتأذى برؤية دم أختها وهي تُذبح.
فهذا أمر عام بالإحسان في كل شيء، إحسان في العبادة، إحسان في التعامل مع نفسه، ومع الخلق، ومع الحيوان، حتى مع النبات فيه إحسان، حتى مع الجن، حتى مع الملائكة، إلى آخر ذلك، حتى مع مخلوقات الله في كل شيء إحسان بحسبه، وهذا مقام عظيم أمر الله جل وعلا به ?اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ?[النحل:90]، فعلى طلاب العلم أن يحسنوا في أقوالهم، وفي أعمالهم، وفي تعاملهم مع ربهم جل وعلا، وفي تعاملهم مع الخلق بأنواعه المكلفين وغير المكلفين، الجبال والنبات والشجر والدواب، إلى آخر ذلك. فالله جل وعلا (كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء).(62/5)
الحديث الثامن عشر -
عن أبي ذَرَّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادةَ وأبي عبدِ الرحمنِ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ -- رضي الله عنه -- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«اِتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ »[رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن )، وفي بعض النسخ: (حسن الصحيح )].
[الشرح]
هذا الحديث حديث أبي ذرّ، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «اِتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
قوله (اِتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ) هذا أمْر بالتقوى، و(حَيْثُمَا) هذه متعلقة بالأزمنة والأمكنة، يعني في أي زمان كنت، وفي أي مكان كنت؛ لأن كلمة (حَيْثُ) قد تتوجه إلى الأمكنة، وقد تتوجه إلى الأزمنة؛ يعني قد تكون ظرف مكان، وقد تكون ظرف زمان، وهي هنا محتملة للأمرين، (اِتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ) يعني اتق الله في أي مكان أو في أي زمان كنت. والأمر بتقوى الله جل وعلا هنا على الوجوب؛ لأنّ التقوى أصل عظيم من أصول الدين:
- عليه السلام - وقد أمر الله جل وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنْ يتقي الله، فقال جل وعلا: ?يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ?[الأحزاب:1]، وأمر المؤمنين بأنْ يتقوا الله حق تقاته ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ?[آل عمران:102]، وأمرهم بتقوى الله بعامة ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا?[الأحزاب:70]، ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ?[الحشر:18] وأشباه ذلك. وتقوى الله جل وعلا جاءت في القرآن في مواضع كثيرة.(63/1)
- وأتَتِ التقوى في مواضع أُخر بتقوى عذاب الله جل وعلا، وبأنْ يتقي النار، وأنْ يتقي يوم القيامة كما قال جل وعلا ?وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ?[البقرة:281]، وقال جل وعلا ?وَاتَّقُوا النَّارَ?[آل عمران:131]، وهكذا في آيات أُخر.
فهذان إذن نوعان، فإذا توجهت التقوى، وصارَ مفعولُها لفظَ الجلالةِ ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ? ([21]) فمعنى تقوى الله جل وعلا هنا أنْ تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وأليم عقابه في الدنيا وفي الآخرة وِقاية تَقِيكَ منه، وهذه الوقاية بالتوحيد، ونبذ الشرك، وهذه هي التقوى التي أُمر الناس جميعا بها؛ لأن تقوى الله كما ذكرت لك من معناها راجعة إلى المعنى اللغوي، وهي أنّ التقوى أصلها (وَقْوَى) فالتاء فيها منقلبة عن واو، وهي من الوِقاية، وَقَاهُ، يَقِيهِ، وِقَايَةً، فالمتقي هو من جعل بينه وبين ما يكره وقاية، بينه وبين سخط الله وعذابه وأليم عقابه وقاية.
وهي في القرآن -أي في الأمر بتقوى الله- على ثلاث مراتب:
¨ الأولى: تقوى أمر بها الناس جميعا، ? يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ?([22]) في آيات، وهذا معناه أن يسلموا أن يحققوا التوحيد، ويتبرءوا من الشرك، فمن أتى بالتوحيد، وسَلِمَ من الشرك فقد اتقى الله جل وعلا أعظم أنواع التقوى، ولهذا قال جماعة من المفسرين في قوله جل وعلا ? إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ ?[المائدة:27] يعني من الموحدين.(63/2)
¨ والمرتبة الثانية أوالنوع الثاني: تقوى أمر بها المؤمنين فقال جل وعلا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) وهذه التقوى للمؤمن تكون بعد تحصيله كما هو معلوم بعد تحصيله التوحيد وترك الشرك، فيكون التقوى في حقه أن يعمل بطاعة الله على نور من الله، وأنْ يترك معصية الله على نور من الله جل وعلا، وأنْ يترك المحرمات، ويمتثل الواجبات، وأن يبتعد عما فيه سخط الله جل وعلا، والتعرض لعذابه، وهذه التقوى للمؤمنين أيضا على مراتب أعلاها أنْ يدع ما لا بأس به حَذَرا مما به بأس، حتى قال بعض السلف: ”ما سُموا متقين إلا لتركهم ما لا بأس به حذرا مما به بأس“. وهذا في أعلى مراتب التقوى؛ لأنّه اتقى ما لا ينفعه في الآخرة، وهذه مرتبة أهل الزهد والورع والصلاح.
¨ والنوع الثالث من التقوى في القرآن: تقوى أُمر بها من هو آتٍ بها، وذلك قول الله جل وعلا ?يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ?[الأحزاب:1] ومن أُمِر بشيء هو محصله، فإنّ معنى الأمر أنْ يثبت عليه، وعلى دواعيه، فمعنى قول الله جل وعلا ?يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ?[الأحزاب:1]، يعني اثْبُتْ على مقتضيات التقوى (وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)، وذلك قوله جل وعلا ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ?[النساء:136]الآية في سورة النساء، فناداهم باسم الإيمان، ثم أمرهم بالإيمان، وهذا معناه أن يثبتوا على كمال الإيمان، أو أنْ يكملوا مقامات الإيمان بحسب الحال؛ لأنّ لفظ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان له درجات.(63/3)
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا (اِتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ) هذا خطاب موجّه لأهل الإيمان، يعني لأهل النوع الثاني، فالمقصود منه أنْ يأتي بتقوى الله جل وعلا في أي مكان، أو زمان كان، فهو أن يعمل بالطاعات، وأن يجتنب المحرمات، كما قال طَلْقُ بن حبيب رحمه الله: ”تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله“. قال ابن مسعود وغيره في رجل سأله عن التقوى فقال: ألم تمش على طريق فيه شوك ؟ فقال بلى. قال فما صنعت ؟ قال شمرت واتقيت، قال فتلك التقوى. وهي مروية أيضا عن عمر - رضي الله عنه - ونظمها ابن المعتز الشاعر المعروف بقوله:
خلٍّ الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أر
ضِ الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرة
إنّ الجبال من الحصى
وهذا بعامة يخاطب به أهل الإيمان، فإذن تقوى الله جل وعلا أن تخاف من أثر معصية الله جل وعلا، أنْ تخاف من الله جل وعلا فيما تأتي، وفيما تذر، وهي في كل مقام بحسبه. التقوى في كل مقام بحسبه، ففي وقت الصلاة هنا تخاطب بالتقوى، وفي وقت الزكاة تخاطب بالتقوى، في هذا المقام، وفي وقت الإتيان بسنة تخاطب بالتقوى، وفي وقت المخاطبة بواجب تخاطب بالتقوى، وفي وقت أن يعرض عليك مُحرَّم من النساء أو المال، أو الخمور، أو ما أشبه ذلك من الأنواع، أو محرمات اللسان، أو أفعال القلوب من العُجْب والكِبْر، أو الازدراء وسوء الظن، إلى آخره، في كل مقام يأتيك هناك تقوى تخصه. فإذن تتعلق التقوى بالأزمنة وبالأمكنة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (اِتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ)؛ لأنّه ما من مكان تكون فيه أو زمان تكون فيه إلا وثم أمر أو نهي من الله جل وعلا يتوجه للعبد.(63/4)
والوصية بالتقوى هي أعظم الوصايا، ? وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَن اتَّقُوا اللَّهَ?[النساء:131] وكان الصحابة رضوان الله عليهم كثيرا ما يوصي بعضهم بعضا بتقوى الله، فهُم يعلمون معنى هذه الوصية العظيمة.
قال عليه الصلاة والسلام (وَأَتْبِعِ السَّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا) أتْبع الفاعل أنت، والسيئة هي المتبوعة، والحسنة هي التابعة؛ يعني اجعل الحسنة وراء السيئة؛ بعد السيئة، إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة؛ فإنّ الحسنات يذهبن السيئات، كما قال جل وعلا ?وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ?[هود:114]، وفي الصحيح، صحيح البخاري رحمه الله وغيره أنّ رجلا من الصحابة نَالَ من امرأة قُبلة فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بالخبر مستعظما لما فعل، فيسأله عن كفّارة ذلك، فنزل قول الله جل وعلا ?وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ?[هود:114]، فقال له عليه الصلاة والسلام «هل صليت معنا في هذا المسجد؟» قال: نعم. قال «فهي كفارة ما أتيت»، وهذا يدل على أنّ المؤمن يجب عليه أنْ يستغفر من السيئات، وأنْ يسعى في زوالها، وذلك بأنْ يأتي بالحسنات، فالإتيان بالحسنات يمحو الله جل وعلا به أنواعَ السيئات. وكل سيئة لها ما يقابلها، فليس كل سيئة تمحوها أيّ حسنة فإذا عظمت السيئة وكبرت فلا يمحوها إلا الحسنات العظام؛ لأنّ كل سيئة لها ما يقابلها من الحسنات، ولهذا جاء أنّ الرجل إذا غَلِط أو جرى على لسانه كلمة والكعبة أو أقسم بغير الله فإن كفارة ذلك من الحلف بالآباء وأشباه ذلك أن يقول لا إله إلا الله؛ لأن ذاك شرك، وكفارة الشرك أن يأتي بالتوحيد، وكلمة لا إله إلا الله(63/5)
هي من الحسنات العظام، كلمة التوحيد من الحسنات العظام.
إذن فالسيئات لها حسنات يمحو الله جل وعلا بها السيئات، وهذا يدل على أن السيئة تمحى، ولا تدخل في الموازنة، وظاهر الحديث أنّ هذا فيمن أتبعها يعني أنّه إذا أتى بسيئة أتبعها بحسنة بقصد أنْ يمحو الله جل وعلا عنه السيئات؛ لأنه قال (وَأَتْبِعِ السَّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا) فإذا فعل سيئة سعى في حسنة لكي تُمحى عنه تلك السيئة.
والحديث الذي ذكرنا، وعموم الآية (وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) يدلّ على عدم القصد، فالحديث هذا دلّ على القصد، يعني: أن يتبعها قاصدا، والآية والحديث؛ آية هود والحديث؛ حديث ابن مسعود الذي في البخاري يدل على عدم اعتبار القصد، فهل هذا في كل الأعمال؟ أم أنه يحتاج إلى أن يتبع السيئة الحسنة حتى يمحوها الله جل وعلا عنه بقصد الإتْباع؟ هذا ظاهر في أثره، فأعظم ما يمحو الله جل وعلا به السيئات أن يأتي بالحسنة بقصد التكفير، فهذا يمحو الله جل وعلا به الخطيئة؛ لأنه جمع بين الفعل والنية، والنية فيها التوبة والندم على تلك السيئة، والرغبة إلى الله جل وعلا في أنْ يمحوها الله جل وعلا عنه، إذن فهي مرتبتان:
?المرتبة الأولى: أن يقصد وهي العليا أن يقصد إذهاب السيئة بالحسنة التي يعملها، وهذا معه أنّ القلب يتبرأ من هذا الذنب، ويرغب في ذهابه، ويتقرب إلى الله جل وعلا بالحسنات حتى يَرضى الله جل وعلا عنه ففي القلب أنواع من العبوديات ساقته إلى أن يعمل بالحسنة؛ ليمحو الله جل وعلا عنه بفعله الحسنة ما فعله من السيئة.
?والمرتبة الثانية: أنْ يعمل بالخير مطلقا، والحسنات يذهبن السيئات بعامة، كل حسنة بما يقابلها من السيئة، فالله جل وعلا ذو الفضل العظيم.(63/6)
إذا تقرر ذلك فالحسنة المقصود بها الحسنة في الشرع، والسيئة هي السيئة في الشرع، والحسنة في الشرع ما يثاب عليه، والسيئة في الشرع ما ورد الدليل بأنه يعاقب عليه، إذن:
• فالسيئات هي المحرمات من الصغائر والكبائر.
• والحسنات هي الطاعات من النوافل والواجبات.
قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك (وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) والناس هنا يراد بهم المؤمنون في جماع الخُلق الحسن بأن يحسن إليهم، ويراد بهم أيضا غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل، والخُلق الحسن يشمل ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل، والإحسان لمن له حق الإحسان، قال عليه الصلاة والسلام هنا (خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)، والخلق الحسن فسر بتفسيرات:
? منها أنه بذل النَّدَى وكف الأذى؛ يعني أن تبذل الخير للناس، وأن تكف أذاك عنهم.
?وقال آخرون: إنّ الخُلق الحسن أنْ يُحسِن للناس بأنواع الإحسان، ولو أساءوا إليه.(63/7)
كما جاء الأمر بمخالقة الناس بالخلق الحسن، والحث على ذلك، وبيان فضيلته في أحاديث كثيرة، ومما جاء في بيان فضيلته قوله عليه الصلاة والسلام «إن أدناكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، المُوَطَّّؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون». وثبت عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال «إنّ الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم» يعني المتنفل بالصيام، والمتنفل بالقيام، فحسن الخلق الذي يبذله دائما طاعة من طاعات الله جل وعلا، فإذا كان دائم إحسان الأخلاق على النحو الذي وصفت، فإنّه يكون في عبادة دائمة، إذا فعل ذلك طاعة لله جل وعلا، وحسن الخلق تارة يكون طبعا، وتارة يكون حملا؛ يعني طاعة لله جل وعلا لا طبعا في المرء، وما كان من حسن الخلق على امتثال الطاعة، وإلزام النفس بذلك فهو أعظم أجرا ممن يفعله على وفق الطبيعة، يعني لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء أنّ الأمر إذا أمر به في الشرع، يعني أن المسألة إذا أمر بها في الشرع، فإذا امتثلها اثنان فإنما من كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظمَ أجرا في الإتيان بالواجبات، كما ثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة «إن أجركِ على قدْرِ نَصَبِك» وهذا محمول على شيئين -يعني مشروط بشرطين-:
الأول: أن يكون من الواجبات.
والثاني: أن يكون مما توجه الأمر للعبد به فيكون أجره على قدر مشقته في امتثال الأمر.
أما النوافل فلا لحديث الذي يقرأ القرآن فيه تفاصيل القاعدة المعروفة عند أهل العلم.(63/8)
الحديث التاسع عشر -
عن أبي العبّاس عبدِ الله بنِ عبَّاس رضي الله عدنهما قال: كنتُ خَلفَ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوما، فقال: «يا غُلامُ؛ إنََِّي أُعَلَّمُكَ كَلِمَاتٍ:احْفَظْ الله يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا استَعَنْتَ فاسْتَعِن بالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّّوكَ إلاَّ بِشَيْء ٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجُفَتِ الصُحُفْ »[رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح]، وفي روايةِ غير الترمذي: «احْفَظِ الله تَجِدْهُ أَمامَكَ، تَعَرَّفْ إلِى الله فِي الرخَاء يَعْرِفْكَ فِي الشَّدَّةِ، واعْلَم أَنّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرَ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».
[الشرح]
هذا حديث عظيم جدّا من وصايا المصطفى عليه الصلاة والسلام خَصَّ بها ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهذه الوصية جمعت خيري الدنيا والآخرة؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى عبد الله بن عباس وأمره بقوله (يا غُلامُ؛ إنََِّي أُعَلَّمُكَ كَلِمَاتٍ) وهذا اللفظ فيه تودُّد المعلم والأب والكبير إلى الصغار، وإلى من يريد أنْ يوجه بالألفاظ الحسنة، فهو استعمل عليه الصلاة والسلام لفظ التعليم (إنََِّي أُعَلَّمُكَ كَلِمَاتٍ) وهي أوامر، فلم يقل له عليه الصلاة والسلام إنِّي آمرك بكذا وكذا، وإنما ذكر لفظ التعليم؛ لأنه من المعلوم أن العاقل يحب أن يستفيد علما.(64/1)
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له (يا غُلامُ؛ إنََِّي أُعَلَّمُكَ كَلِمَاتٍ) والكلمات جمع كلمة، والمقصود بها هنا الجمل؛ لأن الكلمة في الكتاب والسنة غير الكلمة عند النُّحاة، الكلمة عند النحاة اسم أو فعل أو حرف، أمّا في الكتاب والسنة فالكلمة هي الجملة، كما قال جل وعلا: ?كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا?[المؤمنون:100] يريد بها ما جاء في الآية قبلها ? رَبِّ ارْجِعُونِ?[المؤمنون:99]، وثبت أيضا في مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال «أصدق كلمة قالها شاعر قول لَبِيدٍ: أَلاَ كُلّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللّهَ بَاطِلٌ» قال «أصدق كلمة» فإذن الكلمة يُعنى بها الجمل. فقوله عليه الصلاة والسلام (إنََِّي أُعَلَّمُكَ كَلِمَاتٍ) يعني إني أعلمك جُمَلاً ووصايا، فأرعها سمعك.
قال عليه الصلاة والسلام بعدها (احْفَظْ الله يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ)، هذه هي الوصية الأولى.
(احْفَظْ الله يَحْفَظْكَ) فهنا أمره بأنْ يحفظ الله، ورتّب عليه أن الله جل وعلا يحفظه، وحِفْظُ العبد ربه جل وعلا المراد منه أن يحفَظه في حقوقه جل وعلا، وحقوق الله جل جلاله نوعان: حقوق واجبة، وحقوق مستحبة، فحفظ العبد ربه يعني أنْ يمتثل (اِحْفَظِ الله) أن يأتي بالحقوق الواجبة، والحقوق المستحبة -ونعبِّر بالحقوق تجوزا بالمقابلة، يعني الحقوق الواجبة والمستحبة- فمن أتى بالواجبات والمستحبات فقد حفِظ الله جل وعلا؛ لأنه يكون من السابقين بالخيرات، والمقتصد أيضا قد حفِظ الله جل وعلا إذ امتثل الأمر الواجب، وانتهى عن المُحَرَّم.
• فأدنى درجات حفظ الله جل وعلا أن يحفظ الله سبحانه وتعالى بعد إتيانه بالتوحيد بامتثال الأمر، واجتناب النهي.
• والدّرجة التي بعدها المستحبات، هذه يتنوع فيها الناس، وتتفاوت درجاتهم.
قال (احْفَظْ الله يَحْفَظْكَ)، وحفظ الله جل وعلا للعبد على درجتين أيضا:(64/2)
• أما الأولى فهو أن يحفظه في دنياه، أن يحفظ له مصالحه في بدنه بأن يصحه، وفي رزقه بأن يعطيه حاجته، أو أن يوسع عليه في رزقه، وفي أهله بأن يحفظ له أهله وولده، وأنواع الحفظ لمصالح العبد في الدنيا، فكل ما للعبد فيه مصلحة في الدنيا فإنه موعود بأنْ تحفظ له إذا حفظ الله جل وعلا بأداء حقوق الله جل جلاله واجتنابه المحرمات.
• والدرجة الثانية من حفظ الله جل وعلا للعبد، وهي أعظم الدرجتين وأرفعهما وأبلغهما عند أهل الإيمان، وفي قلوب أهل العرفان، هي أن يحفظ الله جل وعلا العبد في دينه، بأن يسلم له دينه بإخلاء القلب من تأثير الشبهات فيه، وإخلاء الجوارح من تأثير الشهوات فيها، وأن يكون القلب معلَّقا بالرب جل وعلا، وأن يكون أُنسه بالله، ورغبه في الله، وإنابته إليه، وخلوته المحبوبة بالله جلّ جلاله، كما جاء في حديث الوَليّ المعروف، الذي رواه البخاري في الصحيح وغيره أيضا، قال عليه الصلاة والسلام «قال الله تعالى -في جمل ابتدأ بها الحديث ثم قال- ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له من ذلك»، فحفظ الله جل وعلا العبد في الدين هذا أعظم المطالب، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يدعو الله كثيرا أن يُحفَظَ من الفتن وأن يحفظه الله جل وعلا من تقليب القلب، «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك» «يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك» ونحو ذلك، وكان كثيرا ما يقسم «لا ومقلب القلوب»، فالعبد أعظم المطالب التي يحرص عليها أن يسلم له دينُه، والله جل وعلا قد يبتلي العبد بخلل في دينه، وشبهات تطرأ عليه لتفريطه في بعض ما يجب أنْ يُحفظ اللهُ جل وعلا فيه؛ فلهذا العبد إذا حصل له إخلال في الدين،(64/3)
فإنّه قد أخل بحفظ الله جل وعلا، وقد يعاقب بأن يُجعل غافلا، وقد يُعاقَب بحرمانه البصيرة في العلم، وقد يُعاقب بأنْ تأتيه الشبهة ولا يحسن كيف يتعامل معها، ولا كيف يردها، وقد يُعاقب بأنه تأتيه الشبهة فتتمكن منه، كما قال جل وعلا?فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ?[الصف:5] وكما قال ?نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ?[التوبة:67] وكما قال جل وعلا?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7]وكما قال جل وعلا?إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ?[الأعراف:155]الآية في الأعراف، وهكذا في آيات أخر دلت على أن العبد قد يخذل، وخذلانه في أمر الدين هو أعظم الخذلان، ولهذا ينبغي للعبد أن يحرص تمام الحرص على أن يحفظ الله جل وعلا في أمره سبحانه، وإن فاته الامتثال فلا يفته الاستغفار، والإنابة واعتقاد الحق، وعدم التردد، والسرعة باتباع السيئة بالحسنة لعلها أن تُمحى.(64/4)
لهذا فإن حفظ الله جل وعلا للعبد بأن يكون الحفظ في الدين أعظم من أن يحفظ في أمر دنياه، ولهذا في قول الله جل وعلا في سورة المائدة { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(13)وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ]([23]) فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [المائدة:13-14] قال جل وعلا(فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، قوله (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) يعني تركوا نصيبا مما أُمروا به، تركوه عن عمد وعن علم، فلما علموه تركوه عن بصيرة فعوقبوا بالفرقة، (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة)، وهذا من أنواع العقوبات التي يبتلي الله جل وعلا بها العباد، ويعاقب بها المؤمنين؛ حيث يعاقبهم بالفرقة؛ لأنهم تركوا ما أوجب الله جل وعلا عليهم من مقتضى العلم، وهذا نوع من أنواع ترك حفظ الله جل وعلا للعبد، فالعبد بحاجة أن يحفَظَه الله سبحانه وتعالى بتوفيقه له، ومعيته له، وتسديده إياه.
حفظ الله جل وعلا للعبد في الدين، أو في الدنيا أيضا راجع إلى معية الله سبحانه وتعالى، والمراد بها المعية الخاصة التي مقتضاها التوفيق والإلهام والتسديد والنصر والإعانة.(64/5)
قال (اِحْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ) يعني احفظ الله على نحو ما وصفنا تجده دائما على ما طلبت، تجده دائما قريبا منك، يعطيك ما سألت، كما ذكرتُ لك في حديث الوَليّ «ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه».
قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك، (إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا استَعَنْتَ فاسْتَعِن بالله) هذا مأخوذ من قول الله جل وعلا ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5] وفيه إفراد الله جل وعلا بالاستعانة وبالسؤال، وهذه على مرتبتين:
?الأولى واجبة: وهي التوحيد بأنْ يستعين بالله جل جلاله وحده دون ما سواه فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، فهذا واجب أن يُفرد الله جل وعلا بالاستعانة، وكذلك أن يسأل الله جل وعلا وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وهذا هو المعروف عندكم في التوحيد فيما يكون من الدعاء صَرْفُه لغير الله جل وعلا شرك، وكذلك في الاستعانة التي يكون صَرْفها لغير الله جل وعلا شركا.
?المرتبة الثانية المستحبة: وهو أنه إذا أمكنه أن يقوم بالعمل، فإنه لا يسأل أحدا من الناس شيئا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ العهد على عدد من الصحابة ألاّ يسألوا الناس شيئا، قال الراوي «فكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه» وهذا من المراتب التي يتفاوت فيها الناس، فإذا أمكنك أن تقوم بالشيء بنفسك فالأفضل والمستحب ألاّ تسأل أحدا من الخلق في ذلك، إذا أمكنك؛ يعني بلا كلفة، ولا مشقة، ومن كانت عادته دائما أن يطلب الأشياء فهذا مكروه، وينبغي للعبد أن يوطّن نفسه، وأن يعمل بنفسه ما يحتاجه كثيرا، وإذا سأل في أثناء ذلك، فإنه لا يقدح حتى في الدّرجة المستحبة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ربما أمر من يأتيه بالشيء، وربما طلب من يفعل له الشيء، وهذا على بعض الأحوال.(64/6)
قال (إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا استَعَنْتَ فاسْتَعِن بالله) ظاهر في الوجوب (إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا استَعَنْتَ فاسْتَعِن بالله) على القيد الذي ذكرنا لكم؛ مِنْ أن هذا يتناول المرتبة الأولى على الوجوب، والمرتبة الثانية على الاستحباب.
قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك (وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّّوكَ بِشَيْء ٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجُفَتِ الصُحُفْ)، هذا فيه بيان القدر الثابت، وأن العباد لن يغيروا من قدر الله جل وعلا الماضي شيئا، وأما مَن عظم توكله بالله جل وعلا، فإنه لن يضره الخلق، ولو اجتمعوا عليه، كما قال جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ?[المائدة:67]، وجاء في عدد من الأحاديث بيان هذا الفضل، في أن العبد إذا أحسن توكله على الله جل وعلا، وطاعته لله، فإن الله يجعل له مخرجا، ولو كاده من في السماوات، ومن في الأرض لجعل الله جل وعلا له من بينهن مخرجا، والتوكل على الله جل وعلا ظاهر من هذه الوصية؛ حيث قال (وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ) ثم قال (واعلم وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ...) إلى آخر الجملتين، وهذا فيه إعظام التوكل على الله جل وعلا.(64/7)
والتوكل على الله سبحانه وتعالى من أعظم المقامات؛ مقامات الإيمان، بل هو مقام الأنبياء والمرسلين في تحقيق عبوديتهم العظيمة للرب جل وعلا، والتوكل على الله معناه: أن يفعل السبب الذي أُمر به، ثم يفوض أمره إلى الله جل وعلا في الانتفاع بالأسباب. وإذا كان ما لديه من الأمر لا يملك أن يفعل له سببا فإنه يفوض أمره إلى الله جل وعلا كما قال سبحانه في ذكر مؤمن آل فرعون ?وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ?[غافر:44]، وهذا التفويض إلى الله جل وعلا عمل القلب خاصة؛ يعني أن يلتجئ بقلبه، وأن يعتمد بقلبه على الله جل وعلا في تحصيل مراده، أو دفع الشر الذي يخشاه، والعباد إذا تعامل معهم فإنما يتعامل معهم على أنهم أسباب، والسبب قد ينفع، وقد لا ينفع، فإذا تعلق القلب بالخلْق أوتي من هذه الجهة، ولم يكن كاملا في توكله، فتعلق القلب بالخلق مذموم، والذي ينبغي: أنْ يتوكل على الله، وأن يعلق قلبه بالله جل وعلا، وألا يتعلق بالخلق، حتى ولو كانوا أسبابا، فينظر إليهم على أنهم أسباب، والنافع والذي يجعل السبب سببا، وينفع به هو الله جل وعلا. إذا قام هذا في القلب فإن العبد يكون مع ربه جل وعلا، ويعلم أنه لن يكون له إلا ما قدره الله جل وعلا له، ولن يمضي عليه إلا ما كتبه الله جل وعلا عليه.
قال عليه الصلاة والسلام (رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجُفَتِ الصُحُفْ) يعني أن الأمر مضى وانتهى، وهذا لا يدلّ، كما ذكرته لكم فيما سبق، لا يدل على أن الأمر على الإجبار، بل إنّ القدر ماض، والعبد يمضي فيما قدره الله جل وعلا؛ لأجل التّوكل عليه، وحسن الظن به، وتفويض الأمر إليه، وهو إخْلاء القلب من رؤية الخلْق.(64/8)
قال (وفي روايةِ غير الترمذي «احْفَظِ الله تَجِدْهُ أَمامَكَ، تَعَرَّفْ إلِى الله فِي الرخَاء يَعْرِفْكَ فِي الشَّدَّةِ، واعْلَم أَنّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ)
قوله (تَعَرَّفْ إلِى الله فِي الرخَاء يَعْرِفْكَ فِي الشَّدَّةِ) تعرُّف العبد إلى ربه هو عِلْمه بما يستحقه جل وعلا، (تَعَرَّفْ إلِى الله فِي الرخَاء) يعني تعلَّم ما يستحقه جل وعلا عليك، ما يستحقه جل وعلا منك؛ توحيدِه في ربوبيته، وإلهيته، وفي أسمائه وصفاته، ما يستحقه جل وعلا من طاعته في أوامره، وطاعتِه فيما نهى عنه باجتناب المنهيات، وما يستحقه جل وعلا من إقبال القلب عليه، وإنابة القلب إليه، والتَّوكل عليه، والرغب فيما عنده، وإخلاء القلب من الأغيار؛ يعني من غيره جل وعلا، واتباع ما يحب ويرضى من أعمال القلوب، (تَعَرَّفْ إلِى الله فِي الرخَاء) يعني إذا كنت في رخاء من أمرك، بحيث قد يأتي لبعض النفوس أنها غير محتاجة لأحد، هنا (تَعَرَّفْ إلِى الله فِي الرخَاء) واطلب ما عنده، وتعلَّم ما يستحقه جل وعلا، واتَّبع ذلك بالامتثال، فإن هذا من أفضل الأعمال الصالحة، بل هو لُبُّ الدين وعماده، العلم بما يستحقه جل وعلا، ثم العمل بذلك، إذا حصل منك التعرف إلى الله، والتعرف على الله جل وعلا عَرَفَك الله في الشدة، قال (يَعْرِفْكَ فِي الشَّدَّةِ) وكلمة (يَعْرِفْكَ) هذه جاءت على جهة الفعل، ومعلوم في باب الصفات أن باب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات، فهذا إذن لا يقتضي أن يكون من صفاته جل وعلا المعرفة، فإنه لا يوصف الله جل وعلا بأنه ذو معرفة، بل يقيّد هذا على جهة المقابلة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا (تَعَرَّفْ إلِى الله فِي الرخَاء يَعْرِفْكَ فِي الشَّدَّةِ) فيجوز أن تستعمل لفظ (يعرف) على الفعلية، وفي مقابلةِ لفظِ يعرف آخر، كما في نظائره كقوله عليه(64/9)
الصلاة والسلام «إن الله لا يمل حتى تملوا» وكما في قول الله جل وعلا: ? وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ?[الأنفال:30]، وفي قوله?مُسْتَهْزِئُونَ(14)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ?[البقرة:14-15]، ?يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ?[النساء:142] وأشباه ذلك من الألفاظ التي جاءت بصيغة الفعل، ومجيئُها بلفظ الفعل لا يدل على إطلاقها صفة؛ لأنها جاءت على لفظ المقابلة، ومجيء بعض الصفات، يعني على جهة الأفعال بالمقابلة هذا يدل على الكمال، ومعلوم أن المعرفة غير العلم، العلم كمال.
• وأما المعرفة فإنها قد تشوبها شائبة النقص؛ لأن لفظ المعرفة، وصفة المعرفة هذه قد يسبقها جهل، لأنّ (عَرَفَ الشيءَ) يعني تَعَرَّفَ إليه بصفاته، وهذا يقتضي أنه كان ربما جاهلا به غير عالم به.
• أما العلم فهو صفة لا تقتضي ولا يلزم منها سبق عدم علم أو سبق جهل وأشباه ذلك، ولهذا كان من أسماء الله الحسنى العليم، ولم يكن من أسمائه جل وعلا العارف، وأشباه ذلك.
إذا تقرر هذا فلفظ المعرفة جاء في القرآن على جهة الذم قال جل وعلا ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83] وقال جل وعلا ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأنعام:20] والآية الأخرى أيضا في الأنعام، والآية الأخرى أيضا في البقرة في هذا، فلفظ المعرفة جاء على جهة الذم في غالب ما جاء في الكتاب والسنة، وقد يكون يأتي على معنى العلم، كما في هذا الحديث.
فإذن قوله (تَعَرَّفْ إلِى الله فِي الرخَاء يَعْرِفْكَ فِي الشَّدَّةِ) من جهة الصفات هذا بحثه، ما معناه معرفة الله للعبد في الشدة؟ قال العلماء: هذه معناها المعيّة، ومعرفة الله جل وعلا للعبد في الشدة يعني أنْ يكون معه بمعية النصر والتأييد والتوفيق وأشباه ذلك.(64/10)
قال (واعْلَم أَنّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ) وهذا في القدَر ومن مضى بحثُه.
قال (وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرَ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) هذا فيه الأمر بالصبر، وأن مع الكرب يأتي الفرج، وأن مع العسر يأتي اليسر، كما قال جل وعلا: ? فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا?[الشرح:5-6]، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لن يغلب عسر يسرين» وهذا من فضل الله جل وعلا قد قال الشاعر:
اشتدي أزمةُ تنفرجي قد آذن ليلك بالبَلَجِ
في القصيدة المسماة بـ”المنفرجة“، وهذا يدل على أن العبد إذا اشتد عليه الأمر، وأحسن الصبر، وأحسن الظن بالله جل وعلا فإنه يؤذن له بأن ينفرج كربه، وأنْ يُيسر له عسره، والصبر أمر به هنا في قوله (وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرَ) والنصر مطلوب، فصار الصبر مطلوبا، والصبر مرتبة واجبة، وإذا حصل كرب ومصيبة، كما قال (مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ)
- عليه السلام -إذا حصلت مصيبة فإن الصبر واجب؛ يعني الصبر أمر الله به، وهو واجب على كل أحد، ومعنى الصبر الواجب:
- أنْ يحبس اللسان عن الشكوى.
- ويحبس القلب عن التسخط.
- ويحبس الجوارح عن التصرف بما لا يجوز من شق أو نياحة أو لطم، وأشباه ذلك من الأفعال في غير مصيبة الموت.(64/11)
فإذن الصبر فيه حبس اللسان عن التشكي، كما هو تعريف الصبر، قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: هذا رجل ظلمه السلطان فأخذ يدعو عليه، قال أحمد: ”هذا خلاف الصبر الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع السلطان، لا يدعى عليه.“ وهذا له مأخذ آخر من جهة أن الكرب الذي ربما أتى من السلطان إذا تشكى المؤمن منه فإنه يخالف حبس اللسان عن التشكي، ولهذا لما جاء أحد الصحابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر له ما يلقى من المشركين من الشدة غضِب النبي عليه الصلاة والسلام لأجل أنهم لم يصبروا، وقال «إنه كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار نصفين ما بين جلده وعظمه لا يرده ذلك عن دينه، فوالله ليُتمن الله هذا الأمر» الحديث، فدل هذا على أن الصبر واجب في جميع الحالات، والصبر حبس للسان عن التشكي، وحبس للقلب عن التسخط، وحبس للجوارح عن التصرف في غير ما يرضي الله جل وعلا؛ ولهذا أمر الله نبيَّه أن يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل؛ ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ?[الأحقاف:35]، وكل مخالفة لهذا الواجب يأتي لها أضدادها في حياة العبد، إما الخاصة أو العامة.
- المرتبة الثانية المستحبة هي: الرضا، الرضا بما قدر الله جل وعلا، فالصبر واجب، وأما الرضا فمستحب؛ الرضا بالمصيبة مستحب، ومعنى الرضا بالمصيبة أنْ يستأنس لها ويعلم أنها خير له، فيقول: هي خير لي، ويرضى بها في داخله، ويسلم لها، ولا يجد في قلبه تسخطا عليها، أو لا يجد في قلبه رغبة في أن لا تكون جاءته، بل يقول: الخير في هذه، وهذه مرتبة خاصة.
وهناك فرق ما بين الرضا الواجب، والرضا المستحب في المصيبة، فإن المصيبة إذا وقعت تعلق بها نوعان من الرضا؛ رضا واجب ورضا مستحب، والرضا الواجب هو: الرضا بفعل الله جل وعلا. والرضا المستحب هو: الرضا بالمصيبة. يعني:(64/12)
- الرضا بفعل الله هذا واجب؛ لأنه لا يجوز للعبد ألا يرضى بتصرف الله جل وعلا في ملكوته، بل يرضى بما فعل الله جل وعلا في ملكوته، ولا يكون في نفسه معارضة لله جل وعلا في تصرفه في ملكوته، هذا القدر واجب.
- وأما المستحب فهو الرضا بالمصيبة يعني: الرضا بالمقضي، فهناك فرق ما بين الرضا بالقضاء، والرضا بالمقضي، فالرضا بالقضاء الذي هو فعل الله جل وعلا هذا واجب، والرضا بالمقضي هذا مستحب.
ونقف عند هذا، وأنبه إلى أني لن أتمكن من الحضور للدرس من يوم غد إلى ليلة الأحد، وألتقي بكم إن شاء الله ليلة الاثنين بإذنه تعالى، وذلك لطارئ طرأ، وسنكمل إن شاء الله هذا الشرح، ولو أخذنا وقتا بعد الفجر أو بعد العصر إن شاء الله نعدكم بإكماله؛ إكمال شرح هذه الأربعين.
أسأل الله لي ولكم العون والتوفيق والسداد.(64/13)
الحديث العشرون -
وعن أبي مَسعودٍ عُقْبَة بنِ عَمرٍ الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ مِمّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ » [رواه البخاري ]
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة، والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
هذا الحديث فيه الكلام على شعبة من شعب الإيمان ألا وهي الحياء، فقد أُسْنِد الكلام هنا إلى ما بقي للناس من النبوة الأولى فقد قال عليه الصلاة والسلام هنا (إنَّ مِمّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ).(65/1)
فقوله عليه الصلاة والسلام هنا (إنَّ مِمّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى) يقتضي أنّ هناك كلاما أدركه الناس من كلام الأنبياء، ومعنى الإدراك: أنه فشا في الناس، وتناقلوه عن الأنبياء. وقوله (مِمّا أَدْرَكَ النَّاسُ) (مِنْ) هنا تبعيضيه فيكون هذا القول وهو (إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) يكون بعض ما أُدرك من كلام النبوة الأولى، فقال عليه الصلاة والسلام (إنَّ مِمّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى) والنبوة الأولى المقصود بها النبوات المتقدمة؛ يعني أوائل الرسل والأنبياء كنوح عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام وهكذا؛ فإن نوحا عليه السلام له كلام فشا في أتباعه فيما بعده، وإبراهيم عليه السلام كذلك في كلام له، وكذلك مما أعطاه الله جل وعلا وأوحاه إليه فيما في صحفه. فالنبوة الأولى المقصود بها النبوات السابقة البعيدة عن إِرْثِ الناس لذلك الكلام، فيكون مقتضى النبوة الأولى أنّ هناك نبوات متأخرة، وهذا صحيح؛ لأنّه إذا أُطلق النبوات الأولى فإنما يُعنَى به الرسل والأنبياء المتقدمون، أما موسى عليه السلام، وعيسى عليه السلام، وهكذا أنبياء بني إسرائيل، داود وغيره هؤلاء من النبوات المتأخرة؛ يعني من الأنبياء والرسل المتأخرين. وقوله عليه الصلاة والسلام (مِمّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى) هذا يعني أن هذا الكلام كلام أنبياء، وله تشريعُه، وله فائدته العظيمة، فهذا فيه لَفْت النظر إلى الاهتمام بهذا الكلام.(65/2)
قال (إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) (تَسْتَحْيِ) يعني الحاء هنا؛ لأن الفعل اسْتَحَى، يَسْتَحِي فهنا (تَسْتَحْيِ) صار جزم، (لَمْ) أثَّرَ في الفعل بحذف الياء؛ لأنّ هناك يائين، وتظهر هذه في قول الله جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي?[البقرة:26] فثم ياءان، هنا لما أتت لم حذفت الياء التي هي من الفعل، وبقيت الياء الأخرى الداخلة، وإذا قيل (لَمْ تَسْتَحِ) على كسر الحاء إشارة إلى حذف الياء فلا بأس في نظائرها المعروفة في النحو.
قوله هنا (لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) هذا فيه ذكر الحياء، والحياء كما جاء في الحديث الآخر شعبة من الإيمان، وهو مَلَكَة باطنة، والحياء هذا يأتي تارة بالجِبِلة والخُلُق المطبوع عليه الإنسان، وتارة يأتي بالاكتساب، أما بالجبلة والطبع فهذا يكون بعض الناس حييا.
كما جاء في الصحيح أن رجلا من الأنصار كان يعظ أخاه في الحياء؛ يعني يقول له: لماذا تستحي؟ لماذا أنت كذا وكذا. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام «دَعْهُ فإنّ الحياءُ لا يأتي إلا بخير»، فالحياء شعبة باطنة، ويكون جبليا طبعيا، ويكون مكتسبا، والمكتسب مأمور به، وهو أن يكون مستحيا من الله جل وعلا وأنْ يكون مبتعدا عن المحرمات، وما يَشينه عند ربه جل وعلا، ممتثلا للأوامر مقبلا عليها؛ لأن الله جل وعلا يحب ذلك ويرضاه، فالحياء المكتسب ما يكون في القلب من الخُلق الذي يجعله آنفا أنْ يغشى الحرام، أو أنْ يترك الواجب، وهذا يكون بملازمة الإيمان، وبالعلم والعمل الصالح حتى يكون ذلك ملكة.
وقوله عليه الصلاة والسلام (إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) فُسِّر بتفسيرين، يعني العلماء اختلفوا فيه على قولين: ومجمل هذين القولين: أن هذا إما أمر، وإما ليس بأمر.(65/3)
- عليه السلام -ومن قال: إنه أمر قال معنى الحديث إذا كان الأمر الذي تريد إتيانه مما لا يُستحيا منه فاصنع ما شئت من تلك الأمور التي لا يستحيا منها عند المؤمنين، يعني إذا كان الأمر ليس حراما، وليس مما يخرم مكارم الأخلاق والمروءات، ولم يكن فيه تفريط بواجب، ولم يكن مما يستحي منه في الشرع فاصنعه ولا تبالِ؛ لأن هذا دليل أنه لا بأس به، وهذا قول جماعة من أهل العلم، منهم إسحاق وأحمد، وجماعة كثيرون.
- والقول الثاني: أنه ليس بأمر، وأهل العلم في هذا أيضا لهم توجيهان:
?الأول: قالوا إنّه خرج عن معنى الأمر الذي هو الإلزام بالفعل إلى التهديد فمعنى (إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) يعني إذا لم يكن لك حياء يمنعك من مقارفة الحرام والمنكر والتفريط في الواجبات فاصنع ما شئت، فإنّ من لا حياء له لا خير فيه، وهذا يكون خرج للتهديد؛ لأنّ صيغة (افعل) عند الأصوليين وعند أهل اللغة تأتي ويراد بها التهديد، كما في قوله جل وعلا: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ?[فصلت:40] في سورة فصلت، (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) وهذا مخاطَب به المشركون، يعني اعملوا ما شئتم من الأعمال، وليس هذا تخييرا لهم، ولكنه تهديد، ?ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ?[الدخان:49] هذا توبيخ ليس فيه الأمر الذي هو يوجب الامتثال، ولكن هذا من باب التهكم والتوبيخ والتخويف وهكذا، فإذن صيغة (افعل) تخرج عن مرادها من أنه إلزام بالفعل إلى صيغ أخرى بلاغية منها التهديد والتوبيخ، وأشباه ذلك، فهنا في قوله (فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) هذا على جهة التهديد، إذا لم يكن لك مانع من الحياء يمنعك عن مقارفة المنكر فإنه افعل ما شئت وستلقى الحساب، وستلقى سوء هذا الفعل الذي لم يمنعك عنه الحياء.(65/4)
?والوجه الثاني لهذا القول: أن طائفة من أهل العلم قالوا هذا خرج مخرج الخبر؛ يعني أنّ ما لا يُستحيا منه فإن الناس يصنعونه، وهذا خبر عن الناس، وعما يفعلونه، وهو أن الأمور التي لا يستحيون منها يصنعونها، إذا لم تستحْيِ من ذلك الفعل فلك صنعه، أو فالناس يفعلونه، فهو أمر في ظاهرة خبر في باطنه.
وهذان القولان ظاهران، في الأول، وفي الثاني، يعني أنه أمر أو أنه ليس بأمر خرج على التهديد، أو على الخبر، كل هذا قريب، والحديث يحتمل القول الأول، ويحتمل القول الثاني.(65/5)
الحديث الحادي والعشرون -
عن أبي عَمرٍو -وقيل: أبي عَمرَة - سفيان بنِ عبدِ الله - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً, لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا غَيْرَكَ. قَالَ «قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمّ اسْتَقِمْ » [رواه مسلم].
[الشرح]
هذا الحديث أيضا من أحاديث الوصايا، وهو الحديث الواحد والعشرون، حديث سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً, لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا غَيْرَكَ قَالَ « قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمّ اسْتَقِمْ ») هذا طلب وصية، طلَبَ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يوصيه، وقوله(قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ) يعني قل لي وصية في شأن الإسلام، (قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً) يعني أوصني في أمر في الإسلام، في دين الإسلام لا يحوجني معه أن أسأل أحدا عن أمر آخر، فقال عليه الصلاة والسلام وهو من جوامع كَلِمِهِ عليه الصلاة والسلام قال (قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمّ اسْتَقِمْ) وهذا مأخوذ من قول الله جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا?[فصلت:30] الآية، فقوله في الآية جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) هو كقوله عليه الصلاة والسلام هنا « قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمّ اسْتَقِمْ »، وفي رواية «قُلْ آمَنْتُ بِالله فَاسْتَقِمْ» وهذا الحديث في معنى الآية، ومعنى الإيمان بالله هو معنى أنْ تقول: ربي الله؛ لأن قول العبد ربي الله معناها معبودي الله وحده لا شريك له؛ لأن الابتلاء في القبر يكون بمسألة العبودية؛ التوحيد الذي هو توحيد الإلهية ويأتي بصيغة الربوبية؛ لأن العبد يُسأل في قبره من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟، فمن ربك يعني من معبودك ؟ الرب يطلق ويراد به المعبود؛ لأن المعبود؛(66/1)
يعني توحيد المعبود لازم عن توحيد الرب، فتوحيد الإلهية لازم لتوحيد الربوبية، فمن أيقن بتوحيد الربوبية لزم عنه أن يوحد الله في الإلهية، وفي أسمائه وصفاته، بهذا كان الاحتجاج في القرآن على المشركين كثيرا في توحيد الربوبية، الاحتجاج عليهم بتوحيد الربوبية في توحيد الإلهية، كما في قوله جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(31)فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ?[يونس:32-33]، وكقوله ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[الزخرف:87]، وكقوله ? وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، والآيات في هذا كثيرة، وطريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما يقرون به، وهو توحيد الربوبية على ما ينكرونه وهو توحيد الإلهية.
إذن فقوله (آمَنْتُ بِالله)، قول قائل (آمَنْتُ بِالله)، أو قوله (ربي الله) هو التوحيد الذي يشمل توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات؛ لأنّ أحد هذه الأشياء يلزم منه البقية، أو أنّ بعضها يتضمن البعض الأخر.(66/2)
قوله عليه الصلاة والسلام هنا (قُلْ آمَنْتُ بِالله) كما تقدم معنا أنّ الإيمان قول وعمل واعتقاد، فإذا قال: آمَنْتُ بِالله. يعني أنه اعتقد الاعتقاد الصحيح، وعمل العمل الصحيح الصالح الذي وافق فيه السُنة، وكان مخلصا فيه لله جل وعلا وأيضا تكلم وتلفظ بما يحب الله جل وعلا ويرضى، فإذن قوله (قُلْ آمَنْتُ بِالله) هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات، فدخل في هذه الوصية الدين كله؛ لأنه قال (قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً, لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا غَيْرَكَ) وفي لفظ (لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا بَعْدَكَ) فقال (قُلْ آمَنْتُ بِالله)، وقوله (آمَنْتُ بِالله) المقصود به الإيمان الشرعي؛ لأنه هو الذي يتعدى بالباء، فالإيمان إذا تعدى بالباء في نصوص الكتاب والسنة فيُعنى به الإيمان الشرعي، الذي هو قول وعمل واعتقاد.
وكما ذكرنا لكم سلفا في شرح حديث جبريل أنّ الإيمان مشتق من الأَمْنِ، وأصله أن من آمن بشيء أَمِنَ الغائلة، يعني من صدق به تصديقا جازما وعمل بما يقتضيه ذلك التصديق، فإنه يأمن غائلة التكذيب؛ لأن تكذيب المُخْبِر له غائلة؛ يعني له أثر سيئ على المكذِب، فمن كذَب لم يأمن فالإيمان والأمن متلازمان من حيث الأثر، والإيمان مشتق من الأمن، يعني من جهة الاشتقاق اللغوي البعيد، والإيمان معناه: التصديق الجازم الذي لا ريب معه، ولا تردد فيه.(66/3)
(ثُمَّ اسْتَقِمْ) (ثُمَّ) هذه لتراخي الجمل، وإلاّ فإنّ الاستقامة من الإيمان، فلا يُفصل بين الاستقامة والإيمان، كما تقول: آمن بالله ثم اعمل من الصالحات. فهذا تراخي جملة عن جملة، وتراخي الجمل بـ (ثُمَّ) له فائدة من جهة علم المعاني في البلاغة محل الكلام عليها هناك، وقوله (ثُمَّ اسْتَقِمْ) فيه الأمر بالاستقامة، والاستقامة لفظها (استفعل)، استقام فيها معنى الطلب، ولكن هذا ليس بظاهر؛ لأن الفعل استفعل أو هذه الصيغة استفعل تأتي ويراد بها الطلب، وتأتي ويراد بها لزوم الشيء وكثرة الاتصاف به.
• فمن الأول: وهو أن استفعل تأتي ويراد بها الطلب كقولك: استسقى فلان يعني: طلب السقيا، واستغاث طلب الإغاثة، واستعان طلب الإعانة، وهكذا في أشباهها.
• ومن الثاني: وهو أن استفعل تأتي ويراد منها لزوم الوصف، وكثرة الاتصاف به، وعظم الاتصاف به كقوله جل وعلا مثلا: ?وَاسْتَغْنَى اللَّهُ?[التغابن:6] في سورة التغابن، (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) يعني غَنِيَ استغنى ليس معناها طَلَبَ الغنى، ولكنه غني بغنى لازمٌ لذاته، وكثر وعظم جدا.(66/4)
فإذن (استفعل) هذه إذا تغيرت، أو إذا لم تستعمل في الطلب فيعنى بها لزوم الصفة للذات، وكثرة الاتصاف، وعظم الاتصاف بها بحسب ما يناسب الذات، فإذن (استقام) يعني?إِنَّالَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا?[فصلت:30]، ?فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ?[هود:112]، ?فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ?[فصلت:6] وهكذا، استقيموا ليس معناها طلب الشيء، ولكن معناه الإقامة على هذا الدين، الإقامة على الإيمان، وأن تعظم الأوصاف أن يعظم وصف الالتزام به، وأن يعظم وصف الإقامة عليه، ولهذا كلمة (الاستقامة) تشمل -كما فسرها طائفة من أهل العلم- الثبات على الدين، (استقام) يعني ثبت على الدين، و(استقام) قالوا بمعنى عمل الطاعات، وابتعد عن مساخط الله، وعن المحرمات، وهذا معناه الأخذ بوسائل الثبات؛ الاستقامة بالجهاد بأنواعه، وهذا وسيلة من الوسائل، الاستقامة بلزوم السنة، والإخلاص لله جل وعلا، وهذا هو حقيقة الدين. إذن فلفظ (استقام) يعني صار له وصف الإقامة مبالغا فيه؛ يعني كثيرا، بحيث إنه لزمه، ولم يتغير عنه، ولم يتبدل عنه، وهذا هو المقصود هنا.(66/5)
إذن قوله عليه الصلاة والسلام (قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمّ اسْتَقِمْ) يعني لتكن إقامتك بعد الإيمان بالله على هذا الإيمان عظيمة بحيث يكون وصف الإقامة لك ملازما.([24]) وهذا تعظم معه هذه الوصية؛ لهذا أثنى الله جل وعلا على عباده المستقيمين بقوله جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ?[فصلت:30]، فإذن هذا الحديث شمل أمور الاعتقاد وأمور الظاهر والباطن، أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وشمل الحثّ على الثبات على هذه الطاعات، فهذه الوصية صارت إذن وصية جامعة، وما أعظمَها من وصية (قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمّ اسْتَقِمْ) يعني على الإيمان بتعظيم أمر الإقامة عليه، والازدياد من خلال الإيمان.(66/6)
الحديث الثاني والعشرون -
عن أبي عبدِ الله جابرِ بنِ عبدِ الله -رضي الله عنهما-: أنّ رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيتَ إذا صَلَّيْتُ المكتوباتِ، وصُمْتُ رمضانَ، وأَحْلَلتُ الحلالَ، وحرَّمتُ الحرامَ، ولم أَزِد على ذلك شيئا: أَأَدْخُلُ الجنَّةَ؟ قال: «نَعَمْ» [رواه مسلما].ومعنى(حرَّمتُ الحرام) اِجْتَنِبْتُهُ، ومعنى (أَحلَلتُ الحلالَ) فَعَلتُهُ مُعتقِدا حِلَّه.
[الشرح]
حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - وهو الحديث الثاني والعشرون من هذه الأحاديث النووية، قال - رضي الله عنه - (أنّ رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيتَ إذا صَلَّيْتُ المكتوباتِ، وصُمْتُ رمضانَ، وأَحْلَلتُ الحلالَ، وحرَّمتُ الحرامَ، ولم أَزِد على ذلك شيئا: أَدْخُلُ الجنَّةَ؟ قال: «نَعَمْ»).
في هذا الحديث ذكر بعض العبادات وهي عبادة الصلاة والصيام، وإحلال الحلال، وتحريم الحرام. وقد جاء في روايات أُخر قد تكون هي أصل هذا الحديث: أنّ رجلا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن أمور الإسلام، فقال الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام: أَتَانَا رَسُولُكَ يَزْعُمُ أََنَّكَ تَزْعُمُ أَنّ الله أَرْسَلَكَ، آلله أرسلك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام«نَعَم». فقال: أَتَانَا رَسُولُكَ يَزْعُمُ أََنَّكَ تَزْعُمُ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ» إلى آخره. في آخره: قال الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام: وَالّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ! لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام «دَخَلَ الْجَنّةَ إِنْ صَدَقَ»، وفي رواية «مَنْ سَرّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجنّةِ, فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا»، وهناك روايات أخر في مجيء أعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذِكر الفرائض الصلاة والصيام والزكاة والحج.(67/1)
وهذه الأحاديث تدل على أن من فعل هذه الواجبات ممتثلا متقربا بها إلى الله جل وعلا فصلى الصلوات المكتوبة مطيعا لله جل وعلا، وصام وزكى مطيعا لله، وحج مطيعا لله، وأحلّ الحلال مطيعا لله، وحرّم الحرام مطيعا لله، أنه من أهل الجنة، والأحاديث متعددة في ذلك؛ بعضها يرتب ثواب الجنة على كلمة التوحيد، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصلاة، وبعضها يرتب ثواب الجنة على الصيام، في ألفاظ مختلفة وروايات متعددة.
الحاصل أنّ هذه الروايات التي فيها ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة المقصود بها أنها إذا فُعلت مع اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، أو إذا فُعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد. وهذان احتمالان كما ذكرت لك:
الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
والثاني: أنه مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصح الصلاة، وتقبل الزكاة، ويصح الصيام، إلى آخره.
وهذا معناه أن قوله عليه الصلاة والسلام (نَعَم) أو (دَخَلَ الْجَنّةَ إِنْ صَدَقَ) أن دخول الجنة متنوع، وهذا الظاهر دلت عليه الأدلة الأخرى، فما جاءت النصوص في ترتُّب دخول الجنة على بعض الأعمال فهو حقٌّ على ظاهره، وأنّ من أتى بالتوحيد وعمل بالأعمال الصالحة بأي عمل فإنه موعود بالجنة، والله جل وعلا وعده?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا?[النساء:87]. ودخول الجنة في النصوص:
• تارة يُراد به الدخول الأوَّلي.
•وتارة يُراد به الدخول المآلي.
وهذا في الإثبات؛ يعني إذا قيل (دَخَلَ الْجَنّةَ) فقد يراد بالنص أنه يدخلها أولا؛ يعني مع من يدخلها أولا، ولا يكون عليه عذاب قبل ذلك؛ فيُغفر له إن كان من أهل الوعيد، أو يكفِّر الله جل وعلا عنه خطاياه، إلى آخر ذلك.(67/2)
أو يكون المقصود بـ (دَخَلَ الْجَنّةَ) أن الدخول مآلي؛ بمعنى أنه سيؤول إلى دخول الجنة، كقوله عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله دَخَلَ الْجَنّةَ»، «مَنْ كَانَ آخِرَ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله دَخَلَ الْجَنّةَ»، «مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ كَانَ لَهُ عِنْدَ الله عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ»، «يُدْعَى الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ»، وهكذا في أحاديث كما ذكرت لك متنوعة.
فإذن الأحاديث التي فيها دخول الجنة بالإثبات: تارة يراد منها الدخول الأولي، وتارة يراد منها الدخول المآلي، ويترتب على هذا النفي؛ فإذا نفي دخول الجنة عن عمل من الأعمال يراد به نفي الدخول الأولي، أو نفي الدخول المآلي.
• والذي يُنفى عنه الدخول الأولي هم أهل التوحيد الذين لهم ذنوب يُطهَّرون منها إن لم يغفر الله جل وعلا لهم.
• وأما الذين ينفى عنهم الدخول المآلي يعني: لا يدخلونها أولا ولا مآلا، لا يؤولون إلى الجنة أصلا فهؤلاء هم أهل الكفر.
في الأول، مثلا قوله عليه الصلاة والسلام «لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَتَّاتٌ»، «لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَاطِعُ رَحِم»، «لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ نَمَّامٌ» وأشباه ذلك، فهذه فيها أنه لا يدخل الجنة، هل معناه أنه لا يدخلها أبدا؟ لا، لا يدخلها أولا.
وفي بعض النصوص نفي دخول الجنة الدخول المآلي، يعني أنهم لا يؤولون إلى الجنة أصلا بل مأواهم النار خالدين فيها، كقوله جل وعلا ?وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ?[الأعراف:40]، وكما في قوله جل وعلا ?فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].(67/3)
إذن فتحصل لنا كقاعدة عامة من قواعد أهل السّنّة في فهم آيات وأحاديث الوعيد أنّ الآية أو الحديث إذا كان فيه إثبات دخول الجنة على فعل من الأفعال فإنّ هذا الإثبات ينقسم إلى: دخول أولي، بمعنى أنه يغفر له فلا يؤاخذ، أو أنه ليس من أهل الحساب، أو أن الله جل وعلا خفف عنه فيدخلها أولا، أو أنه ليس من أهل الدخول المآلي. أو أنه من أهل الدخول المآلي.
وهكذا عكسها أنه لا يدخلها أولا، أو لا يدخلها أولا ومآلا على حد سواء، وهذا من القواعد المهمة عند أهل السنة التي خالفوا بها الخوارج والمعتزلة، إلى آخره.
إذا تقررت هذه القاعدة فهذا الحديث فيه ذكر دخول الجنة على أنه لا يزيد على هذه شيئا، ولم يذكر في ذلك أنه فعل الزكاة، ولا أنه أتى بالحج، ومن ترك الزكاة فهو من أهل الوعيد، ومن ترك الحج فهو من أهل الوعيد، وهكذا.
فإذا تقرر هذا فقوله (ولم أَزِد على ذلك شيئا: أَأَدْخُلُ الجنَّةَ؟ قال«نَعَمْ») محمول على أحد توجيهين:
الأول: أنه في قوله (لم أَزِدْ على ذلك شيئا) يعني أنه فعل الواجبات التي أوجب الله جل وعلا فتدخل الواجبات في قوله (حرَّمتُ الحرام)؛ لأنّ ترك الواجبات حرام؛ فهو إذا حرم ترك المحرمات([25])، معناه أنه فعلها.
والتوجيه الثاني: أن هذا الحديث يفهم مع غيره من الأحاديث كقاعدة أهل السنة في نصوص الوعد والوعيد، وأننا لا نفهم نصا من نصوص الوعد أو من نصوص الوعيد على حدته، بل نضمه إلى أشباهه فيتضح المقام، فيكون إذن دخوله للجنة مع وجود الشروط وانتفاء الموانع. أو يقال دخول الجنة هنا مع الاقتصار على ما ذكر دخولا مآليا، وإذا أتم فإنه يدخل دخولا أوليا، ولا بد أنه إذا كان على ذلك النحو فإنه من أهل الجنة؛ لأن الله جل وعلا هو الذي وعده بذلك وبلغه رسوله عليه الصلاة والسلام.
قوله (إذا صَلَّيْتُ المكتوباتِ) تدل على تعلق ذلك بالصلوات الخمس، وهذا يُخرج النوافل.(67/4)
كذلك قوله (صُمْتُ رمضانَ) تعلقه بالشهر الواجب، وهذا يُخرج النوافل.
وقوله (وأَحْلَلتُ الحلالَ) هذا اختلف فيها العلماء على قولين:
القول الأول: هو الذي ذكره النووي في آخر ذكره للحديث حيث قال (ومعنى (أَحلَلتُ الحلالَ) فَعَلتُهُ مُعتقِدا حِلَّه) فهذا وجه عند أهل العلم؛ لأن معنى (أَحلَلتُ الحلالَ) أنه اعتقد وفعل.
والوجه الثاني: أنه اعتقد ولم يفعل، فمعنى قوله (أَحْلَلتُ الحلالَ) يعني اعتقدت حِلَّ كل ما أحله الله جل وعلا وليس في نفسي اعتراض على ما أحل الله جل وعلا، وهذا أحد المعنيين.
والمعنى الأول الذي ذكره النووي أنّ إحلال الحلال يقتضي أن تفعل، أو أن تعمل، أو أنْ تأتي الحلال الذي أحله الله جل وعلالك، وألا تستنكف عنه؛ بمعنى أن من حرم على نفسه شيئا من الحلال مطلقا فإنه لم يحل الحلال فعلا؛ وهذا المعنى ليس بجيد عندي؛ لأن فعل كل حلال ممتنع؛ قد لا يستطيعه كل أحد؛ لأن الحلال ولله الحمد كثير جدا والمباحات كثيرة، فإتيانه؛ فعله باعتقاد حله هذا صعب، ومثل هذا الرجل السائل لا يعلَّق بكل شيء، وهذا أيضا مما يكون في غير الاستطاعة.
والوجه الثاني الذي ذكرناه من أن قوله (أَحْلَلتُ الحلالَ) يعني اعتقدت حلَّه فلم يأتِ في نفسي ريب من أنّ ما أحل الله جل وعلا فهو حلال، فهذا ظاهر طيب؛ يعني ظاهر من الحديث حسن وهو أولى؛ لأنه لا يلزم عنه لوازم غير جيدة.
أما قول الرجل (وحرَّمتُ الحرامَ، ولم أَزِد على ذلك شيئا: أَأَدْخُلُ الجنَّةَ؟ قال: «نَعَمْ») فتحريم الحرام يشمل المرتبتين: يشمل الاعتقاد والترك:
- فتحريم الحرام أن تعتقد حرمته،
- والثانية: أن تفعل ما اعتقدته من ترك المحرمات.(67/5)
فمن اعتقد حرمة الحرام وفعل فهو من أهل الوعيد يعني من أهل العصيان، وأما من لم يعتقد حرمة الحرام فهو كافر؛ لأنه ما صدّق الله جل وعلا في خبره، أو لأنه اعتقد غير ما أمر الله جل وعلا باعتقاده، فإن الاعتقاد بتحريم المحرمات فرض من الفرائض، وعقيدة لا بد منها؛ لأن معناه الالتزام بأمر الله جل وعلا، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والنهي نهي الله ونهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(67/6)
الحديث الثالث والعشرون -
عن أبي مالكٍ الحارثِ بنِ عاصمٍ الأشعري - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:« الطُّهورُ شَطْرُ الإيمَانِ، و”الْحَمْدُ اللهِ“ تَمْلأُ المِيزَانَ، وَ”سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ“ تَملآنِ - أَوْ: تَمْلأ - ما بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَالْصَلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو؛ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا، أَوْمُوبِقُهَا» [رواه مسلم].
[الشرح]
هذا الحديث وهو الحديث الثالث والعشرون، حديث عظيم جدا، وألفاظُه جوامع كلم للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهو من الأحاديث التي تهزُّ النفسَ، وتدخل القلب بلا استئذان؛ يعني أن فيه ما يرقق القلب، ويحمل على الطاعة بتأثيره على كلّ نفس، وألفاظه تدل عليه؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيه (الطُّهورُ شَطْرُ الإيمَانِ، و”الْحَمْدُ اللهِ“ تَمْلأُ المِيزَانَ، وَ”سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ“ تَملآنِ – أَوْ قَالَ تَمْلأ - ما بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَالْصَلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو؛ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا، أَوْمُوبِقُهَا)، وهذه ألفاظ عظيمة للغاية، واشتملت على أحكام كثيرة ووصايا عظيمة دخلت في أبواب كثيرة من أبواب الدين.
فقوله في أوله عليه الصلاة والسلام (الطُّهورُ شَطْرُ الإيمَانِ) (الطُّهورُ) المقصود به الطهارة، التّطهر؛ فإنّ صيغة فُعول المقصود منها الفعل؛ يعني ما يُفعل، فالطهور هو التطهر كما أن الفُطور هو فعل الإفطار، والسُّحور هو الفعل نفسه وهكذا.(68/1)
بخلاف الطَّهور بالفتح: فإنه ما يتطهر به يعني: الماء يسمى طهور، وأكلة السحر تسمى سَحور بالفتح، والفَطور يسمى فَطور بالفتح إذا كان المراد الذي يؤكل، أما الفعل نفسه فهو طهور للطهارة، وسُحور للتسحر وهكذا، فقوله عليه الصلاة والسلام هنا (الطُّهورُ) يعني التطهر. وهذا اختلف فيه العلماء على قولين:
?الأول: أن المراد بـ(الطُّهورُ) هنا: التطهر من النجاسات المعنوية، أو مما يُنجِّس القلب والروح والجوارح من الشرك والرياء، وفعل المحرمات وترك الواجبات وأشباه ذلك. وهذا أخذوه من قول الله جل وعلا ?وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ?[المدثر:4]، على أحد تفسيرين، فإن التّطهير هنا فُسر بأن المقصود به التطهير من الشرك والنجاسات المعنوية، وفسر أيضا قوله جل وعلا ?إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ?([26]) بالامتناع عن فعل الفاحشة، وهذا التفسير له مأخذه من القرآن، وظاهر دليله من أن الطهارة هنا المقصود منها طهارة القلب، وطهارة الجوارح واللسان من المحرمات، أو من ترك الواجبات. وكونها على هذا المعنى شطر الإيمان؛ لأن الطهارة ترك والإيمان قسمان: فعل، وترك. فصارت الطهارة بالمعنى هذا شطر الإيمان؛ يعني نصفه؛ لأنه إما أن تترك أو تفعل، فإذا طهرت نفسك وجوارحك؛ يعني جعلتها طاهرة مما حرم الله جل وعلا في القلب واللسان والجوارح، فقد أتيت بما هو نصف الإيمان وهو الترك فيبقى الأمر. وهنا نقول: لماذا نبه على الترك ولم ينبه على الفعل وهو الإتيان بالواجبات؟ الجواب: أن الترك أعظم؛ فإن ترك المحرمات أعظم من الإتيان بالواجبات، لهذا تجد أنّ كثيرين يأتون بالواجبات، ولا يصبرون عن المحرمات نسأل الله العافية والسلامة، ومن يترك المحرمات فإنه يسهل عليه أن يأتي بالواجبات.(68/2)
?الوجه الثاني من كلام أهل العلم؛ يعني التفسير الثاني: أنّ (الطُّهورُ) هنا المقصود به الطهارة بالماء أو بما هو بدل الماء، والطهارة تكون طهارة كبرى، أو صغرى، يعني غسل الجنابة أو غسل المرأة من الحيض والنفاس، أو الطهارة الصغرى بالتطهر للصلاة، وهنا جعلها شطر الإيمان؛ لأن الله جل وعلا جعل الصلاة إيمانا فقال جل وعلا ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ?[البقرة:143] يعني صلاتكم، حين توجهوا إلى القبلة بعد بيت المقدس، فقال طائفة من المسلمين كيف: بأمر الذين صلوا إلى بيت المقدس، ولم يدركوا الصلاة إلى الكعبة؟ فأنزل الله جل وعلا قوله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) يعني صلاتكم. والصلاة مفتاحها التطهر؛ فإنها لا تصح إلا بالطهارة، فلها شروط قبلها، ولها واجبات وأركان فيها -يعني في الصلاة- فما قبلها أعظمه في فعل العبد الطهارة؛ فصارت شطرا بهذا الاعتبار. فيكون إذن قوله (الطُّهورُ شَطْرُ الإيمَانِ) يعني التطهر شطر الإيمان الذي هو الصلاة؛ لأن الصلاة رأس أعمال الإيمان.
وهناك تفسيرات أُخر لأهل العلم؛ يعني اختلفوا في هذا اختلافا كثيرا لكن هذان قولان مشهوران في هذا المقام.
قال عليه الصلاة والسلام (”الْحَمْدُ اللهِ“ تَمْلأُ المِيزَانَ)، (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، (الْحَمْدُ) هذه كلمة فيها إثبات الكمالات؛ لأن حمد بمعنى أثنى على غيره بما فيه من صفات الكمال، فحمد لفلان صنيعه يعني أثنى عليه بصفات كَمُل فيها بما يناسب البشر؛ لأجل صنيعه، ومنه يدخل في الحمد بهذا الاعتبار أنه يثني عليه شاكرا له، يعني باللسان. فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ) معناها الثناء على الله جل وعلا بإثبات صفات الكمال له جل جلاله.
فـ(الْحَمْدُ) على هذا يدخل فيه: حمد الله وهو الثناء عليه، على ما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال.
¨ حمد لله على ربوبيته؛ يعني على اسمه الرب، وعلى وصف الربوبية له.(68/3)
¨ وحمد لله جل وعلا على إلهيته، وعلى أنه الإله.
¨ وحمد لله جل وعلا على أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله وكماله.
وحمد لله جل وعلا على القرآن على كلامه.
¨ وحمد لله جل وعلا على أمره الكوني والقدري وحكمه في بريته.
¨ وحمد لله جل وعلا على أمره الشرعي.
فالحمد في نصوص الكتاب والسنة تكتَنِفه هذه الأنواع الخمسة التي ذكرنا؛ ولهذا تجد أنه في القرآن يأتي الحمد متعلقا بأحدها بأحد هذه الخمسة لا غير، أنظر مثلا ? الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?([27]) تعلق بالربوبية، ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ?[الأنعام:1] ذا أيضا في الربوبية، ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا?[الكهف:1]، ?الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[فاطر:1]، ?فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[غافر:65]، وهكذا في نصوص كثيرة في الكتاب والسنة.(68/4)
فإذن الحمد إثبات الكمالات إثبات نعوت الجلال والكمال، وهذا مستغرَق فيه جميع الأنواع لله جل وعلا؛ لأن كلمة (الـ) هذه (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، (الـ) التي تسبق (حَمْد) هذه للاستغراق، استغراق جميع أنواع الحمد؛ لأنها دخلت على مصدر حَمِدَ، يَحْمَدُ، حَمْدًا، فقوله جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعني جميع أنواع المحامد مستحقة لله جل وعلا، واللام هنا في قوله لله(لِلَّهِ)، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يعني الحمد المستحق لله جل وعلا الذي أُثني به على الله جل وعلا يملأ الميزان، فإذا قال العبد (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فإن هذه تملأ الميزان، كما جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري وغيره، أنه عليه الصلاة والسلام قال«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَىَ اللّسَانِ, ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ, حَبِيبَتَانِ إِلَى الرّحْمَنِ. سُبْحَانَ اللّه وَبِحَمْدِهِ. سُبْحَانَ اللّهِ الْعَظِيمِ». فالحمد إثبات، وكما سيأتي في (سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ) أن الحمد والتسبيح متلازمان.
وقوله هنا عليه الصلاة والسلام (تَمْلأُ المِيزَانَ) على قاعدتنا: أنّ المَلْءَ هنا على ظاهره حسي وليس ملئا معنويا، كما قاله طائفة، وهذا نوع من التأويل؛ لأن الدخول في الأمور الغيبية بما لا يوافق ظاهر اللفظ هذا نوع من التأويل المذموم. فإذن نقول (”الْحَمْدُ اللهِ“ تَمْلأُ المِيزَانَ) على ظاهرها، وهو أن الله جل وعلا يأتي بهذه الكلمة فيملأ بها الميزان، والله جل وعلا يوم القيامة يجعل في الميزان الأعمال فيزنَها، فتكون الأعمال التي هي أقوال واعتقادات وحركات تكون في الميزان، فيثقل بها ويخف بها ميزان آخرين، فإذن على ظاهرها أن (”الْحَمْدُ اللهِ“) هذه تملأ الميزان. وهنا نظر أهل العلم في قوله (تَمْلأُ المِيزَانَ) لماذا صارت تملأ؟ على تفسيرين:(68/5)
الأول: أن تملأ نفهم منه أنها لا توضع أولا؛ يعني لا يؤتى بالحمد أولا فتوضع في الميزان، وإنما الذي يؤتى به الأعمال فتوضع في الميزان، فيؤتى بالحمد فتملأ الميزان، هذا تفسير.
والتفسير الثاني: أن الإيمان والدين نصفان: نصف تنزيه، ونصف إثبات الكمالات. والتنزيه فيه التسبيح، التنزيه تنزيه الرب جل وعلا عن النقص في ربوبيته، أو في إلهيته، أو في أسمائه وصفاته، إلى آخره. هذا فيه إبعاد عن النقائص، والحمد إثبات للكمالات، فإذا وضعت (سُبْحَانَ اللهِ) أولا فـ(الْحَمْدُ للهِ) تأتي ثانيا فتملأ الميزان، ونفهم من قوله عليه الصلاة والسلام «ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ, سُبْحَانَ اللّه وَبِحَمْدِهِ. سُبْحَانَ اللّهِ الْعَظِيمِ» أن التسبيح أكثر من جهة وضعه في الميزان؛ فيكون الحمد تتمة لذلك. وقد يتأيد هذا بشيء، وهو أن التسبيح -المعاني يطول ذكرها، لكن نذكر بعض فائدة- يختلف عن الحمد، وهو أن التسبيح فيه تَخْلِيَة، ومعلوم أن التخلية بلا شيء يوضع محلها أنها ليست محمودة، بمعنى أنه إذا قال أحد: أنا سأخلي هذا المسجد مما فيه من الأشياء، والدواليب والفرش ونحو ذلك. لم يكن محمودا بفعله، إلاّ إذا قال وآتي بغيره مما هو أحسن منه فأضعه فيه. فالتسبيح تنزيه، والتنزيه قد يكون ناتجا عن قُصور في إثبات الكمالات لله جل وعلا فيقول: إن الله جل وعلا منزه عن كذا، ومنزه عن كذا، ومنزه عن كذا. ثم لا يصفه جل وعلا بشيء؛ فلهذا كان التسبيح والحمد متكاملان، فالتسبيح تخلية، والحمد بالنسبة للقلب تَحْلِية، والتخلية تسبق التحلية كما هو مقرر في علوم البلاغة.(68/6)
فإذن جاء التسبيح في نصوص كثيرة مضافا إلى الله جل وعلا؛ بمعنى سلب النقائص ونفي النقائص عن الله جل وعلا في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وفي قدره وأمره الكوني، وفي شرعه وحكمه الديني، في هذه الخمسة تقابل بها الخمسة التي فيها إثبات الكمالات في الحمد، فكل واحدة منها نُزِّهت عن الله جل وعلا جاء الحمد بإثبات الكمال اللائق بالله جل وعلا محلَّها.
وهذا لو فقهه العبد لكان (سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ) في لسانه أعظم من أي شيء يشتغل به عنها من غير ذكر الله جل وعلا والقرآن العظيم، فإذن هذه الكلمة خفيفة (سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ) لكنها عظيمة؛ لأنّ فيها الاعتقاد الصحيح في الله جل وعلا بجميع جهاته ففيها الربوبية والإلهية، والأسماء والصفات، وفيها إثبات تحليل الحلال وتحريم الحرام، وفيها الاعتقاد الحسن في القدر، وفيها الاعتقاد الحسن فيما يتصرف الله جل وعلا به في ملكوته، إلى آخر ذلك من المعاني.
لهذا قوله عليه الصلاة والسلام (وَ”الْحَمْدُ اللهِ“ تَمْلأُ المِيزَانَ) يكون هنا الملْءُ بعد التنزيه وهو التسبيح.
قال (وَ”سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ“ تَملآنِ -أَوْ: تَمْلأ- ما بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) سبحان الله يعني تنزيها لله جل وعلا عن النقائص في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وشرعه ودينه، وعن أمره الكوني وقدره، والحمد لله إثبات الكمالات لله جل وعلا فهما متكاملان. قال (تَمْلأ -أو قال تَملآنِ- ما بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) إذا كان اللفظ (تَملآنِ) فكل واحدة على اعتبار، وإذا كان اللفظ المحفوظ (تَمْلأ) وهو الأظهر (تَمْلأ ما بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فإن (سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ) كلمة واحدة؛ لأن مدلولها واحد، وهو كما ذكرنا التنزيه والإثبات.(68/7)
قوله (تَمْلأ ما بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ما المقصود بذلك؟ إذا أطلق لفظ (السَّماء) هنا فالمقصود به السماء الدنيا، والسماء تطلق في النصوص ويراد بها العلو بعامة ?أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ?[إبراهيم:24] يعني في العلو ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16] يعني من في العلو، وهكذا. فإذا أطلق لفظ (السَّماء) وحده يعني: بلا السماوات مفرد فإنه قد يراد به العلو، وقد يراد به واحدة السماوات وهي السماء الدنيا، وخاصة إذا جُعل أو قوبل بالأرض، فقوله هنا (تَمْلأ ما بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يعني أنها تملأ هذا الفراغ الكبير الذي بين الأرض وما بين السماء؛ لما؟ لعظم هذه الكلمة، ولمحبة الله جل وعلا لها، ولحمل الملائكة لها تقرُّبا إلى الله جل وعلا.
قال (وَالْصَلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) هذه الثلاثة: والصلاة، والصدقة، الصبر. اقترنت هنا بثلاثة أنواع من أنواع النور والضياء والبرهان، فدرجات النور يعني درجات ما تحسه العين من الأنوار ثلاث: نور، وبرهان، وضياء، فأولها النور، ويليها البرهان، والثالث الضياء.
• فالقمر نور ?وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا?[نوح:16]، ?وَالْقَمَرَ نُورًا?[يونس:5] فالقمر يوصف بأنه نور وهو الذي يعطي الإضاءة بلا إشعاع يعني بلا إشعاع محسوس.
• والبرهان أشعة بلا حرارة، أعظم درجة من النور، وأقل درجة من الضياء.
• وأما الضياء فهو النور الشديد، نور مسلط شديد يكون معه حرارة.(68/8)
فهذه ثلاث مراتب من أنواع الأضواء، وإذا نظرتَ لذلك وجدتَ قوله عليه الصلاة والسلام هنا (وَالْصَلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) مرتَّب على أجمل ما يكون من الترتيب، فإن الصلاة سبقت الصدقة؛ ولهذا سبق النور البرهان، والصبر لا بد منه للصلاة وللصدقة ولكل الطاعات، ولكن الصبر محرِق كشدة حرارة الضياء، فالضياء نور قوي فيه حرارة ونوع إحراق. فلهذا جعل الصبر ضياء، ولم يجعل الصلاة ضياء، لكن الصلاة نور؛ لأنه فيها إعطاء ما تحتاجونه براحة وطمأنينة، والصدقة جعلها برهانا؛ لأن البرهان وهو الضياء الذي يكون معه أشعة تنعكس في العين، الصدقة فيها إخراج المال، وهو محبوب للنفس، وهذا يحتاج إلى شيء من المعاناة، والصبر فهو ضياء كما قال عليه الصلاة والسلام؛ لأن معه المعاناة. وتذكرون في قول الله جل وعلا في وصف القرآن بأنه نور، وصف الله جل وعلا القرآن بأنه نور ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ?[المائدة:15] ووصف القرآن أيضا في آيات أخر بأنه نور، والتوراة مثلا وصفها الله جل وعلا بأنها ضياء. وتعلمونالفرق، كلام المفسرين على ذلك حيث قالوا: إن التوراة فيها آصار وأغلال على بني إسرائيل؛ ولهذا سماها الله جل وعلا ضياء مناسبة ما بين الضياء ووجود التكاليف العظام على بني إسرائيل ? فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا?[النساء:160] الآيات في آخر سورة النساء. فقال جل وعلا ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً?[الأنبياء:48] فجعل التوراة ضياء؛ لأنّ فيها هذه الشدة، فالصبر ضياء؛ لأنّ من تحمل شدة الصبر فإنه يقوى معه الضياء، فالصبر مشبّه بالضياء، وأيضا أثره أنه يكون معك الضياء.(68/9)
وهذه الثلاثة أنت محتاج إليها يوم القيامة أشد الحاجة، حين تكون الظلمة دون الجسر ويعبر الناس على الصراط، حيث اليوم العصيب والأمر المخيف. فمعك الصلاة وهي نور، ومعك الصدقة وهي برهان، ومعك الصبر وهو ضياء، تنقل به إلى رؤية الأمكنة البعيدة أو المسافات البعيدة أعاننا الله جل وعلا على كربات يوم القيامة، بهذا يظهر لك عظم قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.
والصبر كما هو معلوم ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة. والصبر هو الحبس؛ يعني حبس الجوارح والقلب على الطاعات، وحبسها عن المعاصي، وحبسها على الرضا بأقدار الله جل وعلا المؤلمة. والكلام في تفاصيل الصبر تأخذونه من شرح ”كتاب التوحيد“ أو من مظانه، قد ذكرناه مرارا؛ لأن فيه تفاصيل يطول المقام ببسطها.
قال (وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ- حجة- عَلَيْكَ) القرآن حجة لك إذا تلوته حق تلاوته؛ بمعنى تلوته فآمنت بمتشابهه وعملت بمحكمه، وأحللت حلاله وحرمت حرامه، (أَوْ عَلَيْكَ) حيث يقودك القرآن يوم القيامة، فيزج بمن قرأه فخالف ما دل عليه من حق الله جل وعلا إن لم يغفر الله جل وعلا ويصفح، فيزج بصاحبه إلى النار. القرآن إما لك أو عليك، فطوبى لمن كان القرآن حجة له، وقوله عليه الصلاة والسلام (حُجَّةٌ لَكَ) أي يحاج لك، وهذا جاء في أحاديث أخر كقوله عليه الصلاة والسلام « يُؤْتَىَ بِالْقُرْآنِ يَوْمَ القِيَامَةَ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ، كَأَنّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ قال: غيايتان أو فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافّ تُحَاجّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا».([28]) فـ(القُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ) فلهذا يعظُم القرآن عند من عمل به، ويضعُف القرآن عند من تركه تلاوة وعملا.(68/10)
(كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو) الغدو هو السير في أول الصباح، والرواح الرجوع في آخر النهار، قال (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو) يعني صباحا (فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا) يعني لله جل وعلا بَاعَ نفسه فلم يسلط عليها الهوى ولم يُعَبِّدها للشيطان بل جعلها على ما يحب الله جل وعلا ويرضى، فأعتقها ذلك اليوم.
قال (أَوْمُوبِقُهَا) بأنه غدا فعمل بما لم يرض الله جل وعلا فخسر ذلك.
نختم بهذا الحديث، وأسأل الله جل وعلا أن يعلّمني وإياكم العلم النافع، وأن يمنّ علينا بالعمل الصالح، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وإن شاء الله تلتزمون معنا لنكمل هذه الأربعين النووية، غدا نطيل إن شاء الله قليلا، يعني ربع ساعة زيادة، أو شيء حتى ننهيها إن شاء الله.(68/11)
الحديث الرابع والعشرون -
وعن أبي ذَرًّ الغِفاري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِيما يَرْوِيهِ عن رَبَّهِِ -عزّ وجلّ- أنّه قال «يَا عِبَادِي إِنَّي؛ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فاستهد وني أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. ياَ عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فاستكسوني أَكْسِكُمْ.يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي؛ إنَّكم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرَّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وآخر كم، وأنسكم، وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ ما زاد ذلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي؛ لو أَن أَوَّلَكُمْ، وآخرَكم وَإِنسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يا عبادي؛ لَوْ أَنَّ أوَّلَكُمْ، وآخركم، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتُهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي؛ إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفَّكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ » [رواه مسلم ]
[الشرح](69/1)
هذا الحديث هو الحديث الرابع والعشرون من هذه الأحاديث الأربعين النووية، وهو عن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - أنه قال (يَا عِبَادِي إِنَّي؛ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا) الحديث، هذا الحديث حديث عظيم في بيان حاجة العبد وافتقاره إلى ربه جل وعلا، وما يحبه الله جل وعلا من العبد وما يكرهه. وهذا من الأحاديث القُدْسية؛ لأنه صُدِّر بقوله (فِيما يَرْوِيهِ عن رَبَّهِ- عز وجل -) والذي يروي عن الله جل وعلا هو المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يعني أنّ الحديث القدْسي يرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه جل وعلا بهذا اللفظ؛ لأنها رواية، والرواية تكون باللفظ لأنه هو الأصل؛ ولهذا فالحديث القدسي الذي يُنْمَى إلى الرب جل وعلا من الكلام وليس من القرآن، يعني فيما يقول فيه المصطفى :- صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى، قال ربكم - عز وجل -. وأشباه ذلك. وليس من القرآن فيسمى حديثا قُدْسيا، ومعنى كونه قدسيا يعني: أنه جاء من القدوس جل وعلا يعني: أنه حديث مطهر عال على كلام الخلق، وهذا في معناه العام.
أما الحديث القدسي من حيث الاصطلاح فقد اختلف فيه العلماء، وعباراتهم متنوعة:
• والذي يتفق مع اعتقاد أهل السنة والجماعة أنّ الحديث القدسي من حيث اللفظ هو من الله جل وعلا، وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه روايةً؛ يعني بلفظه، وليس له عليه الصلاة والسلام أن يُغيِّر لفظه.(69/2)
• وبعض أهل العلم قالوا: إنّ معناه من الله جل وعلا ولفظه من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أبيح له أن يغير في لفظه، وهذا القول لا دليل عليه؛ لأنّه جاء ذلك بالنقل: قال الله تعالى، قال ربكم. والصحابة يقولون: فيما يَنْمِيه إلى ربه، فيما يبلغه عن ربه، فيما يرويه عن ربه. وهذه كلها من ألفاظ الأداء في الرواية، وليس ثَمَّ ما يدل على أن المعنى من الله جل وعلا وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتصرف في الألفاظ بما يؤدي به المعنى؛ إذ لا دليل عليه كما ذكرنا، ولا حاجة له عليه الصلاة والسلام في ذلك. وأيضا هذا القول -وهو أنه من حيث اللفظ من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى من الله جل وعلا- يتفق مع قول الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء في أن الله جل وعلا كلامه كلام نفسي؛ بمعنى أنه يلقي في روع جبريل المعاني، أو يلقي في روع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - المعاني، ويعبر عنها جبريل بما يراه، ويعبر عنها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بما يراه. ولهذا عندهم القرآن عبارة عن كلام الله جل وعلا وليس هو بكلام الله جل وعلا الذي خرج منه جل وعلا وبدأ منه سبحانه وتعالى بكلماته وحروفه ومعانيه.
فإذن الذي يتفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله جل وعلا أنّ الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله جل وعلا، ولم يُتَعَبَّد بتلاوته، فيصح أنْ نعرف الحديث القدسي بأنه: ما رواه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن الله جل وعلا بلفظه ومعناه ولم يتعبد بتلاوته؛ يعني لم يكن بين دفتي المصحف. هذا هو الحديث القدسي. وغيره؛ مما يجعل اللفظ من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا يتفق مع عقائد أهل السنة والجماعة.(69/3)
قال هنا أبو ذر (فِيما يَرْوِيهِ عن رَبَّهِِ - عز وجل - أنّه قال) يعني الله جل وعلا؛ يعني قال الله: (يَا عِبَادِي) فالمتكلم بهذا هو الرب جل جلاله، (يَا عِبَادِي إِنَّي؛ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا) وهذا النداء بـ (يَا عِبَادِي) فيه التودّد للعباد ولفت النظر إلى هذا الأمر العظيم، وهذه الوصية العظيمة.
قال جل وعلا (يَا عِبَادِي إِنَّي؛ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) والتحريم عند أهل السنة والجماعة أنْ يحرم اللهُ جل وعلا ما شاء على نفسه أو على خلقه، فالوجوب والتحريم والحق يصحُّ عندهم أن يجعلها الله جل وعلا على نفسه، فيُحِقُّ حقا على نفسه، ويوجب واجبا على نفسه، ويحرم أشياءً على نفسه، وهذه كلها جاءت بها الأدلة. فالله جل وعلا أَحَقَّ حقا على نفسه في بعض الأشياء «وحقّ العبادِ على اللهِ أن لا يُعذّبَ مَنْ مَاتَ لا يُشركُ بالله شيئاً» وحرم أشياء على نفسه، ومنها الظلم كما في هذا الحديث، وهذا هو الذي يقرر في مذهب أهل السنة والجماعة، أما غيرهم فإنهم يجعلون الله جل وعلا مُنَزَّها عن أن يحرم عليه شيء، أو أن يجب عليه شيء. والذي حرم على الله هو الله جل وعلا، وهو سبحانه يحق من الحق على نفسه ما شاء، ويوجب على نفسه ما شاء، ويحرم على نفسه ما شاء، وهذا بما يوافق صفات المولى جل وعلا ويوافق حكمته، وما يشاءُه في بريته، فالله سبحانه حرم الظلم على نفسه، ومعنى كونه حرم الظلم على نفسه أي منع نفسه جل وعلا من أنْ يظلم أحدا شيئا.(69/4)
وفي القرآن نصوص كثيرة فيها أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئا، وأنه جل وعلا لم يرد الظلم، ولم يَخْتَر الظلم على العباد كما قال سبحانه ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ?[فصلت:46] وقال جل وعلا ?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ?[غافر:31] وقال سبحانه ?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ?[آل عمران:108] وقال جل وعلا أيضا ?فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا?[طه:112] والآيات في هذا كثيرة متنوعة ?إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ?[يونس:44] وهكذا. فالله جل وعلا وصف نفسه بأنه لا يظلم أحدا شيئا، وأن الظلم ليس إليه، وأنه لا يريد الظلم سبحانه وتعالى، والظلم المنفي عن الله جل وعلا هو الظلم الذي يُفسَّر بأنه وضع الأمور في غير مواضعها؛ لأنّ الظلم في اللغة بأن يوضع الشيء في غير موضعه.
ولهذا قيل للحليب الذي خلط بلبن حتى يروب، فخلط قبل أن يبلغ ما يصلح به قيل له: ظليم؛ يعني أنه ظلم حيث وضع الخلط في غير موضعه وقبل أوانه، مثل ما قال الشاعر:
وقائلةٍ ظلمتُ لكم سِقائي
وهل يخفى على العُكَدِ الظليم
ومنه أيضا سميت الأرض التي حفرت لاستخراج ماء وليست بذات ماء قيل لها: مظلومة، كقول الشاعر -وهو من شواهد النحو المعروفة-:
إلَّا أواري لأْيًا ما أُبَيِّنُها
والنُّؤي كالحَوضِ بالمظلومةِ الجَلد
المقصود أنّ هذه المادة في اللغة دائرة على وضع الشيء في غير موضعه اللائق به، وغير هذا التفسير كثير، فالمعتزلة يفسرون الظلم بأنواع، والأشاعرة يفسرون الظلم بأنواع، وعند أهل السنة هذا هو تعريف الظلم، فقد قال بعضهم: إن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو في اختصاصه بغير إذنه. وهذا نوع من وضع الشيء في غير موضعه، وليس هو بتعريف للظلم؛ ولهذا يورد عليه أشياء في بحث معروف في القدر في مبحث الظلم وفي اللغة.(69/5)
المقصود من هذا أن الله جل وعلا قال (إِنَّي؛ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) يعني حرّمت أن أضع شيئا في غير موضعه اللائق به على نفسي؛ منعت نفسي من ذلك. وهذا يدل على أن الله جل وعلا لو أراد إنفاد وضع الشيء في غير موضعه لكان له ذلك سبحانه وكان قادرا عليه؛ لأن الله قال ?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ?([29]) فهو سبحانه لم يرد ذلك. وهذا الحديث أيضا دال على أنه قادر على أن يفعل، ولكنه حرم ذلك على نفسه، ومنع نفسه من ذلك، وهذا من كرمه جل وعلا وإحسانه وفضله وإنعامه ومزيد مِنَّتِه على عباده، قال جل وعلا هنا (إِنَّي؛ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا).
الله جل وعلا حرّم الظلم على نفسه، وجعل الظلم بين العباد محرما؛ لأنه سبحانه يحب العدل وقد أقام السماوات والأرض على العدل، كما قرر أهل العلم أن السماوات والأرض قامت بالعدل، ولا يصلح لها إلا العدل، والعدل هو ضد الظلم؛ لأن العدل وضع الشيء في موضعه، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
فالله سبحانه أجرى ملكوته وأجرى خلقه على العدل، وهو وضع الأشياء في مواضعها وعلى الحكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، الموافقة للغايات المحمودة منها. فتحصّل من هذا أن الله جل وعلا يحب العدل ويأمر به، كما قال سبحانه ?اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى?[النحل:90]. والله سبحانه حرم الظلم كما في هذا الحديث، وفي آيات كثيرة مر معك بعضها.(69/6)
فإذا تبين ذلك فإن الله سبحانه جعل الظلم بين العباد محرما فقال (فَلاَ تَظَالَمُوا) وهنا نظر أهل العلم في سبب قوله: (إِنَّي؛ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)؛ لأنه جعل بعدها (وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا) وهذا فيه بحث واسع في أثر أسماء الله جل وعلا وصفاته التي اتصف بها سبحانه على بريّته. فالأسماء والصفات لها آثار في الملكوت، آثار في الشريعة، آثار في أفعال الله جل وعلا في بريته، وهذا نوع من هذه الآثار؛ وهو أنه سبحانه لما أقام ملكه على العدل، وحرّم الظلم على نفسه أمر عباده بالعدل، وحرم الظلم فيما بينهم، والعباد مكلفون فإذا وقع منهم الظلم كانوا غير منفذين لمراد الله الشرعي، وإن كانوا غير خارجين على مراد الله الكوني؛ فلهذا يكون الله جل وعلا قد توعدهم إذ ظلموا، وقد نهاهم عن الظلم.
فإذن الظلم بأنواعه محرم، والظلم درجات، يجمعها مرتبتان:
?الأولى: ظلم النفس، وظلم النفس قسمان:
• ظلم النفس بالشرك، وهو ظلم في حق الله جل وعلا؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، في غير من تصلح له، المشرك، فكل مشرك ظالم لنفسه كما قال جل وعلا ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام:82].
• والقسم الثاني من ظلم النفس أن يظلم النفس، بأن يعرضها من العذاب والبلاء بما لا يصلح لها، وهذا ظلم من العبد لنفسه. بأي شيء؟ بارتكاب الحرام والتفريط فيما أوجب الله جل وعلا وعدم أداء الحقوق، فهذا ظلم للنفس، لما؟ لأن من حق نفسك عليك أن تسعدها في الدنيا والآخرة، فإذا عرضتها للمعصية فقد ظلمتها؛ لأنك لم تجعلها سعيدة بل جعلتها معرضة لعذاب الله جل جلاله.(69/7)
? والمرتبة الثانية: ظلم العباد، وظلم العباد معناه التفريط، أو تضييع حقوقهم بعدم أداء الحق الذي أوجبه الله جل وعلا لهم، فمن فرّط في حق والديه فقد ظلمهم، ومن فرّط في حق أهله فقد ظلمهم؛ يعني لم يكن معهم على الأمر الشرعي، بل ارتكب محرما أو فرط في واجب فقد ظلمهم، ومن اعتدى على أموال الناس أو على أعراضهم أو على أنفسهم أو على ما يختصّون به فقد ظلمهم، وهذا كله محرم.
فإذن الظلم بأنواعه حرام، ولا يجوز شيء من الظلم؛ يعني أن يظلم أحدٌ أحدًا شيئا، وإنما يأخذ الحقَّ الذي له، قال جل وعلا بعد ذلك (فَلاَ تَظَالَمُوا) يعني لا يظلم بعضكم بعضا.(69/8)
(يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فاستهدوني أَهْدِكُمْ)، (كُلُّكُمْ ضَالٌّ) يعني أنّ الأصل في الإنسان أنه على الضلالة، الأصل في الإنسان من حيث الجنس أنه ظلوم وجهول، وهما سببا الضلال، قال جل وعلا ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا?[الأحزاب:72]. فالأمانة هي أمانة التكليف، ولما كان الإنسان ظلوما جهولا كان الأكثر فيه أن يكون ضالا؛ ولهذا أكثر الناس ضالون، وهذا جاء في القرآن في نصوص كثيرة، قوله هنا (كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ) يدل على أن الأمر الغالب في عباد الله أنهم ضالون إلا مَنْ مَنَّ الله جل وعلا عليه بالهداية، وهذه الهداية تطلب من الله جل وعلا قال (فاستهدوني أَهْدِكُمْ) يعني اطلبوا مني الهداية أهدكم إليها. وهذا يدل على رغبة ابن آدم في الهداية إن طلبها من الله جل وعلا، فلا بد من ابن آدم أن يسعى في أسباب الهداية، فإذا رغِب فيها وفقه الله جل وعلا، وهذا مرتبط بمسألة عظيمة من مسائل القدَر، وهي أن الله جل وعلا يعامل عباده بالعدل، وخَصَّ طائفة منهم بالتوفيق، وهو أنه يعينهم على ما فيه رضاه سبحانه وتعالى (كُلُّكُمْ ضَالٌّ)، ?وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى?[الضحى:7] يعني كان قبل البعثة ضال فهداه إلى الطريق، (كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فاستهدوني أَهْدِكُمْ) يعني اطلبوا مني الهداية أهدكم إليها. الهداية يطلبها كل أحد؛ الكامل؛ يعني السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، كلٌّ ينبغي عليه بل يجب عليه أن يطلب الهداية من الله جل وعلا؛ ولهذا فرض الله جل وعلا في الصلاة سورة الفاتحة، ومن أعظم ما فيها قوله -يعني من الدعاء- قوله جل وعلا ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ?[الفاتحة:6] فطلب الهداية للصراط(69/9)
المستقيم هذا من أعظم المسائل وأجلها؛ يعني أعظم ما تطلبه من الله جل وعلا أن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم، والهداية مرتبتان؛ هداية إلى الطريق؛ بمعنى الإرشاد إليه والتوفيق له، والهداية بمعنى الإرشاد منها شيء قد جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، فهداية الدلالة والإرشاد تمت وقامت، ومنها الهداية -هداية الدلالة والإرشاد- التي تسأل الله جل وعلا أن يعطيك إياها، أن تكون مُرْشَدا إليها؛ لأن الالتفات إلى الإرشاد نوع من الاهتداء، فهداية النبي - صلى الله عليه وسلم - والهداية التي في القرآن موجودة بين ظهراني المسلمين لم يُفْقَد منها شيء ولله الحمد، لكن من يوفق إلى أن يُرْشَد إلى هذه الهداية، فإذن:
المرتبة الأولى: هداية الدلالة والإرشاد، وليست هي الهداية التي بمعنى أن تهدي غيرك، هذه الهداية التي هي طلب الهداية مرتبتان:
هداية الدلالة والإرشاد؛ يعني أن تطلب من الله جل وعلا أن يدلك ويرشدك على أنواع الهداية التي جاء بها المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
ومنه أيضا التوفيق لها، فإذا دُلِلت عليها فتسأل الله أن يوفقك لاتباعها.
هذه واحدة، ويدخل في ذلك قصد الإسلام، ويدخل في ذلك الهداية إلى شيء معين منه.(69/10)
والنوع الثاني أو المرتبة الثانية: الهداية إلى تفاصيل الإيمان والإسلام، وما يحبّ الله جل وعلا ويرضى؛ لأن تفاصيل الإيمان كثيرة، ولأنّ تفاصيل الإسلام كثيرة؛ ولأنّ تفاصيل ما يحب الله جل وعلا ويرضاه، وتفاصيل ما يسخطه الله جل وعلا ويأباه كثيرة متنوعة. فكونك تسأل الرب جل وعلا أن يهديك هذا خروج من نوع من أنواع الضّلالة؛ لأن عدم المعرفة عدم العلم بما يحب الله وما به الهداية هذا نوع من البعد عن الصراط، المقصود أنّ هذا النوع من الهداية تطلب الله جل وعلا أنْ يهديك إلى تفاصيل الصراط، تفاصيل الإيمان، تفاصيل الإسلام، تفاصيل الاعتقاد؛ حتى تعلمه فتعمل به فتكون مرتبتك عند الله جل وعلا أعلى، قال جل وعلا (يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فاستهدوني أَهْدِكُمْ.) وهذا من أعظم المطالب، نسأل الله جل وعلا أن يهدينا سواء السبيل.(69/11)
قال (يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ) الرزاق هو الله سبحانه وتعالى، والرَّزْق منه، والأرزاق بيده يصرفها كيف يشاء، فهو الذي إذا فتح رحمة فلا ممسك لها كما قال في فاتحة سورة فاطر ?مَا يَفْتَح اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ?[فاطر:2]، ومن ذلك الأرزاق التي تسد بها الجوارح، فقال جل وعلا (كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ) وإطعام الجائع ورَزْق الفقير وأشباه ذلك، هذه من سأل الله جل وعلا إياها فإن الله سبحانه يعطيه، سواءً أكان كافرا أم كان مسلما، أكان عاصيا أم كان صالحا؛ لأنّ ذلك من أنواع الربوبية؛ من آثار الربوبية، وربوبية الله جل وعلا غير خاصة بالمسلم دون الكافر، أو بالصالح دون الطالح، فالجميع سواء في تعرضهم لآثار عطاء الله جل وعلا بأفراد ربوبيته، فيرزق سبحانه وتعالى الجميع، ويهب الأولاد للجميع، ويجيب دعوة المضطر من الجميع، وهكذا في إفراد الربوية، فقوله سبحانه (عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ) مَنْ استطعم الله جل وعلا وسأله الطعام، سأله الرزق فإن الله جل وعلا قد يجيب دعاءه.(69/12)
قال (ياَ عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فاستكسوني أَكْسِكُمْ) وهذا على نحو ما سبق، (يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)، (إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنّهَارِ)، الخطأ هنا بمعنى الإثم؛ لأنّ الخطأ الذي هو بمعنى الخطأ أو عدم التعمد هذا معفو عنه، وهنا قال (إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا). فالخطيئة المقصود بـ (تُخْطِئُونَ) أي تعملون بالخطايا، تعملون الخطيئة، وهذا معناه العمل بالإثم، وهذا يُغفر بالاستغفار والتوبة والإنابة، فليس المراد طبعا الخطأ؛ لأن الله جل وعلا عفا عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال سبحانه في آخر سورة البقرة ?رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا?[البقرة:286].(69/13)
قال (َاسْتَغْفِرُونِي)، (وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) هذا مقيد بما هو غير الشرك، أما الشرك فإن الله جل وعلا لا يغفره إلا لمن تاب وأسْلَم، أما غير الشرك مما هو دونه فإنّ الله جل وعلا يغفره سبحانه وتعالى إذا شاء أو لمن تاب، قال سبحانه في آخر سورة الزمر ?قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا?[الزمر:53] أجمع المفسرون من الصحابة ومن بعدهم أنها في التائبين، فـ(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) لمن تاب، وقوله في سورة النساء ? إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا?[النساء:116] (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الشرك غير داخل في المغفرة، (مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) يعني في حق غير التائب. فحصل لنا أن من تاب تاب الله عليه، فيغفر الله ذنبه أيًّا كان الشرك أو ما دونه، ومن لم يتب فإن كان مشركا فإن الله لا يغفر الشرك، وإن كان ذنبه ما دون الشرك فإنه تحت المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذّبه بذنبه، فإذن قوله هنا (وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) مقيد بما ذكرت لك. (فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ) يعني اطلبوا مني المغفرة فأنا أغفر ذلك لكم، الحقيقة الحديث طويل، وكل كلمة تحتاج إلى بيان وإلى تفصيل، فلعلي أجمل فيما يأتي.
(يَا عِبَادِي؛ أنكم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرَّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) وهذا لأجل كمال الغنى، كمال غنى المولى جل وعلا، فإن الله سبحانه ذو الكمال في أسمائه وصفاته، ومن أسمائه الغَني، ومن صفاته الغِنى، فهو سبحانه غني عن العباد ولن يبلغوا نفعه ولن يبلغوا ضره سبحانه وتعالى بل هو الغني عن خلقه أجمعين.(69/14)
وكما قال هنا (أنكم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرَّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) بل هو سبحانه أجل وأعظم من أن يؤثر العباد فيه نفعا أو ضرا، بل هم المحتاجون إليه المفتقرون إليه من جميع الجهات.
قال (يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وآخركم، وأنسكم، وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ ما زاد ذلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا) يعني أنّ تقوى العباد ليس المنتفع منها الرب جل وعلا بل هم المنتفعون، فهم المحتاجون أنْ يتقوا الله سبحانه وتعالى وهم المحتاجون أن يطيعوا ربهم سبحانه وهم المحتاجون أن يتقربوا إليه، وأن يتذللوا بين يديه، وأنْ يُروا الله جل وعلا من أنفسهم خيرا، وأما الله سبحانه وتعالى فهو الغني عن عباده الذي لا يحتاج إليهم؛ إنّ الله سبحانه وتعالى هو الكامل في صفاته، الكامل في أسمائه الذي لا يحتاج إلى أحد من خلقه، تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال (يَا عِبَادِي؛ لو أَن أَوَّلَكُمْ، وآخركم وَإِنسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا) الذي يعصي الله جل وعلا لا يضر إلا نفسه، ولا يحتاج الله جل وعلا إلى طاعته، ولا يضرّه أن يعصيه سبحانه وتعالى، وهذا يعظم به العبد الرغب في الله جل وعلا؛ لأنه سبحانه هو ذو الفضل والإحسان، وذو المنة والإكرام، والعباد هم المحتاجون إليه.(69/15)
قال (يا عبادي؛ لَوْ أَنَّ أوَّلَكُمْ، وآخركم، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ –منهم- مَسْأَلَتُهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) المخيط المراد به الإبرة السميكة، إذا أدخلت في البحر ثم أخرجت فإنها لا تأخذ من ماء البحر شيئا. فلو أن أول العباد وآخرهم وإنسهم وجنهم سألوا الله جل وعلا في صعيد واحد سأل كل واحد مسألته، فأعطى الله كل واحد ما سأل ما نقص ذلك من ملك الله جل وعلا شيئا إلا كما ينقص المخيط، كما تنقص الإبرة من الحديد إذا أدخلت في البحر ثم خرجت، فإنها لا تنقص من البحر شيئا يذكر، وهكذا؛ لأن ملك الله جل وعلا واسع، ولأنّ ملكوته عظيم، وحاجات العباد ليست بشيء في جنب ملكوت الله جل وعلا.
فإنهم يُعْطَوْنَ مما في الأرض يعني بعض ما في الأرض يكفي العباد أجمعين وملك الله جل وعلا واسع، وما الأرض والسماوات السبع في كرسي الرحمن إلا كدراهم ألقيت في ترس يعني أنها صغيرة جدا، فحاجات العباد متعلقة بالأرض وما حولها؛ يعني والسماء التي تقرب منهم، وهذا إذا أعطي كل أحد ما سأل فإنه يعطى مما في الأرض، وهذا شيء يسير جدا بالنسبة لما في الأرض، فكيف بالنسبة إلى ملكوت الله جل وعلا.(69/16)
قال جل وعلا بعد ذلك (يَا عِبَادِي؛ إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفَّكُمْ إِيَّاهَا)، (إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ) يعني أنّ المقصود من إيجادكم الابتلاء والتكليف فإنما الأمر راجع إلى أعمالكم، لم يخلق الله جل وعلا الخلق لأنهم سينفعوه، أو لأنه يخشى منهم أن يضروه، أو لأنه سبحانه محتاج أن يعطيهم، بل إنما هو الابتلاء، ابتلاؤهم بهذا التكليف بهذا الأمر العظيم، وهو عبادته سبحانه، كما قال ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ?[الأحزاب:72]، وكما قال جل وعلا ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?[الذاريات:56-58]، فغنى الله سبحانه وتعالى عن عباده أعظم الغنى، وهم محتاجون إليه، والابتلاء حصل بخلقهم، فابتلى الله العباد بحياتهم، ونتيجة هذا الابتلاء أنّ أعمالهم ستحصى (إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا لَكُمْ) وقوله جل وعلا (أُحْصِيهَا) الإحصاء بمعنى العدّ التفصيلي والحفظ؛ لأن الإحصاء له مراتب؛ فمنها العد التفصيلي، ومنها الحفظ وعدم التضييع، كما قال جل وعلا ?لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا?[مريم:94-95]، وكما قال جل وعلا ?وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا?[الجن:28]، والإحصاء يشمل معرفة التفاصيل وكتابة ذلك، ويشمل أيضا الحفظ وعدم التضييع، فـ(إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا) يعني تكتب عليكم بتفاصيلها، وأعرِّفكم إياها بتفاصيلها، وأحفظها لكم فلا تضيع، (ثُمَّ أُوَفَّكُمْ إِيَّاهَا) الحسنات بالحسنات، والسيئات بما يحكم الله جل وعلا فيه، فمن فعل السيئات فهو(69/17)
على خطر عظيم، ومن فعل الحسنات فهو على رجاء أن يكون من الناجين.
قال (فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) لأنّ العبد هو الحسيب على نفسه ?كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ?[المدثر:83] كل نفس تعلم ما تعمل وصوابَها وخطأَها ولو ألقت المعاذير ?بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ?[القيامة:14-15] قال (فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ الله) يعني فليثن على الله جل وعلا بذلك؛ لأنه هو الذي أعانه. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ لأن العبد هو الذي جنى على نفسه، والله سبحانه أقام الحجة وبين المحجة، وسلك بنا السبيل الأقوم، فالأمر واضح والعباد هم الذين يجنون على نفسهم.(69/18)
الحديث الخامس والعشرون -
عن أبي ذَرَّ - رضي الله عنه - -أيضًا -:أنّ نَاسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله؛ ذَهَبَ أهلُ الدُّثُور بالأُجور، يُصلُّون كما نُصلَّي، ويصومون كما نصوم، ويَتَصدَّقون بفُضول أموالهم! قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ الله لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ؟! إِنَّ بِكُلَّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلَّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلَّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلَّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٍ بِمعْرُوفِ صَدَقَةً، وَنَهْيٍ عَنْ المنْكَرِ صَدَقَةً، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةً »، فقالوا: يا رسول الله؛ أَيَأْتِي أَحَدُنا شَهوَتَهُ، ويكونُ له فيها أجر؟! قال «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ؛ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» [رواه مسلم ].
[الشرح]
وهذا الحديث عن أبي ذرّ أيضا (أَنَّ أُنَاسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنّبيّ عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله؛ ذَهَبَ أهلُ الدُّثُور بالأُجور)، (ذَهَبَ أهلُ الدُّثُور) يعني أنّ أهل الغنى ذهبوا بالأجر عند الله جل وعلا؛ لأن لهم أموالا يتصدقون بها، والصدقة أمرها عظيم. ([30])(70/1)
قالوا (ذَهَبَ أهلُ الدُّثُور بالأُجور، يُصلُّون كما نُصلَّي، ويصومون كما نصوم، ويَتَصدَّقون بفُضول أموالهم!) يعني أن الله جل وعلا ميزهم بأنهم يتصدقون، فيصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، لكن تميزوا عنا بالصدقة، فذهب أهل الدثور بأجور الصدقة. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بين لهم أن معنى الصدقة واسع، فقال عليه الصلاة والسلام (أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ الله لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ به؟!) وهذا فيه الحث على سماع ما جعل الله جل وعلا للفقراء، بل ولعامة المسلمين الأغنياء والفقراء جميعا من أنواع الصدقات التي لا تدخل في الصدقات المالية. وهذا مبني على معنى الصدقة في الشريعة؛ فإن الصدقة في الشريعة ليست هي الصدقة بالمال، والصدقة بالمال نوع من أنواع الصدقة، فالصدقة إيصال الخير-تعريف الصدقة- والنفع للغير؛ ولهذا يوصف الله جل وعلا بأنه متصدق على عباده. كما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سألوه عن مسألة القصر في السفر قال «صدقة من الله» قالوا: يا رسول الله، ها نحن قد أمنا، والله جل وعلا يقول في سورة النساء ?فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا?[النساء:101] وقد أمِنَّا. فقال عليه الصلاة والسلام «صَدَقَةٌ تَصَدّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ. فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ». فالله جل وعلا يتصدق على عباده، بمعنى يوصل الخير وما ينفعهم لهم، فالصدقة إيصال الخير للغير، وقد يكون هذا الإيصال متعديا وقد يكون لازما، يعني قد يكون العبد يوصل الخير لنفسه فيكون متصدقا، وقد يصل بالخير إلى غيره ويوصل الخير لغيره فيكون متصدقا على غيره. فالصدقة معناها في الشريعة عام، ومنها الصدقة بالمال؛ فإنها إيصال الخير والنفع للغير.(70/2)
قال عليه الصلاة والسلام (أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ الله لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ؟!) لأن معنى الصدقة عام، (إِنَّ بِكُلَّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلَّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلَّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلَّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً) مثل عليه الصلاة والسلام بهذه الأربع لأمرين؛ الأول أنها من أنواع الذكر اللساني، فمثل بها على أنواع الذكر الأخرى؛ لأن هذه أفضل الذكر، كما ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال «أَحَبّ الْكَلاَمِ إِلَى اللّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللّهِ, وَالْحَمْدُ للّهِ, وَلاَ إِلََهَ إِلاّ اللّهُ, وَاللّهُ أَكْبَرُ»، فهذه الأربع هي أحب الكلام إلى الله، فهي أعظم ما تتقرب به إلى الله جل وعلا من الذكر، وتتصدق به على نفسك، فقال (إِنَّ بِكُلَّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً) لأن فيها الأجر العظيم، فتصل بالتسبيحة نفسَكَ بأنواع الخير والأجر، كذلك التحميد والتهليل والتكبير.
ثم انتقل عليه الصلاة والسلام إلى نوع من الصدقة متعد، فقال (وَأَمْرٍ بَمعْرُوفِ صَدَقَةً، وَنَهْيٍ عَنْ المنْكَرِ صَدَقَةً) هذا تمثيل لأنواع الصدقات التي فيها التعدي النفع، فذكر الأمر بالمعروف، والمعروف هو ما علم حُسْنه، والأمر به في الشريعة، فما عرف في الشريعة حُسْنه فهو معروف. والمنكر ضده؛ ما عرف في الشريعة سوءه ونكارته، فمن أمر بما عرف في الشريعة حسنه فقد أمر بالمعروف، وأعلاه التوحيد، ومن نهى عن المنكر وهو ما أنكر في الشريعة وأعلاه الشرك بالله جل وعلا فقد نهى عن المنكر، فإذن كل أمر بمعروف صدقة لك، وكل نهي عن المنكر صدقة. وتعليم العلم يدخل في ذلك، فهو من أنواع الصدقات، فمن لازم العلم تعلما وتعليما فإنه يتصدق في كل لحظة تمر عليه على نفسه، وكذلك على غيره؛ ولهذا أهل العلم أعظم الناس أجورا إن صلُحت نياتهم.(70/3)
قال (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةً) البُضع المراد به في اللغة بعض الشيء؛ لأن البضع والبعض فيها قلب (بَ ضَ عَ)، و(بَ عَ ضَ) يعني البعض، والبضع مقلوبة هذه عن الأخرى، فمعنى البضع البعض، ولكنهم كنوا به عن بعض ابن آدم، وهو فرجه، وهذا من شريف الكلام؛ حيث يذكر ما يستحيا عن ذكره ولا يحسن ذكره في كلمات تدل عليه، ولا يكون لها وقع ينافي الأدب في السمع. قال عليه الصلاة والسلام (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةً) يعني فيما يأتيه المرء بفرجه وهو ذَكَرُ الرَّجل صدقة، فاستغربوا؛ فـ(قالوا: يا رسول الله؛ أَيَأْتِي أَحَدُنا شَهوَتَهُ، ويكونُ له فيها أجرّ؟!)، المراد بالشهوة هنا الماء، يعني ماء الرجل الذي ينزله؛ يعني المراد تمام الشهوة، (ويكونُ له فيها أجرّ؟!) يعني المرء يأتي شهوته، ويُنزل ماءه، ويكون له بذلك أجر؟! فقال عليه الصلاة والسلام (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا -يعني لو وضع الشهوة- فِي حَرَامٍ) والذي يُوضع هو ماء؛ لهذا فسرت الشهوة هنا بأنها الماء. قال (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ) وهذا يسمى استدلال العكس، أو قياس العكس، (لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ؛ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قالوا: بلى. فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) وهذا يعني أن ما يفعله المرء من هذه الأفعال التي هي من قبيل الشهوات إذا أتى بها الحلال، وابتلى الله جل وعلا العبدَ بهذه الشهوة، فجعلها في الحلال، وباعد نفسه عن وضعها في الحرام أنه يؤجر على ذلك، وهذا هو الظاهر. واختلف أهل العلم في هذه المسألة؛ هل يؤجر بإتيانه الحلال بلا نية، أم يؤجر بإتيانه الحلال بنية؟(70/4)
فقالت طائفة: هذه الشهوات التي ابتلى الله بها العبد إذا جعلها في الحلال فإنه يؤجر عليها بلا نية، على ظاهر هذا الحديث، وتنفعه النية العامة، وهي نية الطاعة؛ نية الإسلام، فإنه بالإسلام يحصل له نية الطاعة لله جل وعلا فيما يأتي، وفيما يذر؛ النية العامة، وهذا قول طائفة من أهل العلم.
وقال آخرون: هذا الحديث محمول على غيره من الأحاديث، وهو أنه يؤجر إذا صرف نفسه عن الحرام إلى الحلال بنية، فإذا صرف نفسه عن مواقعة الزنا إلى مواقعة الحلال بنية، فإنه يؤجر على ذلك؛ لأن الأحاديث الأخر، والقواعد العامة، وكذلك بعض الأيات تدل على أنه إنما يؤجر على ما يُبتغى به وجه الله جل وعلا، قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها»، وأيضا في أية النساء قال جل وعلا ? لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا?[النساء:114] فدل في الآية على إشتراط ابتغاء مرضاة الله، ودلّ في الحديث أيضا على أنّ النفقة إذا ابتغي بها وجه الله فإنه يؤجر عليها في العبد. فحمل أكثر أهل العلم هذا الظاهر من الحديث على غيره من النصوص مما يكون العبد به منصرفا عن الحرام إلى الحلال بنية، فإذا قام في قلبه أنّه لن يأتيَ الحرام، بأن الله أباح له الحلال ليقتصر على الحلال دون الحرام فإنه يؤجر على ما يأتي من الحلال، ويؤجر علي شهوته بهذه النية، وإنما الأعمال بالنيات.(70/5)
الحديث السادس والعشرون -
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةً كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيَّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلَّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ » [رواه البخاري و مسلم ].
[الشرح]
هذا الحديث من حيث تفاصيل الصدقات يكفي عنه ما مر معنا في الحديث السابق؛ لأن هذه التي ذكرت بعضها من الصدقات الذاتية، وبعضها من الصدقات المتعدية، لكن الذي يهمّ منه قوله عليه الصلاة والسلام (كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةً) (سُلاَمَى) هذه المقصود منها العظام أو المفاصل. من أهل العلم من قال العظام، ومنهم من قال: مفاصل العظام، يعني الصلات بين العظم والعظم، أو العظام أنفسها، فعظام الإنسان كثيرة، والله جل وعلا من عليه بهذه، فخلقك في أحسن تقويم، وجعلك في تصرفك في عظامك، وما ابتلاك به في شكر هذه النعمة، جعلك في محطّ الابتلاء، فهل تشكر أم لا تشكر؟.
فقال عليه الصلاة والسلام هنا (كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ) يعني كل عظم من أعظم ابن آدم، أو كل عظم أو كل مفصل من مفاصل جسد ابن آدم عليه صدقة، فقوله (عَلَيْهِ) نَعلم من الأصول أنها من ألفاظ الوجوب، فيدل على أن شكر هذه النعمة واجب؛ فشكر نعمة البدن، نعمة العظام، نعمة المفاصل واجب. دلّ على الوجوب قوله (عَلَيْهِ صَدَقَةً)، (كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةً) يعني يجب عليه على كل مفصل أن يتصدق بصدقة تقابل تلك النعمة، وتكون شكرا لها، هذه التي ذكرت أمثال لبعض الصدقات.(71/1)
والصدقة الواجبة التي بها يخلص المرء من الإثم في عدم شكر نعمة البدن: ألاّ يستعمل هذه المفاصل في معصية الله جل وعلا. فإذا كان يوم من الأيام سلم في ذلك اليوم من المحرمات التي فعلها بهذه المفاصل، أو سَلِمَ من ترك أداء الواجبات، واستعمل المفاصل في أداء الواجبات، فقد أدّى الشكر الواجب في ذلك اليوم، فكل مقتصد؛ يعني فاعل للواجب تارك المحرم في يوم قد أدى شكر ذلك اليوم الواجب الذى يجب عليه لنعمة البدن.
ثم هناك شكر مستحب، وهو أن يأتي بأنواع الصدقات المستحبة؛ القولية، والعملية، والمالية، وأن يأتي بنوافل العبادات المتنوعة.
فإذن الصدقات نوعان: واجبة، ومستحبة، فالواجبة هي أن تستعمل الآلات في الطاعة، وأن تبتعد بها عن الحرام، فإذا فعلت ذلك فقد أديت شكر تلك الآلات.
قال عليه الصلاة والسلام (كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ)، (كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ)، كلمة (يَومٍ) قد تأتي في النصوص وفي اللغة ويراد بها أكثر من يوم، فيكون عدة أيام إذا كان يجمعها شيء واحد، كما أنه يقال ساعة، وقد تكون ساعات كثيرة، وهذا له فوائدُه المعروفة في اللغة، والبلاغة.
المقصود قال هنا (كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ) فلما قيده بـ(تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ) علمنا أنّ الوجوب يوميٌّ، يعني كل يوم من طلوع الشمس إلى طلوعها المرة الأخرى -يعني كما نقول في كل أربع وعشرين ساعة- يجب عليك تجاه هذه النعمة -وهي نعمة البدن: المفاصل، العظام- أن تشكر الله جل وعلا عليها. فمثل عليه الصلاة والسلام بقوله (تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ) (تَعْدِلُ) يدخل في العدل الحكم بينهما بالعدل، يدخل في ذلك الصلح فيما يصلح به كما قال ?أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ?[النساء:114] وأشباه ذلك من الأعمال الخيرة.(71/2)
قال (وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ) الإعانة في كل ما يحتاج إليه هذا من أنواع الصدقات: تعينه في سيارته، تعينه في إصلاح شيء فيها، تعينه في الإركاب، تساعد كبير السن أو المحتاج إلى آخره، كل هذا من أنواع الصدقات التي يحصل بها شيء من شكر نعمة المفاصل والعظام.
قال (وَالْكَلِمَةُ الطَّيَّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلَّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ) وهذا واضح (وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) هذه أمثلة متنوعة للصدقات اللازمة والمتعدية، وجاء في رواية، في الصحيح «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما المرء من الضحى» فإذا استعملت هذه المفاصل في ركعتين تركعهما من الضحى فقد أديت الشكر المستحب لهذه المفاصل.(71/3)
الحديث السابع والعشرون -
عن النَّوَاسِ بنِ سَمْعانَ -- رضي الله عنه -- عن النّبيَّ قال «البِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» [رواه مسلم].وعن وَابِصة بنِ مَعْبَدٍ - رضي الله عنه - قال: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرَّ؟» قلت : نعم، قال: « اِسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ» [حديث حَسَن، رُويناه فِي مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي، بإسناد حسن].
[الشرح]
هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وهو حديث النّوّاس رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (البِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ) البر أنواع؛ فيكون البرّ فيما بين العبد وبين ربه جل وعلا، ويكون البر فيما بين العبد وبين الناس.
• فالبر الذي بين العبد وبين ربه جل وعلا هو بالإيمان، وإتيان أوامر الله جل وعلا المختلفة، وامتثال الأمر، واجتناب النهي، كما قال جل وعلا في سورة البقرة ?وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ?[البقرة:177]الآية، فذكر البر الذي يجب على العبد لله جل وعلا، فهذا النوع من البر يأتي في القرآن كثيرا، والله جل وعلا هو الذي جعل هذا بِرّا، فالعبد من أهل البر إذا قام بما جاء في هذه الآية، فيقال هذا من الأبرار إذا امتثل ما في هذه الآية، وابتعد عما يكرهه الله جل وعلا.(72/1)
• والقسم الثاني من البر: البر مع الخلق، وهذا جماعه حسن الخلق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (البِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ) فجَمَعَ البر في عبارة وجيزة وهي (حُسْنُ الْخُلُقِ)، و(حُسْنُ الْخُلُقِ) كما ذكرنا لك يجمعه أنه بذل الندى، وكف الأذى، وأن تحسن إلى الخلق، وأن تجزي بالسيئة الحسنة، وأن تعامل الناس بما فيه عفو عن المسيء، وكظم للغيظ، وإحسان للخلق. فمن كان باذلا للندى، غير منتصر لنفسه، كافا الأذى، مقدما المعروف للخلق فهو من ذوي حسن الخلق فيما بين الناس، فإن جمع إليك ما يستحب من ذلك، وما يجب من حقوق العباد كان حسن الخلق عنده شرعيا.
فإذن حسن الخلق الذي يكون فيه امتثال لما جاء في الشرع من صفات عباد الله المؤدين لحقوقه وحقوق عباده، هذا يكون معه البر، فالبر إذن درجات؛ لأن الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر، إلى آخره، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، إلى آخره، هذا درجات، ومعاملة الخلق درجات.
فتحصَّل من هذا أن قوله عليه الصلاة والسلام (البِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ) أنّ درجة البر تختلف بإختلاف حسن الخلق، والبر إذا أردته فهو حسن الخلق؛ لأنه بذلك تؤدي حقوق الخلق الواجبة والمستحبة.
قال (وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) عرف الإثم وهو ما يقابل البر بشيئين: شيء ظاهر، وشيء باطن. وهذا من الميزان الذي يمكن تطبيقه، وهو عليه الصلاة والسلام الرؤوف الرحيم بهذه الأمة، فقال لك (وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ) هذا أمر باطن، (وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) وهو الأمر الظاهر. فإذا أتيت إلى شيء مشتبه عليك فحاك في نفسك، هل هذا من الإثم أم من البر، وترددت فيه ولم تعلم أنه من البر، وانضم إلى ذلك الظاهر أنك لو فعلته كرهت أن يطَّلع عليه الناس فهذا هو الإثم. فالإثم يجمعه شيئان:
? شيء باطن متعلق بالقلب، وهو أنه يحوك في النفس، وتتردد في فعله النفس.(72/2)
? وفي الظاهر يكره أنه لو عمله أن يطلع عليه الناس، فهذا يدل على أنه إثم، وهذا وصف عظيم منه عليه الصلاة والسلام للبر والإثم.
فالبر: حسن الخلق ببذل الندى، وكف الأذى، والعفو عن المسيء، والصفح عن المخطئ في حقه.
والإثم: ما حاك في نفسك وجهه، وكرهت أن يطلع عليه الناس فيما لو فعلته ظاهرا.
في الرواية الأخرى (وعن وَابِصة بنِ مَعْبَدٍ قال: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرَّ؟» قلت: نعم، قال «اِسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ») ذكرت لكم أن البر نوعان: بر متعلق بحق الله، وبر متعلق بحق العباد. فالحديث الأول ذكر فيه عليه الصلاة والسلام البر المتعلق بحق الناس فقال (البِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ)، وهنا ذكر البر بعامة فقال (اِسْتَفْتِ قَلْبَكَ) يعني عن البر، هل هذا الشيء من البر أم ليس من البر، هل هو من الطاعة أم ليس من الطاعة ؟(72/3)
(اِسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ) يعني أنه لم يصر في القلب تردد من هذا الشئ المعين، ولا يكره أن يُطْلِعَ عليه الناس، وهذا يَعُمَّ جميع أنواع الطاعات، وقابله بالإثم حيث قال (وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ)، فعرَّف الإثم أو جعل عليه الصلاة والسلام علامة للإثم بأنه (مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ) على نحو ما ذكرنا، (وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ) ولهذا يدخل في ذلك جميع الأنواع المشتبهة التي تدخل في المتشابهات التي ذكرناها في حديث النعمان بن بشير. فالإثم تفرغ منه إذا كان الشئ يحوك في الصدر، ولا تطمئن إليه النفس؛ لأن المسلم بإيمانه ودينه وتقواه تطمئن نفسه إلى ما فيه الطاعة، وأما ما فيه شبهة أو ما فيه حرام فيجد أنه خائف منه، أو أنه متردد فيه، ولا يستأنس بشيء فيه تعريض لمحرم أو اشتباه؛ لأنه قد يقع في الحرام. فقال عليه الصلاة والسلام (وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ) هنا قال (وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ) يعني قد تذهب إلى مفتٍ تستفتيه في شأنك، ويفتيك بأن هذا لا بأس به، ولكن يبقى في صدرك التردد، والمفتي إنما يتكلم بحسب الظاهر يفتي بحسب ما يظهر له من السؤال، وقد يكون عند السائل أشياء في نفسه لم يبدها، أو لم يستطع أن يبديها بوضوح، فيبقى هو الحكم على نفسه، والتكليف معلَّقٌ به، وإماطة الثواب والعقاب معلقة بعمله هو، فإذا بقي في نفسه تردد ولم تطمئن نفسه إلى إباحة من أباح له الفعل فعليه أن يأخذ بما جاء في نفسه، من جهة أنه يمتنع عن المشتبهات أو عما تردد في الصدر.(72/4)
وهنا يبحث العلماء بحثا معلوما يطول، وهو بحث أصولي وكذلك فقهي، في أن ما يتردد في الصدر ويَحِيك فيه، ولا يطمئن إليه القلب. هل هو إثم بإطلاق، أم أن بعض أنواعه إثم؟ والتحقيق في هذا أن المسألة فيها تفصيل:
فإذا كان يعني الحالة الأولى: أن يكون التردد الذي في النفس واقعا عن جهل من صاحبه بالحكم الشرعي أو بالسنة، فهذا لو تردد في شيء جاء النص بحسنه أو بإباحته أو بالأمر به فإنه يكون عاصيا لو لم يفعل، أو يكون ملوما لو لم يمتثل للسنة. وقد جاء في الحديث الصحيح -صحيح مسلم-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ناسا بالإفطار في السفر، فبقي منهم بقية لم يُفطروا، فقيل للنبي عليه الصلاة والسلام: إنّ أناسا لم يفطروا. فقال «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ. أُولَئِكَ الْعُصَاةُ ».
فهذا يدل أن الأمر إذا كان من السنة بوضوح، فإن تركه لتردد في الصدر أن هذا من الشيطان، فلا اعتبار لهذا النوع؛ يكون في سفر يقول: أنا لن أقصر، في نفسي شيء من أن أقصر مع توافر الشروط بما دلت عليه السنة بوضوح. فإن هذا تردد لا وجه له. كذلك شيء دل القرآن الكريم، أو دلت السنة على مشروعيته، ثم هو يبقى في نفسه تردد، فهذا لم يستسلم أو لم يعلم حكم الله جل وعلا، فلا قيمة لهذا النوع.(72/5)
الحالة الثانية: أن يقع التردد من جهة اختلاف المفتين، اختلاف المجتهدين في مسألة، فاختلف المجتهدون في تنزيل واقعة هذا المستفتي على النصوص؛ فمنهم من أفتاه بكذا، ومنهم من أفتاه بكذا. فهذا ليس الإثم في حقه أنْ يبقى مع تردُّدِ نفسه، ليس الإثم في حقه أن يزيل تردد نفسه، وليس البر في حقه أن يعمل بما اطمئنت إليه نفسه خارجا عن القولين، بل البر في حقه ما اطمئنت إليه نفسه من أحد القولين؛ لأنه لا يجوز للعامي أنْ يأخذ بقول نفسه مع وجود عالم يستفتيه، بل إذا استفتى عالما، وأوضح له أمرَه وأفتاه فإن عليه أن يفعل ما أفتاه العالم به، فإذا اختلف المفتون فإنه يأخذ بفتوى الأعلم الأفقه بحاله.
الحالة الثالثة: وهي التي يُنَزَّل عليها هذا الحديث، وهي أنه يستفتي المفتي فيفتى بشيء لا تطمئن نفسه لصوابه فيما يتعلق بحالته، فيبقى مترددا؛ يخشى أنه لم يفهم، يقول: هذا أفتاني لكن المسألة فيها أشياء أخر لم يستبنها. يقول: المفتي لم يستفصل مني. يقول: حالة المفتي أنه ما استوعب المسألة من جهاتها. فإفتاء المفتي للمكلَّف لا يرفع التكليف عنه في مثل هذه الحالة، وإنما ينجو بالفتوى إذا أوضح مرادَه بدون التباس فأُفتي، فإنه يكون قد أدى الذي عليه بسؤال أهل العلم امتثالا لقول الله جل وعلا: ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?([31])، وأما إذا لم يُفصل، أو لم يستفصل المسئول المفتي، أو لم يحسن فهم المسألة فاستجعل وأفتاه، وبقي في قلب المستفتي شيء من الريب من جهة أن المفتي لم يفهم كلامه، لم يفهم حاله أو أن هناك من حاله ما لا يصلح أن يبين، أو ما لم يستطع بيانه فإن هذا يدخل في هذا الحديث بوضوح فَـ(الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ).
فإذن الأحوال كما قال أهل العلم ثلاثة: اثنان منها لا تدخل في ذلك، وهي -نعيدها باختصار-:(72/6)
الأولى: ما ورد النص به؛ فإنه لا يجوز أن يبقى في النفس تردد مع ورود النص: من الكتاب، أو السنة، أو إجماع أهل العلم في مسألة، أو إجماع أهل السنة في مسألة.
والثاني: أن يختلف المفتون، وقد أوضح لهم حاله، فإن عليه أن يأخذ بفتوى الأعلم الأفقه منهم، أو من تطمئن نفسُه لفتواه.
والحالة الثالثة: أنه إذا لم يحسن إبداء المسألة، أو لم يستفصل المفتي، فرجع الأمر فيما بينه وبين المفتي إلى عدم وضوحٍ في موافقة حكم الله في المسألة، فإنه يترك الأمر ويخلو من الخلاف استبراءً لدينه، ورغبة في زوال تعرضه للإثم.
ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(72/7)
الحديث الثامن والعشرون -
عن أبي نَجِيحٍ العِرباض بنِ سارِية - رضي الله عنه - قال: وَعَظَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً، وَجِلَت منها القلوبُ، وذَرفَت منها العيونُ، فقلنا: يا رسول الله؛ كَأنّها مَوعظةُ مُوَدَّعٍ، فَأوصِنا، قال: «أُوصيكُمْ بِتَقْوَى الله عَزَّ وجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطاَّعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّر عَليَْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينْ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةً ضَلاَلَةٌ» [رواه أبو داوود والترمذي، وقال (حديث حسن صحيح) ].
[الشرح]
هذا الحديث أصل في بابه؛ في بيان الاستمساك بتقوى الله جل وعلا والوصية بذلك، والاستمساك بالسمع والطاعة، وبالسنة، وبطريقة الخلفاء الراشدين المهديين مِنْ بعد النبي عليه الصلاة والسلام(73/1)
(قال العِرباض بنِ سارِية - رضي الله عنه - قال: وَعَظَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -موعظةً، وَجِلَت منها القلوبُ، وذَرفَت منها العيونُ)، (وَعَظَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -موعظةً) الوَعْظُ هو التذكير بالأمر والنهي، وبحقوق الله جل وعلا في الأمر والنهي؛ يعني فيما أمر به ونهى عنه، وهذا يكون معه غالبا التخويف، فالموعظة قد تكون بترغيب، وقد تكون بترهيب، والغالب عليها أن يكون معها التخويف من عدم امتثال الأمر أو بإرتكاب النهي، قد جاء ذكر الموعظة في القرآن في عدد من المواضع، والمفسرون فسَّروها باتباع الأمر، أو بالتذكير باتباع الأمر، والتذكير بإجتناب النهي، قالوا إن لفظ (وَعَظَ) بمعنى جَعَلَ غيرَه في عِظَةٍ. والعِظَةُ نوعٌ مما يحصل به الاعتبار، وذلك من آثار الاستجابة للتخويف أو التهديد أو الإنذار أو الإعلام وما شابه ذلك؛ فلهذا فُسِّرت الموعظة فيما جاء في القرآن بأنها كما ذكرت لك امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وإلقاء ذلك بشيء من التخويف منهما. وعَمَّتْ الموعظة أمور الترغيب والترهيب، فيقال هذه موعظة إذا ذَكَّر بالله وبالآخرة، وبأمر الله ونهيه، وبعقوبة المنتهي عن الأمر، أو المرتكب للمنهي حين يذكِّر بعقوبته في الآخرة أو في الدنيا صار واعظا.(73/2)
المقصود من هذا أن قوله هنا (وَعَظَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً، وَجِلَت منها القلوبُ، وذَرفَت منها العيونُ) سبب الوجل؛ وجل القلوب، وسبب أن العيون ذرفت أنها اشتملت على أشياء منها: التخويف والوعيد، ومنها أنه نبههم أنه سيفارقهم. فجمع عليه الصلاة والسلام لهم ما بين الإشعار بمفارقته لهم عليه الصلاة والسلام وما بين تذكيرهم بأمر الله جل وعلا، وبحدوده وأوامره، والتخويف من مخالفة ذلك، فقال - رضي الله عنه - (وَجَلَت منها القلوبُ، وذَرفَت منها العيونُ)، والوجل؛ وجل القلوب أعظم من خوفها؛ لأن الوجل خوف وزيادة، وهو الخوف الذي معه اضطراب وتردد في هذا الأمر؛ يعني أنه خاف منه مع كون القلب راغبا راهبا في هذا الأمر، فهناك درجات فيه الرهبة، والخوف، والوجل، فكلها داخلة في معنى الخوف، لكن كل واحدة لها مرتبتها.
قال (فقلنا: يا رسول الله؛ كَأنّها مَوعظةُ مُوَدَّعٍ) يعني لما اشتملت عليه من الإشارات، ولما كانت عليه من أنها جامعة فاستشفُّوا أنها موعظة مودع لهم، فكأنه عليه الصلاة والسلام جمع لهم ما يحتاجون، وأرشدهم بذلك بأنه ربما فارقهم؛ لأنه جمع أشياء كثيرة في مكان واحد.
قال (فَأوصِنا) ومر معنا معنى الوصية، قال عليه الصلاة والسلام (أُوصيكُمْ بِتَقْوَى الله - عز وجل -) والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين، وقد ذكرنا لكم أن معنى التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وعقابه في الدنيا الآخرة وِقاية، وهذه الوِقاية بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، والعمل بسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ([32]) والتقوى في كل مقام بحسبه.(73/3)
فقد فسرت التقوى بعدة تفسيرات ذكرناها لكم، ومن أحسنها قول طلق بن حبيب رحمه الله تعالى ”أن التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.“ فجمع في هذا التعريف بين الترك والعلم والنية، وهذا هو حقيقة التقوى في الأوامر والنواهي.
قال (أُوصيكُمْ بِتَقْوَى الله عَزَّ وجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطاَّعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّر عَليَْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا)، قال (وَالسَّمْعِ وَالطاَّعَةِ) والسمع والطاعة حقان للإمام أو للأمير، وهما من ثمرات البيعة؛ لأن البيعة عقد وعهد على السمع والطاعة، فتحصل بالمباشرة وتحصل بالإنابة. فـ(السَّمْعِ وَالطاَّعَةِ) من ثمرات البيعة، فالإمام المسلم إذا بايعه طائفة من أهل العلم، ومَنْ يُسار إليهم في الحل والعقد فإنّ في بيعتهم له على السمع والطاعة، وعهدهم له أن يسمعوا ويطيعوا في ذلك مبايعة بقية المسلمين، وعلى هذا جرت سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين. فـ(السَّمْع وَالطاَّعَة) -كما ذكرت لك- لا فرق بينه وبين البيعة، ومن فرق بين البيعة وبين السمع والطاعة في الحقوق التي للإمام المسلم أو للأمير المسلم، فلا دليل له من سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل الصحابة والتابعين، ولا من قول أهل السنة والجماعة؛ أتباع السلف الصالح من عقائدهم.(73/4)
فـ(السَّمْع وَالطاَّعَة) للأمير المسلم حق من حقوقه؛ لقول الله جل وعلا ?أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ?[النساء:59] لكن السمع والطاعة له لا تجب له حقا له استقلالا، وإنما هي على وجه التبع يعني أنها تبع لطاعة الله وطاعة رسوله؛ ولهذا جاء في الأحاديث بيان أن «إنّمَا الطّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ». والمعروف هو ما ليس بمعصية؛ يعني ما عرف في الشرع حسنه وهو ما ليس بمعصية؛ ولهذا جاء في أحاديث أخر بيان أنّ الطاعة تكون في غير المعصية، وعلى هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في امتثالهم لهذه الوصية العظيمة منه عليه الصلاة والسلام (أُوصيكُمْ بِتَقْوَى الله عَزَّ وجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطاَّعَةِ). (السَّمْع وَالطاَّعَة) -كما ذكرتُ لك- يعني في غير المعصية، فإذا كان في الواجبات فالسمع والطاعة لأمر الله جل وعلا، ولحق الله جل وعلا لا لحق الأمير، وإذا كان في المباحات أو فيما يكون فيه الاجتهاد، فهنا يتوجه السمع والطاعة لحق الإمام أو لحق الأمير. يعني أن المسائل ثلاث:
- عليه السلام -ما وجب بأصل الشرع، فإنه يطاع فيه الأمير لأمر الله جل وعلا لذلك، وليست الطاعة هنا في الواجب من حقوقه، بل هو يطاع لحق الله جل وعلا في طاعته فيما أوجب جل وعلا.
- والحال الثانية: أن يأمر أو ينهى عن مباح، أو فيما فيه اجتهاد، أو عن مكروه أو ما أشبه ذلك، فإنه يطاع هنا لحقه هو؛ لأن الله جل وعلا جعل له السمع والطاعة.
صدق الله العظيم الحال الثالثة: أن يكون أمره بمعصية أو نهيه عن واجب، فهنا لا طاعة له؛ لأن طاعة الله جل وعلا حق مقدم على طاعة غيره ممن جعل الله جل وعلا له الحق، فمثلا: الوالدان، والمرأة لزوجها، والإمام، وأشباه ذلك ممن جعل الله جل وعلا لهم حقا في السمع والطاعة، فإنهم يطاعون في غير المعصية؛ يعني فيما جاء في الشريعة أنه غير محرم.(73/5)
قال (وَإِنْ تَأَمَّر عَليَْكُمْ عَبْدٌ)، في قوله (تَأَمَّر) معنى تغلّب، (وَإِنْ تَأَمَّر عَليَْكُمْ عَبْدٌ) يعني غلب عبد على الإمارة، فدعا لمبياعته أو دعا لأنْ يُسمع له ويطاع، فهنا يجب أن يُسمع له ويطاع؛ فلهذا قال العلماء الولايات الشرعية العامة تكون بإحدى طريقين:
?الطريق الأول: طريق الاختيار؛ أن يختار الإمام العام، أو أن يختار الأمير، والاختيار، ولاية الاختيار لها شروطها إذا كانت لأهل الحل والعقد، فإنهم يختارون من اجتمعت فيه الشروط الشرعية التى جاءت في الأحاديث، ومنها: أن يكون الإمام قرشيا، ومنها أن يكون عالما، ومنها أن يكون يحسن سياسة الأمور، وأشباه ذلك مما اشترطه أهل العلم في ولاية الاختيار.
?والقسم الثاني: ولاية التغلب: وهو أن يغلب الإمام، أن يغلب أحد أميرٌ أو غيره ممن لا تتوفر فيه الشروط، أو بعض الشروط، أو تكون تتوفر فيه لكنه غلب إماما آخر قبله، فإنه هنا إذا غلب فيبايع، ويُسمع له، ويطاع؛ لأن البيعة هنا أصبحت بيعة تغلب، والولاية ولاية غلبة وسيف. فهذا كما أوصى هنا عليه الصلاة والسلام أن يسمع ويطاع لمن لم تتوفر فيه الشروط التي تكون في ولاية الاختيار؛ حيث قال هنا عليه الصلاة والسلام (وَإِنْ تَأَمَّر)، ونفهم من التأمُّر أنه لم يكن ثم اختيار، فهذه ولاية التغلب، وقال (وَإِنْ تَأَمَّر عَليَْكُمْ عَبْدٌ) ومعلوم أن العبد لا يُختار لِيَلِي أمور المسلمين، فدل هذا على أن وِلاية الغلبة يجب لمن غلب فتولى، يجب له السمع والطاعة، كما تجب للإمام الذى يُختار اختيارا، لا فرق بينهما في حقوق البيعة والسمع والطاعة؛ وذلك لأجل المصلحة العامة من المسلمين.(73/6)
وإذا نظرت فإنّ الاختيار وقع في تاريخ هذه الأمة على الخلفاء الراشدين الأربعة، وعلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وما بعد معاوية من عهد يزيد إلى زماننا هذا، فالولايات ولايات تغلب؛ لأنها تكونت الدّويلات، وهذا يعارض هذا إلى آخره، فكلها لم تنشأ كتواتر أو كتتابع لأصل الخلافة الراشدة، وإنما صارت ولاية تغلب، وهذا هو الذى جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال «تكون خلافة النبوة ثلاثين عاما» أو قال «ثلاثون عاما خلافة النبوة ثم يكون ملكا عاضا » وهكذا، يعني أن الخلافة التي على منهاج النبوة تكون في هذه الأمة فقط لمدة ثلاثين عاما بعده عليه الصلاة والسلام، وهي التي انتهت بمقتل علي - رضي الله عنه -. وولاية معاوية كما هو معلوم ولاية اختيار؛ لأن الحسن بن علي تنازل له عن الخلافة، فاجتمع عليه الناس، وسُمِّي ذلك العام عام الجماعة؛ لاجتماعهم على معاوية - رضي الله عنه - وما بعده أصبحت ولاية تغلب، وأهل السنة والجماعة أجمعوا لما صنفوا عقائدهم من القرن الثاني إلى زماننا هذا على أن البيعة منعقدة لمن تغلب، ودعا الناس إلى إمامته، مع أنّ الذى يشترط للإمام غير متوفر فيه أو هو متوفر فيه، فالأمر سِيَّان من جهة حقوقه، حقوق الطاعة والسمع والبيعة، وما يترتب على ذلك من الجهاد معه والتجميع عليه، وعدم التنفير عنه، وسائر الحقوق التي جاءت بالأئمة والأمراء.(73/7)
قال هنا عليه الصلاة والسلام (وَإِنْ تَأَمَّر عَليَْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ) الفاء هذه تعليلية (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا) يعني سيرى اختلافا على الأمراء، فوصيته عليه الصلاة والسلام له أنه من عاش فرأى الاختلاف، فعليه بالسمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد. وجاء في أحاديث أخر بيان بعض هذا الاختلاف، وما يحصل من الفرقة وأشباه ذلك، يجمعها أن الاختلاف اختلاف على الدين، أو اختلاف على الأمير، فمن رأى الاختلاف الكثير فإنّ عليه أن يلزم التقوى، وعليه أن يلزم السمع والطاعة، فهذه وصيته عليه الصلاة والسلام إذ قال (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا)، والاختلاف الكثير يعني عما كانت عليه سنته عليه الصلاة والسلام.
فأوصى فقال (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيين) عليكم بسنتي يعني الزموا سنتي، ابحثوا عنها والزموها، فما أوصيت فيه في سنتي فالزموه، وهذا هو الواجب على العباد حين الاختلاف.(73/8)
إذا اختلفوا في العقائد فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إذا اختلفوا في الشرائع وفي الأحكام فعليهم أن يبحثوا في سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إذا كثر الاختلاف بينهم في أمور الفتن والآراء إلى آخره، فعليهم أن يرجعوا إلى سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين؛ فإن فيها النجاة، ولم نرَ مسألة من المسائل التي من أجلها اختلف الناس في تاريخ الإسلام كله، من أوله إلى يومنا هذا إلا وفي السنة بيانُها، لكن يؤتى الناس من جهة أنهم لا يرغَبون في السنة، لا يرغبون في امتثال وصية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأمره ونهيه وبيانه عليه الصلاة والسلام؛ لهذا أوصى عليه الصلاة والسلام هذه الوصية العظيمة، فقال (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي) والسنة المقصود هنا بها الهدي والطريقة التي كان عليها عليه الصلاة والسلام، والسنة بيان للقرآن، فما كان من كلامه عليه الصلاة والسلام، وما كان من أفعاله فإنّ في ذلك السنة، وهي الطريقة والهدي الذي كان عليه عليه الصلاة والسلام، وهذا فيه بيان واضح لمعنى القرآن، حيث قال جل وعلا ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?[النحل:44] في سورة النحل، فقوله (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) الذكر هنا هو سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.(73/9)
قال (وسُنَّةِ الْخُلفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيين)، (الْخُلفَاء) هم الذين خلفوا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في وِلاية الأمر على طريقته عليه الصلاة والسلام. والخلفاء الراشدون من بعده عليه الصلاة والسلام أربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ووُصفوا بأنهم راشدون؛ لأنهم قاموا بالرشد، والرشد: هو العلم بالحق والعمل به. فسموا راشدين؛ لأنهم كانوا علماء في الحق عملوا به، وليست هذه الصفة إلا لهؤلاء الأربعة، وفي عمر بن عبد العزيز رحمه الله خلاف، هل يعد من الخلفاء الراشدين أم لا يعد من الخلفاء الراشدين؟ والذي عليه نص كثير من أهل العلم كأحمد وغيره أنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه علم الحق فعمل به، وعامة الولاة ليسوا على ذلك، بل منهم من لا يعلم الحق أصلا، ومنهم من يعلم الحق فيخالفه لأهواء وشهوات، ونوازع مختلفة، فالذين وصفوا بأنهم خلفاء راشدون هؤلاء هم الأربعة أصحاب محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وعمر بن عبد العزيز كذلك خليفة راشد.(73/10)
وهنا تنبيه على مقالة ربما ترد على ألسنة بعض الكُتَّاب، وهي غير سليمة من جهة مكانة الصحابة رضوان الله عليهم، غير متفقة بالجملة مع عقائد أهل السنة والجماعة فيما نفهم من عقائدهم، وهي قولهم عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إنه خامس الخلفاء الراشدين. وهذا ليس بسديد؛ لأن معاوية - رضي الله عنه - أعظم منزلة من عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، وإذا كان ثم خامس للخلفاء الراشدين فهو معاوية؛ لأنه أحق بهذا الوصف من عمر بن عبد العزيز، لكن عمر وصفه جماعة من أهل العلم بأنه خليفة راشد، ومعاوية بحسب الاعتبار أنه اجتمع عليه؛ فإنه خليفة راشد. لكن لما جعل الأمر ملكا في بنيه ملكا في يَزِيد كان أهل العلم يعبرون عنه بأنه ملك راشد، وخير ملوك المسلمين على الإطلاق، وهو خليفة؛ لأنه خلف ما بعده بالحق، وليس ثم خامس للأربعة الخلفاء، فإذا قيل إنّ عمر بن عبد العزيز رحمه الله خليفة راشد هذا حق، ولكن لا يقال هو خامس الخلفاء الراشدين؛ لأن معاوية أحق منه بهذا الوصف، لو كان هذا الوصف سائغا.
أما الخلفاء فهم أربعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام «ثلاثون سنة خلافة نبوة» فما بعد ذلك إنما هو وصف لأجل التّحبيب في خِلاَلِ الأمراء وأوصاف الولاة.
قال عليه الصلاة والسلام (الْمَهْدِيين) يعني الذين من الله عليهم فهداهم للحق فعملوا به.
قال (عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) (بِالنَّوَاجِذِ) وهي الأضراس، وأشد ما يكون الاستمساك إذا أراد المرء أن يستمسك بشيء بأسنانه أن يعض عليه بأضراسه؛ لأنها أشد الأسنان. فقال عليه الصلاة والسلام (عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) يعني كونوا مستمسكين بها على أشد ما يكون الاستمساك بسنته عند الاختلاف، وسنة الخلفاء الراشدين عند الاختلاف، والتقوى والسمع والطاعة؛ فإن في هذا النجاة، وهذا مجرَّب في كل ما مر في تاريخ الإسلام من تقلبات وفتن، فإنّ من أخذ بهذه الوصية نجا في دينه ودنياه.(73/11)
قال عليه الصلاة والسلام (وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)، (وَإيَّاكُمْ) هذا تحذير ونهي، ومن الصيغ التي يفهم منها النهي أو يعبر بها عن النهي صيغة إياك، وكذا كما قرره علماء الأصول، فقوله: (وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ) هذا في معنى قوله: لا تقربوا أو لا تأتوا محدثات الأمور. فهو نهي عن محدثات الأمور. والمحدثات جمع محدثة، وهي كل ما أحدث بعده عليه الصلاة والسلام على غير مثال سابق له، وهذه المحدثات التي أحدثت على قسمين:
منها محدثات من قبيل المصالح المرسلة التي أوضحنا لكم معناها وضوابطها في أوائل هذا الشرح، فهذه لا تدخل في المحدثات المذمومة؛ لأنها محدثة لغة، ولكنها ليست بمحدثة شرعا؛ لأن لها الدليل في الشرع الذي دل على اعتبارها، وهو كونها من المصالح المرسلة، وأشباه ذلك على الضوابط التي ذكرنها في ذلك المقام.
والقسم الثاني: المحدثات التي هي في الدين بما أُحدث مع قيام المقتضي لفعله في عهده - صلى الله عليه وسلم - وتُرِك، فما ترك في عهده من العبادات أو مما يتقرب به إلى الله جل وعلا مع قيام المقتضي بفعله ولم يفعل، فهو محدثة في الدين، فهو بدعة. وهذا القسم هو الذي يتوجه إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - (وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) وهذا يعني أن نعكس الأمر، فيكون المنهي عنه هي الضلالات من البدع، وهي البدع في الشريعة؛ البدع في الدين.
وأما البدع من حيث هي في اللغة فإنها قد تكون، ولا ينهى عنها في الشرع، كما قال عمر حين جَمَعَ الناس، أو حين جمع الناس على إمام واحد، فقال ”نِعْمَتِ البدعة هذه“فجعلها بدعة يعني: في اللغة فليست كل بدعة في اللغة بدعة في الشرع؛ لأنها قد تكون بدعة لغة، ولا تكون بدعة شرعا لدخولها في تعريف المصالح المرسلة، أو في العفو العام أو ما أشبه ذلك.(73/12)
أما ما يتقرب إلى الله به من العبادات، وقد قام المقتضى بفعله في عهده عليه الصلاة والسلام، ولم يفعل فإنه من البدع المحدثات، ومن البدع الضلالة، فقال (فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةً ضَلاَلَةٌ) وهذه كلية من صيغ العموم، وهذا يدل على إبطال قول من قال: إن من البدع في الدين ما ليس بضلالة. وهو ما أحدثه العز بن عبد السلام في الأمة من تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة، ومستحبة، ومباحة، ومكروهة، ومحرمة. فتبعه الناس على ذلك، وانتشرت البدع على هذا التعريف أو هذا التقسيم بقوله إنّ من البدع ما هو واجب، ومن البدع ما هو مستحب، وأشباه ذلك، وهذا مصادم لهذا النص، وقولهم بالرأي، والقول بالرأي مذموم إذا كان في مقابلة النص ومصادمته، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لنا (فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةً ضَلاَلَةٌ) فهذه كلية، فمن قال: إن ثم من البدع ما ليس بضلالة. فهو مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام (فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةً ضَلاَلَةٌ) فما من بدعة في الدين إلا وهي ضلالة، كما قال عليه الصلاة والسلام.
على تعريف البدعة الذي ذكرناه يخرج من ذلك المصالح المرسلة؛ لأنها لا تدخل في البدع، كما هو معروف من تعريف البدعة، وتعريف المصلحة المرسلة؛ حيث ذكرنا لك ذلك مفصلا في موضعه.(73/13)
الحديث التاسع والعشرون -
عن مُعاذِ بِنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار. قال: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمِ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ ا لله تَعَالى عَلَيْهِ:تَعْبُدُ ا لله لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤتِي الزَّكَاةِ، وَتَصومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ »، ثُمّ قال: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلى أَبْوَابِ الْخَيرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةٌ تُطُفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ الليل»، ثم تلا قوله تعالى ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ? حتّى بلغ ?يَعْمَلُونَ?[السجدة:16-17]، ثمّ قال:«أَلاَ أُخْبِرُكُ بِرَأْسِ الأَمْرِ، وعمودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قلت:بلى يا رسول الله، قال: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ»، ثم قال:«أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلَّهِ؟» قلت: بلى يا رسول الله، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وقال: «كفَّ عَلَيْكَ هَذَا »، قلت: يا نَبِيَّ الله؛ وإِنّا لَمُؤاخَذون بما نَتَكَلَّم به؟ فقال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ _ أَو قال: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ _ إِلاّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ » [رواه الترمذي وقال(حديث حسن صحيح)]
[الشرح]
هذا الحديث فيه ذكر أشياء من أبواب الخير، وهو من الأحاديث العظيمة التي لكل جملة منه شواهد كثيرة؛ ولهذا هو حديث حسن بمجموع شواهده لجمله المختلفة.(74/1)
قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - (قلتُ: يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار) هذا فيه ما ينبغي التأدب به؛ على ما ينبغي التأدب به لأهل العلم؛ لأن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، ورحمه من أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، بل هو أعلم الأمة بالحلال والحرام، فهو من أهل العلم، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي عليه أن يكون حريصا على ما يقربه من الجنة ويباعده عن النار، قال معاذ (يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار) وهذا مما ينبغي لكل طالب علم أن يحرص عليه؛ ما يقربه إلى الجنة، وما يباعده من النار. لأن العلم له شهوة، والعلم له عنفوان، وقد يصرف صاحبه عن السعي في الغاية من العلم، وهو ما يُقرِّب من الجنة، وما يباعد عن النار، وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: ”إن للعلم طغيانا كطغيان المال“، فالعلم يُطغي إذا لم يكن صاحبه يسعى فيما يقرِّبه إلى الجنة، ويباعده عن النار. فالعلم له مقتضيات كثيرة، وأصحاب العلم وأهل العلم وطلبة العلم ينبغي لهم أن يكونوا ألين الناس في غير تفريط، وأن يكونوا أبصر الناس، وأحق الناس بالحكمة والأخذ بما يقربهم إلى الله جل وعلا؛ فهم القدوة، وهم البصراء في العلم والعمل. لهذا سئل معاذ هذا السؤال، وذلك من حكمة الله جل وعلا أن يسأل ليبصِّر أهل العلم جميعا بما ينبغي أن يكونوا عليه، قال (يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار. قال عليه الصلاة والسلام «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمِ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله تَعَالى عَلَيْهِ»). هذا السؤال العظيم ”ما يقرب إلى الجنة، ويبعد عن النار“، سؤال عظيم، وهو شاق من حيث الامتثال، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فإذن نفهم من هذا أن ثم كلفة في أن يمتثل المرء بمقتضى العلم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه. والله جل وعلا إذا أقبل(74/2)
العبد يسر عليه الأمر، كما قال جل وعلا ?فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى?[الليل:5-7] فتيسير الله جل وعلا أمور الخير للعبد هذا يكون بشيء يبذله العبد (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى).
قال عليه الصلاة والسلام هنا (وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ ا لله تَعَالى عَلَيْهِ) ثم فصّل فقال (تَعْبُدُ الله لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (تَعْبُدُ ا لله) يعني أن تتوجه بجميع أنواع العبادات إلى الله جل وعلا وحده، فإذا دعوت؛ دعوت الله، وإذا سألت؛ سألت الله، وإذا صليت؛ صليت لله، وإذا استغثت؛ استغثت بالله، وإذا أعظمت الرجاء أعظمته بالله.
وكل العبادات القلبية، واللسانية، والعملية بالجوارح كلها تكون لله جل وعلا وحده، ولا يكون لمخلوق فيها نصيب، قال (تَعْبُدُ ا لله لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) يعني كبير الشرك وصغيره وخفيه؛ لأن كلمة شيئا نكرة جاءت في سياق النفي فتعم كل ما كان في معناها. فلا يشرك بأي شيء؛ لا يشرك بالهوى، لا يشرك بالمخلوق البشر، لا يشرك بالملائكة، لا يشرك بعظيم، لا يشرك بصالح، لا يشرك بجني، بإنسي، بشجر، بحجر، بأي نوع مما خَلَق الله جل وعلا، وهذا لا شك أنه عظيم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.(74/3)
فعبادة الله جل وعلا وحده دون ما سواه هذه غاية إرسال المرسلين، ونفي الشرك ونبذه والتخلص منه، أيضا مما جاء به المرسلون وأقاموا رسالاتهم عليه، وهذا يتنوّع، فما كان من قبيل الشرك الأكبر فظاهر وجوب اجتنابه، وأنّ من فعله فهو مشرك كافر تارك للدين مع اجتماع الشروط وانتفاع الموانع. وما هو أقل من ذلك الشرك الأصغر والخفي، ينبغي على العبد أن يسعى في تجنبه؛ يعني ينبغي وجوبا يجب عليه أن يسعى في تجنبه، وأن يجاهد نفسه، والشرك الأصغر يدخل فيه الرياء يسير الرياء، والشرك الخفي أيضا يدخل فيها أشياء، والشهوة الخفية، والتسميع والمقاصد، وأن يكون قصد المرء الدنيا فيما يأتي ويذر، وفي الأمور الدينية وطلب العلم، وأشباه ذلك مما يراد لله.
فإذن عبادة الله وحده لا شريك له، هذا حاصل إن شاء الله عند الموحد، لكن يُخاف على الموحد من أنواع الشرك الأصغر والخفي، مما يكون من يسير الرياء والتوجه لغير الله في ذلك، فهذه عظيمة:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة
وإني لا إِخالُك ناجيا
يعني أن هذا الأمر شديد، ويجب أن توطن نفسك على إخراج المخلوق من قلبك، وأن يكون القلب خالصا لله متوجها لله؛ في تحركه، في سكناته، في أمره، في نهيه، في تصرفك مع أهلك، مع أقاربك، مع الأمور العامة، مع الأمور الخاصة، إذا كان كل شيء لله تمّ الإخلاص.
قال (وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤتِي الزَّكَاةِ، وَتَصومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ) وهذه الأربعة مر بيانها.
ثم قال (أَلاَ أَدُلُّكَ عَلى أَبْوَابِ الْخَيرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةٌ تُطُفِئُ الْخَطِيئَةَ) الصوم يريد به صوم النفل؛ لأنه قدم صيام رمضان، ثم قال (أَلاَ أَدُلُّكَ عَلى أَبْوَابِ الْخَيرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ) جنة يعني وقاية يقي العبد مما يسخطه الله جل وعلا؛ لأن الصيام فيه تذكير بحقوق الله جل وعلا وحقوق عباده، فهو جُنّة من نفوذ الشيطان إلى العبد.(74/4)
وكما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال «إذا دَخَلَ رَمَضَان -أو قال- إذا جاء رمضان فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنّةِ، وَغُلّقَتْ أَبْوَابُ النّارِ، وَصُفّدَتِ الشّيَاطِينُ » وقال عليه الصلاة والسلام في حق من لم يجد طولا للنكاح «ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء»، فالصيام جنة؛ يعني يكون به الاجتنان؛ لأن الجنة والاجتنان هو الحاجز الذي يَقِي. فالغطاء هو الجنة، ومنه قيل للجنين جنين؛ لأنه في غطاء في استتار، وللمجن مجن لذلك، إلى آخره.
قال (وَالصَّدَقَةٌ تُطُفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ) الصدقة بأنواعها تطفئ الخطايا؛ الصدقة بالقول وبالعمل، الواجبة والمستحبة، والصدقة بالمال، كل هذه تطفئ الخطايا؛ لأنها حسنات، والله جل وعلا قال ?إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ?[هود:114]، وقد مر معنا قوله عليه الصلاة والسلام «اِتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» فإذا فهمت معنى الصدقة العام الشامل الذي ذكرناه لك في درس مضى، فإنه كلما حصلت منك خطية فعليك بكثرة الصدقات، والخطايا لا تحصى؛ لأنه ما من حال تكون فيه إلا ولله جل وعلا أمر ونهي في ذلك، وقل من يكون ممتثلا للأمر والنهي في كل حالة. فإذن لا بد من الإكثار من الصدقات؛ فهي أبواب الخير، قال (تُطُفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ) النار إذا شبت لا يطفئها إلا الماء، فإنك تأتي بالماء فتنطفئ، وهذا مثال الحسنات بعد السيئات.(74/5)
قال (وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ الليل) صلاة الرجل في جوف الليل، يعني أن يقوم الليل القيام المستحب، وقيام الليل على درجات، وأعلاه أن يكون كقيام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء في آخر سورة المزمل ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ?[المزمل:20]، فأفضله ما كان بعد نصف الليل إلى الفجر، وبعده من أول ثلث الليل الآخر إلى الفجر، ثم هكذا مراتب بما يتيسر للعبد، فصلاة الرجل في جوف الليل هذه من أعظم أبواب الخير، وبها يحصل للمرء من النور في قلبه، وحسن تعامله مع ربه، وخشيته له، والتنقب عن دار الدنيا، والرغب في الآخرة ما لا يدخل تحت وصف. أعاننا الله وإياكم على ذلك، فإن صلاة الرجل والمرأة في جوف الليل هذه يكون معها التدبر للقرآن، وحسن منجاة الله، والدمعة التي تُسْبَلُ من خشية الله جل وعلا إذ يكون المرء في ذلك على يقين من أنه إنما قام لله جل وعلا وحده، فتعظم الصلة، ويعظم التعلق، ويعظم إخبات القلب، ويعظم الرجاء، وتعظم الرهبة، ويعظم الخوف، ويؤثِّر القرآن في القلوب تأثيرا عظيما، فأصحاب الليل هم أهل التقوى.
قال جل وعلا ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ ?[السجدة:16]يعني في وصف عباده المخبتين المنيبين في سورة ?الم? السجدة ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[السجدة:16-17] وهذا من فضل الله جل وعلا عليهم.(74/6)
قال (ثمّ قال:«أَلاَ أُخْبِرُكُ بِرَأْسِ الأَمْرِ، وعمودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قلت:بلى يا رسول الله، قال: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ») لأن الأمر الذي هو الدين رأسه الإسلام، فإذا صدع الرأس فلا حياة، فإذا ذهب الإسلام فلا حياة للمرء في الدين، فقال (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ) وهو الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
قال (وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ) العمود هو ما يقوم عليه البناء، فإذا كان ثم أشياء يقوم عليها البناء فإنّ بالصلاة يقوم البناء؛ بهذا قال (وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ) فعمود الأمر؛ عمود الدين الصلاة، وقال (عَمُودُهُ)؛ لأن الصلاة هي الركن العملي الذي به يحصل الامتثال لمقتضيات الإيمان العملية، يعني بركن الإيمان الذي هو العملي. فالإيمان: قول واعتقاد وعمل، والعمل عموده الصلاة، فإذا ذهبت الصلاة فلا قيام في ذلك؛ لهذا قال عمر - رضي الله عنه - ”ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة“ وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «الْعَهْدُ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصّلاَةُ. فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ».(74/7)
قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك (وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)، (وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ) تشبيه للأمر بالجَمَل، والجَمَل أعلاه ذروة السنام، والجمل متحرك، والجهاد أيضا يبعث على الانتشار؛ فهو سبب انتشار الإسلام، وامتداد الدخول في الدين، فمثَّلَه عليه الصلاة والسلام يعني مثل الدين بالراحلة بالجمل، وجعل الجهاد من هذه الراحلة ذروة السَّنام؛ لأنه بارز بين متميز. فالإسلام تميز من بين الأديان كتميز الجمل بذروة سنامه بالجهاد، فالجمل متميز بذروة السنام؛ يعني بالسنام بعامة وبذروة السنام، وهذا الإسلام تميز بالجهاد في سبيل الله، والجهاد أنواع، والمراد به هنا الجهاد جهاد الأعداء، وهو كما هو معلوم على مرتبتين: واجبة، ومستحبة. والواجب أيضا على قسمين: واجب عيني، وواجب كفائي. كما هو معلوم في مكانه من الفقه.(74/8)
قال (ثم قال:«أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلَّهِ؟» قلت: بلى يا رسول الله، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وقال: «كفَّ عَلَيْكَ هَذَا») فاللسان هو أعظم الأعضاء جُرْما؛ لأنه سهل الحركة، كثير الخطايا، فباللسان يحصل الاعتقاد الزائف، باللسان يقول المرء الكلمة لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا، باللسان تحصل العداوات. ([33]) وقد قال جل وعلا ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53]، وباللسان يحصل الوقوع في المؤمنين والإيذاء بغير حق، قد قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا?[الأحزاب:58]، والإيذاء أعظم أنواعه ما كان باللسان، وقد أوذيت عائشة رضى الله عنها وأرضاها باللسان بما بلغ بها المبلغ الذي تعلمون في قصة الإفك، باللسان يحصل نشر الخير وباللسان يحصل نشر الشر. فإذا حاسب المرء نفسه على لسانه، حصل له مِلاك هذا الأمر، وهو أنه ملك عليه دينه، وأما إذا أطلق لسانه في كل شيء، فإنه يضر نفسه ضررا بالغا ولا يملك على نفسه دينَه، واللسان قد جاءت الأحاديث الكثيرة في بيان شأنه، ومر معنا في حديث مضى بعض ذلك.(74/9)
فقال (كفَّ عَلَيْكَ هَذَا) يعني أمسك، فالكلمة إذا لم تعلم أنها من الحق الذي تؤجر عليه، فاتركها؛ لأنها عليك وليست لك، قال (قلت: يا نَبِيَّ الله؛ وإِنّا لَمُؤاخَذون بما نَتَكَلَّم به؟ فقال «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ»)؛ لأنه لا يتوقع من معاذ، وهو العالم بالحلال والحرام الفقيه أن يسأل هذا السؤال، فقال (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ) يعني استغراب من هذا السؤال الذي لم يتوقع من معاذ أن يسأله، فقال (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَو قال: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلاّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) يستنكف كثير من الناس؛ يعني من المسلمين أن يعمل عملا محرما من الكبائر بجوارحه، تجد أنه يستنكف أن يأكل الربا، ويستنكف أن يشرب الخمر، يستنكف أن يأتي كبيرة الزنا، يستنكف أن يأتي كبيرة السحر، يستنكف أن يأتي كبيرة قذف المحصنات الغافلات، يستنكف أن يأتي كذا وكذا من الكبائر، ولكنه في كبائر اللسان يقع فيها بلا مبالاة؛ فيقع في النميمة من دون أن يشعر، فينقل كلاما، وبه يفرَّق بين المرء وبين أخيه، يقول فلان سمعته يقول فيك كذا وكذا، وهذه نميمة أن تنقل كلاما يوقع الضغينة والشر في نفس مسلم على أخيه المسلم، وهي كبيرة من الكبائر، وهي الحالقة، ويَغتاب، والغيبة محرمة، وهي عند كثير من أهل العلم كبيرة، ومدارها على اللسان، وقد قال جل وعلا ?وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ?[الحجرات:12]، قال طائفة من أهل العلم: لما شبّه الغيبة بأكل لحم الميت دل على أنها من الكبائر؛ لأن المشبه به كبيرة، فيأخذ المشبه حكم المشبه به، فدل على أنها من الكبائر. وهكذا في أصناف شتى، فما وُجِدت العداوات والبغضاء إلا باللسان، وما تفرقت الأمة إلا باللسان قبل الأعمال، فاللسان هو مدار الأمر؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ(74/10)
ذَلِكَ كُلَّهِ؟) يعني برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، قال (بلى يا رسول الله)، قال (كفَّ عَلَيْكَ هَذَا)، فهذه وصية عظيمة، وسبب التعذيب، تعذيب كثيرين في النار، أنهم لم يكفوا ألسنتهم عما لا يحل لهم؛ فلهذا علينا أن نَحْذَرَ اللسان أعظم الحذر، فنوصي بهذه الوصية التي أوصى بها المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله (كفَّ عَلَيْكَ هَذَا).
فأوصي نفسي وإياكم بأن نكف ألسنتنا، إلا عن شيء علمنا حُسْنَه، فإذا خاطبنا إخواننا، فلنخاطبهم بالتي هي أحسن ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ?[الإسراء:53]، أحسن ما تجد من اللفظ قُلْهُ لوالدك، لوالدتك، لإخوانك، لأخواتك، لأهلك، لإخوانك المؤمنين؛ لأنه بهذا تبعد مدخل الشيطان في التفريق ما بين أهل الإيمان.
وما حصل، ما حصل في تاريخ الإسلام، وفي زماننا هذا من أمور منكرة إلا بسبب إطلاق اللسان فيما لا يُعلم أنه من الحق، وكل يتكلم بما شاء، فحصل ما لم يحمد، نسأل الله جل وعلا أن يلزمني وإياكم ما فيه صلاحنا في قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا.(74/11)
الحديث الثلاثون -
وعن أبي ثَعْلَبة الخُشَني جُرْثُومَ بن ناشِرٍ، - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللهَ [تَعَالَى] فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَّرمَ أَشْيَاءَ، فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ [رَحْمَةً] لَكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا» [حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.]
[الشرح]
هذا الحديث أيضا من الأحاديث الأصول العظيمة، (عن أبي ثَعْلَبة الخُشَني جُرْثُومَ بن ناشِرٍ)، (جُرْثُومَ)، وجرثومة معناها الأصل الذي يرجع إليه، -هذه بالمناسبة-، فجرثوم، يعني كلمة، اسم له دلالته القوية في اللغة، يعني هو أصل لغيره، والجرثومة هي الأصل، وليست هي كلمة ذم، وإنما هي في اللغة ما يدل على أنه أصل لغيره، قال جرثوم بن ناشر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا » الحديث.
قوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا) يُعنى هنا بالـ(فَرَائِض) ما جاء إيجابه في القرآن، قال: (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا)، (فَرَضَ) يعني أوجب واجبات فلا تضيعوها، ومن المعلوم أن كلمة (فَرَضَ) في القرآن قليلة، والفرض قليل في الكتاب والسنة؛ ولهذا ما دل القرآنُ على وجوبه، فهو فرض، فقوله عليه الصلاة والسلام هنا (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا) يعني ما أوجبه الله جلا وعلا في القران، فما ثبت في القرآن وجوبُه، فيسمى فرض بهذا الحديث:(75/1)
ولهذا ذهب جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد على أنّ الفرض أعظم من الواجب من جهة أنّ ما أوجب الله جل وعلا يقال له فرض، وما دلت السنة على وجوبه يقال له واجب إلا إذا أتى بصيغة الفرض، ففرّق أحمد وجماعة من أهل العلم بين الفرض والواجب من جهة الدليل، لا من جهة المرتبة. فهُما من حيث الحكم التكليفي واحد، حكمُهما الوجوب، الفرض واجب، والواجب فرض، لكن ما كان من جهة الدّليل من القرآن سمي فرضا، وما كان من جهة الدليل من السنة سمي واجبا.
وقال بعض أهل العلم: إن الفرض أرفع درجة من الواجب، وهو المعروف من مذهب أبي حنيفة رحمه الله فإن الفرض عنده ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل غير قطعي، فحصل عنده أنه فرق بين الفرض والواجب من جهة الدليل عليه، ومن جهة مرتبته، فالفرض عنده أرفع من الواجب، والقول الأول: لا، الفرض الواجب من حيث المرتبة واحد، لكن من حيث الثبوت مختلف.
وقالت طائفة من أهل العلم وهو قول الجمهور: إن الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة، فيقال الصلوات الخمس فرائض، ويقال هي واجبة، ويقال صوم رمضان واجب، ويقال: فرض، يقال الحج واجب وفرض، يقال بر الوالدين واجب وفرض، وهكذا على القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأن الفرائض والواجبات معناهما واحد، فالفرض معناه الواجب.(75/2)
ولهذا نقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا) يعني ما أوجبه الله جل وعلا في القرآن فلا نضيعه؛ نهى عليه الصلاة والسلام عن تضييعه، وما أمر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل، وهو بدليل قول الله جل وعلا { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر:7] وبقوله جل وعلا?وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[آل عمران:132] والآيات كثيرة في هذا الباب، وبقوله عليه الصلاة والسلام «ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه» إلى أن قال«ألا وإن ما حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرّم الله» في الحديث المعروف، حديث تحريم الخمر في خيبر إلى آخره.
المقصود أن قوله (فَلاَ تُضَيِّعُوهَا) يعني امتثلوا وأدوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإنّ الله ما فرضها إلا لتُمتثل، وهذا دليل على أن من ضيع أثم؛ لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة أن ترك الواجب محرّم.
قال (وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا) هذا اللفظ (حَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا) يدخل فيه البحث من جهات كثيرة، لكن ألخص لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسنة، التي جاء فيها لفظ الحد والحدود، وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:
الأول: أن يؤتى بلفظ الحدود بإطلاق؛ يعني بلا أمر أو نهي بعدها، كقوله تعالى في سورة النساء ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ?[النساء:13].
أو تأتي، ويكون بعدها النهي عن الاعتداء، كقوله جل وعلا ?وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ?[الطلاق:1]، وكقوله ? تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا?[البقرة:229].(75/3)
والثالث أن يكون بعد ذكر الحدود النهي عن المقاربة، ?فَلَا تَقْرَبُوهَا?[البقرة:187] في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا?[البقرة:187] فهذه ثلاثة أنواع في القرآن.
وفي السنة أتى الحد أيضا ويراد به العقوبات المقدّرة.
أو يراد به الذنوب التي عليها عقوبات؛ يعني المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يعاقب.
إذا تقرر ذلك، فنرجع إلى تأصيل هذا في أن الحدود لفظ استعمل في الكتاب والسنة، واستعمل في كلام الفقهاء، وكلامي السالف في التقسيم إلى الأنواع، هذا إنما هو لنصوص الكتاب والسنة، وأما التعبير بالحدود في كتب أهل العلم وأهل الفقه، فهذا استعمال اصطلاحي، ليس هو استعمال الحدود في نصوص الكتاب والسنة.(75/4)
إذا تبين هذا، فالنوع الأول -ذكرنا لكم ثلاثة أنواع- النوع الأول كقوله ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ?[النساء:13] أو كقوله ?وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ?[الطلاق:1] وكقوله ? تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا?[البقرة:229] فإذا ذكر الحدود بلا كلمة بعدها، يعني نهي عن الاعتداء، أو ذكر بعدها النهي عن الاعتداء، فإن المراد بالحدود هنا الفرائض؛ يعني ما أذن به، الفرائض، أو ما أذن به، فما أذن به فرضا كان، أو مستحبا، أو مباحا، فالحدود هنا المراد بها هذه الأشياء؛ ولهذا جاء بعدها ?فَلَا تَعْتَدُوهَا?[البقرة:229] فالذي يخرج من دائرة المأذون به إلى خارج عن المأذون به، فقد تعدى الحد، وقد خرج عنه، وهذا الحد، هو حد المأذون به، فهذا نوع. ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ?[النساء:13] ([34]) جاءت بعد بيان ما فرض الله جل وعلا في التركات ?يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ?[النساء:11] الآيات في سورة النساء، لما أتمها في آيتين قال ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ?[النساء:13] يعني هذا ما أمر الله جل وعلا به وشرعه، وهذا معناه أن هذه حدود المأمور؛ ولهذا عقبها بالطاعة، قال (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، ?وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ?[الطلاق:1] هذه الحدود هي ما أُذن به، وأمر به، هذا هو النوع الأول، فالحدود هنا ليست هي المحرمات، الحدود هي ما أذن به، يدخل فيها الواجبات والمستحبات والمباحات.
الحدود بالمعنى الثاني إذا جعلت للمحرمات فلها ضابطان:
الأول أن يكون بعدها ?فَلَا تَقْرَبُوهَا?[البقرة:187].
وأن يكون بعدها، أو معها ذكر العقوبة.(75/5)
وهذا يعني أن الحدود هنا هي المحرمات؛ لهذا ناسب أن يكون معها النهي عن القربان، النهي عن الاقتراب ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا?[البقرة:187] يعني المحرمات لا تقرب، ولا يقترب منها، فهذا نوع؛ ولأجل هذا النوع قيل في العقوبات التي شرعت لمن انتهك، تطهيرا لمن انتهك المحرمات، قيل لها حدود، من قبيل رؤية هذا النوع دون غيره، وهذا شائع كثير في اللغة وفي الشريعة، فإذن العقوبات التي شرعت لمن ارتكب محرما فقارب، أو انتهك حدود الله قيل للعقوبة حد؛ لأنه دخل في الحد، وقيل لها حدود؛ لأنه اقتحم الحدود.
وأما النوع الثالث، وهو العقوبات التي جاءت في بعض الأحاديث، فهذه المراد منها ما جعل في الشرع له عقاب بعينه، فيقال: حد السرقة، حد الخمر … إلى آخره، كما قال عليه الصلاة والسلام «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» في حد من حدود الله، يعني إلا في معصية جاءت الشريعة بالعقوبة فيها، ويدخل في هذا الحدود عند الفقهاء والتعزيرات عند الفقهاء، وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا القسم الثالث «لا يجلد فوق عشرة أسواط» يعني تأديبا، فلا يحل لأحد أن يؤدب من أبيح له تأديبه فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله، يعني: إلا في عقوبة جاء الشرع بها، إما أن تكون حدا على اصطلاح الفقهاء، أو أن تكون تعزيرا، وهذا بحث طويل في كتاب الحدود، ومعرفة الحدود والتعزيرات في الفقه، لكن ضبطت لك هذا على نحو ما ذكرت لك من التبسيط؛ ليجتمع لك شمل ما أراد به الفقهاء اصطلاحهم الحدود، وما جاءت النصوص بكلمة الحدود.
إذا تقررت هذه القاعدة، وهذا التحقيق في فهم هذه الكلمة التي أشكلت على كثير من العلماء؛ ولعدم فهمها ذهبوا إلى مذاهب شتى.(75/6)
نقول هنا (وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا) هنا الحدود على ما ذكرنا هي ما أُذن به، الواجبات والمستحبات وما أشبه ذلك؛ لهذا قال (حَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا) يعني لا تعتد ما أذن لك، فكن في دائرة الواجب والمستحب والمباح، ولا تنتقل منه إلى غيره، فالأول (فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا) يعني امتثل الفرائض، أدِّ الواجبات، والثاني: كن في دائرة المستحب والمباح، ولا تتعده إلى غيره. ثم قال (وَحَّرمَ أَشْيَاءَ، فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا) وهذا من العطف المغاير؛ لأن التحريم غير تعدي الحدود كما ذكرنا لك، من بيان فهم نصوص الكتاب والسنة في هذه المسألة المهمة، فما حرم الله جل وعلا نهانا عليه الصلاة والسلام أنْ تنتهكه، والتعبير بالانتهاك أيضا يفيد الاعتداء وعدم المبالاة ممن انتهك المحرمات، قال (وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ، فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا) وقوله عليه الصلاة والسلام (وَحَّرمَ أَشْيَاءَ) يفيد أن هذه الأشياء المحرمة قليلة؛ ولهذا تجد أن أصول المحرمات في الأطعمة قليلة ?قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً?[الأنعام:154] إلى آخر الآية، أو المحرمات بعامة ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[الأنعام:151] الآيات المعروفة في الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، أو محرمات في اللباس، فهي محدودة بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء، أو محرمات في الأشربة فهي أيضا محدودة، أو محرمات في المنازل، فهي محدودة، ومحرمات في المراكب، فهي محدودة.(75/7)
لهذا المحرمات أشياء قليلة بالنسبة لغير المحرمات؛ لأن دائرة المباح ولله الحمد أوسع؛ لهذا قال (وَحَّرمَ أَشْيَاءَ) وهذه الأشياء قليلة، فعجيب أن تُنتهك، فقال (فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا) فيكون هذا المنتهك لهذه المحرمات شيء في نفسه جعله ينتهك هذا القليل، ويغرى بهذا القليل؛ ولهذا لم يحرم الشرع شيئًا فيه لابن آدم منفعة، في حياته حاجية أو تحسينية أو ضرورية، بل كل المحرمات يمكنه الاستغناء عنها، ولا تؤثر عليه في حياته، فما حرم الله جل وعلا أو حرمه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أشياء، فإنه لا حاجة لابن آدم إليها في إقامة حياته، أو التلذذ بحياته، فالمباحات والمستحبات يمكنه أن يتلذذ فيها بأشياء كثيرة تغنيه عن الحرام.
قال (وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا)، (سَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ) يعني أن الله سكت، وهذا السكوت الذي وُصف الله جل وعلا به ليس هو السكوت المقابل للكلام، يقال تكلم وسكت، وإنما هذا سكوت يقابل به إظهار الحُكم، فالله جل وعلا سكت عن التحريم؛ بمعنى لم يحرم، لم يظهر لنا أن هذا حرام، فالسكوت هنا من قبيل الحكم، سكوت عن الحكم، ليس سكوتا عن الكلام، فغلِط على هذا من قال إن هذه الكلمة يستدل بها على إثبات صفة السكوت لله جل وعلا، وهذا مما لم يأت في نصوص السلف في الصفات، وهذا الحديث وأمثاله لا يدل على أن السكوت صفة؛ لأن السكوت قسمان:
? سكوت عن الكلام، وهذا لا يوصف الله جل وعلا به، بل يوصف الله سبحانه وتعالى بأنه متكلم، ويتكلم كيف شاء، وإذا شاء، متى شاء، وأما صفة السكوت عن الكلام، فهذه لم تأت في الكتاب ولا في السنة، فنقف على ما أُوقفنا عليه، يعني: على ما أوقفنا الشارع عليه، فلا نتعدى ذلك.(75/8)
? والقسم الثاني من السكوت؛ السكوت عن إظهار الحكم، أو عن إظهار الخبر وأشباه ذلك، فلو فرض مثلا أن أنا أمامكم الآن، وأتكلم باسترسال، سكت عن أشياء، وأنا مسترسل في الكلام، بمعنى أني لم أُظهر لكم أشياء أعلمها، تتعلق بالأحاديث التي نشرحها، وسكوتي في أثناء الشرح عن أشياء لم أُظهرها لكم، أوصف فيه بالسكوت. فتقول مثلا فلان سكت في شرحه عن أشياء كثيرة، لم يبدها لأجل أن المقام لا يتسع لها، مع أني متواصل الكلام، فإذن لا يدل السكوت، يعني في هذا، يعني السكوت عن إظهار الحكم عن السكوت الذي هو صفة، والله جل وعلا له المثل الأعلى، فنصفه بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
لا نتجاوز القرآن والحديث، فنصفه بالكلام، ولا نصفه بالسكوت الذي هو يقابل به الكلام، وإنما يجوز أن تقول: إن الله جل وعلا سكت عن أشياء. بمعنى لم يظهر لنا حكمها، إذا تقرر هذا من جهة البحث العقدي، فنرجع إلى قوله (وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ) بما يدل على أن هذه الأشياء قليلة.
(رَحْمَةً بكم، أو رَحْمَةً لَكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ) السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا، رحمة لا نسيان، والله جل وعلا ليس بنسيٍّ، كما قال سبحانه ?وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا?[مريم:64]، ?فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى?[طه:52] فالله سبحانه ليس بذي نسيان، بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه، سبحانه وتعالى، وجل وتقدس ربنا.
فإذن هناك أشياء لم يبين لنا حكمها، فالسكوت عنها رحمة غير نسيان، أمرنا عليه الصلاة والسلام ألا نبحث عنها فقال (فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا). إذا تقرر هذا، فالأشياء المسكوت عنها أنواع:(75/9)
النوع الأول: ما لم يأتِ التنصيص عليه من المسائل، لكنها داخلة في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في العموم، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك، مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه. فهذا النوع، مما دلَّت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أصول الفقه، هذا لا يقال عنه: إنه مسكوت عنه. لأن الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها بالكتاب والسنة، بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال: إنه مسكوت عنه. ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص، ففهموا منها الحكم، أو في الإطلاق، أو في المفهوم، وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة، فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.
النوع الثاني: أشياء مسكوت عنها، لكن داخلة ضمن الأقيسة، يعني يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه، وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس، إذا كانت العلَّة واضحة، اجتمعت فيها الشروط، ومنصوصا عليها، فإذا كان القياس صحيحا، فإن المسألة لا تعدُّ مسكوتا عنها.(75/10)
الحال الثالثة: أن تكون المسألة مسكوتا عنها، بمعنى أنه لا يظهر إدخالها ضمن دليل، فكانت في عهده عليه الصلاة والسلام. هذا نوع، ولم ينص على حكمها، ولم تدخل ضمن دليل عام، فسُكت عنها، فهذا يدل أنها على الإباحة؛ لأنّ الإيجاب أو التحريم نَقْل عن الأصل، فالأصل أن لا تكليف، ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل، فلا بد للوجوب من دليل، ولا بد للتحريم من دليل، فما سكت عنه، فلا نعلم له دليلا من النص؛ من الكتاب والسنة، ولا يدخل في العمومات، وليس له قياس، فهذا يدل على أنه ليس بواجب، ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على من سأله عن الحج فقال الرجل: يا رسول الله، أفي كل عام؟ -هذه مسألة مسكوت عنها-، وتوجه الخطاب للرجل بألا يبحث عن هذا، فسكت عن وجوب الحج، هل يتكرر أم لا يتكرر؟ والأصل أنه يحصل الامتثال بفعله مرة واحدة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام «لو قلت: نعم؛ لوجبت. ذروني ما تركتكم» يعني إذا تركت البيان، فاسكتوا عن ذلك، قد ثبت في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنَّ أَشَدَّ المُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْماً رَجُلٌ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ، فحُرّمْ لأَجْلِ مَسْأَلَتِهِ».
قد قال جل وعلا ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا?[المائدة:101] فإذا هذا النوع مما سُكت عنه، فلا يسوغ لنا أن نبحث، ونتكلف الدليل عليها، تلحظ أحيانا من بعض الأدلة التي يقيمها بعض أهل العلم أنَّ فيها تكلفا للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخل فيها بوضوح، فإنها تبقى علي الأصل، (وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا)، وهذا من رحمة الله جل وعلا بعباده.(75/11)
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يثبت العلم في قلوبنا، ويرزقنا زكاته والعمل به، وتعليمه، والإحسان في ذلك كله.(75/12)
الحديث الحادي والثلاثون -
وعَنْ أَبي العَبَّاس سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ, إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ, أَحَبّنِيَ اللّهُ, وَأَحَبّنِي النّاسُ، فَقَالَ «ازْهَدْ فِي الدّنْيَا, يُحِبَّكَ اللّهُ. وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ» [حديث حسن، رواه ابن ماجه، وغيره بأسانيد حسنة]
[الشرح]
هذا الحديث فيه ذكر الزهد؛ الزهد في الدنيا، والزهد فيما في أيدي الناس، وهو حديث أصل في بيان كيف يكون المرء محبوبا عند الله جل وعلا وعند الناس، وهو أيضا من أحاديث الوصايا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن سؤال مضمونه طلب الوصية.
قال سهل بن سعد - رضي الله عنه - (جَاءَ رَجُلٌ إلى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ, إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ, أَحَبّنِيَ اللّهُ, وَأَحَبّنِي النّاسُ) وهذا السؤال يدل على علو الهمة؛ لأنّ محبة الله جل وعلا غاية المطالب ومحبة الناس للمرء، أو للعبد معناها أداء حقوقِهم، والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدى حق الله جل وعلا أحبه الله، ومن أدى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان، فإنه يثوب بمحبة الناس له، وهذا الذي يجمع بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأن الصالح هو الذي يقوم بحق الله وحق العباد، والصلاح هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.(76/1)
فهذا الحديث فيه ما يحصل به محبة الرب جل وعلا للعبد، فقال (دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ, إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ, أَحَبّنِيَ اللّهُ) وهذا فيه تنبيه إلى أصل، وهو أن هِمَّة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به يحب الله العبد، وليس أن تكون مصروفه لمحبته هو لله جل وعلا، فالعباد كثيرون منهم من يحبون الله جل وعلا، بل كل متدين بالباطل أو بالحق، فإنه ما تَدَيَّنَ إلا لمحبة الله جل وعلا، وليس هذا هو الذي يميز الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله جل وعلا هو مَنْ الذي يحبه الله، جل وعلا، وقد قال بعض أئمة السلف رحمهم الله ”ليس الشأن أن تحِب، ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَب“ يريد أن محبة العبد لربه جل وعلا هذه تحصل إما بموافقة مراد الله، أو بمخالفة مراد الله، فالنصارى يحبون الله، وعُبّاد اليهود يحبون الله، وعُبّاد الملل يحبون الله، وعُبّاد جهلة المسلمين يحبون الله، ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله جل وعلا إلا إذا كانوا على ما يحبه الله جل وعلا ويرضاه من الأقوال والأعمال.(76/2)
إذن فحصل من ذلك أن السعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب، وهذا إنما بالرغب في العلم ومعرفة ما يحبه الله جل وعلا ويرضاه، فإذا عرفت كيف يحب الله العبد، أو إذا عرفت بما يحب الله جل وعلا العبد، حصل لك السعي في محابّ الله جل وعلا. وقد قال تعالى ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ?[آل عمران:31] فصرفهم عن الدعوة إلى البرهان، قال هنا (دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ, إِذَا عَمِلْتُهُ, أَحَبّنِيَ اللّهُ) وفي قوله (دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ) ما يشعر أن الصحابي فقه أن محبة الله جل وعلا للعبد تكون بالعمل، وهذا خلاف ما يدعيه بعضهم أنه يُكتفي بما يقوم في القلب، وإن كانت الأعمال مخالفة لذلك، بل إنما يحصل حُبُّ الله جل وعلا للعبد بعمل قلبي وعمل بدني من العباد، وقد قال جل وعلا ?فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ?[المائدة:54]الآية.
قال (دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ, إِذَا عَمِلْتُهُ, أَحَبّنِيَ اللّهُ وَأَحَبّنِي النّاسُ فقال: «ازْهَدْ فِي الدّنْيَا, يُحِبَّكَ اللّهُ»)، (يُحِبَّ) هذه مجزومة، ولكن لأجل التقاء الساكنين صارت مفتوحة، ولا تقرأْها بالضم؛ لأنّ المعنى يتغير، كما تقول لم يحب فلان كذا؛ لأنها إذا كان الحرف مشددا، فإنه إذا دخل عليه جازم يصبح مفتوحا؛ لأجل التقاء الساكنين، وكما هو معلوم في النحو، ويحبك مجزوم جواب الطلب، أو جواب الأمر.
قال (ازْهَدْ فِي الدّنْيَا, يُحِبَّكَ اللّهُ. وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ) الوصية جمعت الزهد.(76/3)
والزهد في اللغة: هو الأمر القليل الذي لا يؤبه له، وكذلك زَهِدَ في الشيء؛ يعني إذا جعله شيئا قليلا لا يؤبه له، وسعر زهيد، إذا كان قليلا ليس مثله مما يُلتفت إليه، وهكذا، فالزهد في الدنيا أنْ تكون الدنيا في القلب غير مرفوع بها الرأس؛ يعني ألا تكون الدنيا في القلب، واختلفت عبارات العلماء كثيرا في تفسير الزهد، ففسره طائفة بأن الزهد هو أن تكون فيما في يَدِ الله جل وعلا وبعطاء الله أوثق مما في يدك؛ يعني أن يصح اليقين بأن ما عند الله جل وعلا أوثَق مما في يديك([35])، وهذا تفسير روي عن بعض الصحابة، وروي مرفوعا أيضا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لكن الصحيح أنه عن بعض الصحابة، هو عن أبي صبيح الخولاني قال فيه ”إن الزهد أن تكون فيما في يدي الله أوثق مما في يدك“، وهذا يعني أن ما عند الله جل وعلا في الدنيا مما وعد به عباده، وما عنده في الآخرة، تكون الثقة به أعظم مما تمارسه في الدنيا، وهذا ينشأ عن قلب عظم يقينه بربه جل وعلا، وعظم يقينه وتصديقه بوعده ووعيده، وعظم توكله على الله جل وعلا وهذا حقيقه الزهد.
وأيضا فُسر الزهد بأنه الإعراض عن الحرام، والاكتفاء بالحلال، وهذه طريقة من قال: إن كل مقتصد من عباد الله زاهد. يعني كل من ابتعد عن الحرام، وأقبل على الحلال، فاقتصر عليه، فإنه زاهد، وهذا عندهم زهد في المحرم، فيصح الوصف بأنه زاهد إذا زهِد في المحرم. وهذا النوع من الزهد، وليس هو الزهد في نصوص الشريعة.(76/4)
ومنهم من فسر الزهد بعامة بأن الزهد ترك الدنيا والإقبال على الآخرة، ترك الدنيا بفضول مباحاتها، والإقبال على الآخرة والتعبد. فالزاهد هو الذي ترك الدنيا، وأقبل على الآخرة، وهذا أيضا من التعاريف المعروفة، لكنه ليس بصحيح؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم سادة الزهاد، ولم يتركوا الدنيا؛ فلم يستعملوا المباحات، بل عملوا بما يحب الله جل وعلا ويرضاه وأخذوا نصيبهم من الدنيا، كما قال جل وعلا: ?وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا?[القصص:77].(76/5)
وأيضا فسر الزهد بتفسيرات كثيرة متعددة نصل إلى آخرها، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو أصح ما قيل في الزهد؛ لصِحَّة اجتماعه مع ما جاء في الأحاديث، وكذلك ما دلت الآيات، وكذلك ما كان عليه حال الصحابة وحال السلف الصالح رضوان الله عليهم قال ”الزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة“ فمن كان بقلبه الرغبة في الآخرة، وأنه لا يعمل العمل إلا إذا كان نافعا له في الآخرة، وإذا لم يكن نافعا له في الآخرة، فإنه يتركه، فهذا هو الزاهد، فعلى هذا يكون الزاهد غنيا، وعلى هذا يكون الزاهد مشتغلا ببعض المباحات، إذا كان اشتغاله بها مما ينفعه في الآخرة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة» فمن استعان بشيء من اللهو المباح على قوته في الحق، فهذا لا يخرج عن وصف الزَّهادة؛ لأنه لم يفعل ما لا ينفعه في الآخرة، وهذا حاصله أنّ إقباله على الآخرة فقط، فلا يتأثر بمدح الناس، ولا يتأثر بذمهم، ولا بثنائهم ولا بترك الثناء، وإنما هو يعمل ما ينفعُه في الآخرة، ويترك الاشتغال بكل المباحات، لأن الاشتغال بكل المباحات لا يستقيم مع ترك الرغبة في الدنيا، وكل المباحات لا تنفع في الآخرة، وإنما الذي ينفع بعض المباحات؛ ولهذا ذهب قائل هذا القول وهو الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله إلى أن الاشتغال بفضول بالمباحات والإكثار منها لا يجوز؛ يعني أنه كلما أقبل عليه مباح غشيه دون مُوَارَبَة، فقال هذا لا يجوز، وهو من اختيارات الشيخ ابن تيمية، رحمه الله تعالى، واستدل بقوله تعالى ?وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى?[طه:131] والاستدلال ظاهر، حيث نُهي عليه الصلاة والسلام والنهي لأمته على وجه التبع، أنْ يمد المرء عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، ومن مدّ عينيه إلى ما(76/6)
متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته الزهد في الدنيا؛ لأنه لابد وأن يحصل بالقلب نوع تعلق بالدنيا، وهذا خلاف الزهادة، فتحصل من ذلك أنّ الزهد ليس معناه الفقر، وليس معناه ترك المال، وإنما الزّهد حقيقة في القلب بتعلقه بالآخرة، وتجانبه وابتعاده عن الدنيا، من حيث التعلق، فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده، وليست في قلبه، فيُخلص قصده، ونيته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعا له في الآخرة. فإذا عامل مثلا بالبيع والشراء، فإنه يستعين به على الحق، وعلى ما ينفعه في الآخرة، وقد قال رجل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: هل يكون الغنى زاهدا ؟ قال: نعم، إذا لم يَأْسَ على ما فاته من الدنيا، ولم يفرح بما كثر عنده منها. قد يكون الرجل عنده مال وفير جدا، ولكنه إنْ نقص ما تأثر، وإنْ زاد ما فرح به، فهذا عنده وجوده؛ يعني زيادته، ونقصه واحد لإقباله على الآخرة، وإنما حصل هذا بيده، فيستعمله فيما ينفعه في الآخرة، وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأمة، فظنوا أن الزَّهادة الإعراض عن المال، والإعراض عمّا يحصل للمرء به نفع في الآخرة، وسئل الحسن -الحسن، أو غيره- فقيل له: من الزاهد ؟ فقال: الزاهد هو الذي إذا رأى غيرَه ظن أنه خير منه. وهذا من عظيم المعاني، التي افْتَرَعَها الحسن رحمه الله حيث قال: إن الزاهد هو الذي يفضل غيره عليه؛ يعني إذا رأى أحدا من المسلمين ظن أنه خير منه، يعني عند الله جل وعلا.
وهذا يعني أنه غير متعلق بالدنيا مزدر نفسه في جنب الله جل وعلا غير مترفع على الخلق، وهذا إنما يحصل لمن من الله عليه، فعمر قلبه بالرغبة في الآخرة، وبالبعد عن التعلق بالدنيا، والكلام على تاريخ الزهد كثير.(76/7)
إذا تقرر هذا، فنرجع إلى قوله عليه الصلاة والسلام (ازْهَدْ فِي الدّنْيَا, يُحِبَّكَ اللّهُ) الزهد في الدنيا معناه أن تكون الدنيا قليلة حقيرة في قلبك فلا تَرفعُ بها رأسك، يعني أنه إذا تصرف لا يتصرف للدنيا، إذا فعل لا يفعل للدنيا، وإنما يكون لله جل وعلا، فينقلب حامِدُه وذامه من الناس سواء، رضي عنه الناس، أو لم يرضوا عنه، فإنه يعامل ربه جل وعلا بما أمر الله جل وعلا به من التصرفات والأعمال، فإذن (ازْهَدْ فِي الدّنْيَا, يُحِبَّكَ اللّهُ) يعني ليكن تعلُّقُك بالآخرة، وأخرج الدنيا من قلبك، أو قللها من قلبك؛ لأن (ازْهَدْ) معناه قلل، وإذا كان كذلك حصلت لك محبة الله؛ لأنه إذا اجتمع في القلب الرغبة في الآخرة، فإنه يكون مع الإقبال على الله جل وعلا والابتعاد عن دار الغرور.
قال (يُحِبَّكَ اللّهُ) وحُبُّ الله جل وعلا صفة من صفاته، التي يتبعها أهل السنة والجماعة له على الوجه الذي يليق بجلال الله جل وعلا وعظمته، وقد جاء إثباتها في القرآن في آيات كثيرة، وكذلك في السنة، فهو جل وعلا يحب كما يليق بجلاله وعظمته، يحبُّ لا حاجة لمحبوبه، أو لضعفه مع محبوبه، وإنما يحب جل وعلا لخير يسوقه إلى من يحب، فحبه جل وعلا كمال لا لحاجة، بل هو عن كمال غنى، وعن كمال اقتدار فيحب عبده؛ لتقرب العبد منه، وحبه جل وعلا للعبد من ثمراته أن يكون مع العبد المعية الخاصة.(76/8)
قال عليه الصلاة والسلام (وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ)، (وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ) يعني لا يكن قلبك متعلقا فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت ما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواءً أعظم أم قل، فإنّه بذلك يحبك الناس؛ لأنّ الناس يرون فيه أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله جل وعلا لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله جل وعلا على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، هذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جُبِلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون، أو ما يكون في أيديهم حتى إذا دخلت بيت أحد، ورأيت شيئا يعجبك، وظهر عند ذلك أنك أعجبت بكذا وكذا، فإنه يكون في نفس ذاك الآخر بعض الشيء. وهذا يعكر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس في قلبك شيء قليل لا قيمة له، حقير لا قيمة له، حقير قيمة له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى ملك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتَّع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس، فإذن هذه الوصية جمعت ما يكون فيه أداء حق الله جل وعلا والتخلص من حقوق الناس، فحق الله جل وعلا عظيم وطريقُه أن تزهد فيما ابتلي به الخلق من الدنيا، أنْ تقلل الدنيا في قلبك وكذلك أن تقلل شأن ما في أيدي الناس، فتكون معلقا بالآخرة.(76/9)
فهذه هي حقيقة هذه الوصية العظيمة، ولا شك أننا بحاجة إلى ذلك، خاصة في هذا الزّمن الذي صار أكثر الخلق معلقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبة للدنيا، وهذا مما يُضعف قلب المرء في تعلقه بالآخرة، وتعلقه بما يحب الله جل وعلا ويرضى. فعظموا الآخرة وقللوا من شأن الدنيا، فبذلك يكون الزّهد الحقيقي، والإقبال على الآخرة، والتجانف عن دار الغرور.(76/10)
الحديث الثاني والثلاثون -
وعن أَبِي سعيدٍ الخُدْري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» [حديث حسن رواه ابن ماجة، والدارقطنيّ مُسنَدًا، ورواه مالك في الموطأ مُرسلا، عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسقط أبا سعيد، وله طرقٌ يُقَوِّي بعضُها بعضًا].
[الشرح]
هذا الحديث، وهو الحديث الثاني والثلاثون من الأحاديث الجامعة؛ من الأحاديث الجامعة التي جمعت أحكاما كثيرة، وقاعدة من قواعد الدين عظيمة، ومن جهة ثبوته تنازع العلماء فيه، هل الصواب فيه الوصل أم الإرسال؟ وقد أشار لك رحمه الله إلى بعض هذا الاختلاف. والصواب أنه حديث حسن، كما قال النووي رحمه الله تعالى لكَثْرة شواهده، والإرسال فيه لا يعل الوصل؛ لأن لكل منهما جهة بما هو معروف في علل الحديث، وليس من شرط هذا الشرح التعرض لتحقيق مثل هذه المسائل.
قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) وقوله (لاَ ضَرَرَ) (لاَ) هنا نافية للجنس، ومن المعلوم أن النفي لا بد أن يكون متسلطا على شيء، وقد تسلط هنا على الضرر والضرار، لكن أين الخبر ؟ (لاَ) النافية للجنس تطلب خبرا كما هو معلوم، وقد يحذف خبرها، وشاع ذلك كثيرا، إذا كان خبرها معلوما، يعني إذا كان يدرك، فلا يذكر اختصارا للكلام، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث؛ كقوله مثلا «لاَ عَدْوىَ، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ نَوْءَ، وَلاَ غُولَ» كل هذه أين أخبارها ؟ الخبر غير مذكور، لا إله إلا الله، خبر لا النافية للجنس غير مذكور، وهذا معروف في اللغة شاع إسقاط الخبر، كما قال ابن مالك في الألفية، في آخر باب لا النافية للجنس.
وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ الخَبَر
إِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَر(77/1)
فهنا يشيع إسقاط خبر لا النافية للجنس، إذا كان المراد معلوما.
إذا تقرر هذا فما المراد هنا؟ المراد أنه لا ضرر في الشرع؛ لا ضرر كائن في الشريعة، وهذا النفي منصب على جهتين: جهة العبادات، وجهة المعاملات وما بعدها.
أما جهة العبادات، فإن الشريعة لم يأت فيها عبادة يحصل بها للمرء ضرر، فإذن لا ضرر في الشرع؛ يعني أن الضرر منتفٍ شرعا فيما شرع في هذه الشريعة، ففي العبادات لم يشرع لنا شيء فيه ضرر على العبد، ولا مُضارّة على العبد، فمثلا إذا نظرت: المريض يصلي قائما، فإن تضرر بالقيام صلى قاعدا. يتطهر بالماء، فإن كان الماء يضره، ينتقل منه إلى التراب. وهكذا في أشياء متنوعة، فإذن هذا القسم الأول أن الضرر منتفٍ شرعا، وانتفاءُه في العبادات بأنه لم تشرع عبادة، فيها ضرر بالعبد بل إذا وجد الضرر جاء التخفيف.
والقسم الثاني: نفى الضرر شرعا في أمور المعاملات والأمور الاجتماعية؛ يعني من النكاح، وتوابعه إلى آخره، وهذه كلها أيضا في تشريعات الإسلام نفى فيها الضرر، يعني من جهة التشريع، فقال جل وعلا مثلا، في بيان العلاقة الزوجية، قال ?وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا?[البقرة:231]، وقال في الرضاعة ?لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ?[البقرة:233]، وقال جل وعلا في الوصية ?مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ?[النساء:12] فإذن في أحكام الشريعة جاء نفي الضرر في نفس الأحكام، وهذا من جهة الشارع، القسم الثاني -أو النوع الثاني من القسم الثاني-؛ يعني في المعاملات، أنه طُلِبَ بهذا النص نفي الضرر والضرار من العباد؛ يعني أن العبد أيضا إذ نفي وجود الضرر والضرار شرعا، فهم أيضا لا يجوز لهم أن يسعوا في الضرر، ولا في الضرار؛ لأن هذا منفي شرعا. فتحصل لنا أن دخول هذا النفي (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) في المعاملات رجع إلى جهتين،
الجهة الأولى: جهة التشريع.(77/2)
والجهة الثانية: جهة المكلَّف، فالمكلَّف لا يسعى في شيء فيه ضرر ولا ضرار؛ لأن الله جل وعلا نفى وجود الضرر شرعا بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ).
إذا تبين هذا فما معنى الضرر؟ وما معنى الضرار؟ اختلفت عبارات العلماء في ذلك، وفي الفرق ما بين الضرر والضرار:
? فمنهم من قال: إن الضرر والضرار واحد، لكن كرر للتأكيد، فالضرر والضرار بمعنى واحد، وهو إيصال الأذى للغير.
? وقال آخرون من أهل العلم: الضرر والضرار مختلفان، فالضرر هو الاسم، والضرار هو الفعل، يعني نفي وجود الضرر، ونفي فعل الضرر، فيكون على هذا القول، الأول: متجه إلى الشرع بعض الضرر في الشريعة. والثاني: متجه إلى المكلف، فلا فعل للضرر والإضرار مأذون به شرعا. ويؤيد هذا بأنه جاء في بعض الروايات (لاَ ضَرَرَ وَلاَ إِضِرَارَ) يعني بالغير.
? وقال آخرون من أهل العلم وهو القول الثالث: إن الضرر هو إيصال الأذى للغير، بما فيه منفعة للمُوصل، والضرار إيصال الأذى للغير بما ليس لموصل الأذى نفع فيه؛ يعني أن الضرر على هذا القول، هو أن تُضِرَّ بأحد لكي تنتفع، فإذا وصله ضرر؛ أذى معين، انتفعت أنت بذلك إما في الأمور المالية، أو غيرها، والنوع الثاني-الذي هو الضرار- أن توصل الأذى نسأل الله العافية دون فائدة لك ولا مصلحة، وهذا قول عدد من المحققين منهم العلامة ابن الصلاح، وقبله ابن عبد البر وجماعة من أهل العلم، وهذا التعريف أولى وأظهر لعدة أمور منها:
أن فيه تفريقا بين الضرر والضرار، والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد.
والثاني: أن لفظ الضرر يختلف عن لفظ الضرار، في أن الضرر ظاهر منه أنَّ الموصل لهذا الضرر منتفع به، وأما المُضَارّ بالشيء، فإنه غير منتفع به لمعنى المفاعلة في ذلك، وهذا أيضا يعني من جهة اللغة بين.(77/3)
ومنها أيضا يعني مما يترجح به هذا المعنى أن الأفعال مختلفة، لا ضرر ولا ضرار إذا انتفى في الشرع؛ يعني أنه لن يصل الأذى إلى المكلف، أو نفي إيصال الأذى للمكلف هذا يشمل الحالات التي ذكرنا جميعا، وهذا يتضح مع تقسيم يأتي.
وكما ذكرنا لكم في أول الكلام: أن نفي الضرر راجع إلى جهة الشرع في العبادات، وإلى الشرع والمكلف في المعاملات وما بعدها، وإذا قلنا: إنه لا ضرر؛ يعني في الشريعة. ففي الشريعة لا يصل أذى لأحد لنفي انتفاع المؤذي، فإن الله جل وعلا لا ينتفع بأذى عباده، بل هو سبحانه يبتليهم لحكمة يعلمها جل وعلا، فالضرر منفي في التشريع، وكذلك الإضرار أيضا منفي في التشريع.
إذا تقرر هذا، فإن الضرر والضرار يعني: في عدم اعتباره فيما يدخل في فعل المكلف على قسمين:
الأول: أنّ المكلف يُدخل الضرر على غيره، وهو لا ينتفع بهذا الإدخال، يعني يكون مُضارا -على التعريف هذا-، وهذا بإجماع أهل العلم، إنه لا يجوز ومحرم؛ يعني أن يضر غيره بما لا نفع له فيه، وهو المضارة على تعريفنا، وهو الضرار، هذا له أمثلة كثيرة في الفقه معلومة.(77/4)
الثاني: أن يُدخل الضرر على مكلف آخر على وجه ينتفع هو منه، وهذا اختلف فيه العلماء، هل يسوغ مثل هذا أم لا يسوغ ؟ فمنهم من قال: إن الحديث دل على أنه لا ضرار ولا ضرر، فلا يجوز الضرر، فإذا أدخل على غيره ضررا على وجه ينتفع هو منه، فإنه دل الحديث على انتفائه، فيعني أن هذا غير معتبر، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم، منهم أبو حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله قالوا: إن إدخال الضرر على أي مسلم، ولو لك فيه انتفاع، فإنه هذا لا يجوز، ويجب إزالة الضرر، ووجود الضمان لو حصل ما يوجبه، مثاله: مثلا أن يحتاج إلى فتح نوافذ لتهوية بيته على جهة بيت جاره، والجار يتضرر من فتح هذه النوافذ؛ لأنه بها يطلع الجار على حرمات جاره، فهذا عند أبي حنيفة والشافعي ممنوع؛ لأنه (لاَ ضَرَر)، وقد دخل الضرر على الغير. مثلا يحتاج إلى أن يعمل شيئا في بيته، يشب نارا في بيته لغرض من الأغراض، يتأذى بها جاره، فهذا ضرر دخل على الجار، وصل إليه، وأذى، وهو منتفع بذلك، عند هؤلاء هذا الضرر منتفٍ، يجب رفعه وإذا اشتكوا، إذا اشتكى الجار جاره عند القاضي، أمره بإزالة ما يلحقه من أذى.
والقول الثاني في هذا، وهو قول الإمام أحمد ووافقه مالك في بعض المسائل، أن إيصال الضرر للغير ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يكون معتادا، والمصلحة فيه ظاهرة.
والثاني: ألا يكون معتادا، والمصلحة فيه غير ظاهرة.
فإن كان معتادا، والمصلحة فيه ظاهرة، فيجوز أن يفعله؛ لأن الناس لا يمكن أن يفعلوا فيما بينهم أشياء إلا وثم أذى يصيب الآخر منه، يبني لا بد أنه يشب نارا، ويعمل أشياء، يصل لو رائحة كريهة، لكن هذا شيء معتاد لا بد منه، يريد أن يعمر مثلا بجانب جاره لا بد له من الصباح، وهم يضربون حتى يتأذى الجار، لا يستطيع الجار أن ينام صباحا من جراء العمل، فهذا عمل معتاد ومثل هذا، ولو وصل الضرر عند الإمام أحمد، فإن مثل هذا غير منفي؛ لأنه لا تصلح أمور الناس إلا بهذا.(77/5)
وأما إذا كان إيصال الضرر غير معتاد في أمر لا مصلحة فيه، وغير معتاد، فإنه يجب إزالته، في أشياء كثيرة، من الأمثلة، يعني مثل المثال الذي ذكرنا سالفا مثل أبواب وشبابيك على الجار، عند الإمام أحمد هذا مما جرت العادة به؛ لأن الغرف تحتاج إلى تهوية إلى آخره، فلا يمنع منه، وهو المعمول به عندنا في ضوابط معلومة، وأما إذا عمل عملا يوصل إليه الضرر بشيء غير معتاد، فإنه لا يُقَرُّ عليه، مثل أن يحفر قليبا بجنب قليب صاحبه فسحبت الماء عليه، والماء لمن سبق؛ فلهذا يؤمر المتأخر بأن يزيل هذا الضرر؛ لأنه غير معتاد، ولا مصلحة فيه ظاهرة له؛ لأن مصلحة الأول متقدمة عليه. مثال آخر: لو أراد أن يحفر في بيته، أو يبني، يذهب يأتي بديناميت مثلا وَلاَّ بأشياء، يتضرر معها بيت المجاور بتهدم بعضه، أو بخلل في أركانه، أو في أسسه، أو أشبه ذلك، فهذا مما لا يكون معتادا، فيُمنع منه، وهذا القول قول الإمام أحمد هو التحقيق، وهو الصواب؛ لأن العمل جرى عليه؛ ولأن مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا.
فإذن تحصَّل لنا من هذا والبحث في هذا الحديث يطول؛ لأنه قاعدة عظيمة، يدخل فيها كثير من أبواب المعاملات والأمور الاجتماعية: النكاح والوصية والطلاق، وإلى آخره، تحصل لنا من هذا أن الضرر والضرار مختلفان وأن هذا له معنى، وهذا له معنى، وأنه منتف الضرر والضرار شرعا، يعني: في التشريع، وكذلك يجب على العباد أن لا يضر بعضهم بعضا، وأن الضرر منه ما هو للعبد فيه مصلحة، فهذا لا يجوز باتفاق، والضرار الذي لا مصلحة للعبد فيه، ولم تَجْرِ به العادة فهذا أيضا منفي، وأما ما يحصل به نوع أذى مع بقاء المصلحة، وجريان العادة بذلك، فإنه لا ينفى شرعا، ولا يجب به إزالة الضرار.
هذا ملخص ما في هذا الحديث من مباحث، وهو يستدعي أطول من هذا بكثير من جهة التقسيمات والأمثلة؛ لأنه داخل أيضا ضمن قاعدة فقيهة، وهي: الضرر يزال، ولها تفريعات كثيرة، ربما مر معكم بعضُها.(77/6)
الحديث الثالث والثلاثون -
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُم، وَلَكِنِ البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» [حديث حسن رواه البيهَقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين].
[الشرح]
هذا الحديث أصل في باب القضاء والبينات والخصومات، قال: عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُم)، (لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ) يعني أنه لو كانت المسألة في الحكم مبنية على مجرد الدعوى، فإنه سيأتي لأجل البغضاء والشحناء بين الناس، يأتي من يدعي مال غيره، بل، ويدعي دمه، إذا مات بأي طريقة، ادعي أن فلانا هو القاتل. ولو أعطي الناس بمجرد الدعوى، بلا بينة لحصل خلل كثير في الأمة وفي الناس؛ لأنّ نفوس الناس مبنية على المشاحة وعلى البغضاء وعلى الكراهة، فقد ينتج من ذلك أن يدعي أناس أموال قوم ودماءهم.
فقال عليه الصلاة والسلام (لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ) يعني بلا بينة على ما ادعوا، (لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُم). وهذا الادعاء بلا بينة مرفوض؛ ولهذا كان لزاما على المدعي أن يأتي بالبينة.
وعقَّب عليه كتفسير لذلك فقال عليه الصلاة والسلام (وَلَكِنِ البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)، قوله (البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي) (البَيِّنَةُ) اسم لكل ما يُبِينُ الحق ويظهره، على الصحيح المختار، فالبينات إذا كثيرة، فالشهود من البينات، والإقرار من البينات، والقرائن الدالة على المسألة من البينات، وفهم القاضي باختبار أيضا من البينات؛ فهم القاضي للمسألة باختبار، يختبر به الخصمين، فيظهر به له وجه الحق هذا من البينات.(78/1)
فإذا البينات على الصحيح ليست منحصرة في أوجه من أوجه الثّبوت، بل هي عامّة في كل ما يُبين الحق، ويظهره، وهذه تستجد مع الأزمان، وكل زمن له بينات تختلف أيضا، وتزيد عن الزمن الذي قبله، أو تختلف، فلا بد إذن في البينات من رعاية الحال ورعاية البلاد ورعاية أعراف الناس إلى آخره.
فإذا تقرر هذا، فالبينة في اللغة: اسم للبيان، وما يبين به الشيء، يقال له: بينة، وأرفع منها البرهان، وأرفع من البرهان الآية، وقد قال جل وعلا ?مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ?[هود:53]، يعني ما جئتنا بشيء يُبِينُ أنك صادق في ذلك، يعني في دعوى النبوة، ودعوى الرسالة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وقال جل وعلا ?لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ(1)رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً?[البينة:1-2]، فجعل البينة هي الرسول، وفي الآية الأولى البينة يؤتاها الرسول، فتنوعت البينة؛ لأن البينةَ اسم لما يظهر الحق، ويدل عليه؛ فلهذا قيل للرسول إنه بينة، وللكتاب إنه بينة، وللشاهد إنه بينة، وهكذا. فالبينة إذن على التحقيق أنها اسم عام جامع لكل ما يُبِينُ الحق، ويظهره.
قال (وَلَكِنِ البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)، والعلماء يعبرون عن ذلك بقولهم: البينة على المدعي واليمين على المدَّعَى عليه، وهذا من باب التصرف في العبارة، وذكر أيضا وروي أيضا في بعض روايات هذا الحديث، وأجمع أهل العلم على ما دل عليه هذا الحديث: من أن البينة على المدعي، وأن المدعي لا تؤخذ دعواه، ولا يلتفت لها من حيث مطالبتُه بشيء، حتى يأتي ببينة تثبت له هذا الحق.(78/2)
والمدعِي والمدعَى عليه اختلفت فيهما عبارات أهل العلم، لكن التحقيق فيهما، أو الصواب أن المدعِي مَنْ إذا سكت تُرِك، والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك، ويعبر طائفة من أهل العلم في كتب الفقه، في القضاء في آخره، عن المدعي والمدعى عليه بالداخل والخارج، المقصود أن المدعي في قوله (وَلَكِنِ البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي) أن المدعي، هو من إذا سكت عن القضية تُرِك؛ لأنه هو صاحبها؛ فيدعي على غيره شيئا، فلو قال سكت عن هذه الدعوى، تُرك، إذ لا مطالب له بشيء. وقد ينقلب المدعي مدعى عليه إذا كان الخصم لا يسكت عنه، فإذا سكت أحد الخصمين، وبسكوته يترك، صار مدعيا، وإذا سكت وبسكوته لم يترك صار مدعًى عليه، وقد ينقلب كما ذكرت لك المدعي إلى مدعى عليه في بعض الحالات.(78/3)
قال (البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي) يعني إذا أتى أحد وقال: أنا أدعي على فلان بأنه أخذ أرضي، أو أخذ سيارتي، أو أنه أخذ من مالي كذا وكذا، أو أني أقرضته بكذا وكذا. وأطالبه برده فيقال: أين البينة التي تثبت ذلك هل عندك شهود؟ هذا نوع من البينات، هل عندك ورقة مشهود عليها؟ أو أشباه ذلك تثبت ذلك، ما دليلك، أو ما بينتك على هذا؟ فيأتي بالبينة، فلا ينظر إلى دعواه مجردة حتى يأتي ببينة، هناك بعض الحالات لا يكون ثَمَّ بينة للمدعي، فيتوجه فيها، وهي الأمور المالية، يتوجه فيها اليمين على المدعى عليه، يعني أنه يقول: هذا خصمي. فيأتي، فيقال: هذا ليس له عندي شيء. فهنا ينكر المدعى عليه أحقية المدعي بشيء، ولا بينة للمدعي على ذلك، فيرى القاضي أن تتوجه اليمين إلى المنكر، يعني إلى المدعى عليه الذي يقول: ليس له عندي شيء. وهذا معنى قوله (وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) أو اليمين على المدعى عليه، يعني من أنكر حقا طُولب به، ولا بينة ثابتة تدل عليه بينة واضحة، وإنما هناك نوع بينة ولكنها لم تكمل، ([36])أو ما يرى القاضي فيه، أن فيه حاجة لطلب اليمين، فإنه تتوجه اليمين للمدعى عليه؛ لأنه منكر.
نفهم من هذا أن المدعي لا يطالب باليمين؛ لأنه هو صاحب الدعوى، فإنما عليه البينة، كذلك المدعى عليه إذا أنكر، فإنما عليه اليمين، ويبرأ طبعا. إذا كان المدعى عليه عنده بينات أخرى فيدلي بها، وتكون بينة أقوى من بينة خصمه.(78/4)
المقصود من هذا الحديث أن الشريعة جاءت في القضاء بإقامة العدل، وإقامة الحق، وأن هذا إنما يكون باجتماع القرائن والدلائل والبينات على ثبوت الحق لأحد الخصمين، وأن الحاكم لا يحكم بمجرد رأيه ولا يعلمه. فلا يجوز للحاكم يعني للقاضي أن يحكم بعلمه، وإنما يحكم بما دلت عليه الدلائل، فلو أتاه رجل من أصدق الناس وأصلحهم وقال أنا عندي، أنا لي على فلان كذا وكذا ولا بينة، فإنه لا يحكم بعلمه في ذلك، ولو كان هو يعلم بعض ما في المسألة من الأمور، فلا بد من البينة من المدعي، ولا بد من إثبات ذلك فيحكم له، أو اليمين على من أنكر في بعض المسائل.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الخصومة وإدلاء كلٍّ بحجة «فلعل بعضَكم أن يكون ألحن بحجته من خصمه، فأقضي له، فإنما أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فإنما هو قطعة من النار، فليأخذ أو ليدع» فحكم القاضي لا يجعل لمن ليس له الحق، يجعل المسألة حقا له، وهذا عند بعض العامة والناس يظنون أن القاضي إذا حكم، فمعناه أن من حكم له، فله الحق مطلقا، ولو كان مبطلا في نفس الأمر، وهذا باطل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال هنا «فمن قضيت له من حق أخيه، فإنما هو قطعة من النار، فليأخذ، أو فليدع» وهذا يعني أن المرء لا يحصل له الحق بمجرد حكم القاضي، بل لا بد أن يعلم هو أن هذا حق في نفسه، أو أن المسألة مترددة يحتاج فيها إلى حكم القاضي، أما إذا كان مبطلا، فلا يجوز له أن يستحل الأمر بحكم القاضي، فإنما هي قطعة من النار يأخذها، وما أعظم ذلك !.(78/5)
الحديث الرابع والثلاثون -
وعن أبي سعيدٍ الخُدْري - رضي الله عنه - قَالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ » [رواه مسلم].
[الشرح]
هذا الحديث حديث عظيم أيضا في بيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حديث معلوم لديكم بتفاصيل الكلام عليه؛ لأنه كثر بيانه، وبيان ما فيه، لكن نختصر المقام.
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ) المنكر اسم لما عرف في الشريعة قبحه والنهي عنه، فلا يكون منكرا حتى يكون محرما في الشريعة، وهنا قال (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ) فهنا شرط وجواب، أما جواب الشرط، فهو الأمر بالتغيير باليد، وهذا الأمر على الوجوب مع القدرة، وأما فعل الشرط فهو قوله (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا) والفعل (رَأَى) هو الذي تعلق به الحكم، وهو وجوب الإنكار، ورأى هنا بصرية؛ لأنها تعدت إلى مفعول واحد، فحصل لنا بذلك أن معنى الحديث من رأى منكم منكرا بعينه، فليغيره بيده، وهذا تقييد لوجوب الإنكار بما إذا رؤي بالعين، وأما العلم بالمنكر، فلا يكتفى به في وجوب الإنكار، كما دل عليه ظاهر هذا الحديث.(79/1)
قال العلماء: ظاهر الحديث على أنه لا يجب حتى يرى بالعين، ويُنَزّل السمع المحقق منزلة الرأي بالعين، فإذا سمع منكرا سماعا محققا، سمع صوت رجل وامرأة في خَلوة محرمة سماعا محققا، يعرف بيقين أنّ هذا محرم، وأنّ هذا في كلامه إنما هو مع أجنبية وأشبه ذلك، فإنه يجب عليه الإنكار؛ لتنزيل السماع المحقق منزلة النظر، كذلك إذا سمع أصوات معازف، أو أصوات ملاهٍ، أو أشباه ذلك بسماع محقق، فإنه يجب عليه هنا الإنكار، وأما غير ذلك، فلا يدخل في الحديث، فإذا علم بمنكر، فإنه هنا لا يدخل في الإنكار، وإنما يدخل في النصيحة؛ لأن الإنكار علق بالرؤية في هذا الحديث، وينزل كما قال العلماء السماع المحقق فقط منزلة الرؤية. قال (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا) وفي قوله (مُنْكَرا) يظهر تعليق الأمر بالمنكر، دون الواقع فيه، فالحكم بالأمر بالتغيير باليد هذا راجع إلى المنكر، أما الواقع في المنكر، فهذا له بحث آخر.
قال (فَلْيُغَيّرْهُ) يعني فليغير المنكر، فلا يدخل في الحديث عقاب فاعل المنكر؛ لأنّ فاعل المنكر تكتنفه أبحاث، أو أحوال متعددة، فقد يكون الواجب معه الدعوة بالتي هي أحسن، وقد يكون التنبيه، وقد يكون الحيلولة بينه وبين المنكر والاكتفاء بزجره بكلام ونحوه، وقد يكون بالتعزير، وقد يكون.. إلى آخر أحوال ذلك المعروفة في كل مقام بحسب ذلك المقام، وما جاء فيه من الأحكام.
المقصود أنّ الحديث دل بظاهره على:
تعليق وجوب الإنكار، ووجوب التغيير باليد بالرؤية، وما يقوم مقامها.
والثاني: بالمنكر نفسه، فتغيير المنكر، يعني مثلا رجل أمامه زجاجة خمر، أو أمامه شيء من الملهيات المحرمة، فإنكار المنكر ليس هو التعنيف للفاعل، وإنما هو تغيير هذا المنكر من الخمر، أو من الملاهي المحرمة، أو من الصور المحرمة، أو أشباه ذلك بتغييره باليد مع القدرة، وأما الفاعل له فهذا له حكم آخر.(79/2)
قال (فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ) والتغيير هنا أوجب التغيير باليد، وهذا مقيد بما إذا كان التغيير باليد مقدورا عليه، وأما إذا كان غير مقدور عليه، فإنه لا يجب، ومن أمثلة كونه مقدورا عليه: أنْ يكون في بيتك الذي لك الولاية عليه؛ يعني في زوجك وأبنائك وأشباه ذلك، أو في أيتام لك الولاية عليهم، أو في مكان أنت مسئول عنه، وأنت الولي عليه، فهذا نوع من أنواع الاقتدار، فيجب عليك هنا أن تزيله وأن تغيره، وإذا لم تغيره بيدك فتأثم، أما إذا كان في ولاية غيرك، فإنه لا تدخل القدرة هنا، أو لا توجد القدرة عليه؛ لأنّ المُقْتَدِر هو من له الولاية فيكون هنا باب النصيحة لمن هذا تحت ولايته، ليغيره من هو تحت ولايته والتغيير في الشرع ليس بمعنى الإزالة، التغيير اسم يشمل الإزالة، ويشمل الإنكار باللسان بلا إزالة، يعني أن يقال: هذا حرام، وهذا لا يجوز. ويشمل أيضا الاعتقاد أن هذا منكر و محرم؛ ولهذا جاء في هذا الحديث بيان هذه المعاني الثلاث، فقال عليه الصلاة والسلام (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ -التغيير بيده- فَبِلِسَانِهِ) يعني فليغيره بلسانه، ومن المعلوم أن اللسان لا يُزيل المنكر دائما، بل قد يزول معه بحسب اختيار الفاعل للمنكر، وقد لا يزول معه المنكر، تقول مثلا لفلان: هذا حرام، وهذا منكر لا يجوز لك. قد ينتهي وقد لا ينتهي، فإذا أخبرت الخلق، أو المكلَّف الواقع في هذا المنكر، إذا أخبرته بأنه منكر وحرام فقد غيَّرْتَ، وإذا سكت، فإنك لم تغير، وإن كنت لا تستطيع باللسان، فتغيره بالقلب تغييرا لازما لك لا ينفك عنك، ولا تُعذر بالتخلف عنه، وهو اعتقاد أنه منكر ومحرم، والبراءة من الفعل؛ يعني بعدم الرضا به، لهذا جاء في سنن أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام قال«إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ كَانَ مَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَمَنْ عملها، وكَانَ ممن شَهِدَهَا، فَلَمْ يَفْعَلْهَا كَمَنْ فَعَلَها» وهذا يعني أن الراضي بالشيء كفاعله؛(79/3)
لأن المنكر لا يجوز أن يقر، يعني أن يقره المرء، ولو من جهة الرضا، وهذا ظاهر في قوله جل وعلا ?فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ]([37]) إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ?[النساء:140] وفي الآية الأخرى ?فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ?[الأنعام:68]، فمن جلس في مكان يستهزأ فيه بآيات الله، وهو جالس لا يفارق هذا المكان، فهو في حكم الفاعل من جهة رضاه بذلك؛ لأن الراضي بالذنب كفاعله كما قال العلماء.
إذا تبين ذلك، فها هنا مسائل تتعلق بهذا الحديث، وهي أنّ وجوب الإنكار متعلق بالقدرة بالإجماع، ومتعلق بظن الانتفاع عند كثير من أهل العلم، قال طائفة من العلماء: إنما يجب الإنكار إذا غلب على ظنه أن ينتفع المنكر -يعني باللسان، بما لا يدخل تحت ولايته- أما إذا غلب على ظنه أنه لا ينتفع، فإنه لا يجب الإنكار؛ وذلك لظاهر قول الله جل وعلا ?فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَت الذِّكْرَى?[الأعلى:9] فأوجب التذكير بشرط الانتفاع. وهذا ذهب إليه جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ودل عليه عمل عدد من الصحابة رضوان الله عليهم كابن عمر وابن عباس وغيرهما، لما دخلوا على الوُلاَة وأمراء المؤمنين في بيوتهم، وكان عندهم بعض المنكرات في مجالسهم، فلم ينكروها؛ وذلك لغلبة الظن أنهم لا ينتفعون بذلك؛ لأنها من الأمور التي أقروها وسَرَتْ فيما بينهم. وهذا خلاف قول الجمهور.(79/4)
والجمهور على أنه يجب مطلقا، سواء غلب على الظن، أو لم يغلب الظن؛ لأن إيجاب الإنكار لحق الله جل وعلا وهذا لا يدخل فيه غلبة الظن، والقول الثاني -وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكرت لكم وجماعة- من أنه يجب مع غلبة الظن هذا أوجه من جهة نصوص الشريعة؛ لأن أعمال المكلفين مبنية على ما يغلب على ظنهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ) وعدم الاستطاعة هذه تشمل عدة أحوال، ويدخل فيها غلبة الظن ألا ينتفع الخصم، مثلا: إذا قابلت حليقا للحية، أو قابلت امرأة سفرت وجهها، ونحو ذلك، في بعض الأمكنة نجد حرجا هل ننكر أم لا ننكر؟ يغلب على ظننا في بعض الأحوال، أننا لو أنكرنا لما انتفع أولئك بذلك؛ لعلمهم بهذه المسألة، فيُكتفى هنا بالإنكار بالقلب من جهة الوجوب، ويبقى الاستحباب في أنه يستحب أن تبقى هذه الشعيرة، وأن يفعلها من أراد فعل المستحب، وكما ذكرت لك هذا خلاف قول الجمهور، لكنه يتأيد بمعرفة حال الصحابة رضوان الله عليهم من أنهم إنما أنكروا ما غلب على ظنهم الانتفاع به، وإلا للزم منه أن يُؤَثَّموا في ترك كثير من الواجبات في أحوال كثيرة ومعلومة.
قال في آخره: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ) يعني ينكر بقلبه، والإنكار بالقلب؛ يعني بغض المنكر، وكراهته واعتقاد أنه منكر وأنه محرم، (وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) يعني هذا أقل درجات الإيمان؛ لأنه هو الذي يجب على كل أحد، كل أحد يجب عليه هذا، «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» لأن المنكر المجمع عليه إذا لم يعتقد حرمته، ولم يبغضه مع اعتقاد حرمته، فإنه على خطر عظيم في إيمانه.(79/5)
هذا الحديث يدخل في بحثه الإنكار على الولاَة، والإنكار على عامة الناس، ويدخل أيضا مراتب الإنكار، والقواعد التي تحكم ذلك، وهي كثيرة، أعني مباحثه وفروعه كثيرة يطول المقام بذكرها.
لكن أنبه على مسألة مهمة ذكرتها عدة مرات، وهي أن هناك فرقا ما بين النصيحة والإنكار في الشريعة، وذلك أن الإنكار أضيق من النصيحة، فالنصيحة اسم عام يشمل أشياء كثيرة، كما مر معنا في حديث «الدَّينُ النَصِيحَُة» ومنها الإنكار، فالإنكار حال من أحوال النصيحة؛ ولهذا كان مقيدا بقيود وله ضوابطه، فمن ضوابطه أنّ الإنكار الأصل فيه أن يكون علنا؛ لقوله (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ) وهذا بشرط رؤية المنكر، وهنا ندخل في بحث مسألة بحثناها مرارا، وهي أن الولاة ينكر عليهم إذا فعلوا المنكر بأنفسهم، ورآه من فُعِل أمامه ذلك الشيء، وعلى هذا يحمل هدي السلف في ذلك، وكل الأحاديث التي جاءت، وهي كثيرة، أكثر من عشرة، أو اثني عشر حديثا في هذا الباب، فيها إنكار طائفة من السلف على الأمير، أو على الوالي، كلها على هذا الضابط، وهو أنهم أنكروا شيئا رَأَوه من الأمير أمامهم، ولم يكن هدي السلف أن ينكروا على الوالي شيئا أجِرَاه في ولايته؛ ولهذا لما حصل من عثمان - رضي الله عنه - بعض الاجتهادات وقيل لأسامة بن زيد رضي الله عنهما: ألا تنصح لعثمان؟ ألا ترى إلى ما فعل؟ قال: أما إني بذلته له سرا، لا أكون فاتح باب فتنة. ففرق السلف في المنكر الذي يُفعل أمام الناس كحال الأمير الذي قدّم خطبة العيد على الصلاة، وكالذي أتى للناس وقد لبس ثوبين، وأحوال كثيرة في هذا، فرقوا ما بين حصول المنكر منه أمام الناس علنا، وما بين ما يجريه في ولايته، فجعلوا ما يجريه في ولايته بابا من أبواب النصيحة، وما يفعله علنا يأتي هذا الحديث (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ) مع الحكمة في ذلك؛ ولهذا(79/6)
قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: ألا آتي الأمير، فآمره وأنهاه؟ قال: لا تفعل، فإن كان ففيما بينك وبينه. قال: أرأيت إن أمرني بمعصية؟ قال: أما إن كان ذاك فعليك إذن. فدلّ هذا على أن الأمر والنهي المتعلق بالولي إنما يكون فيما بين المرء وبينه، فيما يكون في وِلايته، وأما إذا كان يفعل الشيء أمام الناس، فإن هذا يجب أن ينكر من رآه بحسب القدرة وبحسب القواعد التي تحكم ذلك.
إذا تكرر هذا، فثم مسألة متصلة بهذه، وهي أنّ قاعدة الإنكار مبنية على قاعدة أخرى ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهي أنه لا يجوز إنكار منكر حتى تتيقّن أنه لن ينتقل المنكر عليه إلى منكر أشد منه، قال شيخ الإسلام: ”ومن أنكر ظانا أنه ينتقل، فإنه يأثم، حتى يتيقن أن إنكاره سينقل المنكر عليه إلى ما هو أفضل“. وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا مجمع عليه، ومثل لهذا ابن القيم بمسائل كثيرة في كتابه ”إعلام الموقعين“ فقال مثلا لو أتيت إلى أناس يلعبون لعِبا محرما، أو يشتغلون بكتب مجون، فإن أنكرت عليهم ذلك، فإنه يكتنفه أحوال:
الأول: أن ينتقلوا من هذا المنكر إلى ما هو أنكر منه، فهذا حرام بالإجماع؛ يعني يخرج من لهوه بالكتب إلى الاتصال بالنساء مباشرة، أو إلى رؤية النساء مباشرة، أو ما أشبه ذلك، فهذا منكر أشد منه، فبقاؤه على المنكر الأول أقل خطرا في الشريعة من انتقاله إلى المنكر الثاني.
الحال الثانية: أن ينتقل إلى ما هو خير ودين، فهذا هو الذي يجب معه الإنكار.
والثالث: أن ينتقل منه إلى منكر يساويه، فهذا محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل منه إلى منكر آخر.
ذكرنا أربعة: منكر أشد منه، ومنكر آخر، ومنكر مساويه، وإلى خير، هذه أربعة أقسام، وإلى منكر آخر، فهذا أيضا لا يجوز، وإذا كان إلى منكر مساويه، فهذا محل اجتهاد، وإلى خير فهذا واجب، وإلى منكر أشد منه فهذا لا يجوز.(79/7)
فتحصّل منه أن ثَم حالتين يحرم فيهما الإنكار، وهي إذا انتقل من منكر إلى منكر آخر غير مساوٍ؛ يعني إنك ما تدري إنه مساوٍ، وإلى منكر أشد منه بيقينك، فهذه حرام بالإجماع.
والثالث: أن ينتقل إلى منكر مساوٍ فهذا فيه محل اجتهاد.
والرابع: أن ينتقل إلى خير، فهذا يجب معه الإنكار.
وذكر قصة لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر وطائفة من أصحابه على قوم من التتر يلعبون بالشطرنج، ويشربون الخمر في شارع من شوارع دمشق علنا، فقال أحد أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ألا ننكر على هؤلاء ؟ فقال شيخ الإسلام: دعهم، فإن انشغالهم بذلك أهون من أن يَعِيثُوا في المسلمين، أو أن يعتدوا عليهم. وهذا من الفقه العظيم؛ لأن هذا منكر ومحرم لكنه قاصر، ولإنكاره عليهم قد يكون معه أن ينتقلوا إلى منكر متعدٍ على بعض المسلمين، ومعلوم أن المنكر القاصر أهون من المنكر المتعدي.
هذه بعض المباحث التي يحسن ذكرها عند هذا الحديث.(79/8)
الحديث الخامس والثلاثون -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَحَاسَدُوا, وَلاَ تَنَاجَشُوا, وَلاَ تَبَاغَضُوا, وَلاَ تَدَابَرُوا, وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَيْعِ بَعْضٍ. وَكُونُوا عِبَادَ اللّهِ إِخْوَاناً؛ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. لاَ يَظْلِمُهُ, وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ. التّقْوَىَ هَهُنَا». وَيُشِيرُ إِلَىَ صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرّاتٍ: «بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشّرّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِم. كُلّ الْمُسْلِمِ عَلَىَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ. دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» [رواه مسلم]
[الشرح]
هذا الحديث أصل في حق المسلم على المسلم، وفيما ينبغي أن يكون بين المسلمين من أنواع التعامل، قال فيه عليه الصلاة والسلام (لاَ تَحَاسَدُوا, وَلاَ تَنَاجَشُوا, وَلاَ تَبَاغَضُوا, وَلاَ تَدَابَرُوا) الحديث.
قوله (لاَ تَحَاسَدُوا, وَلاَ تَنَاجَشُوا) إلى آخره، هذا نهي، وكما هو معلوم أن النهي يفيد التحريم في مثل هذا، فقوله عليه الصلاة والسلام (لاَ تَحَاسَدُوا) يعني أن الحسد محرّم، وقد جاءت أحاديث كثيرة فيها بيان تحريم الحسد، وأنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وكذلك التناجش محرم، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النَّجْشِ والنَّجَشِ في غير ما حديث، وكذلك التباغض والتدابر وأشباه هذا مما يزيل المحبة، أو يزيل الإِلفة بين المسلمين، فإنه ممنوع منع تحريم.(80/1)
قوله عليه الصلاة والسلام (لاَ تَحَاسَدُوا) الحسد فُسِّر بعدة تفسيرات، ومنها أن الحسد: تمني زوال النعمة عن الغير. وأيضا من الحسد أن يعتقد أن هذا الذي أنعم الله عليه ليس بأهل لهذه النعمة، ولا يستحق فضل الله جل وعلا. ولهذا فحقيقة الحسد اعتراض على قضاء الله جل وعلا وعلى قَدَرِه ونعمته؛ فلهذا كان «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ, كَمَا تَأْكُلُ النّارُ الْحَطَبَ» فليس الحسد مقتصرا على أنه يأثم به صاحبُه فقط، بل يُذهب بعض حسنات صاحبه؛ لأنه ينطوي على اعتقاد خبيث وعلى ظنّ سوء بالله جل وعلا؛ حيث قام في قلبه أن هذا ليس بأهل لفضل الله جل وعلا ونعمته، ونحو هذا ما يستعمله بعض العامة حيث يقول بعضهم: هذا حرام أن يعطى كذا وكذا، هذا حرام أن تكون عنده هذه النعمة، هذا حرام أن يكون عنده المال. وأشباه ذلك مما فيه ظن سوء بالله جل وعلا واعتراض على قدر الله، وعلى نعمته، وعلى رزقه الذي يصرفه كيف يشاء.
فالواجب إذن على المسلم أن يفرح لأخيه المسلم بما أنعم الله عليه، وقد مر معنا في الحديث «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتّى يُحِبّ لأَخِيهِ مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ» والحسد بضِدِّ ذلك، فإن الحاسد لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل إمَّا أن يتمنى زوال النعمة عن أخيه، أو أنه يعتقد، ويظن أن أخاه ليس بأهل لما أعطاه الله جل وعلا.
قال (وَلاَ تَنَاجَشُوا) وهذا أيضا يدل على تحريم النَّجْشِ، وقد تقرر في الأصول أن النهي إذا تسلط على المضارع، فإنه يعم أنواع المصدر؛ لأن المضارع عبارة عن حدث وزمن، فتسلط النفي أو النهي على الحدث، والحدث نكرة فعم أنواعا.(80/2)
إذن نقول هنا في قوله (لاَ تَحَاسَدُوا) يعم جميع أنواع الحسد، وقوله (وَلاَ تَنَاجَشُوا) يعم جميع أنواع النجْش بالسكون، أو النجَش بالتحريك، والنجَش، أو النجْش فسر بعدة تفسيرات، وأعمها التفسير اللغوي، وهو أن النجْش: أن يسعى في إبطال الشيء بمكر واحتيال وخديعة، أو هو السعي بالمكر والخداع والحيلة. وهذا عام يشمل جميع أنواع التعامل مع المسلمين، فإذن قوله (وَلاَ تَنَاجَشُوا) أي لا يسعى بعضكم مع بعض بالخداع والحيلة والمواربة وأشباه ذلك من الصفات المذمومة، ويدخل في هذا النجْش الخاص؛ وهو المستعمل في البيع بأن يزيد في السلعة من لا يرغب في شرائها؛ لأن هذا سعي في ازدياد السعر بمكر وحيلة وخداع، فهو سُمِّيَ ذلك بالنجْش، أو النجَش؛ لأنه فيه المكر والخداع والحيلة، فيمنع، ويحرم أن يسعى المسلم مع إخوانه المسلمين بالحيلة والخداع والمكر بأي نوع، بل المسلم مع إخوانه يسير على نية طيبة، وعلى أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وألا يخدعهم، ولا يغرر بهم، بل يكون معهم كما ينبغي، أو كما يحب أن يكونوا معه، وزيادة المرء في السعر، وهو لا يريد الشراء حين السَّوم على السلعة هذا من أنواع الحيلة والخداع؛ ولهذا فهو مَنهي عنه ومحرم يأثم به صاحبَه إثم المحرمات.(80/3)
قال (وَلاَ تَبَاغَضُوا) والتباغض هنا أيضا عام في كل ما يكون سببا لحدوث البغضاء من الأقوال والأعمال، فكلُّ قول يؤدي إلى البغض، فأنت منهي عنه، وكلُّ فعل يؤدي إلى التباغض، فأنت منهي عنه، فالمؤمن مأمور بأن يسعى بما فيه المحبة بين إخوانه المؤمنين، وأما ما فيه من التباغض، فهو حرام أنْ يسعى فيه بقوله، أو قلمه، أو كلامه، أو عمله، أو تصرفاته؛ إشاراته، أو لحظه حتى إن الرجل لا ينبغي له أن يُبغض، بل لا يسوغ له أن يبغض أي مسلم كان؛ لأنه قد أحبه لما معه من الإسلام والتوحيد، وهذا يَجبر غيره، وإن أبغضه بغضا دينيا فهذا لا حرج، لكن البغض الدنيوي هو الذي نُهى عنه هنا. فسبب البغض إذا كان دينيا مشروعا، فهذا مطلوب، ولا بأس به، لكن بالنسبة للمسلم فإنه لا يُبغض بالجملة، بل يجتمع في حق المؤمن، أو في حق المسلم ما يكون معه الحب له، وهو ما معه من الإيمان والتوحيد والطاعة، وما يكون معه البُغض له، وهو ما قد يكون يقترفه من الإثم والعصيان.
فإذن في المؤمن والمسلم يجتمع الموجِبان في الدين الحب والبغض، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا قال (وَلاَ تَبَاغَضُوا) قال العلماء: هذا في السعي فيما فيه التباغض في أمر الدنيا، أما إذا كان لأمر شرعي وديني، فإن هذا مطلوب، ولا يدخل في هذا النهي.
والسعي في البغضاء بأنواع كثيرة، وحتى الرجل مع أهله ينبغي له أن يسعى فيما فيه المودة والمحبة وألا يبغض، وإذا حصلت البغضاء، فإنه ينظر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً. إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا خُلُقاً آخَرَ» يعني لا يبغض مؤمن مؤمنة.(80/4)
وهكذا قاعدة عامة أن المؤمن لا يسوغ له أن يبغض مؤمنا؛ يعني بعامة، بل ينظر إليه إن حصل في قلبه بغضاء، فينظر إلى أخيه المؤمن، وينظر ما معه من الخير والإيمان والطاعة، فيعظِّم جانب طاعته لله على نصيب نفسه، وحظ نفسه، فتنقلب البغضاء عنده هَوْنًا ما، ولا يكون بغيضا له بغضا تاما، أو ما يوجب المقاطعة، أو المدابرة.
قال بعدها عليه الصلاة والسلام (وَلاَ تَدَابَرُوا) يعني لا تسعوا في قول، أو عمل تكونوا معه متقاطعين؛ لأن التدابر أن يفترق الناس كل يولي الآخر دبره، وهذا يعني القطيعة والهِجران.
وهجر المسلم وقطعه حرام إذا كان لأمر دنيوي، فالهجر ينقسم إلى قسمين:
? هجر لأمر الدين، وهذا له أحكامه المختصة، وضابطها: أنه يجوز هجر المسلم لأجل الدين إذا كان فيه مصلحة لذلك الهجر، وهذا كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - المخلفين الثلاثة في غزوة تبوك وأمثال ذلك.
? والقسم الثاني: الهجر لغرض دنيوي أن يهجر المسلم أخاه لغرض له للدنيا؛ لإيذاءٍ أذاه، أو لشيء وقع في قلبه عليه، فالهجر إذا كان للدنيا فللمسلم أن يهجر أخاه للدنيا إلى ثلاثة أيام وما بعدها، فحرام عليه أن يهجره، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «لا يَهْجُر مُسْلِمٌ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا. وَخَيْرُهُمَا الّذِي يَبْدَأُ بِالسّلاَمِ». قال العلماء: الهجران إلى ثلاث مأذون به في أمر الدنيا، يعني إذا كان لك هذا لحظ نفسك، - هذا لحظ نفسك إلى ثلاثة أيام وما بعدها فحرام أن تهجر أخاك فوقها-، وخير الرجلين الذي يبدأ بالسلام، أما أمور الدين فهذه بحسب المصلحة كما ذكرنا في القسم الأول، قد يكون هجرانا إلى أسبوع، أو إلى شهر، أو يوم بحسب ما تقضي به مصلحة المهجور.(80/5)
قال (وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَيْعِ بَعْضٍ) وهو مثلا أن يقول لمن أراد أن يشتري سلعة بعشرة أن يعطيك مثلها بتسعة، أو لمن أراد أن يبيع سلعة بعشرة أنا آخذها منك بإحدى عشر. وأشباه ذلك؛ يعني أنه يغريه بألا يشتري من أخيه، أو أن يبيع عليه، ففي هاتين الصورتين حصل بيع على بيع المسلم، وهنا حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله (وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَيْعِ بَعْضٍ) وهذا مشروط بأنّ الذي يعرض الشراء مِنْ هذا الذي يريد أن يبيع شيئا، أو يعرض البيع لهذا الذي يريد أن يشتري شيئا بأكثر في الأول، وأقل في الثاني، هذا مشروط بأنه حصل بين الأول ومن يريد أن يبيعه أو أن يشتري منه انفصال وتراض. مثلا يأتي إلى صاحب دكان ويقول: أنا أريد أن أشتري هذه، فيتفاصلان على أنه سيشتريها بكذا، وهذا راض، سيشتريها فيأتي أحد ويقول: تعال، أنا أعطيك مثلها بكذا وكذا بأنقص. أو أشباه ذلك، فإذا كان هناك رضا من البائع للسلعة على من يبيع عليه، أو رضا ممن يشتري، وتفاصل بينه وبين من أراد الشراء منه، أو البيع عليه، فإنه هنا يحرم أن يدخل أحد، فيتدخل في هذا المبيع إذا تفاصلا وتراضيا، وهنا يعني تمت مقدمات العقد بالاتفاق على الثّمن، والعزم على الشراء، فإنه لا يجوز لأحد أنْ يَدْخُل، ونفهم من هذا أنه لو تدخل قبل أن يعقد هذا، وهذا يعني: ما دام أنه بفترة النظر انتقل من دكان إلى دكان وأشباه ذلك، فهذا لا بأس به.([38]) فيُشترط لتحريم البيع على بيع أخيه بما كان فيه تفارق بالقول، أو انفصال في القول بالعزم على الشراء، أو العزم على البيع إذا حصل العزم وأجابه البائع، أو المشتري، فإنه لا يجوز التدخل في ذلك.(80/6)
في أمثالها، مثل «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه»فإن المرء إذا تقدم إلى أحد خاطبا، وسمع به فلان من الناس، سمع أن فلانا خطب، فإن ردوا عليه بالرضا، فإنه لا يجوز لأحد أن يأتي ويقول أنا أريد ابنتكم، ممن علم أنهم أجابوه ورضوا به، لكن قبل أن يجيبوه بالرضا له أن يدخل كخاطب من الخطاب، وهكذا في هذه المسألة في قوله (لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَيْعِ بَعْضٍ).
قال عليه الصلاة والسلام بعدها (وَكُونُوا عِبَادَ اللّهِ إِخْوَاناً) حققوا أخوة الدين، إذ قال جل وعلا ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ?[التوبة:71]، وقال جل وعلا ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ?[الحجرات:10]، (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. لاَ يَظْلِمُهُ, وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ). (لاَ يَظْلِمُهُ) يعني لا يظلمه في ماله، ولا يظلمه في عرضه، ولا يظلمه في أهله، ولا يظلمه في أي أمر اِختصّ به، بل يعدل معه، ويكون خليفته في ماله وأهله وعرضه؛ ولهذا جاءت الشريعة، وهذا من محاسنها العظيمة بأن يتحلل المرء إخوانه فيما وقع منه عليهم من المظالم، وقد ثبت في الصحيح، صحيح أبي عبد الله البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال«من كانت عندَه لأخيهِ مَظلِمةٌ -بكسر اللام في (مالِـ)- أو عرض، فلْيَتحللهُ منه اليوم قبل أن يكون يوم لا دِرهم فيه ولا دِينارٌ» يعني من اغتاب، أو من وقع في عرض إخوانه، أو من اعتدى على بعضهم فعليه أن يرد هذه المظالم، فإن كان في ردها مشقة عليه، فيوسط أحدا، إلى آخره.
المقصود أنه يجب أن يرد المظالم، وفي الغيبة تفصيل للعلماء من أنه إذا ذكر لمن اغتابه، أنه قد اغتابه، وهذا يؤدي إلى حصول منازعة ومشاقة في إخباره بغيبته إياه وطلبه تحليله، فإنه يترك هذا الإخبار، ويكتفي منه بالاستغفار له، وكثرة الدعاء له، لعلها أن تشفع له في تكفير غيبته أو النيل منه.(80/7)
وهذا من السنن التي ينبغي لنا أن نتعاهدها في أن يحلل بعضنا بعضا، وإذا سأل أحد أخاه أن يحلله، فيستحب له أن يقول: حللك الله، وأنت في حل مني. وأشباه ذلك دون سؤال له ماذا قلت؟ وماذا فعلت؟ وبأي شيء اعتديت علي؟ وأشباه ذلك كما قرره العلماء.
قال (وَلاَ يَخْذُلُهُ) لا يخذله، الخِذْلان ترك الإعانة والنصرة، والمسلم ولي المسلم، يعني محب له، يعني أن المسلم محب للمسلم، ناصر له، وخذل المسلم للمسلم وخذلانه له ينافي عقد المولاة الذي بينهما؛ ولهذا تضمن عقد المولاة في قوله ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ?[التوبة:71] أنّ خذل المسلم للمسلم لا يجوز، إذا كان في مقدرته أن يعينه، وأن ينصره ولو بالدعاء.
قال (وَلاَ يَكْذِبُهُ) يعني لا يقول له: أنت كاذب. وكلما أخبره بخبر قال: هذا كاذب، وأنت كاذب. لأن الأصل في المسلم أنه لا يكذب، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قيل له: أيزني المؤمن؟ قال: «نعم»، قيل له: أيسرق المؤمن؟ قال: «نعم»،. قال له: أيكذب المؤمن؟ قال: «لا». لأن الكذب خصلة تستحكم من صاحبها، وتستمر معه، فيكون معه خصلة من خصال النفاق، وأما ما يقع من زنا الشهوة، ومن سرقة الشهوة وأشباه ذلك، فإنها عارض يعرض، ويزول، ويرتفع معه الإيمان حتى يكون فوق صاحبه كالظلة، ثم إذا فارق المعصية عاد إليه، وأما الكذب، فإنه إذا استمر بصاحبه، فإنه يَدُلُّ ويهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، فقوله هنا عليه الصلاة والسلام (وَلاَ يَكْذِبُهُ) يدخل فيه أن يكذب في الحديث.(80/8)
قال (وَلاَ يَحْقِرُهُ) يعني لا يحتقر المسلم أخاه المسلم؛ بأن يعتقد، أو أنْ يأتي في خاطره أن هذا وضيع، وأن هذا أقل قدرا منه، وأن هذا مرذول، إما لأجل نسب، أو لأجل صناعة، أو لأجل بلد، أو لأجل معنى من المعاني، بل الإسلام هو الذي رفع المسلم، وجعله مكرما مخصوصا من بين المخلوقات؛ ولهذا فإن المسلم عند الله جل وعلا كريم عزيز، وتحقير المسلم يخالف أصل احترام المسلم لما معه من التوحيد والإيمان، فهذا البدن الذي أمامك بدن المسلم يحمل عقيدة التوحيد، وحسن ظن بالله، ومعرفة بالله وعلم بالله بحسب ما عنده من الإسلام والإيمان والعلم، وهذا ينبغي معه ألا يحتقر، بل يحترم لما معه من الإيمان والصلاح.
وهذه يتفاوت الناس فيها كلما كان الإيمان والصلاح والإسلام والتوحيد والطاعة، والسنة أعظم في المرء المسلم، كان أولى بأن يكرم، ويعز وأن يبتعد عن احتقاره، ويقابله المشرك، فإنه مهما كان من ذوي المال، أو ذوي الجاه، أو ذوي الرفعة، فإن جسده فيه روح خبيثة حملت الشرك بالله، والاستهزاء بالله ومسبة الله جل وعلا، والمحب لله جل وعلا يكره، ويحتقر هذا الذي معه الاستهزاء بالله والنيل من الله جل وعلا وادعاء الشريك معه.
فإذن يعظم المسلم أخاه المسلم، ويحترمه، ولا يحتقره بما معه من الإيمان والتوحيد.
قال (التّقْوَىَ هَهُنَا. وَيُشِيرُ إِلَىَ صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرّاتٍ) التقوى محلها القلب، وهذا معنى إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره ثلاث مرات. -ونختصر بالكلام؛ لأن الوقت يمضي سريعا-.(80/9)
قال (بِحَسْبِِ امْرِىءٍ مِنَ الشّرّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِم. كُلِّ الْمُسْلِمِ عَلَىَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ. دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) دم المسلم حرام أن يُسفك بغير حق، وكذلك ماله حرام أن يؤخذ بغير حق، وكذلك عرضه حرام أن يُنال منه بغير حق، فالنيل من الأعراض بالغيبة والنميمة، أو أن ينال من أهل الرجل، أو من أسرته، أو أن يتصرف في ماله بغير إذنه، أو أن يأخذ ماله، أو أن يعتدي على شئ من أملاكه، وكذلك أن يعتدي على دمه، وهذا أعظمُه، هذا كله حرام. والشريعة جاءت بتحقيق هذا الأمر فيما بين المسلمين، وفي مجتمع الإسلام بأن تكون الدماء حراما، والأموال حراما، والأعراض حراما، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال في خطبته يوم عرفة: «أَلاَ إِنَّ دِماءَكمْ وأموالَكم وأعْراضَكمْ عَلَيْكُم حَرامٌ كَحرْمةِ يومِكُم هذا, في شَهرِكمْ هذا, في بَلَدِكمْ هذا».(80/10)
الحديث السادس والثلاثون -
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدّنْيَا, نَفّسَ اللّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ يَسّرَ عَلَىَ مُعْسِرٍ, يَسّرَ اللّهُ عَلَيْهِ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً, سَتَرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ. وَاللّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ, وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السّكِينَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرّحْمَةُ وَحَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ أَبَطأَ بِهِ عَمَلُهُ, لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» رواه مسلم.
[الشرح](81/1)
قال عليه الصلاة والسلام (مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدّنْيَا, نَفّسَ اللّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) الكربة: ما يكون معه الضيق والضنك والشدة على المسلم. ولهذا ناسب معها تنفيس؛ لأنها تستحكم من جميع الجوانب من جهة نَفْس المؤمن، وقلبه وما يجول فيه، ومن جهة يده، ومن جهة ما حوله، فتستحكم عليه حتى تضيقَ به الأرض الواسعة؛ فهنا إذا نُفِّس عنه فبقدر ذلك التنفيس يكون الثواب. قال عليه الصلاة والسلام (مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً) وهذا فيه إطلاق، يعني أي كربة من كرب الدنيا، فيدخل في ذلك الكرب النفسية والكرب العملية، وما يدخل تنفيسُه في الكلمة الطيبة، وما يدخل تنفيسه في المال، وما يدخل تنفيسه في بذل الجاه، إلى آخره، فتنفيس الكربة عام، والكرب هنا أيضا عامة، فمن نفس عن مؤمن كربة بأن يسر له السبيل إلى التخلص منها، أو خفف عليه من وطأة الكربة والشدة والضيق الذي أصابه، كان جزاؤه عند الله جل وعلا من جنس عمله لكن في يوم هو أحوج إلى هذا التنفيس من الدنيا؛ ولهذا كان الثواب في الآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام (نَفّسَ اللّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ).(81/2)
قال (وَمَنْ يَسّرَ عَلَىَ مُعْسِرٍ, يَسّرَ اللّهُ عَلَيْهِ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ) المعسر هو الذى عليه حق لغيره لا يستطيع أداءَه، والتيسير على المعسر يكون بأشياء منها أن يعطيه مالا؛ ليفك به إعساره، أو أن يكون الحق له فيضعه عن المعسر، فيخفف عنه، وقد قال جل وعلا ?وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ?[البقرة:280]، فالتيسير على المعسر من الأمور المستحبة، ومن فضائل الأعمال، ومن الصدقات العظيمة، قال هنا عليه الصلاة والسلام (وَمَنْ يَسّرَ عَلَىَ مُعْسِرٍ) يعني خفّف عنه شأن إعساره بإعطائه مالا، أو بإسقاط بعض المال الذي عليه، أو بإسقاط المال كله، أو السعي له في التخلص من الإعسار، (يَسّرَ اللّهُ عَلَيْهِ) جزاء وفاقا على ما يسر، (يَسّرَ اللّهُ عَلَيْهِ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ) وهذا من الثواب الذي جعل في الدنيا والآخرة، فلا بأس من أن يقصده المسلم في أن ييسر على إخوانه رغبة فيما عند الله جل وعلا ورغبة في أن ييسر عليه في الدنيا والآخرة؛ لأن هذا كما ذكرنا في شرح حديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ» لا ينافي الإخلاص، فإن العمل إذا رتب عليه الثواب في الدنيا، أو في الدنيا والآخرة، وجاءت الشريعة بذلك، فإن قصده مع ابتغاء وجه الله جل وعلا والإخلاص له لا حرج فيه.
قال (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً, سَتَرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ)، (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً) مسلم: هنا أيضا تعم جميع المسلمين سواء أكانوا مطيعين صالحين، أم كانوا فسقة، فإن الستر على المسلم من فضائل الأعمال، بل جعله طائفة من أهل العلم واجبا، فإن المسلم الذي ليس له وِلاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب عليه أن يستر أخاه المسلم، أو يتأكدُ عليه أن يستر، فإذا علم منه معصية كتمها، وإذا علم منه قبيحا كتمه، وسعى في مناصحته وتخليصه منه.(81/3)
وأما أهل الحِسْبَة، أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهم يجوز لهم أن يعلموا هذا فيما بينهم، لكن لا يجوز لهم أن يتحدثوا بما قد يقترفه بعض المسلمين من الذنوب والآثام والقاذورات والمعاصي؛ لأن هذا أيضا داخل في عموم الستر (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً, سَتَرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ) لكن الحاجة إلى تأديبه قائمة، فهؤلاء لهم أن يتداوَلوا أمره بحسب الحاجة الشرعية، وهذا ينبغي التنبيه عليه كثيرا لمن يلي مثل هذه الأمور، في أنهم قد يتوسعون في الحديث عن أهل العصيان، وعمن يقبضون عليه ممن يرتكب جرما، أو يرتكب ذنبا، أو معصية في تأديبه رحمة به، فَمثل هؤلاء ينبغي لهم أن يكتموا القضايا التي يتداولونها فيما بينهم، وألا يذكروا شيئا منها إلا لمحتاج إلى ذلك الحاجة الشرعية.
قال عليه الصلاة والسلام (وَاللّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) هذا فيه حث على أن يعين المرء أخاه بأعظم حث، حيث جعل أن العبد إذا أعان أخاه، فإنّ الله في عونه، فإذا كنت في حاجة أخيك كان الله في حاجتك، وإذا أعنت إخوانك المسلمين، واحتجت إلى الإعانة، فإنّ الله يُعينك، وهذا من أعظم الفضل والثواب.
قال (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ) وهذا فيه الحثّ والترغيب على سلوك طريق العلم، والرغب فيه، فأي طريق من طرق العلم سلكته، فإنّ الله جل وعلا يسهل لك به طريقا إلى الجنة، بشرط إخلاصك في طلب العلم؛ لأن العلم باب من أبواب الجنة، والجنة لا تَصلح إلا لمن علم حق الله جل وعلا؛ فمن طلب العلم، ورغب فيه مخلصا لله جل وعلا سهل الله له به طريقا إلى الجنة.(81/4)
قال (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ, وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السّكِينَةُ) الحديث، قوله (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ) اُستدل به على أن هذا لا يُخص به قوم من قوم، فيصلح أنَّ يكون هؤلاء المجتمعون من العلماء، أو من طلبة العلم، أو من العامة، أو من العُبّاد، أو من غيرهم، فالمساجد تصلح للاجتماع فيها لتلاوة كتاب الله، ولتدارسه، فإذا اجتمع أي قوم، أي فئة لأجل تلاوة كتاب الله وتدارسه، فإنهم يتعرَّضون لهذا الفضل العظيم. قال (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللّهِ) والمراد بذلك المسجد، والمسجد بيت الله؛ إضافة تشريف للمسجد؛ لأنه بيت يطلب فيه رضا الله، جل جلاله.
قال (يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ) هذا حال أولئك الذين يتلون كتاب الله، والمقصود بذلك أن يتلو واحد منهم، والبقية يسمعون، كما كان عليه هدي السلف، أما التلاوة الجماعية فهي محدثة ولا تقر، وإنما الذي كان عليه عمل الصحابة، وما بعدهم أنهم يجعلون قارئا يقرأ القرآن، ثم يستمع البقية، وقد يتناوبون القراءة فيما بينهم، ويتدارسون كلام الله، جل وعلا.
قال (إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السّكِينَةُ)، و(السّكِينَةُ) هذه هي الطمأنينة، والروح والرحمة التي تكون من الله جل وعلا، (نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السّكِينَةُ) نفهم من ذلك أنها من عند الله جل وعلا؛ لأنه قال (نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ) وهذا فيه تعظيم لها.
قال (وَغَشِيَتْهُمُ الرّحْمَةُ) وقوله (غَشِيَتْهُمُ الرّحْمَةُ) هذا فيه أن الرحمة صارت لهم غِشَاء، يعني أنها اكتنفت هؤلاء من جميع جهاتهم، فلا يتسلط عليهم شيطان؛ يعني وهم على تلك الحال، بل الرحمة اكتنفتهم من جميع الجهات، فصارت عليهم كالغشاء، وهذا من فضل الله العظيم عليهم، حيث تعرضوا للرحمة، فصارت غشاء عليهم، لا ينفذ إليهم غيرها.(81/5)
قال (وَحَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ) وأيضا كلمة (حَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ) يعني أحدقت بهم بتراص، حيث لا ينفذ إليهم من الخارج، وهذا كما قال جل وعلا ?وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ?[الزمر:75] فحَفُّ الملائكة بالشيء، يعني بالعرش، أو بهؤلاء الذين يتلون، يعني أنهم أحدقوا بهم من جميع الجهات، وتراصوا بحيث كانوا حافين بهم، وهذا يدل على أن هؤلاء تعرضوا لفضل عظيم، لا يتسلط عليهم وهم إذْ ذاك شيطان إلا ما كان من هوى أنفسهم والقرين.
قال (وَذَكَرَهُمُ اللّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) والذِّكر هنا معناه الثناء، يعني أثنى الله عليهم فيمن عنده، ومن عنده؟ هم الملائكة المقربون، كما قال جل وعلا ?لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ?[النساء:172] فالملائكة المقربون هم الذين عند الله جل وعلا ?وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ?[الأنبياء:19].
وقال بعده (وَمَنْ بَطأَ بِهِ عَمَلُهُ, لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) فيه أن التفاخر بالأنساب، والظن أنه لأجل النسب يكون المرء محبوبا عند الله جل وعلا هذا جاءت الشريعة بإبطاله، والأمر على التقوى والعمل ?إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ?[الحجرات:13]، فالتقوى هي مدار التفضيل، ومدار التفاضل بين الناس.(81/6)
الحديث السابع والثلاثون -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِيه عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, قَالَ «إِنّ الله عَزّ وَجَلّ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ. ثُمّ بَيّنَ ذَلِكَ, فَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وَإِنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمّ بِهَا فَعَمِلَهَا, كَتَبَهَا الله سَيّئَةً وَاحِدَةً». [رواه البخاري ومسلم بهذه الحروف].
[الشرح]
قوله هنا (فِيمَا يَرْوِيه عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) يعني أن هذا حديث قدْسي.
قال (إِنّ الله كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ. ثُمّ بَيّنَ ذَلِكَ) يعني كتبها عنده، فبينها في القرآن، بين ما تكون به الحسنة، وبين ما تكون به السيئة، يعني: بين العمل الذي يكتب للمرء به حسنة، وبين العمل الذي يكتب للمرء به سيئة.(82/1)
قال: (فَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا) إلى آخره، اُستدل به على أن الملكين اللذين يكتبان ما يصدر عن العبد، دل على أنهما يعلمان ما يجول في قلبه، الهمّ معلوم للملك، وهذا بإقدار الله جل وعلا لهم إطلاعه إياهم وإذنه بذلك. قد كان بعض الأنبياء يعلم ما في نفس الذي أمامه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أَخبر رجلا بما في نفسه، وهكذا حصل من عدد من الأنبياء، فهذا من أنواع الغيب الذي يُطلع الله جل وعلا إياه من شاء من عباده، فالملائكة أطلعهم الله جل وعلا على ذلك كما قال سبحانه?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ?[الجن:26-27]، والرسول هنا يدخل فيه الرسول الملَكي، والرسول البشري، قال (فَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) لأن الهم نوع من الإرادة، وإرادته للحسنة طاعة، فيكتبها الله جل وعلا له من رحمته ومنه وكرمه، يكتبها له حسنة.
قال فـ(إِنْ هَمّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عَزّ وَجَلّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ) يعني أنه إنْ همّ بالحسنة فعملها، فأقل ما يكتب له عشر حسنات، وقد يصل ذلك إلى سبعمائة ضعف بحسب الحال، وقد ذكرنا لكم تفاصيل ذلك في أوائل هذا الشرح، فإن المسلمين يتفاوتون في ثواب الحسنة، منهم من إذا عملها كتبت له عشر أضعاف، ومنهم من إذا عملها كتبت له سبعمائة ضعف، ومنهم مائتا ضعف، ومنهم من تكتب له أكثر من ذلك إلى سبعمائة ضعف، بل إلى أضعاف كثيرة، وهذا يختلف كما ذكرنا باختلاف العلم وتوقير الله جل وعلا والرغب في الآخرة؛ ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أعظم هذه الأمة أجورا، وكانوا أعظم هذه الأمة منزلة.(82/2)
وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أنْفَقَ أحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً مَا بَلَغَ مُدّ أحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» يعني أنهم مع قلة ما ينفقون وما عَمِلوا، فإنهم أعظم مما لو أنفق أحدكم وهؤلاء في متأخري الإسلام، فكيف بمن بعدهم؟ لو أنفقوا مثل أحد ذهبا، وهذا يختلف باختلاف حسن الإسلام وحسن اليقين إلى آخره.
قال (وَإِنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)، (إن هَمّ بِسَيّئَةٍ) يعني أراد سيئة، (فلَمْ يَعْمَلْهَا) فهذا فيه تفصيل:
? إن تركها من جراء الله جل وعلا يعني خشية لله ورغبا فيما عنده، فإنه تكتب له حسنة كما ذكر في هذا الحديث، وقد جاء في حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال «فإنما تركها من جرائي» فإذا ترك السيئة التي هم بها، فتركها يعني فلم ينفذها عملا لله جل وعلا فهذا تكتب له حسنة؛ لأن إخلاصه قلب تلك الإرادة السيئة إلى إرادة حسنة، والإرادة الحسنة والهم بالحسن يكتب له به حسنة.
? والحال الثانية: أن يهِمَّ بالسيئة فلا يعملها؛ لأجل عدم تمكنه منها، والنفس باقية في رغبتها بعمل السيئة، فهذا وإن لم يعمل، فإنه لا تكتب له حسنة في ذلك، بل إنْ سعى في أسباب المعصية، فإنه تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه». قال العلماء: إذا تمكن المرء من أسباب المعصية، وصرفه صارف عنها، خارج عن إرادته، فإنه يجزى على همه بالسيئة سيئة، ويكون مؤاخذا بها بدلالة حديث «القاتل والمقتول في النار».(82/3)
قال (وَإِنْ هَمّ بِهَا فَعَمِلَهَا, كَتَبَهَا الله سَيّئَةً وَاحِدَةً) وهذا من عظيم رحمة الله جل وعلا بعباده المؤمنين أنهم إذا عملوا سيئة لا تضاعف عليهم، بل إنما يكتبها الله جل وعلا عليهم سيئة واحدة، وأما الحسنات فتضاعَف عليهم؛ ولهذا لا يهلك على الله يوم القيامة إلا هالك، لا ترجح سيئات أحد على حسناته إلا هالك؛ لأن الحسنات تضاعف بأضعاف كثيرة، وحتى الهمّ بالسيئة إذا تركه تقلب له حسنة، والسيئة تكتب بمثلها، فلا يظهر بذلك أنْ يزيد ميزان السيئات لعبد على ميزان الحسنات إلا، وهو خاسر، وقد سعى في كثير من السيئات، وابتعد عن الحسنات.
بهذا نشكر الله جل وعلا ونحمدك ربي على إحسانك وفضلك ونعمتك على هذا الكرم، وعلى هذه النعمة العظيمة، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.(82/4)
الحديث الثامن والثلاثون -
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: «إن اللّهَ تعالى قال: مَنْ عادَى لي وَليّاً فقد آذَنْته بالحرْبِ. وما تقرّبَ إليّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إلي مما افتَرَضْته عليه. وما يزالُ عبْدي يتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أُحبَّه, فإذا أحبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يسمَعُ به وبَصرَه الذي يُبْصِر به ويدَه التي يبطِشُ بها. ورجلَه التي يمشي بها, ولئنْ سألني لأُعطينَّه, ولئن استعاذني لأعيذَنه» [رواه البخاري].
[الشرح]
هذا حديث أيضا عظيم قال فيه عليه الصلاة والسلام(إن اللّهَ تعالى قال) فهو حديث قدسي، (مَنْ عادَى لي وَليّاً فقد آذَنْته بالحرْبِ) (عادَى) يعني اتخذ الولي عدوا، وهذا معناه أنه أبغضه، قال العلماء: إن أبغض الولي؛ لما هو علي من الدين، فهذا ظاهر دخوله في الحديث، وأما إن عاداه لأجل الدنيا، وحصل بينه وبينه خصومات؛ لأجل الدنيا فهذا فيه تفصيل؛ إن صار معه خصومات بغضاء وكره، فإن يُخشى عليه أن يدخل في هذا الحديث، وأما إن كانت الخصومات بدون بغضاء، فإنه لا يدخل في هذا الحديث. يعني: لا يكون مؤذنا بالحرب، وذلك لأن سادات الأولياء من هذه الأمة قد وقعت بينهم خصومات، فتخاصم عمر وأبو بكر في عدة مجالس، وتخاصم ابن عباس، بل العباس وعلي وحصل بينهم خصومة، وترافع إلى القاضي، وهكذا في عدد من الأحوال. فوقوع الخصومة بلا بغضاء لولي من أولياء الله جل وعلا فهذا لا يدخل في هذا الحديث، وأما إذا أبغض وليا من أوليا الله جل وعلا فإنه مؤذن بالحرب؛ يعني قد أذنه الله جل وعلا بحرب من عنده، وإيذانه بالحرب معناه أنه أُعلم وأُنذر بأنه سيعاقب من الله جل وعلا إذ حرب الله جل وعلا إيصال عذابه ونكاله لعباده.(83/1)
قال (من عادَى لي وَليّاً) والولي عند أهل السنة والجماعة عُرف بأنه يعني عرّفه بعض العلماء بأنه: كل مؤمن تقي ليس بنبي. هذا الولي في الاصطلاح عند أهل السنة والجماعة، يعني أن الولي كل من عنده إيمان وتقوى. والإيمان والتقوى تتفاضل، فتكون الولاية، يعني محبة الله جل وعلا لعبده ونصرته لعبده تكون تلك الولاية متفاضلة، وإنما يُقصد بالولي من كَمَّل بحسب استطاعته الإيمان والتقوى، وغلب عليه في أحواله الإيمان والتقوى، وذلك لقول الله جل وعلا?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، فجعل الأولياء هم المؤمنين المتقين، إذن فمن عادى مؤمنا متقيا قد سعى في تكميل إيمانه وتقواه بحسب قدرته، ولم يعرف عنه ما يخدش كمال إيمانه، وكمال تقواه، فإنه مؤذن بحرب من الله، يعني مُعلَم ومهدد بإيصال عقوبة الله جل وعلا له؛ لأن هذا الولي محبوب لله جل وعلا منصور من الله جل وعلا والواجب أن تحب المرء لمحبة الله جل وعلا له.
قال (وما تقرّب إليّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إلي مما افتَرَضْته عليه) يعني أن أحبَّ القُرُبات إلى الله جل وعلا أن يتقرب إليه بها العبد أن يتقرب العبد بالفرائض، هذه أحب القربات إلى الله جل وعلا؛ الصلوات الخمس، حيث تصلى وتقام، والزكاة المفروضة، والصيام المفروض، والحج المفروض، الأمور الواجبة، وكل أمر افترضه الله جل وعلا عليه فالتقرب إليه به هو أحبّ الأشياء إليه جل وعلا وهذا خلاف ما يأتي لبعض النفوس، في أنهم يحصل عندهم خشوع و تذلل في النوافل ما لا يحصل في الفرائض، بل ويرجون بالنوافل ما لا يرجون بالفرائض، وهذا خلاف العلم، والله جل جلاله كما جاء في هذا الحديث القدْسي: إنما يحب بل أحب ما يتقرب إليه به جل وعلا ما افترضه سبحانه. فافترض الله جل وعلا الفرائض؛ لأنه يحب أن يتعبد بها.(83/2)
قال (وما يزالُ عبْدي يتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أُحبَّه) يعني لا يزال يتقرب بالنوافل؛ نوافل العبادات بعد الفرائض، حتى يحبه الله جل وعلا وهذا يعني أنه صار له كثرة النوافل وصفا، بحيث كثر منه إتيانه بنوافل العبادات من صلاة وصيام وصدقات وحج وعمرة وأشباه ذلك. قال (حتى أُحبَّه) وهذا يدل على أن محبة الله جل وعلا تجلب بالسعي في طاعته، بأداء النوافل والسعي فيها بعد أداء الفرائض، والتقرب إلى الله جل وعلا بها.
قال (فإذا أحبَبته) لمحبة الله جل وعلا لعبده أثر، فما هذا الأثر؟ قال (فإذا أحبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يسمَعُ به وبَصرَه الذي يُبْصِر به) إلى آخره، هذا فسره علماء الحديث وعلماء السنة بقوله (كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يسمَعُ به) يعني أوفقه وأسدده في سمعه وفي بصره، وفي ما يعمل بيده، وفيما يمشي إليه برجله، فمعنى قوله (كُنْتُ سَمْعَهُ) يعني أوفِّقه في سمعه، وهذا ليس من التأويل؛ لأن القاطع الشرعي النصي أن الله جل وعلا لا يكون بذاته سمعا، ولا يكون بذاته بصرا، ولا يكون بذاته يدا، ولا يكون بذاته رِجْلا جل وعلا وتقدس وتعاظم ربنا، فدل على القاطع الشرعي على أن قوله (كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يسمَعُ به) يعني: أنه يوفَّق في سمعه، ويسدد فلا يسمع إلا ما يحب الله جل وعلا أن يُسمَع، ولا يبصر إلا ما يحب الله جل وعلا أن يُبصَر، ولا يعمل بيده ولا يبطش بيده إلا بما يحب الله جل وعلا أن يعمل باليد، أو يبطش بها، وكذلك في الرجل التي يمشي بها.
وغلاة الصوفية استدلوا بهذا على مسألة الحلول، وهناك رواية موضوعة زادوها في هذا الحديث بعد قوله (ورجلَه التي يمشي بها) قال (وحتى يقول للشيء كن فيكون)، وهذا من جراء عقيدة الحلول، وهذه مروية لكنها بأسانيد منكرة، وحكم عليها طائفة من أهل العلم بالوضع.(83/3)
قال (ولئنْ سألني لأُعطينَّه, ولئن استعاذني لأعيذَنه) يعني والله لئن سألني لأعطينه؛ لأن اللام في قوله(لئنْ) هذه واقعة في جواب القسم، ويكون قبلها قسم، (ولئنْ سألني لأُعطينَّه) يعني والله لئن سألني لأعطينه ما سأل، يعني أن يكون مجاب الدعوة (ولئن استعاذني لأعيذَنه) وهذا فرع من الجملة قبلها، جعلنا الله وإياكم من خاصة عباده وأوليائه.(83/4)
الحديث التاسع والثلاثون -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إِنّ اللّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمّتِي الْخَطَأَ وَالنّسْيَانَ, وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» [حديث حسن، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما].
[الشرح]
هذا الحديث أيضا فيه بيان فضل الله جل وعلا ورحمته بالمؤمنين، قال فيه عليه الصلاة والسلام (إِنّ اللّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمّتِي الْخَطَأَ وَالنّسْيَانَ, وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)، وفي قوله (إِنّ اللّهَ تَجَاوَزَ لِي) ما يفهم أن هذا من خصائص هذه الأمة، فغيرنا من الأمم إذا همّ بالعبد بحسنة لم تكتب له حسنة، وإذا هم بسيئة فتركها لم تكتب له حسنة، وكذلك في خصائص كثيرة ومنها التجاوز عن الخطأ والنسيان، فرحم الله جل وعلا هذه الأمة بنبيها - صلى الله عليه وسلم - وتجاوز لها عن الخطأ والنسيان، ولما نزل قول الله جل وعلا في آخر سورة البقرة ?وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ?[البقرة:284] شقّ ذلك على الصحابة رضوان الله عليهم جدا حتى نزلت الآية الأخرى، وهي قوله جل وعلا ?لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا?[البقرة:282] فدعا بها الصحابة رضوان الله عليهم قال الله جل وعلا «قَدْ فَعَلْتُ». فقوله تعالى (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وقوله جل وعلا«قَدْ فَعَلْتُ». في معنى هذا الحديث، بل هذا الحديث في معنى الآية، فدل ذلك على أن من أخطأ، فإنه لا إثم عليه، ومن نسي فلا إثم عليه، لكن هذا مختص بالحكم التكليفي. أما الحكم الوضعي، فإنه يؤاخذ بخطئه وبنسيانه؛ يعني ما يتعلق بالضمانات، فإذا أخطأ، فقتل مؤمنا خطأ، فإنه يؤاخذ بالحكم(84/1)
الوضعي عليه بالدية وما يتبع ذلك، وأما الإثم، فإنه لا إثم عليه؛ لأنه أخطأ، وكذلك إذا أخطأ فاعتدى على أحد في ماله، أو في جسمه، أو في أشباه ذلك، فإنه لا إثم عليه من جهة حق الله جل وعلا، أما حق العباد في الحكم الوضعي، فإنهم مؤاخذون به؛ يعني أنّ الآية، والحديث دلا على التجاوز فيما كان في حق الله؛ لأن الله هو الذي تجاوز، وتجاوزه جل وعلا عن حقه سبحانه وتعالى، وهذا هو المتعلق بالحكم التكليفي، كما هو معروف في بحثه في موضوعه، في علم أصول الفقه، والخطأ غير النسيان، وكذلك الإكراه ما يكره عليه أيضا يختلف عنهما:
فالخطأ إرادة الشيء وحصول غيره من غير قصد لذلك. ([39])
والنسيان الذهول عن الشيء.
والإكراه، أو قوله (وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) يعني ما أكرهوا عليه، فعملوا شيئا على جهة الإكراه، والله جل وعلا قال { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ } [النحل:106]، الآية في سورة النحل.
وهذا فيه من حيث التفريعات الفقهية مباحث كثيرة نطويها؛ طلبا للاختصار.(84/2)
الحديث الأربعون -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: « كنْ في الدنيا كأنكَ غَرِيب, أو عابرُ سَبيل » وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. [رواه البخاري].
[الشرح]
هذا الحديث، حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ووصية النبي - صلى الله عليه وسلم - له، به حياة القلوب؛ لأن به الابتعاد عن الاغترار بهذه الدنيا بشباب المرء، أو بصحته، أو بعمره، أو بما حوله.
قال ابن عمر رضي الله عنهما (أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي) وهذا يدل على الاهتمام بابن عمر، وكان إذ ذاك شابا صغيرا في العشر الثانية من عمره، قال أخذ بمنكبي، فقال (كنْ في الدنيا كأنكَ غَرِيب, أو عابرُ سَبيل) وهذا من أعظم الوصية المطابقة للواقع لو عقل الناس، فإن الإنسان ابتدأ حياته في الجنة ونزل إلى هذه الأرض ابتلاء، فهو فيها غريب، أو عابر سبيل، فزيارته للدنيا؛ زيارة الجنس البشري بأجمعه للدنيا هذه زيارة غريب، وإلا فإن مكان آدم ومن تبعه على إيمانه وتقواه وتوحيد الله جل وعلا والإخلاص له، فالمنزل هو الجنة، وإنما أُخرج آدم من الجنة ابتلاء وجزاء على معصيته، وهذا إذا تأملتَ وجدت أن المرء المسلم حقيق أن يوطّن نفسه، وأن يربيها على أن منزله الجنة، وليس هي هذه الدنيا، وهو في هذه الدنيا في دار ابتلاء، وإنما هو غريب، أو عابر سبيل كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
وما أحسن استشهاد ابن القيم رحمه الله تعالى إذْ ذكر أن حنين المسلم للجنة، وأن حبَّه للجنة ورغبه فيها هو بسبب أنها موطنه الأول، وأنه هو الآن سَبِي للعدو، ورحل عن أوطانه بسبب سبي إبليس لأبينا آدم، وهل ترى أن يرجع إلى داره الأولى أم لا؛ ولهذا ما أحسن قول الشاعر:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ إلا للحبيب الأول
وهو الله جلا جلاله،(85/1)
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وهي الجنة، وهذا إنما يخلص له قلب المنيبين إلى الله جل وعلا دائما، المخبتين له، الذين تعلقت قلوبهم بالله حبا ورغبا ورهبا وطاعة، وتعلقت قلوبهم بدار الكرامة بالجنة، ويعملون لها وكأنها بين أعينهم، فهم في الدنيا كأنهم غرباء، أو كأنهم عابروا سبيل، ومن كان على هذه الحال غريب، أو عابر سبيل، فإنه لا يأنس بمُقامه؛ لأن الغريب لا يأنس إلا بين أهله، وعابر السبيل دائما على عجل من أمره، وهذه حقيقة الدنيا، فإنه لو عاش ابن آدم ما عاش، عاش نوح ألف سنة منها تسعمائة وخمسون سنة في قومه { فَلَبِثَ [فِيهِمْ] ([40]) أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [العنكبوت:14] ثم مضت وانتهت، وعاش أقوام مئات السنين ومضوا وانتهوا، وعاش قوم مائة سنة وثمانين، وأربعين وخمسين.
فالحقيقة أنهم غرباء وعابرو سبيل، مروا بهذه الدنيا وذهبوا، والموت يصبح المرء ويمسيه، فيجب على المرء أن ينتبه إلى نفسه، وأعظم ما يصاب به العبد أن يصاب بالغفلة عن هذه الحقيقة، الغفلة عن حقيقة الدنيا ما هي، فإذا من الله عليك بمعرفة حقيقة الدنيا، وأنها دار غربة، وأنها دار ابتلاء، دار اختبار، دار ممر وليست دار مَقَر، فإنه يصحو قلبه، وأما إذا غفل عن هذه الحقيقة، فإنه يصاب قلبه من مقاتله، أيقظنا الله وإياكم من أنواع الغفلات.(85/2)
ابن عمر - رضي الله عنه - كان يوصي بمقتضى الوصية، فيقول (إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء) يعني كن على حذر دائما من الموت أن يَفْجَأَكَ، فكن على استعداد، وقد قيل في عدد من علماء السلف علماء الحديث: كان فلان لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله. وهذا يكون باستحضار حق الله جل وعلا دائما، وأنه إذا تعبد، فإنه يستحضر ذلك، ويخلص فيه لربه، وإذا خالف أهله يكون على الإخلاص وامتثال الشريعة، وإذا باع، أو اشترى يكون على الإخلاص، ويكون على الرغب في إتيان الحلال، وهكذا في كل أمر يأتيه، فإنه يكون على علم، وهذا فضل أهل العلم أنهم إذا تحركوا وعملوا، ففي كل حال يكونون فيه يستحضرون الحكم الشرعي فيه، فيمتثلون، أو يفعلون، وإن غلِطوا، أو إن أذنبوا فسرعان ما يستغفرون، فيكونون بعد الاستغفار أمثل مما هم قبله، وهذه مقامات؛ ولهذا قال (وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري).(85/3)
الحديث الحادي والأربعون -
وعن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حتى يَكونَ هواهُ تَبَعًا لما جِئْتُ بِهِ» [حديث صحيح، رُوِّيناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح].
[الشرح]
هذا الحديث حديث مشهور؛ وذلك لكونه في كتاب التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حتى يَكونَ هواهُ تَبَعًا لما جِئْتُ بِهِ) وهذا حديث حسن، كما حسنه هنا النووي، بل قال(حديث حسن صحيح)، وسبب تحسينه أنه في معنى الآية وهي قوله جل وعلا { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65] وتحسين الحديث، بمجيء آية فيها معناه مذهبُ كثير من المتقدمين من أهل العلم كابن جرير الطبري، وجماعة من حذاق الأئمة والمحدثين.
وقوله هنا (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حتى يَكونَ هواهُ تَبَعًا لما جِئْتُ بِهِ) يعني الإيمان الكامل لا يكون، حتى يكون هوى المرء ورغبة المرء تبعا لما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني أن يجعل مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقدما على مراده، وأن يكون شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدما على هواه، وهكذا، فإذا تعارض رغبه وما جاء به، جاءت به السنة، فإنه يقدم ما جاءت به السنة، وهذا جاء بيانه في آيات كثيرة، وفي أحاديث كثيرة، كقول الله جل وعلا { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } [التوبة:24]الآية إلى أن قال { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [التوبة:24] فالواجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإذا كان كذلك فسيكون هوى المرء تبعا لما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.(86/1)
إذن في قوله (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم) هذا فيه نفي لكمال الإيمان الواجب، وهذا ظاهر من القاعدة التي سبق أن ذكرناها لكم، وتتمة الكلام على شرح الأحاديث فيما قدمناه من شرحنا على كتاب التوحيد.(86/2)
الحديث الثاني والأربعون -
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قالَ الله تعَالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ مِنكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَك. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن] والله أعلم وصلى الله على محمد
[الشرح]
(وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «قالَ الله تعَالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ مِنكَ وَلاَ أُبَالِي) المقصود بابن آدم هنا المسلم الذي اتبع رسالة الرسول الذي أرسل إليه، فمن اتبع رسالة موسى عليه السلام في زمنه كان منادى بهذا النداء، من اتبع رسالة عيسى في زمنه كان منادى بهذا النداء، وبعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - من يحظى على هذا الأجر وعلى هذا الفضل والثواب هو من اتبع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأقر له بختم الرسالة، وشهد له بالنبوة والرسالة، واتبعه على ما جاء به.
قال جلا وعلا (يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ منكَ وَلاَ أُبَالِي)، وهذه الجملة في معنى قول الله جل وعلا { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [الزمر:53]، فالعبد إذا أذنب وسارع إلى التوبة، ودعا الله جل وعلا أن يغفر له، ورجى ما عند الله جل وعلا فإنه يغفر له على ما كان منه من الذنوب مهما كانت بالتوبة؛ «التوبة تجبُّ ما قبلها».(87/1)
وقوله جل وعلا هنا (إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي) فيه أنّ الدعاء مع الرجاء موجبان لمغفرة الله جل وعلا، وهناك من يدعو، وهو ضعيف الظن بربه، لا يحسِّن الظن بربه، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء»، والعبد إذا دعا الله جل وعلا مستغفرا لذنبه يدعو مستغفرا ومستحضرا أنّ فضل الله عظيم، وأنه يرجو الله أن يغفر، وأن الله سيغفر له.
فإذا عظم الرجاء بالله، وأيقن أن الله جل وعلا سيغفر له، وعَظُم ذلك في قلبه، حصل له مطلوبه؛ لأن في ذلك إحسان الظن بالله، وإعظام الرغب بالله جل وعلا وهناك عبادات قلبية كثيرة تجتمع على العبد المذنب حين طلبه الاستغفار وقبول التوبة، حين طلبه المغفرة وقبول التوبة، تجتمع عليه عبادات قلبية كثيرة توجب مغفرة الذنوب فضلا من الله جل وعلا وتكرُّما.
قال (غَفَرْتُ لَكَ) والمغفرة ستْر الذنب وستْر أثر الذنب في الدنيا والآخرة، والمغفرة غير التوبة؛ لأن المغفرة ستر، غفَر الشيء بمعنى ستَره، والمقصود من ستر الذنب أن يستر الله جل وعلا أثره في الدنيا والآخرة، وأثر الذنب في الدنيا العقوبة عليه، وأثر الذنب في الآخرة العقوبة عليه، فمن استغفر الله جل وعلا غفر الله له؛ يعني من طلب ستر الله عليه في أثر ذنبه في الدنيا والآخرة؛ ستر الله عليه؛ ستر أثر الذنب بحجب أثر الذنب من العقوبة في الدنيا والآخرة.
قال (يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ) يعني من كثرتها بلغت عنان السماء؛ السحاب العالي، من كثرتها وتراكمها.(87/2)
قال (ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لك) وهذا مما يجعل العبد المنيب يحب ربه جل وعلا أعظم محبة؛ لأن الله العظيم الذي له صفات الجلال والجمال والكمال، والذي له هذا الملكوت كله، وهو الذي على كل شيء قدير، وعلى كل شئ وكيل، وهو الذي من صفاته كذا وكذا، من عظيم صفاته وجليل النعوت والأسماء، يتودد إلى عبده بهذا التودد لا شك أن هذا يجعل القلب مُحِبًّا لربه جل وعلا متذللا بين يديه، مؤثرا مرضاة الله على مرضاة غيره سبحانه وتعالى.
قال الله جل وعلا (يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ) وهذا فيه الحث على طلب المغفرة، فإنك إذا أذنبت فاستغفر، فإنه ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة كما جاء في الأثر، فمع الاستغفار والندم يمحو الله جل وعلا الخطايا.
قال (ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) يعني لو جاء ابن آدم بملء الأرض خطايا، ثم لقي الله جل وعلا مخلصا له الدين لا يشرك به شيئا، لا جليل الشرك ولا صغيره ولا خفيه، بل قلبه مخلص لله جل وعلا؛ ليس فيه سوى الله جل وعلا وليس فيه رغب إلا إلى الله جل وعلا وليس فيه رجاء إلا رجاء الله جل وعلا، لا يشرك به شيئا بأي نوع من أنواع الشرك، فإن الله جل وعلا يغفر الذنوب جميعا، قال سبحانه (ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) يعني بملء الأرض مغفرة، وهذا من عظيم رحمة الله جل جلاله بعباده، وإحسانه لهم.
??? - -(87/3)
اللهم لك الحمد على أسمائك وصفاتك، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من شريعة الإسلام، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من بعثة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم لك الحمد على ما مَنَنْتَ به علينا من سلوك طريق سلفنا الصالح، اللهم لك الحمد على ما مننت به علينا من مغفرةٍ للذنوب، ومن كسب للحسنات ومن محو للسيئات، اللهم لك الحمد على آلائك العظيمة، اللهم لك الحمد، وأنت للحمد أهل، لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، اللهم فاغفر لنا ذنوبنا جميعا، اللهم أبدل سيئاتنا حسنات، واجعلنا ممن رحمتهم في الدنيا والآخرة ويسرتهم إلى طريق الحق والخير، اللهم رسخ العلم في قلوبنا وارزقنا بعده علما نتقرب به إليك، اللهم بعد العلم النافع ارزقنا العمل الصالح، اللهم اجعل قلوبنا خاشعة واجعل دعاءنا مسموعا، نعوذ بك اللهم من بعد الكور، ونعوذ بك اللهم من الضلال بعد الهدى، اللهم نسألك لنا ولإخواننا جميعا ولمن نحب ولأهلينا ولذوينا نسألك لنا جميعا ممن ختمت له بخاتمة السعادة وغفرت ذنبه وألهمته رشده وجعلت يوم لقاك خير أيامه، اللهم لك الحمد كله ولك الفضل كله وإليك يرجع الأمر كله، لك الفضل على الإسلام، ولك الفضل والحمد على الإيمان، ولك الحمد والفضل على العلم، ولك الحمد والفضل على ما نغفل به من نعم عظيمة وآلاء جسيمة.
اللهم فتقبل ذلك منا واغفر لنا ذنوبنا وحوبنا وخطايانا أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
قام بإعداد هذه المادة:
أبو عبدالله عبدالرحمن سالم الجزائري
---(87/4)
قسم الفقه(/)
أحْكَام ُالهَدْيِ والأضَاحِي
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أحمد الله شاهدا أنه لا إله إلا هو الحي القيوم القائم بالقسط العزيز الحكيم.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وأشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
اللهم صل وسلم وبارك على عبد ورسولك محمد كفاء ما علّم وبيّن وكفاء ما أرشد وجاهد في الله حق الجهاد، وعلى الآل والصحب أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم اجعل قلوبنا خاشعة لك مُنِيبة إليك، نسألك الازدياد من العلم والعمل، ونعوذ بك من الضلال والغيّ بعد الهُدى والإيمان.
موضوع هذه المحاضرة أو هذا الدرس:
أحْكَامُ الهَدْي ِوَالأَضَاحِي
وهذا الموضوع يُذكر في كتب أهل العلم بعد أحكام الحج؛ لأن أحكام الهدي والأضحية متعلقة بالحج، لأن الهدي يُفعل في مكة -يفعله الحاج- والأضحية أيضا يفعلها الحاج ويفعلها غيرُه.
وبعض أهل العلم يذكر أحكام الهدي والأضاحي بعد كتاب الذبائح في أواخر أبواب الفقه؛ وذلك لأن بعضهم درج على ذكر أحكام الأطعمة والأشربة في أواخر كتب أهل العلم، ويذكر بعد الأطعمة الذبائح، ويذكر بعد الذبائح الأضاحي والهدي.
وعلى كلٍّ فهذا الموضوع مهم؛ لأنه متعلق بعبادة عظيمة يحبها الله جل وعلا ويرضاها ألا وهي إراقة الدم تقربا إلى الله جل وعلا.
?????
أحكام الأضاحي والهدي
الهدي غير الأضحية وبينهما فرق.
وأصل معنى الهدي هو ما يُهدى إلى الله جل وعلا في مكة -يعني في الحرم- مما يذبح تقربا إليه جل وعلا وازدلافا إليه.
وأما الأضحية فهي كل ذبح ودم أُريق لله جل وعلا في زمنه المخصوص.(88/1)
فالهدي قد يكون في أيام مخصوصة؛ يعني في يوم النحر والأيام التي بعده، وقد يكون في أي يوم من السنة في العمْرة، والهدي يكون في يوم الأضحى وأيام التشريق ويكون في غير هذه الأيام؛ لأن الهدي مستحب في العمرة كما أنه مستحب أو واجب في الحج بحسب تفصيل الأحكام التي ستأتي.
وأما الأضحية فهي ما يُذبح من بهيمة الأنعام في أيام مخصوصة في يوم الأضحى وثلاثة الأيام بعده سواء أكان في مكة أو في غيرها للحاضر وللمسافر.
فصار هناك أيضا اشتراك ما بين الأضاحي والهدي وهناك اختلاف فيما بينها.
وكذلك الأحكام أكثرها واحد فيما بين الأضاحي والهدي، وهناك اختلاف في بعض الأحكام كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
?????
المسألة الثانية:
أصل مشروعية الأضاحي والهدي
أصل مشروعية الأضاحي ما قصَّ الله جل وعلا علينا من خبر إبراهيم عليه السلام مع ابنه حيث قال جل وعلا ?فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ?[الصافات:102]، إلى أن قال جل وعلا ?فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ(105)[إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاَءُ المُبِينُ(106)]([1])وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ?[الصافات:103-107]، فَفُدِي إسماعيل عليه السلام بكبش أمَرَ الله جل وعلا إبراهيم أن يذبحه بدل ذبح نَفْسِ إسماعيل، وإبراهيم عليه السلام إمام الموحدين وإمام الحنفاء، وإسماعيل عليه السلام كذلك إمام الموحدين وإمام الحنفاء وأبٌ للعرب، وإبراهيم أب للعرب ولغيرهم.
فدلّ هذا على أن هذه السنة مضت بفعل إبراهيم عليه السلام حيث إن أصل الذبح كان فداءً لإسماعيل عليه السلام من الذبح.(88/2)
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم إن أصل مشروعية الذبح في الأضاحي والهدي إن أصل مشروعيته هو فداء النفس، والمقصود من ذلك المنة بما عوّض الله جل وعلا إبراهيم عليه السلام عن ذبح ولده وقرة عينه بذبح الكبش، وما اختص الله جل وعلا إسماعيل أيضا به من الامتنان والفضل.
والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يضحي؛ فضحَّى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حضرا وسفرا، وكان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يعظِّم ذلك ويحثُّ عليه حتى كان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يضحي بكبش أو بكبشين في المدينة وفي غيرها وفي مكة؛ بل ضحى في مكة وأهدى لما حج عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحى وأهدى أيضا فجمع بين هذه وهذه.
وقال ابن القيم وغيره من أهل العلم إن سنة الأضاحي والتقرب إلى الله جل وعلا بالدم موجودة بين أكثر أهل الملل؛ بل قال كل أهل الملل؛ لأنها من سنن المرسلين القديمة التي أمر الله جل وعلا أنبياءه بها.
?????
[فضل الهدي والأضاحي]
إذا تبين لك ذلك، فإن الأضحية من حيث هي وإن الهدي من حيث هو فيه فضل عظيم جدا، وهذا الفضل العظيم له جهات:
أولا: الذابح أو المتقرب إلى الله جل وعلا بهذا الذبح وهذه الأضحية أو الهدي يقوم في قلبه حب الله جل وعلا، ويقوم في قلبه تقوى الله جل وعلا والرغبة فيما عنده والرغبة في الأجر والثواب، وإلا فما معنى أن ينفق هذه النفقة وأن يتكلف هذا التكلف إلا رغبة فيما عند الله جل وعلا وإخلاصا له سبحانه وتعالى.
ففيها أولا أنَّ المتقرب إلى الله جل وعلا بهذا الذبح موحد لله سبحانه وتعالى؛ إذْ إنه لم يذبح إلا له سبحانه وتعالى، فالأضاحي والهدي كسائر الذبائح إنما تكون للحق جل وعلا؛ يعني أن تذبح باسمه سبحانه وتعالى، فلا تُهَلَّ لغير الله ولا يذكر عليها غير اسم الله جل وعلا وأن يتقرب بها إليه، وهذا هو عنوان التوحيد لأن الذبح لغير الله جل وعلا شرك بالله جل وعلا.(88/3)
فالذبح في الأضحية والهدي فيه إعلان من كل مسلم لهذا الشعار العظيم الذي قال فيه جل وعلا ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163] فالنسك ومنه الذبائح لله جل وعلا رب العالمين لا شريك له سبحانه وتعالى.
والثاني من الأمور التي تُبَيِّن لك فضل الأضحية: أنّ الأضحية شعار التقوى، والمضحي أو المهدي والمتصدق بهذه اللحوم، والمتقرب إلى الله جل وعلا قبل ذلك بهذه الدماء يدل على أنه معظم لشعائر الله جل وعلا، وقد قال سبحانه ?وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ?[الحج:32]، من يعظِّم ما فيه شعيرة لله جل وعلا في إعلاء أمره وإشعار بما أمر الله جل وعلا به فإن ذلك يدل على تقواه؛ يعني على حبه لله ورغبه فيما عنده وهربه مما يخالف أمره جل وعلا.
فإذن أمر الأضاحي والهدي ليس من أمر العادات؛ بل هو دليل وينبغي أن يكون معك في قلبك أنه دليل على تقواك لله جل وعلا وعلى تقربك إليه ورغبك فيما عنده.
والثالث: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين لنا معنى قوله جل وعلا ?لَن يَنَالَ اللهَ لحُوُمُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَناَلُهُ التَّقْوَى مٍنْكُمْ?[الحج:37]، لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا هو أعظم عند الله -أو أحب إلى الله- من إراقة الدم» فأعظم الأعمال في يوم الأضحى؛ أعظم الأعمال في اليوم العاشر من ذي الحجة أن يُتَقَرَّب إلى الله جل وعلا بهذا الذبح، قال «وإن الدم ليقع من الله بمكان» يعني يقع من الله جل وعلا في أجره وثوابه وعِظم رضاه عن فاعله والمتقرب به «يقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض»لم؟ لأنه قام في قلب المتقرب إلى الله جل وعلا قام في قلبه حب الله جل جلاله، وقام في قلبه تقواه، وقام في قلبه توحيده سبحانه وتعالى وتقدس وتعاظم.(88/4)
وهنا يذكر بعض أهل العلم حديثا في فضل الأضاحي وهو قوله فيما يروى عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «اسْتَفْرِهُوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط» ومعنى (استفرهوا) يعني استعظموا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط، وهذا الحديث رواه الديلمي وغيره بإسناد ضعيف جدا؛ بل حكم بعض أهل العلم بوضعه فليس صحيحا أنّ هذا من فضائل الأضاحي ولا من فضائل تعظيمها.
?????
[حكم الهدي والأضاحي]
حكم الأضحية: الأضحية سنة مؤكدة، فمن وجد سَعَة في ماله فإن الأضحية في حقه مؤكدة؛ وذلك لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحّى في كل سنة من سنواته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، تقرب إلى الله جل وعلا بذلك، وهذا يدل على سنية الأضحية، ومحافظته عليها عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في الحضر والسفر يدل على تأكدها.
ولهذا قال بعض أهل العلم إنها واجبة؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «من وجد سعة فلم يُضَحِّ فلا يقربن مصلاّنا»، وهذا يدل على وجوب الأضحية لأنه نهي عن أن يقرب المصلى لأنه أتى بوزر، وهذا الحديث رواه بعض أصحاب السنن، والصواب أنه موقوف على أبي هريرة فلا يصح رفعه للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
وهذا يجعل الراجح من قولي أهل العلم أن الأضحية سنة مؤكدة، وفضلها عظيم وليست بالواجبة على أعيان المسلمين.
ويدل على عدم الوجوب أنّ أبا بكر رضي الله عنه ترك التضحية، وكذلك عمر ربما ترك التضحية، كذلك ابن عباس وعدد من الصحابة، خشية أن يرى الناس أن التضحية واجبة.
وأما الهدي: فالهدي يختلف، فمنه ما هو مستحب ومؤكد، ومنه ما هو واجب.(88/5)
والهدي الواجب: هو دم المتعة ودم القِرَان، والدم الواجب عن ترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظور يعني الفدية الواجبة، فالمتمتع يعني من أحرم من تمتع فعليه هدي بما استيسر كما قال جل وعلا ?فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ?[البقرة:196]، وقوله جل وعلا (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) هذا يشمل المتعة ويشمل القِران أيضا؛ لأن في كل منهما تمتعا بترك أحد السفرين، فهذا هو الهدي الواجب، وكذلك إذا ترك واجبا من واجبات الحج فإنه يُجبر بدم، وإذا فعل محظورا من محظورات الحج فإنه يجبر بدم، على تفاصيل في ذلك موجودة في كتب أهل العلم.
وهناك فرق ما بين هدي المتعة والقران والهدي الواجب بفعل محظور أو ترك واجب؛ وذلك:
· أن هدي المتعة والقران واجب وهو هدي شكر لله جل وعلا.
· وأما الآخر وهو الفِدْية في ترك واجب أو فعل محظور فهو هدي جُبْران.
وهذا يجعل ثم فرقا بينهما من جهة توزيع الهدي:
فهدي الشكر لله جل وعلا له حكم الأضاحي في أنه يقسم ما بين ثلاثة الأصناف الواردة في الآية كما سيأتي بيانها؛ يعني المتمتِّع له أن يأكل من هديه وله أن يتصدق، وكذلك القارن له أن يأكل من هديه ويُهدي وكذلك يجب عليه أن يتصدق بما يطعم به مسكينا لقول الله جل وعلا ?فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ?[الحج:28].
وأما هدي الجُبْران؛ يعني الفدية من ترك واجبا من واجبات الحج فإنه يجبر بدم لقول ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم. فهذا دم جبران واجب لا يأكل منه ولا يُهْدِي؛ بل يجب للمساكين لأنه دم جبران لا دم شكر.
فإذن انقسم الدَّم إلى قسمين:
دم شكر وهو دم الأضحية التي يتقرب بها إلى الله جل وعلا باستحباب أو وجوب تقرُّبا وشكرا لله جل وعلا، وكذلك دم الهدي هدي المتعة أو هدي القِران.(88/6)
بخلاف دم الجبران فإنه لا يأكل منه ولا يهدي؛ بل يجب أن يتصدق به كله.
?????
المسألة التي تلي هذه الكلام على:
أنواع [الهدي و]الأضاحي
الأضاحي والهدي إنما يكون في بهيمة الأنعام لقول الله جل وعلا ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ?[الحج:28]، ولقوله ?وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ?[الحج:36]، فالذي يضحى به هو الإبل والبقر والغنم بنوعيها الضأن والمعز.
وأفضل هذه الأنواع الثلاثة الإبل، ثم البقر، ثم الغنم.
وبعض أهل العلم يفضل التضحية بالضأن على الإبل وعلى البقر.
والصواب أن الترتيب في الفضل هو للإبل ثم للبقر ثم للغنم؛ وذلك لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في المسارع للجمعة «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا» فدل على أن هذه الثلاث مرتّبة.
وهذا في بلاد توجد فيها هذه الثلاث، والمساكين يفرحون بالإبل أكثر من البقر أو يفرحون بالبقر أكثر من الغنم.
أما إذا كان البلد المساكين فيه يفرحون بالضأن أعظم من فرحهم بالبقر فإن الضأن يكون أفضل من البقر كما هو موجود في هذه البلاد مثلا، أو في بلاد لا يستسيغون أكل لحم الإبل فإن البقر يكون أفضل؛ لأن المقصود من الأضاحي أن يكون في ذلك قربة لله جل وعلا وأن يكون في ذلك طعمة للمساكين.
والتفضيل العام كما ذكرت لك هو للإبل ثم للبقر ثم للغنم.(88/7)
والغنم قسمان معز وضأن، المعز ذوات الشعر والضأن ذوات الصوف، والضأن والمعز الأفضل منهما ما كان أغلى ثمنا وأسمن وأوفر لحما، ثم يلي ذلك من جهة اللون، إذا كان أبيض، أشهب يعني فيه بياض ولو خالطه سواد قليل أو حمرة أو صفرة أو أشباه ذلك على اختلاف أنواع الضأن أو الغنم، ثم يليه الأسود، يعني أنّ الأفضل الأغلى ثمنا والأسمن سواء وافق اللونُ البياض أو وافق اللونُ السواد، فإن تساوت في الثمن والطيب فالأبيض أفضل؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحى بكبشين أملحين أقرنين، فتضحيته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بأملح يعني الأشهب دليل على تفضيله، قد روى مسلم رحمه الله أنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: ضحى بكبش ينظر في سواد ويأكل في سواد ويطأ في سواد. وهذا اختلف فيه أهل العلم ما المراد به هل المراد أنه أسود كامل السواد وفيه بياض قليل أو قد يخلطه لون آخر؟ أم أنه أملح ولكن رأسه مكان الأكل منه الفم والنظر والقوائم فيها السود؟ على قولين لهما والأظهر هو ما ذكرت لك من التفضيل.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يفضِّل الأغلى ثمنا دائما، فإذا كانت الشاة أغلى ثمنا من الإبل فإن الشاة تكون أفضل، فما كان أغلى ثمنا فهو مفضَّل عنده، وهذا ليس على إطلاقه على الصحيح لأنّ الدليل دل على أن الاعتبار بتفضيل الإبل حيث قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «ومن راح في الساعة الأولى كأنما قرَّب بَدَنَة».
وكون هذه الثلاث أنواع من بهيمة الأنعام هي التي يُضحى بها وتقع الأضحية منها هذا موقع إجماع بين أهل العلم، وأما التفضيل فثم خلاف بين أهل العلم في أيِّها الذي يُفَضَّل.(88/8)
وفي الهدي مثل الأضاحي في كون البعير أفضل، ثم البقر، ثم الغنم، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نحر إبلا كثيرة في حجة الوداع، فضحى عن نسائه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بالبقر، وضحى عن نفسه وعن أمته بكبشين أقرنين أملحين، فدل على أن هذه الثلاث مشروعة في الهدي وفي الأضاحي، وأنها حكمها في الأضحية حكمها في الهدي.
?????
[شروط الهدي والأضاحي]
أما من جهة صفات ما يجزئ من هذه، فثم شروط بها نعلم هل هذه الأضحية أو الهدي مجزئ أم لا؟
فأول هذه الشروط السن: فالذي يجزئ من حيث السن هو الثَّنِيُّ يعني الذي ظهرت له ثنيتان وهو الذي يسميه العامة الثِّنِي هذا:
في الإبل يكون فيما له خمس سنين.
وفي البقر فيما له سنتان.
وفي الغنم فيما له سنة، إلا أنه في الضأن أبيح ويجزئ أن يضحَّى بالجَذَع من الضأن وهو ما له ستة أشهر فأكثر؛ وذلك أنَّ النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ثبت عنه أنه قال «يجزئ الجَذَعُ من الضأن أضحية» وهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره، وقد أعله بعض أهل العلم؛ لكن الصواب أنه صحيح وأنَّ هذا من محفوظات أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
فإذن الأضحية إذا كانت من الضأن ستة أشهر فما فوق هذه مجزئة.
وإذا كانت من البقر من سنتين إلى أعلى.
وإذا كانت من الإبل من خمس سنين إلى أعلى وهذا من جهة سنها.
فإذا كانت أقل من ذلك فلا تجزئ.
بعض الناس قد يتساءل في هذا الأمر خاصة عندما يشتري الأضاحي أو يشتري الهدي من جهة السن، ما يعرف يفرق ما بين الجذع وما الثني، إذا أشكل عليك فلا تأخذ جذعا إذا كنت لا تميز بين ما له ستة أشهر وما له خمسة أشهر أو أربعة أشهر حتى لا تقع في تفريط في شرط من الشروط.(88/9)
والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ جاءه رجل وقد ذبح قبل الصلاة فقال له «اذبح بعد الصلاة» فقال: لا أجد إلا جذعة، قال «اذبحها فإنها مجزئة عنك ولن تجزئ عن أحد بعدك»، وهذا استدل به بعض أهل العلم على أن الجذع من الضأن لا يجزئ في الأضحية؛ لكن ذكرنا لك أن الصواب أنه مجزئ، فإذن صار ثم اشتباه عليه وعدم معرفة في السن، فخذ الثني بالكشف على أسنانه تعرف ما ظهر سنه واستطال حيث أنه يكون له سنة فأكثر. هذا من جهة السن من جهة العمر.
أما من جهة الصفات: فإن القاعدة العامة في الأضاحي أنه يجزئ فيها ما كان سليما وافر اللحم، ما كان سليما فيه لحمه؛ وذلك لأنه هو المقصود منه، سليم من العاهات والأمراض التي تنقص قيمته أو تنقص لحمه، لهذا ثبت عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في حديث البراء بن عازب أنه قال -أعني البراء-: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا فقال «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البَيِّنُ عَوَرُها، والعرجاء البَيِّنُ عرجها، والمريضة البَيِّنُ مرضها، والعجفاء التي لا تنقي» يعني التي لا نقي لها لا مخ لها.
هذا يحتاج إلى بيان.
أما الأول فقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (العوراء البين عورها) نستفيد منه أن الذاهبة لإحدى العينين من الإبل أو البقر أو الغنم فإنها لا تجزئ لأنها عوراء، إذا ذهبت إحدى عيناها، وقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (البين عورها) يدل على أن التي لم يستبن عورها أنها تجزئ، ويُفهم منه أن ما هو أعظم من العور فإنه لا يجزئ من باب أولى كالعمى إذا كانت بهيمة الأنعام منخسفة العينين جميعا، أو كان فيها عينان لكنها عمياء فإنها لا تجزئ؛ لأن هذا نقص في ثمنها وكذلك نقص في أكلها وعظم بدنها.(88/10)
وقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (والعرجاء البين عرجها) يعني أنّ العرجاء التي لا تستطيع المشي مع صحاح الماشية فإنها لا تجزئ، وهذا معنى قوله (البيّن عرجها)، أما إذا كان عرجها خفيفا ليس بينا أو يمكنها معه المشي مع الصحيحات، وأنها ترد ما يردون من الرعي وتذهب معهم ونحو ذلك فإن هذا ليس بالعيب الذي يجعلها لا تجزئ؛ ولكن فيه الكراهة لأن السليمة أولى من المعيبة ولو كان عيبها لا يمنع من الإجزاء، فإذن قوله (العرجاء البين عرجها) نستفيد منه هذه الفائدة التي ذكرت لك.
وقوله (المريضة البين مرضها) المرض أقسام حدده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في بقوله (البين مرضها)، والبين مرضها إما أن يكون بضعف واضح وهزال واضح فيها، أو أن تكون دائما منطرحة، أو أن تكون لا تستطيع المشي أو لا تأكل أو أن تكون كبيرة السعال، أو نحو ذلك مما يكون المرض فيه بيِّنا.
وهنا أشياء قد تظن أنها مرض وليست بالمرض مما يكون في هذا الوقت، وذلك مثل ما يظهر في بعض الماشية خاصة الضأن النجدي وشبهه أنه يظهر فيها الغدد هذه التي يسميها العامة الطْلُوع وهذه لها أحكام الغدة، والغدة لا تؤكل ولكنها لا تعيب الأضحية بعدم الإجزاء، وإنما تُكره معها التضحية لكنها مجزئة، فمن وجد بعد شرائه للأضحية فيها من الغدة هذه في مكان منها كان بينا أو كان خافيا عليه، فإن هذا مما يكره إلا في حالة أنه أضرَّ بها فجعلها مريضة بيِّنا مرضها.
وهذه الأورام التي تظهر إذا كانت قليلة في بهيمة الأنعام إذا كانت قليلة في الخرفان فإنها لا تؤثر على لحمها بضعف فيه أو فساد، وإنما يفسد ما حولها، ولذلك جاء كلام أهل العلم ممن تقدم وأهل العلم في هذا الزمن بأنها تجزئ؛ لكن الأفضل أن تجتنب فإذا اشتريت وفيها هذه فإنك إذا ضحيت فإن هذا مجزئ لا شيء فيه.(88/11)
كذلك قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (والعجفاء التي لا تُنْقِي) يعني الضعيفة الهزيلة التي لا نقي لها؛ بمعنى أن عظمها ليس فيه مخ، وكذلك تكون شحمها شحم العينين فيها ضعيف، وهذا يدل على هزالها الشديد، فالعجفاء التي لا تنقي يعني لا نقي فيها شديدة الضعف شديدة الهزال فإنها لا تجزئ؛ لأن المقصود كما ذكرت لك من الأضاحي والهدي أن تجمع ما بين التقرب إلى الله جل وعلا بإراقة الدم وما [...] وتعظيم اللحم الذي تتقرب به إلى الله جل وعلا بصدقة ونحوها.
ويلحق بهذا أحكام في أشياء تكون عيوبا عند بعضٍ؛ لكنها لا تؤثر في الإجزاء.
والعلماء هنا اختلفوا هل غير هذه الأربع المذكورة في الحديث تؤثر في الإجزاء؟
والصواب من أقوال العلماء هنا أنه يقتصر في العيوب على هذه الأربع فقط وما هو أولى منها؛ يعني مثل العمى في العينين هو أولى من العور، ومثل انقطاع إحدى الرجلين رجل مقطوعة تماما أو مكسورة تماما فهذا أعظم من العرج وأشباه ذلك مما هو أولى مما ذكر.
أما ما لم يكن مذكورا في هذه الأربع مثل بعض العيوب التي لا تؤثر في ثمنها تأثيرا بالغا فإن هذا لا بأس به، مثل انقطاع بعض الأذن مثل الخروق في الأذن مثل قلة الصوف فيها وأشباه ذلك مثل انقطاع الإلية يعني إلية الخروف أو أشباه ذلك هذا لا يؤثر.
فلو اشتريت ضأنا لا إلية فيها فإن هذا لا بأس به، مثل ما يأتي الآن مهجنة تأتي في الأسواق خرفان مهجنة لا إلية فيها أو مثل ما إليته صغيرة جدا أو ما قطعت إليته هذا لا حرج فيه لأنه لا يؤثر على ذلك.
هنا من جهة نوع الضأن بخصوصه فإن:
الضأن تارة يكون ذكرا أو أنثى تضحية الذكر أفضل من التضحية بالأنثى وهذا واحد.(88/12)
والثاني أن الخصي يجزئ في الأضحية؛ لكن الأفضل الذكر غير المخصي، النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحى بكبشين موجوءين فدل على جواز التضحية بالموجوء، والموجوء هو ما سُلَّت خصيتاه أو ضربت خصيتاه، أما إذا كان مجبوبا يعني قطع ذكره مع الخصيتين كما يفعله بعض البادية في الضأن حتى يسمن ويعظم فإن هذا لا يجزئ، فإذا قال لك خصي تنتبه هل هو قُطِع ذكره مع الخصيتين أم أنه ضربت الخصيتان حتى صارت صغيرة وأما الذكر فباق، فإن كان مجبوبا ذاهب الذكر مع الخصيتين فإنه لا يجزئ باتفاق أهل العلم، وأما إذا كان خصيا موجوءا بربط الخصيتين مع بقاء الآلة فإن هذا لا بأس به ويجزئ؛ لكن الأفضل أن يكون بذكر غير مجبوب.
من جهة العدد: أيضا ثم أحكام، يعني هل الأفضل أن يضحي باثنتين بناقتين ببقرتين بثلاث أم بواحدة ثمنها أغلى؟ وهذه المسألة عرض لها أهل العلم وقالوا -يعني قول الأكثر منهم-: إنه ما تعدد فيه إراقة الدم فإنه أفضل ولو كان أقل ثمنا، إذا كنت ستشتري ثنتين أو ثلاث تضحي بها وهناك واحدة من حيث السعر أغلى من هذه الثلاث فإن التعدد أفضل من الجنس الواحد، أما لو تعدد الضأن مع الإبل فإن سبعة من الضأن تعدل واحد من الإبل في الفضل، والإبل كما ذكرنا أفضل من شاة واحدة.
أيضا مما ينبَّه عليه في ذلك أن نوع بهيمة الأنعام له أثر في التفضيل وذلك مرتبط بثمنها، فالنوع الأفضل عند الناس والأعظم التضحية به أفضل وإهداؤه وإقامته هديا أفضل وذلك؛ لأن ما عظم عند الناس فهو أفضل لأن تخلصهم منه وشراءهم له فهو أغلى عندهم من جهة المال ومن جهة المعنى أيضا، فبعض الإبل من حيث السلالة أفضل من بعض، وبعض الغنم من حيث السلالة أفضل من بعض، وبعض البقر من حيث السلالة أفضل من بعض فما كان أفضل سلالة فهو من جهة التضحية والهدي أفضل في ذلك.
هذه بعض الأحكام المتعلقة بالأضاحي من جهة أنواعها وشرائطها والعيوب التي فيها من جهة الإجزاء وأشباه ذلك.(88/13)
وهنا نعرض لمسألة وهي أنه إذا اشترى أضحية ثم تعيَّبت عنده أصابها عيب؛ يعني صارت عرجاء أو نطحت شيء صارت عوراء أو انكسرت رجلها أو أشباه ذلك، فما حكم هذا؟
الحكم أن هذا يختلف باختلاف حال الذي يريد التضحية بها والتي هي عنده، فالذي هي عنده فهو أمين عليها مؤتمن عليها فإن كان مفرطا فإنه يضمن؛ لأن لها حكم الأمانات، وإن كان لم يفرط يعني مثلا وضعها في السيارة وضعا صحيحا؛ لكن مثلا وضعا على ظهر [...] ومكشوف وما وثقها لاشك أنها قد تقفز وتَتَعيب، فهنا إذا كان لم يفرط فلا حرج عليه يذبحها ولو معيبة إنما تعيبت بعد شرائه لها؛ ولكن إذا كان مفرطا فإنه يضمن غيرَها إذا كان هو المضحي بتلك الأضحية في حال كونها واجبة، وأما إذا كانت مستحبة فإنه يستحب أن يضمن غيرها.
?????
الموضوع الثالث الكلي مما يكون في أحكام الأضحية والهدي:
أحكام المضحِّين وصفة الذبح
أما المضحُّون الذي يريد أن يضحي فتبتدئ أحكامه بدخول العشر، وذلك أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ صح عنه فيما رواه مسلم أنه قال «إذا دخلت العشر وأراد أحدُكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بَشَرَتِه شيئا» قال جمهور أهل العلم هذا يدل على الكراهة، وقال بعضهم هذا يدل على التحريم؛ لأنه نهي والنهي الأصل فيه التحريم وهو الصحيح.
فأولا من أراد أن يضحي يعني يقول أنا سأضحي، فإذا دخلت العشر ودخول العشر يكون من مغيب شمس آخر يوم من أيام ذي القعدة؛ يعني يبدأ من الليل مثل رمضان يبدأ من ليلة الأول؛ يعني من مغيب الشمس يبدأ الحكم فلا يأخذ من بشَرَته يعني من جلده، ولا من أظفاره ما يقض أظفاره، ولا من شعره ما يقص شعره ولا يأخذ منه شيئا، إذا أراد أن يضحي.(88/14)
وقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (وأراد أحدكم) أن يضحي محمول على من أراد أن يضحي عن نفسه، وأما الذي يضحَّى عنه من أهل البيت يعني مثل واحد في بيته يضحي عنه وعن أهل بيته، فهذا هو الذي يلزمه الحكم، أما الذي يضحى عنه فلا يلزمه أن يمسك من أظفاره وشعره، لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال (وأراد أحدكم أن يضحي) أما المضحى عنه فليس له الحكم هذا.
وكذلك قال أهل العلم المتبرع بالتضحية الذي يضحي عن والده ولم يدخل نفسه يضحي عن والده الحي أو الميت ولم يدخل نفسه في الأضحية التي يسميها العامة البريرة، أو كان وصيا على أضاحي أو كان وكيلا عليها فلا يلزمه أن يمسك على الأخذ من بشرته وأشعاره شيئا، وهذا لها تفاصيل في الأحكام نذكرها لكم إن شاء الله ربما في الإجابة على الأسئلة أو في موضع آخر.
كذلك من أحكام المضحين أن المضحي يستحب له أن يضحي أضحيته؛ أن يذبحها بنفسه.
والأضاحي كما ذكرنا والهدي الإبل والإبل تنحر هذا هو الأفضل فيها لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نحرها ويجعلها قائمة كما سيأتي في صفة الذبح.
والمضحي ينحر الإبل ويذبح البقر والغنم لقوله جل وعلا ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً?[البقرة:67]، البقر يُذبح، وكذلك الغنم تذبح وصفة ذلك تأتي.
والذابح كما ذكرنا المستحب له أن يفعلها بيده، وله أن يوكل فإن وكلَّ غيره قال: اذبح عني. فإنه يستحب له أن يشهد إراقة الدم وأن يذكر هو أيضا مع الذابح اسم الله عليها ويقول: باسم الله وجوبا، فإذا تركها عمدا فإنها لا تحل، وأما إذا تركها نسيانا أو سهوا فإنه يذكر اسم الله بعد ذلك وتحل له.(88/15)
أيضا من أحكام المضحي أن المُهدي والمضحي يستحب له أن يقسمها أثلاثا؛ يعني أن يجعل ثلثا يأكله، وأن يجعل ثلثا يهديه، وأن يجعل ثلثا يتصدق به، والصدقة واجبة بما تطعم به مسكين، وأما الإهداء والأكل فهذا مستحب له، وذلك لقول الله جل وعلا ?فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ?[الحج:36]، فجعل الله جل وعلا الناس ثلاثة أصناف، فقال (فَكُلُوا مِنْهَا) يعني يا أيها الذين ضحوا أو أهدوا هدي شكر (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ) هو الذي يأتي متقنعا لا يريد أن يُعرف من شدة المسكنة يعني الفقراء، والثالث (المُعْتَرَّ) الذي يعتريك من ضيف أو قريب أو نحو ذلك، فالله جل وعلا أمر بأن تأكل منها، وأن تطعم منها الضيف والذي يعتريك وتهدي، وأن تتصدق بها.
حمل أهل العلم الصدقة على الوجوب، الأمر هنا في الصدقة على الوجوب، وهذا مما يتركه كثير من الناس يقسمون الأضاحي ولا يتصدقون بشيء منها، وهذا لا يجزئ ولا يجوز وليست أضحية حينئذ؛ لأن الأضحية يجب أن تتصدق منها؛ لأن المقصود إراقة الدم والصدقة، قال العلماء: فإن لم يتصدق منها ضمن بما يقع عليهم من إطعام في اللحم حددوه في الزمن الماضي بأوقية وفي هذا الزمن بقدر كيلو أو كيلوين من اللحم.
يعني أن أكلك منها مستحب، وأن الإهداء مستحب، فأما الصدقة فواجبة يجب أن تتصدق من الأضحية، إذا كان عندك عدة أضاحي فلابد أن تتصدق من هذه، تنزع من هذه مثلا عضو أو أقل منه وتجعله صدقة، وهذه عضو أو أقل منه وتجعله صدقة وتعطيه المساكين، أما أن يفرق هكذا هذا يهدي لهذا وهذا يهدي لهذا وأشباه ذلك من دون أن يطعم منه المساكين، فهذا غير مجزئ لأنه يجب أن يتصدق لقول الله جل وعلا (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ).
وأما صفة الذبح فهي بالنسبة:(88/16)
للإبل أن تكون قائمة معقولة اليد، ثم يطعنها في الوَحدة هنا ويحرك قليلا فهذا النحر، ثم يحرك بشدة فيندفع الدم بقوة، ثم تسقط الإبل بطبيعتها، ثم يُتِم بعد ذلك، لقول الله جل وعلا ?فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ?[الحج:36]، وهكذا كان يفعل النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فقام علي على بُدْنِهِ في أكثر من ستين؛ بل هي مائة فأقامها، ونحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحرا كثيرا، وترك لبعض أصحابه البقية.
وأما البقر فتوضع على جنبها الأيسر وتوجه إلى القبلة، وكذلك الإبل يوجه الدم حيث يكون خروجه إلى القبلة، توجه البقر والغنم إلى القبلة، وتوضع الرجل على الصفعة، وتذبح بسكين حادة ماضية.
والذي لا يحسن أن يذبح لا يعرض البهيمة للأذى والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ثبت عنه أنه قال «إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَةَ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» فبعض الناس يتعلم ويبقى يحرحر فيها وهي تتأذى، ومنها ما يقوم ويمشي وهذا يكون فيه أذية، إذا كان لا يحسن ولا يعرف من يده مضاءً من ذلك ومعرفة فإنه لا يستحب له أن يعذب البهيمة في ذلك، فيشهد أضحيته، ويجعل غيره ممن يحسن الذبح أن يذبح.
وينتبه في الذبح أنه يَذبح عنه من هو مأمون العقيدة، أما من ليس مأمون العقيدة بأن يكون مشركا أو وثنيا أو عابدا لغير الله جل وعلا فإن ذبيحته لا تحل لأنها ذبيحة مرتد.
كما ذكرنا إذا جعلها على جهتها اليسرى سمى الله وجوبا عند تحريكه يده؛ يعني قبل أن يخرج الدم يقول باسم الله والله أكبر اللهم هذا منك –يعني نعمة- ولك –مخلصا فيه لك لا أريق الدم إلا لوجهك لك وحدك لا أشرك بك شيئا–.(88/17)
والصحيح أن قول القائل: اللهم هذا منك ولك، أنه سنة خلافا لمن قال أنه بدعة، ثم يحرك يده ويذبحها ولا يكسر الرقبة، ويتأكد من أنه يُمضي الآلة الحادة حتى يبري المريء، ويبري الودجين والدم يخرج بقوة؛ لأن في هذا إسراعا في إزهاق الروح وإراحة للذبيحة.
ثم بعد ذلك يتركها حتى تبرد لا يكسر الرقبة كما يفعله بعض الناس، ولا يسرع في سلخها قبل أن تبرد لأن هذا فيه نوع إيذاء لها، وينتظر حتى يخرج الدم بكماله، وأما إذا أسرع فربما بقي الدم في العروق، وهو إن لم يكن مؤثرا في إجزاؤها وفي جواز الأكل منها؛ لكنه الأفضل أن ينتظر حتى تسكن أطرافها وتزهق الروح تماما.
?????
من الأحكام المتعلقة أيضا بالأضاحي والهدي في الزمن:
متى يبتدئ زمن الأضحية ومتى يبتدئ زمن الهدي؟
أما الأضاحي: فيبتدئ زمن الإجزاء فيها من خروج الناس أو انتهاء الناس من الصلاة صلاة عيد الأضحى، فإذا انتهى الناس من الصلاة والخطبة أيضا من باب التأكيد فأنه يشرع هنا بداية الذبح ولو لم يحضر الصلاة، كما في الحديث عن زمن الأضحية؛ يعني الزمن الذي إذا ذبح فيه كان مجزئا.
من جهة البداية ذكرنا لكم أنها بعد تمام الصلاة، فإذا كان في بلد فيه أكثر من مسجد يصلى فيه العيد فبأسبقها، فأسبق واحد؛ يعني إذا خرج الأول من الصلاة وأتم الخطبة فإنه يبتدئ هنا زمن التضحية، وكذلك الهدي في مكة.
وأما نهايته فاختلف فيها أهل العلم:
منهم من قال يومان بعد يوم النحر؛ يعني أن أيام الذبح ثلاثة يوم النحر ويومان بعده، فينتهي بغروب شمس الثاني عشر من ذي الحجة.(88/18)
وقال آخرون من أهل العلم بل ينتهي بغروب شمس الثالث عشر من ذي الحجة وذلك لقول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «أيام مِنَى أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى» ولقوله جل وعلا أيضا ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ?[الحج:28]، وقوله أيضا جل وعلا ?وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ?[البقرة:203]، ويشمل ذلك الذكر على الذبائح؛ يعني حين ذبحها بذكر اسم الله عليها.
والصحيح أن أيام الذبح أربعة الأول يوم النحر وأفضلها، والذبح فيه هو الأفضل فإن لم يتيسر أو بدا للمرء أن يضحي بعد ذلك يوم إحدى عشر، يوم اثني عشر، يوم ثلاثة عشر الأيام صارت أربعة على الصحيح من قولي أهل العلم هنا.
والليل هل يضحي بالليل أم لا؟ ظاهر الآية (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) وقال (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) دخلوه دخول الأضحية أو الذبح في هذا دخول في الأيام ولهذا قال بعض أهل العلم إن الذبح في الليل لا يجزئ.
وقال آخرون إن الذبح في الليل مكروه مع إجزائه، وهذا القول –أنه مكروه مع إجزائه- مأخوذ من ظاهر الآية؛ لأنها خصصت بالأيام فجعل ذلك أفضل وغير الأفضل مكروه.
والقول الثالث أن النهار أفضل لاشك والليل تبع للنهار فإذا ضحى فيه أجزأ من غير كراهة؛ لكن النهار هو وقت التعبد، وأيضا لأن الله جل وعلا يحب التقرب إلى إليه في أيام التشريق وفي يوم النحر لقوله «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة الدم» فاليوم أفضل وإن ذبح في الليل أجزأ لعدم ورود ما يدل على عدم الإجزاء والأصل أن الذبح حدد بدايته وحددت نهايته وشمول الأيام والليالي في ذلك سواء.(88/19)
أما الهدي كما ذكرنا هو قسمان هدي شكر وهو دم المتعة والقران، وهدي جبران، وهدي الشكر حكمه حكم الأضحية يبدأ تطوعا أو كان واجبا عليه كالمتعة أو القران يبدأ كالأضحية من بعد الصلاة إلى آخر أيام التشريق إلى غياب الشمس من آخر أيام التشريق، أما هدي الجبران بفوات واجب أو فعل محظور فإن وقت وجوبه من حين فعل ذلك؛ يعني يجب عليه من حين فعل ذلك ويبقى في ذمته لو ترك ذلك.
?????
المسألة الأخيرة التي لم نتعرض لها فاتت في موضعها، وهناك أحكام كثيرة يعني ربما تركناها لضيق الوقت لكن هي مسألة يحتاج إليها وهي مسألة:
التشريك في الأضاحي والهدي
والسنة سلفت كما في حديث جابر أنه في زمن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أُمروا أن يذبحوا الإبل وأن يشتركوا في الإبل سبعة أو سبعة في البقر؛ يعني أنه يجوز أن يشترك سبعة أشخاص في واحدة من الإبل، وسبعة في واحدة من البقر وتجزئ عن الجميع أضحية.
وكذلك لو اشتركوا بعضهم يريد الأضحية وبعضهم يقول أنا ما أريد أضحي ولكن أريد اللحم، فكذلك يجزئ عنهم؛ لكن بشرط أن يشتركوا جميعا كلٌّ على نيته قبل الذبح، أما لو حصل نحر الإبل من ثلاثة ثم جاء بعض الناس وقال نشترك معكم إما في لحم أو في أضحية فإن هذا لا يجزئ؛ لأنه يجب أن يكون قبل الشروع في الذبح.
الشاة -والشاة يصدق على الذكر وعلى الأنثى من الغنم من المعز ومن الضأن- هذه تجزئ عن واحدٍ وعمن يدخله الواحد في أضحيته؛ لكن التشريك في الشاة لا يجوز ولا يجزئ؛ بمعنى أنه لا يجزئ أن يشترك اثنان كل واحد يدفع نصف القيمة ويشتركان في شاة واحدة؛ بل الشاة الواحدة عن واحد فقط، وللواحد هذا أن يشرك أهل بيته أو يشرك والديه أن يشرك من شاء في ذلك.(88/20)
وإذا كان جماعة يسكنون مكانا واحدا وأكلهم واحد يعني نفقتهم واحدة وأكلهم واحد يشتركون في الأكل، ونفقتهم على هذا البيت واحدة قال بعض أهل العلم لهم حكم الأسرة الواحدة، ويجوز أن يشتركوا في أضحية يضحيها واحد منهم عنه وعن من في هذه الدار جميعا لاشتراكهم في النفقة؛ بمعنى أن يكون أكلهم في هذا البيت جميعا أكلهم مصرفهم واحد وشراؤهم واحد سكناهم واحدة إلى آخره، مثل مثلا ما يحصل واحد ساكن فوق وواحد تحت عائلته وأكلهم واحد جميعا أكل واحد والمصرف واحد إلى آخره، فهذا يجزئ أن يكون أن تذبح شاة عن الجميع، بالشرط الذي ذكرت وهو أن يكون مصرفهم واحدا؛ يعني النفقة الفلوس التي تصرف على البيت واحدة، تصرف عليهم جميعا؛ لكن إذا كان هذا يستقل بنفقة وهذا يستقل بنفقة ولو كانت قليلة فإن هذا لا يجزئ لأن الأصل عدم الاشتراك.
والسُّبْع من الإبل، السُّبع من البدنة، والسُّبع من البقرة لا يجوز فيه الاشتراك أيضا، فما يجوز أن يضحي مثلا يقول هذا السبع من البدنة عني وعن أهل بيتي لا يشترك في سبع البدنة فوق واحد يعني عن شخص واحد بمفرده .(88/21)
من المسائل أيضا المتعلقة بما ذكرنا إذا اجتمع يوم العيد يعني يوم الأضحى أو أحد أيام التكبير أضحية وعقيقة فهل تدخل إحداهما بالأخرى؟ يعني واحد جاء مولود في اليوم الثالث من ذو الحجة فجاءت الأضحية في يوم النحر والعقيقة أيضا تستحب أن تكون في يوم سابع فهنا يجزئ أن يضحي عنه وعن ولده وتكون أضحيته عن ولده عقيقة له؛ لأن معنى العقيقة هو إراقة الدم وكل غلام مرتهن بعقيقته، فإذا ضحى عنه ولو كان معه ضحى عنه وعن ولده فإن هذا يكفي؛ أو كان اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر، لكن هذا ليس هو الأفضل بل كل له سبب، الإمام أحمد رحمه الله تعالى روي عنه أنه قال يدخل هذا في هذا لدخول الأصغر في الأكبر؛ لأن العقيقة أقل من الأضحية، وروي عنه أنه قال هذه لها سبب وهذه لها سبب، فحمل قوله هذه لها سبب وهذه لها سبب على الأفضلية، وأيضا خروجا من الخلاف في ذلك.
ثَم مسائل كثيرة ربما نستعرضها في الأسئلة.
أسأل الله جل وعلا أن يفقهني، وإياكم في الدين.
اللهم اجعلني ممن فقهته في دينك، ومننت عليه بالعلم النافع والعمل الصالح.
اللهم مُنَّ علينا بما تحب وترضى وتقبل منا عباداتنا واغفر لنا لوالدينا أجمعين آمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[الأسئلة]
س1/ ما حكم دفع ثمن الضحية للمؤسسات الخيرية وذلك لذبحها ثم توزيعها على للأسر المحتاجة؟
ج/ الحمد لله.
أولا الأضحية التي هي إراقة الدم أفضل من الصدقة بالثمن لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا هو أحب إلى الله من إراقة الدم» فإراقة الدم يوم الأضحى وأيام التشريق أفضل من الصدقة بثمنها.
الثاني أن الأضحية متعلقة بالنعم التي يراها الفقراء، وإذا كان البلد التي يعيش فِيها فيها فقراء فإراقة الدم فيها وشهوده للذبيحة حين تذبح وللأضحية وشهوده لإراقة الدم وتقربه إلى الله بذلك والصدقة على المساكين في البلد لاشك أن هذا هو الأصل في ذلك.(88/22)
وبعض أهل العلم رخّص إذا كان ثم حاجة في بلد أعظم من الحاجة في هذا البلد أو أن يكون أهل هذا البلد مكتفين بنقلها، فلذلك نقول ترك النقل أولى وكل يلي أضحيته بنفسه ولا يعطيها الجمعيات الخيرية للأضاحي؛ لأنه ربما فوتوا الوقت، ثم أيضا الوكيل ليس كل وكيل يحسن هذه المسائل، فكل يلي أضحيته بنفسه ويقوم عليها ويؤدي الأمانة خاصة ممن يلي الوصايا ينتبه الذي يلي الوصايا يؤدي أمرا واجبا فينتبه لا يفرط، مثل بعض الناس ممن يأتي إذا جاء يوم عرفة راح مستعجلا إلى السوق واشترى أربع أو خمس أضاحي بحسب وصية والده أو ولدته أو من ولي وصيته على عجل لم يتأمل فيها ولم يراعي شروطها ثم ذبحها أي ذبحة إلى آخر ذلك وهذا لا يجوز؛ بل الواجب على الوصي أن يقوم بالأمانة التي أُنيطت به سواء كان تحملها هو أم حملها بتنصيص الموصي عليه في الوصية، فيجب أن يكون قبل مدة يتحرى في ذلك لأنها أمانة والله جل وعلا أوجب رد الأمانات إلى أهلها.
س2/ سَوْق الهدي هل يشترط دخوله بلد الحاج أم يشترى من أي بلد يمر به في الطريق حتى ولو كان قربا من مكة.
ج/ سوق الهدي مسنون والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ساق الهدي وضابط سوق الهدي أن يسوقه من خارج الحرم إلى داخل الحرم؛ لأن الهدي مكان ذبحه –هذه نسينا التعرض لها في المحاضرة- مكان ذبح الهدي في الحرم داخل حدود الحرم، فمِنى مشعر ومنحر فجاج مكة منحر كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أي مكان ذبح فيه داخل الحرم فهذا مجزئ له لكونه هديا وخارج الحرم ثم خلاف بين أهل العلم فيه.
وأما سوق الهدي فضابطه أن يسوقه من خارج الحرم إلى داخل الحرم، فلو اشتراه من عرفة محملا معه السيارة إلى داخل الحرم فإن هذا يعتبر سائقا للهدي، اشتراه من الطائف اشتراه من جدة اشتراه من المدينة اشتراه من أي مكان في طريقه هذا إذا كان ساقه إلى خارج الحرم إلى الحرم فإنه يصدق عليه أنه هدي ساقه وبلغه بالكعبة.(88/23)
س3/ فضيلة الشيخ آمل أن تبين لي الفرق بين الهدي والفِدية جزاكم الله خيرا؟
ج/ الهدي قسمان هدي شكر وهدي جبران، وهدي الجبران كما قلنا يكون عن تفويت واجب مثلا ما أحرم من الميقات، ما مكث في عرفة إلى ما بعد غروب الشمس، ما بات في مزدلفة، وأشباه ذلك، من ترك نسكا فعليه دم، وهذا يسمى هدي جبران ويسمى فدية، كذلك من فعل محظورا كمن كان به أذى في رأسه فحلق أو احتاج إلى أن ينذر ما تجرد من المخيط يجب أن يلبس ثوبه لمرض به فالله جل وعلا قال ?فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ?[البقرة:196]، وهذه الفدية على التخيير المسماة فدية الأذى من صيام أو صدقة أو نسك.
الهدي يخص أولا هدي الجبران هو عبارة عن دم وأما الفدية فقد تكون دما قد تكون صيام وقد تكون إطعاما وأشباه ذلك.
س4/ الحاج متمتعا كان أو غير متمتع هل يضحي أو يوصي أهله بالأضحية عنه؟
ج/ إذا ضحى فهو أفضل؛ لأن أضحيته التي يشهدها وفي مكة يجتمع في حقه المكان الفاضل والزمان الفاضل وشهوده لها لاشك هذا أفضل والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ جمع بين الهدي والأضحية وإذا وصَّى أهله أن يضحوا لغرض له في ذلك لكونه أرفق به أو لأنه لا يجد أين يذبح أو عليه مشقة في ذلك فهذا له ذلك، فأضحيته في مكة أفضل، وإذا وصى أهله أو أحد أولاده أنه يضحي فلا حرج عليه في ذلك.
س5/ هناك ظاهرة برزت بين بعض الشباب وهي أنهم يضحون عن عالم من العلماء يعجبون به هل لهذه الظاهرة أصل شرعي؟(88/24)
ج/ الأصل في ذلك أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحى بكبشين أما أحدهما فقال فيه: «عن محمد وعن آل محمد»، وقال في الثاني: «عن محمد وعن من لم يضحِّ من أمة محمد»، وآل محمد منهم الحي ومنهم الميت، من آل محمد خديجة، ومن آل محمد بعض بناته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ اللاتي مِتْنَ قبل تضحيته، وهذا يدل على أنّ التضحية عن الحي والميت جميعا هذا له أصل من السنة، كذلك قوله (عن محمد وعن من لم يضحِّ من أمة محمد) منهم الحي ومنهم الميت.
فالأضحية عن الميت بإشراكه فيها مع الحي هذه مشروعة.
وأما تخصيص الميت دون الحي بالأضحية هذه اختلف فيها أهل العلم، ومعلوم أن الأضحية الأصل فيها عن الحي، والميت إذا أُدخل فيُدخل تبعا وإذا ضحى عن الميت، فهذا جائز لكنه ترك الأفضل؛ لأن الأفضل أن يجمع بينه يعني الذي ضحى وبين الميت الذي يضحى عنه، إذا مثلا ضحى يقول عني وعن الإمام أحمد بن حنبل، وعني وعن شيخ الإسلام بن تيمية، عني وعن الإمام محمد بن عبد الوهاب أو عن ابن القيم أو عن ابن رجب أو نحو ذلك، فقد كان بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى يضحي بعدة أضاحٍ عنه وعن الإمام أحمد وعن ابن تيمية وعن إمام الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى.
فهذا على ما فصلت لك والله أعلم.
س6/ هل الأضحية عن الميت أفضل أم يتصدق عنه؟
ج/ إذا أدخل الميت معه فهو أفضل باتفاق يعني باتفاق الذين يقولون إن الأضحية أفضل من الصدقة.
وأما إذا أفرد الميت ففيه الخلاف والصواب عندي أن الأضحية مطلقا أفضل من الصدقة لأنها تقرب والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا هو أحب إلى الله من إراقة الدم» وقد قال اله جل وعلا أيضا ?لَن يَنَالَ اللهَ لحُوُمُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَناَلُهُ التَّقْوَى مٍنْكُمْ?[الحج:37]، الصدقة وقتها واسع وأما الأضحية فوقتها ضيق.(88/25)
س7/ بعض العامة يُحَنِّي رأس أضحيته فهل لذلك أصل؟
ج/ ما أدري.
ربما يُحَنِّي الرأس من جهة التعيين من جهة العلامة، فهذا يصبح له أحكام تعيين الأضحية، إذا عين أضحيته بعلامة فيها جعل شيء عليها أو كما قلّد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه النعل أو جعل علامة يعرف بأن هذه أضحية فهذا له أحكام التعيين فتكون علامة على التعيين لا سنة في الأضحية مجردة أما إذا كان كذا فلا بأس.
أما إذا كان المراد غير ذلك فلا أدري.
س8/ ما القول فيمن يستدين قيمة الأضحية؟
ج/ الحديث الذي ذكرناه لكم فيه قول «من وجد سعة فلم يضحِّ فلا يقربن مصلانا»، ذكرنا لم أنه الأصح فيه الوقف عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا يدل على أن الأضحية متعلقة بالسعة وقد تركها طائفة من الصحابة الأغنياء أبي بكر رضي الله عنه وكابن عباس وكغيرهما.
فالذي يقترض ليضحي نقول هذا ليس مرغبا فيه لأن شأن الدَّيْن؛ لأن الدَّين غُرْم والأضحية تقرب وبراءة الذمة من الغرم الذي لو مات وهو عليه لعذب حتى يبرأ من الدين لاشك أن هذا أعظم فالأصل في ذلك أن لا يستدين ليضحي؛ لكن إذا كان عنده قرب لمجيء المال كأيام أو أشباه ذلك وأراد أن يتقرب إلى الله جل وعلا بذلك فلا حرج لأجل انتفاء المانع.
س9/ ما حكم الذبح باليد اليسرى؟
ج/ الذبح عمل عبادة وعمل شريف، والأصل في استعمال اليمنى واليسرى أن اليمنى يُتناول بها الأشياء الشريفة واليسرى للأشياء المستقذرة، فالأفضل والسنة أن يذبح بيده اليمنى، فإن ذبح باليسرى أجزأت وترك الأفضل في ذلك.
س10/ هل القول عند ذبح الأضحية: اللهم هذا عني وعن أهل بيتي وكل من له حق علي هل يعد هذا تلفظ بالنية.
ج/ لا، هذا إشعار والإشعار غير النية، النية العمل التوجه توجه المتوجه إلى الشيء والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك عن محمد وآل محمد، فقال عن محمد فإن لم يقلها فلا حرج فإن المقصود النية بالقلب.(88/26)
وهنا مسألتان يظن أنهما جهر بالنية وهي الإهلال في الإحرام والإهلال أيضا عند ذبح الأضاحي والهدي وهذه كلها ليست من الجهر بالنية النية غير الإهلال هذا إهلال تعلق بالنسك والحج نسك والذبح نسك.
والله جل وعلا أمر بذكر اسم الله على هذه الذبيحة، وأن يذكر اسم الله عليها والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بين ذلك بفعله، فدل على أن قول القائل؛ بل دل على أن قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ اللهم منك ولك عن محمد وآل محمد أن هذا من الذكر وليس من النية.
س11/ إذا كنت في بلد وأهلي في بلد آخر، وأنا أريد أن أضحي بأضحية واحدة عني وعنهم فأين أريق الدم؟
ج/ بحسب الحاجة إذا شهدتها فهو أفضل، وإذا كان أهلك بحاجة إليها أو أقاربك بحاجة إليها توكل أحدا معك فذلك أيضا لا بأس به، والمصلحة بحسب المكان المحتاج فيه إذا شهدها المضحي أو من أدخله في أضحيته.
س12/ معروف أن بعض أهل البادية لا يربطون الخصيتين لكنهم يخرجونهما مع إبقاء الذكر فهل تلك الذبيحة مجزئة أضحية وهديا؟
ج/ هذا له حكم الموجوء ما دام الذكر باق فهذا يقال له خصي سواء ربط الخصيتين فضمرت أو قطعهما أو سلَّهُما هذا كله يقال له موجوء ولا بأس بالتضحية به إذا كان غير مجبوب كما ذكرت لكم في المحاضرة.
س13/ هل شروط العقيقة هي نفسها شروط الأضحية ؟
ج/ نعم العقيقة أو الأضاحي والهدي من حيث الشروط أحكامها واحدة لكن من حيث التفصيل فيه خلاف في تقسيم اللحم، وهذا له موضعه.
س14/ إذا سقط من الصبي من بطن أمه ميتا فهل يعقُّ عنه؟(88/27)
ج/ إذا استهل صارخا خرج من بطن أمه له صوت فإنه يعق عنه، وهذا باتفاق، وقال بعض أهل العلم: وكذلك إذا نفخت فيه الروح فتحرك في بطن الأم فخرج فإنه صار نفسا منفوسا، والعقيقة متعلقة بافتداء هذه النفس كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «كل غلام مرتهن بعقيقته يعق عنه يوم سابعه ويسمَّى» فإذا نفخ فيه الروح وعلامة ذلك أنه تحرك في بطن الأم ثم بعد ذلك مات وسقط ميتا فإنه يعقّ عنه؛ لأنه فداء له ولتلك النفس التي نفخت فيه، ولهذا يجري على من نفخت فيه الروح من الأجنة يجري عليه أحكام الذي خرج حيا من تغسيله ومن تكفينه ومن دفنه إلى غير ذلك؛ لأنه كان نفسا منفوسا وهذا أصح.
س15/ ما حكم من نسي التسمية عند الذبيحة؟
ج/ ذكرت لك أن التسمية تجب عند الذبيحة، وإذا نسيها فإنه يسمي إذا ذكر، فتسقط مع النسيان، وإذا ذكر فإنه يسمي، وذلك لقول عائشة رضي الله عنها للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: إن ناسا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال «سموا الله عليه أنتم وكلوا» وهذا يدل على أن التسمي واجبة مع الذكر، فإذا تركها عمدا فإنها لا تحل لأن لها حكم ما أهل به لغير الله وإذا نسيها فإنه يذكر اسم الله إذا ذكر، ويكفي هذا.
والمقصود التسمية قول باسم الله،فقط، بعض الناس يريد بسم الله الرحمن الرحيم، لا، لأن هذا ذبح والمشروع فيه قول باسم الله التسمية، هناك فرق بين قولنا التسمية والبسملة، البسملة هو منحوت من بسم الله الرحمن الرحيم، أما التسمية هو قول بسم الله، نعم.
س16/ إن حمل لحم الهدي من منى إلى مكة أمر شاق وإننا نجد عند المنحر أناسا يسألون ولا نعلم شهادتهم، وهل يجزئ إذا أعطينا هؤلاء الهدي بأكمله أو أعطيناهم بعضه؟(88/28)
ج/ إذا كان ظاهر عليهم الفقر ظاهر عليهم الضعف ولم يظهر لك خلاف ذلك فإنه مجزئ، إذا إدعى الفقر ولا دليل على خلافه فكذلك يجزئ؛ لأن هذا صدقة والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال في الزكاة وهي أبلغ من الصدقة في هذا الموطن قال لرجلين سألاه الصدقة فقلّب فيهما النظر وكانا جلْدين فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي» وفي لفظ «ولا لقوي مكثر» وهذا يدل على أن من كان ظاهره الفقر فإنه يعطى، ومن كان ظاهره الغنى فإنه يُسأل فإن لم يكن ثَم دليل على غناه عند المعطي فإنه يعطيه ويجزئه ذلك بحسب ذمة من سأله.
ولاحظ أن قولنا هنا في المحاضرة في هذا الباب الصدقة يتصدق بها المقصود بها الصدقة على الفقراء والمساكين؛ لأنها هي التي يطلق عليها الصدقة في هذا الباب، وأما إعطاء الغني أو إعطاء الأقارب فإن هذا له ألفاظ أخر يُعبر بها عن إعطائهم فيقال إعطاء الغني هبة وإعطاء الصديق أو القريب هدية، والفقير والمسكين صدقة، ففي هذا الباب ثَم ثلاثة ألفاظ صدقة وهبة وهدية.
?????
أعد هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) لم يذكرها الشيخ.(88/29)
الجلوس للتعزية للشيخ صالح آل الشيخ
[من الدرس 34 من شرح العقيدة الطحاوية]
س1/ يقول عندي سؤال مهم جدا السؤال هو: لقد كثر الكلام في موضوع التعزية لأهل الميت والجلوس لتقبل العزاء، وقد سألت أحد كبار العلماء في هذا البلد الطيب وقال: لا بأس أن يحدد يوم ويجلس للتعزية، ودليله في ذلك أنه لما جاء خبر جعفر - رضي الله عنه - ظهر في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحزن وجلس وتقبّل العزاء من الصحابة ولكن بدون صنع الطعام، ولكن قال لا بأس بالشاي والقهوة والماء.
وقد عارض هذا الكلام أحد طلبة العلم وقال لا يجوز الجلوس للعزاء وهذا من البدعة والنياحة، ودليله الحديث الذي في البخاري: كنا نعد الجلوس بعد الدفن وصنع الطعام من النياحة.
فنرجو من فضيلتكم البيان والتفصيل في هذا الموضوع لأنه حصل مشاكل وخصومات بين طلبة العلم والعامة في ذلك؟
ج/ النياحة على الميت من خصال الجاهلية، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «ثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت»، والنياحة على الميت من خصال أهل الجاهلية؛ لكن المهم ما هي صورة النياحة؟
صورة النياحة الذي عليه تفسير السلف لها -أعني الصحابة-: أن النياحة لها صور وكن من صورها في الاجتماع على العزاء أنها ما جمعت شيئين:
الأول: أن يكون هناك اجتماع للعزاء عند أهل الميت وجلوس طويل عندهم.
الثاني: أن يكون هناك صنع للطعام من أهل الميت لإكرام هؤلاء، والتباهي بكثرة من يمكث إظهارا للمصيبة لهذا الميت.
وهذا هو الذي قاله أبو أيوب - رضي الله عنه - ورحمه قال: كنا نعد الجلوس إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة.
فالنياحة هي ما جمعت الأمرين معا: الجلوس وصنع الطعام.(89/1)
أما الجلوس للتعزية فقط فهذا ما أعلم أن أحدا من السلف قال إنه من النياحة وحده، أو أنه نهى عنه؛ بل جاء في صحيح البخاري رحمه الله([1]) أن عائشة رضي الله عنها: كان إذا مات لها ميت اجتمع النساء عندها، فإذا أتى وقت الطعام أمرت بالبرمة فأُصلحت فشربوا منها أو أكلوا منها. يعني العدد القليل أقارب عائشة رضي الله عنها وهذا يدل على أن الاجتماع والجلوس إذا لم يصحبه منكرات أخر فإنه لا بأس به.
والعلماء من أئمة أهل السنة والحديث حينما نهوا نهو عن الأمرين مجتمعين، وقالوا إن السنة هو عدم الجلوس عدم الجلوس للعزاء؛ لكن أن يكون الجلوس نياحة دون صنع الطعام هذا لا ينبغي أن يقال به، ولا أن ينسب إلى أحد من الأئمة أو من الصحابة أو من التابعين.
الجلوس أُختلف فيه وحده، هل يجوز يشرع أو لا يشرع وحده؟ أما كونه من النياحة فهذا لا يكون من النياحة إلا إذا اجتمع معه صنع أهل الميت الطعام تفاخرا، هؤلاء عندهم كل يوم هذا الميت ما أكثر الذين يحبونه، أنظر كيف البيت الذي فيه، كل يوم ويذبحون وكذا والصور قائمة فاخرا وتظاهرا وهذا هو الذين كان عند أهل الجاهلية.
أما الجلوس جلوس أهل الميت للعزاء هذا اختلف فيها أهل العلم:
والجمهور على أن السنة أن لا تخص بجلوس لا لثلاثة أيام ولا لسبعة أو يوم، وهذا باعتبار الزمن السابق؛ يعني باعتبار أزمانهم أو القرى أو الأماكن التي يمكن حصول سنّة التعزية إذا لم يجلس المعزّى، ليش؟ لأنه في السابق في البلد إذا ما جلس في بيته هو بيجلس في السوق أو يجلس في المسجد؛ يعني البلد قريبة يمكن أن يجده في الضحى يجده في العصر يعني معروف المكان وهو قريب، أما إذا كان عدم الجلوس، سيترتب عليه فوات سنة التعزية فإن الوسائل لها أحكام المقاصد شرعا.(89/2)
ولذلك الذين لا يجلسون ممن رأيناهم -أخذا بفتوى بعض المشايخ في هذه المسألة-، الذين لا يجلسون يفوت على الناس أن يعزوهم وأن يواسوهم في مصيبتهم، هو في عمله، هو عند صديقه، هو في السوق، هو راح، ما يعرف أين هو؛ بل بعضهم يتعمد الخروج من البيت حتى لا يجلس، وهذا كله مخالف للحق؛ لأن التعزية مشروعة والوسائل لها أحكام المقاصد؛ فإذا كان الجلوس للتعزية ليس معه منكر وليس معه نياحة أو صنع للطعام من أهل الميت، فإن هذا من باب الوسائل لها أحكام المقاصد، وحديث البخاري الذي ذكرت لك من اجتماع النساء عند عائشة يدل على ذلك، والمرأة الأصل فيها ألا تخرج، الأصل في المرأة أن لا تخرج فيأتي المعزي يعزي عائشة وحدها، فكون النساء اجتمعنا عندها يدل على أن الاجتماع دون صنع الطعام للمعزين أنه لا بأس به.
هذه مسألة مهمة في هذا الأمر، فمن شدّد فيها من أهل العلم قوله يخالف الأصول التي ذكرتُ لك من السنة ومن القواعد ومن فهم معنى النياحة عند أهل الجاهلية.
والذي رأيناه من علمائنا في هذا البلد وفي غيره حتى علماء الدعوة من قبل أنهم كانوا يجلسون؛ لأنه لا تكون المصلحة إلا بذلك، إذا فات ذلك فاتت التعزية سنة التعزية لا يسوغ أن تفوت.
في الرياض مثلا -في المدن الكبار- كيف ستجد من تعزيه؟ لن تجده ستفوت التعزية سنة التعزية ستفوت لأجل أن لا يحصل الجلوس.
الجلوس في نفسه مختلَفٌ فيه، ثم من قال بأن الجلوس لا يشرع؛ يعني التعبد بالجلوس وهو أن يكون الجلوس سنة، يقول أجلس مع أن البلد صغير البلد مكانين ثلاثة، يجلس لأنه يخشى أن يكون جلوسه وسيلة للنياحة.(89/3)
فإذن هذه المسألة مهمة وهي راجعة إلى: هل الجلوس له صفة النياحة صفة أهل الجاهلية أم لا؟ كيف تكون له صفة أهل الجاهلية؟ إذا كان الجلوس واضح فيه نَوْح، واضح فيه تفاخر، واضح فيه [كثرة] مثل ما يفعل فيه بعض القبائل أو بعض البادية ونحو ذلك ليس جلوس للعزاء، وإنما هو جلوس لإظهار الفخر والخيلاء بكثرة أن يقدم للتعزية بوفاة هذا الميت.
أما الجلوس بمجرده -يعني دون نياحة- فلا بأس به.
فإذن النياحة التي جاءت في السنة التي قالها الصحابة هي ما يجمع أمرين -هي التي كان عليها أهل الجاهلية- فيجتمعون يتفاخرون بكثرة الجمع ثم يصنع أهل الميت الطعام، كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة، اجتمع الناس وصنعوا الطعام فصار نياحة؛ لأنه المقصود منه إظهار الفخر والنَّوح على فَقْد هذا الرجل.
... في أي محل، المقصود يعرفونه الناس؛ لكن ما يكون في المقبرة لأن المقبرة ليست مكان للتعزية، ليست مكان للجلوس.
... إذا كان أهل البيت لا بأس، لا يكون المعزين يجتمعون عشرين ثلاثين، خمسين، صار تفاخر بالكثرة إذا كان أهل البيت، ما جرت به العادة فلا بأس.
... الإعلان في الجرائد هذا يسمى نعي، ليس نياحة، النياحة غير النعي، النعي مكروه كراهة شديدة، وبعض العلماء حرمه؛ لكن النعي المحرم هو التفاخر يعني ذكر محاسن الميت على وجه التفاخر قبل دفنه أو بعد دفنه.(89/4)
لكن من أعلم الناس بموت الميت للصلاة عليه دون ذكر أمجاده أو ذكر فضائله أو نحو ذلك فهذا ليس نعيا منهيا عنه ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى إلى الصحابة النجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه، وقال «صلوا على أخيكم أصحمة فإنه قد مات» فصلى بهم وكبر عليه أربعا يعني صلاة الغائب، فالصحابي عبّر بأنه نعى، نعى يعني أخبر بموته تأسفا، فإذا كان النعي وهو الإخبار بالموت تأسفا لأجل الصلاة عليه فلا بأس إخبار من يصلي عليه، أما التفاخر أو لأجل الاجتماع للعزاء ونحو ذلك، والعزاء في بيت فلان فهذا من النعي المنهي عنه.
?????
[من شرح الطحاوية الدرس 42]
س2/ لا يخفى عليكم ما يحصل من مخالفات في التعزية في هذا الزمن، وأقلها اجتماع أهل الميت القريبين والبعيدين في بيت أحدهم أو في بيت الميت، وتلقي العزاء لمدة أيام، وقد اختلفت آراء العلماء في هذا.
فالسؤال: إذا حصل لي ذلك هل أترك المنزل ولا أستسلم مع أن أقاربي يحملون الإنسان على ذلك، إلى آخره؟
ج/ مسائل التعزية واجتماع أقارب الميت الذين يقصد تعزيتهم أو مواساتهم في موت قريب لهم؛ يعني الاجتماع المعروف الذي يسمى اجتماع العزاء هذا حصل الكلام؛ كلام الشباب فيه وبعض الناس في هذا الوقت من جراء فتوى من لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين في أن الاجتماع لا يشرع، أصل الاجتماع بل الذي يشرع هو التفرق.
وبقية علمائنا وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز وبقية المشايخ يقولون لا بأس بالاجتماع، وهذا القول هو الأولى والراجح؛ لأن الاجتماع إلى أهل الميت في هذا الزمن يحصل به التعزية والتعزية سنة وعمل مشروع قد قال عليه الصلاة والسلام من عزى مصابا فله مثل أجره، والمواساة مشروعة، وإذا تفرق الناس فلن تحصل المواساة والتعزية إلا بكَلَفة؛ يعني أين تلقاه هل في العمل الفلاني ستجده أو في بيته أو خرج، سيكون هناك مشقة في التتبع وفوت للتعزية.(89/5)
ولهذا قال من أفتى بمشروعية الاجتماع قال: إنه يدخل تحت قاعدة الوسيلة للمشروع مشروعة، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، فلما كان المقصد وهو السعي مشروعا فوسيلته الآن وهي الاجتماع مشروعة، في مثل هذه المدن الكبار مثل تفرق الناس ونحو ذلك، لا يحصل إلا بهذا، إلا فيما نذر إذا كانت القرية صغيرة أو الإنسان معروف أنه طول الوقت في هذا أو كان المعزى واحد فقط؛ يعني واحد فقط إما أن يكون في بيته أو في عمله، فهذه المسألة تختلف؛ لكن إذا تعددوا وصارت التعزية لا تحصل إلا بالاجتماع اجتماع من يُعزى أولى من تفرقهم؛ لأن التعزية التي فيها تسلية ومواساة وتحصيل لأجر لا تحصل إلا بذلك.
هنا هل الاجتماع يُعد من النياحة؟ الاجتماع لا يعد من النياحة إلا إذا انظم إليه أن يصنع أهل الميت الطعام للحاضرين جميعا ليظهر الفخر وليظهر كثرة من يحضر الوليمة ونحو ذلك، وهذا موجود كان في الجاهلية، ولهذا جاء في حديث أبي أيوب: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة.
فالنياحة تشمل شيئين صنع الطعام مع الاجتماع لماذا؟ لأن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام ويدعون الناس ليقال هذا عزاء فلان أنه أكبر عزاء، أو أنهم اجتمعوا لأجل فلان، ما يموت ويروح هكذا، مثل ما يقول بعض البادية، فيعملون [...] ضخمة وكذا، وهم الذين يتكلفون بصنع الطعام وبنحر الإبل وذبح الذبائح؛ ليكثر من يجتمعوا عليها، هذه النياحة المنهي عنها بالاتفاق.
أما الاجتماع اجتماع المواساة والعزاء دون صنع الطعام ودون تكلف، فإن هذا لا يدخل في النياحة، وقد جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها كان إذا مات لها ميت اجتمع النساء من قرابتها إليها، اجتمعوا إليها، فقالت: فربما حضر وقت الطعام فقامت امرأة إلى برمتها أو كذا فصنعت شيئا يأكلونه. يعني هؤلاء القرابة القليلين.(89/6)
استدل بهذا الحديث على أن أصل الاجتماع للنساء لأجل المواساة تجتمع المرأة بقريبتها أختها فلانة كذا أن هذا له اصل من هدي السلف.
أيضا الاجتماع اجتماع الرجال ليس ثم ما يمنع منه.
ابن القيم رحمه الله وغيره تكلموا عن مسألة الاجتماع وقالوا: إن هدي السلف هو التفرق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أثر عنه أنه جلس في مكان ليقبل العزاء أو نحو ذلك، وهذا صحيح لكن ليس الحال هو الحال، وليس الوقت هو الوقت، وليست الصورة هي الصورة الموجودة في هذا الزمن، فكلام ابن القيم على بابه في قرية؛ واحد معروف إذا ما لقيته في بيته تلقاه في المسجد أو في السوق أو نحو ذلك، في شيء محدود هذا صحيح.
أما في مثل بلد لا يمكن أن يلتقي فيه الناس إلا باجتماع، أو إذا تفرقوا عسر على الناس تحقيق سنة العزاء فإن الاجتماع للعزاء لا بأس به.
أما تحديد مدة فلا أصل له، تحديد مدة ثلاثة أيام سبعة أيام اختلف فيها الفقهاء لكن لا أصل له من السنة، السنة ليس فيها دليل يدلُّ على أن مدة العزاء محدودة بأيام؛ بل مدة العزاء تكون بحسَب من يأتي، إذا كان الناس يأتون يوم فينتهي، يومين وانتهى، خمسة أيام وانتهى وهكذا، وإذا كان غالب أحوال الناس أنهم في ثلاثة أيام الأول ينتهون؛ لكن لا اصل لتحديد المدة في الشرع.
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1])عن عائشةَ زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - «أنها كانت إذا مات المَيْتُ من أهلِها فاجتمعَ لذَلك النساءُ ثمّ تَفَرّقْن -إلا أهلَها وخاصّتَها- أمرَت ببُرْمَةٍ من تَلْبينةٍ فطُبِخَت, ثمّ صُنِعَ ثريدٌ فصُبّتِ التّلْبينَةُ عليها ثم قالت: كلنَ منها, فإِنّي سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: التّلبينة مَجمّةٌ لفؤاد المريض, تَذهَبُ ببعضِ الحُزْن». وهو لفظ البخاري.(89/7)
الحجّ عبادة وميدان دعوة
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في كتابه ?إِنَّ أَوَّلَ بَيْتِ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا?[آل عمران:96]، والحمد لله الذي قال أيضا في كتابه ?جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ?[المائدة:97].
فله الحمد على آلائه حمدا كَثْرا لا ينقطع ما دامت الأنفاس مترددة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، وأسأله جل وعلا أن يعيذنا أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.
وهذه دعوة العلماء وطلاب العلم العظيمة؛ أن يستعيذوا بالله من أن يزلوا أو يزلوا أو أن يضلوا أو يضلوا أو يجهلوا و يجهل عليهم.
هذا الموضوع:
موضوع الحج عبادة وميدان دعوة
انبثق من قول الله جل وعلا لإبراهيم عليه السلام ?وَأَذِّنْ فِي النَّاِس بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27)لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ?[الحج:27-28]، وقد تكلم أهل العلم من المفسرين وغير المفسرين أنّ الله جل جلاله في هذه الآية جعل العلّة من تأذين إبراهيم في الناس بالحج أن يشهدوا منافع لهم.
وقالوا اللام هنا لام التعليل أي من أجل أن يشهدوا منافع لهم.
وقالوا أيضا (مَنَافِعَ) هنا ذكرت ولم تعرف ولم تضف إضافة تخصيص؛ وذاك لتكون مطلقة فتكون عامة في أنواع المنافع، فكل منفعة جعلها الله جل وعلا منفعة في الحج فإنها مقصودة.
ولهذا اختلف المفسرون في رؤية هذه المنافع، واختلافهم من باب اختلاف التنوع:(90/1)
فقالت طائفة منهم: إن المنافع في قوله (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) أنها التجارة. وذلك منهم نظر إلى قول الله جل وعلا في سورة البقرة ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ?[البقرة:198].
وقال آخرون: بل المنافع هي أن يأكلوا من اللحوم وأن يدّخروها وأن يتمونوها؛ لأن الله جل وعلا قال في سورة الحج ?وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ?[الحج:36].
وقالت طائفة: المنافع هنا هي العفو والمغفرة والخروج عند الحج من الذنوب كما ولدت الإنسان أمه؛ وذلك لقول الله جل وعلا ?فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى?[البقرة:203]، وما دلت عليه الأحاديث الصحيحة في ذلك منها ما خرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد»، وقال أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «العمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، وقال أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فمعنى ذلك أن الحاج إذا حج فاتقى فلم يرفث ولم يفسق رجع بأعظم المنافع؛ وهي أنه يرجع خاليا من الذنوب، ولاشك أن هذا شهود منفعة عظيمة.(90/2)
ولهذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم في قول الله جل وعلا (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني أن الحاج سواء تعجل أو لم يتعجل فتأخر فإنه يرجع من حجه ولا إثم عليه بشرط أن يكون متقيا، لهذا قال بعدها (لِمَنِ اتَّقَى)، فقوله (لِمَنِ اتَّقَى) يرجع إلى نفي الإثم في الموضعين، وليس راجعا إلى نفي الإثم فيما إذا تأخر؛ يعني أن الحاج ينتفع أعظم الانتفاع بأنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه وهذه منفعة عظيمة.
وهذا كله صحيح.
وأيضا مما قيل في تفسير الآية: أن المنافع أن يشهد الحجاج الكعبة وأن شهدوا الطواف والسعي ورمي الجماع وذكر الله جل وعلا، فيقيمَهم ذلك الشهود على توحيد الله جل جلاله؛ لأنهم يرون الكعبة ويتذكرون إبراهيم عليه السلام الذي بناها، فيتذكرون بذلك حق الله جل وعلا الذي هو توحيده سبحانه وخلع الأنداد والبراءة من الشرك وأهله.
ومن المنافع التي تتحصل -كما ذكره الشيخ الشنقيطي في تفسيره-: شهود الأمة بعضهم لبعض، والتقاء المسلمين بعضهم لبعض، وما في ذلك من الوحدة الإسلامية التي جاءت فيها الآية ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً?([1]) يعني أن الدين واحد، وهذه الأمة إذا التقت على دين واحد واجتمعت على دين واحد فهذا أعظم المنافع.
وهكذا في أقوال كثيرة.
وابن جرير رحمه الله إمام لمفسرين لما أتى لهذه الآية وساق بعض الأقوال التي ذكرت قال ما حاصله: إن هذه الآية لا صار فيها إلى قول دون قول؛ بل إن المنافع تشمل ما ذكر وتشمل كل ما فيه منفعة للحاج، فكل ما فيه منفعة للحاج في أمر دينه ودنياه في أمر دنياه وفي أمر آخرته، فإن شهوده ذلك في الحج من مقاصد الحج.(90/3)
وهذا التأصيل مهم حتى نرى أن الله جل جلاله جعل من مقاصد الحج الشرعية أن يشهد الحجاج المنافع لهم، وهذه المنافع منها أن يؤدوا فرضهم، أو أن يؤدوا نفلهم، وأن يرجعوا بالأجر والغنيمة من الخيرات، أو أن يرجعوا بالمال، أو أن يرجعوا وقد خلوا من الذنوب والآثام، وقد التقى بعضهم ببعض إلى آخر ذلك.
فإذن المنافع كثيرة.
وإذا كان كذلك كان من تحقيق المقاصد الشرعية في الحج أن يحقق المسلمون كل هذه المنافع ما استطاعوا، ما كان منها مباحا فهو مباح لهم كالتجارة، وما كان منها مستحبا فهو مستحب لهم كنشر العلم والدعوة وأشباه ذلك، وما كان منها واجبا فهو واجب عليهم وهكذا.
والحاج أيًّا كان يجب عليه أن يكون مخلصا لله جل جلاله في الحج، وقد جاء في الأثر؛ بل في الحديث «لا تقوم الساعة حتى يكون حج فقراء أمتي للمسألة وحج أغنيائهم للسياحة»، والحج ركن الإسلام الخامس، والإخلاص فيه واجب بل شرط صحته.
ولهذا لما تكلم العلماء على الذين يُستأجرون للحج قالوا: إن من أخذ المال ليحج فإن هذا جائز؛ ولكن من حج ليأخذ المال فهذا الأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق؛ يعني من نصيب.
يعني أن المرء إذا أراد أن يحج ولكن ليس عنده نفقه وله رغبة في رؤية الكعبة ورؤية المشاعر والتعرض لنفحات الله في تلك المواقف العظام وحضور يوم عرفة وشهود تلك الساعة الأخيرة والقيام بما يتعبد به المسلمون في تلك المناسك والمشاهد العظيمة، ولكن ليس عنده مال، فليس ثَم بأس أن يأخذ من المال ما يعينه على الحج عن نفسه أو عن غيره؛ لكن من ليس له رغبة في الحج أصلا؛ ولكن إنما حج ليأخذ وإنما ليس له رغبة في رؤية الكعبة ولا رؤية المشاعر ولا أن يكون مع المتعبدين هناك، فهذا قال فيه شيخ الإسلام وغيره قال هذا الأشبه -يعني من حج ليأخذ- الأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق. وهذا لأجل أنه فاته الإخلاص لله جل جلاله في هذه العبادة أو ضعف الإخلاص فيه جدا حتى كان رغبته في أمر الدنيا.(90/4)
التجارة أُبيحت في الحج، ولو كان الحاج ذهب ليتاجر فليس عليه جناح، كما قال جل وعلا ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات?[البقرة:198] الآية، قال العلماء: إرادة الأمر الدنيوي فيما يراد به وجه الله جل وعلا إذا كان مأذونا به من جهة الشارع فلا يُعَدُّ قصده إخلالا بالإخلاص، ولا يدخل ذلك في قول الله جل وعلا في سورة هود ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّي إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ لاَ يُبْخَسُونَ(15)أُولَئِكَ الذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّار?[هود:15-16]، وقد ذكر العلماء إمام الدعوة وذكر أبناؤه وتلامذته أربع صور تدخل تحت هذه الآية، وليس منها أن يكون الأمر الدنيوي قد رتّبه الشارع على العبادة، مثل أن يصل رحمه امتثالا لأمر الله؛ ولكن أيضا ليحصل على الثر الذي رغب فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه»، من جاهد لإعلاء كلمة الله ولكن له رغبة في المال فهذا قد حث عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقال «من قتل قتيلا فله سلبه» ترغيبا في أن يقاتل وأن يجاهد ولكن يكون قصده الله جل وعلا ويكون هذا معه.
وكذلك من أراد بالحج أن يكون حاجا أو أن يتعبد؛ ولكن مع ذلك أن يربح ما يربح من التجارة فلا بأس بذلك ولا يعد ذلك منافيا لإخلاص لأن الله جل جلاله أذن بذلك وقال (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)، بخلاف الذي ليس له همة في الحج إلا أن يكون رابح للمال فلم يقصد أن يتقرب إلى الله بالحج وإنما قصده إلى المال فهذا الشبه أن يكون ممن يريد حرث الدنيا.(90/5)
المنافع كثيرة ولهذا نقول: إذا تحقق الإخلاص ورام العبد الحج فلا بد أن يرتب نفسه في أن يكون ممن تعرَّض لهذه المنافع العظيمة التي هي مقصد الحج، فيكون متعرِّضا من أول ما يذهب مستحضرا أن يرجع من حجه وقد خلا من الذنوب، (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) والحج حج البيت يبدأ من قصدك البيت؛ لأن الحج في اللغة هو القصد المكرر لمكان معظم.
إذا كان كذلك فمنذ أن تذهب للحج تكون أول منفعة تريد أن تشهدها وتحظى بها أن ترجع وقد خلوت من الذنوب، والحج المبرور يكفر ذنوب السنة التي سلفت.
الحج المبرور: يعني الذي ليس فيه معصية -يعني من الكبائر أو من إدمان الصغائر-.
فإذا كان كذلك كان أول منفعة يجب أن نشهدها أن تخلى من الذنوب والمعاصي، وأن نسعى في أن لا نرفث ولا نفسق.
الرفث: اسم جامع للحديث مع النساء، قد يكون الحديث عن مقدمات الجماع، أو قد يكون في تبسيط المرأة، أو قد يكون في الحديث مع المرأة، إلى آخر ذلك، فكل ما يتعلق على الحديث مع النساء مما يكون معه شهوة، فإن ذلك من الرفث، واجتنابه مما هو مؤكد في الحج.
وهذه الوصية أو هذه المنفعة تحتاج إلى تواصٍ بها وإلى دعوى إليها؛ لأن كثيرين يحجون ويكثرون في حجهم من الرفث، يكثرون من المزاح، يكثرون من القيل والقال وكأنهم في زمن لهو، وهذا لاشك من تعريض الحاج نفسَه لعدم شهود هذه المنفعة العظيمة؛ لأنه لابد من التقوى (فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى).
من منافع الحج العظيمة التي تشملها هذه الآية أن يتعلم الحجاج ما به تكون منفعتهم في الآخرة.
أما به منفعتهم في الدنيا فالناس تقريبا أساتذة في ذلك.
لكن ما به تكون منفعتهم في الآخرة هذا الذي الناس اليوم بأشد الحاجة إليه، وإذا كان زمن الحج قصيرا، فإن الواجب أن يكثف العبد جهده في الحج في التعليم؛ تعليم الجاهل وفي تبصير الغافل وما أشبه ذلك .
والتعليم هو الذي تحتاجه أن تبثه في الحجاج.(90/6)
ولهذا أطرحُ رأيا لعله أن يكون مجالا للتطبيق لكل من يذهب إلى الحج ويكون عنده فضل علم في أن يبلغ هذا العلم؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نادى في الناس يوم عرفة فقال «اللهم هل بلغت اللهم فاشهد»، وقال «نظَّر الله امرؤا سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع».
فتبليغ العلم هذا من الضروريات، وأين تجتمع لك هذه الأمم وهذه الوفود حتى تكون في مكان واحد فتسعى فيها بالعلم؟
ولهذا من الغريب أن يكون ثم من طلبة العلم أو من الحجاج الذي عندهم فضل علم، بينهم أو فيما حولهم مخيمات كثيرة فيهم من المسلمين من هو جاهل بأمر التوحيد وأمر العقيدة -يعني العقيدة العامة- وكذلك بأمر العبادة وأمور أركان الإسلام والمعاملات إلى آخره.
وأعظم ذلك أمر العقيدة، لهذا لو توطن نفسك على أن تكون في هذه الحجة أن تكون في بعد ما فرض ناشرا للعلم ومعلما للجاهل، وقد ذكر أهل العلم أن طلب العلم وتعليم العلم أفضل النوافل، وهي أحد الروايات عن الإمام أحمد، فأفضل نوافل العبادات طلب العلم وتعليم العلم، ولهذا لما انصرف الناس عن الإمام مالك فذهبوا يصلون وهو يتحدث يحدث الحديث ويبين العلم قال: ما الذي ذهبوا إليه بأفضل مما تركوه.
فأنت قد تختار في الحج أن تكون مثلا ذاكرا أو أن تكون تاليا، وهذا أفضل إذا لم تكن المنفعة عندك متعدية يعني لم يكن العلم عندك واسعا فتستطيع أن تؤديه لغيرك، أما إذا كنت طالب علم فإن الأفضل في حقك أن تسعى في تبليغ العلم؛ في تبليغه في أصل الأصول وهو العقيدة.(90/7)
ولهذا الأخ الإمام لما تكلم في أول الكلمة وقال: إن المسلمين في هذه الأزمان يحتاجون أشد الحاجة إلى أن يعلَّموا وأن يدعوا وهذا أمر متفق عليه، والحج هو الميدان الأول، والبلاء الذي أصاب المسلمين ليس من جهة عدو خارجي فحسب؛ بل البلاء من شيء بينهم في أنفسهم من الإضلال عن العقيدة الصحيحة وعن التوحيد الخالص، فهناك من شبه لهم في أمر الاعتقاد، وهناك من شبه عليه في أمر التوحيد، فجعلهم يسعون في عبادة غير الله، وجعلهم لا ينكرون البدع، وجعلهم لا يفرحون بالسنن، إلى آخر ما هنالك.
وهذا من البلاء الذي تولد في الأمة من جراء دعاة الباطل فيها من قرون.
ولهذا أعظم ما يدعى إليه بالاتفاق العقيدة، فالعقيدة أولا لأنها هي الواجب الأول، فلهذا لو عملنا شيئا من التركيز في أن ينطلق كل أصحاب حملة، وأن لا يتكلموا طول الوقت مع أنفسهم أو يأتوا يحضرون يسمعون كلمات تلقى في الحملات مثلا أو تلقى في المخيمات ربما كانت كلمات يمكن أن يسمعوها في غير هذا الوقت؛ لكن الأهم في ميدان الحج أن يكون العلم الصحيح الذي معك في العقيدة بأدلتها، في العبادات بأدلة ذلك مما تيقنت منه وليس عندك فيه شك أو شبهة أن تبلغه لمن هو جاهل.
المسلمون اليوم ليسوا بحاجة إلى تفريعات، المسلمون اليوم بحاجة إلى أن يعلموا ألف باء في العقيدة والتوحيد، يعلمون أوائل ومقدمات ومهمات الإخلاص، والعبادة والديمومة لله جل وعلا وحده دونما سواه، وذلك لأن الشرك فشى في الناس الشرك الأصغر والأكبر.
فلهذا كان من المتأكد شهودا للانتفاع وإشهاد له وانتقالا به أن تسعى في تحصيل هذا المقصد العظيم من مقاصد الحج الذي شرعه الله جل وعلا في قوله (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) وأن تشهد الناس أعظم منفعة لهم بأن تدله على توحيد الله جل وعلا وأن تعلمهم ذلك.
الحاصل أن الذين يعلمون لتوحيد وينشرون العقيدة في الحج على أقسام:(90/8)
منهم من ينشر ذلك بالإنكار؛ يعني إذا سمع منكرا في العقيدة أو شيء أنكر واشتد وغلظ أو أغلظ في الإنكار على من فعل ذلك، ولا يسعى في التعليم ابتداء، وإنما عنده الإنكار، فقط.
وصنف لا يُنكِر ولكنه يعلم.
وصنف ثالث يعلم في ميدان التعليم، وإذا وجد منكرا من المنكرات المتعلقة بالعقيدة أو بالتوحيد أو المتعلقة بالعبادات فإنه ينكر ذلك، وينصح بالأسلوب الحسن الذي معه الانتفاع.
وتذكَّر في هذا كله أن الناس بحاجة دائما إلى أن تمتثل قول الله جل وعلا ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا?[الإسراء:53]، فأمر جل وعلا أن يقول العباد التي هي أحسن (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فإذا وجدتَ كلمة حسنة وكلمة أحسن منها فقد أمرت بالأحسن فاترك الحسنة إلى الأحسن؛ لأنك لا تتكلم عن نفسك، وإنما تتكلم تريد أن ترغب الناس في دين الله جل جلاله، وهذا يلزمك أن تتلفظ بأحسن الألفاظ، وقد قال جل وعلا ?وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنْ إِلاَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ?[العنكبوت:46]، ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ?[النحل:125].
فإذن ميدان التعليم في الحج يكون بتعليم الجاهل مع الصبر عليه، فتسعى في ذلك تنتشر من المخيم الذي أنت فيه أو الحملة التي أنت فيها أو المكان الذي أنت فيه، تتفقد من حولك، فتصادق هذا أو تخاطب هذا، وتتعرف عليه وتبدأ تتكلم معه في مناسبات وتتلقف حتى تدخل العقيدة الصحيحة في قلبه.(90/9)
ولا تظن أنك لما أنعم الله جل وعلا عليك بهذه العقيدة الصحيحة أن الآخرين لو تكلمت معهم لن ينتفعوا، هذا من تخييل الشيطان وقد قال الله جل وعلا ?كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا?[النساء:94].
كذلك كنا من قبل في دعوة الإمام المصلح رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة؛ لكن بالتعليم وبالدعوة وبتواصل جهود أهل العلم مع جهود الولاية في هذه البلاد انتشر الخير في الناس.
كذلك هنا ينطبق عليه ما انطبق علينا «فلا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» «الكلمة الطيبة صدقة» فإذن:
الخطوة الأولى: أن تنتشر من المكان الذي أنت فيه إلى ما جاورك في تعليم لأصول العقيدة، في تعليم لمعنى الشهادتين، في تعليم التوحيد بالأسلوب الحسن وبالأدلة لا تستعجل في الحكم؛ يعني أن تقول له: أن هذا شرك وهذا كفر وهذا ضلال وهذا طاغوت، إلى آخره.
فإن النفوس فيها من عدم الاقتناع بالحق ما يجعلها لا تقبل هذا الأسلوب؛ ولكن قل كما قال المصلحون من قبل مثلا: الله خيرٌ من هذا، إذا سمعت كلمة شركية، أو تأتي بأدلة فيها تحريم دعوة غير الله جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]. وتدخل بالألطف فالألطف حتى تصل معه بعد حين إلى النتيجة.(90/10)
في أمر العقيدة تحتاج معها إلى إيضاح وإلى توسع شيئا فشيئا، ومن المهم أن تكون مقدما للأهم فالمهم، لا تبحث مثلا في الشرك الأصغر، وأنت لم تتيقن من أن الذي أمامك قد كفر بالطاغوت، وقد فهم معنى كلمة التوحيد، هذا يكون من البداءة من المهم؛ ولكن تترك الأهم، وقد قال إمام الدعوة في كلامه على حديث ابن عباس في إرساله معاذ إلى اليمن على قوله «فليكن أول ما تدعوهم إليه» قال الشيخ رحمه الله في كتاب التوحيد فيه البداءة بالأهم فالأهم، وهذا من أصول الدعوة والتي سماها بعض المعاصرين فقه الأولويات؛ يعني أن تدرج الفرد وكذلك أن تدرج المجتمعات فيما هو أهم، أما أن تأتي إلى ما هو أقل وأن تترك المهمات فلا بد أن يكون ثم سوء في التصرف ونتيجة سيئة في هذا التصرف؛ لأنك أخللت بأمر شرعي وهو البداءة بالأهم فالأهم، وكثيرين ممن دعوا كانت هناك شبه في قلوبهم من أثر دعوة من دعاهم؛ لأنه لم يحسن الأسلوب ولم يبدأ بالأهم فالأهم لم بدأ بالأهم بالأدلته تاركا الحكم إلى فترة لاحقة.
الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما خاطب الناس لم يأت بالحكم أولا، وإنما بين لهم الأدلة أولا وشرح لهم آيات الكتاب وأحاديث النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأوضح لهم ذلك شيئا فشيئا، حتى أقيمت عليهم الحجة، ثم بعد ذلك حكم عليهم الحكم المعروف بحسب ما يناسب الحال.
إذن فأول الأمر أن تنظر حالة المدعو هذا، تنتقل من ماكنك الذي أنت فيه إلى ما حولك، وهذا لاشك أنه من المهمات.
إذا كان من الموحدين وعرفت ذلك تلحظه في عبادته، الحظه في صلاته، الحظه في تلاوته، وهكذا تنمي معه الخير شيئا فشيئا.(90/11)
من المهمات أيضا أن تلحظ أن زمن الحج قصير لا يمكن أن تشرح فيه كل مسائل التوحيد وكل مسائل العقيدة، فإذا تلقيت مع جار لك في الحج وأخذت معه، رجل من هذه الأمصار المتفرقة، فحبذا لو أخذت عنوانه وقمت بجهد شخصي معه مع شخص واحد أو مع أكثر بما قواك الله بأن تسعى في مراسلته، تأخذ العنوان وتسعى في مراسلته، ترسل له كتيبات في العقيدة في التوحيد تبدأ معه الدعوة في مراسلات.
وقد جُرب هذا في بعض الميادين بمراسلات مع أناس مفتوحين غير معروف، فجاءت الأجوبة بما يُنتِج معه أن المراسلات عظيم من ميادين الدعوة تُرك في هذا الزمن، ولم يغشه إلا الأقلون، لم؟ لأن الرسالة ليس فيها مخاطبة، ليس فيها حجاج، ليس فيها وجه أمام وجه، ليس فيها تعبيرات إلا تعبيرات القلم أمام الورق، فهذه تستطيع أن تتصرف فيها وأن تدخل فيها إلى قلب المتحدث إليه.
مثلا من ميادين الدعوة التي أخذ بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ميدان المراسلات، فله مع كثير ممن حوله طلبة العلم والعلماء ومن الناس والأمراء فيما حوله له معهم مراسلات حَبَّبَ إليهم الخير، وكان مع تلك المراسلات ملا أن كتب إلى أحد القضاة في الأحساء واسمه عبد الله بن عبد اللطيف، وكتب للشيخ ينتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض أقواله، فكتب له الشيخ رسالة لو قرأتموها لكانت نبراسا لنا في كيف يكون التحبيب بالرسائل؛ لأن الرسالة فيها لطف اللفظ وفيها عدم مواجهة الوجه للوجه وفيها وفيها مما يتيسر معه قبول الحق.
قال الشيخ رحمه الله في رسالة له: وأنا منذ رأيتك قد كتبت على أول صحيح البخاري في مسائل الإيمان إن هذا هو الحق، ما زلت أدعو لك لأن ما كتبته مخالف لما عليه أهل بلدك من العقيدة؛ يعني الأشاعرة، وما زلت أدعو لك وقد دعوت لك في صلاتي، وكنت أقول لعلّ الله جل وعلا يجعلك فاروقا لدين الله في آخر هذه الأمة، كما جعل عمر بن الخطاب فاروقا لها في أولها.(90/12)
هذا الأسلوب والرسائل ولين اللفظ لاشك له أثر في النفوس عظيم، لهذا ينبغي لكل واحد منا أن يسعى في أخذ ولو عنوان واحد يتعرّف عليه ويراسل، وأن يكون الغرض من ذلك غرض ديني دعوي صحيح، وأن يبين له شيئا فشيئا ويدرجه على مدى سنة سنتين ليس هذا بالكثير في سبيل إصلاح النفوس.
أيضا من المنافع التي ينبغي أن نشهدها في الحج: أن الحج ميدان يأتي فيه المسلمون من كل مكان، ويأتي فيه علماء من أماكن كثيرة، ويأتي فيه دعاة من بلاد كثيرة، ويجتمعون، فإذا تعرف العلماء على العلماء والدعاة على الدعاة، كان في هذا سبيلا لاجتماع الأمة على كلمة سواء وعلى نصرة للدين وللعقيدة وللمنهج الصحيح، لم؟ لأن تلاقح الأفكار يكون بالالتقاء، وقد يكون الداعية في بلد له ظروفه لا يسمع في عمله الرأي الآخر؛ لكن لو سمع الرأي الآخر لكان عنده تصحيح لمنهجه وتصحيح لطريقته.
مثلا بعض الدعاة قد لا يهتم أصلا بمسائل البراءة من المشركين، أو لا يهتم أصلا بدعوة الناس إلى التوحيد، تراه مثلا يرى قبة على قبر فلا يتغير قلبه؛ ولكن إذا رأى صورة في مجلة عارية تغيّر قلبه وقام وقعد، مع أن هذه معصية وكبيرة من الكبائر ولكن تلك وسيلة إلى الشرك أعظم وأعظم، وهذا من الخلل الذي في النفوس أن يكون في القلب عدم غيرة على حرمات الله العظمى، عدم غيرة على التوحيد، عدم غيرة على السنة، وأن لا يتحرك القلب إذا رئيت عبادة غير الله، أو إذا رئي الشرك أو رئيت البدع؛ لكن يتغير إذا رأى فسادا في الأخلاق أو فسادا في الاقتصاد أو نحو ذلك.
هذا خلل في المنهج؛ لأنه رُبِّي على أن يغار على الأخلاق، وأن لا يغار على التوحيد.(90/13)
وهذا لاشك أنه إذا قامت الأمّة على ذلك فإنه خلل في التربية عظيم، فكيف تفقه الأمة أن يكون تصحيح الوضع بتصحيح القاعدة، متى تفقه ذلك؟ وأن يكون تصحيح القاعدة بتصحيح قلوبها بتصحيح قلب الناس ?يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ(88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ?[الشعراء:88-89]، والقلب السليم هو القلب المخلص لله جل وعلا، والإخلاص يتبعه السلامة من الشبهات والسلامة من الشهوات.
متى يربى الناس على ذلك؟ لاشك أن الحج ميدان لأنْ تكون هناك تبادل في الأفكار تبادل في الآراء في أن نجعل في مستقبلنا الدعوة في منهج هو منهج السلف الصالح، وأننا في هذا الزمن بحاجة أشد ما نكون إلى الدعوة المتفق عليه إلى المجمع عليه إلى ما تتفق عليه الأطراف جميعا، وأننا إذا اجتمعنا على ذلك وسرنا بالناس على هذا زمنا طويلا، فإن انتشار الصحوة وانتشار الدعوة سيكون أكثر وأكثر، وإنما تعبت الأمة في أن كل طائفة تتعصب إلى فرع من الفروع، يعذر المرء يتركه، وتترك أصل الأصول الذي جاءت الأنبياء والمرسلون بتحقيقه والدعوة إليه.
لاشك أن هذا كل واحد منا بحاجة إلى أن يعتقده، وإلى أن يدعو إليه.
وأهل هذه البلاد كما يقول القائل عليهم الشرهة يعني عليهم التبعة الكبيرة في أن يؤصلوا هذا في الناس.
إن لم تنطلق دعوة التوحيد واجتماع الجماعات واجتماع الفئات والطوائف على كلمة واحدة أو على التقاء على مجمع عليه وهو منهج السلف لصالح والدعوة إلى التوحيد والعقيدة، نستمر على ذلك سنين طويلة، إن لم نجتمع تجتمع الصحوة ويجتمع الدعاة في البلاد على ذلك، فنظل نكرر أنفسنا.(90/14)
وإذا لم يقم أهل هذه البلاد بهذه المهمة، فإنّ غيرهم لن يقوم، والحساب عليهم أشد؛ لأنهم قد رضعوا هذه العقيدة مع لبان أمهاتهم، وقد درسوها وهم لم ينبت لهم ريش، فدرسوها في الابتدائي ودرسوها في المتوسط، وسمعوها ليل نهار، وسمعوها في الدروس؟ فمتى ينطلقون بها متى يحببون للناس أن هذا الأصل هو الذي يجب أن يجتمعوا عليه الناس وأن يدعى إليه؟
نعم يحتاج الداعية في ذلك إلى أن يجعل الحج موسما لأنْ يكون التقاء الجميع على العقيدة الواحدة، على التقوى، على الصلاح الذي قال الله جل وعلا فيه ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً?[الأنبياء:92] يعني الأمة في هذا يعني الدين دين واحد وليس بدين متعدد.
وهذا الدين الواحد الذي يجب أن نجتمع عليه هو ما أجمعت عليه الأمة، أما ما صار فيه اختلاف فهذا يؤجل تؤجل مناقشته ويؤجل البحث فيه إلى مرحلة أخرى من مراحل الدعوة إلى دين الله.
أما أن نكرر أنفسنا وأن يكون كما صار في حج مضى ومضى ومضى، أن يُسمع في محاورات وأن يسمع في ندوات الكلام على أمور فرعية وتؤصل وتنمى، هذا لاشك أنه ليس مطلوبا إلا لمن تحقق فيه الأصل، فينتقل بعد تحقيق الأصل فيه إلى الأهم الثاني ثم الأهم الثالث وهكذا.
أما أن يأتي بالنسبة لعموم المسلمين وأن تترك أصول الديانة وأصول العقيدة وأن يترك الدعاة غرس الملة وغرس العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص في النفوس، هذا لاشك أنه تضييع لأهم المهمات التي رشد إليها؛ بل أمرها بها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ معاذا حين قال «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله جل جلاله» كما هي رواية في البخاري في كتاب التوحيد .
فإن هذا قاعدة عظيمة من القواعد.
إذا انطلقت وأنت في الحج تشهد الناس المنافع في أمور شتى.(90/15)
أصحاب الحملات أيضا عليهم مسؤولية في أن يشهدوا من معهم منافع، وهذه المنافع هي المنافع الدينية، في أن يجعلوا حجهم -حج الناس- وفق السنة وأن يكون هذا الحج ييسر لهم، وأن لا يشغلوا الناس بأمور لا طائل تحتها، وأن لا يتعبوا الناس في عدم تحقيق شروط العقود التي تعاقدوا معهم عليها؛ لأن الحاج رغب في حملة كذا وكذا حتى يتيسر له حجه، فصاحب الحملة ليحتسب وليجعل عمله مخلصا فيه لله جل وعلا مع ما قد يناله من الربح والتجارة؛ لكن ييسر للناس الحج حتى يتفرغوا لشهود المنافع التي جعلها الله جل وعلا من مقاصد مشروعية الحج العظيمة.
فالحج عبادة عظيمة، والحج به يحصل للعباد أيضا منافع في دينهم بأنواعه وفروعه وكذلك في دنياهم.
فإذن الحملات تحتاج إلى ترتيب، تحتاج إلى أن يكون هناك فيها إشهاد لمن معهم المنافع بقدر الإمكان في التوجيه والتربية والدعوة على وفق المنهج الصحيح طريقة السلف الصالح وألا يسلكوا البدع والمحدثات والآراء المختلفة؛ لأن هذه تشتت الناس.
فالناس اليوم مع هذا المد الذي ترونه من صرف الناس عن الدين أصلا بالهجوم من جهات كثيرة من جهات خارجية من الشرق أو من الغرب كما ترون.
نحن بحاجة الآن إلى أن نحبب الدين للناس حتى لا يبعدوا عنه، هذا الذي نحن بحاجة إليه فلنسعى إلى أن تكون هذه الحملات ميدانا للدعوة الصحيحة حتى يستقيم الناس بعد الحج على طاعة الله جل وعلا ويكونوا من أصحاب الاستقامة وممن رضي الله عنهم.(90/16)
مسائل العبادات كثيرة والتوجيه فيها بإشهاد المنافع كثير، والعبادات تحتاج إلى فقه في الإرشاد، والذي يحصل في الحج أن يتكلم من يتكلم في إفتاء وهو ليس مؤهل للإفتاء، إما مفتي في حملة، أو مفتي مع مجموعة مع زملائه أو نحو ذلك، وهذا لاشك أنه مما يرغب عنه الصالحون، فالتعجل في الفتوى أو أنه إذا قرأ شيئا أو تعمله بأنه يحق له عند نفسه أن يفتي، هذا ليس بصحيح وليس بمطرد؛ بل لابد أن يتعلم ما عليه الفتوى في هذه البلاد، ما يفتي به أهل العلم وما كان عنده فيما قرأ يشكل عليه في شيء مشكل عليه الفتوى فإنه يسأل أهل العلم ويراجعهم، فليس ملزما هو بأن يفتي وليس هذا بفرض عليه، فإن الحديث «من سئل عن علم فكتمه» هذا إذا تعين عليه، فأما إذا لم يتعين عليه فهو في سعة، والحوادث عن الصحابة كثيرة رضوان الله عليهم في إحالتهم المستفتي إلى آخر وإلى ثالث وإلى رابع حتى ربما رجع المستفتي إلى من استفتاه أولا بعد سبعة أو أكثر.
وهذا هو الذي ينبغي، والذي يحصل من الإخلال مما ينبغي في الحج أن نجعل الحج ميدانا للتفاخر بالقراءات وبالعلم، هذا لا ينبغي([2]) وهو من ضعف الورع؛ لأنه يقرأ قليلا ثم بعد ذلك يأتي يكون هو مفتي المخيم أو مفتي الحملة ونحو ذلك، هذا لا شك أنه مما يتورع عنه الصالحون ويتورع عنه الأتقياء.
أما من لديه علم ويعلم ما عليه الفتوى ويعرف أقوال أهل العلم ويتجنب الأقوال الشاذة، فهذا فعه لإخوانه فيما عمله من المسائل بحجته أو بإحالته على من قاله من أهل العلم فهذا لاشك أنه من تيسير الفتوى على الناس.
أيضا مما ينبغي التنبه له في الحج أنْ نحفظ ألسنتنا في الحج من القيل والقال، والقيل والقال والغيبة والبهتان إذا كان موجودا قبل الحج فإنه لا يجوز أن يكون في الحج، إذا كان موجودا بظلم من الناس واكتساب للمحرم من نيل بعضهم ببعض، حتى صالح من صالح، وشخص طيب من آخر أيضا مثله، وهذا يغتاب هذا وهذا ينم على هذا إلى آخر ذلك.(90/17)
فإن الحج ميدان لأن نربي فيه ألسنتنا وأعمالنا على أن لا نقول ولا نتصرف إلا على وفق الشرع، هناك أهواء متعددة وهناك آراء مختلفة؛ ولكن لا يجوز أن جعل هذه الأهواء مسيطرة علينا وحكم على الشرع، الله جل جلاله قال ?لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ?[النساء:114]، فقط، هذا هو الذي فيه الخير: صدقة أو معروف وهو ما عرف حسنه في الشرع أو إصلاح بين الناس، وأما ما عدا ذلك فهو عليه وقد تدخل في أن تكون من أهل الفسوق؛ لأن الفاسق اسم فاعل الفسق وهو ضد الصلاح، والصالح من عباد الله هو القائم بحقوقه وحقوق عباده، فالذي يفرط في حقوق العباد يفرط في أعراضهم يفرط في أموالهم إلى آخره، فليس من أهل الصلاح، وبالتالي كان من أهل الفسق، فيرجع من حجه وليس من أهل تلك الفضيلة العظيمة.
لهذا لابد من ضبط اللسان في أن لا تتكلم في أحد إلا بما أُذن به في الشرع، تتكلم في مدح في الثناء عليه حتى ترغب الناس على الخير هذا طيب، أما الغيبة أما البهت أما القيل والقال، حتى ولو جعل ذلك في لباس الديانة، فإن هذا ينبغي التخلص منه في الحج إلا ما كان منه مما أذن فيه شرعا فإن هذا مطلوب في كل وقت، قال جل وعلا ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53].
ولاحظ قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لمن قال له: يا رسول الله أوصني. قال «لا تغضب» قال: أوصني، قال «لا تغضب»، والغضب يكون ابتداء، ويكون أكثر عند الحوار وعند النقاش وإذا غضب المحاوِر أو المحاوَر أو غضب الاثنان اللذان يناقشان المسألة، فإن الغضب يجعل المتخاصمين يسيران إلى غير الصواب، والقاضي لا يقضي وهو غضبان.
كذلك من يجادل فيغضب فلا بد أن يحيد قليلا أو كثيرا، فلهذا إذا تناقشت مع أحد فاضبط نفسك مع هذه القضية العظيمة «لا تغضب».(90/18)
وفي الحج قد يأتي من يطعن فيك أو يطعن في العلماء أو يطعن من يطعن أهل البدع والضلال ولكن عليك بان تضبط نفسك بأن لا تغضب، فما نجح غاضب في الحوار قط.
ولهذا أوصي بأن تعوِّد نفسك على عدم الغضب، وإذا أردت أن تناقش أو تحاور أخا في الحج فإن الغضب قد يؤدي إلى هُجِر من القول، ثم قد يؤدي إلى قول سيئ، ثم يؤدي إلى كبيرة، وهكذا فلا بد من الانتباه للسان في ذلك.
إذن الحج لاشك أنه عبادة عظيمة ولابد فيها من إخلاص القصد والنية لله جل جلاله، ويسعى المرء بعد ذلك في أن يُشهد نفسه وإخوانه المسلمين المنافع فيما ذكرنا من أمور الدين، وفيما يترتب عليه المغفرة للحاج ورجوعه مغفورا له ذنبه.
هذه كلمات ربما عند كثيرين منكم تفصيلات للواقع العملي كيف ننتقل وننتشر بالدعوة في الحج؛ ولكن هي توجيه لابد أن نسعى إلى إنفاذه؛ لأجل أن نحظى بالأجر العظيم وأن نكون ممن دعا إلى الله جل جلاله، ولا تنسَ أبدا قول الله جل جلاله ?مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إٍنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ?[فصلت:33].
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعا ممن غفرت له الذنوب والآثام، وعظِّمت له الحسنات.
اللهم فاجعلنا من الأبرار.
اللهم من حج منا هذا العام فأرجعه من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
اللهم لا تؤاخذا إن سينا أو أخطأنا، واجعلنا اللهم من عبادك المتقين ومن الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم اختم لنا بالصالحات واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
المقدِّم: أسأل الله تعالى أن يثيب فضيلة الشيخ على هذا الموضوع الطيب وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة، إنه هو ولي ذلك والقادر عليه .
الأسئلة كثيرة لعل الشيخ إن شاء الله تعالى يجيب عليها بعد الأذان.(90/19)
بعض الأسئلة أجاب عليها فضيلة الشيخ أثناء المحاضرة، ألا وهي أن بعض يقول إن هناك مجموعة من الشباب يجلسون بعد نهاية نسك من الأنساك يتحدثون عن العلماء ويغتابون بعض الناس، يقولون فلان أخطأ، فلان فيه كذا، فلان فيه كذا، أجاب الشيخ جزاه الله خيرا عن هذه المسألة.
والواجب على المسلم الداعية أن يتقي الله تبارك وتعالى:
فلا تذكر لي عورة مؤمن فكلك عوات والناس ألسنة
وأذكر أني حضرت مناقشة الدكتوراه للشيخ صالح الفوازن جزاه الله خيرا وكان المناقش عبد الله [...] رحمه الله تعالى فقال فضيلته: عندما تحدث المناقشون عن بعض الخطاء في الرسالة، قال فضيلته جزاه الله خيرا: أنه ليس هناك عالم تكلم إلا وأخطأ، قال أن صاحب المغني ذكر مسألة وذكر فيها حديثا وقال أما الحديث فقد ضعفه علماؤنا والحديث في صحيح البخاري....
هذا هو العدل والإنصاف، أما أن يحج المرء ويتكلم في أعراض الناس ويقع في العلماء فهذا أمر لا يجوز.
الشيخ: وأما ما يدل على ما ذكره الأخ أنّ الكلام في أهل العلم ما تجرأ عليه أحد إلا وخُذل، ولهذا قال الحافظ ابن عساكر في أول كتابه تبيين كذب المفتري: لحوم العلماء مسمومة وعادة الله -يعني وسنة الله- لهتك أستار منتقصيهم معلومة.
لم كان ذلك؟ لأن النيل من العالم ليس نيلا من شخصه، وإنما هو نيل لما حمله من العلم وإلا فلو لم يكن عالما وتخلى من العلم؛ يعني لو تصورت أنه أزيل عنه العلم وبقي فلانا بن فلان المعروف أو العالم المشهور بدون علم، لأصبح هذا لا يقع فيه؛ لكن لما حمله من العلم الذي يخالف ما عنده فإنه يقع فيه، وهذا لاشك أنه من الباطل.
وهذا مما نهى عنه السلف أشد النهي وتكلموا في ذلك أشد الكلام.(90/20)
واستثنوا من هذا حالة، وهي فيما إذا كان التحذير من العالم تحذير من خطأ وقع فيه حكم عليه العلماء بأنه أخطأ فيه، مثل ما قال صالح بن كيسان ورويت أيضا عن الإمام أحمد فيما أذكر قيل له: إنك تتكلم في أناس من العلماء قد ماتوا، أفلا تخشى من ذلك؟ قال: ويحك ألا ترى أنفع لهم من أمهاته وآبائهم، ألا ترى كيف أحجز الناس عن أن يتبعوهم فيما أخطؤوا فيه فتعظم أوزار المتبع.
فهو يرى أن هذا الذي أخطأ فاتبعه الناس على خطئه أن من محبته أنه يبين أنه أخطأ حتى لا يتبعه الناس على خطئه فتعظم أوزاره؛ لأنه قد ثبت في الصحيح أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها أو وزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
فإذن الكلام في العلماء هذا حرام، ولا يجوز.
وإذا احتاج العالم، العالم وليس العامي والشاب، إذا احتاج العالم أن يبين خطأ عالم آخر، فعند العالم ضوابطه فيخطئه فيما أخطأ فيه نصحا للأمة لكن لا تراه يطعنه في سلوكياته التي لا علاقة لها بالمسألة التي أخطأ فيها.
مثلا تجد أن بعضهم أخطأ في مسألة علمية، أو في مسائل علمية، فتجد أن الذي يتكلم ويريد أن يحذر من خطئه، يتعرض إلى مسائل سلوكية يقول كان في صغره يفعل كذا وكان يلبس كذا وكان يحضر كذا، وهذا لاشك أنه مما لا يؤذن به شرعا كيف تنتقل من شيء لا نفع للناس فيه في أن تبين لهم عورته، أنت اطلعت أنه فعل في صغره عمل معصية كذا، وأخذت له صورة كذا، أو أنه في بيته كان له كذا أو إلى آخره. فتنشر هذا. ليس له علاقة في خطئه الذي أخطأ فيه في التوحيد أو في العقيدة أو في الفقه أو إلى آخره.
فإذن إذا تجاوز الناصح حد النصيحة المأذون بها شرعا في تبيين ما غلط به العالم، فإنه ينتقل من كونه ناصحا إلى كونه متعديا على حق أخيه المسلم، فيما إذا قال شيئا لا يُحتاج إليه في نصيحته، مثل الكلام على سلوكياته الكلام على أشياء لا علاقة لها بالآراء وما أشبه ذلك.(90/21)
لهذا ترى أن الأئمة رحمهم الله تعالى، فيمن ردوا عليهم من معاصريهم لم يفضحوهم في شيء من أعمالهم، وإنما امتثلوا قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أو قال «أمسكوا عن موتاكم» أو كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ والحديث في البخاري «واذكروا محاسن موتاكم ولا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» هذا في الصحيح .
فإذن هناك مسبة لا يؤذن بها وهي التي لا يتعلق بها نصيحة للأمة فيما تكلم به العالم.
فإذن هذه المسألة التي نبه عليها الشيخ لها ضابطان:
الضابط الأول: ألا تتكلم إلا فيما فيه نصيحة للأمة فيما تعلق به الخطأ الذي يخشى أن يتعدى للأمة هذا واحد.
والثاني: أن يتكلم العالم وأن لا يتكلم صغار طلبة العلم أو المنتسبين أو العوام يتكلموا في أخطاء الناس، وهذا يقول كذا وهذا يقول كذا؛ لأن هذا يربي في الناس نقد العلماء جميعا، هذا أخطأ في كذا وهذا أخطأ في كذا، وبالتالي لا يكون للدين ولا للعلم حرمة في القلوب بعد زمن.
فبهذا إذا أخذ بهذه الضوابط ألا ينتقد إلا عالم وأنه إذا انتقد وبين الخطأ لما فيه حاجة شرعية ماسة حفاظا على الأمة ونصيحة للأمة فإن هذا لابد منه، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز لأحد أن يشغل نفسه بذكر أهل العلم إلا بالخير؛ لأن من ذكرهم بغير الجميل فهو على غير السبيل كما قال الطحاوي في عقيدته.
س1/ فضيلة الشيخ يغلط بعض الشباب الذين ينكرون المنكر بأسلوب يزداد فيه البلاء شدة ويزداد فيه لمنكر ولا يتغير في مثل هذه بعض الشباب يأخذون الكاميرات ويكسرونها مما يجعل المنكر يزداد فما توجيهم لذلك جزاكم الله خيرا؟
ج/ قاعدة مهمة في هذا وهي أن العلماء قرروا أن المسائل التي فيها خلاف قوي فإنه لا ينكر فيها المسلم على أخيه.
الخلاف قسمان-يعني في الفقهيات-:
خلاف قوي.
وخلاف ضعيف.(90/22)
المسألة التي فيها خلاف قوي فلا يكن فيها إنكار، وهذا في مسائل كثيرة مثل أهل العلم بأمثلة نذكر منها مثلا في زكاة الحلي، من زكى أو لم يزكِّ، هذه المسألة فيها خلاف قوي فلا إنكار فيها ما يأتي واحد ينكر على أهله على أبيه أنه ما قال لأهله يخرجوا الزكاة أو القول الآخر، والذي كان عليه العلماء في هذه البلاد من قديم أن لا زكاة في الحلي كما هو معروف، والآن أفتى عدد من أهل العلم مثل سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله الشيخ محمد بن عثيمين وغير أولئك بأن الزكاة فيها، فإذا كان في مثل هذه المسألة فيها خلاف قوي؛ يعني اختلف فيها المفتون عندنا وهم إنما يختلفون في المسائل التي فيها معه قوة من جهة الاستدلال وهنا لا ينكر هذا.
كذلك مسألة قراءة الفاتحة، وفي مسائل من أشباه ذلك.
منها مسألة التصوير الفوتغرافي فإن المفتين انقسموا منهم من قال إنه يحرم ومنهم من قال لا يحرم، وهؤلاء الذين أفتوا بعدم الحرمة فيه لهم حجة، وإن كان القول الصحيح عندنا أن جميع التصوير بأنواعه حرام؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المصورين ونهى عن التصوير وهذا يعم جميع أنواع التصوير الذي يكون ثابتا، ولكن ما دام فيه خلاف لبعض المفتين في هذه البلاد الكبار الذي يصار إلى قولهم فإنك إذا أنكرت على ما يستعمل ذلك فإنك قد تنكر عليه أنه أخذ بفتوى ذلك العالم، وهذا يحصل فيه خلل في كثير من المسائل؛ لكن هنا يأتي مسألة الدعوة والبيان والنصيحة، بأنك تقول له أن هذا التصوير ما يجوز وتأتي له بالأدلة لعله أن يترك ذلك ويأخذ بالقول الصحيح فيها.
المسائل التي فيها خلاف قوي؛ يعني اختلف فيها المفتون عندنا، يعني مثلا الشيخ ابن عثيمين يفتي بشيء الشيخ ابن باز يفتي بشيء آخر، هذه المسألة يصير فيها خلاف قوي الإنكار فيها معناه أنك تنكر على من أخذ بقول هذا المفتي وهذا فيه تضييق، وليس ماشيا مع قواعد أهل العلم.(90/23)
وإنما الإنكار يكون في المسائل التي الدليل فيها واضح أو التي الخلاف فيها ضعيف.
س2/ فضيلة الشيخ -حفظه الله- كيف أوفق بين القيام بإبلاغ ما لدي من علم ومعرفة وبين الالتزام بالتعليمات التي توجب الحصول على إذن من الوزارة أو من الجهة المسؤولة بالكلام والدعوة؟
ج/ الإذن مشترط للمصلحة العامة فيما فيه حديث مع أمام الناس.
أما إذا أردت أن تمارس الدعوة وتقوم بهذا الواجب في بيتك ومع زملائك وفي المخيمات المجاورة لك؛ تذهب وتنصح هذا وتدعو هذا، فهذا مطلوب منك في كل مكان وفي كل زمان.
لكن أن تتصدر وتوجه الناس على كرسي أو تجلس ويجتمع حولك جماعة أو تذهب إلى المساجد فتتكلم أمام العامة، فهذا لاشك يحتاج إلى إذن، واشتراط هذا الإذن قديم لأجل أن تتحقق المصلحة العامة بأن لا يوجه الناس إلا من علم علمه وتحريه للصواب فيما يذكر.
أما في جهدك الخاص فيما تدعو فهذا في كل مكان، تجلس في الطائرة، أنت داعية، تجلس في السيارة أنت داعية، تجلس في بيتك، أنت داعية في كل مكان، أنت داعية بقولك أو بفعلك لابد، قولك محسوب عليك وحركتك محسوبة فلابد أن تنتبه لهذا .
س3/ فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: لعل من أهم الأسباب التي يجب توفرها حتى يشهد الناس في الحج منافع سواء في العقيدة أو العبادات والمعاملات أن تقوم الجامعات لا سيما التي تعنى بالدراسات الإسلامية اختيار مجموعة من طلابها وتزويد المؤسسات بهم للقيام بشرح العقيدة وتوضيحها للحجاج، هل لكم توجيه على ذلك؟(90/24)
ج/ هناك ترتيب قديم منذ كانت أمور الحج في الدعوة في الداخل أو تبع للرئاسة العامة بإدارات البحوث العلمية والدعوة والافتاء والإرشاد ترتيب أنه ينتخب مجموعة من جميع الجامعات ومن أساتذة الجامعات للمشاركة في الحج ليقوموا بالدعوة دعوة الحجاج في أماكنهم في المراكز وكذلك في المخيمات وفي أماكن الطوافة إلى غيره، كذلك الهيئات يذهب الإخوان في الهيئات إلى المشاعر وإلى غيرها في المواقيت وغيره ويمارسون واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل سنة يحصل هذا مثل هذا العام فيه نحو من ثلاثمائة وثلاث وأربعين من الدعاة المشاركين من الجامعات المختلفة ومن وزارة المعارف من الأساتذة المدرسين في الوزارة يشاركون في الحج، وهناك ضوابط لهم وموضوعات نوقشت معهم في أن يؤدوا واجب الدعوة بمؤسسات الطوافة وكذلك في مراكز الدعاة وكذلك في المساجد وبرامج تمتد تقريبا شهرا من 20-11- إلى 20-12 وهناك بذل في هذه الجهة ومنتخب كثير ولله الحمد يأتون ويقومون بهذا الواجب.
لكن ليس هذا الشّأن الشأن أن تنطلق أنت فيما عندك من القدرات وتعمل في ذلك ولاشك أنك إذا جربت فإنك ستجد المجال رحبا واسعا.
واحذر من أن تسوف وأن يغرك الشيطان بأن تلقي اللائمة على غيرك دون عمل، فهذا من إغراءات الشيطان العظيمة في كل زمن وفي هذا الزمن عظمت عند كثيرين يلقي باللائمة على غيره وهو لا يعمل شيئا وهذا غير مقبول.
فالميدان كبير جدا في الدعوة وتبدأ أنت هنا أو تبدأ في الحج أو تبدأ في المشاعر مع الحجاج أو مع من يريد الحج، بالطبع مثلا بالكتيبات صغيرة وتوزيعها في العقيدة أو في العبادات وفي الأذكار أو نحو ذلك تبدأ أنت توزعها بما تريد وتشرح ذلك بحسب ما يتهيأ لك؛ لكن بشرط أن تكون متحققا بالعلم، أما إذا كان العلم عندك قاصرا فلا ترقى تلك العقبة فإنها كؤود.(90/25)
س4/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعض الحملات يقومون ببعض النشاطات في الدعوة للتعليم، ومن ذلك ما يقوم به البعض الحملات من عرض المسرحيات أو مشاهد في .....، فما رأيك في هذا الأمر؟
ج/ إذا كانت هذه الموجودة في بعض الحملات مثل الذي يُعرف أنه المسائل الموجودة في بعض المدارس ونحو ذلك على تلك الهيئة، فهذا لا يصلح أن يكون في الحج لأن هذه تنقل المُشاهد لهذا إلى شيء من الجو الغير مناسب للحج بما يتذكر فيه رؤية المسرح ورؤية كذا وكذا، فإن كان أمرا خيرا لكن تنتقل نفسيته إلى شيء آخر غير جيد.
يمكن التعليم فيه على غير أ يكون مسرح أو غيره بأن يكون اثنان يقومان بشرح تعليم الحج أمام الناس بدون أن يكون له صفة المسرحية والإعداد الذي يكون معروف؛ يعني إعداد حوار معروف وحضور على شكل معين وبداية ونهاية إلى آخر ذلك، يكون على شكل دعوة وتشرح لمجموعة من الناس كيف يكون مثلا يكون الاضطباء كيف تكون الصلاة في مكان معين مثلا كيف تكبر كيف تركع الركوع الصحيح كيف تبدأ كيف تحاذي الحجر الأسود إلى آخره، كيف ترفع يديك على الصفا، كيف ترفع يديك على المروى، وأشباه ذلك، وبما لا يكون معه صفة المسرحية .
أما صفة المسرح ونحو ذلك فهو مما ينبغي تنزه الحجاج عنه وتنزيه الحملات عنه؛ لأنه يجعل الحاج متصلا بما كان عليه قبل الحج من أمور المسرح، وهذه ربما يكون له في داخله تذكرات غير محمودة.
س5/ فضيلة الشيخ بعض النساء اللاتي يحضرن من بعض الدول بلا محارم هل في دعوتهن حرج عن الضوابط الشرعية، مع العلم أن بعضهن قد يكون غير متحجبة فه نستغل الفرصة في دعوتهن كذلك عند عدم وجود نساء داعيات ؟(90/26)
ج/ إذا لم يكن هناك خلوة في مجموعة من النساء، مثلا تتكلم في أتوبيس في مكان ويكون فيه شيء من الستر وأنت لا تباشر المرأة عينك بعينها ويكون معها محرم، فهذا من التعليم لا بأس به؛ لكن إذا كان هناك خلوة أو كان هناك مباشرة للرؤية ونحو ذلك، فهذا يمتنع منه إلا مع وجود ساتر وأشباه ذلك.
س6/ فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف ننكر على أهل البدع والشرك من الرافضة وغيرهم، هل ينكر عليهم مع العلم أنهم مقرون بذلك، أي بذلك المنكر، مثل دعاء فاطمة وعلي وغيرها من البدع والشرك؟
ج/ هذا من المنكرات العظيمة، فمن سمع ذلك وجب عليه أن يعلم وأن ينكر.
والتعليم مهم لأن به بيان الحق وإيضاح الأدلة، والإنكار إعلام بأن هذا منكر، فقد يفهم منه أنك من أهل السنة وهم الشيعة وهذا عقيدة وهذا عقيدة، لكن إذا بينت الأدلة صار هناك شيء من إيضاح المقام بحجته الشرعية لعل الله جل وعلا أن يجعل في قلبه خيرا.
وهذه الطائفة وأشباه أولئك ممن عندهم الشركيات الكبرى، مثل كثير من الطوائف أيضا المنتسبة للسنة في المسلمين من عبّاد القبور والأوثان والمشاهد وأشباه هؤلاء، إذا سُمع منهم الأشياء الشركية هذه والدعوات التي هي من دعوات الشرك الأكبر أو فيها دعاء غير الله جل وعلا أو استغاثة بغير الله أو طلب المدد من غير الله أو ما أشبه ذلك، فإنه يجب عليك أن تُعلّم وأن تقيم الحجة وأن توضح، وأن تصبر على ذلك فالدعوة ميدانها عظيم؛ ولكن يجب على من سمع ذلك أن ينكره، فإن كان يرى أن المقام يمكنه معه أن يعلم فيكون لتعليم، ثم بعده إذا لم يستجب فيكون هناك إغلاظ وشدة وإنكار.
وإذا كان لا يتيسر له التعليم في مقام سريع فينكر عليه ويغلظ عليه وهو ماشي، وفي هذا تبرأ ذمته.
ومن رأى شيئا منكرا أمامه مثل واحد يدعو بدعوات فيها الشرك بالله جل وعلا فيجب عليه أن يُسكت ذلك؛ لأن هذا من المنكر العظيم.(90/27)
لكن تنتبه إلى أن الرافضة قد يقول القائل منهم يا علي، وإذا قيل له أنك لا تستغيث إلا بالله. قال العلي من أسماء الله فأنا أدعو العلي الذي هو الله جل جلاله، وربما كان مهم في الماضي من قال ذلك، حينما قيل لا تقل يا علي قال العلي هو الله جل وعلا فأنا أنادي رب العالمين.
فتنتبه إلى الموقع الذي تتحدث فيه فهناك أشياء ينبغي منك أن تستفصل تنتبه إلى المراد بالكلام ثم بعد ذلك تعلم أو تنكر بحسب المقام.
وهذا من الأمور الواجبة في هذا الزمن الذي شاع فيه ترك الغيرة على التوحيد وعلى دين الله والله المستعان.
س7/ فضيلة الشيخ حفظه الله ما هي الكتب التي يرى فضيلتكم توزيعها في الحج؟
ج/ الكتب كثيرة لكن السائل إذا كان عنده مجموعة من الكتب يريد أن يستشير فيها يأتي بها إلي أو إلى أحد الإخوان هنا ويرشدوه إلى الكتب المناسبة.
س8/ فضيلة الشيخ ما رأيكم في قول القائل لنجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؟
ج/ هذه الكلمة سُئل عنها العلماء، وسئل عنها من سئل كثيرا، وترددت كثيرا.
وكنت أظن أن مثلها أصبح واضحا يعني الكلام في هذه الكلمة، وأنها أصبحت من الواضحات في بيان معناها وبيان أنها غلط على الشريعة، وأنها ليست من كلام المتبعين للسلف الصالح.
لكن لتأكيد المقام ولمزيد إيضاح، فإن هذه الكلمة معنى ألفاظها:
(نجتمع فيما اتفقنا عليه) هنا ما اتُّفق عليه من أمر الدين أو من أمر الدنيا يجتمعون عليه ويعين بعضهم بعضا عليه.
وهذا الذي اجتمعوا وليس معناه أجمعوا عليه، اجتمعوا عليه، قد يكون اجتماعا على غير الحق، وقد يكون اتفاقا على غير الحق، فما اجتُمع عليه لابد أن ينظر إليه بالمنظار الشرعي هل ما اجتمع عليه صحيح شرعا فقد يجتمع على شيء باطل شرعا.
فإذن هذا الجزء الأول (نجتمع فيما اتفقنا عليه) الاجتماع فيما اتفق عليه مثل ما ذكرت لك يحتمل أن يكون المتفق عليه فيما بينهم على ضلالة.(90/28)
مثل مثلا أن يأتي ناس من أهل السنة من المتصوفة ويجتمعون مع أناس من الشيعة ويجتمعون مع أناس فئة أخرى، ويتفقون على قدر من التصوف، هذا القدر؛ لأنه خرجت عنهم طائفة أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح فلا شك أن هذا القدر سيكون خارجا عن المنهج الصحيح، فسيجتمعون على أمر غلط، وقد اتفقوا عليه ولكن اتفقوا على أمر بدعي غلط.
فإذن (نجتمع فيما اتفقنا عليه) صحيح إذا كان المتفق عليه صحيح شرعا قد أقر بأنه صحيح شرعا أئمة أهل السنة والجماعة في كتبهم وعقائدهم وكلامهم.
والقسم الثاني (ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
المختلف فيه أقسام ليس قسما واحدا، فالمختلف فيه:
?[القسم الأول] منه ما لا يجوز أن يختلف فيه، مثل الخلاف في حال الاستغاثة بغير الله شرك أو غير شرك، فهذا مختلف فيه صحيح بعض العلماء حسّن هذا ولكن لا عبرة بالخلاف في هذا؛ لأن الخلاف في هذا مخالف لأن الخلاف في هذا مخالف للقرون الثلاث المفضلة ولما أقره الأئمة في شرحهم للقرآن للتفسير ولكتب السنة في قرون المفضلة، هذا إذا قام هناك اختلاف فيه فلا عذر فيه؛ لأن الاختلاف اختلاف باطل والحق واحد وغيره باطل بيقين.
فنعرف أن التوحيد الخالص هو الصواب والحق وأن ما عداه باطل قطعا.
فهذا لا يجوز أن يعذر بعضنا بعضا في الخلاف فيه، فلا نعذر القبوري في قبوريته، ولا نعذر الرافضي في رافضيته، ولا نعذر الإسماعيلي في إسماعيليته، ولا نعذر كذا وكذا من الطوائف الضالة القادياني أو البهائي فيما ذهبوا إليه؛ بل نضللهم في ذلك ويكون بيننا وبينهم في ذلك ما بين أهل الحق وأهل الباطل، ولا يمكن أن نجتمع معهم، ولا أن يعذر بعضنا بعضا في تلك المسائل التي اختلفنا فيها معهم؛ لأنه معناه يجتمع الناس على كل شيء، وهذا به انجراف الديانة وذهاب صفاء الملة وديانة التوحيد.(90/29)
? القسم الثاني من المختلف فيه أن يكون الاختلاف فيه قوي، وهذا يصح -كما ذكرت- أن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، إذا اختلفنا أنا وأنت في أشياء وكان لخلاف قويا لك أنت منزع من الأدلة وأنا لي منزع من الأدلة، هذا القول الذي قلت به أو ذهبت إليه قال به جماعة من أئمة أهل السنة، وقال آخرون بقول آخر فذهبت إليه، فهنا يصبح الخلاف قويا كمن ذهب إلى أحد القولين فلا ينكر عليه، وإنما تصبح المسألة مسألة حجاج وبيان للحق؛ في هل يقتنع المقابل أو لا يقتنع.
هذه يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؛ لأن الخلاف فيها قوي والصحابة اختلفوا في مسائل وعذر بعضهم بعضا، فقد قال الإمام أحمد في شأن إسحاق بن راهوية: إسحاق يصاحبنا وإن كان يخالفنا في مسائل.
?القسم الثالث مسائل الخلاف فيها ضعيف، هناك خلاف فيها؛ ولكن الخلاف فيها ضعيف، فهنا الإنكار فيها واجب بقاء لقوة الحق في مسائل، وهنا إعذار بعضنا بعضا يختلف بحسب المسألة التي الخلاف فيها ضعيف، إذا كانت من مسائل الفروع، فهنا يحصل هناك اجتماع ولو مع هذا الخلاف الضعيف، وإذا كان في مسائل من الأصول؛ بمعنى أن هذا الخلاف الضعيف يرجع على أصل من أصول العقيدة بإضعاف فإنه لا يعذر بعضنا بعضا فيه.
فتحصل من هذا التقسيم الثلاثي أننا نقسمه باعتبار آخر إلى قسمين:
· خلاف في العقيدة.
· وخلاف في الفروع.
الخلاف في العقيدة لا عذر فيه، إذا كان في أصول العقيدة.
والخلاف في الفروع يعني في الفقهيات نقسمه:
إلى خلاف قوي، وإلى خلاف ضعيف.
والخلاف القوي والخلاف الضعيف لا يكون معه منابذة منافرة؛ ولكن في الخلاف الضعيف ينكر ويبيَّن فيه ما يجب بيانه.
نخلص إلى أن الكلمة هذه غلط في معناها وكذلك ألفاظها تدل على معاني أوسع مما ذكرت مما لا يكون مطابقا ولا موافقا لمنهج المتبع للسلف الصالح.(90/30)
س9/ تقول إنها إمراة متدينة ولله الحمد؛ ولكنها تعيش من أناس لا يشهود صلاة الفجر فإنهم لا يصلون في الجماعة كيف تتعامل معهم جزاكم الله خيرا، وأحيانا أغضب عليهم ويغضبون علي فما حكم هذا الغضب؟
ج/ يجب المواصلة في النصيحة وأن تقومي بواجبك كل ليلة بأن توقظيهم للصلاة، وإذا أوقضوا للصلاة فأبوا مع رجوع الشعور لهم، فتكون قد أديت الذي عليك والحمد لله.
ولكن لا تيأس المرأة من إيقاظ زوجها أو إيقاظ إخوانها أو إيقاظ أبيها بالأسلوب الحسن الذي لعلهم معه أن تنفتح قلوبهم للحق وأن يتخلصوا مما يكون مع عدم القيام بهذا الواجب العظيم وهو القيام للصلاة في وقتها مع الجماعة في المساجد.
وأما الغضب الذي ذكرته السائلة، فإن الغضب إذا ل يكن في أمر لها حق فيه فليس لها أن تغضب، وإذا كان الغضب لأجل الشرع أو المصلحة الشرعية فإنها معذورة فيه، وقد تؤجر عليه لكن تنظر هل الغضب هذا سيجعل أولئك سيصدون عن طريقتها في النصيحة وعن الإلزام بالدين أو لا؟
فإن كان لا يصد والغضب سيؤتي بنتيجة فهذا جيد.
وأما إذا كان لم يأت معه نتيجة فإنها تتركه ولو غضبت في داخلها، فكظم الغيظ طيب والصبر وعدم الحزن مأمور به.
أعاننا الله وإياها على الخير والهدى .
س10/ أنا إمرأة ولها ولد في سن المراهقة.... ولكنه بدأ يشتكي من هذا الشيء... التلفاز ....من المعاصي كيف أتعامل معه هل أضربه وأزجره أم ماذا ؟
ج/ هذا من البلاء الذي ينبغي للوالدين أن يتعاملا معه بحِسْنَةٍ وسكينة وهدوء؛ لأنه في هذا الزمن يخشى من لقسوة ألاَّ يأتي معها النتيجة المرجوة.
صحيح أن القسوة أحيانا تنفع لكن أحيانا لا تنفع وخاصة في سن المراهقة وهي من تقريبا العاشرة إلى الخامسة عشر، فلهذا على الوالد وعلى الوالدة أن يتعاملا معه بحكمة وأناة وأن يحبب له الخير شيئا فشيئا.(90/31)
ومن الأساليب الجيدة أن يبحث له عن صديق أو عن أصدقاء فيهم صلاح، وأن يغري الوالد أو الوالدة ابنهما بأن يصحب هذه الرفقة الصالحة، ولو أغروه بمادة أو أغروه بكذا وكذا فإن هذا من الأمر المحبَّب للنفوس ربما يصلح معه؛ لأن الغالب لأن الشباب لا يصلحهم إلا من هو من أمثالهم.
?????
أعد هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) الأنبياء:92، المؤمنون:52.
([2]) انتهى الوجه الأول.(90/32)
الفرق بين كتب الفقه و كتب الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
فابتداء كشف الشبهات نؤخره إنشاء الله تعالى اسبوعاً، وفي هذه الليله إن شئتم صار لقاءً مفتوحاً، أو ذكرنا شيئاً مما يتعلق بآداب طالب العلم، وما يحتاجه في تعلّمه في نظره في كتب أهل العلم.
نجمع بينهما ؟ طيب ، لا بأس نأخذ كلمة مختصرة .
فنقول وبالله التوفيق :
من المسلَّم به لدى كل طالب علم حريص عليه أن طلب العلم هو غاية ما يحصله المرء لنفسه من الخير، لأن العمل تابع للعلم، والعمل بلا علم لا ينفع، لأن من شرط صحة العمل وصحة النية الإخلاص والعلم بما يميز به عمله ويفرق به بين العادة والعبادة، فكثيرون يعملون أعمالاً هي من جهة العادات، أو قد يعملوها من جهة الجبلة والطبيعة أو بما جرى عليه أهله ومجتمعة، لكن العلم يحمله على أن يفرق بين نية العمل الذي يتقرب به إلى الله جل وعلا وبين العمل الذي يعمله عادة والعمل الذي يريد به أن يكون وسيلة إلى أمر محبوب .(91/1)
وطالب العلم في طريقه في طلب العلم يحتاج إلى فرق مهم وهذا الفرق كثيرون لم يدركوه، وهو الفرق بين تناول كتب الفقه وكتب الحديث، كتب الفقه فيها كلام على المسائل الفقهية وفيها الأدلة وفيها الخلاف. وكتب الحديث فيها أيضاً الكلام على المسائل الفقهية وفيها الأدلة وفيها الخلاف والترجيح. فمن جهة النظر إلى المحتوى قد يتشابه هذا وهذا ولهذا يشتكي كثير من طلاب العلم الذين في الكليات الشرعية، كلية الشريعة أو كلية أصول الدين في الرياض أو في نحوهما يشتكون من أنهم إذا دخلوا الكلية وابتدأو في دراسة الفقه والحديث، يشتبه عليهم تقرير هذا وتقرير هذا، يشتبه عليهم شرح الأستاذ الذي يدرسهم الفقه مع شرح الأستاذ الذي يدرسهم الحديث، من جهة أن كلاً منهما يورد أدلة وخلافاً وتصويراً للمسألة وربما كان إيراد هذا يختلف عن إيراد ذاك من جهة الاستيعاب أو الاستدلال أو بيان وجه الاستدلال أو استخدام علوم الآلة أو الترجيح... إلى غير ذلك، وهذا يجعل طالب العلم في كثير من الالتباس في جهة تحصيل العلم، وهل يطلب علم الأحكام من كتب الحديث أو يطلبها من كتب الفقة ؟ وبسبب عدم معرفة كيفية تناول الأحكام هل هو من كتب الحديث أم من كتب الفقه وما ميزة هذه وهذه ؟ وهل هذه تعارض هذه أم لا ؟ بسبب عدم العلم بهذه المسائل، حصل نقص عند كثيرين من طلاب العلم، وما اكتمل ملكتهم في العلم من جهة التكامل بين هذين العلمين العظيمين ، الفقه والحديث.
لهذا نقول : إن كتب الحديث كما هو معلوم سابقة لكتب الفقة وأول ما دون العلم دون على جهة الرواية والاسناد، حتى ما كان من فتاوى ووقائع وأسئلة نقلت في مصنفات أهل العلم المختصة أو العامة نقلت بالأسانيد، فعلم الحديث من حيث هو رواية ودراية يشتمل على إسناد وعلى متن، وهذا المتن قد يكون مرفوعاً للنبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون قولاً لصاحب أو قولاً لتابعي أو ما دون ذلك.(91/2)
يستعمل كثير من أهل الحديث هذه الكلمة : رواية ودراية، وفي تفسير الرواية والدراية اختلاف، فمنهم من يقول : الرواية هي نقل الحديث بالاسناد . والدراية هي تمحيص هذا الاسناد من حيث الصحة وعدم الصحة، من حيث هل هو مستقيم أم غير مستقيم؟ هل هو معلول أم غير معلول ؟ هل يحتج به أم لا يحتج به ؟ وهذا قول طائفة كثيرة من أهل العلم .
وآخرون يقولون : الرواية راجعة إلى النقل، والدراية راجعة إلى فقه الحديث، وفقه الحديث هو درايته. والرواية هي النقل، فيدخل على هذا في النقل مصطلح الحديث، يستعمل مصطلح الحديث، والنظر في الرجال . وتكون الدراية هي الفقه، يعني النظر في المتن .
هذا كان سابقاً، ولهذا مصطلح الحديث سابقٌ لأصول الفقه، وأصول الفقه أتت بعده من جهة التصنيف، من جهة تقعيد الفن، ومن جهة الاستعمال أصول الفقه سابقة لأصول الحديث، للمصطلح، لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط، وهي موجودة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يكون ثَمَّ أسانيد.
لهذا تنظر إلى علم الفقه وعلم الحديث إلى أنه لا انفصال بينهما في الحقيقة، فالفقه هو فقه الأحكام الشرعية وهذا يكون مبنياً على أدلة، ومن الأدلة السنة . ينتج من ذلك أن أدلة الفقيه أعم من أدلة المحدث، بمعنى أن الكتاب الذي يعرض لمسائل الفقه تكون أدلته أوسع من أدلة الكتاب الذي يعرض لفقه الحديث، لِمَ ؟ لأن من نظر في فقه الحديث يكون الدليل هو الذي يتكلم عليه من الحديث، عنده حديث في البلوغ ويشرحه، أو حديث في منتقى الأخبار ويشرحه، مثل نيل الأوطار، أو حديث في البخاري يشرحه أو نحو ذلك، فيكون شرحه مبنياً على هذا الحديث، واستنباطه للحكم بما في هذا الحديث من الحكم.
أما الفقيه فإنه يستنبط الحكم من عدة أدلة، قد يكون الدليل نصاً من الكتاب أو السنة، وقد يكون اجماعاً، وقد يكون قياساً شمولياً، وقد يكون قياس علة، وقد يكون قول صاحب، أو قول إمام ... الخ(91/3)
نرجع إلى تأصيلها فنقول : المقصود من هذا أن كتب الفقه تختلف عن كتب الحديث من جهة الأدلة .
إن كتب الحديث إذا رجعنا إلى أولها فتجد أن الإمام يبوّب على الحديث بما فيه من الفائدة، لكن لا يرى الاختلاف الذي فيه، فمثلاً الامام البخاري في تبويباته يبوِّب على فقه الحديث الذي عنده، أبو داود في تبويبه يبوّب على فقه الحديث الذي عنده، الترمذي النسائي ابن خزيمة ...الخ يبوِّبون ناظرين في التبويب - والتبويب هو عبارة عن الحكم أوالفائدة - راجع إلى فقههم إلى هذا المتن.
لكن إذا نظرت في المسألة نفسها نظرتها في كتب الفقه فتجد أن الفقيه يستدل بعموم آية، أو بمفهوم آية، أو يستدل بعدد من الأحاديث، أو يستدل بقاعدة أو أقوال الصحابة .. الخ.
رجع الأمر إلى أنه في الزمن الأول قبل شيوع المصنفات وشروح الحديث المطولة، المحدِّث يستنبط بناءً على هذا المتن الذي عنده، ولا ينظر إلى جميع أدلة المسألة، لا ينظر إلى كل ما في المسألة من الأقوال، لهذا يدخل في نظره إلى هذا المتن فيستنبط منه، أما المفتي أو الفقيه إذا أراد أن ينظر في هذه المسألة التي تناولها الحديث فإنه يستحضر أشياء أخر، لهذا صار كلام الفقهاء يختلف عن كلام طائفة من أهل الحديث، لِمَ ؟ لأنه قد يكون المحِّدث ينظر إلى هذا المتن باستنباط ما فيه فوائد من هذا المتن دون النظر إلى أن هذه الفائدة هل هي الحكم في نفس الأمر أم أنه يأتي معارض فينظر إليه من جهة أخرى، وقد ذكرت لك فيما مضى أن الأقوال المتضادة أو الأقوال المتقابلة في الفقه، فإنه يكون القول أرجح إذا كان المعارض له أقل، فإن القولين المختلفين في الفقه لا تظن أن أحد القولين له دليل والآخر ليس له دليل، هذا نادر، بل الأكثر - وجُل المسائل - يكون هذا القول له أدلته وهذا القول له أدلته، ولكن أي القولين يكون أرجح ؟ القول الأرجح هوالذي يكون الاعتراض على ما استدلَّ به أصحابه أقل من الاعتراض على القول الآخر.(91/4)
وهذه فائدة رصينة مهمة يحتاجها الناظر في كتب الفقه وكتب الحديث جميعاً.
هذه الأقوال المتقابلة والاختلافات جاءت نتيجة إلى نظر العلماء في المسائل الفقهيه، بعد ذلك صنفت متون الفقه ثم صنفت المطولات في الفقه، ثم ظهرت شروح كتب الحديث، شروح كتب الحديث استفادت من كتب الفقه، فأوائل كتب الفقه التي بسطت القول في المسائل الفقهية الخلافية كتب ابن المنذر، ومثلها مع شيء من الاختلاف المصنفات، مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق وأشباه هذه، فتجد أن هذه بسطت القول في المسألة بذكر أقوال العلماء المصنفات بدون ذكر أدلتهم لأنها رواية، ومثل كتب ابن المنذر تجد أنه يذكر القول ويذكر دليله.
ظهرت كتب الفقه بعد ذلك فيها ذكر الخلافيات وفيها دليل كل قول إذا كان الكتاب في الفقه عاماً مقارناً يقارن فيه صاحبه بين المذاهب، أما إذا كان كتاب مذهب خاص فإنه لا يورد أدلة الأقوال الأخرى.
خذ مثلاً كتاب ابن حزم "المحلى بالآثار شرح المجلى بالاختصار" وهو كتاب ألّفه للمبتدئ من طلاب العلم كما نص عليه في أثناء كلامه على صور صلاة الخوف، قال : "وإنما كتبنا هذا الكتاب للمبتدئ من طلاب العلم وتذكرة للفقيه، وهذا واقع من جهة أن الناظر فيه يجد أنه يذكر أقوالاً متعددة بالاسناد، فهو عبارة عن جمع ما يراه ناصراً لأصل المسألة، وقد يذكر الخلاف ويذكرالترجيح، أما الاستيعاب فإنه في كتب مطولة أُخر.
في هذا الكتاب مثلاً هل هو كتاب فقه أم كتاب حديث، هو على طريقة كتب ابن المنذر من جهة أنه يذكر المسألة ويذكر الاستطراد بذكر الأدلة تارة بالإسناد، وقليلاً بلا إسناد.
إذا نظرت في هذا الكتاب يحصل عندك شيء من التردد في فهم المسألة، لم؟ لأنه جاء تقرير المسألة مع بيان الخلاف مع الأسانيد مع الدراية مع الاستنباط مع رأي ابن حزم الأصولي، مع رده على المخالفين.(91/5)
مثال آخر : كتب ابن عبد البر “التمهيد" "والاستذكار" وغيرها، شروح الموطأ، لكنها شروح نظر فيها إلى المسألة لا إلى المتن، فهو قد يشرح المتن ثم يخرج من المتن إلى المسألة ثم يفصل الكلام في المسألة كأنها مسألة فقهيه مستقلة ، وهذا نوع من شروح كتب الحديث نقابله بكتاب ابن حزم، فكتب ابن عبد البر وكتاب ابن حزم متقابلان، هذا له طريقته وهذا له طريقته، إذا نظرت في هذا وهذا وجدت أن طريقة الفقهاء موجودة في كتاب ابن حزم، وطريقة المحدِّثين موجودة في كتاب ابن عبد البر، في الجملة.
بخلاف ما يظنه كثيرون، أن كتاب ابن حزم هو كتاب حديث، هو كتاب فقه، لكن فقه بناه على الأثر بتوسع، فكأنه صوّر المسائل الفقهية كمتن فقهي ثم استوعب ما في المصنفات وما نقل عن السلف في هذه المسائل ونظر فيها نظراً مختصراً، فهو كتاب فقه توسع فيه في الاستدلال.
تطورت المسألة من جهة التاريخ فدخلنا إلى مرحلة "المغني لابن قدامه، وما ماثله، مثل “المجموع شرح المهذب” للنووي، كتابان متقاربان من جهة أنهما كتابان فقهيان منهجهما واحد من جهة الفقه، هذا المغني كتاب حنبلي يعرض فيه إلى الأدلة والخلاف، وكتاب النووي كتاب شافعي يعرض فيه لتأصيل المسألة والأدلة والخلاف، يمتاز كتاب النووي عن كتاب ابن قدامه بأن فيه استيعاب للغويات، وفيه الحكم على كثير من الأدلة من جهة الإسناد، يقول : هذا اسناده صحيح، اسناده قوي، اسناده ضعيف ...الخ، وله ترجيحاته المخالفة للمذهب، كما أن ابن قدامة له ترجيحاته المخالفة للمذهب.
في مقابلتهما نذهب إلى كتب الحديث في ذلك الزمان “فتح الباري” مثلاً - بعده بزمان - فيه عرض المسألة بحسب إيراد البخاري واستيعابه للأدلة أو للخلاف هو بحسب حاجة المسألة إلى ذلك.(91/6)
فنخلص من هذا العرض الموجز إلى أن كتب الفقه وكتب الحديث يخدم بعضها بعضاً، فمن نظر في شروح كتب الحديث وأراد أن يستفيد، فلا بد أن يكون مؤصلاً في الفقه، فإذا أصل في الفقه كان نظره في كتب الحديث جيداً، لِمَ؟ لأن كتب الحديث ما تصوّر المسألة، وإنما تبني على أن المسألة صورتها واضحة، وأما كتب الفقه فهي تصور المسألة ثم تذكر دليلها - هذا واحد.
الثاني : أن كتب الحديث ليس فيها استيعاب للأدلة على اختلافها، لكن كتب الفقه تجد أنه يذكر دليل المسألة إذا كان من الكتاب أو السنة أو القياس أو القواعد الخ ذلك. يذكر كل ما في الباب عنده من أدلة في هذه المسألة؟
الفرق الثالث : أن كتب الحديث فيها إيراد المسألة بحسب مجيء هذا الحديث دون تكامل للباب، يعني الباب في كتب الحديث لا يتكامل في ذهن طالب العلم ، فإذا نظرت مثلاً في كتاب الجهاد في البخاري، أو الإمارة في مسلم، أو نظرت في باب من الأبواب في كتب الحديث فتجد أن هذه الأبواب فيها من الفوائد بقدر مجيئها في السنة لأنه مبني على الاستدلال من السنة فقط، لكن كتب الفقه يكون فيه عرض الباب بذكر المسائل التي تدخل تحت هذا الباب ودليلها من القرآن أو من السنة - وهو موجود في كتب الحديث- أو من القياس أو من القواعد أو من قول صاحب أو استنباط، أو فتوى للإمام، فتجد أن المسائل في كتب الفقه أكثر منها في كتب الحديث.
يعني ذلك أن من نظر في كتب الحديث جميعاً فإنه يخلص بنتيجة وهي أن المسألة إذا كان دليلها حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو موجود في كتب الحديث بتفصيل وببيان الخلاف فيه ودرايته وروايته وما يتصل بذلك، لكن إذا كان دليلها قاعدة عامة، دليلها آية، دليلها القياس، دليلها قول صاحب، دليلها فتوى الإمام، فلا تجدها في كتب الحديث.(91/7)
ينبني على ذلك أن الناظر في كتب الفقه يكون الباب في ذهنه أرتب وأوسع، لكن كتب الفقه فيها قصور - في العموم - من جهة النظر في الحديث أو في المتن بدون تأثر صاحب المذهب بمذهبه في النظر، لأنه يكون الدليل من السنة مثلاً في البخاري لكن في كتاب المذهب الفقهي ولو كان مطولاً خلافياً، فيه الخلاف العالي والنازل، لكن يكون نظره في الحديث بناءً على مذهبه، هذه الحيثية هي نوع من القصور في كتب الفقه من جهة طالب العلم المتوسع، فيكملها بالنظر في كتب الحديث، لكن كتب الحديث - يعني الشروح المطولة - تجد أن المسألة لا يتصورها طالب العلم تصوراً جيداً، يعني في المسائل التي تحتاج إلى تصور، أما في المسائل الواضحة فليس الكلام فيها، فلا يتصور المسألة تصوراً واسعاً، لا يتصور المسألة تصوراً دقيقاً، لا يستخدم أصول الفقه في الاستنباط، بخلاف كتب الفقه الموسع.
تستخدم أصول الفقه في كتب الحديث المطولة إذا احتاج إلى الترجيح في الخلاف.
من الفروق المهمة أنه يظن طالب العلم أن شارح الحديث أقرب إلى الاجتهادمن شارح المتن الفقهي، أو يكون - هذا الشارع - ولو كان يورد الأدلة، لكنه لا يسلم من التعصب.(91/8)
أما شارح الحديث فقد يظن كثير من طلاب العلم أنه يسلم من التعصب، فيقبل على كتب الحديث بناءً على أن أصحابها متجردون - رحم الله أهل العلم جميعا. وكتب الفقه يقول :لا عندهم تقليد، وعندهم نصرة لمذاهبهم، فلا ينظر فيها، وهذا غلط من جهة أن أصول الاستنباط التي بها يستنبط العالم ما هي ؟ العالم الذي سيشرح كتب الحديث يستنبط من الأدلة ويرجح بناءً على ماذا ؟ لا شك أنه بناء على ما عنده من أصول الفقه، - لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط- فهو سينظر في هذه المتون، ويستنبط ويرجح بين الأقوال، لكنه لن يسلم من التقليد لأنه سيرجح بناءً على ما في مذهبه من أصول الفقه، ويظن الناظر أنه يرجح بناءً على الصحيح المطلق، وهذا غير وارد البتة، لأنه ما من شارح للحديث، إلا وعنده تبعية في أصول الفقه، أصول الاستنباط، فهو سيشرح ويقول : هذا الراجح لأنه كذا، فيأتي طالب العلم المبتدئ أو المتوسط ممن ليس له مشاركة في الاستنباط عميقة، فينظر إلى ترجيح صاحب الحديث بأنه أكثر تجرداً من ترجيح صاحب الفقه، وهذا غلط لأن صاحب الفقه متأثر في استنباطه بمذهبه، وكذلك شارح الحديث متأثر في استنباطه بمذهبه، لكن بما أنه يشرح الحديث فينظر الناظر إلى أنه متجرد، وهو متجرد بلا شك لن ينصر ما يعتقد أنه غير صحيح، لكن سيتأثر في الباطن بأصول الفقه التي دَرَسَها، ولهذا لا بدّ أن تعلم أن الشراح إنما هم أتباع مذاهب، وليسوا مجتهدين الاجتهاد المستقل أو المطلق، لأن الاجتهاد المطلق أو المستقل - على خلاف في التسمية والتعريف - راجع إلى أنه يجتهد في أصول الفقه كما أنه يجتهد في النظر في الرجال، فله اجتهاداته في الفنين جميعاً، مثل الأئمة الأربعة، وبعض من اندرست مذاهبهم كسفيان والأوزاعي وابن جرير، فهؤلاء لهم اجتهادات في أصول الفقه وفي الرجال جميعاً، وكذلك ابن حزم له طريقة مخالفة لما قبله في أصول الفقه أصول الاستنباط وكذلك في النظر في الرجال، لا يقلد، وإنما له(91/9)
نظره المستقل، فهذا يسمى مجتهد مستقل، لكن بعدما دوِّنت المذاهب وانتشرت لا يوجد هذا، حتى شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه في أصول الفقه وهي أصول الاستنباط يتبع مذهب الحنابلة، إلا ما ندر مما رجحه أو بحثه بحثاً مستقلاً، مثل الكلام في عموم البلوى وأشباه ذلك، في مسائل أخذها من غير أصول الحنابلة، ولهذا إذا نظرت في المسودة، مسودة آل تيمية في أصول الفقه وجدت أن استدراكات شيخ الاسلام على قول أبيه وجده في هذه المسائل نادراً أو قليلاً.
إذا أتيت إلى مثل الحافظ ابن حجر والنووي وأشباه هؤلاء، فإنه من جهة الاستنباط سيدخلون في النظر، هل هذا اللفظ من ألفاظ العموم أم لا؟ هل المفهوم يخصص أم لا ؟ هل مفهوم المخالفة معتبر في هذا أم لا ؟ هل الدلالة دلالة نصية أو دلالة ظاهر؟ هل ينسخ هذا هذا أم لا ؟ فيرى طالب العلم الذي ليس عنده مشاركة في كتب أهل العلم في الأصول، يرى أن ما ذكره شارح الحديث أرجح مما ذكره الفقيه، لِمَ ؟ لأن هذا يشرح كتاب الحديث ويعتمد على السنة وذاك يعتمد على كتاب المذهب، وهو في الواقع ليس الأمر كذلك، لأن هذا وهذا جميعاً يتأثر في الاستنباط والنظر بأصول الفقه التي دَرَسَها . وهي أصول مذهبه.
فالنووي وابن حجر رحمهما الله تعالى في الاستنباط في أكثر المسائل بل في جل المسائل هم تبع للشافعية، ويأتي الناظر ويقول : رجّحه النووي، ويذهب عن قول ابن قدامة مثلاً أو يذهب عن قول فلان من الحنفية أو غيره باعتبار أن ذاك ينصر مذهبه لأنه رأى القول في كتاب فقهي، وهذا لن ينصر مذهبه باعتبار أنه وجده في كتاب شرح مسلم أو البخاري أو غير ذلك، هذا من عدم معرفة الفرق بين كتب الفقه وكتب الحديث.(91/10)
في كثير من المسائل يأتي طالب العلم وينقل أقوالاً عن الحافظ ابن حجر أو عن النووي، حتى في صورة المسألة، حتى في نوعية النظر في الخلاف، وإذا تأمل وتوّسع وجد أنهم نقلوها من كتب الفقه الشافعية، وعلماء الشافعية رحمهم الله تعالى خدموا كتب الحديث، ولهذا صارت ترجيحات المحدثين المتأخرين - أو الناظر في كتب الحديث من المتأخرين - تبعاً لترجيحات الشافعية لأنهم خدموا كتب الحديث أكثر من غيرهم . خدمة الحنفية لكتب الحديث قليلة، خدمة الحنابلة لكتب الحديث أقل، وهكذا.
فإذا طالب العلم الذي يريد أن يؤسس نفسه من جهة النظر - بدون أن يكون يوماً بالخليصا ويوماً بحزوى - يكون دقيقاً في النظر في أنه ينظر في كتب الفقه وكتب الحديث ويعلم هذه ما مميزاتها، وهذه ما مميزاتها، وحتى تصل إلى منهجية دقيقة في هذه المسألة فرتب نفسك في مراحل :(91/11)
المرحلة الأولى : أنه إذا عرضت لك المسألة في كتب الحديث، فاطلب تصورها من كتب الفقه، لأن تصوير شروح الحديث غالباً ما يكون ناقصاً، بناءً على أن الناظر في هذا الكتاب - وهو كتاب فيه الخلاف والترجيحات - ليس من الطلاب المبتدئين، خلاف حال كثيرين من الشباب أو طلبة العلم الصغار، فإنه يقبل على هذه الكتب المطولة وهو لا يعرف صورة المسألة أصلاً أو مقدماتها في كتب الفقه، فأولاً تطلب صورة المسألة من كتب الفقه، ثم تنظر في كتب الفقه ما دليل المسألة ؟ فإن كان دليلها من القرآن فهذه ظاهرة، في أنك لن تجد الكلام مفصلاً عليها في كتب الحديث إلا إذا كان ثم حديث يدل عليها، فإذا كان دليلها من القرآن فتحتاج إلى كتب أحكام القرآن، كتب أحكام القرآن كل كتاب تبع لمذهبه، أحكام القرآن للقرطبي مالكي، أحكام القرآن للكيا الهراس شافعي، أحكام القرآن للجصاص حنفي، أحكام القرآن لعبد الرزاق الرسعني حنبلي، وهكذا. فإذاً هناك تأثيرات أيضاً من هذه الجهة، فلا يظن الظان أنه بوجود المسألة في كتاب أحكام القرآن فإنه خلص المؤلف فيها من التقليد، ليس كذلك، بل تجد أنهم ينصرون مذاهب فيها الدليل واضح من الكتاب، لكن يدخلون في النظر منه من جهة أصول الفقه، فينصرون المذهب الخاص لقناعتهم بذلك. من جهة الدليل والاستدلال.
فإذا صورة المسألة أولاً أخذناها ثم يليها دليلها، فإن كان من القرآن فظاهر. إذا كان من السنة فتنظر إلى قول شارح كتاب الفقه، وبعده تنظر إلى قول علماء الحديث وشراح الحديث في كتبهم ، فيكون النظر في كتب أهل الحديث المطولة نظر في هل إيراد هذا الكتاب - الكتاب الفقهي - لهذا الدليل والاستدلال كاملاً أم غير كامل ؟ هل الأسانيد صحيحة أم لا ؟ هل الدليل صحيح من جهة النقل أم لا؟ ثم النظر في الدلالة، هل هي كما قال أم لا ؟ فيكون في هذه المرحلة تخدم كتب الحديث كتب الفقه ويكون الناظر في كتب الحديث مؤصلاً في المسألة الفقهية بعد معرفة دليلها.(91/12)
المرحلة الرابعة : أن ينظر في الدليل إذا كان من جهة القواعد، القواعد - كما ذكرنا - قسمان : قواعد متفق عليها وقواعد مختلف فيها.
القواعد المتفق عليها هذه تمشي مع جميع المذاهب، أما المختلف فيها فكل مذهب له قاعدة، ودليل هذه القاعدة في المذهب تارة يكون مبنياً على فهمهم لدليل من الكتاب أوالسنة، وتارة يكون مبنياً على فروع منقولة عن إمام المذهب.
فإذا كان الدليل من التقعيد عاماً يعني من القواعد الكلية فإن هذا القول به ظاهر وواضح، أما إذا كان هذه القاعدة دليلها خاصاً بمذهب أو فروع منقولة في مذهب فإنه لا تخلو المسألة أيضاً من جهة النظر إلى تنازع في الفهم والدلالة وفي دليل هذه القاعدة، تجد قواعد يستدل بها الشافعية لا يوافقهم عليها الحنابلة، قواعد عند الحنفية ليست مستقيمة عند المالكية والحنابلة والشافعية، قواعد يذكرها شيخ الاسلام ابن تيمية خرج بها عن بقية المذاهب، تعقيدات واضحة من دلالة النصوص العز بن عبد السلام أتى بقواعد في كتابه “القواعد الكبرى” قواعد الأحكام في مصالح الأنام في كثير من التقعيدات - كثير ليس الأكثر - خرج بها عما هو صواب في نفسه، وهكذا، فإذاً إذا كان الدليل بالقاعدة لا يعني أنه صحيح مطلقاً، بعض طلبة العلم أو الشباب إذا قيل له القاعدة كذا يظن إنها خلاص انتهت مسلّمة، بمعنى أنها كالنص، لا، ينظر في القاعدة إذا كانت كلية فهذا صحيح، أما إذا كانت قاعدة خاصة بمذهب من المذاهب فيعرض لها النزاع كما يعرض لأي مسألة فقهية.
بعد ذلك تنظر في قول الصحابي، هل استدلوا بأقوال الصحابة أم لا ؟ هل هذا الصاحب له مخالف أم لا؟ الخ تنظر فيما يأتي به من الأدلة، وللنظر في كتب الفقه أو كتب الحديث رتب نفسك في تصوّر أي مسألة لاستيعاب ما فيها بهذه المراحل الستة -هذا الآن تقسيم آخر -.(91/13)
الخطوة الأولى : تصوير المسألة . يعني أي مسألة تعرض عليك في كتب الفقه أو كتب الحديث رتبها حتى تفهمها بفقه على هذه المراحل الستة ... ([1][1])
الخطوة الثانية : حكم المسألة بحسب ما عُرف في كتاب فقه أو كتاب حديث الخ، ما حكمها ؟ مثلاً في المتن الفقهي يقول : كذا جائز، أو ويشترط كذا، فما هي صورة هذا الشرط ، والشرط حكم فتفهم الصورة ثم تفهم الحكم.
الخطوة الثالثة : دليل هذا الحكم، بحسب إيراد المؤلف، ثم ينظر في هذا الدليل بحسب الخطوات التي ذكرتها لك من قبل.
الخطوة الرابعة : وجه الاستدلال، وهو استخدام أصول الفقه في النظر في الأدلة، كيف استنبط من هذا الدليل ذلك الحكم.
الخطوة الخامسة : الخلاف في المسألة، ما هو الخلاف في المسألة؟ الأقوال الأُخر؟ وذاك القول الآخر تعمله بنفس الطريقة، ما دليل القول الآخر؟. ما وجه الاستدلال؟ الخ
الخطوة السادسة : الترجيح.
فلو جعلت لكل مسألة في كتاب فقه أو كتاب حديث هذه المراحل في النظر، وجدت أن كتب الفقه وكتب الحديث غير متعارضة، هذا يخدم هذا وهذا يخدم هذا، وهو الذي تراه في صنيع العلماء والأئمة، ما ترى عالماً يزهد في كتب الفقه، أو ترى عالماً يزهد في كتب الحديث، حاشا وكلا، بل يقول : كتب الحديث هي الأصل، وكتب الفقه هي استيعاب للأبواب بحسب أدلة المسائل.
هذا يحتاج إلى مزيد بسط وتفصيل في بعضه، لكن الخلاصة من هذه الكلمة الموجزة أن طالب العلم ينظر إلى كتب الفقه وكتب الحديث على أنها شيء واحد غير منفصل.(91/14)
وإذا نظر الناظر وقال: لا ليس الأمر كذلك، كتب الحديث هي الأصل استنباط من السنة، وأما كتب الفقه فهي آراء الرجال، فنقول : هذا الكلام غير دقيق، من مارس النظر في هذه وهذه، ولمن استقبل استفتاءات الناس ومشاكل الناس، لكن طالب العلم من حيث نظره لنفسه صح، هو يحتاج إلى نوع معين فيستوعب ما فيه، لكن من حيث فهم الباب فهماً كلياً فإنه لا بد له أن ينظر في هذا وهذا لا يستغني عن هذا ولا عن هذا.
جرّب في هذه وخذ مسألة، وانظر لها في كتاب فقه، فتجد أنها مذكورة ودليلها وقد يكون ثم خلاف بحسب الحكم، لكن تجدها في شرح كتاب من كتب الحديث قد يورد لك خلاف وأقوال فيها، إذا نظرت في كتاب فقهي أطول منه ستجد أنه يورد لك هذا، وذكرت لك في البداية كتب ابن المنذر، فإن كتب أهل الحديث في الخلاف وكتب الفقهاء في الخلاف، معتمدة بكثرة على كتب ابن المنذر، ومنها الموجود ومنها غير الموجود، وكتب ابن المنذر من أشهرها الأوسط والبسيط، الأوسط موجود أكثرة، والبسيط موجود قطع يسيرة منه، ونحو ذلك وكتب ابن عبد البر، تجد أنه ما يورد في المغني أو ما يورد في المجموع شرح المهذب أو في خلافيات أهل العلم هي مبنية على هذه الكتب.
فإذا الناظر من طلاب العلم ينبغي له أن يكون جامعاً في النظر بين هذا وهذا، لا يكون زاهداً في كتب الفقه فيحرم النظر وفهم الفقيه وذهن الفقيه وشمولية الفقيه في الباب، ولا يكون زاهداً في كتب الحديث لأجل أنها أدلة، والأدلة موجودة في كتب الفقه، فيفوته كثير من البسط في المسائل والخلاف ومعرفة آراء أهل العلم في المسألة، حتى يكون ترجيحه ونظره على أساس. وهو الاطلاع على أقوال الناس في المسألة .
نكتفي بهذا القدر في هذه المقدمة، وهي لها في الحقيقة ذيول وشروح وبسط، ونستقبل بعض الأسئلة.
=== الأسئلة===(91/15)
س / يقول : قد يعترض شخص ويقول : إننا لو تأملنا الكتب في شروح الحديث لرأيت أنهم أقل خطأ من غيرهم، من الذين أقروا ... كتباً في الفقه، فنجد المحدثين لا يستدلون بقول صاحب، ولو وجدوا حديثا ولو ضعيفاً، والفقهاء أغلبهم يقدمون الرأي على الحديث إذا ضعف، فهل هذا الكلام صحيح؟
الجواب : المشكل في مثل هذه المسائل أن يكون طالب العلم الذي يلقي مثل هذه الإشكالات، أن يكون عنده النظري واسع، والتطبيق قليل، أي أنه فهم هذه الكليات من دون ممارسة، لكنه لو مارس ممارسة واسعة لوجد أن هذا الكلام غير صحيح، فيقول : لو تأملنا في كتب شروح الحديث لرأيت أنهم أقل خطأ من غيرهم، هنا أقل خطأ مبني على ماذا ؟ لا شك أنه لا بد أن يكون عند الناظر ترجيح في كل مسألة من أن كلام الشارح أرجح من كلام الفقيه المسن، وكلامنا ليس على الترجيح بين فلان وفلان، بين ابن حجر وابن قدامة، بين النووي وابن قدامة أونحو ذلك، ليس الكلام في هذا، الكلام في ميزة كتب الفقه وكتب الحديث وما الفرق بينهما حتى يستوعب طالب العلم هذا الفرق، وكون كتب الحديث أقل خطأ الجواب ليس كذلك، هي فيها معرض للاجتهاد والنظر، وكتب الفقه فيها معرض للاجتهاد والنظر، كتب الفقه تختلف بحسب صاحب الكتاب الشارح، فإذا كان محققا عالماً فيكون رؤيته في المسائل وترجيحاته بناءً على نظره في الأدلة نظره في القواعد ... الخ،هذه مكانة العالم، ونظر المحدث قد يكون ضعيفاً، مثلاً خذ شروح طائفة من علماء الهند لكتب الحديث، ؟؟؟ كثير من علماء الهند شرحوا البخاري شرحوا مشكاة المصابيح، وبعضهم شرح مسلم أيضاً، منهم من شرح الترمذي، هي شروح أحاديث، لكن شرحهم له هل هو على طريقة أهل الحديث، أو على طريقة الحنفية؟ أكثرها على طريقة الحنفية، فيقرر لك مذهب الحنفية من دون أن تشعر، فيأتي الناظر ويقول هذا كله سنة وأدلّة الخ، لكن أدلة الآخرين قد يورد منها دليلاً أو دليلين ويكون هذا الذي أورده ليس هو الحجة في(91/16)
الباب، إذا نظرت إلى بعض كتب الحديث المتقدمة لما فيه نصرة لمذهب معين، مثل مثلاً كتاب البيهقي "السنن الكبرى" و"السنن الوسطى" و"السنن الصغرى" له هذه كلها مطبوعة، تجد أنه أراد الاستدلال لأقوال الشافعي، أتى التركماني في تعقباته، وعارض ما استدل به البيهقي في المسائل، الحنابلة في بعض المسائل لهم رأي آخر، فإذاً اعتماد العالم على الأثر والحديث تكون الحجة معه ويكون أقل خطأً ممن يكون اعتماده على النظر والرأي، هذه كلية صحيحة، ولهذا يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في موضع له أظنه في أول "الاستقامة" يقول : إن أهل الحديث أو الذين يعتمدون على الأثر من أهل العلم هم أقدر الناس على الفتوى بما يناسب الزمان الذي يعيشون فيه، لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان، فيكون عنده انطلاق وسعة في الفتوى، بخلاف أهل الرأي والفقه الجامد فإنهم يكونون عند النظر في المسائل النازلة والحادثة أكثر انحباساً وأقل انطلاقاً فيها، لِمَ؟ لأن هذا ينظر في النصوص ويستنبط منها، وذاك ينظر في نصوص إمام ويريد أن يطبقها، ونص الشارع يستوعب الأزمنة والأمكنة وأما نص الإمام المعين -على جلالته- فإنه كان بناءً على البلد التي كان فيها، ولهذا صاحب الأثر، -نقول : نعم-، أقل خطأ من صاحب الرأي وصاحب الفقه المجرد من الدليل، هذا لاشك، فذاك تكثر أخطاؤه وهذا أقل، لكن بالنسبة لكتاب حديث وكتاب فقه، لا، يكون بحسب المؤلف، المؤلف من هو ؟ انظر مثلاً للفرق بين سبل السلام ونيل الأوطار، تجد أن الفرق واضح بين هذا وهذا، الشوكاني مثلاً في مصطلح الحديث وفي النظر في الاسناد تبع للحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير ونحوه، ما له اجتهاد في الاسناد ولا يعرف الرجال ولا طبقاتهم ولا كذا. وإن كان نظر فيه فهو مقلد بحت، إذا أتى في الأصول فله اجتهادات في الأصول ربما خالف بها أئمة المذاهب، ربما له اجتهادات،كما في إرشاد الفحول، يرى أشياء مخالفة للجميع، طيب، يرى الناظر مثلاً في نيل(91/17)
الأوطار فإذا صحح ورجح يقول هذا مجتهد، يعني لا يقلد ولا يتعصب للآخرين، لكن ملكته الاجتهادية ليست كاملة لأنه في الأسانيد مقلد، فقليل ما يكون عنده معرفة بالتخريج والإسناد استقلالاً، وإنما هو ناقل عن غيره، لكن من جهة الأصول نعم من جهة اظفطلاع فخفى عليه بعض الأقوال وبعض الأدلة، فهو يرجح بناءً على ما أورد، لكن يكون في المسألة أدلة أخرى، قواعد، لصاحب هذا القول، لا يوردها، وفي الغالب هو لخّص الفتح وزاد عليه، لكن في سبل السلام تجد أن صاحبه ينظر نظراً آخر لأنه لخص كتاب البدر التمام وزاد عليه أشياء، فالنظر مختلف، نظر شرح الحديث في سبل السلام مختلف من حيث الوجهة والمنهج عن نيل الأوطار، وهما كتابا حديث، هذا شرح البلوغ، وهذا شرح المنتقى، إذا فهذا القول ناتج من عدم الاستيعاب، وعدم معاناة كتب الفقه وكتب الحديث ولو عانى واستوعب لوجد أن المسألة ليست على ذلك،، أما قوله أن الفقهاء أغلبهم يقدمون الرأي على الحديث إذا كان الرأي فيه ضعف،هذا غير صحيح.
س / ما هي عقيدة الماوردي، وما رأيكم في كتابه " الأحكام السلطانية"؟
الجواب / الماوردي أشعري، واتهم بالاعتزال، وهو صاحب تفسير النكت والعيون، طبع في الكويت ثم طبع في غيرها، واتهم بالاعتزال في مسائل وفي الجملة هو أشعري المذهب. وكتابه الأحكام السلطانية من جهة الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير دقيق، غير موافق لتفاصيل مذاهب السلف.
س/ يقال أن ابن حزم مذهبه ظاهري؟
الجواب / وهل يشك في ذلك أحد؟ ابن حزم ظاهري في الفقه وفي غيره.(91/18)
س/ من المعروف عند أهل الحديث أنه لا ينظر إلى حال الصحابي وعدالته وشخصيته فهو ثقة في جميع الأحوال،لما لهم من المنزلة الرفيعة، ولكن يعارض هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم لا يسلمون من سوء الحفظ وبينهم منافقون، وقول الله : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ } الآية نزلت في أحد الصحابة، وكيف لا ينظر في عدالة الصحابي، أرجوا التوجيه ؟
الجواب / إذا كان الله جل وعلا هو الذي زكى الصحابة وهو الذي عدلهم فلا قول لأحد، وبحث عدالة الصحابة بحث مطول معروف، والذي أورد هذه الشبهة من الزمن الأول المعتزلة، وهي شبهة موجودة عند الزيدية في هذا الزمن وما قبله، ولهذا تجد أن ابن الوزير اليماني أفاض في رد هذه الشبهة، في كتابه الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، وفي كتاب آخر سماه "العواصم والقواصم" .
س / هذه المرة الأولى التي أحضر فيها هذا الدرس، وهو أول درس أحضره، سؤالي : هل بدايتي في طلب العلم صحيحة بهذا الدرس، أم علي أن أحضر درساً قبل هذا الدرس، وماذا تقول فيما يرد على الذهن أحياناً من أن طلب العلم يحتاج إلى صاحب عقلية فذة، وأما غيره فلا نصيب له من العلم؟
الجواب : الكاتب ما شاء الله خطه جميل، وسياقه لما أورد سياق جيد وصحيح يعني من حيث العربية، تركيب جيد، وهذا يدل على أنه مؤهل لطلب العلم، والاستدلال بالخط على العقلية لها أصل، الحافظ الذهبي كان مقرئاً من القراء، قرأ بالعشرة وله كتاب طبقات القراء، كان من أسباب توجهه للحديث أن أحد مشائخه قال له حينما رأى خطه خطه غير جيد، قال له : خطك يشبه خط المحدثين، قال : فوقع حب الحديث في قلبي، ونقول للأخ : خطك يشبه خط العلماء فتوجه إلى لخير.
س/ ما الذي يمنع أن يكون النووي مثلاً مجتهداً مستقلاً، فله اجتهادات في الأصول ؟(91/19)
الجواب / مجتهد مستقل؟ لا هو شافعي مجتهد في المذهب لا مجتهد مطلق فضلاً من أن يكون مجتهد مستقل، وإذا كان مجتهداً في المذهب لا يعني أنه يجتهد في مسألة أو مسألتين أو خمس أو عشر غير مذهب الشافعي، لكن هو استيعابه لأقوال المذهب، وأما المجموع شرح المهذب فهو بداية للنووي رحمه وتوفي قبل إكماله، وأوله إلى كتاب الحيض ؟؟؟؟ وحاول أن يستوعب فيه الأقوال والروايات والنظر.. ثم طال عليه فاختصره بعد ذلك، مثل الحافظ ابن حجر أراد أن يشرح البخاري شرحاً مطولاً فصعب عليه ذلك فشرحه شرحاً متوسطاً وهو فتح الباري ، هذا ذكرها بعض أهل العلم ونقلها الكتاني في فهرس الفهارس والأثبات، عن بعضهم وقال هو على عهدته، وجدت له ما يؤيد هذا الكلام.
س/ هل المقصود بأهل الحديث الذين يدرسون علم الحديث والمصطلح وعلم الرجال و الجرح والتعديل، أم أن المراد بأهل الحديث الذين ورد ذكرهم عند بعض السلف ؟(91/20)
الجواب / فإذا قيل أهل الحديث فثم اطلاقان، أهل الحديث باعتبار العقيدة باعتبار السنة، وأهل الحديث باعتبار الرواية، فإذا قيل أهل الحديث فهذا يشمل رواة الأحاديث، وقد يكون في نفسه ليس من أصحاب العقيدة الصحيحة، ليس على عقيدة أهل الحديث، وأهل الحديث من جهة العقيدة قد يكون فقيها ليس عنده علم بطريقة أهل الحديث في الرواية والإسناد وطبقات الرواة ومصطلح الحديث والجرح والتعديل، لكن يكون على عقيدة أهل الحديث فهو من أهل الحديث، فإذا أهل الحديث لها اطلاقان ، اطلاق يدخل فيه الرواة، وهذا إذا نظر إلى جهة الرواية فقط، واطلاق يراد به صحة الاعتقاد فهو الذي قال فيه الامام أحمد لما سئل عن الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، قال : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، قد يكون فقيها يكون موافق لأهل الحديث، فأهل الحديث الذي يعتقدون ما جاء في الأحاديث ولا يردون الحديث بالعقل، هذا من أهل الحديث بعام، وأهل الحديث باعتبار الرواية نعم كل راو يكون من رواة الأحاديث يدخل في مسمى أهل الحديث، في التقييد.
س/ هل هناك مراجع تكلمت عن هذا الموضوع باسهاب؟
الجوواب / هي موجودة في كتب آداب الطلب في بعضها، ومجموعة من جهة الممارسة.
س/ ما رأيك فيمن قال إن الامام المجدد يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب حنبلي غير مجتهد، وليس عنده نظر في الأدلة وأنه متميز في التوحيد فقط؟(91/21)
الجواب / هذا قول قاله بعض العلماء لكن منشأ هذا القول عدم معرفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وعدم معرفة كتبه ، ولا حال نجد قبل مجيء الدعوة، نجد قبل مجيء الدعوة لا تعرف كتب الحديث أصلاً، ترى في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يقول لأحد أهل العلم كاتبه في رسالة قال: وقد نظرت يوماً عندك في كراريس نقلتها من أول البخاري في مسألة الإيمان إن هذا هو الحق، فسرني ذلك لما أعلم من أن ذلك مخالف لطريقة آبائك وأجدادك لأنهم أشاعرة...، نجد نادراً تجد فيها كتاب حديث، إذا وجد ففيها البخاري للبركة لكن تجد السنن، تجد شروح الأحاديث ؟ لا تجد وإنما فيه كتب الفقه وبعض البخاري للبركة وليس للنظر ، لما أتى الشيخ رحمه الله تعالى بدعوته امتلأت الدرعية بكتب الحديث حتى ترى أن الشيخ سليمان بن عبد الله في كتابه تيسير العزيز الحميد نقل عن أكثر من ستمائة كتاب من كتب الحديث بعضها لا نعرفه الآن، منها أشياء المعول في النقل عليه، ما ندري عنها أي هذا الكتاب، إلا عنده، والكتاب معروف لكنه انتهى. وبعضها معروف لكنه انتهى، أخذ لما جاءت الجويش أو الحملة الظالمة ، وأخذوا ما أخذوا من كتب الحديث وفرقوها، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب أبناءه محدثون، الشيخ عبد الله له شرح في البخاري، الشيخ سليمان بن عبدالله أيضاً له شرح في البخاري يومي بعد المغرب في مجلس الأمير، يذهب في الإمارة ويلقي هذا الدرس، وصفه ابن بشر، كذلك لهم إقراء في مسلم والسنن وفي المنتقى وفي البلوغ الخ. وأنت لو ذهبت إلى غير هذه البلاد وجدت أن العناية بكتب الحديث لا توجد إلا عند السلفيين، والسلفيون من أين جاءتهم العناية بكتب الحديث، هل هي ممتدة عندهم في بلادهم ورثوها؟ أم كانت نتيجة الدعوة السلفية ؟ اهتمام أصحاب الحديث واتباع الدعوة السلفية بكتب الحديث وكتب فقه الحديث كان ناشئاً من اهتمام علماء الدعوة بها، لكن كثرة كلامهم في الفقهيات وقلة كلامهم في كتب(91/22)
الحديث وشروح الأحاديث فيما بين أيديكم الآن له سبب وهو أن أكثر كلامهم كان لأجل الحاجة، حاجة العامة حاجة الناس، هم أئمة دعوة معلمون مفتون مدرسون، يستقبلون كلام الناس يستقبلون الفتاوى والاشكالات، أمامهم دولة وارساليات قاضي عليه مشكل، ومفتي في بلد استفتى فأرسل، فكان كلامهم راجعاً إلى قول فصل في المسألة بما هو راجح عندهم لأجل الحاجة العلمية لذلك، ولو درست دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دراسة جيدة لوجد أن سبب توجه الناس في كثير أو الأكثر من بلاد المسلمين اليوم من جهة السلفيين كان ناتجاً من اهتمام الدعوة بكتب الحديث. كتاب التوحيد فيه في كل باب : رواه أبو داود بإسناد جيد بإسناد حسن، هذا حديث صحيح... الخ
كيف يقال إن الشيخ ما يميز صحيح الحديث من سقيمه !!
والعالم الذي ذكر هذا الكلام عن الشيخ بناه على استدلاله بحديث خروج المصلي إلى المسجد، يعني دعاء المشي إلى الصلاة : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ... حديث أبي سعيد الخدري، وقال إنه أورده في أول كتاب آداب المشي إلى الصلاة وهو حديث ضعيف، وهذا يدل - هذا كلام ذلك العالم-على أنه لا يميز بين صحيح الحديث من سقيمه.
نقول : هذه النتيجة صحيحة لو كان الأصل الذي بنيت عليه صحيحاً، فهو قال هذا الحديث ضعيف ولهذا الشيخ لا يميز صحيح الحديث من سقيمه، نقول: أنت ضعفت الحديث لكن الحافظ ابن حجر حسنه، فالشيخ إذا أخذ كلام الحافظ وحسنه وأورده، وأورد هذا الحديث فهل يشترط لدرايته صحيح الحديث من سقيمه أن يتبع رأي أحد العلماء جاء بعده بمائتي سنة، أو ثلاثمائة سنة، هذا ما يقوله منصف، لأن نفس الأحاديث مختلف فيها بعضهم يصحح وبعضهم يضعف، فليس دليل الحكم على الإمام محمد بن عبد الوهاب أنه لا يدري أنه أورد حديثاً هو عند بعض العلماء ضعيف هذه حجة واهية، كون بعض العلماء ضعفه وهو أورده بناء على من صححه، هذا لا نخلص منه بما ذكر.(91/23)
س/يقول : قرأت مختصر تفسير ابن كثير للرفاعي، فماذا أقرأ بعد ذلك في التفسير ؟
الجواب / تقرأ كتاب ابن كثير الأصل مرة ثانية وثالثه فيه بركة.، إذا أردت أن تتوسع ترجع لابن جرير في بعض الآيات المشكلة، كتاب أحكام القرآن للقرطبي وما شابه ذلك.
س/ ما معنى أشعري المذهب ؟
الجواب / يعني أنه يتبع في العقيدة أبا الحسن الأشعري .
س/هذا يسأل يقول أن أحد الأخوان نصحه بأن لا يحضر دروس الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله، ويعلل ذلك بأن الشيخ حفظه الله لا يصلح لمن ابتدأ لطلب العلم لأن الشيخ يعلق تعليقات بسيطة لا تصلح إلا لمن تبحر في طلب العلم؟
الجواب / هذا يرجع إلى استيعاب طالب العلم إذا كان يحضر ويستوعب ويفهم فكلام الشيخ درر، وهو ما ينبغي العناية به من كلام أهل العلم في هذا الزمن حفظه الله.
س/ أيهما أصح عبارة : التوحيد هو أهم الواجبات، أو التوحيد أول الواجبات؟
هو أول واجب وآخر واجب وأهم واجب فيما بينهما. أول واجب يعني قبل البلوغ، وآخر واجب قبل الممات، وما بينهما هو أهم الواجبات.يعني التوحيد.
س / لماذا يذكر قوم لوط في القرآن بفعلهم ولم يذكروا بكفرهم؟ فهل هم مسلمون قبل دعوة النبي لوط أم ماذا؟
الجواب / هذا سؤال معروف، وفي جوابه نرجع السائل إلى كتب التفسير لأني ما أريد أن يأخذ كلامي، لأن هذه شبهة أوردها طائفة من المعاصرين بأن نبياً - وهو لوط عليه السلام - إنما ذكر عنه النهي عن الفاحشة فقط، وأصاب القوم ما أصابهم الخ. أولئك لم يكونوا كفاراً، وإذا رجع السائل إلى كتب التفسير في أول موطن ذكرت فيه قصة لوط وجد كلامهم فيه.
س/ هل هناك فرق بين الرِجْل والقدم؟(91/24)
الرجل من حيث اللغة يشمل ما بين أطراف الأصابع إلى اتصال الفخذ بالحوض، هذا كله رِجل، وهي تشمل الفخذ والركبة والساق والقدم، فإذا قيل: الرجل فتشمل هذا جميعاً .والقدم خصوص القدم، ففي الحديث : يضع الجبار فيها قدمه، وفي رواية رجله، وفي رواية رجله المقصود منها القدم تفسيرها بالرواية الأخرى، لأنه يطلق الكل ويراد به الجزء مثل تفسير قول الله جل وعلا { السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا } أيديهما ليس إلى آخر العضد، وإنما إلى الكف فقط.
س/ هل نكتفي بسماع الشروح العلمية بعد العودة إلى مدننا لقلة المشايخ هناك؟
الجواب / نعم تستمع لشروح الكتب في الأشرطة وما أشكل عليك تسأل أهل العلم عنه بالهاتف، أو إذا قدمت تجمع الاشكالات، لأن معرفة الإشكال علم في نفسه، إذا استشكلت فهذا دليل الفهم، لكن إذا مررت بالكلام ولم تستشكل شيئاً فهذا يدل على إما أنك فهمت كل شيء، وهذا -في الغالب-لا يكون في المبتدئ، وإما أن يكون فهمك لا شيء.لأنه ما استشكلت شيء ،كله واضح واضح واضح، يعني ما فهمت ؟؟؟ فاستماع الأشرطة طيب،نفع الله بها، لكن لا بد من الاتصال بأهل العلم لأن هناك الهدي والسمت والدل ورؤية العالم للأمور وكيف يتعامل مع العلم والفقه وكيف يتعامل مع من حوله، هذا ما يحصلها طالب العلم إلا بالمخالطة.
س/ ما رأيك فيمن يترك كتب خاصة في المذهب كالروض المربع والاقناع والمقنع وترك البحث في تخريج الرواية الصحيحة للإمام أحمد؟
هذه مراتب في المذهب، فمذهب الامام أحمد مرتب، ابن قدامة صاحب المغني ترى أنه رتب الكتب في مراحل.
أول مرحلة كتاب عمدة الفقه.
المرحلة الثانية المقنع
المرحلة الثالثة الكافي
المرحلة الرابعة المغني
ومما سمعت من الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله أنه كان يقول : ابن قدامة عمل الفقه على مراحل كالمراحل الدراسية الآن .(91/25)
فالعمدة للابتدائي، والمقنع للمتوسط، والكافي للثانوي، والمغني للجامعي. هذا ترتيبها، وهذا صحيح، ترتيب منطقي.
نكتفي بهذا القدر وجزاكم الله خيراً و صلى الله وسلم على نبينا محمد
---
---
([1][1]) بعد هذا حذف في التسجيل لا يفهم معه الكلام في آخر الوجه الأول وأول الوجه الثاني من الشريط(91/26)
الفقهاء ومتطلبات العصر
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله جل وعلا خير حمد وأوفاه، حمدا متتابعا ما تتابع الليل والنهار كلما حمده الحامدون وغفل عن حمده الغافلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأسأل الله جل جلاله أن يجعلني وإياكم ممن بارك في أقوالهم وأعمالهم، وممن بارك في أعمارهم، وأن يجعلنا مباركين معلمين الناس الخير حاضّين لهم عليه وأن يجعلنا ممن علم فعمل وعلم، إنه سبحانه جواد كريم.
موضوع هذه المحاضرة جاء بإلحاح الزمن عليَّ، ومعلوم أن المحاضرات تناسب المقام والمقال، وهذه الكلية صُلْبُ موادها وصلب تخصصها الفقه، وغيره فرع أو فروع عنه إذا صحَّ صح الباقي، وإذا ضعُف ضعف الباقي ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
والذي حدا لهذا العنوان هو ما نراه اليوم من أن المتفقهة وطلاب العلم الذين يعنون بالفقه سواء أكان من جهة درسهم للخلاف في الفقه، أو كان من جهة درسهم للخلاف في الأدلة والأحاديث من أي مدرسة شئت، هؤلاء لابد أن ينظروا إلى زمانهم وإلى هذا العصر نظرة تناسب مقام الجهاد الذي هو واجب على الجميع، بحسب الاستطاعة.
ولاشك أن طلب العلم الشرعي وبذل النفس في ذلك، وأن يكون طالب العلم قويا في ملكته، قويا في محفوظاته، قويا في فهمه لحدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى الله عليه وسلم، لاشك أن ذلك سلم الوصول للنتائج، فلا نتيجة لفقيه في هذا العصر إذا كان في بدايته مهزوز العلم أو ضعيف التكوين أو كان قليل البضاعة والتأصيل، وإذا كانت العلوم الشرعية الأصلية أو المساندة إذا كانت لها فنون وفروع فالفقه كذلك، لهذا ذكر العلماء أن الفقه:
· منه فقه أحكام.
· ومنه فقه المقاصد.
· ومنه فقه القواعد الشرعية.
· ومنه الجمع والفرق بين المسائل.(92/1)
· ومنه أصول الفقه التي هي الطرق الموصلة إلى الاستنباط الصحيح.
وغير ذلك أيضا.
لهذا نقول في المقدمة وتوطئة للحديث: إنّ الواجب على كل من آنس من نفسه رشدا وخيرا وقوة بما أنعم الله عليه، إن الواجب عليه أن يحصِّل هذا العلم؛ لأنه واجب كفائي، والناس اليوم أشد ما يكونون حاجة إلى من يعلم الشريعة ?ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ?[الجاثية:18].
وهذا التفقه ذكر العلماء فيه أنّ طلب العلم لمن قويت ملكته ورُجي نفعه العام أن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل جهاد النفل، ولهذا كان مما ينبغي على طالب العلم أن يُحسن النية والقصد في طلبه للعلم.
علم الفقه تدرسونه إما على كتاب على مذهب، أو على مذاهب بحسب المنهج، والفقه قُسِم إلى أقسام -كما هو معروف- إلى العبادات وإلى المعاملات إلى آخره.
واليوم الناس بحاجة إلى من يفقه الأحكام الشرعية من طلبة العلم، ومن الواقع ومن مجالساتي الكثيرة للزملاء ومما أعرفه عن كثيرين أيضا أنهم انشغلوا بالفقه الماضي عن الفقه الحاضر؛ وذلك له سبب، وأعني بالفقه الماضي المسائل المعروفة التي يكثر تداولها من مسائل العبادات ومشهور المعاملات إلى آخر ذلك، وهذه التفقه فيها مطلوب وواجب شرعي كفائي أو عيني بحسب الحال.
ولكن الملاحظ هو فيما يحتاجه الناس اليوم من فقه المعاملات والعقود، وفقه العصر فيما يجد كل يوم، فكل يوم ثَم جديد، وجديد ينسيك كل جديد، لهذا هل من صيغة يمكن أن يصل بها طالب العلم إلى فقه العصر في الأحكام؟ نعم مطلوب أن يكون التعلم للحاجة أن يكون التعلم بحسب حاجة العبد وحاجة الناس.
وأما التوسع في مسائل وهو يحتاج إليها في غيرها ويتركها لا يبحثها ولا يتعلمها ثم يقول لا أدري، وعنده الملكة، فهذا قصور منه إذا كان الجهاد في حقه متعينا في هذا العلم.(92/2)
المقصود أنّ علم الفقه اليوم يُدرس على الحقيقة في مرحلة من مراحله، وليست هي النهاية؛ ولكن هي البداية، فمن درس كلام العلماء في كتبهم الفقهية -علماء المذاهب-، وتدرَّب على معرفة صورة المسألة إلى آخره، فقد أخذ مرحلة مهمة، وهذه هي التي يدرسها طلاب كليات الشريعة ونحوهم.
ولكن هذه أيضا تحتاج من المعلم والمتعلم إلى أن يجعلها مفيدة له، وذلك أن يكون تصوره للمسائل سابقا للكلام عليها.
ولهذا نقول: إنَّ من المنهج الصحيح في دراسة الفقه أنْ يدرس طالب العلم الفقه الذي هو مدوَّن في الكتب المعروفة في المسائل كلها أو في أكثرها بحسب قوته أن يدرسه على النحو التالي:
أولا: أن يتصور المسألة، فالتصور ينبني عليه فهم المسائل والتفريق ما بين مسألة وأخرى.
والثاني: أن يعلم لغة العلم التي يعبر بها علماء الفقه عن علمهم، فلكل فن لغة، إذا خاطبت أهله بغير لغتهم لم يفهموا، وبالتالي إذا استقيت منهم على غير لغتهم فإنه سيصيبك قصور.
والثالث: حكم المسألة بحسب اجتهاد الإمام أو اجتهاد المذهب أو بحسب ما قرر.
ثم دليلها، ثم وجه الاستدلال من الدليل، والدليل عند الفقهاء أشمل من النص، قد يكون الدليل نصا -يعني من الكتاب ومن السنة-، ولا نعني بالنص النص عند الأصوليين، نص نصا من الكتاب ومن السنة، وقد يكون الدليل إجماعا وقد يكون إلى آخر ثلاثة عشرة دليلا معروفة عند الأصوليين، فيعرف الدليل بحسب كلام العالم أو الإمام بحسب المقرر.
ثم بعد ذلك يعرف وجه الاستدلال باستعمال أصول الفقه حتى يكون اتباعه للدليل عن فهم لوجه الاستدلال منه.
ثم معرفة القول الآخر في المسألة، والقول الآخر المهم هوالقول القوي، أما الأقوال فهي كثيرة بعض المسائل يصل الخلاف فيها إلى اثني عشر قولا، وبعضها إلى تسعة وبعضها إلى سبعة إلى أن تصل إلى قولين في المسألة، والمسائل المجمع عليها قليل.(92/3)
فيعرف الخلاف القوي في المسألة، ثم دليل القول الآخر، ثم يعرف ترجيحا لمن رجح من أهل العلم.
وأقف عند هذه المسألة الأخيرة بشيء من التفصيل وهو: أننا نسمع كثيرا من يقول عند المتفقهة الراجح كذا، أو يستعملها من يُعنى بدراسات فقه الحديث الراجح كذا، وكلمة الراجح عند العلماء المحققين ليست مطلقة وإنما هي راجح نسبي، فالعالم الذي قال الراجح كذا، لا يعني الرجحان المطلق أنّ هذه المسألة الحكم فيها راجح مطلقا، وإنما يعني راجح بحسب ما ظهر له.
فإذن إذا قيل في كتاب ما: الراجح كذا، فالذي يعنيه من قالها الراجح عندي؛ يعني عند المتكلم، لا يعني أنه الراجح المطلق يستلزم أن يكون متفقا عليه.
فإذن ليس ثَم عند علماء الفقه ولا المتفقهة بعامة، ليس ثم راجح مطلق إلا المسائل التي الخلاف فيها شاذا.
أما أكثر المسائل التي تتعاطاها فالراجح فيها راجح نسبي بحسب الإضافة إلى من رجّح، وهذا يعني أن المرء المتفقه في تلقيه لكتب علماء المذاهب بعامة أو شروح الأحاديث لا يغترّ بقول القائل الراجح كذا ويظن أنه راجح مطلقا؛ بل هو راجح بحسب ترجيح المرجِّح.
وهذا الذي رجّح:
· تارة يرجح بحسب مذهبه.
· وتارة يرجح بحسب اجتهاده.
· وتارة يرجح بحسب أصول الفقه التي درسها، مثلا الحافظ ابن حجر يرجح كثيرا بناء على أصول الفقه عند الشافعية، فإذا أتى المجتهد وأراد أن يقول رجّحه الحافظ، فيقال صحيح لكنه راجح نسبي ويُنظر فيه، قد يوافق عليه وقد لا يوافَق، هكذا غير الحافظ من العلماء من المتقدمين والمتأخرين.
هذه ليس المقصود منها عند طالب علم الفقه الاعتراض على العلماء، وإنما المقصود عند المتفقه أن يكون عنده دربة ليتصور العلم، وكيف تعامل العلماء مع المسائل الخلافية، وكيف رجحوا، وكيف استدلوا، إلى آخر ما هنالك.
هذه مسألة ينبغي أن يعتني بها طالب العلم حيث درس الكتب التي تعنى بالفقه.(92/4)
المسألة الثانية أنّك إذا رأيت كتب الفقه في المعاملات بخاصة وجدت أن ترتيبها جعل تصور المعاملات والعقود بأنواعها جعله تصورا ليس سهلا، وذلك لأنهم:
أولا لم يقسموا العقود إلى أقسام وكان الأسهل -وهذا سيأتينا نتيجته إن شاء الله- كان الأسهل أن يقسموا العقود إلى أقسام:
· عقود لازمة من الطرفين كالبيع ومن تفرع عنه.
· عقود جائزة من الطرفين كالوكالة ونحوها.
· عقود جائزة من طرف ولازمة من طرف.
وهذا اللزوم في العقد هذا يسهل تصوّر كثير من الأحكام التي في داخل تلك الأبواب، فمبنى المعاملات على فهم العَقد في منشئه وأصله، ولهذا اجتهد بعض المعاصرين في أن يكتبوا ما سموه نظرية العقد وما أسموه بالمدخل إلى الفقه الإسلامي أو نظرية الفقه في المعاملات ونحو ذلك من الكتابات الكثيرة، وهذه خلاصتها أنهم يعيدون صياغة الفقه بعد أن درسوا وعرفوا ما عند العلماء فيما قرروه لا يخترعون أمرا جديدا؛ ولكن درسوا وعرفوا ما قُرِّر في كتب أهل العلم لأنها القاعدة والأساس، ثم بعد ذلك بدؤوا في تخطيط تصور المسائل وبنائها.
مثال ذلك -مثال آخر غير أنواع العقود-، إذا نظرت الآن في كل باب يجد طالب العلم في المعاملات يجد التعريف، ثم يجد الأركان، ثم يجد الشروط، وتفصيلات الكلام على هذه المسائل، وهذه التعامل معها من جهة العصر مهم.
فكثير من الناس منع من مسائل وأفتى بعدم جوازها أو أفتى بجوازها إلى آخره بالنظر إلى تعريف العلماء للمسألة أو للباب.(92/5)
ومعلوم أن حركة التعريف في علم الفقه على مر التاريخ حركة التعريف اصطلاحية، ولهذا لا يصوغ لأحد أن يقول تعريف الإجارة شرعا كذا، أو تعريف الشركة شرعا كذا، وإنما هي تعاريف اصطلاحية، فيقول تعريف البيع اصطلاحا يعني على ما اصطلح عليه علماء هذا المذهب، تعريف الإجارة اصطلاحا، تعريف الشركة اصطلاحا، وأيضا التعريف يكون في اصطلاح أهل الفن في المذهب الواحد يكون بينهم خلاف فيه، وليس -إذن- التعريف أمرا مجمعا عليه.
وهنا طالب الفقه لا يعتمد التعريف في رد مطلقات النصوص، فيأتينا عظم فائدة النصوص الشرعية لشمولها للأزمنة وللأمكنة لأنها أنزلت من لدن حكيم خبير ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14].
التعاريف لها تاريخ كيف نشأ التعريف؛ تعريف المسائل، فلابد طالب العلم في الفقه أنه ينتقل بعد أن عرف التعريف وعرف محترزاته وعرف ما يتصل بالتعريف من مسائل في الباب وأحكام، ينتقل إلى أن يعرف كيف نشأت هذه التعاريف، وهل هذا التعريف مستقيم أم لا؟
كتاب الحوالة عرّفوه يتعريف يشمل المسائل كلها، مع أن الحوالة كلها ليس فيها إلا حديث واحد في الشرع، «ومن أحيل عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ»، فجاءنا التعريف وجاءتنا مسائل كثيرة هذه التعاريف اصطلاحية ينشغل بها من ينشغل بها في العصر الحاضر ومنعوا كثيرا من المعاملات الجارية بين الناس رجوعا للتعريف، هذه الصورة لا تصح أن تكون حوالة، لماذا؟ لأن العلماء عرفوا الحوالة بكذا وكذا.(92/6)
أصل المسألة كيف نشأ هذا التعريف؟ وكيف نشأ الباب بفروعه إلى آخره؟ هذا يحتاج من طالب العلم ليس أن يجتهد ويخرج أحكاما فهذه للعلماء الراسخين؛ لكن يحتاج حتى يفهم أن يعرف متى وُجد هذا التعريف وكيف نشأ إلى آخره، وإذا طال الأمر وازداد العلم بطالب العلم فإنه سيرى حركة الفقه كحركة غيره من العلوم تمر في الزمان مرا، وكيف ينشأ وينشأ وينشأ في خلال الأزمنة اجتهادات مختلفة بعضها صائب وبعضها غير صائب.
الأركان والشروط مثلا الآن يقول البيع شروطه سبعة، ثم يأتي ويذكر الشروط إلى آخره، نحتاج من الكليات الشرعية إما في آخر سنة للطلاب أو في الدراسات العليا أن تقلب هذه قلبا من جديد، وأن تعيد ترتيبها، فالشريعة جاءت لأناس يتعاملون بالبيع يتعاملون بالشراء، فصححت أوضاعهم، وحرّمت بعض المعاملات.
فالأركان ما هي؟ الأركان هذه موجودة في الإسلام وفي الجاهلية وفي أي بلد، أركان الشيء ما تقوم عليه حقيقة الشيء، أركان البيع ما هي؟ لابد من المتعاقدين، ولابد من سلعة يقوم عليها العقد ويتوجه إليها العقد، ولابد من صيغة -سواء كانت قولية أو فعلية- لابد من صيغة ينشأ عنها للإيذان في الإرادة ما بين هذا وذاك، هذه الأركان موجودة سواء قبل الإسلام أم بعد الإسلام.
هنا جاءت الشروط إذا نظرت إلى كتب الفقه بغير استثناء وجدت أنهم يسردون الشروط سردا ليس مرتبا، وفي الحقيقة هذه الشروط أكثرها شرعي -يعني له دلالة من النصوص-، وبعضها اجتهادي منهم.(92/7)
المقصود هذه الشروط ترجع شروطا إلى الأركان، فيأتي طالب العلم والأستاذ والمتفقه يأتي إلى هذه الشروط ويقسمها من جديد، فيقول: هناك شروط متعلقة بالعاقدين. يعرفها، هناك شروط متعلقة بالصيغة، هناك شروط متعلقة بالمعقود عليه، فيرتبها من جديد، فصار هنا فهم الشرط من حيث توجهه أسهل، وإذا كان هذا في باب واحد قد يكون الأمر سهل لو كانت غير مرتبة؛ لكن يكفيك في كل باب على هذا النحو أنّ الشروط لا ترتب بحيث إن الشرط يتوجه إلى ركن من الأركان إما بالتصحيح أو غيره.
ويقول مثلا السلعة أو المعقود عليه أن يكون مباح النفع من غير حاجة، هذه داخل الشروط، هل هو الأول الثاني الثالث؟ هذا متوجه إلى المعقود عليه.
فطالب العلم إذن بعد أن يعرف كلام العلماء يبدأ يرتبه من جديد في معرفة ما يخص الركن الأول من الشروط، ثم يناقش ما يخص الركن الثاني من الشروط ثم يناقش؛ لأن الشريعة جاءت لأناس عندهم بيع وعندهم إجارة، وعندهم وعندهم من المعاملات، فصححت بعض المعاملات وأبطلت بعضا، والأصل التصحيح الأصل في المعاملات التصحيح، وكان المنهي عنه قليلا بالنسبة إلى كثرة ما أذن به وأحل الله البيع بأنواع كثيرة، وحرم الربا. هذه صورة.
مما يحتاجه طالب العلم في الفقه في هذا العصر أن يكون مراعيا في فقهه -لا إلى نص العالم في بحثه- وإنما إلى دلالة النصوص أولا؛ وذلك أنه بالاتفاق أن النص يستوعب الأزمنة والأمكنة، وأما اجتهادات العلماء فهي بحسب زمانهم ومكانهم، وهذا له أمثلة كثيرة في التاريخ، تختلف اجتهادات الحنابلة، مثلا مختلفة اجتهادات الحنابلة في نجد عن الحنابلة في فلسطين عن حنابلة بغداد في مدارس، الشافعية مختلفة شافعية خراسان غير شافعية بغداد غير شافعية مصر؛ يعني ثم خلاف في الآراء، ما الذي يولد هذه الآراء المختلفة في المذهب؟ حاجة الوقت حاجة الزمن حاجة الناس إلى آخره.(92/8)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له: وفقهاء النصوص العالمون بها هم أقدر العلماء والفقهاء على إجابة ما يسأل عنه الناس ويوافق ما يحتاجون إليه، حتى إن بعض فقهاء الحنفية إذا وقع في مسألة ليسأل من يعلم من فقهاء السنة لأجل أنه يحتاج إليه بما يعمل.
هذا مهم، دلالة النص واسعة، تأتي تقييدات كثيرة، هذه التقييدات مقبولة تفهمها تتصورها؛ لكن إذا جئنا إلى دلالة النص العامة الشاملة مع غيرها مما تكلم فيه العلماء فيما اختلفوا فيه في مقاصد الشريعة في القواعد الشرعية فيما سيأتي يخرج لطالب العلم يخرج للعالم يخرج للمجتهد شيئا آخر فيما يحتاج إليه الناس.
الثالث: مقاصد الشريعة.
الشريعة جاءت معللة، وأهل السنة والجماعة يقولون أفعال الله جل وعلا الكونية معللة، وكذلك أحكامه الشرعية أيضا معللة، فهناك مقصد مما شرع الله جل وعلا من الأحكام، قال الله جل وعلا ?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ?[البقرة:185]، وقال ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ?[الحج:78]، وقال ?وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[البقرة:179]، فيه تنبيه على أن هذه الشريعة في أحكامها بنيت على مقصد، والمقاصد الشرعية علم مهم وخاصة في هذا العصر؛ وذلك لأنه تداوله طوائف كثيرة بالعناية في ما بين مُفْرِط وما بين مُفَرِّط، فيما بين مفرِط فيه بحيث إنه عارض النصوص فيما يتوهمه مقاصد ومصالح في الشريعة، وما بين مفرِّط فيه بحيث إنه لا يرى علم المقاصد الشرعية.(92/9)
والعلماء علماء الإسلام وأئمة الاجتهاد رعوا كثيرا علم المقاصد الشرعية، وعُرِّف علم المقاصد الشرعية بأن المقاصد هي الغايات التي رامها الشارع أو قصدها الشارع من تشريعه للحكم المتعلق بالخلق في الدنيا والآخرة، والتعاريف كثيرة في ذلك فالمقاصد الشرعية لها تعلق بالشريعة من جهة الغاية، ما الغاية من الشريعة، ما الغاية من الحكم ما الغاية من أن يكون هذا الأمر كذا؟ الشارع إلى أي شيء يتشوف في هذا؟ لهذا من الناس من يقصد ظاهر اللفظ دون نظر إلى المقاصد، ولهذا يقول بعض الأئمة المحققين يقول: إنّ الناس انقسموا في المقاصد وإعمالها إلى ثلاثة أقسام:
? منهم من ألغاها وهم الذين لا يحكمون بالتعليل أصلا -والمقاصد غير العلة التي في باب القياس معلومة لدى المشتغلين أنها أعم بكثير-؛ منهم من لا ينظر إلى المقاصد أصلا ويحكم بظاهر ما دل عليه الدليل الظاهر، سواء أوافق مقصود الشارع المعروف من النصوص والقواعد أو لم يوافقه يأخذ بالظاهر فقط، وهؤلاء في جهة.
? وآخرون يقابلونهم ممن ضربوا عرض الحائط بالنصوص، فلم يعتنوا بها تمام العناية من جهة الاستدلال، وأعملوا القواعد والمقاصد التي توهموها والتي هي مقاصد عندهم، وتركوا دلالة النص فأفرطوا وهم أهل الرأي في مدرستين في المدينة وفي الكوفة.
ومنهم من جمع بين هذا وهذا فأعمل النص وأخذ بالمقاصد وجمع دلالات الشريعة، وخرج بأحكام توافق المقصود الشرعي.
مقاصد الشريعة إذا نظرت إلى هذا الزمن وجدت أن كل متفقه وكل طالب علم لابد أن ينظر في المقاصد الشرعية، المقاصد الشرعية العامة والخاصة، العامة في المجتمع، العامة في بناء الشريعة، العامة في بناء الأحكام، والخاصة في كل باب: المقاصد من العبادات، المقاصد من البيع، المقاصد من المساقاة والمزارعة، المقاصد من عقود التبرعات، من الوقف والوصية، المقصود من النكاحـ المقصود من القصاص، من الديات إلى آخره.(92/10)
المقاصد العامة والخاصة ضروري أن يتعلمها المرء في هذا الزمان؛ لأنه بها يربط النصوص الشرعية ويكون له بها فقه يتّفق مع جمع النصوص، لا أن يُضرب نص مع نص آخر، ولهذا تميز بعض الأئمة الكبار بهذا مثل ابن عبد البر ومثل ابن تيمية وابن القيم وبعض العلماء الآخرين -غير علماء الأمة الأوائل- تميزوا بأنهم جمعوا ما بين دلالات النصوص وما بين المقاصد الشرعية، وهذا علم مهم أن يتعلّمه طالب العلم أن يعرف المقاصد ما هي.
تعلمون أن فقهاء المقاصد قالوا: إن الشريعة جاءت للحفاظ على خمسة أشياء للحفاظ على الدين أولا مرتبة الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال، خمسة مرتبة؛ لأنّ الفقيه إذا تعارض واحد لابد أن يقدم ما جاءت الشريعة بالمحافظة عليه أولا، ثم هذه الخمس أيضا قسمت في المقاصد إلى مقصد ضروري ومقصد حاجي ومقصد تحسيني.. بما هو معروف من بحث الشاطبي في الموافقات وهذه لها تفاصيل.
إذا علم طالب العلم هذه المراتب وتفصيل ذلك والمقاصد العامة والمقاصد الخاصة، فهل سيقدم مقصدا حاجيا على مقصد ضروري في الشريعة؟ لن يقدم؛ لأنه أصبح فقيها، فهل يقدم تحسيني على حاجي إذا تعارض؟ لا يمكن، هل سيقول لا تدفع المال لقاء نجاة نفسك، لا تدفع المال لقاء نجاة عقلك، لا تدفع المال لقاء نجاة نسلك، لا تدفع النفس مقابل الدين؟ إذن الفقه في المقاصد إذا أخذ باتزان وعلى ما قرره الأئمة المحققون بدون هوى وبدون غلو ولا جفاء فإنه يقوي فهم الفقه الحقيقي وما نحتاجه في هذا العصر من أحكام يحتاجها الناس في مسائل كثيرة جدّا جدا؛ بل تجدّ كل يوم.(92/11)
المسألة التي تليها فيما ينبغي لطالب العلم في الفقه أن يعتني به: أن نعيد النظر في تدريس المعاملات، الآن المعاملات عندنا في الفقه بيع الحصاة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة وإلى آخره، وبيع الدود والسرجين النجس وين هذه الأشياء؟ طيب طالب العلم يمر عليها؛ لكن الآن يحتاج إلى أن يذهب الأستاذ في تصورها وهي ليست موجودة والتصور إنما يكون على الموجود، إذا قلنا هذا، لو تسأل أحدا قبل زمن ما هو منديل ورق لن يتصور؟ ما هو منديل ورق تحتاج أن تفسره بسطرين ثلاثة قد يتصور وقد لا يتصور؛ لكن الآن هذا منديل الورق، انتهى.
فإذن ثَم مسائل موجودة ينبغي أن يُعاد النظر في ترتيب دراسة المعاملات التي يحتاج إليها، في أي جهة؟ نعيد النظر في أن لا نكرر لابد لطالب العلم أن يمر عليها حتى يتصور ما قال العلماء المرة الأولى؛ لكن أن يكون يدور حول هذه الحلقة دائما؟ لا، يتصور لأول مرة ويعرفها في عمره ويتصور ويعرف كلام العلماء فيها طيب.
لكن ينتقل إلى مرحلة أخرى وهي أن الشريعة جاءت حين جاءت وحددت المحرمات في المعاملات، جاءت، نهى عن الغرر، صور لي الغرر، نهى عن الميسر، القمار، الربا، أكل أموال الناس بالباطل، هذه قواعد، إذا تصور طالب العلم هذه القواعد وما يتفرع عنها من الصور فإن علم المعاملات يكون تاما، فقه المعاملات ينتهي عندك.
أما الحاصل الآن يتخرج من الشريعة وتسأله ما هو الميسر؟ ما هو الغرر؟ ما الفرق بين الميسر والقمار؟ لا يحسن الجواب، مع أنّ هذه هي الأصل، هذه هي الأساس حيث جاءت الشريعة بالنهي عن صور خمسة والباقي صححته، لا تكن المعاملة ربا، لا تكن المعاملة فيها غرر فاحش، أما الغرر اليسير فمأذون به، لا تكن المعاملة فيها ميسر، لا يكون المعاملة فيها قمار، لا تكن فيها ظلم للناس أو أكل أموال الناس بالباطل إلى آخره.(92/12)
فهذا يُحتاج أن يطبق في هذه السنة الأخيرة في الكليات الشريعة في الفقه أو في الدراسات العليا حتى يتفتق ذهن طالب العلم إلى ما يراه اليوم، الذي نراه اليوم فيرجع إلى ما دلت عليه النصوص في الأول، لا إلى ما نقرؤه بالتفاصيل في كتب الفقه.
المسألة التي تليها طالب العلم في الفقه ينبغي أن يكون متابعا لما بحثه العلماء والفقهاء في هذا العصر، يكون متابعا لما أصدرته الهيئات العلمية في المسائل العصرية، متابع لقرارات هيئة كبار العلماء عندنا، وفيها ولله الحمد أجل علماء العصر، يتابع ما في المجامع الفقهية وما تصدره من قرارات مجمع الفقه الإسلامي، يكون متخصص في الشريعة ولا يعرف قرارات المجامع، ما يتابع بحوث هيئة كبار العلماء، ما يتابع المسائل المعاصرة.
إذن كيف سيجيب؟ كيف سيرشد الناس؟ كيف سيتعامل؟ ننشغل بأمور الحاجة إلى غيرها أقوى، ونعتني بها، لا يجب، نشتغل إذن بهذه المسائل نتعرف إلى ما عند المجامع الفقهية، هذا يعطيك ملكة عظيمة.
خذ مثالا على ذلك طال البحث قبل السنين الأخيرة حول بيع الاسم، واحد يحب أن يبيع اسم شركة، اسم شركة مشهورة أو اسم مؤسسة مشهورة لها سمعتها إلى آخره، فقال هذا الاسم سأبيعه بعشرة ملايين ريال، عدد من الناس قال هذا أكل لأموال الناس بالباطل، اسم يباع كيف هذا الاسم ليس مالا وليس له حقيقة ولا شيء يلمس في عدد من الأقوال؛ لكن لما بُحثت بحق ونظر، فإذا الخلل جاء من أن تعريف المال عند العلماء والفقهاء ما تُصور حقيقة.
قالوا: المال هو ما يتمول، المال هو ما يتمول؛ يعني يتموله الإنسان للمستقبل؛ يعني يكون عنده ليستفيد منه، المال هو ما يتمول.
إذن الاسم أعظم من بيت وأعظم من عمارة وأعظم من كذا سيارة، الاسم يتمول الاسم صار له قيمة عظيمة.
فإذن تعريفهم للبيع مبادلة مال بمال ولو بالذمة إلى آخره هذا المال ما هو؟ المال المتصوْرِينَه قبل مائتين ثلاثمائة سنة؟ لا، المال هو ما يتمول.(92/13)
فإذن انطلقنا من اللفظ الشرعي الذي هو المال في دلالته اللغوية الواسعة، وتجد أن تطبيقه يسع الأزمنة والأمكنة؛ لأن ما يتموله الناس يختلف، يتمولها الناس في وقت دون ما يتموله الناس في وقت؛ لكن ما دام أنه يتمول ولا يدخل في أنه محرم في ذاته فإنه يباح تعاطيه وبيعه إلى آخره لأنه مبادلة مال بمال، وهذا مال.
والأمثلة على هذا كثيرة.
فينبغي -إذن- على أساتذة الشريعة وعلى الفقهاء والذين يعتنون بالفقه أن يتابعوا ما يُنشر في المجامع، وما يتوصل إليه في المجامع، وأن ينظر أيضا إلى البحوث والمناقشات التي دارت حتى يكون عنده مشاركة فيما يحتاج إليه الناس.
الآن مثلا في قضايا معاصرة خذ مثلا البطاقة؛ البطاقة الموجودة منهم من قال البطاقة التي يسمونها مثلا إيش؟ بطاقة الإئتمان، واحد قال بطاقة الإئتمان، هل تصح التسمية؟ لا، إيش نسميها، بطاقة إيش؟ بطاقة الصرف؟ أيضا ما يصلح.
هذه أنواع منها ما هو بطاقة الائتمان التي تسمى بالإنجليزي (credit carte) ومنها ما يسمى بطاقة دفع (charge carte) منها ما يسمى بطاقة خصم (debit carte) ومنا ما يسمى بطاقة سحب أنواع كثيرة، فيأتي من يقول هذه ربا ويعمم الكلام ما يصلح.
إذن لابد من دراسة لحقيقة الأمر والمقاصد الشرعية به.
منهم أتى وقال هذه البطاقة حوالة وضمان وإلى آخره ودخلنا في مسائل كثيرة منها.
ومنهم من نظر من المجتهدين وصحح هذه البطاقات إذا لم يكن ربا؛ لأن الأصل الجواز، والناس متعارفون هذا يسحب من هذا، والبائع يراجع البنك ويأخذ نصيبه وإلى آخره.(92/14)
فإذن النظر في هذه المسائل يحتاج منك إلى متابعة، لماذا نقول يحتاج إلى متابعة؟ لأنه سيأتي بعد ذلك بعد قليل زمن لن يكون في يدك نقد -في جيبك لن يكون ثم ريال- ليس من فقر ولكن مالك كله في البطاقة يعني سيلغى النقد، فقد صدر كتاب في أمريكا في العام الماضي من أحد المتخصصين الكبار في الجامعة بروفسور في الاقتصاد سماه موت النقد بالإنجليزي (the death of money) يعني موت النقد وهذا الآن الدول تسعى إليه سعيا حثيثا، هل سنضل متأخرين فيما ننظر بعد ذلك ندرس خمسين سنة ونشوف أوش يصير؟ لا الذي ينبغي أن نكون جيلا يستطيع أن يبحث للعلماء هذه المسائل وأن يعطيها الراسخين في العلم حتى ينظروا فيها ليخرجوا الأحكام.
المشكلة الآن ليست هي في الواقع في نظر العلماء، المشكلة في أنه لا يوجد عدد كبير من الباحثين المطّلعين الذين يُسعفون العلماء ببحوث وهم فقهاء -يعني الباحث فقيه عارف- يسعفه بالبحوث والقواعد إلى آخره، وكيف نصحح هذه المعاملة وكيف لا نصححها إلى آخره، كيف سنخرج هؤلاء العدد الكثير من الباحثين لابد أن يدرسوا الفقه على طريقة تناسب الزمن المستقبل، أخشى أن يأتي زمن بسبب تقصيرنا تتهم الشريعة بأنها غير مسايرة لهذا الزمن، وأن العلماء ما استطاعوا أن يتكلموا، والناس يتقدمون إلى آخره، وهذا في الواقع ليس الخلل فيه من الشريعة وحاشا وكلا، بل هي تنزيل رب العالمين وإنما هي قصور لهذا ذكرتُ لك في المقدمة أن المسألة جهاد تحتاج إلى بذل وإلى نظر.(92/15)
المسألة الأخيرة طالب العلم في الفقه يهتم بالقواعد، القواعد الشرعية منقسمة، القواعد الفقهية منقسمة إلى قواعد متفق عليها، وقواعد مختلف فيها، والقواعد المختلف فيها قد تقرب ما بين مذهب ومذهب كما هو معروف؛ لكن معرفة القواعد يَلُمُّ لك شمل المسائل وتخلص منه إلى معرفة بعلم القواعد الشرعية، ثم إلى معرفة لعلم الجمع والفرق الذين من لم يحسنه فإنه سيخطئ عن الشريعة، لا يعرف الجامع بين المسائل، والمسائل المتشابهة أو المسائل المختلف بعضها عن بعض، قد تدخل هذه في هذا وقد تخرج هذه من هذه والباب باب واحد.
لهذا العناية بعلم القواعد مهم مهم للغاية بعد العناية بالسابق أو قبله إن شئت، فلابد من العناية بالقواعد الفقهية، والقواعد منها قواعد قد لا تهم كثيرا في البداية، منها قواعد مهمة للغاية.
مثلا قاعدة الخراج بالضمان هذه فيها الحديث المعروف هو حسن، وهي قاعدة عند العلماء، ما معنى الخراج بالضمان والضمان نوعه؟ والأيدي، أنواع الأيدي، اليد ما نوع اليد فيه يد أمانة، فيه يد تملك إلى آخره، هذه الأشياء ما تعرفها من كتب الفقه ولو نظرت مائة مرة فإنك لن تخرجها بوضوح إلا لمن كان عنده نفس فقهي عالي جدا يمكن أن يخرجها؛ لكن الأسهل أن تأخذها من كتب القواعد، وتعلم أنواع تقسيمات الأشياء.
الملك مثلا، المنفعة هل تملك، الانتفاع -أترك المنفعة- الانتفاع هل يملك؟ الصكاك هل تباع؟ هذه المسائل من أين تأخذها من الفقه، هي موجودة في كتب القواعد.
الانتفاع مثلا الآن مرت فترة كان يسأل عن بيع رقم الهاتف، واحد يسأل يتنازل عن رقم هاتف يبيعه بمبلغ كبير، هل له أن يبيع أو ليس له أن يبيع؟ ثَم كثير ممن قال لا يجوز له أن يبيع ثم كثير قالوا يجوز له أن يبيع.(92/16)
علماء القواعد ذكروها في كتبهم مثل ابن رجب مثلا لما عدد أنواع الملك قال ملك الانتفاع، الذي الآن يسبق، له مكان مخصص، الذي يسبق إلى هذا المكان في الشارع يجلس فيه يبسط مبسطه بإذن ولي الأمر، جاء واحد قال والله أنا باغي محلك قال لا هذا حقي لأني سبقت إليه، تعوضني عنه ذكرها ابن رجب.
كذلك حق الانتفاع بالرقم هذا، هذه ما تخرجها من كتب الفقه ومن كتب الفتوى القديمة، إنما تخرجها بمعرفة القواعد؛ لأن القواعد تقعيد يندرج تحته من المسائل ما قد عُرف وما لم يعرف لمن أحسن التطبيق وإدراج المسألة تحت القاعدة، لهذا العناية بعلم القواعد لطلاب الشريعة؛ بل ولأساتذتها بل ولمشايخها وفقهائها من أهم المهمات، القواعد التي تقسم لك العلوم القواعد الشرعية العامة، ثم تأخذها شيئا فشيئا لاشك أن القواعد مراتب.
الحديث ذو شجون، وإنصاتكم يغري، وحسن ما أراه من الاستقبال يغري بالمزيد؛ لكن الوقت يقصر، ولعل فيما ذكرت فتح باب لمناقشة هذا الموضوع أو كتابة بحوث فيه، أو إعادة النظر في منهجية لما يناسب للعصر الجديد في إرشاد الناس وإفادتهم فيما يجب من المسائل التي يحتاج الناس إليها في دنياهم أو في معاملاتهم، إلى آخره.
أسأل الله جل وعلا أن يثيبكم جميعا على استماعكم وأن يجزي الجميع خيرا وأن يمن علينا وعليكم بالفقه في دينه وباتباع كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، كما أسأل المولى جل وعلا...
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري(92/17)
القِمَارُ وصُوَرُهُ المُحَرَّمَة
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كما ينبغي بجلال وجهه وعظيم سلطانه، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)قَيِّمًا } [الكهف:1-2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يمنحني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا ممن تفقّه في الدين، وعُلِّمَ الشريعة، كما أسأله سبحانه أن يُعيننا فإنه لا حول ولا قوة لنا إلا به، اللهم فأعننا على أمر ديننا ودنيانا، وامنحنا البصيرة في الدين، والفقه في الشريعة، واجعلنا من نقلة العلم وحملته ومحصليه.
ثُم إن هذه المحاضرات التي تقام في هذا الجامع المبارك، متميّزة في موضوعها؛ حيثُ إنها تُعنى بقه المعاملات، وببعض المسائل المتصلة بذلك، وفقه المعاملات واسع، وقاعدة الشريعة:
¨ أن العبادات الأصل فيها التوقيف، فلا تشرع عبادة إلا بدليل.
¨ وأن المعاملات الأصل فيها الحل فلا تحرم منها معاملة إلا بدليل.(93/1)
فلهذا من محاسن هذه الشريعة المباركة؛ شريعة الإسلام، أنّ باب المعاملات فيها باب واسع يسع حاجات الناس، مهما اختلفت صفاتهم، ومهما اختلفت أحوالهم، ومهما بعد زمانهم عن زمان النبوة، ومن محاسن هذه الشريعة أن جعلت الأصل في المعاملات الإباحة، إلا ما حرم بدليل من الشريعة، ولهذا تجد أن المحرم في المعاملات قليل بالنسبة إلى كَثرة المباح من ذلك، فصور البيوع أكثرُها مباح، وصور الإجارة أكثرها مباح، وصور الشركات أكثرها مباح، والكفالة، والضمان، إلى غير ذلك، إلى أن تَفِي إلى آخر أبواب المعاملات تجد أن الكثرة الكاثرة منها معاملات مباحة باتفاق أهل العلم أو بالقول الصحيح من المحققين من أهل العلم، وأما المحرم فإنه قليل، ولهذا يجتهد أهل العلم في أن يجعلوا المحرمات في المعاملات تخضع لقواعد معلومة، وبرعاية هذه القواعد يمكن حصر المحرمات بالمعاملات.
فإذن المعاملات أنواعها كثيرة، وصورها متعددة، وثَم قواعد محدودة يمكن أن يفهمها طالب العلم، ثُم بعد ذلك يندرج تحت تلك القواعد فروع متعددة بالنسبة لاختلاف الصور.
لهذا نقول إنّه من حيث تأصيل طالب العلم في فهم المعاملات أن يُعنى:
?بادئ ذي بدء بفهم القواعد العامة التي تنبني عليها المعاملات.
?ثم يفهم القواعد العامة التي ينبني عليها ما حرم من المعاملات.
ولهذا نجد أن أهل العلم ذكروا أن المحرم من المعاملات من حيث التقعيد يمكن أن يندرج تحت ثلاث قواعد، أو تحت أربع قواعد، ومن هذه القواعد التي يندرج تحتها ما حُرِّم من المعاملات قاعدة الميسر والقمار والغرر ونحو ذلك، وهذه القاعدة هي التي لبيانها تُنشأ هذه المحاضرة، واعتنى بها من نظّم لهذه المحاضرات، فله منها الشكر الجزيل، ونسأل الله له ولمن أعانه على تنظيم هذه المحاضرات التوفيق والسداد، وأن يجزيهم الله عني وعن المستمعين خير الجزاء.(93/2)
نقول إنّ المحرمات في المعاملات في هذه الشريعة محدودة؛ فثَمّ قاعدة الربا وما يحرم من المعاملات لأجل أنه ربوي، وهذا له محاضرة ربما في هذه السلسلة من المحاضرات، وما نختص بالحديث عنه هو قاعدة الميسر والقمار ومن المعلوم أن هذا الموضوع مهم لأن هذا الموضوع ألا وهو الميسر والقمار -وسيأتيك الفرق ما بين القمار والميسر إن شاء الله تعالى- هذا الموضوع نادر من كَتَبَ فيه من علماء الشريعة وكَتَبَ فيه كتابات محررة، بل تجد أن الكلام الشرعي فيه متفرق بين كتب كثيرة، ولا تكاد تجمع صورا واضحة جدا إلا بمزيد تحقيق ونظر؛ وذلك لغموض هذه المسألة بعض الشيء على كثير ممن كتب، لهذا نقول أن المؤلفات في الربا تجد أنها عشرات، ولكن المؤلفات في الميسر والقمار تجد أنها نوادر، حتى لا تكاد تجد منها ما هو بعدد أصابع اليد الواحدة مما فيه تحقيق أو تحرير.(93/3)
لهذا نقول الموضوع مهم أن يعتني به طالب العلم، ومن أوجه أهمية هذا الموضوع ما تراه في فتاوى أهل العلم المحققين من علمائنا -حفظهم الله تعالى ووفقهم لكل خير- من تعليل كثير من فتاواهم من المسائل المعاصرة بأن هذا من القمار، وهذا من الميسر، أو يقولون أن هذا محرم لأنه غرر، وهذا التعليل واضح عندهم؛ لأن صورة القمار، صورة الميسر، صورة الغرر، واضحة عندهم، فلابد لطالب العلم المتلقي للفتوى حتى يشرح للناس معنى ذلك أن تكون صورة القمار والميسر والغرر والرهان والمغالبات إلى آخره، أن تكون صور هذه المسائل واضحة عنده، وذلك لأن كلام أهل العلم يعلل في التحريم في بعض المسائل المعاصرة، وبعض الفتاوى التي يجيبون فيها عمن سأل عن بعض الواقع، يجيبون أنها من الميسر أو من القمار، فلهذا ينبغي الاهتمام بهذا الموضوع، وهذه بعض أوجه أهميته وطالب العلم أيضا من اهتمامه بالشريعة يهتم بما جاء في الشريعة، ومما جاء ذكر الميسر، وذكر الغرر، وذكر القمار، في النص، قد قال جل وعلا { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة:219]، إذن ذكر الميسر موجود وذكر القمار موجود كما في الحديث «من قال لصاحبه تعالى أقامرك فليتصدق» وكذلك الغرر كما روى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام «نهى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ, وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» .(93/4)
فإذن إذا كانت هذه الألفاظ موجودة في الشريعة وجُعلت قواعد فيما حرم -كما ذكرت لك- أنّ المعاملات ثَم قواعد تضبط المحرمات فيها؛ لأنها قليلة -أي المحرمات في المعاملات-، فإذن لا بد من فقه هذه الألفاظ، ولابد أيضا لطالب العلم حتى يفقه الأحكام الشرعية القمار والميسر والغرر أن يعرف ما كان عليه أهل الجاهلية من الحال فيما يتعاطونه من القمار والميسر، وأن يعلم لما سموا الميسر ميسرا، ولما سموا القمار قمارا، فإذا عرف ذلك تيسر له الربط بين ما حرم في الشريعة وبين ما كان عليه أهل الجاهلية، أيضا مما ينبغي تعاهده وتعلمه أن يعلم طالب العلم أن الشريعة منوطة في أحكامها بمقاصد؛ فتحريم ما حُرِّم مرتبط بمقاصد في الشريعة، ولهذا الذي ينظر في المسائل العصرية المعاصرة الواقعة أو يعتني بالنوازل لابد له أن يفقه أشياء:
?أولا: أن يفقه كلام العلماء فيما أوردوه في كتب الفقهاء بالدقة؛ يفهم كلام العلماء فيما أوردوه في كتبهم الفقهية بالدقة حتى تتميز له صور المسائل؛ هذا أولا.
?والثاني: أن يعلم النصوص التي جاء فيها ذكر المسائل؛ نصوص الشريعة في القمار، نصوص الشريعة في الميسر، نصوص الشريعة في الغرر، نصوص الشريعة في الربا، إلى غير ذلك من الوقائع والقضايا المختلفة.(93/5)
?الأمر الثالث: أن يعلم اللغة التي انبنى عليها الاصطلاح الشرعي في التعبير عن تلك المسائل، وفهم اللغة مهم لطالب العلم؛ لأنه بفهم اللغة يعلم حدود ما يدخل في اللفظ الشرعي، أم ضيق ما يدخل في اللفظ الشرعي، فالألفاظ الشرعية تستوعب الألسنة والأمكنة، أما نصوص الفقهاء ونصوص العلماء فهي تطبيق للنصوص على ما عرفوه في زمانهم، ولذلك كلما كان طالب العلم، بل كلما كان العالم أحذق بالنصوص وأعرف بدلالات الألفاظ الشرعية التي جاءت في النصوص -مع فهمه لكلام العلماء- كانت فتواه أقرب للصواب، بل كانت فتواه أصوب؛ لأنه ينزل دلالات النصوص على الواقع المختلف، وكلام العلماء والفقهاء هذا منوط بالزمن، وأما كلام الشارع في القرآن وفي السنة هذا صالح لكل الأزمنة ولكل الأمكنة.
?الأمر الرابع: أن يعلم طالب العلم ما يسميه أهل الفقه الجمْع والفرْق، يعني القواعد التي تجمع المسائل والفروق بين المسائل، فإن في معرفة علم الجمع والفرق ما يجعل لطالب العلم ملكة في الاجتهاد في هذه المسائل المعاصرة، والواقع الذي يتجدد كما ترون باليوم، وتكثر الوقائع والأحوال في مسائل كلما نصبح أستخفي على صورة جديدة من صور المال، أو صور المعاملات، أو إلى آخر ما يجرى به الزمان وينقل لنا من بلاد كثيرة.
?الأمر الخامس: الذي ينبغي للعالم أو طالب العلم أن يعتني به حتى يفقه النوازل أن يكون ذا علم بمقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة؛ معلوم أنّ مقاصد الشريعة علم مستقل مهم، فالشريعة بُنيت على:
¨ مقاصد تُحقَّق في العبادات.
¨ مقاصد تُحقّق في المعاملات ككل.
¨ ومقاصد تُحقّق فيما أبيح من المعاملات.
¨ ومقاصد تتحقق فيما حرم من المعاملات.(93/6)
فإذن الشريعة لها مقاصد، والله جل وعلا جعل الأحكام منوطة بعلل، وهذه العلل قد تكون علل قياسية، وقد تكون حكما ومصالح يرعاها العباد، ولهذا يقول العلماء في القاعدة المشهورة المعروفة الشريعة ”جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.“
إذا تبين لك ذلك فإن الكلام في مسائل المعاملات وما استجد منها وتوضيح الصورة فيها مُنْبَنٍ على هذه الأصول الخمسة:
? فلا بد من معرفة كلام العلماء والفقهاء وشراح الأحاديث.
? لابد من معرفة نصوص الكتاب والسنة فيما أتى من هذه الألفاظ.
? لابد من فهم اللغة.
? لابد من فهم القواعد؛ لابد من فهم الجمع والفرق.
? لابد من فهم مقاصد الشريعة فيما يعانيه المرء في المسائل.
وإذا فات المرء بعض هذه الأشياء وجد أنه قاصر عن فهم الشريعة كما ينبغي أن تفهم عليه.
هذه المقدمة مهمة حتى يتبين لك أن الموضوع هذا ليس موضوعا سهلا، أعني الكلام في مثل هذه القواعد العظيمة، كقاعدة الربا، كقاعدة الميسر والقمار، وكقاعدة الغرر وأشباه ذلك.(93/7)
الميسر -وهو موضوع هذه المحاضرة- والقمار جاء في القرآن تحريمه متدرجا؛ فنُهي عنه في أول الأمر ونُبِّه على بشاعته، ثم بعد ذلك نزل تحريمه، قال جل وعلا في سورة البقرة { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة:219]، وقال جل وعلا في سورة المائدة { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ } [المائدة:90-91]، ففي الآية الأولى بين جل وعلا فيها نفع، ولكن إثمها كبير (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فيها منفعة؛ فيها منفعة اقتصادية بعض الشيء لمن يكسب، فيها منافع في إدارة المال من غير تعب ولا كد، في الميسر منافع فيما يكون من إفادة بعض المحتاجين في بعض صوره التي كانت في الجاهلية، نعم فيها منافع للفقراء؛ لأن بعض صور الميسر كانت لنفع الفقراء عند أهل الجاهلية؛ لكن إِثْمُهَا (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)، فإثم الميسر أكبر لما؟ لأن الميسر فيه قعود عن العمل، والشريعة جاءت بحثّ الناس على العمل، وعلى الانتشاط، وعلى تقوية الأمة، وأما الميسر فهو انتقال للمال من غير كد ولا تعب؛ يعني في بعض صوره، أو نقول القمار انتقال للمال من غير كد ولا تعب، وذلك لا يهيئ ما تطلبه الشريعة من تقوية الأمة وانتشار الناس وتنمية أنواع الصناعات، وتقوية الأمة بما فيه إعداد للقوة، كذلك فيهما إثم لأن مبنى الميسر على أكل أموال الناس بالباطل، والشريعة جاءت بحفظ المال، وجاءت بدفع الظلم، والله جل(93/8)
وعلا أمر بالقسط، وحرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما، وكل مسألة فيها ظلم فهي محرمة في الشريعة، ثم قال جل وعلا في سورة المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ) رجس يعني خبيث، يعني أن هذه خبيثة فالميسر من ضمنها فهو خبيث، ثم وصفه بوصف ثاني فقال (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وكونه من عمل الشيطان هذا مما يوجب على المؤمن أن يبتعد عنه؛ لأجل أنه وصف بكونه من عمل الشيطان، لهذا قال العلماء دلت آية المائدة على تحريم ما ذكر فيها من الخمر والميسر بعدة أوجه من التحريم منها:
أنه وصفه بأنه رجس.
والثاني وصفه بأنه من عمل الشيطان.
والثالث أمر باجتنابه فقال (فَاجْتَنِبُوهُ) هذا أمر، ثم قال في آخرها (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) يعني انتهوا في قول كثير من أهل التفسير، وقال بعضهم قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) أورده مورد السؤال لأنه أبلغ من الأمر المباشر، كما هي القاعدة المقررة عند اللغويين والبلاغيين في الفرق ما بين التعبير في الأمر ما بين الخبر و ما بين الأمر المباشر؛ فالخبر والاستفهام فيه بما يراد به الأمر إذا عُدل عن الأمر إليه فإنه يدل على أنه أبلغ وأشد في الأمر به.
إذن نفهم من هذا أن الميسر محرم قطعا، والميسر كان عملا تتعامل به الجاهلية، والناس في الجاهلية يتعاملون بأنواع من المعاملات التي حرمت في الشريعة ومنها الميسر، والميسر عندهم كانت له صفات متعددة:
¨ كانوا يتعاملون بالميسر والقمار في المغالبات والرِّهان.
¨ وكانوا يتعاملون بالميسر في المعاملات.
ولهذا قال سعيد بن المسيب لما رواه مالك في الموطأ (كان من ميسر أهل الجاهلية بيع الحيوان في اللحم وبالشاة والشاتين).
إذن فعندنا أهل الجاهلية كان الميسر فيهم على نوعين:
1. ميسر في المغالبات والرهان والمسابقات.
2. والنوع الثاني ميسر في المعاملات.(93/9)
ولهذا قال علماؤنا إن الميسر الذي حَرَّمته الشريعة في نوعين: ميسر في المغالبات والرهان، وميسر في المعاملات، ويأتي مزيد بسط لهذه الكلمة.
كان من أغراض أهل الجاهلية في الميسر:
· أنه يفتخر بعضهم على بعض هذا واحد.
· من أغراضهم أنهم إذا أرادوا أن يتصدقوا لعبوا بالميسر وبالقداح حتى يخرج من له الفضل في التصدق إذا نحروا جَزورا ونحو ذلك، فكانت فائدة الميسر عندهم في بعض صوره للمساكين؛ يتبارون من يتصدق على المساكين بهذا الجزور المشترك، ولهذا يسمى الجازِر ياسر، ويسمى الجَزور يعني الجمل إذا ذُبح، يسمى أيضا ميسر تسمية للشيء باسم الفعل الذي منه.
وسبب اشتقاقهم هذه الكلمة من الفعل الذي فعلوه كلمة (ميسر)، العلماء اختلفوا فيها قالوا إنها مصدر ميمي كالموعد؛ ميسر والموعد من يسر توعد، ميسرا وموعدا، ومعنى الميسر هنا أنه من اليُسر؛ لأنه يحفظ المال بيسر، أو من اليَسَار لأنه يغتني بهذا الفعل، المقصود أن الميسر فيه من حيث اشتقاق اللغة:
¨ أنه كسب للمال بلا تعب.
¨ والثاني أن الميسر كسب للمال وسبب للغنى ولذلك سمي ميسرا.
إذا تبين ذلك، فهنا سؤال مهم وهو: ما الفرق بين الميسر والقمار؟
هذه كلمة تعمل كثيرا ميسر ومن القمار، العلماء اختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا، والحاصل أن لهم قولين في ذلك:
1. الأول: أنّ الميسر والقمار مترادفان؛ فكما أن الميسر يكون في المعاوضات المالية، وغير المعاوضات المالية، فكذلك القمار يكون عن عوض المال، وعن غير عوض المال.
2. وقال آخرون: لا؛ الميسر ثَم فرق بينه وبين القمار في نوعه:
? فإن القمار: مغالبة ومخاطرة -كما سيأتي تفصيل المعنى- مغالبة ومخاطرة فيها المال.(93/10)
? وأما الميسر: فإنه يشمل كل أنواع المخاطرة بالتعريف الذي سيأتي، مما يكون معاوضة، أو يكون رِهانا، أو يكون معاملة، ولهذا –كما ذكرت لك- قد يكون في الميسر مقابلة المال، وقد لا يكون، ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله تبعا لشيخ الإسلام ابن تيمية قال: ”السلف كانوا يعبِّرون بالميسر عن كل ما فيه مخاطرة محرمة، ولم يشترطوا المال في الميسر“، وهذا كما قال الإمام مالك الميسر نوعان: ميسر لهو وميسر مال.
إذا تبين لك ذلك، يظهر أن الميْسر يختلف عن القمار –كما ذكرت لك- من أن القمار ما فيه مخاطرة وغرر المال وأما الميسر فأعم من ذلك.
فإذن الميسر عام والقمار بعض صوره أو أحد شقيه عند أكثر أهل العلم.
ما هو الميسر؟ وما هو القمار؟
الميسر: حقيقته الشرعية أنّ القمار –القمار أحد صور الميسر- نقول الميسر –كتعريف عام ثم نأتي للقمار- الميسر يشمل كل معاملة يدخل فيها المتعامل مع التردد فيها لا يدري، مع التردد فيها، لا يدري هل يغنم أو يغرم.
فإذن ضابط الميسر أنه دخول في معاملة مع جهالة الحصول؛ هل يحصل على ربح فيها، أو يحصل على الشيء أو لا يحصل.
وفرق بين هذا وبين التجارة؛ لأن التجارة فيها تحصيل سلعة، أما الميسر لا يدري هل يذهب ماله بعوض يأتيه، أو لا؛ يذهب ماله ويأتيه الغل.(93/11)
إذن فكل معاملة دار الأمر فيها في المتعامل مابين تردد –حين دخل- تردد بين غرمه وغنمه فإنها من الميسر، فإن كان غنمه وغرمه ماليا صارت المعاملة قمارا، يوضح ذلك مثال: لو –يعني يُفرق بينه وبين التجارة والميسر والقمار-أراد أن يشتري سلعة وهو يرد أن يبيعها، هذه السلعة أراد منها الربح، فاشتراها فحصلت له السلعة، هنا فيه مخاطرة هل يَربح أو لا يربح؟ لكن هذه الخاطرة لم يمنع منها الشرع؛ لأنه ما من أحد يشتري شيئا ليربح، إلا وقد يربح وقد لا يربح؟ ولهذا قال المحققون من أهل العلم: إنّ الشريعة لم تأتِ بنفي أو تحريم كل نوع من أنواع المخاطرة. بل لا تصلح المعاملات إلا بنوع من المخاطرة، لكن هنا المخاطرة أنواع، فإذا كانت المخاطرة في الربح هل يربح أم لا؟ فهذا لم تحرِّمه الشريعة، لأن الشاري تحصّل على السلعة، فإذن هو دخل في المعاملة، وقد تحصّل على سلعة. هذه صورة تجارة فيها مخاطرة ولكنها مخاطرة لم تحرم.
نأتي إلى صورة الميسر، الميسر معاملة دخل فيها لا يدري هل يغنم أم يغرم؟ هل يحصل على شيء أم لا يحصل على شيء ألبتة؟ ومعلوم أنّ أي متعامل بأي نوع من أنواع التعامل يريد أن يكسب لنفسه شيئا، فهو يدفع مالا في مقابل، أو يدفع عملا وجهدا في مقابل، فإذا كان يدفع ويعمل بشيء وهو لا يدري هل يحصل له أم لا يحصل له، وذاك الآخر هو الذي يستفيد، فإنه يعد ذلك ميسرا؛ لأن حقيقة الميسر ما تردِّد فيه بين الحصول وعدم الحصول، ما تردد عيه بين الغرم والغنم.(93/12)
والثالث القمار وهو التردد الحاصل بالمال مثل ما يحصل الآن من –يعني في بعض الصّور- من أنّ الشخص يشتري شيئا؛ يشتري ورقة كوبون، أو يسمونها في بعض البلاد اليانصيب، أو عندنا كوبونات مسابقات إلى غيره يشتريها بسعر غال مثلا يشتريها بمائة، وهذه المائة يدفعها وهو لا يدري هل يحصل على الجائزة أم لا يحصل؟ هل يحصل على مردود أم لا يحصل؟ فإذن حقيقة الميسر ونوعه؛ القمار في هذه واضحة من أنه بذل هذا المال، وهو لا يدري هل يحصل على مقابل أو لا يحصل؟ يُنظر هنا إلى هذا البذل للمال هل هو قليل فيغتفر، أو هو كثير فلا يُغْتَفر.
ومن المعلوم أن الشريعة جاءت بالتفريق ما بين قاعدة الغرر والجهالة:
فالغرر: هو تردد في الحصول على شيء.
وأمّا الجهالة: فالشيء موجود، ولكن تُجهل أحد أوصافه، أو يُجهل حاله، أو تُجهل هيئته، أو نحو ذلك.
والغرر منقسم في الأحكام الشرعية إلى ثلاثة أقسام:
1. غرر كثير نُهي عنه، كما في حديث أبي هريرة «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ, وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ».
2. وغرر قليل اغتفرته الشريعة؛ كالغرر فيما اشتريت بيتا، ما تدري عن أساسه هل هو جيد أم ليس بجيد؟ اشتريت مثلا شيئا تلبسه، ما تدري داخل هذه الجبة مثلا أو الفروة، هل ما في داخلها من القطن أو المادة هو جيد أو ليس بجيد؟ يعني ثَمّ شيء من الغرر مغتفر، هذا لا بد منه؛ لأنه ليس من شرط البيع أن تتضح جميع الأحوال على التفصيل، فهذه أنواع من الغرر والمخاطرة معفو عنها.(93/13)
3. والنوع الثالث غرر متوفِّق؛ ليس بالضخم الكبير، وليس بالقليل، وهذا النوع من الغرر هو الذي اختلفت فيه أنظار أهل العلم، هل يُعفى عنه أو لا يعفى عنه؟ ومن صوره المعاصرة -لهذا الغرر المتوفِّق- ما ذكرته لك من أنواع المسابقات الذي دفع المائة هذه، أو التأمين التجاري؛ بأنّ (ألف أ) من الناس يدفع مائة كل سنة، حتى إذا حصل على سيارته شيء، أو بيته شيء، تُصلَّح له مجانا، وقد يكون بآلاف مألفة، و(باء ب) يدفع مائة، إلى آخره، كل الناس يدفعون –يعني من اشترك- ثم المستفيد من هذه المعاملة قليل، فنظر ناظرون في ذلك: هل هذا من الغرر الكبير؟ أو من الغرر المتوسط؟
¨ ومن أباحه -وهم قليل من العلماء-؛ من أباح التأمين التجاري قال إنّ الذي يبذله المرء قليل في مقابلة ما سيحصل له هو غرر يسير؛ يعني مائة ريال ما تهمك كثيرا، مائتين ريال ما تهمك كثيرا في مقابلة ما سيأتيك من الفائدة.
¨ ومن نظر إلى مجموع الناس، وما يحصل للشركة من الفائدة، قال إن الغرر كبير؛ لأنهم جمعوا عشرات الملايين، أو مئات الملايين، والذي بذلوه للناس في مقابلة ذلك ملايين محدودة؛ يعني أنهم استفادوا من غير كد منهم ولا تعب؛ استفادوا مبالغ كبيرة جدا -مئات الملايين في بعض الأحوال، أو أكثر للشركات الكبيرة- والمبذول هو من الناس، فيكون الذي بذلوه وصلّحوا به ما صلحوا، أو ضمنوا به ما ضمنوا، يكون قليلا في مقابلة ذلك.(93/14)
وإذا تقرر هذا، فإن نظر المجتهد من أهل العلم ينظر لا إلى الفرد من الناس، بل ينظر إلى حماية الناس جميعا؛ لأن الشريعة جاءت لحماية أموال الناس، كما هو معلوم فإن الكليات التي حافظت عليها الشريعة خمس، ومنها المحافظة على المال؛ مال الفرد وأيضا مال الجماعة، فهذا المال الوفير الذي أخذته شركات التأمين مثلا في مقابلة فائدة أناس قليلين، هذا غرر كبير جدا؛ لأنهم يحصدون مائتين مليون، ثلاثمائة مليون، والذي أنفقوه خمسين مليون مثلا في السنة في بعض أحوال الشركات.
إذا تبين ذلك هنا، إذن في مسألة الغرر المتوفق يكون ثم خلاف بين أهل العلم.
نأخذ الآن مقارنة لك ما بين الغرر والميسر:
الغرر نوع من أنواع الميسر، فالميسر أعم من الغرر، فالغرر يدخل في المعاملات؛ يعني في المعاملات والمعاوضات، والميسر عام يشمل ذلك ويشمل غيره، لهذا عدّ السلف أنواع كثيرة من اللهو الباطل، عدوها من الميسر لأجل ما فيها من مشابهة أهل الجاهلية في ذلك، ولم يعدوها غررا لأنها ليست معاوضة.
فإذن الغرر قد يكون في المعاملات؛ يعني في أنواع التعامل في البيع، في الإجارة، في الشركات، في أنواع الأبواب الفقهية؛ يعني في المعاملات.
أما الميسر فيشمل كل معاملة تُرِدِّدَ فيها هل تحصل أم لا تحصل، والغرر أيضا إذا كان فيه معاملة فينطبق على ذلك، فالميسر يدخل في المسابقات والرِّهان.(93/15)
وأما الغرر فلا يدخل في المسابقات والرهان، ولهذا نقول مثلا في المسابقات نقول هذه قمار، ولا نقول غرر لأن –مع أن بعض أهل العلم يعبر عنها بالغرر لكنها غرر بمعنى، وهي بالمعنى أكثر إذا كانت مالية قمارا وميسرا- نقول إذن إن الميسر كما ذكرت لك نوعان: نوع في المغالبات والرهان، ونوع في المعاملات. والميسر الذي في المعاملات هو الغرر، ولهذا كل بيع فيه غرر فيدخل باسم الميسر في الاسم الواسع، وأما المغالبات والرهان فهذا يدخل فيه أحوال كثيرة، مثل مل هو معروف عند الناس، تقول أراهنك على كذا وكذا، يعني بشيء يحصل أو لا يحصل، أو نعمل كذا وكذا بالمراهنة، هذا يدفع مبلغ وذاك الثاني يدفع مبلغ، وأيهما فعل أو سبق صاحبه فإنه يكون الآخذ للمال؛ يعني مال الآخر. معلوم أن هذه المغالبة هي أخذ للمال بغير وجه حق، ولهذا نهت الشريعة عن كل أنواع المسابقة والمغالبة والرهان إلا ما كان فيه نصرة للدين وفيه جهاد، لهذا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «لا سَبَقَ إلاّ في خُف أوْ نَصْلٍ أوْ حَافِرٍ» لأنّ الخف والنصل والحافر هذه فيها إعداد للجهاد؛ يعني لا عِوَضَ يبذل على مسابقة إلا فيما فيه إعانة للجهاد؛ مسابقة الخيول تبذل فيها عوض لا بأس لأنه فيها إعانة على الجهاد، مسابقة الرمي بالسهام للإصابة؛ بالسهام في الزمن الأول أو بالرماح، أو الآن بالبنادق أو بأشباه ذلك، هذه كلها فيها إعانة على الجهاد، هذه لا تدخل في تحريم المغالبات، فإذن نقول القاعدة أن أنواع المغالبات والرهان محرم إلا ما كان فيه نصرة لدين الله جل وعلا، كما قال عليه الصلاة والسلام «لا سَبَقَ إلاّ في خُفّ أوْ نَصْلٍ أوْ حَافِرٍ»، قال أهل العلم إن العلم من أعظم أنواع الجهاد، ولذلك فإن المغالبة والمسابقة والرهان فيه جائز؛ لأنه قائم على الجهاد، يعني مثلا اثنين يِتْسَابَقُونْ أنا أضع ألف، وأنت تضع ألف ريال، الذي يسبق في حفظ سورة البقرة يأخذ ألفين، هذا فائدة للدين،(93/16)
وفائدة للعلم، أو يحفظون متنا، أو يحررون بحثا، قال طائفة من أهل العلم كابن تيمية وابن القيم وجماعة أنّ هذا مما فيه إعداد للجهاد.
إذن فقاعدة الميسر والمغالبات يُستثنى منها ما كان فيه نصرة لدين الله جل وعلا، والرهان؛ أنواع المراهنات محرمة، فكل رهان ميسر؛ لأنه يُراهن؛ يدخل في هذا النوع على تردد هل يحصل له أم لا يحصل له؟ هل يتحقق يكسب أم لا يكسب؟ وبعض أهل العلم أجاز الرهان استدلالا بحادثة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما نزل قول الله جل وعلا { الم(1)غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ } [الروم:1-4]، فكان المسلمون يفرحون بنصرة الروم على الفُرس، وكان المشركون بنصرة الفُرس على الروم، فلما نزلت الآية وكانت الدائرة للفرس، تراهن أبو بكر مع أحد المشركين، فقال أحد المشركين ستغلب فارس أو غلبت فارس. فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بل الروم ستغلب. وراهنه على مال، وكسب المالَ أبو بكر - رضي الله عنه -، وأهل العلم في هذا الرهان الواقع من أبي بكر لهم منحيان :
¨ المنحى الأول أنّ هذا منسوخ بتحريم الميسر في المدينة.(93/17)
¨ والثاني أنّ هذا ليس بمنسوخ بل هو محكم؛ لأن أبا بكر لم يدخل في معاملة الأمر فيها متردد بين الحصول وبين عدمه، حين دخل في المعاملة دخل بوعد الله جل وعلا، بل بإخبار الله جل وعلا، وهذا أوثق أنواع الإخبار؛ لأنه لو ظن هو أو تحقق هو من نفسه بأنه ستحصل، الأبلغ منه أن يخبره المولى جل وعلا وأن يحكم بأن الروم ستغلب، لذلك أبو بكر الصديق حين راهن تسمى المعاملة رهانا، ولكن هو كاسب فيها داخل متيقنا بالكسب لا على غرر ولا على جهالة؛ لأن الله جل وعلا هو الذي أخبر بأن الروم ستغلب { الم(1)غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ } [الروم:1-4]، فلما انتهت بضع سنين غلبت الروم، فإذن هذه الصورة لا تدل على إباحة المراهنة ولا تدخل في الميسر ولا في القمار ولا في الغرر؛ لأن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - دخل فيها وهو عالم أنه سيكسب بيقين، فلا تصلح دليلا على إباحة الرهان ولا المراهنة، ولا إباحة بعض صور الميسر.
ما الفرق مابين الرِّهان والقمار؟
الرِّهان فيه توقُّع مع عمل، وأما الميسر فهو توقع بلا عمل هناك؛ يعني أن الميسر والرهان يشتركان في أن كلا منهما فيه تردد في الحصول من عدمه، لهذا صار الرهان من أنواع الميسر، لكن الرهان يختلف عن القمار بأن المراهن لم يعمل عملا يكتسب فيه هذا المال، بينما المقامر فإنه قد يعمل عملا يحصل له هذا الشيء، والعلماء في الفرق ما بين الرهان والقمار في دخول العمل لهم تعابير مختلفة باعتبار العمل تارة، وبعدم اعتباره تارة.
إذا تبين ذلك في تبيين هذه المسألة فأعود ألخص:
?بأنّ حقيقة القِمار الشرعية أن القمار نوع من أنواع الميسر وقد يعبر بعض أهل العلم عن الميسر بالقمار، والقمار بالميسر.
?الثاني أن القمار والميسر كل منهما فيه تردد هل يحصل الشيء أم لا؟
?القمار فيه بذل للمال بلا عوض يحصّله، يقابله.(93/18)
?أيضا القمار نوع من أكل أنواع الناس بالباطل، وهو يغامر بماله رجاءَ أنْ يغتني والثاني يغامر بماله رجاء أن يغتني، وهذا فيه بذل للمال من غير عوض، ومن الجهة المقابلة فيها أكل للمال بالباطل بغير وجه حق.
والقاعدة التي يمكن أن يندرج تحتها أكثر الصور المعاصرة مما يُشكل على الناس في قاعدة الميسر والقمار: أنّ –هذه تنتبه لها وهي حصيلة الكلام المتقدم- أن المعاملة التي يدخل فيها الداخل:
?والأمر يدور فيها ما بين أن يخرج غانما أو غارما فهي من القمار أو الميسر؛ يعني يدخل وهو متردد هل يكون -يعني لا يدري؛ تردد يعني لا يدري- هل يغنم أو يغرم هذه تكون ميسرا وقمارا. فإذن أعود أكرّر إذا دارت المعاملة التي تتعامل بها، دار بذل المال الذي تبذله، دار بذل العمل الذي تعمله، بين أن تكون غانما شيئا، أو غارما المال أو العمل، فهذه المعاملة من الميسر.
?الحال الثانية أن تدور المعاملة التي تتعامل بها ما بين أن تكون غانما أو سالما؛([1]) يعني إمّا أن تغنم وإما أن تسلم؛ إما أن تستفيد وإما أنه لا شيء عليك، فهذه الصورة لا شيء فيها وليست من الميسر أو القمار المحرم.
بالمثال:
?مثلا تدخل إلى محل تجاري تجد فيه مسابقة؛ أو يعني جوائز، هنا تأتي الجائزة تنظر فيها، هذه الجائزة التي ستعطى، هل تكون ببذل منك لمال؟ أو بشراء لأشياء غير مرادة لك؟ يعني تبذل خمسين ريال عَشَانْ تأخذ كوبون مثلا، تأخذ قسيمة ستربح أو لا؟ هذا بذلت شيئا، أو تشتري أشياء لا حاجة لك فيها، ما أردتها، وإنما أردت هذه القسيمة؛ أردت المشاركة، فهنا أنت دار أمرُك فيما بذلت بين أن تكون غانما بالجائزة أو غارما لهذا المال، أو شراءك لهذه الأشياء التي لا تحتاجها، فإذا دار الأمر على هذه الصورة صارت الصورة محرمة؛ لأنها ميسر، لأن الأمر في حقيقته دار بين الغنم والغرم، وترددت بين أي الأمرين يحصل لك.(93/19)
?الصورة الثانية دخلت مثلا في مكان، واشتريت بأي مبلغ، ما يشترط مبلغ معين، أنت خاطب تشتري هذه السلعة بعينها، ثم لما أتيتَ للمحاسبة قال خذ هذا الكوبون عبِّئ اسمك وحط مثلا عنوانك، فهنا دخولك فيها دخولك في هذه المعاملة دائر بين أحد إحتمالين: إما أن تستفيد الجائزة، وإما أن تسلم فلا تخسر شيئا، حينئذ دار الأمر ما بين السلامة، وما بين الغنم، فحينئذ لا تكون المعاملة قمارا ولا ميسرا.
فإذن هذه القاعدة يمكن أن تطبق عليها أكثر الصور المعاصرة التي يسأل عنها الأكثرون في مسائل القمار والميسر.
?الحال الأولى التي هي ميسر أن تدخل لا تدري هل تغنم أو تغرم.
?الحال الثانية ليست من الميسر تدخل على أحد احتمالين:
•إما أن تسلم ما تخسر شيء.
•أو أن تستفيد فهذا نوع من أنواع التبرع من المقابل.
وكما ذكرت لك يأتي كثيرا أسئلة من هذا النوع، فيمن يدخل المحلات التجارية وفيها جوائز لمن اشترى بمائة، فيها جوائز لمن اشترى بخمسمائة ريال، فيها جوائز لمن اشترى بألف ريال، إلى آخر ذلك، فهنا إن كان شراؤك مأخوذا يعني أنت محتاجا لهذه السلع ستشتريها للحاجة، فإذن الجائزة تأتي تبعا، يعني احتمال أخذك للجائزة يعني تبعا، فإذن أنت ما بذلت لتأخذ الجائزة بذلت لحاجتك، فحينئذ الجائزة إما أن تغنمها، وإما أن تسلم فلم تدفع مقابلا، وهذه فيه صور كثيرة يمكن أن تطبقها، فيه حالات لا، يكون إما دفع -وهذا من القمار المحرم والميسر الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب- لابد تدفع مال، مثل ما ذكرت لك، ما يسمونه اليانصيب، وأشباه ذلك في بلاد أخرى، هنا يحتالون عليه بأنواع الاحتيال.(93/20)
إذا تبين ذلك فإن هذه الصور والتعاريف تقرب لك حقيقة الأمر، وأنّ الميسر والقمار محرم، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب، وأن الشريعة نهت عنه لما في ذلك من حفظ المال العام والخاص، ودفع الغرر، ودرء تلاعب المتلاعبين، وأيضا لما فيه من دورة المال ونمو المال بالطريقة الصحيحة، بما فيه قوة البلاد، وقوة الأمة، وقوة المسلمين، لأن القمار يفضي إلى الخسارة، ويفضي إلى الذل، ويفضي إلى العداوات كما قال جل وعلا { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ } [المائدة:91].
الميسر إسم عام –ألخص لك بعض المسائل التي وردت- يشمل ميسر اللهو وميسر المعاملات. ميسر اللهو ولو لم يكن فيه مال كما قال الإمام مالك الميسر نوعان: ميسر لهو وميسر مال. وعد علي - رضي الله عنه -وابن عباس وطائفة من السلف كعطاء والحسن وجماعة أن اللعب بالنرد، واللعب بالشطرنج، واللعب بالجور وكعاب الأطفال أنه من الميسر لأنه وسيلته.
الميسر في المغالبات المالية هو القمار، والقمار –وأنا نسيت ربما أن أعرف القمار- القمار مأخوذ في الأصل في اللغة من نور القمر؛ لأن نور القمر متردد بين الكمال والضعف، كل يوم له حالة، فكذلك المقامر كل يوم له حالة. والمقامرة خاصة بالمال تدخل في أنواع المغالبات، والتعاملات المالية.
قاعدة الغرر كقاعدة المغالبة والميسر والقمار قائمة على تردد هل يحصل الشيء أم لا يحصل، إذا دخلت في معاملة بذلت شيئا لا تدري بَذْلُكَ هذا له يحصل معه شيء أم لا شيء وراءه، فإنها تدخل باسم الميسر، أما إذا كانت دائرة ما بين السلامة والغنم فهذه لا تدخل في اسم الميسر .(93/21)
هناك صور كثيرة من أنواع المعاملات المعاصرة يعدها طائفة من الناس في القمار وهي لا تدخل في القمار، فقط تكون في أكل أموال الناس بالباطل، والقمار –كما ذكرت لك- له تعريفه، والميسر له تعريفه.
هذه المسألة بما ذكرتُ قرّبنا لك تعريف القمار، تعريف الميسر، والرهان، والفرق بين هذه الألفاظ، وأنواع الميسر، وأنواع المغالبات، وما يستثنى من ذلك، ولعل فيما ذكرت فتح باب لمن أراد التوسع لمراجعة هذه المسألة المهمة والقاعدة العظيمة من قواعد المعاملات وهي قاعدة الغرر أو قاعدة الميسر.
أسأل الله جل وعلا أن يمنحني وإياكم مزيد الفقه في الدين، وأن يكفر عنا السيئات، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، كما أسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن وفقوا في أقوالهم وأعمالهم، نعوذ بالله أن نقول ما لم نعلم، أو أن نعلم ولا نعمل، كما أسأله سبحانه لي ولكم الدعوة إلى دينه، وأن يوفقنا إلى ذلك بالدعوة والعلم والتعليم في أحوالنا كلها إنه أكرم مسؤول، وأسأله سبحانه أن يوفق علماءنا لما فيه رضاه، وأن يمنحهم مزيدا من البصيرة والتوفيق في الدين، وأن يزيدهم من الهدى في النظر في هذه المسائل الواقعة المعاصرة التي يسأل عنها الناس كثيرا فيما استقدمه كثيرون من بلاد الكفر من أنواع المعاملات، كما أسأل المولى جل وعلا أن يُوفق ولاة أمورنا إلى ما فيه رضاه، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاملين على البر والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الأجوبة علىالأسئلة:([2])(93/22)
1- الجواب: الحمد لله، الشركات شراءُ أسهمِها وبيعه جائز بشروط، أهمها أن يكون عمل الشركة مباحا؛ يعني أن تكون الشركة تعمل عملا مباحا كشركة زراعية، أو صناعية، أو ...... ([3]) أو ما أشبه ذلك، ما تكون شركة بنك يعني، مثلا فيه الربا، أو شركة لتصنيع الخمور، أو شركة للمتاجرة بالأفلام الخبيثة، أو شركة إعلامية فيها دعوة الناس للفساد والرذيلة، وأشباه ذلك، فإذا كان نشاط الشركة جائز شرعا فإن شراء أسهمها جائز، ثم إن المشتري لأسهم الشركات له حالان:
•إما أن يحتفظ بهذه الأسهم لكي تجر عليه الأرباح سنويا وهذا جائز.
•والثاني أن يشتري الأسهم لا لينتظر بها سنة حتى يحصل على الأرباح، ولكن ليبيع فيها ويشتري وهذا جائز أيضا.
ويكون لهذه الأسهم حكم عروض التجارة، فعليه أن يُقَوِّمَهَا كلَّ سَنَة ويُخْرِجَ زكاتها كما تُخرج زكاة عروض التجارة، فإذن شراء أسهم الشركات وبيعها، والتربص بها ارتفاع السعر حتى يبيع جائز إذا كان نشاط الشركة غير محرم، ومن قال إنه من القمار هذا ليس بجيد إلا في حالة واحدة، هي غير موجودة في نشاط الأسهم عندنا في هذه البلاد، موجودة في البورصة العالمية من أن هناك أناس لا ينقلون السعر فعلا؛ يشترون الأسهم وتنتقل الملكية، وإنما يخاطر بالشراء للارتفاع؛ ارتفاع السهم أو نزوله، وترى أنه يشتري بالكلام ويبيع بالكلام، لم يدفع مالا، ولم تنتقل السلعة أو الأسهم من ملك فلان إلى ملكه، ثم بعد ذلك يبيع لأجل فرق السعر، فهذا لاشك أنه نوع من المقامرة، أمّا ما هو موجود عندنا في أنه يشتري الأسهم ينقلها باسمه، ثم يتربص بها ارتفاع السعر فيبيع ذلك فهذا جائز، كما ذكرنا والحمد لله على تيسيره.(93/23)
2- التأمين بحث واسع في حكمه، وفي أصوله الشرعية، وفي أصوله أو صوره المعاصرة، والذي عليه أكثر العلماء أن التأمين التجاري المعروف عندكم أنه محرم؛ لأنّ فيه أكلا للمال بالباطل، لأنّ فيه غررا في المعاملة، ولأنّ فيه قمارا كما ذكرنا، صورة التأمين التجاري ما ذكرته لك في المحاضرة من أن فلان يدفع مائة ريال سنويا تأمينا على سيارته، والثاني يدفع مائة تأمينا على سيارته، فيجتمع للشركة ملايين ثم هي تصلح سيارة من خربت سيارته، أو تعطلت، أو صدمت، أو أصابها حادث، فيكون مردود الشركة أكبر بكثير جدا مما تحصَّلته، المحافظة على المال العام واجبة، فلهذا أكثر أهل العلم يقولون إن التأمين التجاري محرم. وبعض العلماء أجازه لأجل أن الغرر عندهم يسير بالنسبة للفرد، وأن مصلحته أكبر، قالوا هذا الزمان كثرت فيه الأموال، والناس مواردهم محدودة باعتبار الأفراد، فهو يرغب في أن يأمن على نفسه من الكوارث بمساندة غيره إذا دفع، والشركة لا يمكن أن تقوم بذلك إلا اجتمع الجميع، فصورتها متعددة عندهم، لكنها في الحقيقة عندهم تعاونية معنا، وإن لم تكن تعاونية شرطا ولفظا. وهذا فيه نظر والتأمين التجاري الأولى تركه، وأنَّ المرء يتوكل على الله جل وعلا لأجل أن لا يدخل في مثل هذه المعاملات، وهو في الحقيقة محل بحث ونظر ينبغي أن يبحث مرة أخرى ببحث واسع وينظر في عاقبته.(93/24)
النوع الثاني من التأمين، التأمين التعاوني وهذا أباحه كبار العلماء عندنا فيما أصدرته هيئة كبار العلماء من فتوى في إباحة التأمين التعاوني، التأمين التعاوني صورته غير صورة التأمين التجاري، التأمين التعاوني أن يكون المشتركون في شركة التأمين هذه بصفة شركاء، لهم الربح وعليهم الخسارة، فهُم يتعاونون في أن يُسَدِّدَ بعضهم عن بعض، الشركة ما تستفيد هي يستفيد شخص خارج، إنما الإستفادة ترجع إلى المشتركين، فمثلا فلان من الناس ((أ)) دفع مائة، ((ب)) دفع مائة، ((ج)) دفع مائة، إلى العاشر، اجتمع ألف ريال، فهذه يشتركون فيها وتكون عندهم، ثم إذا مضت السنة ولم يحدث حادث لأحد منهم، فإنّ الألف هذه تعود فائدتها عليهم، فتُنمّى لهم، فإذا دفعوا مائة في السنة المقبلة، فإنّ هذه المائة تُنمَّى لهم أيضا، يعني تحفظ لهم لحوادث هذه السنة، ثم تنمى لهم، يعني أنهم شركاء في شركة تعاونية للتأمين، هؤلاء أعضاؤها لهم غنْمها وعليهم غرْمها، وهذه لا شك أنها صورة شركة بشرط والمؤمنون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، وهذه الصورة جائزة، ولذلك أفتى كبار العلماء بجوازها، وهي حلٌّ مثالي، لكن هذه لا يستفيد منها أصحاب الأموال وأصحاب الشركات، إنما يستفيد منها الناس، وهم لا يريدون أن يستفيد الناس، وإنما يريدون أن يستفيدوا هم، ولو قام هذا النوع من الشركات لكان في ذلك تيسير للناس وقضاء لحوائجهم.(93/25)
3- الجواب عن الحكم يتوقف على قراءة عقد التأمين، وأنا لم أقرأ عقد التأمين، ولكن بحكم ما أسمع أنها ليست بتعاونية بالمعنى الذي ذكرناه آنفا؛ يعني أنّ الشركاء مغرومون ولهم الغرم، وأنّ الموال التي لم يستفيدوا منها أنها ترد عليهم بأرباح إلى غير ذلك؛ يعني إذا نميت، وإنما اسمها تعاونية للتأمين وفي حقيقتها لم تطبق التأمين التعاوني الذي أفتى به العلماء، لكن الكلام على الحكم متوقف على قراءة العقد، وإذا كان أحد يأتي بالعقد إن شاء الله نرى ما فيه، وأظنهم أحيانا يستندون على فتاوى بأنّ عملهم جائز ولا ندري هل هذه الفتاوى صحيحة أم ليست بصحيحة. نعم
4- أما الهدية؛ فهو اشترى منه أهداه هدية فهذا تبرع منه وجزاه الله خيرا، لأن الشاري ما غرم شيئا وإنما غنم بدفع التاجر له برضاه؛ يُرَغِّبُ الناس في الشراء منه، فهذا لا بأس به، أمّا المسابقات فراجعة إلى ما ذكرته لك من القاعدة؛ بأن المعاملة إذا دخلت فيها وأنت لا تدري حين دخلتَ وبذلت عوضا، لا تدري هل تغنم أم تغرم؟ متردد أي الأمرين يحصل لك بعد أن دفعت ما دفعت، هذه تكون من الميسر والقمار، أما إذا كنت لا تدري يحصل أو لا يحصل، لكن لم تغرم شيئا، لم تدفع شيئا، إنما أنت ما بين سالم من الغُرم، وما بين غانم، فهذه لا بأس بها، ويمكن أن تدخل فيها صور كثيرة، فطيّب لو فهمتم هذه العبارة، والفرق ما بين الصورتين، لأنها سهلة التطبيق في الواقع. وإذا كان لا حاجة له في الجريدة إلا لأجل المسابقة، مالَكَ أي حاجة فيها إلا لهذا، فهذا نوع غرر، وقد يكون المبلغ يسيرا عند بعض الناس، يعني ريال أو ريالين، لكنها تدخل في الغرر، هل هو من الغرر المعفوّ عنه أم لا؟ هذه محل نظر، لكن في الغالب الجرائد هناك ناس يحصلونها ويحصلون عليها، وتكون المسابقات مقصودة مع غيرها.(93/26)
5- المسابقات كما ذكرت لك، هذا المال الذي دفَعَه عوض عن شيء لا يدري يحصل له أو لا يحصل له، يدفع ريالين مثلا، هل تحصل له الجائزة أو لا تحصل له؟ هل يكسب أو لا يكسب؟ فإذن تردد في الحصول على الشيء وعدم الحصول، فإذن هو غرر ولا شك، لكن هل الريالان غرر يسير يغتفر، مثل غرر في أساس البناء، ومثل الغرر في باطن الملابس، ونحو ذلك، أم لا يغتفر؟ أم نقول هذا دفع للمال وليس بغرر؟ هذا دفع للمال بحكم المجموع، يكسبون أموال كثيرة الجوائز أقل منها، فمثلا اشترك مليون شخص في هذه المسابقة كل واحد قد دفع ريالين، فما الذي تَحصَّل؟ مليونين، طيب، فالجوائز كم؟ مليون, وذاك يأخذ مليون مقابل إيش؟ فإذا نظرنا لهذه النظرة وجدنا أن العلماء على أصولهم يختلفون في ذلك:
? فمن رأى الفرد بمفرده قال: هذا الريالان غرر يسير فلا بأس.
?ومن رأى المجموع وأن الجهة تستفيد بمبالغ ضخمة من الأمة دون مقابل فقال: هذا بالمجموع ضرر كبير، وإذن يدخل في الميسر والقمار، ويدل على هذا الثاني أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول «المؤمنون كالجسد الواحد»، وقوله «يسعى بذمتهم أدناهم»، فإذن كما ذكرت لك من نظر إلى المجموع قال هذه ولو كان المدفوع ريالين، فإنها لا تجوز.
6- هذا مقابل عمل، يعني هذا داخل في السَّلم، ليس له علاقة بالميسر والقمار.
7- أولا: العاقل لا يشتري إلا ما يحتاجه.
الثاني: أنه إذا عُرِض عليه مثل هذا فهو بالخيار، فكأنه قُدِّمَ له؛ يعني قيل له أنا أخصم لك الثلث، يعني مثلا أخصم لك ثلاثين في المائة، اشتري مني ثلاثة وأنا أخصم لك بالقيمة ثلاثين في المائة أو خمسين في المائة، وهذا كما يقول إذا اشتريت أكثر.....([4])؛ كلما تشتري أكثر أنا خفضت لك في السعر، هذا لا بأس به، ولا يدخل في الغرر ولا الميسر.(93/27)
8- أولا السؤال بناه على مقدمة أو قاعدة ليست بصحيحة، قوله (الشارع لا يأمر بشيء إلا فيه خير محض) هذا غلط، لأن الشارع يأمر بالشيء إذا كان فيه خير محض أو غالب، وينهى عن الشيء إذا كان فيه ضرر محض أو غالب، لأن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتكميلها، فالخمر فيه منفعة، لهذا ذكر المفسرون عند قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [البقرة:219]، من منافع الخمر منافع دنيوية في التجارات والأموال، ومن منافعها منافع بدنية يعني تعود على البدن بصحة إلى آخره فيما ذكره المفسرون، كذلك الميسر فيه منافع فيما ذكرتُ لكَ في المحاضرة، فإذن الشريعة تحرم ما كان خالص المضرّة، أو ما كانت مضرّته أكبر، والمضرة هنا في ميزان الشرع راجعة إلى مضرّة دنيوية، وإلى مضرّة أخروية، أما المضرة الأُخروية فَلِمَا في التعامل بنوع المعاملة، أو تعاطي هذا الأمر من أي أمر كان؛ الخمر، الميسر، السرقة، الرشوة، الزنا، القذف، إلى آخره، لأن فيه إثم يرجع على القلب بظلمته، وعدم رضوخ القلب وخضوعه لله جل وعلا، فما فيه عنفوان القلب؛ تَكَبُّرَه، تَجَبُّرَه، وعدم رضوخه وخضوعه لأمر الله جل وعلا، هذا يُحَرَّم للغرض الأخروي ولتحصيل القلب العابد الخاضع لله جل وعلا، ثم الغرض الدنيوي يُحَرَّم إذا كان فيه ظلم، أكل أموال الناس بالباطل، فيه ضرر. وما يجمع ذلك قول العلماء: إن الشريعة عُنيت بحفظ الضروريات الخمس وهي مرتبة: الدين. ثانيا: النفس. الثالث: العقل. الرابع: العرض. الخمس: المال. ولهذا نقول إن الشريعة لما جاءت بالمحافظة على هذه الكليات الخمس، وكل منها مهم أن يدفع الضرر عنه، فلهذا شرع الجهاد لأجل حفظ الدين، وشرع القصاص لأجل حفظ النفس، وشرع حد الخمر وحرمت الخمر حفاظ على العقل، إلى آخر تفصيلات ذلك معروف في كتب مقاصد الشريعة.(93/28)
9- الرهان المحرم وهو المغالبة بعوض من غير عمل شرعي، هذا عَدَّهُ كثير من أهل العلم من الكبائر، وهو داخل في عموم قوله جل وعلا { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [البقرة:188]، والواجب على من أُبتلي بذلك أن يتوب إلى الله جل وعلا، ويردّ المال الذي في يده لمن أخذه منه إن كان يعلمه، وإن كان لا يعلمه فإنه يتوب إلى الله جل وعلا والمال الذي أخذه أو الشيء الذي أخذه فإنه يخرجه من ماله تصرفا لا تصدقا.
إذا ما كان فيه نصرة للدين ما تجوز المراهنة.
ولو، هو بالنسبة لآخر غير متيقن، هذا يقين غير معتبر.
10- هذا قول لبعض أهل العلم بأن اللعب قسمان: لعب لهو، ولعب بالأجسام. يعني لتقويتها، والسلف عَدُّوا اللعب الذي لا فائدة منه شرعية، عدوه تارة من الباطل، وتارة من الميسر، فيدخل في ذلك كل أنواع اللهو بالباطل، لهذا قال كثير من أهل العلم: إن اللهو بالباطل.
وهذا الشيء: اللعب بالورقة، هل هو لهو بالباطل أم لا؟ هنا يكمن النظر:
• فإن كان عن عوض، يعني فيه مال يُدار فلا شك أنه قمار، فيكون محرما، وكبيرة، لأجل ما صاحبه من القمار، وأكل المال بالباطل.
• والحال الثانية: أن يكون مُشْغِلاً عن الطاعة صاحبه ممن يلعب هذه اللعبة أو غيرها، يمكثُ السَّاعات الطوال تاركا واجباتَه في بيته، تاركا الأُنس المطلوب والسكن لأهله، تاركا رعاية أولاده، أو في مجالس فيها أنواع محرمات أخر، فيحرم اللعب لأنه وسيلة إلى غيره، فهو وسيلة إلى تضييع الصلاة، وسيلة إلى تضييع واجبات الأهل والمنزل، ووسيلة لتضييع واجب الأولاد ورعايتهم، ووسيلة لتضييع كسب المال، لما فيه رعاية للمال، فأي حالة من هذه انطبقت فيكون اللعب بالورقة المذكور محرما، لأنه صار وسيلة للمحرم، ومن المتقرر عند علماء الشريعة أنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان اللعب سيؤدي إلى شيء محرم صار لهوا بالباطل، ليس لهوا مأذونا به، صار لهوا بالباطل.(93/29)
• الحال الثالثة: أن يلعب أحيانا، وليس في لعبه تفريط بأمر واجب شرعي، وليس فيه إضاعة لواجب من صلاة أو واجب رعاية، ونحو ذلك، فهذا يدخل عند عامة أهل العلم بأنه مكروه يعني تجنبه أولى، لأن اللهو الأصل فيه المنع.
11- البورصة هذه كلمة أجنبية، ترجمتها التقريبية بالعربي (محل عقد الصفقات السريعة) يعني بعضهم ترجمها...... ([5]) يعني صفقة، محل عقد الصفقة قالوا..... ([6]) جمعها ...... ([7]) يعني البورصة كلمة معناها المحل الذي تعقد فيه الصفقات بسرعة، فهي اسم لمحل تتداول فيه السلع، أو تتداول فيه الأسهم، أو تتداول فيه العملات فيكون البيع والشراء فيه سريعا وفي المحل، وغالب هذا يكون فيه قبض ولا يكون فيه انتقال الأملاك، بل على الشاشة مثل ما هو موجود الآن في البيوت، ممكن الواحد يعمل عمليات يتصل بالبورصات العالمية من منزله بواسطة الكمبيوتر إما المستقل أو بواسطة الدخول في شبكة الإنترنت، وغير ذلك، المقصود أن كلمة بورصة محل مغلق، مثل سوق تجاري فيه عرض للسلع وفيه بيع وشراء لمن حضر ولمن اتصل به، هذا معنى البورصة.(93/30)
12- السؤال غير واضح، يتسابقون، كما ذكرنا، لكن القاعدة في المسابقات أنه لا يجوز أخذ العوض على المسابقات، أو أخذ السَّبَق إلاّ إذا كانت المسابقة فيها نُصرة للدين، كما قال عليه الصلاة والسلام «لا سَبَقَ إلاّ في خُف أوْ نَصْلٍ أوْ حَافِرٍ»، السبق هو العوض الذي يجعل لمن سَبَق، ويرويه بعض الناس «لا سَبْقَ إلاّ» –يعني لا مسابقة- وهذا ليس بجيد الأولى ضبط الحديث «لا سَبَقَ» يعني لا عوض «إلاّ» في هذه الثلاثة «في خُف أوْ نَصْلٍ أوْ حَافِرٍ» يعني المسابقة بالجمال، المسابقة بالخيول، أو الرمي السهام، وهذه الثلاث مثلت لأن فيها قوة المسلمين في الجهاد بالرمي، كما قال عليه الصلاة والسلام على قوله { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال:60]، قال«ألا إن القوة الرمي»، قل بأنواع الرمي؛ الرمي بالنبل الرمي بالسهام، الرمي بالرماح، والخف؛ الجمال تستخدم في الحروب والجهاد، وكذلك الخيول تستخدم، فهذا معنى مثَّل فيها تمثيلا لكل ما فيه نصرة لدين الله جل وعلا، لهذا قال العلماء: إنَّ كل أنواع الجهاد جائز فيها المسابقة. هذه المسابقة التي يَذكر هل هي مسابقة على التقوية على الجهاد، يعني مسابقة بالأقدام؟ هل هي مسابقة على الخيل ونحو ذلك، فتباح بشروطها؟ أم مسابقات أخر؟ ما ندري. المسابقات العلمية جائزة، المسابقات بالخيول جائزة، مسابقات الرمي جائزة، لأن كل هذا فيها إعداد للجهاد، والفروسية والقوة التي كان يتميز بها الصحابة رضي الله عنهم وبها قَوُوا على الجهاد نوعان:
• فروسية في العلم والبيان.
•وفروسية للركوب؛ ركوب الخيل ونحوها، يعني ركوب الفرس.
هم أعدوا العدة للجهاد بالنوعين، فكانوا أهل فروسية حقا في العلم، وفي الركوب، واستعمال ما كان متاحا لهم من المخلوقات التي أعدها الله جل وعلا للجهاد، فإذن السؤال غير واضح، ونوع المسابقة تحتاج إلى إيضاح.(93/31)
13- ذكرتُ لك أن المعاملات صعبة من حيثُ فهم أحكامها، لكن:
? لا بد لك من معرفة كلام العلماء في كتب الفقه.
? معرفة كلام أهل العلم في معاني القرآن والسنة في الدرجة الثانية.
? لا بد أن تقدم كلام الفقهاء حتى تتصور المسائل، لأن فهم كلام العلماء على النصوص مبني على تصور المسائل، وتصور المسائل لا يُحدِثُه لك إلا كتب أهل العلم؛ يعني أهل الفقه، تنظر إلى كتب التفسير، وإلى كتب الحديث، ثم بعد ذلك تنظر في الفتاوى المعاصرة، وتحاول تقارب وتجمع بين ذلك.
من الكتب المفيدة في ضبط مسائل المعاملات كلام الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه انطلق فيها بدلالات النصوص مع الربط بكلام أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، وكلام ابن القيم أيضا تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن في كلامهما، ومن تأثر بهما، على قواعد المعاملات فيها ثواب عظيم.
طُبع لشيخ الإسلام كتاب اسمه قاعدة أو نظرية العقد أو قواعد العقود، ولابن القيم أيضا كتاب الفروسية تكلم فيها مسائل كثيرة متصلة بذلك، وفي زاد المعاد وإعلام الموقعين.
أما الكتب المعاصرة فتهتم بكتب التقعيد يعني كتب التي تسمى نظريات: نظرية العقد، نظرية المال، نظرية الغرر، قاعدة الربا، قاعدة الغرر، يعني هذا التقعيد مُهِم؛ لأنه تندرج المسائل الفرعية تحت تلك القواعد العامة، سؤال أخير.
14- ما درستُها وما نظرتُ فيها.
15- الجمعيات التعاونية غير التأمين التعاوني غير الذي يسميه الموظفين الجمعية، عندنا ثلاثة أشياء: تأمين تعاوني، جمعية تعاونية، الجمعية التي يستعملها الموظفون كل واحدة لها حال.
نكتفي.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.
---
([1]) انتهى الوجه الأول من الشريط.
([2]) الأسئلة غير مسموعة من الشريط ولذلك دُوّنت إلا الإجابة عليها.
([3]) كلمة غير واضحة.
([4]) كلمة غير واضحة.
([5]) كلمة غير واضحة.
([6])كلمة غير واضحة.
([7])كلمة غير واضحة.(93/32)
قواعد القواعد
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريط له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيّه وخليله، نشهد أنَّه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، صلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فموضوع هذه المحاضرة أو هذا الدرس (قواعد القواعد)، وكمقدمة لهذا الموضوع ومدخل بين يديه فإنَّه لا يراد أن يُدْرَسَ في هذا الدرس تأصيل القواعد الشرعية ووضع القواعد للتقعيد؛ فإن هذا مجاله مجال الدراسات المتخصصة والبحوث المتخصصة، وإنَّما نريد من هذا البحث أو هذا الدرس أن نَخْلُص إلى نتيجة فيما يتعلق بالتقعيد وفَهْمٍ للقواعد ثم ما ينبغي اتخاذه مع القواعد وما لا ينبغي اتِّخاذه مع القواعد.
وسبب هذا الدرس سبب إنشائه أنَّ الناس يمر بهم كثيرًا وخاصة القراء وطلبة العلم يمر بهم كثيرًا التقعيد يمر بهم كثيرًا ذكر القواعد؛ القاعدة في هذا كذا، والأصل في هذا كذا، وإذا جاء التقعيد فإنه يُفهم اندراج الفروع تحت هذه القاعدة، وأنّ المسلم يطبق هذه القاعدة بإدراج فروعها التي تندرج تحت ألفاظها ويشملُ عموم لفظ القاعدة للفروع يدرجها فيها بما فهم من القاعدة، ولهذا كثُرَ في هذا الوقت التأصيل والتقعيد، كلٌّ يقول القاعدة كذا وكذا، وفهم السلف لهذه المسألة كذا، والأصل في هذا كذا، والسلف نقلوا في هذه المسألة كذا، وربما جُعل بعض الأقوال للسلف قاعدة مطردة، وربما طرحت قواعد وأصول قررها أهل العلم في كتبهم ودلَّلوا عليها، فلهذا كان من اللّوازم أنْ يُجعل مدخل لهذه القواعد ولفهم التقعيد ولما ينبغي اتخاذه مع التقعيد مع ضرب بعض الأمثلة.(94/1)
والثاني: من سببي إنشاء هذا الدرس أنْ نعطي أصولاً عامة ينضبط بها التفكير، ينضبط بها عقل طالب العلم أو عقل المسلم بعامة في هذا العصر الذي كثرت فيه الآراء، وهذا العصر كما ترون وتسمونه وتشاهدون كثرت فيه الأقوال، كثرت فيه الاتجاهات، كثرت فيه الآراء حتى إنها تكثر بعد كلّ يوم وليلة، وسبب ذلك الإخلال بالتأصيل العلمي، وسبب ذلك الإخلال بالرجوع إلى قواعد العلم.
ومن أسباب حدوث ذلك التفرّق أو كثرة الآراء وكثرة المدارس من أسباب ذلك كثرة التقعيد الذي يورده أصحاب كل جهة، ويكون ذلك التقعيد تارة مسلَّمًا وتارة غير مسلَّم وربما كان مسلَّما من جهة غير مسلَّم من جهة أخرى، كما سيأتي لذلك مثال.
وهذا مما جعل كثير من الناس وخاصة الشباب يتخبطون في وضع ضوابط عقلية؛ لأنّ الكل ولله الحمد يريد السلامة، يريد أنْ يتقرب من ربه جلّ وعلا، يريد أنْ يعلم الحق ثم يتّبع الحق، هذا ديدن الجميع، ولهذا كل ما دعا داع إلى الحق بطريقته فإنه يجد له أتباع ويجد من يتقنع بفكرته، وسبب الاقتناع بالأفكار الخاطئة أو الأفكار الناقصة أو الأفكار المتبلبلة يعني غير الثابتة التي ليس لها أصول واضحة هو الكلام، هو الآراء، إيراد أصول، إيراد نقول، إيراد شواهد، إيراد أدلة ونحو ذلك، ويكون ذلك الإيراد من الأدلة والأصول والقواعد والشواهد يكون ناقصًا، يكون صحيحا في نفسه لكن يكون ناقصا، وسبَّب ذلك أنْ كثرت الآراء وعرض كلٌّ فكرته بطريقة وعارضت ما عند الآخر، ولو رجع الجميع إلى العلم لضبطهم العلم ولكانوا يدا واحدة على من سواهم.
لهذا أقول إنّ هذا الدرس مدخل وليس تقعيدا كاملا لهذه المسألة العظيمة؛ بل هو مدخل لذلك يفتح لطالب الحق ولطالب الصواب في هذه المسائل ما يُمَكنُّه أنْ يَضبط عقله وفهمه وإدراكه للأمور وللأحداث وللموازين المختلفة.
القواعد عرَّفها أهل العلم بأنها جمع قاعدة، والقاعدة ما يُبنى عليها غيرها، قاعدة الشيء ما يبنى عليها غيرها.(94/2)
ولهذا قالوا إنّ تعريف القاعدة عند أهل الاصطلاح: أنها أمر كليّ ترجع إليه فروع كثيرة.
وقال بعضهم: إنّ القاعدة أمر أغلبيّ ترجع إليه فروع كثيرة.
ونفهم من هذا التعريف أنّ القاعدة عبارةٌ تجمع قلة في الألفاظ لكن يدخل تحتها صور كثيرة؛ لأنّ القاعدة موضوعة لجمع الفروع المختلفة.
وهذه القواعد التي وضعها أهل العلم وأُصلت هذه أقسام منها: ما هي قواعد عامة، ومنها ما هي قواعد خاصة.
قواعد عامة لجميع أهل العلم؛ يعني يتّفق عليها العلماء جميعا خاصة في الفقه.
ومنها قواعدُ خاصة في الفقهيات تختلف ما بين مذهب وآخر.
والقواعد تُقسم باعتبار آخر إلى أنّ:
منها قواعد وأصول متصلة بالعقيدة.
ومنها قواعد وأصول متصلة بالفقه.
ومنها قواعد وأصول متصلة بالسلوك وأنواع التعامل.
وإذا تأملت الكتب المؤلفة في هذا الشأن فتجد أنّ ظهور القواعد المتصلة بالعقيدة في كتب أئمة السلف ظهور ذلك بيِّن واضح لمن طلبه، وكذلك القواعد الفقهية، وكذلك قواعد السلوك التي تُبحثُ عند ذكر الاعتصام بالكتاب والسنة واتّباع طريقة السلف الصالح في الفهم وفي العبادات وفي أنواع التعامل.
هذه أنواع للقواعد وللأصول قد ترد قاعدة في العقيدة، قاعدة في الفقه، قاعدة في السلوك والتعامل، وهذه لابدّ أنْ ترعى جميعا؛ لأنّ ذلك التقعيد ما وضع إلاّ لفائدة.
نعلم أنّ كل شيء شرعي لابدّ له من دليل، هذه القواعد ما دليلها؟ القواعد بأقسامها لابدّ أنْ يكون لها دليل، والدليل تارة يكون بنص من الكتاب والسنة، يقال دليل هذه القاعدة كذا من الكتاب أو من السنة، مثلا قاعدة: الأمور بمقاصدها. دليلها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات»، مثلا: لا مُحَرَّم مع ضرورة. دليلها قول الله جلّ وعلا ?إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ?[الأنعام:119]، وهكذا، وكذلك في مسائل الاعتقاد هناك قواعد لها أدلتها، وفي مسائل السلوك هناك قواعد لها أدلتها.(94/3)
فإذن تعرف القاعدة ويستدل لها في النص من الكتاب أو السنة.
كذلك القاعدة يستدل لها بالإجماع، أجمع السلف، أجمع الأئمة على أنّ من القواعد كذا.
وكذلك يستدل للقاعدة بالاستقراء، باستقراء إمام من الأئمة، مسائل معينة في باب أو في أبواب، فيخرج قاعدة باستقرائه وهو رجل مأمون إمام من الأئمة فيكون ذكره للقاعدة واستنتاجه للقاعدة صوابا صحيحا.
إذا نظرت في الكتب تارة تجد أنه يُنَص على أنّ هذه قاعدة، يقال لأنّ القاعدة كذا، لأنّ الأصل كذا، وتارة لا تجد هذا النص بأنّ هذه قاعدة وأنّ هذا هو الأصل، وإنما تجد التعبير بأمر كلّي يرجع إليه أفراد كثيرة، أمر كلي، يقال مثلا أنّ كل كذا ثم يذكر الحكم، أو يقول فكل شيء ثم يذكر الحكم، التعبير بأمر كلي يفهم منه أنّ هذا تقعيد؛ لأنّ الكليات ترجع إليها أفرادها، فتجد ذلك تارة بذكر القاعدة الأصل والأصل هو القاعدة؛ لأنّ الأصل يأتي بمعانٍ عند أهل العلم، ومن إيراداتهم للأصل أنْ يكون الأصل بمعنى القاعدة، فيقال مثلا: إنّ أكل الميتة بخلاف الأصل. فيكون معنى الأصل هنا يعني القاعدة؛ لأنّ القاعدة أنّه لا يجوز الأكل إلاّ مما أحلّ الله جلّ وعلا، كما ذكر ذلك الأصوليون وغيرهم.
ذكرنا أنّ القواعد أقسام:
ومنها القواعد العَقَدية.
مثالها: أنّ النص مُحَكَّم والعقل معطَّل في أبواب العقائد.
مثلا من قواعد العقيدة: أنّ الأسباب مرتبطة بمسبَّباتها وأنّ إلغاء الأسباب لا يجوز وهو معارضة للشرع وقدح في العقل.
مثال الفقهية كما ذكرنا:
الأمور بمقاصدها.
والتابع تابع.
ومثال السلوكية:
كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا تتعبدوها. يعني أنّ العبادات مبناها على التوقيف وأنّ المعاملات مبناها على الإخلاء؛ يعني بما يكون عند الناس بما يُصلح دنياهم ما لم يرد فيها نص يحرِّمها.
القواعد أنشأها العلماء لماذا؟(94/4)
لأنّ بعد الفتوح الإسلامية وبعد أنْ توسعت رقعة دولة الإسلام ظهرت مشاكل، ظهرت أراء، ظهرت مذاهب، ظهرت أفكار جديدة، وظهرت صور للمسائل كثيرة، فكان لزاما حتى تُضبط المسائل في الباب الواحد -وهو ما يسمى بالضابط- أو تضبط المسائل في أبواب مختلفة أنْ تُجعل قواعد يرجع إليها فهم تلك المسائل، هذا في الفقهيات.
كذلك في العقديات لما كثر خلاف المخالفين للجماعة لطريقة أهل السنة، لطريقة السلف الصالح وُضعت قواعد تضبط هذا الأمر.
فإذن القواعد في الأصل لم تكن موجودة معبَّر عنها بالقاعدة عند السلف الصالح يعني عند الصحابة والتابعين، وإنما وضع العلماء هذه القواعد وعبروا عنها بقاعدة، بأصل ونحو ذلك من التعبيرات؛ لأجل أن تُضبط المسائل وحتى يسهل على الناظر أنْ يتفطّن للمسائل المتفرقة وما يجمعها من قاعدةٍ وأصلٍ واحد.
فكثرة الفروع كانت من أسباب نشأة القواعد، كثرة المسائل، كثرة الإيرادات، كثرة الفروع، وكثرة الأقوال لابدّ أنْ تُضبط بضابط، فكان لذلك أُنشئت تلك القواعد وأنشئت الأصول حتى ينضبط العلماء بضابط واحد، وحتى إذا أتى من ليس بمجتهد، من ليس بعالم غزير العلم لا يأتي ويستقرئ مرة أخرى ويُخرج أصولا يضبط بها علمه ونفسه، والعمر قصير لا يتحمل أنْ ينظر المرء في أمور كثيرة، لكن إذا ضبطت القواعد فإنه تُرَدُّ الفروع وتُرَدُّ المفردات إلى تلك القواعد فينضبط الأمر.(94/5)
من أسباب النشأة؛ أسباب نشأة علم التقعيد أو القواعد أنّ العقل والفهم إذا لم ينضبط بضابطٍ إذا لم ينضبط بتقعيد فإنه يشذّ؛ لأن الآراء مختلفة، والحكم على المستجدات الحكم على النوازل يختلف فيه فلان عن فلان، حتى من العلماء يختلف فيه، ولهذا تجد أنّ اختلاف السلف من التابعين خاصة تجد أنّ اختلافهم في الغالب لا يرجع إلى اختلاف القواعد، أما اختلاف العلماء من أهل المذاهب المعروفة يرجع إلى تقعيد؛ وذلك لأنّ أولئك نظروا في القواعد وضبطوا المسائل بالتقعيد، وأما من قبلهم فإنه لم تتأصل ذلك فكانت المسائل عندهم مبنية على اجتهاده في النازلة، فيأتي من بعده ولا يدري قاعدته في هذه المسألة فيقلده في هذا الباب أو في تلك المسألة ولا ينظر إلى مأخذه من جهة التقعيد العام.
أيضا من أسباب وضع التقعيد ومن أسباب نشأة القواعد أنْ لا يتأثر طلاب العلم وأنْ لا يتأثر الناس بالمتشابهات؛ لأنّ التقعيد يضبط، ومن المعلوم أنّ القواعد كما ذكرنا دليلها المحكم عن الكتاب والسنة، وأما المتشابهات التي ترد -وسيأتي تفصيل للمحكم والمتشابه إنْ شاء الله تعالى- أما المتشابهات فإذا أوردت على من ليس براسخ في العلم فربما تشتتت، ربما نظر إلى المسألة ولم يتفطن لمأخذها من القواعد، فكان من اللّوازم أنْ توضع في العقيدة، قواعد في السلوك، قواعد في الفقهيات حتى ينضبط الناس، وإذا أوردت المتشابهات فإنّ طالب العلم إذا نظر إلى المتشابه الذي يخدش القاعدة يعلم أنّ للعلماء فيه نظرا يعلم أنّ للعلماء فيه توجيها، ولا يترك القاعدة وهي الأصل الأصيل لأجل إيراد أحدٍ من الناس متشابه من المتشابهات ولو كان دليلا من الكتاب والسنة؛ لأنّ من أدلة الكتاب والسنة ما هو متشابه لا يعلم به إلاّ بعد رده إلى المحكم.(94/6)
هذه أمور مهمة بين يدي هذا الموضوع، ومع تجدد الأحوال وتغير الأمور في تاريخ الإسلام حدثت نوازل، وحدثت حوادث كثرة؛ حوادث متغيرة، حوادث متجددة، هذه التي سماها العلماء نوازل، والتي قال فيها عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. لابدّ أنْ يكون هناك نوازل متجدة تنزل بالناس قضايا جديدة، فلابدّ أنْ يحدث لها أحكام.
هل كلما أتت قضية وكلما أتى شيء يرجع الأمر فيه إلى اجتهاد جديد؟ أم أنّ هناك ضوابط؟ هناك قواعد إذا رجع العلماء إليها قلّ اجتهادهم في النوازل، وتيسّر الأمر عليهم في نظرهم إلى المستجدات، لا شكّ أنّ حدوث النوازل كان من أسباب التقعيد وأيضا خدم التقعيد العلماء وطلبة العلم في النظر إلى النوازل والمستجدات.
النوازل يعني الحوادث المختلفة والمستجدات في البلاد وفي الدول وفي المجتمعات، هذه ترجع إلى أسباب:
من أهم أسبابها التطور؛ لأن الناس يتطورون، كل زمن تجد أنه يدخل تحسينات على ما قبله خاصة في أمور المعاملات، تأتي معاملات جديدة ليست في الزمن الأول، والعقل بطبعه يحب أنْ يجدد يحب أنْ يأتي بأشياء جديدة، هذا التطور الذي يحدث عند الناس إذا لم ينضبط بتقعيد فإنه لا حدّ للعقل؛ لأن العقل يريد أنْ يتطور ويصل إلى أشياء قد تبعده تماما عن الشريعة وعن الدين الذي ارتضاه الله جلّ وعلا.(94/7)
فكانت القواعد مُرجعَةً لهذه النوازل إلى أصول ثابتة مهما حدث تجدد في الأحوال ومهما حدث تجدد وتغير في الأمور وفي المستجدات فإنّ القواعد تضبط ذلك في فهم طالب العلم وفي حكم العالم وفي فتواه حتى ترجع إلى أصول ثابتة؛ لأنّ هذه الشريعة ثابتة، من أوصاف الشريعة أنها شريعة ثابتة، ثابتة من جهة النظر إلى الأشياء، ثابتة من جهة الأحكام، ثابتة من جهة تعبيد الناس لله جلّ وعلا، ولكن الفتوى كما هو معلوم تتغير بتغير الأحوال والأزمان؛ لأنّ الفتوى مبنية كل اختلاف أحوال الناس، وتارة يكون اعتماد المفتي على العرف، وهذا له بحثٌ آخر ليس هذا مجاله.
أيضا من أسباب وجود النوازل التي دعت إلى ضرورة فهم القواعد وضرورة التقعيد وأنْ يربط المسلم نفسه بالقاعدة فضلا عن طلاب العلم فضلا عن العلماء، أنّ الزمان يفسد وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام «لا يأتيكم زمان إلاّ والذي بعده شر منه حتى تتلقوا ربكم» فإذا استجد الزمان بأنواع من الفساد وأنواع من التغييرات كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. هل إذا تجدد الفجور وازداد الفجور أو ازداد بعد الناس عن الدين هل يتأتى لهم بأشياء جديدة لم يكن عليها الأمر الأول؟! التقعيد يضبط هذه النوازل التي هي راجعة إلى فساد الزمان وفساد أهله بأمر يجعل الشريعة ثابتة ويجعل النظر وحكم الكتاب والسنة ثابتًا لا يتغير؛ لأنّ هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان كما هو معلوم، وحكمها في أول الزمان كحكمها في آخره، والله جلّ وعلا عَلِمَ أنّ هذا الدين باقٍ إلى قيام الساعة فجعل أحكامه باقية إلى قيام الساعة.(94/8)
فإذن مهما حدث من فساد الناس مهما حدث من تغير مهما حدث من أمور فإرجاعها إلى أصول الشرع يضبط ذلك ويجعل ذلك الفساد ليس وسيلة إلى تغيير الشرع، وسيلة إلى تغيير أهله، وسيلة إلى انقلاب العقل، وإلى انقلاب الفهم في معالجته لتلك الأمور؛ لأنّ القواعد ثابتة ولأنّ التقعيد واحد لا يتغير جعله العلماء والأئمة من قبل حتى يمشي عليه الناس جيلا بعد جيل.
إذا تأملت هذا فمن الذي قعَّدَ هذه القواعد؟ ومن الذي يُقَعِد؟ ومن الذي يحق له أن يطبق القواعد؟
الذي يُقبل تقعيده أهل العلم، فإذا كان التقعيد في العقيدة بذكر أصول وقواعد يرجع إليها في أبواب الاعتقاد، فلابدّ أنْ يكون ذلك التقعيد من عالم بالعقيدة عالم بدقائق أقوال السلف عالم بالأقوال المخالفة بأقوال السلف، ولهذا قلّ التقعيد في العقيدة بعد زمن السلف الصالح، وأئمة الإسلام، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأجل طول باعه في هذا الأمر أيضا أتى بقواعد ضبطت لنا مسائل العقيدة وقرّبت لنا أقوال السلف في ذلك.(94/9)
فإذن، التقعيد لابد أنْ يكون من عالم راسخ في علمه، فإذا كان في العقيدة فلابد أنْ يكون من عالم راسخ في العقيدة، وقد ذكرنا مرارا أنّ العقيدة؛ عقيدة أهل السنة والجماعة منها أبواب متصلة باعتقاد القلب وهو شرح أركان الإيمان الستة؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، ومن العقيدة عقيدة السلف ما سماه بعض أهل العلم بالمنهج ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، وهو طريقة التعامل في الأمور مثل مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه من العقيدة، مثل مسائل الإمامة من العقيدة، الصحابة من العقيدة، الكلام في الولاية وكرامات الأولياء وما يتعلق بذلك هذا من العقيدة، وهكذا في المسائل التي خالف فيها أهل السنة غيرهم وجُعلت تلك المسائل من العقيدة؛ لأنها كانت مما ميّز أهل عن غيرهم من فرق الضلال، لابد أنْ يكون المُقَعِّد عالمًا بما خالف فيه أهل السنة غيرهم.
فإذن العقيدة في أبوابها جميعا تشمل مسائل الاعتقاد أركان الإيمان وتشمل المنهج وتشمل أيضا السلوك، ولهذا في العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية جعلها على هذه الأقسام الثلاثة:
شرح أركان الإيمان.
ثم مسائل التعامل المنهج، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإمامة، والصحابة، وكرامات الأولياء، وما يتصل بذلك من مباحث.
ثم في آخره مبحث الأخلاق والسلوك عند أهل السنة والجماعة.(94/10)
من يُقَعِّد هذه المسائل؟ لابد أنْ يكون راسخًا في ذلك، هل يقبل من كل أحد أنْ يقعد؟ لا يسوغ أنْ يقبل من كل أحد أنْ يقعد، لمَ؟ لأنه لو قُبل من كل طالب علم أنْ يقعد في العقيدة مسائل لصار هناك انحرافات؛ لأن العقيدة أمرها واحد منذ زمن السلف الصالح وإلى وقتنا هذا وإلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها، فالتقعيد لابد أنْ يكون راجعًا إلى قول أئمة السلف أو إلى قول المحققين من الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن نحا نحوهم وشُهد له بالإمامة في هذا الباب.
أيضا التقعيد فيه استحضار المقعِّد الفروع الكثيرة التي تندرج تحت هذه القاعدة، وأحيانا بعض الناس قد يستعجل يُقَعِّد وهو لا يستحضر كل الفروع التي تندرج تحت هذه القاعدة مما عايشه أو مما علمه، وإنما استحضر بعضا فأخرج قاعدة، ولهذا تجد أنّ من الناس حتى من بعض طلبة العلم يُقَعِّد قاعدة ثم يورد عليه معترض بشيء فيكون خارما لقاعدته صحيح أنّ القواعد أغلبية لكن هذا لا يعني أنْ تكون المعارضات للقاعدة كثيرة.(94/11)
الثاني: التقعيد إذا جاء من مختلفين يعني فلان له طريقة تخالف طريقة فلان، وأتى التقعيد في هذه المسائل المختلف فيها فإنه نتيجة لاختلاف الآراء وللرغبات وللغايات يكون ثمَّ تقعيدات مختلفة، ولهذا تجد في مثل هذا الزمان من قعَّد ممن هو ليس من أهل العلم، تجد أنّه يقعد بحسب الواقع الذي يعيشه، إنْ كان واقعا دعويا يقعد بحسب الواقع الذي هو فيه، إنْ كان واقعا فقهيا يقعد بحسب الواقع الذي هو فيه، والواجب أنّ الذي يحقُّ له أنْ يقعد أنْ يكون متخلصًا من أنْ يكون متبنيا لرأي من الآراء؛ لأن التقعيد هو استقراء المسائل وذكر أصول هذه المسألة من أدلة الشرع حتى تكون مرجعا يرجع إليه إذا حضرت فروع جديدة، وقد رأينا في هذا لازمن أنه حصل هناك تقعيد لأشياء لا يوافق عليها الأئمة من قبل، وجُعلت قواعد وتبُيّنت وصارت هناك آراء وآراء مما سبب اختلافا في وجهات النظر وعدم دقة في ذكر هذه الآراء.
الثالث: من المسائل المتصلة بمبحث من الذي يقعد؟ ومن الذي يحق له التقعيد؟ أنه لا يسوغ لأحد أنْ ينسب قاعدة من القواعد للسلف الصالح، يقول القاعدة عند السلف هي كذا إلاّ عن أحد طريقين:(94/12)
الأول: أنْ يجد نصا على أنها قاعدة، يجد نص: والقاعدة كذا، والأصل كذا. في قول إمام من الأئمة أو في كتب الاعتقاد أو في كتب السلف الصالح رضوان الله عليهم، لابد أنْ يكون ثمَّ نص حتى لا نجعل السلف مقعدين لقواعد خاطئة، والسلف لا شك أنهم خير هذه الأمة « خَيْرُ النّاسِ قَرْنِي، ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ» فمن الناس من يأتي ويقول القاعدة عند السلف كذا، هل نص السلف على هذه القاعدة؟ لا تجد جوابًا بالإثبات بأنهم نصوا عليها، من أين أوتي بهذه القاعدة؟ بفهم ذلك المقعد، والمقعد إذا كان من أهل العلم فإنه لن يجترئ على تقعيد دون نص من السلف الصالح على هذا التقعيد إذا نُسبت تلك القاعدة للسلف. هذا الطريق الأول لفهم التقعيد المنسوب للسلف الصالح أن ينص على هذه القاعدة عند السلف.
الثاني: أنْ يستقرئ عالم راسخ متأني لكلام السلف في المسألة ثم يُقعِّد، فإذا أتي عالم راسخ في العلم متأني فيما يأتي وفيما يذر ويستقرئ كلام السلف وبعد استقرائه لكلامهم ولأحوالهم يخرج تقعيدا، مثل ما قعد لنا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قواعد كثيرة في العقيدة وكذلك في السلوك، ونسب هذه القواعد للسلف فإنه انضبطت الأفهام وإذا نظرت في أقوال السلف وفي أحوالهم لا تجد أنها تخرج عن تقعيدات شيخ الإسلام ابن تيمية، لمَ؟ لأنّ شيخ الإسلام استقرأ وهو راسخ في العلم، واستقرأ وهو ينظر إلى أقوال السلف جميعا ما استعجل فنظر إلى قولٍ أو قولين أو عشرة أو عشرين أو خمسين فأخرج فيها قاعدة ربما لا يكون السلف موافقين على هذه القاعدة، ويكون ذلك القول وذلك التقعيد مخالفا لأقوال السلف.
من القواعد المهمة التي ينبني عليها النظر في كلام الناس وفي أقوال المقعدين وفي الأدلة وفي الآراء المختلفة أصل وقاعدة: المحكم والمتشابه.(94/13)
تجدُ أنّ المصنفين في علوم القرآن يذكرون المحكم والمتشابه، المصنفين في أصول الفقه يذكرون المحكم والمتشابه، والمحكم والمتشابه من المباحث المهمة التي -ولا أكون مجازفا- يجب أنْ يفهمها كل مسلم، خاصة في مثل هذا الزمان والأزمنة التي فيها الأقوال والآراء والتقلبات المختلفة، الله جلّ وعلا قال في محكم كتابه ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا?[آل عمران:7]، بيّن جلّ وعلا أنه جعل من آي القرآن منها ما هو محكم ومنها ما هو متشابه ابتلاءً من الله جلّ وعلا لعباده.
ما هو المحكم من الآيات؟ هو الواضح المعنى هو البيِّن المعنى الذي يفهمه من قرأه بدون إشكال، واضح المعنى مفهوم، وهناك آيات أخر مشتبهات يعني تشتبه ولا يدرى وجهها حتى تُرَدَّ إلى المحكم، هذه المشتبهات كثيرة في القرآن، يشتبه النظر في هذه الآية هل هذه الآية على ظاهرها؟ هل هذه الآية يؤخذ منها الحكم؟ أم أنّ هذه الآية مبيّن معناها في مكان آخر مبيّن معناها في آية أخرى؟ جعل الله القرآن منه محكم ومنه متشابه، المحكم الواضح المعنى، والمتشابه الذي يشتبه على الناظر فيه معناه.(94/14)
كذلك السنة منها محكم ومنها متشابه ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «إِذَا رَأَيْتُمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ, فَأُولَئِكَ الّذِينَ سَمّىَ اللّهُ, فَاحْذَرُوهُمْ»، (الذين يتبعون ما تشابه منه) هم أهل الزيغ، قال جلّ وعلا (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)، ولهذا لما جاءت الخوارج، احتجت الخوارج على مبدئهم وعلى مذهبهم بنصوص من الكتاب والسنة، احتجوا على تكفير صاحب الكبيرة بنص من القرآن، واحتجوا على ذلك بنص من السنة، احتجوا على آرائهم بنصوص، والنبي صلّى الله عليه وسلّم ثبت عنه كما في الصحيحين من أوجه متعددة أنه قال في الخوارج « يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ. أينما لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. فَإِنّ فِي قَتْلِهِمْ لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَجْراً عِنْدَ اللّهِ جل جلاله» ما سب ضلالهم؟ أنهم أخذوا المتشابه وتركوا المحكم، من الذي يعلم المتشابه من المحكم؟ من الذي يردّ المتشابه إلى المحكم؟ صحابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والخوارج لم يرجعوا إلى الصحابة، فصار استدلالهم بالمتشابه استدلوا بالقرآن وبالسنة وليس كل مستدل بالقرآن وبالسنة مصيبا وناجيا؛ بل لابدّ أن يكون استدلال بالقرآن وبالسنة راجعا إلى فهم أهل العلم الذين يُرجعون المتشابه إلى المحكم.(94/15)
إذا نظرت في الآراء المختلفة في أقوال المرجئة في أقوال القدرية كل يحتج بالقرآن والسنة؛ لكن هل احتجاجه بالكتاب والسنة على فهم السلف؟ هل هو على فهم الصحابة؟ هل هو على فهم أئمة الإسلام؟ لو كان على فهمهم لما حصل خروج عن الجماعة الأولى، و لكانت هذه الأمة جماعة واحدة لكن سبب الخلاف وسبب الفرقة الأخذ بالمتشابهات وترك المحكمات، لهذا من الأصول العظيمة في التقعيد أنْ تتبين المحكم من المتشابه، أنْ تضبط محكمات الشرع محكمات الدين، محكمات العقيدة، فإذا أتى آت بدليل آخر يخالف المحكم فلابدّ أنْ تسأل عنه؛ لأنك واقف على محكم واقف على دليل، على قاعدة ولا تخرج عنه إلاّ بشيء قوي من نص من الكتاب أو السنة أو تقعيد أهل الإسلام.
إذا نظرت في المحكم والمتشابه على هذا النحو فإنّك تتعجب أنْ كان في
كتاب الله وهو كلام الله جلّ وعلا الحكيم الخبير أنْ كان فيه ما يشتبه، أنْ كان فيه ما ضل بسببه بعض الناس، ما ضل بسببه أمم، ما ضلت بسببه فرق وجماعات ومذاهب متعددة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة، وهي الجماعة.»(94/16)
قال الشاطبي في الموافقات: إنه لا يعجز أحد أنْ يستدل على رأيه في مسألة من المسائل بالكتاب أو بالسنة، فهذه النصارى استدلت على رأيهم في أنّ بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم حق ولكنها مخصوصة بالعرب، بقول الله جلّ وعلا ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، وبقوله ?وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ?[الزخرف:44]، كذلك استدل من لم يحرم الخمر وقال: إنّ الخمر لم تحرم في كتاب الله جلّ وعلا استدل على ذلك بقول الله جلّ وعلا ?إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[المائدة:90]، فأمر بالاجتناب ولم يذكر التحريم نصا، كذلك استدل كما قال أهل الفرق المختلفة استدل الخوارج بما استدلوا به إلى آخر ما ذكرنا لك...
إذا كان هذا في الكتاب والسنة منه محكم ومنه متشابه، وإن اتباع المتشابه من الكتاب والسنة نوع من أنواع الزيغ الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم «إِذَا رَأَيْتُمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ, فَأُولَئِكَ الّذِينَ سَمَّى اللّهُ, فَاحْذَرُوهُمْ» فلأَنْ يقع التشابه في الكلام وفي الأقوال وفي الآراء وفي الأفعال، لأنْ يقع التشابه في أحوال الصحابة في أقوالهم وفي أفعالهم من باب أولى لأنه وقع التشابه في الكتاب وفي السنة، وقع التشابه أيضا في أقوال السحابة وفي أفعالهم، ووقع التشابه أيضا من باب أولى في أقوال وأفعال التابعين، ووقع التشابه ومن باب أولى في أقوال وأفعال الأئمة والعلماء، وقع التشابه ومن باب أولى في الذين صنفوا كتبا.
فإذن ليس النجاة وليست معرفة الحق في أنْ تجد قولاً مكتوبا في كتاب أو قولاً منسوبا إلى عالم، أو رأيا يستدل عليه صاحبه بالكتاب أو بالسنة أو بالسنة أو بأقوال بعض أهل العلم حتى يكون استدلاله موافقا للقواعد المحكمة التي قررها أئمة الإسلام.(94/17)
فإنّ هذه القاعدة وهي معرفة المحكم والمتشابه، وأنه لا فهم لأقوال السلف ولا نجاة ولا بُعد عن طريق الزائغين وطريق المخالفين حتى يكون ذهاب المرء إلى المحكمات من القواعد والأدلة دون المتشابهات.
القواعد من مزاياها أنها محكمة لأنها أمرٌ كلّي وضعه العلماء بالاستدلال بالنصوص المحكمة دون المتشابهة، أما أقوال أهل الزيغ، أقوال أهل الضلال فإنهم يستدلون بأدلة لكن هذه الأدلة معارَضة بمثلها، معارضة بغيرها، وأبلغ منه في البعد وأبلغ نه في البطلان أنْ يستدل بحال من الأحوال بفعل تابعي، بفعل مجموعة من التابعين بقول من أقوالهم، بقول وجده في كتاب، بقول وحده منسوبا إلى عالم ولو استدل عليه حتى يوافق ذلك النصوص من الكتاب والسنة، وما قعَّده أهل العلم من القواعد التي تعصم من أخذ بها من الخطأ في هذا الباب العظيم.
أيضا في الفقهيات المحكم والمتشابه هذا تنظر إليه في أبواب العقيدة وفي أبواب التعامل وفي أحوال كثيرة.(94/18)
إذا نظرنا في الفقهيات نأخذ مثالا لقاعدة تقعيدية في هذا البيان، وهذا التقعيد في الفقه الذي يضبط الذهن ويُخلص المرء في تقلبات الأحوال من كثير من الإشكالات أنْ تعلم أنّ الفقه هو العلم بالحلال والحرام من نصوص الكتاب والسنة وما فهمه الأئمة واستنبطوه من الأحكام، الفقه مرتبط بعضه ببعض، الفقه مبني بعضه على بعض، ففهم أحكام العبادات مبني على فهم القواعد، مبني على معرفة النصوص والأحكام في أبواب أخرى من الفقه، ويتأكد ذلك في بناء واعتماد الفقه بعضه على بعض إذا أتت النوازل؛ لأنّ النازلة قد يردها بعض الناس إلى دليلٍ؛ دليل واحد يردها بعض الناس إلى باب من أبواب الفقه، فيكون نظره فيها تارة مصيبا وتارة يكون النظر خاطئا، متى يكون خاطئا؟ إذا كانت المسألة لها صلة بأكثر من باب من أبواب الفقه، مسألة لها صلة بدليل، لها صلة باجتهاد، لها صلة بفهم لباب من الأبواب الفقهية، والفقه في النوازل مرتبط بعضه ببعض، لا يتصور أنْ يأتي احد ويفتي في نازلة عظيمة أو يحكم في واقعة أو يحكم في مسألة من المسائل التي تهم المسلمين وهو يعلم بابا من الأبواب، أو متخصص كما يقال في لغة العصر بأبواب البيوع مثلا أو المعاملات وتأتي نازلة من النوازل ويحكم فيها، الفقه الذي يحتاج إليه المجتهد ويفتي به في النوازل هذا مرتبط بعضه ببعض، فإذا أتي متجرد مثلا وتكلم في مسألة فقهية عظيمة ينبني عليها رأي، ينبني عليها اختلاف، ينبني عليها تفرق، ينبني عليها أنْ يتبعه منها أناس، أو يتبعه فيها فئات أو جماعات أو يتغير فيها حال بلد، أو ينبني عليها مواقف، أو ينبني عليها عمل وجهاد أو نحو ذلك، إذا تكلم في مسألة وهو يعلم منهاج السنة نفسه أنه لم يضبط الفقه كله فإنه قد جنى على نفسه؛ لأنه تكلم في هذه النازلة ببعض ما عنده من العلم وهو يعلم أنه لم يضبط هذا العلم كله.(94/19)
النوازل تحتاج في التقعيد من السائل والمسئول وتحتاج إلى التقعيد والمتبوع والتابع ومن الفرد ومن الجماعة إلى أنْ يكون الذي يتكلم فيها ضبط الفقه، والفقه متصل بعضه ببعض، لا يكون خبيرا في باب من الأبواب أو بابين أو ثلاثة؛ لأنّ هذا مرتبط بعضه ببعض، والفقه مبني على التقعيد فإذن يكون الارتباط بكلام الأئمة والعلماء وبالتقعيد وبالأدلة من الكتاب والسنة، ولو كان الناس كذلك لانضبطوا؛ لكن الجرأة والإعجاب وأسباب كثيرة جعلت المرء يتكلم ثم جعلت من يتبعه، ولا شك أنّ كل من عنده علم لابد أنْ يكون عنده نوع حجة ويكون عنده احتجاج؛ لكن الشأن ليس في وجود الاحتجاج، الشأن أن يكون الاحتجاج في المسائل الفقهية وفي المسائل الخلافية خاصة التي ينبني عليها آراء ومواقف وأحوال أنْ يكون الاحتجاج في نفسه سليما ثم أنْ يكون سالما من المعارضة؛ لأنّ كثرا من الاحتجاجات إذا نظرت إليها في نفسها تجد أنها سليمة، لكن إذا نظر إليها عالم، قال: هذا معارض بدليل كذا، هذا معارَضٌ بقاعدة كذا، هذا لا يستقيم لأنّ فيه كذا وكذا.
فإذن ليس الشأن في هذه الأبواب أنْ يتجرأ متجرّئ في تقعيد الفقهيات التي ينبني عليها المواقف والأحوال والآراء المختلفة، أنْ يكون علاما ببعض الفقه، عالما ببعض المسائل، عنده مراجعة فإنّ الفقه ملكه، لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم بطول ملازمة الفقه حتى يكون هذا الناظر وهذا الفقيه مجتهدا قد فهم أدلة الشرع وأمِنَ وأمِنَ هو أنْ يتكلم الشرع بهوى.(94/20)
وهذا لا شك أنه من الأصول المهمة، ونخلص منه إلى أنه الذي يحق له التقعيد في هذه المسائل ويُتّبع قوله هم المجتهدون، الذي يحق له ذلك هم أهل الاجتهاد لأنّ الفقه بعضه مبني على بعض وبعضه يقود إلى بعض، ولا يمكن أنْ يفرَّق بين كلام الله جلّ وعلا، ولهذا من تجرأ على كلام الله وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيعلم من نفسه أنه يعلم بعضًا دون بعض وترك التأني ولم يزدرِ نفسه في هذا الباب فإنه قد جنى على نفسه وليس بمعذور؛ لأنه علم نفسه وتجرأ وحكم على ما لا يسوغ له الحكم فيه. ([1])
التقعيد لفهم القواعد في الفقهيات له آثار.
من آثاره -وهذا للمثال وليس للحصر- ما يعلمه كل منكم من دخول كثير من الناس وخاصة بعض المنتسبين إلى العلم أو طلبة العلم دخلوا في مسائل التفسيق والتكفير والتبديع وجعلوا قواعد للتبديع ليست معروفة عند أهل العلم، ولهذا تجد أن أهل العلم يخالفونهم، استدلوا على ذلك التقعيد بأدلة وبأقوال لكن لِمَ لَمْ يستدل أهل العلم ولِمَ لم يفهموا تلك القواعد على نحو ما أورد أولئك؟ لأجل أن الفقه بعضه مرتبط ببعض، بعضه صلة لبعض، والتقعيد والعلم بعضه صلة لبعض، وأولئك أخذوا بعضًا وتركوا بعضًا، كذلك في مسائل التكفير تجد هذا يكفر وذلك لا يكفر ويأتي احتدام إما تكفير دول وإما تكفير أشخاص أو تكفبير علماء أو تبديع لأشخاص أو علماء أو طلبة علم أو دعاة أو تفسيق لهذا أو هذا ويختلف هذا مع هذا، وإذا نظرت إلى كلام أهل العلم وجدت أنه موافق للعلم منضبط لا اعتراض عليه، وهؤلاء يتجادلون فيما بينهم، وهذا يورد حجه وقاعدة وذاك يورد حجه وقاعدة، وسبب الخلاف فيما بينهم أنهم لم يرجعوا إلى تقعيد القواعد التي يتكلمون فيها ومن أهمها في هذه المسائل أنّ الفقه مبني بعضه على بعض، وأيضًا الفقه في بعض مسائله مبني على العقيدة، والعقيدة في مسائل التكفير مبنية على باب حكم المرتد، وباب الردة.(94/21)
فإذن هذه متصلة بهذه فالجرأة على التقعيد والجرأة على التطبيق يُسبب آثارًا من الخلاف وآثارًا من التفرق وآثارًا من الاستقلال بالآراء، هل يقال فلان له رأي هذا أخطأ فيه هو رأي هذا صحيح والأمر سهل لو كان هذا يرجع إليه ومقتصرٌ عليه لكن فيما نرى في هذا الوقت نجد أنه ليس الأمر كذلك، نجد أنّ كل من له رأي وله فهم لا بد أن تجد من يتبعه على ذلك، وهذا سبب لنا آراء كثيرة وفرق كثيرة وأقوال كثيرة، وهذا مما يجب أن يُدْرَأ وأن يجتمع أهل الحق وأن يجتمع المؤمنون، وطلاب الإصلاح، وطلاب الخير، وطلاب الدعوة، وطلاب الجنة، وطلاب الدار الآخرة أن يجتمعوا على كلمة سواء، وأن لا يسعوا في التفريق في زيادة الفرقة فيما بينهم بأن ينضبطوا في تقعيد قواعدهم وفي تقعيد كلامهم وفيما يأتون وفيما يذرون؛ لأنَّ مراد الجميع الخير وهداية الناس إلى الدين والإصلاح وإزالة المنكرات والأمر بالمعروف وفُشُوِّ الخير وزوال الباطل، وهذا إنما يكون بالاجتماع والائتلاف، وأما الفرقة فإنها مُفْرِحَةٌ للشيطان ومُحْزِنَةٌ لعباد الله المؤمنين.
في السلوك –هذا مثال يعني لتقعيد القواعد في العقيدة، مثال لتقعيد القواعد في الفقهيات-.
مثال لتقعيد القواعد في السلوك وقد ذكره بعضهم وهو: أن ينضبط ذهنك في التعامل والسلوك بأنه ليس كل قدح ولا كل مدح حقًا فلابدَّ إذن من التثبت، التثبت في القوادح والتثبت فيما يمدح به، كلمة للحافظ الذهبي الذي له من اسمه نصيب فقد قال فيه المُحَدِّث الطرابلسي وكان يسمع به ولم يره حتَّى قَدِمَ عليه دمشق ورآه قال في الحافظ الذهبي:
ما زلت بالسمع أهواكم وما ذكرت أخباركم قط إلاّ مِلْتُ من طرب
وليس من عَجَبٍ أن مِلْتُ نحوكم فالناس بالطبعِ قد مالوا إلى الذهب(94/22)
قال الذهبي رحمه الله تعالى: ما من إمام كامل في الخير إلاَّ وثمَّ أُناسٌ من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في التجهم والرِّفض والضلالة إلاّ وله أناس ينتصرون له ويذبون عنه ويدينون بقوله بهوىً وجهل، وإنما العبرة بقول الجمهور الخالين من الهوى والجهل المتصفين بالورع والعلم. انتهى كلامه رحمه الله ومأخذه في آخر كلامه من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في جنازة مُرَّ بها فأثنوا عليها خيرًا ومُرَّ بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرًا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجنازة الأولى التي أثنوا عليها خيرًا هي في الجنة، وقال في الجنازة الثانية التي اثنوا علينا شرًا هي في النار قال «أنتم شهداء الله في أرضه» من هم شهداء الله في أرضه؟ هم المسلمون المتمسكون بما كان عليه صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين خَلَوا من الهوى والجهل والذين اتصفوا بالورع والعلم، فهاتان صفتان أعدميتان وصفتان وجوديتان، أما الصفتان الوجوديتان فأن يكونوا متورعين وأن يكونوا علماء، يكون عن هم ورع وعندهم علم، من الناس من عنه ورع ولكن لا علم عنده فهل يقبل كلامه في الناس فبما يُقدح به في فلان ويُمدح من أجله لفلان، هل من عنده ورع بلا علم يقبل قوله في هذا؟ أما الصفتان الأعدميتان فأن يكون خاليًا من الهوى وخاليًا من الجهل، خالي من الهوى لأن الهوى يجعله يقدح فيمن ليس على طريقته، والهوى يجعله يمدح من كان على طريقته، فبإعجابه وهواه مدح وبإعجابه وهواه قدح وهذا يسبب خللاً في السلوكيات وخللاً في التعامل وخللاً في القلوب وخللاً في محبة المؤمنين بعضهم لبعض، وفي أمور كثيرة من الشرع تنبع من أهل الإخلال بهده القاعدة وهي قاعدة (أنه ليس كل قدح أو مدح حقًا) فلا بد إذًا من التثبت.(94/23)
ولهذا نقول لا بد أن يكون الناظر في المدح في القدح تابعًا للجمهور وهؤلاء الجمهور هم الذين اتصفوا بالعلم فالورع واتصفوا بالخلو من الهوى والجهل تجد من الناس متصف بالعلم وعنده ورع كلن عنده بعض هوى لذلك تجد أن في كلامه ما يخدش في كلامه ما لا يطمئن المرء معه أن هذا هو القول المنسوب لأئمة الإسلام أو للسلف الصالح، يكون عنده ورع ولكن ليس عنده علم، عنده علم وليس عنده ورع، وهكذا يكون عنده علم ويكون عنده جهالة ببعض الأشياء فيتسبب من أجل ذلك بما مدح وبما قدح في خلل في أذْهُنِ الناس وفي أذهُن وأفهام المسلمين.
فلا بدَّ إذن من أن يكون هناك تقعيد عام في مسائل النظر في المدح والقدح، وهذا الزمن كما ترون وتعلمون ما من إنسان وخاصةً من المشتهرين من طلبة العلم أو من العلماء أو من الدعاة أو من غيرهم إلاّ وله مادحٌ وله قادحٌ.
الإمام أحمد ثَم من قدح فيه حتّى قال الكرابيسي كلمته المعلومة في قدح من قدح في الإمام أحمد، كذلك الإمام الشافعي ثم من قدح فيه لكن الله جلّ وعلا أظهر فضائل أولئك وجعل قدح من قدح في أهل العلم الراسخين أمره راجع إليه وليس بذي صواب.
قدح ومدح، القدح له أسباب، ومدح المادح له أسباب، وهذه القاعدة أو تقعيد لقواعد التعامل (ليس كل قدح أو مدح حقًا) لا بدَّ أن نعرف لأسباب القدح يَقدح طالب علم في طالب علم؟ لِمَ يقدح مسلم في مسلم؟ لِمَ يقدح مؤمن في مؤمن؟ ما أسباب القدح عندهم؟ القدح له أسباب من الأسباب:(94/24)
?أن يكون هذا قرينًا لهذا، وكون هذا قرينًا لذاك يجعل القدح سهلاً؛ لأن القرين يكون مع مُنَافِسِهِ القرين في تنافس، فربما أراد أن يغلبه أو أن يكون مُقَدَّمًا عليه فجعله ذلك يقدح. الإمام مالك تكلم في ابن أبي ذئب، وابن أبي ذئب قال فيه الإمام مالك يستتاب مالك فإن تاب وإلاَّ قتل، الإمام مالك أحد أئمة الإسلام وابن أبي ذئب ثقة إمام وهذا إمام وهذا إمام بينهم وما بين الأقران، وقد قال ابن عبَّاس ما حاصله: إنَّ العلماء -أو قال نحوها- إن العلماء ليتنافسون أو يتحاسدون كما تنافس أوتحاسد التيوس في زروبها. وهذا ظاهر بيّن، فقد يكون قدح هذا في ذاك سببه أن هذا قرين لذاك، والمؤمن المسدَّد الورع يحب من ينصر دين الله، يحب من يقول الكلمة ولو كان ما معه إلاَّ واحد أو ليس معه أحد، وذاك معه أمم من الناس، المهم أن يكون دين الله جلّ وعلا منصورًا وأن تكون الكتاب والسنة منشورًا بين الخلق، ليس المهم أن يكون هذا أكثر أو أنا عندي أكثر، وذاك أفرح يخطئه، بل أفرح بصوابه ولو لم يكن معي أحد، وأحزن لخطئه ولو كان معي أمة من الناس، لهذا من أسباب القدح أن يكون هذا قرين لذاك.
? من أسباب القدح الحسد، والحسد نهى الله جلّ وعلا عنه وهو يأكل الحسنات كما جاء في الحديث، قال جلّ وعلا ?أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ?[النساء:54-55]، وقد قال عليه الصلاة والسلام «إيَّاكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».(94/25)
الحسد ما سببه؟ سببه أنه حسد هذا وتمنى زوال نعمة الله عليه لشيء في صدره عليه، وحقيقة الحسد أنه عدم رضى بفعل الله، عدم رضى بقضاء الله جلّ وعلا، من أعطى ذاك؟ من الذي أعطاه الفضل؟ من الذي أحسن إليه؟ من الذي جعله هاديًا للناس؟ من الذي جعله كذلك وأمده بمال؟ وأمده بسمعة حسنة؟ الذي أمده بذلك هو الله جلّ وعلا، فإذا حسدته فتكون في الحقيقة معترضًا على فضل الله الذي يؤتيه من يشاء.
? من أسباب أيضًا القدح التحزّبات المختلفة، هذا من فئة وهذا من فئة، وهذا يقدح في ذاك وهذا يقدح في ذاك؛ لأجل حزبه وفئته.
? من أسباب القدح أيضًا أن يُقدح في عالم يُقدح في إمام لأجل إسقاطه، وإذا أسقط كان ثم هدف من وراء إسقاطه، فإذا قُدح في عام فزال ذلك العالم، كان السبيل لهذا أن يأتي ويقرر للناس ما يريد فيكون بعد ذلك سائرًا.
من أسباب القدح في العلماء أو من أسباب القدح في الموجّهين أن يكون لذلك القادح هدف يسعى من ورائه بعد القدح إلى إسقاط ذلك، وإذا أسقط هذا المقدوح وهو المشهود له بالخير وتفرق الناس عنه لم يكن موجهًا ولم يسمع الناس كلامه، فخسر الناس وخسر الدين ناصرًا من أنصاره.
المدح أيضًا له أسباب: من أسباب المدح الذي يكون تارة بحق وتارة بغير حق:
? من أسباب المدح زيادة الإعجاب: يعجب بشخصية، يعجب برجل فيكون إعجابه هذا سببًا لأنْ يمدحه بدون استثناء، يملك عليه قلبه، يملك عليه مشاعره حتَّى يكون هو الكامل الذي لا عيب فيه، هذا الإعجاب يجعله يمدح بإطلاق ولا يرى عيوبه كذلك.
? كذلك من أسباب المدح الزائد أو غير الحق، تارة يكون حقًا وتارة يكون على غير الحق، من أسباب المدح التحزبات أيضًا والجماعات المختلفة والآراء المختلفة، يمدح لكي يظهر هذا فيقبل الناس عليه لأنه من الفئة الفلانية، يمدح آخرلم؟ لأنه من الفئة المقابلة.(94/26)
والقاعدة التي تضبط لك هذا (أن ليس كل قدح أو مدح حقًا) فلا بدَّ أن تتثبت والوَرِع يتخلص من الهوى، يتخلص من أن يرى بقلبه، بل تنظر بالعلم، تنظر في هذا في المقدوح فيه وفي الممدوح تنظر فيه بعلم، والموازنة في هذا الأمر بأن تكون مع نفسك متحرِّيًا للحق طالبًا الصواب، وألاَّ تكون ذي هوى لا على هذا ولا على ذاك؛ بل نتج من جراء إهمال هذه القاعدة أن كان من يتوسط فلا يمدح بإطلاق ولا يقدح بإطلاق كان متهمًا من الفئتين، لا هؤلاء يرضون عنه يعني المادحين ولا القادحين يرضون عنه، وكلٌ كان مدحه أو قدحه متجاوزًا للحد أو ليس بدقيق في وصف من وصفوه، ويكون فيه نوع فيه خير وفيه غير ذلك، والمؤمن إذا كانت حسناته كثيرة وكانت سيئاته قليلة فإنه هو المسدَّد كما قال بعض أهل العلم: إذا زادت حسنات الرجل وقلَّت سيئاته فهو العَدْل.
من ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المرءَ نُبلاً أن تعدَّ معايبه
هذا من جهة ما يقوم بقلبك يعني من القدح أو المدح، أما من جهة التعامل فقد أوضحنا أنواع التعامل في الدرس الماضي.
هذه نتيجة لعدم رعاية هذا الأصل، وهو أن طائفة جعلوا المدح حقًا جميعًا، وطائفة أخرى جعلت المدح غير حق والقدح هو الحق، وهذا فيه عدم دقة وأولئك فيهم عدم دقة، والصواب أن ينظر يعني الورع، ويكون المرء في نفسه ما دل عليه الشرع، فمن وافق الشرع فهو المحمود ومن خالف الشرع فهو المذموم.
ومن قواعد أهل السنة أن المؤمن يجتمع فيه موجب المحبة ويجتمع فيه موجب عدم المحبة؛ لأنه إن أصاب وسدَّد فهو يحب فيما أصاب فيه وسدد، وإن ضل أو عصى أو خالف الحق عامدًا عالمًا بذلك أو عُرِّف به ولم يرجع فإنه يجتمع فيه هذا وذاك فيكون محبوبًا من جهة غير محبوبٍ من جهة.
والتوسط هو شعار هذه الشريعة وشعار هذا الدين وأن هذا الدين وسطا بين الأديان السالفة وهذه الطائفة أهل السنة والجماعة وسط بين الطوائف المختلفة.
خاتمة لهذا الموضوع(94/27)
أمثلة لتطبيق بعض القواعد خطئًا.
بعض القواعد العامة نمثل لتطبيقهًا خطئًا، وثمَّ عدة أمثلة لكن نذكر منها مثالين:
الأول: قاعدة: الجماعة ما وافق الحق وإنْ كنت وحدك. هذه قاعدة عامة قالها ابن مسعود رضي الله عنه وأهل العلم تتابعوا عليها.
هذه القاعدة منها دُخِل إلى أن المرء إذا تبنّى فكرة أو قولاً واقتنع به فإنه ينظر إلى المخالفين الكثير ويقول أنا على الحق، ودليل ذلك أننا قليل، وأما المخالفون فهم كثرة ودليل باطلهم أنهم كثير، وقد قال ابن مسعود: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
لا شك أن العبرة ليست بالكثرة بل العبرة بموافقة الحق، قد تكون موافقة الحق من قلة وقد تكون موافقة الحق من كثرة، ففي أول الإسلام كانت موافقة الحق من قلة، ثم لما انتشر الإسلام كانت موافقة الحق من كثرة.
فإذن ما جاء في النصوص في ذم الكثرة ومدح القلة كقوله تعالى ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[الأنعام:116]، وكقوله ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106]، وكقوله جلّ وعلا وعلا ?وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ?[هود:40]، وغير هذا من النصوص التي تدل على مدح القلة، هذا لا يدل على أن القلة محمودة دائمًا بل كما قال ابن مسعود في هذه القاعدة العظيمة (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك) الجماعة العبرة فيها ما وافق الحق، وأي حقٍ هذا؟ هو الحق الذي دلت عليه القواعد التي استدل عليها أئمة الإسلام بالنصوص من الكتاب والسنة، هذا هو الحق، أما مجرد القلة فإنه قد يكون المرء انفرد وكان أصحابه قليل ويكونون شُذَّاذًا، وقد يكون في زمن من الأزمة أو في مكان من الأمكنة يكون أهل الحق الذين هم على الصواب قليلاً، فلا بدَّ إذن من رعاية القواعد الشرعية التي بها نطبق هذه القاعدة.(94/28)
مثال ثاني: وأخير للتطبيق الخطأ أو لذكر بعض القواعد خطئًا القاعدة المستنبطة من قول الله جلّ وعلا ?وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى?[الأنعام:152]، ومن قوله جلّ وعلا ?وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:8]، العدل أمر الله جلّ وعلا به ?إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى?[النحل:90]، ويتصل بذلك ما جعلت قاعدة وهي أن السلف لا يوازنون بين الحسنات والسيئات وأن السلف إذا كان عند الرجل سيئة فإنهم لا ينظرون إلى حسناته، وهذا التقعيد من أن العدل مأمور به ومطلوب هذا أمر معلوم وهو أصل من أصول الدين وليس قاعدة فحسب؛ بأصل من أصول الدين، والعدل مطلوب في لفظك وفي قولك وفي أقوالك لأن السموات والأرضين ما قامت إلاّ بالعدل والله جلّ وعلا حكم عدل لا يرضى بالظلم وحرم الظلم عن نفسه وجعله بين العباد محرمًا، يظلم المرء غيره ويتخذ غير سبيل العدل في قوله في عرضه في رأيه له إلى آخر وذلك.
مسألة الموازنة أيضًا بين الحسنات والسيئات وربطها بالعدل هذا التقعيد وهذا الربط ليس بدقيق؛ لأن قاعدة الموازنة بين الحسنات والسيئات تارة تكون حقًا وتارة تكون مردودة، فيُرَدّ أن يوازن بين الحسنات والسيئات في مسائل ويقبل أن يوازن بين الحسنات والسيئات في مسائل، ولهذا من رأى طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية وجد أنه ذكر الحسنات والسيئات في مسائل معلومة موجودة وفي حكمه على بعض الفئات حتّى بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، ولم يأخذ بهذه القاعدة في مسائل، فجعلها قاعدة مطردة هو مما افتقر إلى تنظيم وتأصيل متبعًا في طريقة السلف الصالح وكان فيها نوع عدم استقراءً كامل لذلك فحصل منها الخلل.(94/29)
نعم لا يوازن بين الحسنات والسيئات إذا كان المقام قام رد على المخالف، مقام رد على مبتدع، مقام رد على ضال؛ لأنك إذا ذكرت حسنات ذلك المردود عليه أو ذلك الضال أو ذلك المبتدع أو ذلك الظالم ذكرت حسناته في مقام الرد عليه فإنك تغري، وفي هذا المقام إنما يذكر ما عنده من الأخطاء أو السيئات ويرد عليه فيها؛ لأنّ القصد نصيحة الأمة وذكر الحسنات في هذا المقام إغراء به.
وفي المقابل أو في الحالة الأخرى أن الحسنات والسيئات تذكر إذا كان المقصود تقيم الحالة، المقصود تقيم الشخص، المقصود تقيم المؤلَّف، المقصود تقييم الكتاب، المقصود تقييم فئة إلى آخر ذلك.
فالأخذ بهذا والتقعيد له عامة ونسبة ذلك إلى السلف بإطلاق ليس بدقيق لا في هذه الجهة ولا في تلك الجهة، وتحتاج المسألة هذه وغيرها من المسائل التي يقعد منها أن تُعرض على أهل العلم كغيرها من التقعيدات الحاضرة؛ لأني ذكرت لكم في المقدمة أن التقعيد لا بد أن يكون من الراسخين في العلم حتَّى لا يحصل خلل في الأمة خلل في الفهم أو خلل في التصورات.
هذا وأسأل الله وجل وعلا أن ينفعني وإياكم بما ذكرنا وأن يغفر لي زللي وخطئي وخطلي وكل ذلك عندي، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والهداية، وأن يجعلنا من المتبعين لسلفنا الصالح المبتعدين عن طرق أهل الضلال والخلاف وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[أسئلة والجواب عنها] هذه بعض الأسئلة:
س1/ هل خلاصة القول أن تُقدَّم دراسة القواعد والأصول الفقهية على دراسة الفقه كما هو الحاصل في غالب من يطلب العلم؟
ج/ الجواب: أن دراسة الفقه والتوحيد بهما ينجو المرء، أما دراسة القواعد فإنما يحتاج إليها المجتهد، والقواعد كما ذكرنا منها قواعد عامة وقواعد خاصة في الفقهيات، وهذه صَنعة المجتهدين أو صنعة طلبة العلم المتقدمين، وهناك قواعد عامة تضبط السلوك، تضبط التعاملات، تضبط التعامل مع أهل العلم، تضبط القراءة إلى آخر ذلك.(94/30)
فهذا هو الذي يَحسن بطالب العلم أن يتتبّعها لأنها تضبط عقله وتصرفاته من أول طريقه في طلب العلم، أما العلم النافع كما قال ابن القيم:
والعلم أقسام ثلاث مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله ونعته
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
فالعلم النافع التوحيد والفقه؛ يعني الحلال والحرام وعلم الجزاء وما يحصل يوم القيامة، هذه هي العلوم النافعة.
فتركيز طلاب العلم عن الفقه والتوحيد هذا لا شك أنه هو الذي به تصح قلوبهم وتصح عباداتهم.
س2/ يقول أنا شاب وعندي همة ورغبة في طلب العلم، ولكن لا أعلم ما هي الطريقة الصحيحة التي يسير علها الإنسان إذا أراد طلب العلم، أرجو منك توضيح ذلك لي ولغيري إلى آخره؟
ج/ طلب العلم من الأمور المهمة؛ لأنه يحصل المرء على فضيلة العلماء وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء، وهذه الفضيلة لأجل العلم ولطلبة العلم، «وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ»، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
طريقة طلب العلم تحتاج إلى تطويل وإلى كلام مفصل؛ لكن ثَم كلمة سبق أن ألقيتها بعنوان المنهجية في طلب العلم، وهي موجودة مسجلة، وحبذا إن شاء السائل أن يراجعها أو يراجع غيرها من الكلمات التي فيها بيان الطريقة المرحلية لطلب العلم وتأصيل الطالب.(94/31)
س3/ من خلال الحديث في الدرس السابق عن معاملة الوالدين، فهناك مشكلة تواجهني وهو عندما تحصل مناسبة زواج لأحد الأقارب يكون في هذه المناسبة بعض المنكرات الظاهرة كالغناء والرقص ولبس القصير وغيرها من الأمور الأخرى، فاضطررت من منع زوجتي من الحضور إلا أن والدتي أقامت الدنيا ولم تقعدها؛ لماذا تمنع زوجتك من ذلك؟ فأوضحت لها، ولكنها لم تقتنع من ذلك، وعللتْ بأنّ الناس جميعهم يفعلون ذلك، سؤالي: هل عملي هذا صواب أولا، وكيف أعمل مع والدتي وما الأساليب المناسبة في ذلك؟
ج/ إذا كان حضور مثل هذه الدعوات؛ الدعوات الواجبة التي هي وليمة العرس، إذا كان حضورها فيه منكرات إذا كان حضورها فيه فعل العبد بعض المنكرات كسماعه للغناء أو رؤيته لبعض المنكرات ولا يستطيع إنكارها، فيجمع بين الأمرين بأن يحضر ثم ينصرف، وهذا الذي كان يعمله الإمام أحمد ويعمله غيره من السلف؛ في أنهم إذا دعوا إلى دعوى واجبة حضروا وإذا رأوا منكرا أنكروا وانصرفوا، فهذا يكون فيه إجابة الدعوة الواجبة ويكون فيه أيضا إنكارا للمنكر ثم انصراف ويكون معذورا.
وحق الوالدة لاشك أنه عظيم وتجب طاعة الوالدين في غير معصية الله تعالى، الذي ينبغي على هذا السائل أن يقنع والدته وأن يجعل زوجته ووالدته في أحسن تعامل، وأن يحيل بأمر المنع إليه لا إلى زوجته لأجل أن يحصل الائتلاف؛ لأنه غالبا الوالدة لا تغضب على ولدها أولا تقاطع ولدها، وأما زوجة الولد فإنه كثيرا ما تحصل بينها وبين أم الزوج كثيرا من الخلافات فيرجع المنع إليه ويقول ستذهب إذا رأت منكرا فإنها تتصل بي وآتي لآخذها من هذا المكان، يكون فيه جمع ما أمر به شرعا وترك ما حظر شرعا.(94/32)
س4/ يقول: ذكرتَ أن الذي يحكم في النوازل لابد أن يكون مُلمًا بالفعل بأكمله من أوله إلى آخر بسبب ارتباط بعضه ببعض، مع أننا نجد بعض الأبواب لا ارتباط بعضه ببعض مع أننا نجد بعض الأبواب لا ارتباط لها البتة بأبواب أخرى، وقد ذكرت بعض المحققين من الأصوليين أن الاجتهاد يتجزأ، فيكون مجتهدًا في باب دون باب آخر وهكذا، وقد ورد عن بعض الأئمة الذي لا يشك أحد في إمامتهم واجتهادهم أنهم سئلوا عن بعض المسائل فقالوا لا ندري، كما ورد عن مالك وغيره، فكيف نوفق بين هذا وبين ما ذكرت؟
ج/ هذا السؤال كنت مستحضرًا له حين كلامي عن المسألة، ولهذا قيدت ارتباط الفقه بعضه ببعض بالإفتاء في النوازل، أما في غير النوازل؛ يعني فيما يعرض كثيرًا ويتردد فيكون من أحوال الناس المعتادة فهذا كما قيل الاجتهاد يتجزأ؛ يعني من ضبط أبواب الطهارة فإنه يجيب عن مسائل الطهارة، أو من ضبط أحكام النكاح والطلاق والعدد والنفقات إلى آخره يتكلم في الأحوال الشخصية وأحوال البيوت، ومن ضبط مسائل البيوع يتكلم في البيوع؛ لكن إذا كانت المسألة نازلة بالأُمّة كالنوازل التي يحصل معها تغير من الأحوال وتقلب في الآراء يتوقع معها تفرق الناس فإنّ الذي يحكم في هذه النوازل خاصة إذا كان فيها حكم على فئة أو حكم على طائفة أو فيها إقرار شيء أو منع شيء أو نحو ذلك -النوازل العظيمة- هذه متعلقة بأهل العلم الراسخين فيه المجتهدين الذين استحضروا الفقه وربطوا بعضه ببعض واستحضروا القواعد والأصول العقدية وما قاله الأئمة.
فكلامي ليس معارضًا لما هو متقرر عند الأصوليين وهو صواب، وهو أن الاجتهاد يتجزأ وأن المرء يمكن أن يجتهد في مسألة لاسيما في باب من الأبواب ولا يجتهد في الباب الآخر لضبطه هذا الباب؛ لكن المسائل النازلة التي تتعلق بالأمة، فكما قال عمر رضي الله عنه: كانت تنزل به النازل فيجمع لها أهل بدر.(94/33)
س5/ كيف يجمع المرء بين طلب العلم والأهل من ناحية الوقت، وأيهما أولى في ذلك؟
ج/ لا شك أن الواجب مقدم على النفل, بعض العلم واجب فرض عين ما تصحح به عقيدتك وهو أجوبة الأسئلة الثلاثة –ثلاثة الأصول- من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ تعلم ذلك بأدلته هذا فرض عين على كل مسلم, لابد أن يتعلمه ولو فرط في بعض حقوق الأهل.
كذلك عي الفقه ما تصح به عباداتك, ما تصح به صلاتك, إذا كان صاحب مال كيف يزكي والنصاب إلى غير ذلك، هذا واجب تعلمه.
فإذا كان العلم واجبا فهو مقدم على النفل, أما إذا كان العلم نفلا وكان هناك واجبات معارضة للنفل فإنه يقدِّم الواجب مثل حق والديه ومثل حق أهله وزوجته وأولاده، فإنه لا يفرط في هذا الحق الواجب لأجل تحصيل نفل من النوافل.
الناس مختلفون منهم المشغول، ومنهم من يعتمد عليه أهله، ومنهم من يكون الاعتماد عليه متوسطا؛ يختلفون، والواجب أن يقدم المرء الواجبات، والنوافل هي تلوى الواجبات، وما تقرب إلى الله جل وعلا بشيء هو أحب إليه ما افترضه الله سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث الصحيح «ما تقرّب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افتَرَضْته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحبه» يعني بعد الواجبات، فلابد -من المهمات- أن تقدم الواجبات على النوافل، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إِنّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّا، إِنّ لِنَفسِكَ عَلَيْكَ حَقّا, وَلِرَبّكَ عَلَيْكَ حَقّاً َأَعْطِ كُلّ ذِي حَقٍ حَقّهُ»، فالواجبات كثيرة تؤدي الواجبات، والنوافل تقدم عليه الواجبات، ولا يُفقه تطبيق ذلك إلا بالمِران وتقديم واجبات الشرع على ملذات النفس.(94/34)
أبعد من ذلك بعض الناس يذهب إلى نوافل ليس إلى واجبات؛ بل إلى مباحات ويفرط في واجبات، يذهب في سهر متنوع ويترك أهله، يترك واجبات مطلوب منه أن يفعل كذا، والده كبير في السن يتكلف لو فعل الفعل وذاك يذهب للقيل والقال أو فيما يؤنس نفسه، ليس في فعله لا آتٍ بفرض ولا نفل ومع ذلك يفرط بواجبات.
لاشك أن كثير من مشاكل الناس ومخالفاتهم للشرع كثير من المشاكل والشكوى التي تحصل من الأهالي على الأبناء، من الآباء على الأبناء، ومن الزوجة على الزوج، ومن الزوج على زوجته هو من الإخلال بأداء الواجبات وتقديم الواجب على المستحب فضلا على المباح.
س6/ الأخير قال: كيف يجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم «يَئِسَ الشّيْطانُ أنْ يَعْبُدَهُ المسلمونَ, وَلَكِنْ في التّحْرِيش بَيْنَهُمْ» مع أنه قد حصل الشرك في هذه الجزيرة والشرك اتباع للشيطان، أفتونا جزاكم الله خيرا.(94/35)
ج/ الجواب أن هذا الحديث رواه مسلم في الصحيح «إِنّ الشّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» خلاصة جواب أهل العلم أنه أيس لم يؤيَّس, أيس هو لما رأى انتشار الإسلام وقوة الإسلام وأهل الإسلام, أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب, لكم لم يُؤيسه الله جل وعلا من ذلك، فيأسه من عبادة المصلين له في جزيرة العرب لما شاهده من قوة الإسلام وقبول الناس للحق، والله جل وعلا لم يؤيسه، ولهذا لما وجد له كرة أخرى نشط وعاد للدعوة إلى الشرك وتحبيب عبادة غير الله للناس، فحصل رجوع الناس لعبادة غير الله، والشيطان فرح بذلك لأنه أيس أول مرة ولكنه لم ييأس بعد ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إِنّ الشّيْطَانَ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ – في لفظ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ –الْمُصَلّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ», قال بعض أهل العلم في قوله (الْمُصَلّونَ) تنبيه إلى أنه الذي لا يضره الشيطان الذي يوصف بأنه من المصلين الذين قال جل وعلا فيهم ?إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ?[المعارج:22-23]. ولتمام البحث في ذلك موضع آخر إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
فرّغ هذه المادة: www.alsalafia.com
وحاول تنظيمها: سالم الجزائري
---
([1]) انتهى الوجه الأول من الشريط.(94/36)
كيفية دراسة الفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفية دراسة الفقه/ لفضيلة الشيخ صالح آل الشيخ.
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه و على آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أسأل الله جلّ وعلا لي ولكم التوفيق للصالحات والسداد في القول والعمل. والإصابة في كل حال وأسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يمن عليه بالعلم النافع والعمل الصالح وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، لا حول لنا ولا قوة إلا به سبحانه، اللهم وفقنا للصالحات، ومُنّ علينا بما تحب وترضى.
أما بعد:
فنذكر مقدمة في كيفية الاستفادة من كتب الفقه، وكيف يدرس طالب العلم الفقه على أنجح السبل.
أولاً : الفقه من حيث مسائله:
منه المسائل التي كانت واقعة في زمن النبوة فنزلت فيها آيات أو آية فأكثر وبيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، فهذه مسائل منصوص على حكمها وفي الغالب تكون النصوص الدالة على ذلك ظاهرة في المعنى، ومنها ما هو قابل لاختلاف المجتهدين في فهم دلالة النصوص على تلك المسائل.
ومنها مسائل وقعت بعد زمن النبي عليه الصلاة والسلام وهذه المسائل احتاج إليها الناس لتوسع البلاد الإسلامية، ومخالطة العرب لغيرهم ومعلوم أن طبيعة أهل مكة والمدينة وأهل الجزيرة ليست هي طبيعة أهل الشام والعراق وأهل فارس وأهل خراسان وأهل مصر، فطبائع مختلفة في الحالات الاجتماعية في المساكن فيما يستخدمون في الوقت في الجوّ إلى آخره، فظهرت مسائل احتاج إليها الناس يسألون عنها الصحابة رضوان الله عليهم.(95/1)
وهذا هو القسم الثاني، وهي المسائل التي اجتهد فيها الصحابة رضوان الله عليهم، واجتهاد الصحابة في هذه المسائل كان مبنياً إما على دلالة نص في ادخال مثلاً المسألة في عام، أو في الاستدلال بمطلق على هذه المسألة أو بالاستدلال بقاعدة عامة دلّ عليها دليل في هذه المسألة نحو القواعد المعروفة كرفع الحرج والمشقة تجلب التيسير والأمور بمقاصدها، ونحو ذلك من القواعد العامة.
وهناك مسائل اجتهدوا فيها والاجتهاد كان على غير وضوح في الدليل يعني يُستدل له ولكن قد يُستدل عليه وهذا ظهر وظهرت الأحوال المختلفة بين الصحابة بقوة في هذا الأمر فهذا النوع مما دُوِّن بعد ذلك في أقوال الصحابة وصارت المسألة عند الصحابة قولين أو أكثر من ذلك من مثل حكم الصلاة في الجمع بين الصلاتين للمطر، هل يقتصر فيها على المغرب والعشاء أم يلحق بها أيضاً الظهر والعصر ومن مثل الكلام في الأقراء هل هي الطهر أم الحيضات، ونحو ذلك من مسائل اختلف فيها الصحابة وهذا من نوع الاختلاف الذي له دلالته في النصوص.
هناك مسائل كما ذكرتُ لكم ظهرت مثل استخدام مصنوعات أو أطعمة، مِثل الكفار التي قد يستخدمون في صنعها بعض الأمور مثل أنفحة الميتة ونحو ذلك، هذا ما ظهر إلا لما دخل العراق ظهر مثل هذه المسائل مثل بعض الألبسة الخاصة التي كانت عندهم مثل الحمام، ودخول الحمام، وهو بيت الماء الحار الذي كان في الشام ونحو ذلك.(95/2)
وكذلك مثل أنواع من البيوع لم تكن معروفة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أُحدثت بعد ذلك، وأمثال هذا كثير مما فيه الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم، هذا الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم غالبه مسائل اجتهاد، وقليل منه مسائل خلاف، والفرق بينهما أنّ المسائل المختلف فيها تارة تكون مسائل اجتهاد وتارة تكون مسائل خلاف فيُعنى بمسائل الاجتهاد ما لم يكن في الواقعة نصٌ فاجتهد هذا الاجتهاد، ويُلحق به ما كان فيها نص، ونعني بالنص ما كان فيها دليل من الكتاب أو السنة، لكن هذا الدليل يمكن فهمه على أكثر من وجه، فاجتهد في المسألة ففهم من الدليل كذا وفهم آخر من الدليل شيئاً آخر مثل { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } هنا هل القرء هو الطهر أم هو الحيضة؟ هذه تدخل في مسائل الاجتهاد الذي لا تثريب على المجتهدين فيما اجتهدا فيه.
القسم الثاني: مسائل الخلاف وهو وجود خلاف في بعض المسائل وكما ذكرت لكم كان نادراً عند الصحابة رضوان الله عليهم والخلاف ما يكون اجتهد برأيه في مقابلة الدليل مثل ما كان ابن عباس رضي الله عنه يفتي في مسألة الربا بأنه لا ربا إلا في النسيئة وأنّ التفاضل في الربويات ليس من الربا، وإنه ليس ثم أصناف ربوية، لكن النسيئة (التأجيل) أما التفاضل بين نوعين مختلفين مما هو معروف بربا الفضل فإن هذا لا يعده ربا، هذا اجتهاد في مقابلة النص.(95/3)
كذلك إباحته مثلاً في زمن طويل كثير من عمره رضي الله عنه نكاح المتعة وظنه أنّ هذا ليس بمنسوخ ونحو ذلك، وغير هذا من المسائل التي جاء فيها دليل واضح، هذه تسمى مسائل خلاف وهذا يكون الخلاف فيها ضعيفاً ولا يجوز الاحتجاج بمثل هذا، لأن المجتهد من المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم قد يجتهد ويغيب عنه النص يغيب عنه الدليل أو يكون له فهم ولكنه معارض بفهم الأكثرين، فهذه هي التي يسميها أهل العلم ويخصها شيخ الإسلام ابن تيمة بالذكر بأنها (مسائل خلاف) ومسائل الخلاف غير مسائل الاجتهاد، قالوا وعليه فأن المقالة المشهورة (لا انكار في مسائل الخلاف)، وتصحيحها : (لا انكار في مسائل الاجتهاد ) ونفى بمسائل الإجتهاد المسائل التي حصل فيها خلاف، وللخلاف حظٌ من النظر للخلاف حظ، من الأثر حظٌ من الدليل.(95/4)
أما إذا كان القولان: أحدهما مع الدليل بظهور والآخر ليس كذلك فإنا نقول: ليس هذا من مسائل الاجتهاد، بل من مسائل الخلاف، والخلاف منهيٌ عنه، والعالم إذا خالف الدليل بوضوح فيقال هذا اجتهاده وله أجر، لكنه أخطأ في هذا الأمر، ولا يعوّل على اجتهاده في مقابلة النص، هذه الأقوال أيضاً كثرت في زمن التابعين وزمن التابعين كانت الحاجات تزيد في وقائع جديدة وكثرت الفتوى بناء على ما استجد من الواقع على نحو ما ذكرت من استدلالهم بالكتاب، استدلالهم بالسنة، استدلالهم باجماع الصحابة ونتجت هناك أقوال في مسائل في التابعين، ومن المتقرر أن المسألة إذا كانت بعينها في زمن الصحابة، فإن احداث قول زائد على أقوال الصحابة يعد هذا من الخلاف الضعيف، يعني إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة على قولين، فإن زيادة التابعي بقول ثالث، فإن هذا يعد ضعفاً يعني يعدّ من الخلاف الضعيف عند أكثر أهل العلم، ذلك لأنه يكون القول الثالث فهمٌ جديدٌ للأدلة فهم زائدٌ على فهم الصحابة للأدلة، وإذا كان كذلك كان مقتضى أن الصحابة رضوان الله عليهم قد فاتهم فهم قد يكون صواباً في الآية ، وهذا ممتنع لأن الصحابة رضوان الله عليهم الفهم الصحيح للآية عندهم ولم يدخر لسواهم من الفهم الصحيح ما حجب عنهم بل الخير فيهم، فهم أبرُّ الأمة قلوباً وأعمقها علوماً وأقلها تكلفاً كما ذكر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه، يجتهد التابعي في مسألة نازلة جديدة اختلفت في حيثياتها عما كان في زمن الصحابة رضوان الله عليهم ظهرت هناك أيضاً مسائل جديدة حتى جاء في القرن الثالث للهجرة فدونت الكتب لما دونت الكتب كان تدوين الكتب على نوعين:
كتب للأثر ، وكتب للنظر وللرأي.(95/5)
أما الكتب للأثر فهي الكتب التي يصنفها أئمة الحديث والفتوى يجعلون باباً للطهارة وباباً للآنية وباباً للجلود وباب خاص لجلود السباع مثلاً جلود ما يؤكل لحمه ... الخ. ويأتون بالآثار في هذا كما صنع ابن أبي عروبه وعبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة وغير هؤلاء كثير، وكما صنع أيضاً مالك في الموطأ وجماعات هذا نوع، وهو العلم الذي نقل فيه هؤلاء الأئمة أقوال من سبقهم في الأحكام، وهذا لما صُنف صار أئمة الأثر والحديث يدورون في المسائل حول أقوال المتقدمين من الصحابة والتابعين، ومن اشتهر بالفقه ممن بعدهم يدورون حول هذه الأقوال.(95/6)
والقسم الثاني من الكتب هي كتب الرأي، ويعنى بكتب الرأي الكتب التي تعتمد في الأحكام على الأقيسة، وهذا مبني على مدرسة كانت في الكوفة ، وهي مدرسة أهل الرأي من مثل حماد بن أبي سليمان، قبل إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وكذلك في المدينة مثل ربيعة الرأي شيخ مالك ونحو ذلك ظهرت كتب لهؤلاء ولمن بعدهم ممن تبعهم هذه معتمدة على الأقيسة وعلى القواعد العامة فيفرعون الأحكام على الأقيسة والقواعد، لاحظ أنَّ هذه هي التي عناها أهل العلم بالأثر وأهل الحديث بالذم، إيّاكم وكتب الرأي، أياكم وأهل الرأي، فإنهم اعيتهم الآثار أن يحملوها فذهبوا إلى الرأي ونحو ذلك، لأنه يستدلون بالقياس وبالقواعد، ويقدمونها على الآثار، وهذا لا شك أنه ليس بطريق سويّ، وذلك لأن أولاً من حيث التأصيل أولئك جعلوا القياس أصحّ من الحديث، ويقولون القياس دليله قطعي، القاعدة دليلها قطعي، طبعاً القياس حينما نقوله هو أعم من خصوص ما عليه الاصطلاح الأخير، يعنى بالقياس ما يدخل فيه تحقيق المناط، يعني القواعد التي تدخل في العبادات والمعاملات، فيستدلون بأدلة قطعية على القواعد، فإذا أتى دليل يخالف القاعدة يقولون هذا حديث آحاد فلا نقدمه على الأقيسة، يقدمون مثلاً القياس على الحديث المرسل، يقدمون القياس على الحديث المتصل إذا كان لا يوافق القواعد، وهكذا فظهر عندهم خلاف للآثار وهذا الذي عناه السلف بذلك، وهم لهم أصولهم فالحنفية مثلاً عندهم أصول الفقه التي تخالف أصول أئمة الفقه الذين هم من أهل الحديث مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين في أنحاء كثيرة في أبواب كثيرة، مثلاً عندهم أنّ العام أقوى من الخاص، فعندهم أن دلالة العام على أفراده قطعية إذا كان الدليل قطعياً.(95/7)
وأما دلالة الخاص على ما اشتمل عليه من الفرد يعني من المسألة الخاصة فهذه دلالتها ظنية فيجعلون العام مقدماً على الخاص، ولا يحكمون للخاص على العام، وهكذا في التقييد والإطلاق هكذا في مسائل شتى مثلاً عندهم الحديث المرسل مقدم على المسند فالحديث المرسل مثلاً عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، عن إبراهيم النخعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وهكذا المراسيل عامة كمراسيل أبي العالية ونحوهم من كبار التابعين وغيرهيم، يعتبرون أن هذه المراسيل أقوى من الأحاديث المسندة، فإذا أتى حديث مرسل وحديث متصل في المسألة نفسها، أخذوا بالحديث المرسل وتركوا الحديث المسند المتصل لأصولهم لدلالة عقلية عندهم على ذلك، وهذا طبعاً انتج أقوالاً أكثر من الأقوال التي كانت موجودة في زمن الصحابة والتابعين، فصار عندنا تفريعات كثيرة.(95/8)
كذلك في مسألة القواعد يقولون الاستدلال بالقياس مقدم على الاستدلال بالأثر لأن القياس دليله واضح يعني مثلاً القاعدة دليلها واضح، وأما الأثر فإنه فرد، والقاعدة شملت أحكاماً كثيرة، كل أدلتها تعضد هذه القاعدة، وأما الأثر فهو واحد في نفسه، وعندهم أن القاعدة هي قطعية على ما اشتملت عليه وأما الآثار فإنها ظنية، هذا هو الذي نهى عنه السلف بشدة، وحذّروا من النظر في الرأي لهذا الأمر، وكتب الحديث على هذا، على الذي أسلفت فيما هو تبويب وإيراد ما في الباب من أدلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يعني من آثار أو من كلام الصحابة أو من التابعين أو من تبع التابعين بالأسانيد أهل الأثر ويمثلهم بوضوح في اتباع أصولهم الإمام أحمد رحمه الله ورحمهم أجمعين ينظرون في المسألة فإذا كان فيها حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قدّموه إذا كانت دلالته ظاهرة أو من باب أولى إذا كانت نصاً فإذا لم تكن كذلك نظروا في فتاوى الصحابة فيما يثبت أحد الاحتمالين في الفهم كذلك إذا جاءت فتوى عن الصحابي وكان فيها احتمال في الفهم نظروا في أقوال أصحابه من التابعين بما يوضح لهم معنى قول الصاحب إذا كان القول ظاهراً أو نصاً من الصحابي في مسألة نازلة وليس له مخالف أخذوا به، وإذا اختلف الصحابة في المسألة على قولين هنا تنازعوا، يأخذون بقول من؟ فمنهم من قال نأخذ بقول الخلفاء الراشدين أو بأحدهم إذ وُجِد ذلك،لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وإذا مثلاً عثمان خالفه ابنُ عباس أخذوا بقول عثمان، وإذا عمرُ خالفه ابنُ عمر أخذوا بقول عمر وهكذا، وإذا اجتمع الخلفاء الأربعة في مسألة أخذوا بها بقوة، وتارة تكون الآثار متعارضة في المسألة فيكون للإمام أكثر من قول وفي هذا كثرت الروايات عن الإمام أحمد في المسائل تجد مسألة له فيها عدة روايات لأنه في الرواية الأولى مال إلى ترجيح أحد الآثار في(95/9)
المسألة، والرواية الثانية نظر في المرة الأخرى واختار الآخر، وهكذا، فالمقصود أنهم يدورون بالنظر مع الآثار، والإمام أحمد لما استفتي أو كان يستفتى كثيراً تلامذته صنفوا المسائل عنه فهذه المسائل عن الإمام أحمد كثيرة تبلغ نحو سبعين كتاباً من المسائل أو نحو ذلك لأصحابه منها الشيء المختصر ومنها الكثير، أعني الكبير، هذه نقل منها طائفة من أصحابه ما هو معتمد عنده مما يعرفونه من كلام الإمام أحمد وهم المسمون بالجماعة عن الإمام أحمد، هذه الأقوال دونها بعض الحنابلة في المختصرات ابتداءاً من الخرقي.
فمن بعده حولوا الفقه إلى أنه فهم الإمام في النصوصكان سابقاً مثل ما ذكرت لكم الأئمة ينظرون في الآثار فلما أتى التلامذة كثرت عليهم الآثار تنظر مثلاً في الفقه في المصنف مصنف ابن أبي شيبة مصنف عبد الرزاق تحتار أقوال مختلفة وأسانيد، ومسائل تعترضها أحياناً أدلة أصولية، وأحياناً أدلة تحتاج إلى معرفة رجال الإسناد.(95/10)
وأحياناً النظر في القرآن وفي السنة وهل يحمل هذا على هذا أو لا، فالتلامذة ضعفوا عن ذلك مع وصية الأئمة بأن يأخذوا من حيث أخذ الأئمة، لكن وجدوا في أنفسهم الضعف فتمسكوا بفهم الأئمة للنصوص لأجل أن يريحوا أنفسهم دونوا هذا، وهذا التدوين أضعف باب النظر في آثار السلف تدوين الفقه، مثل مختصر الخرقي وغيره أو مختصر المزني للشافعية أو مختصر الطحاوي أو مثلاً كتب محمد بن القاسم عن مالك مثل المدونة وغيره أضعف النظر في الآثار التي هي عمدة هؤلاء الأئمة فصاروا يدورون مع نصوص الأئمة بل زاد الأمر بعد ذلك حتى أصبحو يخرجون عليها كأن هذه قد نص عليها الإمام بمسألة جامعة، وهي كما ذكرت لكم أنهم ذكروها جواباً على الاستفتاءات والمُستفتي إذا استفتى فالجواب يكون على قدر الفتوى ولا يستحضر المفتي حين السؤال أن كلامه سيكون عاماً أو خاصاً أو نحو ذلك، فإنما يجيبون على حسب السؤال أحياناً ينتبه لهذا الأمر فيجيب قدر السؤال، لهذا ظهرت هناك أقوال، أقوال في المذهب الواحد، مثلاً عند الشافعية أقوال العراقيين وأقوال الخراسانيين قول للشافعي في القديم وقول في الجديد ومن منهم من أخذ بهذا ومن منهم من أخذ بهذا لأجل نظرهم بأن الإمام ما أراد بنصه هذا المعنى المعين بل أراد شيئاً آخر هذه كانت جواب، أو هذه أراد بها خصوص المسألة ما أراد مثيلاتها ونحو ذلك.
كذلك أصحاب الإمام أحمد كثرت عندهم الأقوال وأصحابه كثير ولأجل كثرة الروايات تعددت الأقوال في المذهب لهذا مثلاً عند الحنابلة عندنا عدد مراحل مرت بها وهي ثلاثة مراحل:
1- مرحلة المتقدمين.
2- مرحلة المتوسطين.
3- مرحلة المتأخرين.(95/11)
فالمتقدمون من أوله يعني من الخرقي او ما قبله إلى القاضي أبي يعلى ومن القاضي أبي يعلى إلى آخر الشيخين الموفق والمجد هذه تعتبر من المتوسطين ثم بعد ذلك يبدأ المتأخرون على خلاف بعضهم يزيد في هذا قليلاً، مثلاً فالشافعية عندهم قسمان متقدمون ومتأخرون والحد عندهم بين المتقدمين والمتاخرين رأس الأربعمائة وهكذا عند المالكية أيضاً عندهم طبقات هذا تجديد في فهم الكتب فهم نصوص الأئمة الى آخره.
هذه المراحل في كل مرحلة دونت كتب هذه الكتب تختلف في أسلوبها سواء في الفقه أو في أصول الفقه تختلف في أسلوبها تختلف في استيعابها ما بين ماتن وموسع قليلاً ما بين ضابط للعبارة وسهل العبارة وما بين ذاكر للخلاف وغير ذاكر للخلاف.
فلهذا المسائل التي يذكرها المتقدمون تجدها أوضح من التي يذكرها المتأخرون، فكل ما تقدم الزمن كلما كان الكلام أوضح، فالمتأخرون يذكرون المسائل لكن يصعب فهم كلامهم في بعض الأنحاء.
فإذا صعب فهم كلامهم ترجع إلى كلام المتقدمين في نفس المسألة تجدها أوضح، وليس المقصود بذكر المذهب الحنبلي فقط، لكن كتأصيل عام لهذا نقول أن التفقه وحرص المرء على أن يكون عنده ملكة فقهية يكون مبنياً على هذا الذي ذكرته وأنت تلاحظ فيما ذكرتُ كان هناك متون وهذا الأخير وكان هناك استفتاءات وهي المتوسطة وكانت هناك الآثار وهي المتقدمة.(95/12)
فأولاً: الآثار هي التي ظهرت في الأمة وهذه الآثار كان منها ما هو جواب أسئلة ثم بعد ذلك كلام الأئمة كان عن استفتاءات مثل المدونة سئل الإمام مالك فأجاب كذلك الإمام الشافعي كثير منها أسئلة، وعلم الإمام أحمد في المسائل كثير والثالث مصنفات، لهذا الفقه وتنمية الملكة الفقهية والحاسة الفقهية في فهم المسائل وفي التعبير عنها وفي إدراك كلام العلماء على المسائل الفقهية يكون برعاية هذه الثلاث مجتمعة . أولاً: العناية بالمتون. ثانياً: العناية بالفتاوى. ثالثاً: العناية بالآثار. لا بد منها على هذا النحو يعني تعكس هي في تاريخ الأمة بدأت الآثار الفتاوى ثم تدوين المتون الآن نعكس إذا أردنا طلب الفقه لأن مثلاً في زمن أهل الآثار زمن الصحابة والتابعين عندهم اللغة وأصول الفقه، وأصول الفقه مبناها على اللغة فعندهم ملكة في الفهم والاستنباط وهذه ليست عند المتأخرين لكن ننمي هذه الملكة وتتنامي هذه الملكة: إذا عكسنا الطريق
أولاً : نبدأ بالمتون ثم بالفتاوى ثم بالآثار، فإذا اتيت إلى الناحية التطبيقية مثلاً عندنا تقرأ في الزاد متن من متون الكتب للمتأخرين من الحنابلة، هذا تأخذه وتتصور مسائله مسائل مجردة تفهم صورة المسألة وهذا أهم مما سيأتي بعد لأن ما بعده مبني عليه فإذا لم تتصور المسألة كما هي صار ما بعدها مبنيٌ على غلط وما بُني على غلط فهو غلط، فإذن تبدأ أولاً بتصور المسائل، مسائل الباب إذا كان هناك معها أدلة واضحة في كل مسألة هذه دليلها كذا، وهذه دليلها كذا كحجة للمسألة. .. الخ.(95/13)
ثم تنظر في فتاوى الأئمة، تنظر في فتاوى علمائنا مثلاً فتأخذ مثلاً باب المسح على الخفين، تقرأ هذا الباب وتفهم مسائله على حسب ما يذكر من الدليل المختصر ما تتوسع لأنك إذا توسعت ضعت إذا توسعت في كل مسألة وطلبت أدلتها والآثار فيها ما نخلص في كل مسألة فيها في الكتب كتب الآثار وكتب الحديث وكتب العلماء من الخلاف الشيءالكثير، لكن تفهم هذه المسائل ثم تنظر في الفتوى السؤال والجواب من علماء وقتك يعني من علمائنا فإذا نظرت إلى هذا يقوى عندك أنّ الفهم الذي فهمته في المسائل مع ربطه بالواقعة الذي هو بالسؤال يكون الفهم عندك اتصل من المتن إلى الواقع، وكثير من الناس يفهم الفقه فهما نظرياً لكن إذا أتى يُسأل، ذهنه ما دربه على هذا الانتقال أي الانتقال من المسائل الفقهية بأدلتها إلى أن هذه الصورة المسئول عنها هي داخلة في ذلك الكلام، أو هي المرادة بتلك الجملة في المتن.(95/14)
كيف تتنمي هذه الملكة؟ إذا الربط بين الكتاب الفقهي والواقع بمطالعة الفتاوى هنا تتنامى، تبدأ يكون عندك حاسة في المقارنة إذا سُئلت ذهنك مباشرة ينتقل لأجل هذه الدربة أو ما نقول سُئلت مثلاً سألك أحد في بيتك أو أنت سألت نفسك أو وقعت واقعة تبدأ تتأمل سيكون عندك دربة إلى أنَّ هذا هو المراد أن هذه داخلة في المسألة أنت تلحظ أنه بمطالعة كلام المفتين على المسائل يصير عندك سعة في الدليل (واحد)، وتثبيت لتصور المسألة ولحكمها (اثني)ن، (والثالث) يكون عندك معرفة بما عليه الفتوى من علمائك، وهذه الثالثة مهمة لماذا؟ لأننا مثلاً الآن الواحد عمره مثلاً خمسة وعشرين سنة أو ثلاثين سنة. كم هذه المسائل عهده بها عهده بها خمس سنين أو عشر سنين، صحيح؟ لكن العالم الذي يفتي مثلاً عمره خمسين أوستين أو سبعين أو ثمانين، هذا له بها من العهد خمسين سنة مرت عليه ما هو مرة أو مرتين، مرت به عشرين ثلاثين خمسين مرة، ألف مرة، حتى صارت عنده واضحة مثل اسمه من كثرة تكررها، فإذن هنا هذه الفتاوى بمنزلة المصفِّي للكلام الذي تقرأه في المتن، هل هو مما يُفتى به ويعمل به أم لا؟.(95/15)
مما نلحظ مما سبق أن ذكرناه فيه مسائل نقول ليس عليها العمل، يعني الفتوى ليست عليها في مسائل كثيرة، مثلاً في طهارة جلد الميتة بالدباغ من المعروف مثلاً في ما قرأناه في زاد المستقنع أنه لا يطهر جلدُ ميتة بدباغ مطلقاً، لكن لو كان الحيوان قالوا يباح استعماله في يابس من حيوان طاهر حال الحياة، مما يحل بالزكاة فيه أي يحل أكله بالزكاة يعني مما يباح في ذلك، أو مما كان دون الهرة في الخلقة، إلى ما هو معروف، إذا نظرت في الفتوى الفتوى على خلاف ذلك، فإذن هنا الضرب الفتوى تبين لك ما عليه العمل في المتن مما ليس عليه العمل فإذا ضبطت هذا الضرب يأتي عندك هناك سعة جديدة في الفهم فتنتقل - بعد ما تحكم هذا الأمر تحكم الباب أو تحكم الأبواب - إلى كتب الخلاف كتب الآثار يكون عندك فهم إلى أن هذا القول أقوى من هذا القول، هذا القول ليس عليه العمل تظهر عندك إشكالات، لماذا يفتون مثلاً بهذا أو بهذه الفتوى؟ والآثار جاءت فيها كذا وكذا، بغير ذلك، في مثلا هل المرأة الحائض تقرأ القرآن أو النفساء تقرأ القرآن أم لا؟ تعرف الفتوى عند أكثر المشائخ على أي قول؟ ثم إذا نظرت في الآثار ظهر عندك شيءٌ ثاني، يبدأ عندك هناك علم مهم جداً في الفقه، وهو يوجد في كل فن وهو علم الاستشكال، إذا استشكل مستشكل هذا معناه أنه يفهم إذا كان استشكاله واقعياً إذا استشكل لماذا يفتون بكذا؟ مع أنّ الأثر دل على كذا مع أن الدليل يحتمل كذا، فإذا سأل أحداً من أهل العلم أزال عنه الإشكال وأجاب عن إشكاله، وقد قال القرافي في "فروقه" قاعدة الفرق بين الكبائر والصغائر "ومعرفة الإشكال علم في نفسه"- من المهم أنك تستشكل ما فهمت كيف يقولون كذا، والدليل محتمل لكذا ليش، ما اعتنوا بكذا؟ لماذا ما ذكروا القاعدة؟ هذه القاعدة تشمل هذه لماذا ما ستدل بالقاعدة؟. هنا استدلالات كانت مهجورة عند السلف، الأدلة موجودة ولم يستدلوا بدليل منها، ولما أتى المتأخرون أو بعض(95/16)
المعاصرين استدلوا بأدلة لم يستدل السلف في المسألة بتلك الأدلة هذا اشكال لماذا؟ لماذا السلف ما استدلوا إلى مسألة كذا وكذا بالدليل الفلاني واستدل به بعض الناس من هذا العصر ما استدل السلف بالدليل واستدل به بعض الناس من هذا العصر بعض المشايخ أو بعض طلبة العلم لماذا؟ هذا الاشكال يتولد عندك مع اشكالات أخرى تحل هذا وتحل هذا حتى يرسخ الباب في ذهنك يرسخ الباب بتصوره بمعرفة دليله وبمعرفة الفتوى وبمعرفة الأقوال الأخرى بعد حين هذه مراتب ومعرفة الأقوال الأخرى وجواب هذا وجواب هذا. إذا عكست المسألة ما يحصل عندك ملكة فقهية، إذا بدأت مثلاً بالآثار فسيكون عندك معرفة بالخلافيات كثيرة لكن الملكة الفقهية ضعيفة وتحصيلك للمسائل قليل لإن مثلاً إذا نظرنا في كل مسألة سنبحث عما جاء فيها في الأسانيد والمصنفات أو في كتب الحديث وهي هذا صحيح أم غير صحيح وما ورد عن الصحابة والتابعين سوف تطول المسألة والأئمة في عهدهم كانوا على قرب من عهد الآثار على قرب من عهد الصحابة ما عندهم علوم كثيرة جداً اشغلت أذهانهم.
الآن مثلاً من القرن الثالث إلى الآن ألف ومائة سنة كم ظهر من العلوم التي شغلت اذهاننا وأخذت خيراً منه من الأذهان، ولذلك صار الذهن لا يستطيع أن يكون مركزاً على ذلك يعني غالب الطلاب يكون مُركّزاً على الآثار ومستخرج منها الفقه الصحيح لهذا نعم نقول الغاية هي الآثار وهذا الذي يجب فالدين هو كتاب وسنة وأثر ولكن كيف تصل إليه؟ لا بد أن تسلك الطريق الذي سلكه العلماء في الأزمنه المتأخره بعد فوات التمكن في العلوم والآتها. بدأوا بالمتون المختصرة جداً هذا كالبناء ثم بعد ذلك يرون فتاوى العصر فيرون ماذا يفتي به علماء عصرهم الشافعية على الشافعية والحنفية على الحنفية ثم يبدأون بإيراد الإشكالات والنظر في الآثار.
* مسألة : كيفية التدرج في طلب الفقه.(95/17)
الفقه طويل وهذا شيء مما لا شك فيه، ويحتمل في تدرسيه كل يوم عدة سنين لو ندرس مثلاً مثل كتاب زاد المستقنع لكن هذا الأمر وهو كون الفقه طويلاً وأنهيحتاج إلى سنين هذا يسهل باتباع الطريقة الآتية:
أولاً: أن تأخذ كل باب على حده ما تخلط بين الأبواب تأخذ متن فتأخذ مثلاً كتاب الزكاة تأخذه وتفهمه لو تجلس فيه شهر مع معلم أو مع نفسك تدرسه جملة جملة تقرأ وتنظر حتى تتصور الجملة هنا إذا كان المعلم قد وصل معك إلى كتاب الزكاة أو كان في أحد من المشائخ يقرأ على سبيل المثال في الزكاة فهنا تستمر معه يجري لك الأمر وإذا لم يمكن ذلك وأردت أن تقرأ أنت فلا بد من أنت تكون على صلة بأحد العلماء الذين بعون كلام أهل الفقه هذه الصلة فائدتها كلما استشكلت شيئاً تسأل كل ما فهمت عبارة تسأل تركيبية ما استقام في ذهنك تسأل وهو يوضحك هذا الإيضاح أما باتصال هاتفي أو بملاقاة هذا الإيضاح وهذه الصلة تجعل المسائل تتضح ثم أيضاً يكون الحرص على ملازمة أهل العلم في سماع كلامهم لأنه جربنا هذا قبلكم في مسائل كثيرة في الفقه تمر عليها لكن ما تتضح لك إلا بسماع كلام أهل العلم فيها، إما مثلاً في كلمة أو في فتوى أهو تكلم يناقش المسألة تناقشه تجد أنه يعطيك مفتاح لفهم هذا الباب أو لفهم هذه المسألة ما أدركته بمجرد القراءة.
فاذن.
أولاً: أحكام الباب يكون بدون مداخله يعني تأخذ كتاب معيناً ككتاب الزكاة مثلاً أو باباً معيناً فتدرسه بدون مداخله، يعني مثلاً واحد يقول أنا باقرأ مثلاً في كتاب الزكاة وفي نفس الوقت يأخذ في كتاب البيوع، وفي نفس الوقت يأخذ كتاب في الحدود فالذهن لا يجمع بهذا الطريقة فتختلط عليه المسائل، فإذا أخذت مثلاً كتاباً على هذا تبدأ بتحرير جملة وإذا حررت جملة على وقت ما عندك فهمت، أعني بتحرير الجمل معرفة كل لفظ ومعناه من حيث اللغة ثم بعد التركيب.(95/18)
طالب العلم في الفقه بخصوصه لا بد أن يكون حساساً في اللغة، لأنه إن لم يكن حساساً في اللغة استعمل في كلامه غير لغة العلم وهذا يضعف مع طالب العلم، فإذا تكلم مثلاً في الفقه كلام ثقافي يعني موعظة كأنه، كلاماً عاما، هذا يضعف الواحد معه، لكن إذا درب ذهنه ولسانه على أن كل لفظ له دلالته يجتهد على أن يستعمل ألفاظه مع مرور الزمن، يبدأ يتربى شيئاً فشيئاً حتى يستعمل ألفاظه، فإذن : 1- معرفة ألفاظ الفقهاء ودلالة كل لفظ . ثم : 2- معرفة التركيب لهذه الجملة، ثم: 3- الحكم. 4- دليل الحكم، قد يكون راجحاً في نفس الأمر وقد يكون مرجوحاً، المهم تعرف الدليل الذي اعتمد عليه في هذا الحكم، لأن معرفة الدليل يعطي ذهنك قريحة في استنتاج الحكم من الدليل على فهم جماعة من العلماء الذين صنفوا هذا أو رضوه أخذوه مذهباً.
الخامس : القول الآخر في المسألة بشرط أن يكون قولاً قوياً، وليس في كل مسألة، يعني مثلاً: مثل ما كان في المشايخ رحمهم الله الأولين الذين يدرسون الفقه عندنا هنا يذكرون اختيارات شيخ الإسلام ، وقد يكون بعدها استدلال أو ترجيح.
هذه خمس خطوات، إذا أخذت مثلاً باب من الكتاب بعد ذلك ترجع إلى نفسك باختبار، إذا سمعت شرح الباب مثلاً من معلم من شيخ او عالم أو قرأته وناقشت فيه أحد العلماء أو سمعته بواسطة شريط أو نحوه بعد ذلك اختبر نفسك في هذا الباب. كيف تختبر نفسك ؟(95/19)
تأخذ متن مجرداً عن الشرح وتجتهد في أن تشرح، أن تعلق مثلاً، الروض المربع أو شرح الشيخ بن العثيمين أو حاشية البليهي أو حاشية بن قاسم إلى اخره، ستلحظ في أول مرة أنك فيه مسائل تصورتها ، وعبارتك كانت عبارة جيدة رضيت عنها، لكن في مسائل أردت أن تتكلم اشتبكت عندك الخطوط ما عرفت، اشتيكت مع أنك حين القراءة كانت واضحة، مثل ما يأتي في الاختبار فقبل الاختبار تقول : أنا والله فاهم، وحينما جاء الاختبار استشكلت أو ضاعت عليك، كذلك في الفقه، فإذا راجعت على هذا النحو وحاولت أن تشرح فسيكون تقييمك لنفسك شيئاً فشيئاً، بهذا الطريقة تقوى مداركك تقوى قوة ذهنك.
ثانياً : يقوى تعبيرك عن مسألة بلغة العلم يقوي تعبيرك عن مسألة بلغة العلم.
ثالثاً : يكون لسانك متحرياً في الألفاظ لا تأتي إلى المسألة فتذكرها بالمعنى، يعني تذكر ما يدل عليها بحسب ما تفهم، بل تكون دقيقاً في اللفظ فتعبر بتعبيره، تعبر بلغته شيئاً فشيئاً بحسب ؟؟؟(95/20)
أنت والله أخذت خمسين من عندك نفسك استشكلت مسائل تعيدها ثم تكرر مرة أخرى حتى يكون عندك دربة هنا وأنت تسير على هذا تأتيك مسائل يكون لك رغبة في أن تطلع على الكلام فيها، فهنا لا بأس في أن تذهب إلى المطولات، مثل المغني في الفقه، أو المجموع أو نحو ذلك، لكن ما يكون ديدنك هذا في الباب كله تطالع . لا. هذا يكون في مسائل تختارها فتطالعها ، لماذا؟ لأن الكتب المطولة كتب سائحة،والكنب المختصرة كتب مجموعة، تناول المجموع أسهل من تناول المبسوط أو السائح، لماذا؟ لأنك طبعاً المغني أصعب من الزاد، والله واحد يجيء يقول الزاد عبارته كده والمغني كله أدلة، فتمشي معه بسلاسة، ولكن الواقع أن المغني بالنسبة لطالب العلم المبتدئ مضرٌ، بخلاف مثلاً المختصرات لأن المختصر يعود العقل على نوعية معينة من التعامل مع الكلام الفقهي يعوده على الحصر، يعوده على العبارة من لفظين ثلاثة، يعوده على مبتدأ وخبر، يعوده على شروط، يعني يحكم الذهن، أما ذاك فيكون مبسوطا، والمبسوط الذهن يقرأه بسهوله، يمشي ثم بعد ذلك ما يتربى عنده إلا يتذكر أن المسألة فيها أقوال، أما العبارة والإدراك ما يتربى عنده، ولهذا كان الشيخ عبد الرزاق رحمه (عفيفي) الله يقول الموفق، صنف في الفقه كتاباً أربعة للابتدائي وللمتوسط وللثانوي وللجامعي، فصنف للابتدائي العمدة في الفقه، وصنف للمتوسط المقنع، وصنف للثانوي الكافي، وصنف للجامعي المغني، فلاحظ عمدة، ثم مقنع، ثم كافي ثم مغني، والغناة لا يريد أحد بعدها شيء.(95/21)
لكن هذا لا بد يمشي على هذا النحو، لا بد أن يكون عندك تسلسل، فقراءة في المغني المطول دائماً، هذا غلط، وتركه دائماً أيضاً غلط. لماذا ؟ لأن المطولات فيها اسهاب في الاسهاب يحل بعض الاشكالات، فأحياناً يأتيك قول لم تفهمه أصلاً كيف تحل المسألة؟ مثلاً اتصلت ما وجدت أحداً، كيف تفهم هذا القول في الفقه بخصوصه؟ تذهب إلى الخلاف في المسالة، إذا لم تفهم قولاً من الأقوال اذهب إلى الكتب التي فيها ذكر الخلاف بمعرفة الأول المختلفة يتضح لك المراد بالقول الذي استشكلته، هذه مجربة ونافعة جداً في حل مثل هذا.
على كل حال هنا عدة أشياء أُخر لكن ربما احتاج الكلام عليها إلى طول مثل كلام مراتب كتب الحنابلة لماذا اختاروا كتاباً دون كتاب، كيفية الدمج بينها؟ وهل يسوغ لطالب العلم أن ينوع مثلاً عند أحد العلماء من الزاد وعند الثاني منار السبيل وعند الثالث من كذا .. . هذه كلها أشياء تحتاج إلى أجوبة لكنها تحتاج إلى مزيد من الوقت، نكتفي بهذا القدر .
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله.(95/22)
بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال
هذا سؤال ربما ورد كثيرا يبدو أن الحاجة إلى الجواب عنه ملحة يقول: ما معنى فقه الواقع؟ ونرجوا أن تعرّج على تعريف بعض العلوم التي يستدل بها أصحابها على أهل الدليل من الكتاب والسنة.
الجواب
نكتفي بالفقرة الأولى وهي قوله (ما معنى فقه الواقع؟)
أولا: التركيبة (فقه الواقع) مركبة من كلمتين (فقه) و(الواقع)، وكل كلمة من هاتين الكلمتين كانت مستعملة عند السلف الصالح رضي الله عنهم، فكانوا يستعملون كلمة (فقه)، وكانوا يستعملون كلمة (الواقع)، ومع ذلك فهم لم يجعلوا الواقع عندهم هو الواقع المراد عند هذه الإضافة.
والواقع: هو ما يقع من الأحداث والأمور في الناس.
السلف لم يركبوا هذا التركيب مع وجود الكلمتين عندهم، فلم يضيفوا (الفقه) إلى (الواقع)، فلم يقولوا (فقه واقع).
قالوا: فقه الكتاب، فقه السنة، ونحو ذلك، الفقه الأكبر؛ يعني العقيدة، أما فقه الواقع فلم يرد عندهم.
فكان بهذا مع عدم تسمية معرفة الواقع بفقه الواقع، مع أن العلماء أعرضوا عنه أربعة عشر قرنا، كان هذا دليلا على أن هذه التسمية محدثة «وكل محدثة بدعة»؛ لأنها متصلة بالشريعة، ولا يخفى على كل واحد منكم أن فقه الواقع عند من يسميه بذلك له مساس بالأحكام الشرعية.
فتبين من هذا أن تركيبة الكلمتين لم ترد عند السلف مع وجود كل واحدة من الكلمتين عندهم.
ما الذي كان عند السلف؟ وما الذي كان عند أهل العلم؟(96/1)
كان عندهم أن المفتي والحاكم لا يفتي ولا يحكم في المسائل الشرعية إلا بعد أن يعرف واقعَ المسألة المسؤول عنها، فإذا سُئل عن شيء لا يجوز له أن يفتي أو يحكم بدون أن يتصورها، ولهذا جاء في بعض مسائل كتاب التوحيد أن إمام الدعوة رحمه الله تعالى قال: وفيها فهم الصحابة للواقع. يعني بذلك فهمه لواقع الناس وما يسألون عنه، لا يُسأل عن مسألة وهو لا يعرف ما يريد الناس بها، يُستغفل! لا، لكن إذا سئل يعرف هذه المسألة تصورا، فإذا كانت المسألة مثلا في الفقه يعرف صورتها الفقهية، هذا معلوم عند أهل العلم، بل قالوا: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
والواقع قسمان:
واقع له أثر في الأحكام الشرعية.
وواقع لا أثر له في الأحكام الشرعية.
فليس كل ما يقع بين الناس، وما يجعله الله جل وعلا في أرضه، ليس كل ذلك مؤثرا في الأحكام الشرعية، أو تبنى عليه الأحكام الشرعية.
القسم الأول: الواقع الذي تبنى عليه الأحكام الشرعية وفهم المسألة وصورتها وما تتنزل عليه.
الثاني: ما يتصل بالمسألة مما ليس له أثر في الحكم الشرعي، هذا واقع لا أثر له.
مثلا القاضي يأتيه خصمان يتخاصمان في مسألة، يقول الأول كلاما في ربع ساعة طويل، ويأتي الثاني يقول كلاما في ربع ساعة أيضا طويل، القاضي كل هذا الذي ذكره الخصمان واقع وقع، لكن القاضي لا يقيد منه في سجلِّه -يعني سيبني عليه الحكم- إلا ثلاث كلمات أو أربع؛ لأنها هي المؤثرة في الحكم الشرعي.
كذلك المستفتي تأتي تستفتي أحد العلماء، وتقصّ عليه قصة طويلة، ويجيبك بمسألتين، ثلاث، تقول: لا، شيخ كان كذا وكذا. يقول: ولو كان هذا ما له أثر. وهو واقع صحيح عندك أنه واقع، ربما يكون مؤثرا لكنه عند العالم ليس مؤثرا في الحكم الشرعي.
فإذن ليس كل ما وقع في الناس، أو ما يقع في الدنيا مؤثرا في الأحكام الشرعية، وعليه فإنما يجب على العلماء أن يعرفوا الواقع الذي تنبني عليه الأحكام الشرعية.(96/2)
الآن هذه الكلمة (فقه الواقع) يُعنى بها معرفة أحوال الناس والمسلمين والأعداء، وما يعدّون له، وما يخططون ونحو ذلك من علوم كثيرة، وهذا لاشك أنه كعلم –مع اعتراض على التسمية- كعلم مطلوب، أن يعرف في الأمة طائفة هذه الأمور، وهذا من أجناس فروض الكفايات كالعلوم المختلفة: علم السياسة، وعلم الفيزياء، والكيمياء، والجبر، والهندسة، ونحو ذلك، هذا من جنس العلوم تلك، فمعرفتها لا بد أن تكون في الأمة، لكن تلك معرفة وليس بفقه، معرفة لأن الفقه هو فهم الأمور، الفقه هو الفهم ?مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91]، يعني ما نفهم كثيرا مما تقول، ولا يدعي من يتابع أحوال العالم من طلبة العلم المعتنين بذلك ونحو ذلك، لا يدعون أنهم يفهمون ما سيجري من الأحداث، ولهذا التسمية بفقه واقعا أيضا ليست بصحيحة؛ لأن حقيقة ما يرومون هو معرفة ما يقال وما يكتب، وهذا أقل من الفقه بكثير.
هنا هذه الأشياء قلنا لابد أن يكون في الأمة من يعرف، فهي من جنس العلوم الكفائية، وقد نبّه على ذلك الشيخ ناصر الدين الألباني حين عرض لهذه المسألة.
إذا تقرر هذا فإنه باتفاق أهل العلم: العلوم الكفائية لا يخاطب بها عامة الناس؛ لأنها ليست مُصلحة لدينهم، بل إنها تشغلهم عما هو أولى لهم، أرأيت لو أن محاضرا أتى عندنا اليوم ففسحنا له الدرس، وقلنا حدث الإخوة في نظرية أينشتاين النسبية، كونه يوجد في الأمة من يعلم ذلك في تخصص الفيزياء لا بأس، لكن هل تحدَّثون بذلك، هذا لا شك أنه من الكفائيات التي لا تناسبكم، وإذا عرفتموها عرفتم علما.
هل يصدق هذا على واقع الناس وعلى مخططات الأعداء أم لا؟
ذكر مخططات الأعداء يفيد الشباب، وذكر أحوال المسلمين يفيد الشباب من جهة، ويضرهم من جهات أخر:
يفيدهم من جهة أنه يحيي في نفوسهم الارتباط بالإسلام، ويحيي في نفوسهم بغض الكفرة والمشركين، ويحيي في نفوسهم أخذ الحذر من الأعداء ونحو ذلك، وهذه مصلحة مطلوبة.(96/3)
ومن جهات أخر يقود الشباب إلى أن يُربوا على غير التربية السلفية التي نبْعها ومصدرها القرآن والسنة، وبالتجربة وجدنا أنّ من انشغل بتلك الأمور انشغل أشهرا بل ربما سنوات، وإذا سألته اليوم ماذا حصّلت؟ يقول لم أحصل شيء.
وأحد ممن أثق بهم ممن يعتنون بهذا الأمر يقول: تتبعت جميع المجلات، وتتبعت جميع الجرائد لأخرج بفهم لما سيجري في المستقبل من أنواع السياسات والمخططات المستقبلية، قال: فوجدت كل ما قرأت لا يعطي صورة عن المستقبل.
وقد سئل بعض الوزراء البريطانيين عن السياسة: ما تعريفها؟ قال: أصح تعاريفِها أن السياسة هي الكذب.
وهذا ينبني عليه فهمنا إلى أن الانشغال بهذه الأمور لن تحصّل من ورائها طائلا، بل إنه يصدك عمّا يجب أن تربي نفسك عليه وما تربي أحبابك عليه.
إذا نظرت وتأملت في هذا الكلام، وجدت أنه يمثل الواقع، الناس يعطون -الشباب والمسلمون بعامة- يعطون ما ينفعهم في هذا الأمر، لكنه مع أصوله الشرعية؛ يعني عِداء اليهود والنصارى لنا تقرأ فيه الآيات؛ آيات الولاء والبراء، وما فعله أولئك في أعظم أمر وهو أنهم أشركوا بالله جل وعلا وسبوا الله جل وعلا أعظم مسبّة، وهذا كاف في أن يجعل المؤمن الموحد مبغضا لهم كارها لهم.(96/4)
معرفة الأحوال وما يجري بين الناس لا يُنقص من جهله، لا ينقص من جهله؛ بمعنى الأحوال الدنيوية، ألم ترَ إلى قصة سليمان عليه السلام حيث كان بجواره دولة ومملكة سبأ، وملكتها بلقيس، وكان عندها من الدنيا ما عندها، وبجواره، ولها من القوة ما لها، ومع ذلك لم يعلم شيئا عنها، ولم يُطلَع من الله جل وعلا على شيء من أخبارها، إذْ أن ذلك ليس له أثر في تبليغ رسالات الله، وإنما بلغه الهدهد بأمر يتعلق بالعقيدة، فقال الهدهد ?أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ?[النمل:22]، هذا النبأ الذي اعتنى به الهدهد قال ?وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ?[النمل:22-23] هذا كالمقدمة، ?وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ?[النمل:23]...
وصلى الله وبارك على نبينا محمد.
((((((96/5)
قسم العلم والدعوة(/)
أسباب الثبات على طلب العلم
للشيخ صالح آل الشيخ
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين؛
أما بعد:
هذه بداية للدروس التي سبق أن بدأناها في العام الماضي أسأل الله جلّ وعلا أن ينفعنا بما مضى وأن ينفعنا بما سيأتي وأن يثبته في قلوبنا، وأن يمنّ علينا بالعمل بما علمنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى العظيمة الجليلة وأن يمنّ علينا بالبصيرة في كلّ ما نأتي وما نذر وأن يجنبنا سلوك غير سبيل سلف هذه الأمة في كل أحوالنا إنّه جواد كريم.
وبمناسبة هذه البداية نذكر بشأن العلم وما ينبغي أن يستحضره طالب العلم وهو يعاني العلم ويعاني حمله ويسير في طريقه لأنّ العلم ليس بالطريق الهيّن وكما قيل العلم طريقه طويل قد قال بعض السلف ((اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)) وقد قيل للإمام أحمد وقد ظهر الشيب فيه ((إلى متى وأنت مع المحبرة)) يعني كانت معه أدوات العلم ورق ومحبرة فقال كلمة مشهورة ((مع المحبرة إلى المقبرة)) يعني أنّه مواصل في هذا لا ينقطع وسبب الانقطاع فيمن انقطع عن العلم يرجع إلى أسباب من تلك الأسباب:
1- أنّه لم يعي حقيقة معنى العلم ولماذا يطلب العلم.
2- أنّه ربما كانت النية في أصلها ضعيفة لأنه بقوة النية في طلب العلم يكون الاستمرار والحرص عليه.(97/1)
3- أن يكون المرء متعجلا يريد أن يكون طالب علم أو أن يكون عالما محصلا عارفا بأكثر المسائل في سنوات قليلة هذا لا يحصل أبدا بل العلم طريقه طويل وقد يكون السبب راجعا إلى ضعف بصيرته في شأن العلم ويظن أن العلم نفعه قليل وأن غيره من الطرق التي ربما يغشاها بعض المستقيمين أو الذين ظاهرهم الالتزام أنها أسرع في تحصيل المقصود أن بها يحصل المرء على ما يتمنى من رجوع الخلق إلى ربهم جلّ وعلا وهذا من أسباب الانقطاع عن العلم يقول ماذا فعل العلماء ماذا حصلنا من العلم ولكن هناك طرق أخرى كذا وكذا هذه بها يكون المرء أكثر تأثيرا ويكون محقا للحق ومبطلا للباطل فتنصرف نفسه عن العلم وفي الحقيقة فاته أنّ العلم كالماء الذي يثبت في الأرض فينفع الله جلّ وعلا به من يأتي بعد كما مثل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي قال فيه ((مثل ما بعثني الله به من العلم كمثل غيث أصاب أرضا)) فالعلم الشرعي غيث وهذا الغيث نافع ومن فوائد الفروق اللغوية في التفسير أنّ أكثر ما يستعمل الغيث في الكتاب والسنة فيما ينفع من الماء والمطر، أما المطر فأكثر ما يستعمل فيما يضر مما ينزل من السماء، {فأمطرنا عليهم مطر فساء مطر المنذرين} {ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} فالنّبي عليه الصلاة والسّلام مثل لنا العلم بالغيث وهذا فيه مع تتمة الحديث بأنّه أصاب أنواعا من الأرض فكانت منها أرض قبلت العلم فارتوى الناس منه وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وفيه أيضا تسميته بالغيث والغيث يغيث الأبدان ويغيث القلوب وهكذا العلم فإنه بهذه المثابة.(97/2)
من أسباب الانقطاع عن العلم التي لمسناها في الشباب في السنين الماضية ودائما تتجدد أنهم لا تكون صلتهم بالعلم وأهل العلم مستمرة بل عهدهم بالعلم وأهل العلم في الدروس فقط وما عدا ذلك فهم يصاحبون الناس من أصناف شتى فلا تكون النفس دائما متحركة بالعلم بل تكون تتحرك بالعلم في وقت قليل في وقت الدرس وما بعد ذلك فأكثر الحديث الذي يتحدث به ليس في العلم هذا يجعله غير متعلق بالعلم، والعلم يحتاج إلى أن يتعلق به طالبه دائما (نفسه معه في كل حال) قد كان بعض أهل العلم ينصرف عن ملذات الدنيا لأجل العلم الملذات المباحة من مال ومن زوجة أو من النظر المباح أو أنس من أجل العلم ولانشغاله به وقد قال بعض الشعراء في ذلك من العلماء حيث أتته جارية ولم يلتفت وقد كانت حسنة الخلق والخلق فقال فيها أبيات فقال:
فقلت ذريني واتركيني
ولي في طلاب العلم والفضل والتقى
فإنّني شغلت بتحصيل العلوم وكشفها غنى عن غناء الغانيات وعرفها
يعني أنّه مشغول بشيء أعظم غلب على نفسه وهذا متى يكون إذا كان المرء دائما مع العلم قراءة في صحبة من يتكلمون في العلم في تبليغ العلم في الكلام في العلم في رؤية العلماء في الحديث معهم في سماع كلامهم تجد النفس تنشغل به ويكون العلم طبعا له أولا يكون تطبع يأتي بشيء من الكلفة ثم يكون طبعا له حتى إذا تحدث حدّث بالعلم إذا أرشد أرشد بالعلم إذا بيّن بالعلم فيكون في ذلك الأنس له ولا شك أنّ هذا يحتاج إلى جهاد وقد قال جلّ وعلا {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين} فالجهل هو ضد العلم والجهل داء كما قال ابن القيم داء قاتل يقتل صاحبه من حيث لا يشعر يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والجهل داء قاتل وشفاؤه
علم من القرآن أو من سنة
أمران في الترتيب متفقان
وطبيب ذاك العالم الرباني(97/3)
الجهل داء لا شك قاتل لعماية العبد عما يجب عليه في دينه كذلك داء قاتل لجعله العبد ليس من الأحياء فالعلماء أحياء وغيرهم أموات وسبب موتهم هو الجهل لأنّ الجهل مميت مثل ما قال هنا قاتل فكل من جهل فقد قتل وقد مات والجهل ليس بمرتبة واحدة بل الجهل أنواع كثيرة فكل من جهل شيئا فقد أصيبت مقاتله من الجهة التي جهل فيها قال والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران في الترتيب متفقان علم من القرآن أو من سنة هذان الأمران علم من القرآن أو من السنّة من الذي يبيّن نصوص القرآن والسنة وينزلها منازلها ويجعلها في معانيها الصحيحة قال: (وطبيب ذاك العالم الرباني): (ليس أي عالم) لكنّه عالم رباني يخشى الله ويتقيه فيما يقول وفيما يأتي وفيما يذر فنصوص الكتاب والسنة هي شفاء الجهل وكثير من الناس ينفي الجهل عن نفسه بالحرص على الكتاب والسنة لكنه لم يستضيء بكلام أهل العلم بنور أهل العلم لم يستضيء بذلك ولما لم يستضئ بذلك أصيبت مقاتله قال وطبيب ذاك العالم الرباني هذا التعبير يفهمك بأن العلم دواء فإذا أتى رجل فأخذ من الدواء ما لا يصلح له يهلك أولا يهلك؟ يهلك قد هلكت الخوارج لأنهم أخذوا نصوص الكتاب ونصوص السنة ولكن نزلوها في غير منازلها فأخذوا من نصوص الكتاب ما استدلوا به على أنّ فاعل الكبيرة كافر قال {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} قالوا: هذا يدل على أنه كافر.
أخذت المرجئة بعض النصوص نصوص الكتاب ونزلوها في غير منازلها ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) ((من كان آخر كلامهم لا إله إلا الله دخل الجنة)) ونحو ذلك من النصوص فنفت العمل وأبقت القول والاعتقاد وأرجأوا ذلك فأصيبت مقاتلهم لماذا؟(97/4)
لأنهم لم يكن طبيبهم في فهم النصوص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علماء زمانهم أخذوا من أنفسهم ولم يتابعوا أهل العلم المتحققين به فأصيبت مقاتلهم وهكذا في كل زمن الحرص على العلم مطلوب لكن لا يمكن أن تكون حريصا على العلم ومصيبا في ذلك إلا أن تستضيء بفهم أهل العلم لأن العلم في هذه الأمة موروث ليس علما مستأنفا مبتدأ في كل زمن يبتدئ الناس منه ويستأنفون علما جديدا لم يكن معروفا في من قبلهم بل علمنا في هذه الأمة علم موروث ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ((العلماء ورثة الأنبياء فإنّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) لهذا!تنتبه إلى هذا الأصل العظيم ألا وهو الحرص على العلم ولكن ينبغي أن يكون طبيبك في ذلك الحرص -(في تلقي النصوص)- طبيبك العالم الرباني فإن لم يكن ربانيا كان عالما ذا هوى فهم له مقاصد له أغراض أيضا أصابك شيء من عدم فهم نصوص الكتاب والسنة وأصابك شيء من الجهل بقدر ما فاتك من ذلك.
إذا علمت أنّ الجهل خطير وداء قاتل ولابد أن تسعى في شفاء نفسك منه عن طريق أهل العلم بفهمهم نصوص الكتاب والسنة فاعلم أنّ العلم أنواع كما قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم أنواع ثلاث ما لها
من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله ونعته
وكذلك الأسماء للديان
هذا العلم الأول الأسماء والنعوت والصفات (التوحيد جميعه توحيد العبادة توحيد الربوبية) كله من ثمرات العلم بأسماء الله وصفاته ففي اسم الله الأعظم ((الله)) الذي (مرجع الأسماء الحسنى جميعا إليه) فيه أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه ففي اسمه الرّب أنه هو ذو الربوبية في نعوت الجمال أنّه هو المستحق للعبادة وفي نعوت الجلال أنّه هو المستحق للإجلال والتعظيم وإفراده بالربوبية وهكذا...فقال:
علم بأوصاف الإله ونعته
كذلك الأسماء للديان(97/5)
هذا ثلث العلم بالتوحيد ولهذا سورة الإخلاص صارت ثلث القرآن لأن القرآن، فيه العلم كله فثلث العلم التوحيد فصارت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأنها فيها التوحيد كله توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات قال بعدها: (والأمر النهي الذي هو دينه) هذا هو النوع الثاني من العلم الأمر والنهي هو معرفة الحلال والحرام المأمور به يشمل الواجب والمستحب والمنهي عنه يشمل المحرم والمكروه هو علم في فقه الحلال والحرام (علم الأحكام).
والثالث: منها هو علم الجزاء يوم القيامة قال: وجزاؤه يوم المعاد الثاني، الذي يدخل في ذلك علم السلوك ما يصحح به المرء قلبه ما يصحح به سلوكه مقامات الإيمان ومقامات الزهد والعبادة ومعرفة جزاء كل عمل يوم القيامة وما يحصل يوم القيامة من أنواع الجزاءات للمؤمنين المطيعين والمقصرين والكافرين (لأنواع الناس) إذن فلنعلم هنا أنّ هذه الثلاث هي العلم فتسعى إلى العلم بالتوحيد هذا ثلث العلم إلى العلم بالحلال والحرام هذا الثلث الثاني من العلم إلى العلم بما تزكي به نفسك {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} كيف تحصل على هذا العلم؟(97/6)
بتدبر نصوص الكتاب والسنة بما يكون يوم القيامة وحال الناس يوم القيامة والنصوص التي جاءت بما يكون به الثواب يوم القيامة نصوص الزهد نصوص الثواب الأذكار ما يتعلق بذلك كلها من فروع هذا إذن أقسام العلم ثلاثة إذا كنت حريصا على هذا العلم فلتكن حريصا على هذه العلوم الثلاثة ثم لتنفي عن نفسك ما استطعت من أسباب الجهل وقد عرفت أسباب الجهل ثم احرص على تمام الحرص على أن لا تنقطع عن الطريق وتذكر قول ابن شهاب الزهري رحمه الله حيث نصح المتعجلين فقال: ((من رام العلم جملة ذهب عنه جملة)) فإنما يطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي قليلا قليلا ولو أنّك لم تكسب كلّ يومين إلا مسألة تضبطها تكون ثابتة واضحة بدليلها فبعد سنة ستحصل قريبا من مائة وثمانين مسألة وبعد سنتين ثلاثمائة وستين مسألة واضحة بعد عشر سنين ألف وستمائة مسألة أحسب بعد ثلاثين سنة يكون الواحد عالم راسخ في العلم تكون المسائل واضحة مبسوطة عنده بوضوح وفهم غير ملتبسة هذا إذا كان في كل يومين مسألة فكيف يكون لو كان في كل يوم مسألة لو كان في كل يوم مسألتين، خذ ما تحصل من العلم ولكن يحتاج منك إلى مواصلة؛ فالغيث إذا أصاب أرضا وكان شديدا يمشي أو يظل راكدا في الأرض بل يذهب إلى الأودية والشعاب لأنّه قوي لكن هل الأرض التي نزل عليها أول مرّة نزولا شديدا يكون انتفاعها مثل الأرض التي استقر عليها الماء؟ هذا مثال للتقريب هذا وصف بليغ فيما يناسب العلم إذا ارتويت من العلم بعد ذلك الشيء القليل الذي يأتي تحس أنه ينفع الناس وتذكره بوضوح فمثلا تجد بعض طلاب العلم قد يتكلم بالكلمات لكن ما تقنع منها النفوس وهو طالب علم لأنها لم تنتج عن رسوخ وفهم لما يتكلم فيه تلحظ في الكلام شيء من الاضطراب في شيء من عدم الوضوح ما استطاع أن يوصل لك الكلام بوضوح تام لماذا؟(97/7)
لأنّه غير راسخ في هذا المقال الذي قاله وهكذا طالب علم أو عالم يكون عنده تسعين في المائة من العلم الذي معه واضح وعشرة في المائة غير واضح تجد أنه يلتبس عليه فلا يستطيع تأدية هذا الذي يلتبس عليه (مشكل عنده) فإذا كان العلم راسخا واضحا قد طلب على مهل فإنه يثبت في القلب وبعد ذلك يمكنك أن تنفع الناس به فلا يغيبنّ عنك هذه الحقيقة وهي أنّ العلم يطلب شيئا فشيئا أما من طريقته ومنهجه التذوق فهذا ليس من العلم في قبيل، ما معنى التذوق؟
هو ما رأيناه كثيرا يحضر عند فلان من المعلمين أو من المشايخ الكبار شهر وبعد ذلك يتركه يمشي أين يذهب؟
إلى آخر يذهب إلى ثالث...فما استفاد لأنه متذوق، فتجد الإخوان يقبلون سنة شهر شهرين ثم يهبطون هذا العلم غير متصل هذا ما يستفيد سنين ثم ينقطع في الغالب ينقطع ثم يصبح كغيره من الناس أما الذي يصبر ويصابر على مرّ الزمان فإنه هذا يحصل بحسب ما كتب الله له.(97/8)
ومما هو من أسباب ثبات العلم وعدم الانقطاع عنه أن تكون مخلصا القصد فيه لابد من الإخلاص في العلم لأن العلم قد أمر به في القرآن وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان مأمورا به فإنه عبادة لأنّ العبادة هي ما أمر به من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي فإذا كان مأمورا به فهو عبادة فإذا كان عبادة يلزم فيها الإخلاص كيف يكون اِلإخلاص في العلم؟ ما النية في العلم؟ سئل الإمام أحمد عن ذلك كيف يكون مخلصا في العلم؟ كيف يكون مخلصا في عمله في صلاته في صيامه ...إلخ كل عبادة يخلص فيها إذا أراد بها الله جلّ وعلا العلم مع إرادته الله وعدم إرادته الرياء والسمعة ولا المكابرة ولا المجاهرة في الناس بالكلام ولا التقدم والتصدر أن يريد بالعلم نفي الجهل ورفع الجهل عن نفسه قيل للإمام أحمد كيف النية في العلم؟ قال ينوي رفع الجهل عن نفسه لماذا لأنّ جهله بالله جلّ وعلا جهله بما يستحقه جلّ وعلا جهله في صفاته جهله في أسمائه جهله بأمره ونهيه جهله باليوم الآخر وما فيه من تفصيلات وجزاء كل واحد على ما يعمل هذا لا شك ما يبدأ به ذوي النفوس الحية قبل طلبهم العلم فإنّ من طلب العلم يريد به الدنيا فهو من أهل الدنيا فإذا طلب العلم لله يريد الأجر والثواب ويريد نفي الجهل عن نفسه فإنه يكون مخلصا لاحظ هذه النية إذا أتت إليك واستقرّت فهي مباركة لأنك دائما تحس أنك جاهل لا أحد ينقطع من العلم حتى من عمّر مائة عام أو أكثر وهو في العلم ما انقضى، العلم واسع سعته هذه تحتاج إلى أن تكون دائما معه بالنية أن تنوي رفع الجهل عن نفسك وستلحظ أنّ بها أشياء ما عرفته فإذا كانت النية الصالحة موجودة ستستمر على العلم لكن إذا كانت النية غير صالحة ستكتفي بالضحالة من العلم.(97/9)
والعلم بالقرآن العلم بالتفسير لا ينتهي فإذا تأملت أنّ ابن جرير رحمه الله صنف كتابه التفسير مختصرا وقد قال لهم هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: قدر كم؟ قال: قدر ثلاثين ألف ورقة قالوا هذا مما تمضي فيه الأعمار فقال الله المستعان ماتت الهمم فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة يعني قدر العشر وهو الموجود اليوم في ثلاثين جزءا فأين الباقي موجود في غيره من التفاسير أشياء لم يذكرها ابن جرير رحمه الله وإنما هو قرب علمه بالتفسير واختصر هذا القدر من العلم بالقرآن إذا وصلنا إلى آخر التفسير نسينا شيئا من أوّله هذا حاصل نمرّ على تفسير سور القرآن ثم من الآيات ما نسينا تفسيرها اشتبهت فإذا كان المرء معه دائما نية رفع الجهل عن نفسه لا ينقطع عن العلم دائما يحس أنه ضعيف جاهل يأتيه الصغير فيعلمه شيئا لم يعلمه من قبل وهو أصغر منه يقول والله اطلعت على هذه المسألة وفوق كل ذي علم عليم يفرح بها (تجد أن صاحب النية الصحيحة إذا أرشده من هو أصغر منه أفرح ما يكون) لماذا؟ لأنّه حصل علما يرفع به الجهل عن نفسه ومن لم تكن نيته صحيحة فإنّك تجد عنده استكبار في العلم: لا...ليس كذلك، لا يفرح بالعلم تأتيه بالعلم الواضح الصحيح لا يفرح به لماذا؟ لأنّ نيته مدخولة، النية الصالحة في العلم سبب عظيم من أسباب الثبات عليه.(97/10)
أيضا من أسباب الثبات: الصبر على المعلّم فإنّ المعلمين أو المشايخ ليسوا على درجة واحدة في التعامل مع الطلاب يختلفون كل واحد تجد عنده أشياء فمنهم من قد لا يهتم بالسؤال ويفصل الجواب لكلّ أحد إذا كان الطالب يستريح له المعلم فصّل له أمّا إذا كان يرى أنه ليس بأهل للتفصيل أو فيه نظر ما فصل له فيحتاج طالب العلم إلى أن يصبر، كذلك قد يكون في بعض المعلمين فيه خصال ومعلوم أنّ كلا من المعلم والمتعلم فيه عيوب أو فيه نقص أو له طبائع خاصة به لأنّهم بشر فإذا كان طالب العلم يطلب في معلّميه الكمال والسلامة من العيوب والنقص فهذا لن يحصل تجده يأتي إلى فلان وينتقده والثاني ينتقده والثالث مَنْ الكامل عنده؟ وهذا يغلب على الذواقين الذين يتنقلون اليوم عند فلان وغدا عند آخر لمَ؟ لأنّه لم يعجبه حتى إنّ بعضهم حضر عددا من الدروس المختلفة سأله أحد العلماء عما أخذ من العلم فقال: حضرت عند فلان فذكر كذا وكذا هذاوالثاني قال كذا والثالث لم يفصل جيدا والرابع أخطأ الحديث و...أخذ يعد ويعد فقال له بئس الرّجل أنت.
من أسباب عدم المواصلة في العلم أن يطلب طالب العلم معلما فيه الكمال هذا لا يوجد إلاّ في المشايخ في علية المشايخ يعني المشايخ الراسخين في العلم الكبار وهؤلاء قد لا يمكنهم أن يعلموا كل الأمة أن يعلموا كل من أراد طلب العلم ولكن خذ من المعلم ما أصاب فيه وهو الأكثر ما دام أنه مؤلف ووثق فيه الطلاب له حسن أداء للعلم وتصور له صوابه أكثر من خطئه أو خطأه يعد قليلا فخذ منه صوابه والخطأ راجعه فيه بصره حتى يبصر.(97/11)
من المهم في طلب العلم أن تكون متواضعا مع المعلمين وهذا سبب من أسباب مباركة الله جلّ وعلا في علمك لأن التواضع للمعلم سبب للاستقرار وعدم التواضع للمعلم سبب للانقطاع هذا مأخوذ من قصة موسى عليه السلام مع الخضر موسى عليه السلام ما صبر والخضر عنده علم عجيب علم من الله جلّ وعلا فموسى رأى الأول (أمر السّفينة) فاعترض مع أنّه عاهده أن لا يعترض والمسألة الثانية الغلام الذي قتله الخضر اعترض موسى عليه السلام قال {أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} ثم الجدار فأخبره أنه لم يستطع معه صبرار قال {هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تسطع عليه صبرا} ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: وددنا أنّ موسى صبر لو صبر لأخذنا علم كثير لكنه لم يصبر فحرم من علم الخضر وسبب الخلاف في الاستنكار هو الاختلاف في العلم الخضر في هذه المسائل أعلم من موسى فاستنكر موسى عليه السلام وهو كليم الله جلّ وعلا ومن أولي العزم من الرّسل كان عند غيره من العلم ما ليس عنده ما سبب الخلاف؟ سببه الاعتراض واختلاف العلم لهذا قد يكون عند بعض الطلاب اعتراض عدم فهم عدم قناعة لكن السبب في عدم القناعة اختلاف العلم ولهذا قال ابن الوزير محمد بن إبراهيم اليماني أو غيره في أبيات حسنة في بيان سبب اختلاف الناس سبب اختلاف الآراء وأن سبب ذلك هو اختلاف العلوم قال:
تسلّى عن الوفاق فربنا
كذا الخضر المكرّم والو
تكدّر صفو جمعهما مرارا
ففارقه الكليم كليم قلبه
وما سبب الخلاف سوى
قد حكى بين الملائكة الخصام
جيه المكرّم إذا ألمّ به لماما
فعجل صاحب السر الصراما
وقد ثنى على الخضر الملامة
اختلاف العلوم هناك بعضا أو تماما
الخصام بين الملائكة في أي شيئ؟ في قصة آدم وفي حديث اختصام الملأ الأعلى كذلك الاختصام بشأن أهل النار وغير ذلك...(97/12)
قوله: (الوجيه المكلّم) هو موسى عليه السلام قوله: (تكدّر صفو جمعهما مرارا) تكدّر صفو الجمع بأي شيئ؟ باعتراض موسى عليه السلام موسى اعترض فبين له الخضر أن ليس له هذا (ليس من أدب المتعلم مع المعلم أن يعترض عليه بشيئ لا علم له به) {هل أتّبعك على أن تعلمني مما علّمت رشدا} فلما لم يفِ موسى عليه السلام بالشرط عجل صاحب السّر (الخضر) الصرامة (الفراق) ففارقه الكليم (موسى) وقد ثنى (أعاد) لاعتراض.
ما سبب الخلاف؟ اختلاف العلوم هذا الطالب مثلا يستنكر على المعلم يقول: لا ليس كذا (وهو نظر لها من جهة) سبب الاختلاف هو اختلاف العلم هذا علمه واسع وهذا علمه ضيق فصاحب العلم الضيق اعترض على صاحب العلم الواسع فصار بينهما ما سبّب الانقطاع من الاستفادة ولذلك قال:
وما سبب الخلاف سوى اختلاف
فكان من اللّوازم أن يكون الإله
فلا تجعل لها قدرا وخذها
العلوم هناك بعضا أو تماما
مخالفا فيها الأناما
شكورا للذي يحيى الأناما(97/13)
يعني (هذه في مسائل القدر) إلى آخر أبياته المقصود من ذلك أنّ صبر المتعلم على المعلم وعدم كثرة الاعتراض هذا يجعله يستمر ويستفيد لأنّ طالب العلم وهو يسمع إذا عوّد ذهنه أن يعترض، أن يستشكل لن يتابع الكلام يفهم أوله وآخره وتسلسل المعلم فأنت تسمتمع مثلا لأحد المشايخ وهو يتكلم فكلما أورد كلمة أتيت باعتراض إذا أورد لفظ حديث قلت في ذهنك: لا هذا ليس لفظ الحديث، الحديث له ألفاظ وروايات أنت حفظت واحدة فلعلّ المعلم عنده ثلاث أربع روايات فانشغلت بالاعتراض إذا انشغلت بالاعتراض حرمت ولكن إذا انشغلت بالفائدة فما كان من الفوائد فيها الصواب استفدت وما كان فيه غير الصواب خطأ (ذهب وحده) أو شيء صححته بينك وبين نفسك أو راجعته فيه هكذا يكون العلم، أما الاعتراضات النفسية هذه التي تطلب الكمال أو نفسية الناقد أي كلّما سمع شيئا من معلمه نقد ولو في نفسه، فتجده يحضر في نفسه أسئلة واعتراضات والمعلم يتكلم هذا لا يستفيد وهذا سبب من أسباب الانقطاع في العلم.(97/14)
من أسباب الانقطاع: وهذا أيضا ملاحظ أن يكون المرء يطلب شيئا كبيرا فعنده همة في أول الطلب هذه الهمة تكسّر الجبال ماذا تريد؟ أنا أريد أحفظ الكتب الستة أو يقول: الواسطية هذه مختصرة أنا أريد أحفظ التدمرية أو يقول ما أريد أحفظ بلوغ المرام بلوغ المرام هذا خفيف أريد أحفظ منتقى الأخبار فيه ستة آلاف حديث أونحو ذلك ما أريد أحفظ زاد المستقنع هذا مختصر أريد أحفظ مثلا الإجماع والخلاف الذي في المغني مرض هذه الأشياء التي ذكرتها مرّ عليها بعض الشباب ممن هم على هذه الشاكلة صحيح أول الأمر عنده هذه الهمة العظيمة ويشكر عليها لكن هذه الهمة لا تستمر وما عرف عن أحد إلا نوادر أن تستمر معهم هذه الهمة فإذن من أسباب الانقطاع عن الطلب أن تحمل نفسك في فترة الهمة والقوة ما لا تحتمله في تلك الفترة ولكل عمل شرة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح قال: ((إنّ لكل عمل شرة وإنّ لكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح ومن كانت فترته إلى معصية فقد خاب وخسر)) لكل عمل شرة حتى الإقبال على العلم له شرة (عنفوان) كأنّه سيقرأ مائة مجلد وسيحفظ ويعمل...ولكن لهذه الشرة فترة لابدّ: ((إنّ لك عمل شرة)) الشرة العنفوان والقوّة ولكل شرة فترة حتى في العبادات يجد من نفسه نشاط وإقبال تجده مقبلا على العبادة وكثرة الطاعات وإقبال على التلاوة ويجد أحيانا من نفسه كسل إذن الفترة هذه لابد منها لكن المهم لا تكن فترة إلى نكوص فإذا كان كل واحد له فترة فأسأل الله أن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين ((لكل عمل شرة)) ما الذي ينبغي أنه إذا أقبلت ووجدت من نفسك الشرة خذ بما يطاق لا تأخذ بشيء لا تحتمله في الفترة مثلا إذا وجدت إقبالا احفظ القرآن احفظ مثلا من متون الأحاديث الأربعين النووية في شرة في فترة قوة أحفظ مثلا بلوغ المرام عمدة الأحكام بحسب ما يتيسر لك، وجدت عندك قوة احفظ كتاب التوحيد احفظ مثلا الواسطية ونحو ذلك.(97/15)
هذه إذا حصلتها في فترات الشرة في فترات القوة فأنت على خير عظيم والواقع أن الذين وجدوا من أنفسهم الشرة هذه والقوة والعنفوان ما استطاعوا أن يكملوا هذه الكتب إلا نوادر حتى هذه الكتب التي عند بعض الناس إنها مختصرة ما استطاعوا أن يكملوها ولهذا عليكم من العمل ما تطيقون.
من أسباب الانقطاع: أنّك تطلب شيئا بعيدا تطلب أشياء العلماء إلى الآن ما حصلوها إلا نوادر في الأمة حصلت ذلك فإذا وجدت هذا من نفسك لتكن قوتك فيما تطيق وما ينفعك وإذا تحركت رياحك فاغتنمها كما قال الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
إنّ لك لّ عاصفة سكون
من أسباب الانقطاع: عن العلم أنّ المرء لا يطالع ولا يبحث من بعض طلبة العلم يأخذ بالوصية المعروفة بالتدرج في العلم وأن يمشي شيئا فشيئا ولكن لا يبحث ولا يطالع.(97/16)
مثلا تقول لطالب العلم أولا تمشي على الواسطية وشروح كتاب التوحيد والفقه في الزاد وشروحه وغيرها من العلوم لكن لا يكون عنده مطالعات فيجد أنّ هذه المتون فيها شيء من الثقل ما فيها إفراح للنفس والنفس تحتاج إلى تنويع وتقليب فإذا لم يكن عنده مطالعات مثلا في التراجم مطالعات في التاريخ مطالعات في الأخبار مطالعات في اللغة لم يكن يبحث كان إذا مرّت عليه مسألة هذه المسألة تجمع الأقوال فيها هذه آية ما كلام المفسرين فيها إذا ما كان عنده مطالعة متنوعة ولا بحث فتجد أنه يخمد بعد فترة فإذن يحتاج طالب العلم مع التدرج إلى أن يكون له إلمام كيف يبحث؟ ويكتب ويطلع معلمه أو يطلع المشايخ على ما كتب حتى ينمون عنده هذه الموهبة ولقد قال النووي في مقدمات المجموع أو في غيرها انه من أسباب ثبات العلم وتحقيقه أن يكتب المرء ما بحثه وما حققه يبحث وينظر ويكتب لا يكتب للتصنيف مثل ما هو موجود الآن صغار مثلا ما حققوا العلم تجد أنهم ألفوا كتبا ونشروها بعض الرسائل الصغيرة التي رأيتها رسالة من أولها إلى آخرها فيها حوالي خمسة وعشرين صفحة فيها ثمانية عشر خطأ في اللغة وهي خمس وعشرين صفحة هذا مثل ما قال ابن حزم في رسالته التلخيص في وجوه التخليص: ((كيف يكون مأمونا على العلم من لا يحسن اللغة)) كيف يؤمن على العلم؟ كيف نأمنه على فهم الكتاب والسنة؟ وعلى ما نقله لنا من كلام أهل العلم وقد فهمه جيدا؟ إذا كان ما أحسن كتابة عشرين صفحة بدون أخطاء فكيف يكون مأمونا على كلام العلماء الذين ينقل عنهم إذن فانتبه إلى هذه إنه القصد من الكتابة التي أقول لك هو البحث ليس هو النشر لا بل تبحث مسألة تجعلها في نفسك فكم من مسألة كتبنا فيها وهي مطمورة إذا رأيتها عجب لكن في فترة ما كتبناها في فترة أوائل الطلب والشخص فرح بها جدا فرح أنه كتب وحقق وقد حصل لي في فترة من الفترات أن جمعت الأصول اللغوية لعلوم الحديث وكان أحد الذين كتبوا في المصطلح يتمنى أن(97/17)
تجمع الأصول اللغوية لعلوم الحديث مثلا حديث الصحيح ما معنى الصحيح في اللغة ولماذا اختار أهل الحديث هذا الاسم؟ الحسن لماذا؟ المضطرب المدبج المنقطع المقطوع المرسل المدلس الضعيف لماذا اختارو؟ من فترات الشباب أن جمعت هذا من كتب اللغة في بحث استمرّ مدّة طويلة هذه الأقوال فأخذتها وقرأتها على الشيخ الأستاذ أديب العربية محمود شاكر المعروف كان في الرياض مكثت فترة قرأت فيها عليه بعض كتب اللغة وأنا فرحان بهذا الذي كتبت وهو دقيق ينظر فيه وفيه عجب فقلت: يا شيخ أنا عندي كتابات في اللغة لعلك نعطيك فترة فلما قرأ ما قرأ قلت: يا شيخ إيش رأيك قال: ماش أنا كنت أبغاه يمدح، قال: هذا عبث شباب هي كلمة قاسية لكنها نافعة لكنها كانت خطوة في البناء اللغوي مثلا في طلب العلم لكن نشرها لم يكن مناسبا مثل ما قال هذا عبث شباب صحيح شاب فرح وجمع إلى أن حصل على الشيء وكتبه.
فالمقصود البحث ينمي عندك القوة العلمية ويجعلك مواصلا في الاطلاع على الكتب وفي النظر لكن لا تنشر ولا تستعجل خلها عندك لأنها جزء من بناءك العلمي فإذن كيف تمتع الانقطاع لمن كان متدرجا في طلب العلم برعاية المتون يكون بهذا الأمر وهو أنك تبحث وتكتب وتري المعلمين ما كتبت حتى يصححوا لك المسار تكون كتاباتك نقية ومتزنة ولكن لا تستعجل بشيء فإنما هي لغرضين لاستمرارك في العلم وعدم الانقطاع في العلم ولتكوين الملكة العلمية المناسبة.
هذه كلمات اقتضاها عدم مجيء أكثر الإخوة في هذا الدرس ولعل أن يكون فيها بعض النفع وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
محاضرة بعنوان
أدب السّؤال
للشيخ صالح آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للخيرات وجنبنا سبل المنكرات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:(97/18)
أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلني وإياكم ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر وهذه الثلاث هي عنوان السعادة من وُفّق إليها فقد أوتي خير كثيرا ومن حيزت له هذه الثلاث فقد حيز له خير الدّنيا والآخرة، أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلنا وإيّاكم من أهلها.
هذه الكلمة موضوعها عن (أدب السّؤال) والسؤال هذا المقصود به سؤال أهل العلم أو سؤال المعلّمين عمّا يحتاجه الناس وإلاّ فإنّ عموم لفظها يشمل سؤال الرّب جلّ وعلا بالدعاء لأنّ سؤال الله جلّ وعلا له أدب وله أحكام ينبغي للعبد أن يحيط بها وأن يكون مراعيا لها لأنّ كثيرا من أسباب ردّ إجابة السؤال أن يكون السؤال فيه الاعتداء أو يكون السؤال على غير المشروع أو أن يكون السائل لم يحسن المسألة فقد قال عمر رضي الله عنه في سؤال الله جلّ وعلا: ((إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء فإذا وفقت إلى الدعاء جاءت الإجابة)).
موضوعنا عن أدب السّؤال الذي هو سؤال أهل العلم والحاجة ماسّة إلى معرفة آداب سؤال أهل العلم، ما طريقة سؤالهم؟ وعمّا يُسألون؟ وكيف يكون السؤال؟ وكيف تتلقى الإجابة؟ وما ينبغي للمسلم من توقير أهل العلم وعدم الإلحاح عليهم بالمسائل ونحو ذلك من الآداب.(97/19)
وأهل العلم فيما مضى قد دونوا كثيرا من هذه الآداب في مصنفاتهم (في أدب العلم والتعلم) وفي (أدب الطالب مع شيخه) وفي (حقوق أهل العلم بعامة) والله جلّ وعلا قال في محكم كتابه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} قال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يعني بعضهم يحبّ بعضا وينصر بعضا ويقيل عثرة بعض ومن أكثر أهل الإيمان حقا في الولاية والمحبة والنصرة أهل العلم لأنهم لما شهد الله جلّ وعلا لهم به هم أخصب أهل الإيمان لأنّ الله قرنهم بنفسه وملائكته بالشهادة له بالتوحيد حيث قال جلّ وعلا {شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فأولوا العلم من الناس هم الصفوة كما قال أيضا سبحانه {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فالله جلّ وعلا رفع المؤمنين على الناس جميعا (رفعهم درجات) ورفع أهل العلم من المؤمنين على أهل الإيمان عموما درجات فهم الخاصة وهم الصفوة لأنّ معهم من فهم كلام الله جلّ وعلا وفهم سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جعل قلوبهم أكثر نورا من قلوب غيرهم لأنّ النور بالعلم والنور إنما هو بفقه القرآن والسنة {قد جاءكم من الله نور} من فقه القرآن وفقه السنة كان أعظم نورا في القلب وكان أعظم حقا لحقوق أهل الإيمان.(97/20)
الملاحظ أنّ الحريص على الخير من الناس يسأل أهل العلم يسألهم في مسائل فقهية فيما يواجهه أو يسألهم في مسائل اجتماعية فيما يواجهه من مشاكل بيته في عمله أو نحو ذلك ويسأل المتعلم المعلم لكن وجدنا كثيرا من الأسئلة قد خرجت عما ينبغي من مراعاته من توقير أهل العلم من مراعاتهم وعدم الإخلال بحقهم فتجد أن من الناس من يخوض في سؤاله أهل العلم أمورا لا ينبغي أن يخوض فيها وأصل كثرة السؤال وكثرة المسائل قد جاء النهي عنها فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) قال: أهل العلم قوله كثرة مسائلهم يعني عما لم يقع وعما لم يأت بيانه في الكتاب المنزل ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ أشدّ المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين فحرّم عليهم لأجل مسألته)) وقد قال جلّ وعلا {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها} والأحاديث التي جاءت في النهي عن كثرة السؤال متعددة وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلها في القرآن وقد قال جلّ وعلا: {ويسألونك عن المحيض} {وإذا سألك عبادي عني} إلى آخر هذه المسائل مجموع ما سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم منه مقربون إنما هي ثلاث عشرة مسألة وكلها في القرآن وقد كان الصحابة من توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومن كراهتهم لكثرة المسائل يحبون أن يأتي الرجل من البادية ومن خارج المدينة حتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيستفيدوا من السؤال ومن الجواب وقد جاء أيضا في الحديث الصحيح: ((إنّ الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال))(97/21)
وقد قال أيضا الحجاج بن عامر الثمالي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم وكثرة السؤال...)) فالأحاديث دالة على أن كثرة الأسئلة لأهل العلم إنما ذلك داخل في المكروه إلا ما يحتاج إليه العبد فيما يأتي بضوابطه والله جلّ وعلا أمر المؤمنين بأن يسألوا إذا جهلوا وقد قال سبحانه وتعالى لما أنكر كفار قريش أن يكون الرسول بشرا رجلا وقالوا إن الرسول يجب أن يكون ملكا قال سبحانه وتعالى في سورة النحل {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر} {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} هذه الآية أمر الله جلّ وعلا فيها أهل الشرك كفار قريش وغيرهم أن يسألوا أهل الذكر يعني أهل الكتاب عما إذا كان الرسول الذي جاءهم بشر أم هو ملك؟ إذا كان الرّسول الذي جاءهم بشرا فاقبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه بشر قد خلت من قبله الرّسل وقد وصف أهل الكتاب بأنهم أهل الذّكر لأن الكتاب الذي أنزله الله جلّ وعلا هو الذكر فأعلى الذكر القرآن كما قال سبحانه {إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وهنا في هذه الآية قال جلّ وعلا {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} قال العلماء: هذه الآية نازلة في سؤال أهل الكتاب ولكنّ عموم لفظها يشمل سؤال أهل القرآن وأهل السنة لأنهم أحق ببيان ما نزل الله جلّ وعلا ولهذا قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين ليناس ما نزل إليهم} قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره عند هذه الآية وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم وإنّ أعلى أنواع العلم، العلم بكتاب الله المنزّل فإنّ الله جلّ وعلا أمر من لم يعلم بالرّجوع إلى أهل العلم وأهل الذكر في جميع الحوادث وفي ضمن ذلك تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر الله جلّ وعلا بسآلهم وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة إذن الأصل(97/22)
موجود في كتاب الله وإنّ المرء إذا جهل شيئا ولم يعلم حكمه فإنه يسأل عنه أهل العلم وإذا سأل عنه أهل العلم: (أهل الكتاب والسنة الذين رسخت قدمهم في ذلك) فإنّ تبعته في ذلك تزول لأنه قد سأل مَنْ أمر الله جلّ وعلا أن يسأل فمن جهل شيئا وسأل عن حكمه فأفتاه ثبت فإنّ تبعته قد زالت وقد برىء من التبعة فإذا امتثل ما أفتى به فيكون قد زال عنه المحذور لأنّه امتثل ما أمر الله جلّ وعلا به في قوله {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} سؤال أهل العلم وسؤال أهل الذكر له أحوال (الناس يحتاجون إلى أن يسألوا ولابد ولكن هذا السؤال من حيث هو له أحوال):(97/23)
حال من جهة السائل وحال من جهة المسئول لنعلم جميعا أنّه حتى يصل المسئول إلى الجواب الموافق للحقّ إن شاء الله يجب على السائل أنْ يراعي آدابا وأن يراعي أشياء منها: أن تكون مسألته واضحة غير ملتبسة (يتبيّن المسألة قبل أن يسأل) والملاحظ أنّ من السائلين (المستفتين) مَنْ إذا طرأت على باله مسألة أو واجهته مشكلة فإنه يأتي أهل العلم ويسألهم مباشرة (دون أن يستحضر ويستعد لتفاصيل هذه المسألة) أو مباشرة يرفع الهاتف ويسأل العالم عما عرض له (دون أن يستحضر ما اتّصل بهذه المسألة) فإذا استوضح المسئول أو العالم وسأله عن بعض التفاصيل قال والله ما أعلم هذا فلان أوصاني أن أسأل له هذا كذا قال:...فلابدّ للسائل أن يستحضر تفاصيل المسألة قبل أن يسأل لأنّه يسأل عن حكم الله جلّ وعلا الذي إذا أدركه أدرك الحكم والمسئول (العالم) الذي يسأل لابد أن تكون المسألة عنده واضحة وإلا فكيف يجيب على شيئ ليس بواضح؟ ولهذا ينبغي للسائل أوّلا أن يستحضر السؤال جيدا وأن يعدّ له في عبارة ملخصّة لا تظنّ أنّ المسئول (المفتي) طالب العلم (الذي تأهّل للجواب) لا تظنّ أن الذي يتصل عليه واحد فقط أو اثنين اليوم مع الهاتف صار الذي يتصل من الداخل أو الخارج بأهل العلم عشرات الآلاف (في السنة) وفي اليوم الواحد قد يتصل عشرين أو ثلاثين فلهذا كان من الأدب الذي ينبغي مراعاته أن يستحضر السائل ضيق وقت المفتي (ضيق وقت المجيب على السؤال) فعليه أنْ يعدّ السؤال بعبارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض ويجتهد في أن يعين المفتي على وقته وحتى تكون المسألة أنفع يعني لا تظن أن هذا الذي أجابك أو ردّ عليك بالهاتف من أهل العلم أنه لك وحدك بل اعلم أنّ الذي يسأل أهل العلم في اليوم عشرات الناس يسألون في كل وقت فلابدّ من رعاية الحال والتأدبّ معهم في اختصار المسألة وتقبل الجواب بحسب ما أورد فإذا كانت المسألة واضحة كان الجواب واضحا ولهذا ترى أنّ أسئلة جبريل للنبي صلى(97/24)
الله عليه وسلم دليل على وضوح المسألة وما ينبني على وضوح المسألة من وضوح الجواب قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: ((أخبرني عن الإسلام أخبرني عن الإيمان أخبرني عن الإحسان؟ وعن أشراط الساعة وما أمارتها)) ونحو ذلك فوضوح السؤال وقلة ألفاظه واستحضار تفاصيله ووضوح السؤال قبل أن تسأل هذا من الآداب التي ينبغي مراعاتها وكثيرا ما تكون الإجابة غير واضحة لأنّ السائل لم يحسن السؤال ولم يستعد للسؤال فلوا استعدّ وجمع تفاصيل السؤال لكانت الإجابة واضحة.
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال أن لا يسأل السائل أهل العلم عن شيء يعرف جوابه بعض طلبة العلم أو الذي لديهم اطلاع لديهم معرفة يكون قد بحث المسألة وعرف ما فيها من الأقوال فيذهب ويسأل فإذا سأل وأجيب بجواب موافق لأحد الأقوال أتى باعتراضات يقول: هذا ما دليله؟ هذا الدليل قدح فيه بكذا... أو وجّه بكذا... قال بعض أهل العلم فيه كذا ونحو ذلك... ففرق ما بين أن تسأل لتستفيد أو لتعلم وأنت لا تعلم وما بين أن تناظر.
العالم أو المعلم ليست وظيفته المناظرة ولم يفتح لك المجال لتناظره تأتي وتقول أنا أريد أن أناظرك في المسألة الفلانية ما معنى المناظرة؟(97/25)
معناها أجادلك فيها تعرف ما عندي وأعرف ما عندك حتى نصل إلى الحق وهذا من عدم رعاية الأدب مع أهل العلم لأن في ذلك بعض التّعدي على حق أهل العلم إلا إذا افصحت له بأنك تريد أن تبحث معه هذه المسألة فإذا أذن لك بالبحث فإنه عند ذاك تخرج المسألة من كونها استفتاء وسؤال وجواب إلى مسألة بحث واستفصال وهذا أيضا يكون عند المتعلمين في مجالس العلم فإنه يكون عنده معرفة بالجواب ولكن يسأل ليختبر (بعض الأحيان) أو (ليعلم غيره بأنه سأل سؤالا جيدا) ونحو ذلك وهذا الوقت الآن تقاصر عن أن نسأل عن شيئ قد علمنا فلنسأل عن شيئ لم نعلمه ولهذا كان مما ينبغي التأدب فيه أن لا تسأل عن شيئ إلا عن شيئ لم تعلمه وذلك لأنّ الله جلّ وعلا قال {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فإن كنت تعلم فلا تسأل لأنه قد جاء عندك العلم ووقت المفتي أو العالم أو طالب العلم ينبغي أن يصرف في أشياء كثيرة والواجبات الآن يتقاصر عنها وقت الكثيرين فكيف بالاستطراد ونحو ذلك.(97/26)
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال ألاّ تسأل أكثر من عالم بحثا عن جواب تهواه نفسك، بعض الناس يسأل أهل العلم بالهاتف (والهاتف الآن قرّب) وأكثر الإشكالات تقع حين يسأل عالما وبعدها يسأل الثاني ويسأل الثالث والرابع فهو يضطرب في فهم إجابات أهل العلم وفي الجمع بينها ثم بعد ذلك يذهب إلى (شيئ غير) جيّد وهو أنه يذهب إلى أسهل تلك الأقوال وهذا لا ينبغي فإنه الذي ينبغي في السؤال أن تبحث عمن تثق بعلمه ودينه في ذلك كما قال أهل العلم ينبغي للمستفتي أن يسأل من يثق بعلمه ودينه فإذا وثقت بعلمه فإنك تسأله ولا تسأل غيره لأنك إذا سألت غيره فإنه قد يكون عنده من الجواب غير ما يكون عند الأول فتقع أنت في حيرة لكن لك أن تسأل غيره فيما إذا كان جوابه مشكل من جهة الدليل فإنّ له أن يسأل غيره لأنه ما اقنع بالجواب لا من جهة عدم مناسبته لحاله أو من جهة صعوبة الجواب أو أنه لا يناسب أو يريد أن يسأل عمن يخفف له لا ولكن من جهة أنه استشكل هل هذا حكم الله جلّ وعلا وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في المسألة أم لا؟ لفهمه من بعض الأدلة والأحاديث خلاف ذلك، إذن من الآداب ألاّ تسأل أكثر من عالم في المسألة لأن كثرة الأسئلة هذه:
أولا: تضيق وقت العلماء والثاني: أنه يوقع ذلك السائل في اشكالات وكثير من الذين سألوا يقولون: احترنا ما ندري هذا يقول كذا وهذا يقول كذا نقول: أنت الذي أخطأت أوّلا حيث سألت أكثر من عالم، سل من تثق بعلمه ودينه وخذ بفتواه وتبرأ أمام الله جلّ وعلا لأن الله جلّ وعلا أمرك بأن تسأل أهل الذكر وقد امتثلت بسؤال أهل الذكر فلا تزد على نفسك ثقلا وحملا.(97/27)
من الآداب: أيضا أن لا تسأل حين تسأل بإلغاز السؤال مثلا هناك من يسأل ويقول فلان من الناس حصل له كذا وكذا وهو يريد أن يخرج عن مسألته بخصوصه إلى مسألة مشابهة وهو يظن هذا السائل أنه إنْ أجيب على تلك فمسألته مثل تلك المسألة فيقول مثلا لو حصل عليه كذا وكذا ومسألته في الواقع تختلف عن تلك ولكنه يظن أنّ هذه وتلك سواء وحتى لا يظن العالم أنّ السائل هو الذي وقع في المسألة (ويحتاج إلى الجواب) فيوحي بطريقته هذه أنه يسأل لغيره، سؤال أهل العلم ليس فيه عيب بل هو شرف ويدل على حرص السائل على الخير ورغبته في إبراء ذمته ويكون متخففا من التبعة حين يلقى ربه جلّ وعلا فحين تسأل لا تسأل أهل العلم بإلغاز (سل عما وقع بوضوح ولا حرج في ذلك) فقد سألت بعض الصحابيات النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة إذا احتلمت ماذا يكون حكمها؟ والحياء لا يكون في السؤال لأنّ الحياء محمود لكن فيما إذا كان الحياء يبعدك عن معرفة حكم في الدين فإن ذلك غير محمود كما جاء في الحديث.(97/28)
إذن من الآداب التي ينبغي لنا أن نراعيها أن تسأل السؤال الذي تحتاجه وأن لا تظن أنك إذا ألغزت بالسؤال وأجاب أنّ الجواب ينطبق على مسألتك لو قلت له المسألة بوضوح والسؤال أو الحادثة التي تريد أن تسأل عنها بوضوح يكون الجواب مختلفا تماما فلا تكن ملغزا في سؤال أهل العلم لا عن مسألة فقهية ولا عن أشخاص ولا عن أحوال بل ينبغي أن يكون السؤال واضحا وذلك من توقير أهل العلم ومن السعي للوصول إلى الجواب الصحيح أما أن نعمي على أهل العلم حتى نحصل منهم على جواب فإن هذا لا يوافقه ما ينبغي من توقير أهل العلم وأيضا لا تبرأ به أنت لأنك أوقعت العالم في الجواب ولو عرف السؤال على حقيقته ومرادك منه لربما أجاب بجواب آخر فأنت لا تبرأ ولهذا نرى أن كثيرا من الإشكالات التي حصلت في تضارب أقوال بعض أهل العلم في بعض المسائل إما الفقهية أو المسائل الواقعة أو الاجتماعية ونحو ذلك إنما جاء من جهة من يسأل بسؤال ملغز معمى أو يكون المراد وراءه وليس في ظاهره وهذا لا ينبغي لأنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمر واضح فتعدى هذا الأمر تعدى لما ينبغي من الأدب في السؤال.(97/29)
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال أن يكون السائل يسأل لنفسه وأن لا يسأل لغيره، كثير من الأسئلة يكون فيها سائل يقول: أحد الأقارب أوصاني يسأل عن كذا وكذا أو يقول لو حصل لفلان (صديق لي في العمل) حصل معه كذا وكذا وأوصاني لأسأل له!! لم هو لا يسأل؟ يختلف الحال لأنّ المفتي أو العالم لابدّ أن يستفصل لابدّ أن يسأل ما الذي حصل؟ هل حصل كذا وكذا؟ فإذا كان السائل غير من حصلت له المسألة فإنه لا يكون ذلك معينا على الجواب إلاّ إنْ كان السّؤال مختصرا وكان المانع من سؤال السائل هيبة العالم أو الاستحياء كما فعل علي رضي الله عنه حيث كان رجلا مذاء يعني (كثير المذي) فاستحيا أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته (لأجل أنّ فاطمة رضي الله عنها زوج علي رضي الله عنه) فاستحيا أن يسأل في مثل هذا السؤال الذي له تعلق بالزوجة فأوصى المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة (كثرة المذي) فسأله فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقل الجواب إلى علي رضي الله عنه إذن الأصل أن لا يسأل المرء إلا فيما يخصه لأنّ الجواب يختلف بحسب السائل وبحسب عرض السؤال والناقل ليس دائما ينقل الصورة على حقيقتها وكثيرا ما يحصل من الأجوبة ما ليس فيه دقة بسبب عرض السائل.(97/30)
من الآداب المرعية في السائل أنه إذا سأل أهل العلم في الهاتف أو في غير الهاتف فلا يسجل الجواب مكتوبا أو على جهاز التسجيل إلا بإذن العالم وقد مرّ عليّ أنْ سجل بعض الإخوة لأحد أهل العلم جوابا ليس كما ينبغي وهذا راجع إلى أنّ العالم يجيب على قدر الاستفتاء ولو أخبر العالم أنّ هذا يسجل وأن الجواب يسمعه آخرون لكان جوابه غير الجواب الأول فمن عدم توقير أهل العلم وعدم رعاية حقهم بل من الافتئات على حقهم أن تسجل جواب أهل العلم بالهاتف أو كتابة ثم تنشره دون إذنه لأنه هو الذي له الحق في أن تنشر فتواه على الملأ أو لا تنشر أو لا تسجل فالسائل سأل فيما يخصه فهل أذن العالم لك أن تسجل السؤال والجواب بالهاتف؟ فإذا أردت أن تسجل فتستأذن في البداية وتقول أحسن الله إليك أنا محتاج للجواب مسجلا على الشريط والآن أريد أن أسجله فإذا أذن تكون أنت قد أتيت بما ينبغي من الأدب (ولم تكن ممن لا يوقرون أهل العلم أو يجعلون الأمر غير واضح لهم فيستغل بعض الفرص فيسجل عليهم ما لا يرغبون في تسجيله) مرة من المرّات حصل مثل هذا ولما سئل قال: أبدا ما قلت كذا وكذا على تفاصيله، بل المسألة فيها تفصيل بنحو ما، لم قال العالم إنّ المسألة فيها تفصيل لأنّه استحضر من المسألة الآن إنه سيكون أخذ ورد معنا ذالك فيه إشكال لكنه ظن حين سأله السائل بالهاتف أنها لا يعدو عن اهتمام السائل بنفسه إذن مما ينبغي من توقير أهل العلم وقد أمرنا بتوقيرهم كما جاء في الأثر عن عدد من التابعين أمرنا بتوقير أهل العلم ومن توقيرهم أن لا تفتئت عليهم بتسجيل أو كتابة وتنشر إلا بعد اقراره حتى ما تسمعه منه في درس (في شرح مسائل) لابد من تعرضه عليه فيقر أن ينشر أو يصور أو ينسخ أو يسجل ... لابد من ذلك لأن ما يصلح للقليل قد لا يصلح للكثير لأن الكثير يعني الأمة أو الناس تختلف طبقاتهم، العالم حين يتكلم إلى الحاضرين يرعى حال الذين أمامه (عدد قليل محدودون محصورون) لكن(97/31)
لو استحضر أنه سينشر على الناس فيطلع عليه فئات من الناس وبعقول مختلفة لكان جوابه يختلف عن الجواب الأول وبهذا ترون أن بعض الأسئلة التي يسأل فيها أهل العلم بالهاتف يكون الجواب مختلفا عما لوسئلوا مثلا في برنامج نور على الدرب فيكون الجواب هناك في تفصيل وفيه دليل وفيه تعليل ونحو ذلك لأنه سينشر على الملأ لكن الجواب لك يكون على حسب الحال يصلح هذا أو لا يصلح يجوز أو لا يجوز السنة كذا (باختصار) لأن الوقت يضيق عن أن يفصل لكل أحد.
هذه من بعض الآداب المتعلقة بالسائل.(97/32)
لعلنا نضيف من الآداب المتعلقة بالسائل أن لا يسأل السائل عن أشياء لا يفهمها إلا الخاصة ويثير السؤال أمام العامة يعني في مثل هذه المحاضرة يأتي سؤال قد لا يعلم معناه ولا يفهم جوابه إلا فئة قليلة من طلبة العلم فلم تسأل أمام الناس؟ كذلك إذا حضرت في مجلس عند بعض أهل العلم فإن المجلس يحضر فيه العامي والمتوسط المثقف المتعلم طالب العلم فلا تسأل العالم أو طالب العلم عن سؤال إنما هو للخاصة (ليس العامة) وقد قال علي رضي الله عنه: ((حدّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله)) وقد بوب البخاري في (كتاب العلم) من صحيحه بقوله: ((باب من خص بالعلم قوما دون آخرين كراهية أن يقصر فهمهم عنه فيقعوا في أشد منه)) مثال ذلك أن في مثل هذا الجمع المبارك يأت ويسأل عن بعض المسائل الدقيقة في العقيدة (الناس يطلب منهم المسائل العامة فيما يجب عليهم من العقيدة) لكن لا ينبغي أن تسأل عن المسائل الدقيقة أمام من لا يفهم الجواب فيما لو أجاب المسئول عن السؤال، مثلا الكلام على بعض أحاديث الصفات التي قد لا يفهمها البعض مثلا الكلام على بعض الآراء في مواقف يوم القيامة والاختلاف فيها ونحو ذلك والكلام على بعض دقائق المسائل في الفقه واختلاف أهل العلم فيها هذا يقول كذا وهذا يقول كذا العامة إنما يحتاجون قولا واحدا بدليله يمشون عليه ولكن السؤال الخاص إنما يكون لأجل هذا السائل ولمن هم في طبقته ولهذا ينبغي أن تفرق فرقا مهما بين السؤال والبحث (بين السؤال الذي تحتاج معه إلى جواب وبين بحث المسألة) فتارة يكون السائل يريد بحث المسألة في المقام ويعرضها بصيغة سؤال وهذا غير مناسب ولهذا نقول لا تسل عن أشياء لا يفهمها إلا الخاصة فمن أدب السؤال أن تسأل بما يناسب المقام وألاّ تسأل عن أشياء لا يستوعب الجواب عليها أكثر الحاضرين.(97/33)
من الآداب أيضا أنك إذا سألت فأجبت أو سمعت علما فإنك تستفصل فيه أو تسترجع فيه حتى تفهمه لأنّ بعض أهل العلم قد يكون جوابه سريعا مثلا تسأل أنت وقد أتيت بأدب السؤال وأتيت بكلمات واضحة وتأنيت فيه فأوضحت على العالم فيكون الجواب سريعا، فهنا ينبغي لك أن لا تأخذ ما علق بذهنك في هذه الحال بل إذا كان عندك اشتباه فتستفصل منه أو تسترجعه في الجواب حتى تفهمه قد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة أنه قال: ((كانت عائشة رضي الله عنها لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه)) وقد بوب عليه البخاري أيضا في (كتاب العلم) من صحيحه.
فالأدب الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أنهم إذا سمعوا شيئا يستشكل عليهم فإنهم يراجعون حتى يفهموا حتى لا ينقلوا للناس نقلا خاطئا أو حتى لا يعمل بشيئ غير واضح فإذن هذا ينبغي للسائل إذا أجيب ولم يتضح له جواب أن لا يترك السؤال على الجواب الذي هو غير واضح فيذهب يعمل بشيئ غير واضح بل يسترجع ولا بأس أن يقول ما فهمت الجواب وليسأل مرّة ثانية هل كذا أو كذا فيستوضح حتى يكون الجواب واضحا قارا في ذهنه.
من الآداب التي ينبغي على السائل مراعاتها أن يكون لبقا مع أهل العلم متأدبا معهم وأن يكون لأهل العلم هيبة في سيرهم وتوقيرا في قلبه فإنك إذا زدت في احترام العالم وشعر بذلك منك فإنه يزيدك من العلم والجواب بأنك قد تحققت بالزيادة يعني أصبحت متأهلا للزيادة لأنّ دليل تأهّل طالب العلم للتفصيل في الجواب والاستفادة الكاملة من العالم أن يكون متأدبا معه لا يأتي مثلا ويستعمل كلمات غير جيّدة أو كلمات فيها جفاء بل يتأدب ويتحيّن الفرصة الجيّدة للعالم فيسأله.(97/34)
هنا تنتبه إلى أنّ أوقات العالم تختلف فهناك وقت قد يكون مناسبا لك لا يكون مناسبا له فيكون الجواب الذي جاءك بحسب حاله هو قد يكون مستعجلا قد يكون وراءه أمر قد يكون وقت الصلاة قرب يكون وقت نومه قد يكون عنده ما يشغله قد يكون في البيت شيئ أهمّه قد يعالج في ذهنه مسألة من المسائل التي في المجتمع أو التي يريد أن يبذل فيها بعض الشيئ فيكون ذهنه منشغلا فينبغي أن تراعي حال العالم حيث تسأله فتقول له هل هذا وقت مناسب للسؤال أو أرجئ السؤال إلى وقت آخر فإذا قال: أرجئه إلى وقت آخر فيكون هذا زيادة في أدبك وأجر لك ويكون قد راعيت وتأدبت وإذا أتى وقت آخر وسألته يكون مهيأ نفسه لأن يفصّل لك ويجيب المسألة بما ينبغي فالمتصل دائما وهذا وارد هو المرتاح وأما المتصل به فلا يدري حاله فهذا يظن أنه ينبغي له أن يقول العالم له كذا وكذا وأن يرحب به بأعظم ترحيب وأن يفصل له (لا تدري ما حال المتصل به) أحوال الناس في بيوتهم في أعمالهم مختلفة وقد يكون الذّهن منشغلا بتلك الحال فقد يكون ويكون... فينبغي أن يراعي ذلك وأن لا يظنّ أنّ المسئول أو طالب العلم إذا سُئل أنه دائما ذهنه في نفس المستوى وفي نفس التأهيل بأن يجيب دائما جوابا مفصلا بأدلته إلى آخره ولهذا لو تذهب وترى في المدوّنة مثلا التي دونت فيها أسئلة مالك وبعض أصحابه والأجوبة وكذلك أسئلة الشافعي وكذلك أسئلة أصحاب أحمد لأحمد لا تجد الأجوبة متفقة من حيث التفصيل وعدمه فتجد بعض أصحاب أحمد لو رأيت المسائل المختلفة فيكون الجواب لا يصلح هذا أكرهه وفي مسائل أخر تجد أنه يفصّل لم؟ موضع اختصر وفي موضع فصل؟(97/35)
نحن نقرأ الكتاب لا نستحضر الحال التي سئل فيها ذاك السؤال والحال التي سئل فيها السؤال مرّة أخرى واقع الحال وواقع العالم النفسي والذهني والزمني والمكاني يفرض عليه أشياء كما سيأتي أيضا ولهذا ينبغي أن يراعى ذلك في حال سؤال أهل العلم تعلم أخي الكريم أنّ ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة في القرآن يعني كثير العلم في كتاب الله عزّ وجل بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم مكث زمانا طويلا تردد في نفسه مَن المقصود بالمرأتين في قول الله جلّ وعلا {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإنْ تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} من المرأتان قال ابن عباس: تردد ذلك في نفسي زمنا طويلا وهبت أن أسأل عمرا لأنّ عمر كان يحب ابن عباس وكان يقدمه في المجالس ويباهي به كبار الصحابة لما يظن ويلمح فيه من علم وتُؤدة وأدب وفهم عنده في الكتاب والسنة قال ابن عباس: هبت أن أسأل عمر عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حتى كان منصرفه مرّة من الحج فصحبته فقال لي: يا ابن عباس قرّب لي وَضوءا (يعني ماء) فلما قرّبت له الوضوء قلت له في أثنائه يا أمير المؤمنين مَن المرأتان؟ قال: فأجابني عمر فقال: عائشة وحفصة وكان ابن عباس ربما توسد بردته في يوم حار عند باب أحد الأنصار ليستفيد منه علما سمع عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتثبّت منه أو أراد أن يأخذه منه مباشرة فيأتي فيطرق الباب فيقولون قائل (يعني نائم) أو في الدّار أو مثل ما يقول أحدنا اليوم هو مشغول فانتظر حتى خرج فلما خرج قال: يا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ متى وأنت هنا فقال ابن عباس: منذ كذا وكذا وكان يتوسد البردة وتسفي الريح التراب عليه تذللا في العلم واحتراما لأهل العلم فلما رآه على هذه الحال انشرح صدر المسئول أن يجيبه عما أراد وعظم في نفسه فكان ابن عباس إذا سأل أجيب غير كثير ممن هم في طبقته من(97/36)
الصحابة رضي الله عن الجميع، ولهذا قال كلمته المشهورة: ((ذللت طالبا فعززت مطلوبا)) يعني لمّا كنت طالبا كنت أذلّ لمن أستفيد منه ولكن لما أحتاج الناس إلي عززت مطلوبا لأنه صار عندي من العلم ما ليس عند غيري وقد قال ابن عباس لبعض الأنصار (كان صديقا له) اذهب بنا يا أخي إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسألهم عن العلم ونستفيد منهم فقال: ذاك الأنصاري يا ابن عباس أتظنّ النّاس سيحتاجون إليك وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار بين ظهرانيهم قال: فتركت العلم والسؤال وذهب ابن عباس يسأل ذهب كبار الصحابة فأتى زمن ابن عباس فيه هو من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتاج الناس إلى علمه واضح بجيب الناس بما فتح الله جلّ وعلا عليه ومنّ عليه من العلم، الشاهد من ذلك أنّ السائل والمتعلم يحتاج إلى أدب وهو مراعاة أهل العلم وأن لا يضيق بالعالم إذا لم يفتح له صدره دائما هو يشر، أحيانا يكون على حال وأحيانا يكون على حال أخرى وهذا لعله من أسباب عدم إكثار الصحابة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم تأدبا معه وتوقيرا له عليه الصلاة والسلام وحتى يكون ذلك أبلغ في الأدب معه عليه الصلاة والسلام هذا من جهة أدب السائل.(97/37)
أما العالم أو طالب العلم أيضا يحتاج إلى أن يكون أدب في الجواب وأهل العلم يعلمون ذلك وهم الذين يعلمون غيرهم في ذلك فإن كان من بعض طلبة العلم أو المنتسبين إلى العلم أو أهل العلم من لم يكن للسائل حفيا أو اشتد على السائل أو وبخه فلا يغضب السائل ويأتي كما هو حاصل اليوم يذهب ويقول فلان من المشايخ سألته ونهرني وقال لي كذا وكذا لأيّ شيئ لم نستيجده لم نطلب منه شيئا ونحو ذلك هذا لا ينبغي لأنّ المسئول ينبغي لك أن تعذره لأنّنا في هذا الزمن ليس في زمن الرياض أو المملكة منذ خمسين سنة (الذين هم في الرياض كلهم خمسة آلاف أو أربعة آلاف) الواحد في اليوم يسأل سؤالا واحدا فيجاب البال مرتاح وانتهى الأمر لا معه الآن الهاتف كل لحظة يرنّ والمسجد هذا سائل والثاني والثالث والرسائل التي تحتاج إلى جواب ونحو ذلك من المشكلات العظام أيضا التي تحتاج إلى علاج وما أشبه ذلك.
فلابد أن نكون ملتمسين عذرا لأهل العلم ولطلبة العلم لابد وإذا كنا غير ملتمسين للعذر فإن هذا غير جيد في حقنا ومن ترك مراعاة الأدب أدب السؤال وأدب الجواب.أيضا العلماء يختلفون بعضهم يكون سهل الجواب وبعضهم يكون غير سهل الجواب وهذا راجع إلى طبيعتهم الطبيعية التي جعلها الله عليه فإذن السائل ينبغي له أن يلتمس العذر وأن يتأدب وأن يوقر العالم ويستفيد من علمه بقدر ما يحبه العالم وأن لا يقصيه في أموره.(97/38)
من الأدب المهم أيضا أدب السائل أن لا يحرج السائل العالم أو طالب العلم مثال ذلك مثلا أسئلة مرّت جاءني في أحد المحاضرات سؤال يقول أسألك بالله وبوجهه وأقسم عليك أن تجيب على هذا السؤال، طيب المسؤول قد يكون له نظر في أن لا تناسب إجابة هذا السؤال على العامة فأنت الآن أحرجته شرعا لأنّ من السنة إبرار المقسم فإذا أقسم عليك أحد بالله فإنه من السنة أن تجيبه (من سألكم بالله فأجيبوه) فالآن أحرجته هو يرى المصلحة الشرعية السؤال لا يعرض ولا يجيب عيه وأنت تحرجه شرعا في أن يجيبه وهذا من غاية ما يكون من عدم رعاية الأدب وعدم احترام أهل العلم وطلبة العلم لأنّك تريد أنت الإجابة لغرض في نفسك (ومثل هذا الذي يكون معه إقسام وسؤال بالله غالبا بل الأكثر والجلّ لا يكون هو الذي يريد أن ينتفع لنفسه) وإنما يريد أن يكون هذا جوابا لأشياء تتعلق بالمجتمع أو بالأمة بالرأي العام ونحو ذلك يريد أن ينتشر الجواب عن ذلك فالعالم أو طالب العلم قد يترك جواب بعض المسائل لغرض شرعي صحيح يرعاه وقد يرعى من المصالح الشرعية ما لا يستبينه السائل فإذا أحرج السائل طالب العلم في مثل هذا التحريح كان هذا في غاية ما يكون من الإساءة فإما أن يجيب عليه العالم فيجانب المصلحة الشرعية وإما أن يرتكب النهي، فبذلك يوقع العالم أو طالب العلم في الحرج في أي المفسدتين أدنى حتى يرتكبها هل يرتكب مفسدة الجواب أو مخالفة إبرار المقسم ونحو ذلك.
المسائل التي يسأل عنها تنقسم إلى مسائل في التوحيد والعقيدة ومسائل فقهية ومسائل اجتماعية.(97/39)
المسائل التي في العقيدة تارة تكون غايتها بالبحث والفائدة وتارة تكون لها مساس بموقف سيكون في الواقع، فتارة يكون البحث في مسائل التوحيد والعقيدة لغرض إفادة السائل فهو يبحث عما يريد أن يستفيده مثلا مسألة في التوحيد معنى الشهادتين في شرح باب من أبواب التوحيد أو مسألة في مسائل الصفات أو الإيمان بالقدر أو ما أشبه ذلك وهناك أسئلة يسأل لكي ينبني على هذا السؤال شيئ من التصرفات في نفسه أو في من معه سواء في داخل هذه البلاد أو في خارجها فهنا ينبغي على السائل بل يجب عليه أن يبين غرضه للعالم الذي يسأله وألا يدلس عليه فيقول هذا السؤال لشخصي أو يقول هذا السؤال أريد أن أرسله لبلد كذا وكذا لكي ينتفع منه بعض من سألنا هناك مثلا أسئلة جاءت من الجزائر يختلف الجواب عن أسئلة جاءت من مصر إذا كان السؤال تبعثه من نفسك بنفسك يختلف جوابه عما إذا كان سينبني عليه عمل أمة يترتب عليه مصلحة أو مفسدة إلى آخره لأنّ الحكم الشرعي الفرق بين العالم وطالب العلم والدارس الفرق بين المفتي والباحث أن المفتي يبني بفتواه على أشياء كثيرة يرعى النصوص ويرعى كلام أهل العلم ويرعى القواعد الشرعية ويرعى ما أمر الله جلّ وعلا به من الأصول وما نهى الله جلّ وعلا عنه فيرعى أشياء كثيرة غير المسألة الموجودة في الكتاب فقد يجد السائل المسألة موجودة في الكتاب موجودة في كتاب من الكتب ويذهب يطبقها على الواقع لا ليس الأمر كذلك ولو كان الأمر لما احتاج أهل العقول أن يطلبوا العلم على أهل العلم وإنما يقرأون ويكتفي بقراءتهم ولهذا قال بعض من تقدم لا تأخذ العلم عن صحفي ولا القرآن عن مصحفي الصحفي الذي يقرأ في الصحف والنسبة إلى الصحف صَحَفي وليس صُحُفي لأن النسبة تكون إلى الصحيفة على وزن فعيلة وليس النسبة إلى الجمع لأنّ القاعدة اللغوية أن النسبة تكون إلى الجمع لأنّ القاعدة اللغوية أن النسبة تكون إلى المفرد لا إلى الجمع فقال: لا تأخذ العلم عن صحفي(97/40)
ولا القرآن عن مصحفي (الذي قرأ القرآن من مصحف وحفظ من المصحف) لا تأخذ عنه القرآن لابدّ أن يكون قد قرأ القرآن على شيخ أخذه عنه لأنه هناك أشياء لا يدركها بقراءته في المصحف كذلك العلم هناك أشياء لا يدركها بقراءته للكتب ولهذا عاب بعض أهل العلم بعض الفحول في مسائل لأنهم اقتصروا على ما قرأوا أخطأ ابن حزم في مسائل في الحج ما السبب أنه قرأها وما حجّ ورأى المشاعر ورأى ما فيه النفس شيخ الإسلام ابن تيمية كتب منسكا من المناسك على ما هو موجود عنده في الكتب ثم لما حجّ غيّر رأيه في مسائل كثيرة كذلك ابن القطان أحد علماء الحديث المعروفين لكنه لم يأخذ علم الحديث عن رواية وعن أهل العلم وإنما كان ذكر ذلك الذهبي كان أكثر أخذه لذلك عن طريق القراءة ووقع في أشياء كثيرة لا يقع فيها أمثاله من أهل العلم إذن هناك فرق بين أن يكون السؤال لحاله تخصك أنت أو أن يكون السؤال لحالة عامة في مسائل العقيدة والتوحيد وكذلك في مسائل الفقه إذا كان السؤال شخصي هذا له حال وإذا كان السؤال ستنشره وسيبني عليه عمل أناس كثير هذا ينبغي أن توضحه للعالم حتى يتحرى في جوابه الأنفع للأمة ولهذا بعض أهل العلم يفتي بفتاوى خاصة لفلان من الناس ويأتي هذا ويقول أفتاني الشيخ بكذا وكذا فيذهب على أن الشيخ هذه فتواه وإذا سئل العالم يقول لا هذه فتوى ما أفتيت بها يعني للعامة وإنما أفتى بها لمسألة خاصة.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إمام هذه الدعوة عجّل الله له المثوبة ورفع درجته في الجنة أفتى في بعض المسائل في مسألة معروفة في الطلاق مرة واحدة فقط مدونة موجودة وفي بقيتها يفتي على غير هذه الفتوى في تلك المرة هل نأخذها ونجعلها قاعدة لا لأنه رأى من حال السائل وحال السؤال ما يجعله يفتي بتلك الفتوى.(97/41)
فإذن العالم قد يخص في حالة معينة بفتوى لو قيل له إنها ستنتشر لا يفتي بتلك الفتوى وهذا مما ينبغي للسائل أن يرعاه فيكون الأدب في ذلك أن تخبر العالم أنّ هذا السؤال خاص بي في مسائل التوحيد والعقيدة أو أنّه سيبعث إلى بلد كذا وكذا وينتشر أو نتتدارسه نحن والإخوان وسنرتب عليه كذا وكذا في عمل في إنكار منكر... في...
فهذا يختلف وبعض السائلين وحصل مرارا، وأنا أدركت بعض هذه الأشياء مع الأسف أنه يعتقد من الذكاء أن يبهم السؤال ويستغفل العالم فيسأله حتى يقع في جواب هو ما أوضح له الصورة فيقول مثلا إذا حصل من واحد أنه قال كذا وكذا فهل يكون مرتدا أم لا؟ هل يكون مبتدعا أم لا؟ هل يكون فاسقا أم لا؟ بعض العلماء خاصة بعد ما مرت تجارب يستفصل أو قد لا يجيب على السؤال وبعضهم قد يجيب على ظاهره باعتبارها مسألة علمية عامة لو سئل عن تنزيلها في الواقع ربما اختلف جوابه فهذا من المهم أن تتبينه قبل السؤال وأن لا تلغز أو تبهم وتظن أن هذا من الذكاء أو أنك أخذت منه جوابا في الواقع أنت تأثمت بما ستنقل وتأثمت بوضع العالم وقد حصل كما رأى بعضكم كثير من الاختلاف في الفتاوى في فترة مضت هذا ينقل كذا وهذا ينقل كذا وكثير منها راجع إلى أنّ السائل ما أعطى العالم الحقيقة في ما وراء كلمات سؤاله إنما سأل سؤال عام ذلك ظنّ أنها مسألة علمية وما استفصل منه فأجاب فهذا ما راعى الآداب والتفريق بين المسألة العلمية وتطبيقها في الواقع فلهذا أخذ هذا الجواب وحصل من الاختلاف والآراء المتضاربة وحصل ما حصل لأجل هذه المسائل.
إذن إذا كانت المسألة عقدية أو كانت المسألة فقهية فلابدّ أن ترعى الأدب فيها وأن تفرق حين تسأل السؤال بين أن تكون شخصية أو عامة وأن تبين ذلك للعالم الذي تسأله.
أحوال السّؤال(97/42)
السّؤال له أحوال سؤال المسجد (بعد المحاضرة) يختلف عن سؤال المسجد بعد ما ينصرف العالم من الصلاة يختلف عن السؤال في الجامعة يختلف عن السؤال في درس يلقيه العالم يختلف عن السؤال فيما إذا كان راكبا سيارته (يسمع بسرعة ويجيب) فهذا السائل يأتي مرتاح مطمئنا والمسئول يكون مجهدا مثلا ألقى محاضرة استغرقت مدّة من الزمن ويلقي السائل سؤاله عرضا ويريد جوابا يكون على نحو ما فيأتيه الجواب فيأخذ هذا الجواب وهو صادق في أنّ العالم أجابه لكن غير صادق في أنّ العالم فهم ما أراده بإبعاده وينقله ويحدث الناس بأنّ العالم أفتاه بكذا وكذا وما وراء كلمات السؤال ولهذا ينبغي أن نفرق (رعاية للأدب وإبراء للذمة) بين أحوال السؤال سؤال المسجد بعد محاضرة له حال سؤال المسجد بعد الإمامة له حال سؤال بعد درس من الدروس في مجلس من مجالس العلم في الفقه أو في التوحيد له حال في الإجابة والاستفصال والرد إلى آخره سؤال الجامعة سؤال الهاتف له حال سؤال السيارة له حال وغير ذلك من الأحوال وقد ذكر لي بعض كبار السن أنه أراد مرة أن يسأل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله سؤالا في السيارة فأجابه الشيخ قائلا: إنّ السيارة ما فيها فتاوى إذا عدنا إلى البيت فادخل أو إذا كنا في المسجد ادخل واسألني فيه لماذا؟ لأنه راكب معه في السيارة فيعرض له أشياء هذا مار وهذا يسلّم وهذا... والمفتي ينقل عن الله جلّ وعلا وموقع عن رب العالمين حينما يجيب يقول هذه فتوى الله جلّ وعلا في المسألة {يستفتونك قل الله يفتيكم} هذا كلام الله جلّ وعلا هذا حكم الشرع فالمسألة عظيمة ولهذا كثير من السلف هاب السؤال ورد السائل وتردد وقال: (لا أدري) كثيرا، الإمام مالك رحمه الله كان يسأل ويجيب لا أدري وهو أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله أتاه سائل من مصر بعيد قال: يا أبا عبد الله أتيتك من بلد كذا وكذا من أبناء لك أو إخوان لك يحبونك وحملوني أربعين مسألة فقال مالك سل فسأل(97/43)
المسألة الأولى فقال الإمام مالك: لا أدري والثانية: لا أدري والثالثة: لا أدري أجاب عن سبع مسائل أو أربع مسائل وفي ثلاث وثلاثين أو ست وثلاثين مسألة قال: لا أدري لو عالم يأتي ويقول اليوم هذا لا أدري ولا أدري سيقال: هذا ما عنده خبر هذا ما عنده علم قد يكون الحال غير مناسب قد يكون يريد أن يؤدب السائل وقد وقد... فقال هذا للإمام مالك: يا أبا عبد الله أتيتك من كذا وكذا وكلهم ينتظرون جوابا أأذهب إليهم وأقول: مالك يقول في ثلاث وثلاثين مسألة لا أدري قال: قل لهم إنّ مالكا لا يدري، ما أبردها على القلب لماذا لأنه إذا أجاب يجيب عن الله جلّ وعلا هذا حكم الكتاب والسنة وهي مسألة تجلّ لها القلوب ولهذا نهينا عن كثرة المسائل، وهذا مما ينبغي لنا أن نتركه هذا سؤال عن كذا؟ وهذا سؤال لمَ كذا؟ في مكان واحد مائة سؤال مائتين سؤال وذهن المسئول يكلّ ويتعب وقد يضعف في آخره ولهذا يأتي بالمسائل الكبيرة ويضعها في آخره شيء العالم بشر فينبغي أن يراعى الحال وأن لا تكثر المسائل جاء في النصوص ونختم بهذا وحتى لا نطيل عليكم جاء النهي عن كثرة المسائل وقد قال العلماء كثرة المسائل الناس تجاه على أحوال يعني على أقوال من الناس وهو قول طائفة من المنتسبين لأهل الحديث من لم يسأله وقالوا يكفينا ما عندنا من النصوص ولا نحتاج أن نسأل لأنه نهينا عن السؤال ويأخذون بعموم ما ورد في النهي عن المسألة والنهي عن كثرة المسائل وإياكم والمسائل والأغلوطات ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث، فأخذوا به على ظاهره فلم يسألوا وهؤلاء أدى بهم ذلك إلى ألاّ يكونوا فقهاء وأن يكون فهمهم للشريعة قاصرا أو على غير السداد كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله تعالى هذا صنف قالوا لا تسل عندك النصوص عندك الكتب ما يحتاج لأنّ السؤال منهي عنه وكثرة المسائل معيبة فعندك إذا احتجت دور من الكتب وإذا لم تحتاج فلا تسل وهذا الحال أو الفعل (غير صواب) والفعل الثاني أو الحال(97/44)
الثاني: حال أهل الرأي الذين شققوا المسائل وسألوا عن أشياء لم تقع وافترضوا أحوال لم تقع في زمانهم منها أشياء لم تقع ولن تقع أبدا لأنها خيال أو لا يمكن أن تتصور إلا في الذهن أما في الواقع لا تتصور ومنها أشياء تخيلوها ووقعت ووقوع البعض لا يعني أنّ ما شققوه أنه مأذون به (بالمثال يتضح الحال) بعض فقهاء أهل الرأي من الحنفية وغيرهم لهم كتب فيها الطريقة التالية أرأيت إن كان كذا فمثلا يبدأ الكتاب الوقف هو كذا أرأيت إن كان كذا فالجواب كذا يعني أنه يسأل العالم مائة سؤال مائتين ثلاثمائة سؤال كلها تشقيق للمسائل في أشياء واقعة في أشياء غير واقعة وبإيراد الحيل في هذه المسائل وابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجل يسمع حديثه فقال ابن عمر من السنة تقبيل الحجر الأسود قال الرجل: أرأيت إن غلبت عنه؟ قال: من السنة تقبيل الحجر الأسود؛ قال: أرأيت إن لم يمكني تقبيله قال: دع أرأيت في اليمن وهو كان من أهل اليمن من السنة تقبيل الحجر الأسود (فإذا تمكنت من تطبيق السنة فطبق ما تمكنت لا تكثر من أرأيت إن حصل كذا أرأيت إن حصل كذا) وهذا يحرمه كثيرون يظنون العلم كثرة السؤال يسأل عن أشياء لا يعلم عن حكمها يسأل ويسأل لا العلم بالتعلم وإنما السؤال كاشف للعلم وليس أساسا في العلم لأنّ الله جلّ وعلا يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فإذا استشكلت فاسأل إذا كنت لا تعلم فسل وأما كل شيئ تسأل عنه في موقع واحد تسأل عشرين ثلاثين سؤال هذا غير محمود فإذن هذا القسم وهو السؤال عن أشياء لم تقع وكثرة المسائل داخل في النهي عنه فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم سؤال عن أشياء لم تقع.(97/45)
القسم الثالث: وهو حال فقهاء الأمة فقهاء أهل الحديث ومن تابعوا حال السلف في ذلك وهم الذين يسألون عن معاني الكتاب والسنة وعما يدخل في دلالاتها من الفقه هذا السؤال المحمود الذي من بحث عنه فهو الذي يرضى قوله وعمله تسأل عن معنى آية تسأل عن معنى حديث استشكلته فاسأل عن ذلك فهذا لا يدخل ضمن المنهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نوقش الحساب عذب)) فقالت عائشة: يا رسول الله أليس الله جلّ وعلا يقول: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك العرض عليه ومن نوقش الحساب عذّب)) تعرض عليه أعماله عملت كذا وكذا وسترتها عليك وعملت كذا وكذا وأثيبك عليها وهكذا...
هذا عرض وأما المناقشة فإنّ معها العذاب لأنّ الله جلّ وعلا لا يناقش الحساب أحدا إلاّ عذبه كما قال عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذّب، هذا القسم محمود سؤاله وهو الذي فعله أهل العلم ويفعلونه مع مشايخهم يسألون عن أشياء تخصهم في دينهم يسألون عن معاني الكتاب والسنة ويسألون لرجاء نفعهم.(97/46)
من المسائل التي ينبغي أيضا أن تراعى في أدب السؤال ما يخص الذين يسألون أهل العلم في عقب المحاضرات أو الندوات السائل الذي أرسل السؤال في الورقة طبعا يضيق المقام أن تعرض جميع الأسئلة بعد محاضرة أو ندوة لكن هو يحتاج إلى الجواب وهذا الذي يفرز الأسئلة ينبغي أن يكون متأدبا مع العالم في السؤال وأحيانا لا يرعى الأدب في ذلك بأن تحجب بعض الأسئلة ويعرض بعض الأسئلة، الأسئلة التي فيها مخالفة لرأي هذا الذي يفرز لا يعرضها والتي توافق رأيه يعرضها ولم يؤتمن على هذا!! ائتمن على أنّ المسألة التي تفيد السائل وتناسب الحال وله أن يقيم الحال حال المسجد يرعى المصلحة ويدرأ المفسدة أو ينظر لرغبة الشيخ أو العالم فيما يسأل عنه وما لا يسأل عنه هذا لابد منه، لكن أن يكون هو يختار ما يريده ويلغي ما لا يريده هذا نوع من عدم الأدب مع أهل العلم في السؤال وسبب إشكالات كثيرة يأتي هذا ويستدعي عالم أو يطلب من عالم يسأله عن أشياء هو يريدها أو تأتي الأسئلة فيبعد بعض الأسئلة التي يكون جواب العالم فيها لا يرضي جواب من يفرز الأسئلة أو لا توافق رأيه هو يعلم أنّ العالم سيجيب هذا لكن الجواب على خلاف ما يهواه فهل أنت حكم على أهل العلم في أجوبتهم؟ هذا يسبب فرقة في الأمة ويسبب أشياء من عدم رعاية وتوقير أهل العلم الذي ينببغي من الأدب للذين يسألون أهل العلم أن يسألوا الأسئلة النافعة سواء كانت توافق ما عنده أو لا توافق لأنّ العالم هو الذي سيجيب بما دلت عليه النصوص (إذا كان راسخا في العلم) والهوى بعيد عن أهل العلم وهذا بتزكية الله جلّ وعلا لهم ولهذا لا ينبغي لهذا الذي يفرز الأسئلة أن يتقي على رغبته بل يسأل ويقول للعالم قبل أن يأتي الأسئلة إذا جاءت ما الأسئلة التي تحب أن تعرض وما التي لا تحب أن تعرض فيقول له الأسئلة التي فيها كذا وكذا لا تعرضها لأنه قد لا يناسب عرضها أمام الناس في مسجد منهم من يكون خالي الذهن أصلا عن بحث هذه(97/47)
المسألة يأتي تعرض فيطلع على شيئ هو في غنية عن أن يطلّع عليه إذن هذه المسألة بحاجة أن ترعى في الندوات والمحاضرات أن يكون الذي يفرز الأسئلة يرعى ما يرغبه العالم فيما يعرض وفيما لا يعرض وألاّ يتحكم هو لأنّ تحكمه يسبب بعض عدم رعاية وتوقير أهل العلم لهذا نجد أنّ بعض المشايخ يعتذر عن بعض الندوات ويعتذر عن بعض المحاضرات لمَ؟ لأنّه يخشى أن تأتي أسئلة لا يناسب الجواب عليها أمام العامة مثل ما ذكرنا السلف ما أجابوا على كل سؤال في كل مقام وإنما يختلف الجواب بحسب اختلاف الحال يفصل في موضع لا يفصل في موضع يمتنع عن الجواب في موضع... إلخ.(97/48)
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم فأتاه رجل فسأله متى الساعة فلم يجبه (عليه الصلاة والسلام) وأكمل حديثه ثم قال: متى الساعة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال: {يسألونك عن الساعة أيّان مرساها فيم أنت من ذكراها} لا يعلمها عليه الصلاة والسلام {لا يجليها لوقتها إلاّ هو} جلّ وعلا فلما ألحّ في المسألة كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) هذا الجواب غير السؤال لأنّ السؤال كان بمتى عن الزمن النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بقوله إذا وسّد بعلامة من العلامات وأشراط الساعة معلومة كذلك في قول الله جلّ وعلا لها سأل النبي عليه الصلاة والسلام الناس عن الأهلّة كان الجواب {قل هي مواقيت للنّاس والحج} الصحابة سألوا وقالوا لمَ يبدأ الهلال في أوّل الشهر رفيعا ثم يكبر ثم يكبر حتى يستتم؟ فسألوا سؤالا لا تستوعب الجواب عليه عقولهم فكان الجواب {قل هي مواقيت للنّاس والحج} أجيبوا بشيئ غير السؤال بما ينفعهم وهو أنّ الأهلّة هذه مواقيت لم يبدو كذا ثم يكون كذا هذا عدل عن الجواب عنه وفي هذا أصل شرعي في أنّ العالم قد يعدل عن الجواب إلى شيئ آخر ويأتي بعض الناس ويقول هذا هروب من الجواب الشيخ ما أجاب هرب من الجواب ليس هروبا من الجواب لأنّه لا يريد أن يجيب لخوفه من الجواب ونحو ذلك لا العالم مربي يربي الناس ويجيب بالأصلح لهم لما يرعى فيه المصلحة ويدرأ المفسدة هذه بعض ما يتعلق بالآداب التي ينبغي مراعاتها حين السؤال وأسأل الله جلّ وعلا أن ينفعني وإيّاكم بما سمعنا وأن يجعلنا من المتأدبين الذين يريدون وجه الله والدّار الآخرة وأسأله جلّ وعلا أن ينفعنا بعلمائنا وأن يجعلنا من المتعاونين معهم على البرّ والتقوى والمتأدبين معهم والذّابين عنهم قول أهل السوء أسأله سبحانه لي ولكم العفو العافية والمعافاة الدائمة في الدّنيا والآخرة وأن يختم علينا هذا الشهر الكريم بقبول(97/49)
وغفران وألاّ يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يوفق ولاة أمورنا لما يحب ويرضى هذا وصلى الله وسلم وبارك على من علمنا الخير وأدبنا أحسن تأديب نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أشكر لكم حسن هذا الاستماع وحسن الإقبال وأسأله سبحانه أن يجعلنا جميعا ممن غفر له أول ذنبه وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.(97/50)
كيف تدعو إلى الله؟
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلواتُ الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد، وعلى أزواج نبينا محمد وعلى صحابته، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فموضوع هذا الدرس كيف تدعو إلى الله؟(98/1)
وسبب اختيار هذا الموضوع ما هو معلوم من أن الدعوة إلى الله جل وعلا مهمّة عظيمة، وأن كلَّ من رغِب في الخير واستقام على الإسلام فإنه يروم أن يهديَ غيره؛ لأنّ في ذلك الفضل الجزيل، وفي ذلك العائدة العظمى عليه وعلى غيره, وأعظم عائدةٍ على المستقيم على الصراط أن يكون له مثل أجور من هداهم إلى الله جل وعلا, فقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا يَنْقص ذلك من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه لا ينقص من أوزارهم شيء» وقد قال عليه الصلاة والسلام لعلي حين بعثه إلى خيبر «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» يعني من الإبل الحمراء الغالية عند أهلها، فإن الدعوة إلى الله جل وعلا؛ وأن يهدي الله على يديك واحدا من الناس رجلا أو امرأة، صغيرا أو كبيرا فإن في ذلك الفضل العظيم عليك؛ ولأن تعطى كذا وكذا من الأموال الجزيلة في هذا الزمن ليس بأفضل لك من أن يُهدى على يديك رجل واحد، لكن كما نرى أن كثيرين يريدون أن يدعوا, كثيرين يريدون أن يهدوا الناس، لكن سبيلُ ذلك لا تكون ماثلةً أمام أعينهم، ربما جربوا تَجْرُبات ليست بالمستقيمة، ربما حاولوا محاولات لم تكن مؤصلة لم تكن عن تجربة، لم تكن عن استرشاد بمن جرّب فنجح، فلهذا تكون خطاهم متعثّرة، وهؤلاء ربما فعلوا أشياء ودعوا، وكان في دعوتهم من الخطأ ما حجز آخرين عن قبول الحق والهدى؛ لأن خطأ الداعية ليس كخطأ غيره، ولهذا أمر الله جل وعلا الأنبياء جميعا بالصبر وأن لا يستخفَّهم الذين لا يؤمنون، كما قال جل وعلا?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60]، ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ?[الأحقاف:35]، فإن الدعوة أساسُها الحكمة، أساسها الأناة،(98/2)
أساسها أن يكون العبد سائرا على ما أمر الله جل وعلا به، وما نهى، فيما يأتي ويذر في أمر الناس، وإذا كان كذلك فإنّ دعوته يُرجى أن تُؤتي ثمارها ولو بعد حين.
الدعوة إلى الله جل وعلا مطلبٌ للجميع؛ مطلب من حيث العمل، ومطلب من حيث الغاية؛ لأن الغاية؛ غاية المجتمع المسلم أن يكون مستسلما لله جل وعلا، منقادا له في الظاهر ومنقادا له في الباطن أيضا, وهذه الغاية ينبغي للأفراد أن يسعوا في تحقيقها، وللمجتمعات أن تسعى في تحقيقها، وكذلك لدولة الإسلام أن تسعى إلى تحقيقها، فإنّ تعبيد الناس لله جل وعلا هو الغاية من خلقِهم، فإذا أدرك الناس ذلك فاستقاموا عليه، فذلك فضل، و إلا فإن الناس يدعوا بعضهم بعضا ويُرشد بعضهم بعضا، لهذا كانت هذه المحاضرة أو كان هذا الدرس؛ كيف تدعو إلى الله جل وعلا؟ كان مُهِمًّا في إعطاء بعض النقاط، وليس بشمول ما يتصل بهذه المسألة؛ لأنها طويلة الذيول، لكن بما يفتح آفاقا لدى الذي يحب أن يكون هاديا للناس سائرا على الحق على صراط سوي.
المتأمل اليوم في أحوال الناس يجد أن الدعوة على أنواع:
?منها دعوة فردية ونعني بالدعوة الفردية أن يكون الفرد يدعو فردا آخر، أو أن يكون أفرادا يدعون أفرادا.
?ومنها دعوة جماعية، والدعوة الجماعية أيضا من حيث الواقع منقسمة إلى قسمين:
· منهم من يدعو جماعيا على أساس التعاون على البر والتقوى؛ ويتعاونون ويجتمعون على أن يهدوا الناس، يُرتّبون أمرهم؛ كيف دعوة هذا ومصداقية في نجاح التأثير عليه أو التأثير على هذه الأسرة أو نحو ذلك..
· وهناك قسم آخر من الدعوة الجماعية وهي الدعوة الجماعية المنظّمة التي تكون عن تنظيم بتجسيد المهمات ويكون هناك قيادة وهناك فروع لهذا التنظيم.
وهذه التقسيمات من جهة الوجود، أما من حيث مشروعية كل قسم وتفاصيل الكلام عليه فسنعرض له إن شاء الله تعالى في مكان آخر من هذه الدروس.(98/3)
الذي يهمُّنا من هذا التقسيم في هذا الدرس هو القسم الأول وهو الدعوة الفردية التي يمكن أن يعمل بها المرء بمفرده, كيف يمكن أن تكون أنت داعية إلى الله جل وعلا؟ كيف يمكن أن تهدي الناس؟ كيف تمشي في هذا الطريق دون عقبات ودون أن تتردد فيه وتؤثر على الناس ويُقبَل منك ذلك؟
إذا تأمّلت الواقع الذي تعيشه هذه البلاد، بل وواقع الأمة الإسلامية بعامة وجدتَ أن الخير ينتشر يوما بعد يوم من جهة اهتداء الناس إلى الإسلام ومحبتهم إلى الالتزام به، ورغبتهم في تعاليمه، وإقبالهم على الخير، لا شك أن الناس يزدادون إقبالا يوما بعد يوم.
فإلى أي شيء يُعزى هذا الانتشار العظيم؟
هل هو نتيجة للدعوة الجماعية التنظيمية؟ لاشك فإن الذي يقول إنه نتيجة لذلك أنه مغالي وليس له في الواقع نصيب.
هل هو نتيجة لدعوة جماعية فيها تعاون على البر والتقوى؟ أيضا يعني دعوة جماعية مرتّبة ليس فيها تنظيم وقيادة إلى غير ذلك، يعني ليس لها صفة الحزبية أيضا هذا فيه بعد.
ولكن الواقع أن أكثر الأسباب ظهورًا إلى انتشار الإسلام، وفي زيادة الصحوة، وإقبال الناس نساء ورجالا على الخير وعلى الهدى، هو نشاط الأفراد؛ هذا ينشط في عمله، وهذا ينشط في أسرته، وهذا ينشط في حيِّه، وهذا الإمام ينشط مع جماعته، إلى آخره، فأكثرها نشاطات فردية، وهذه النشاطات الفردية لا شك تستفيد مما يجري حولها بأنواع من الاستفادة منها ما هو جيد ومنها ما هو ليس بجيد، منها ما هو منضبط ومنها ما ليس بمنضبط، إلى آخر ذلك..
المهم أن سبب انتشار الخير كان هو الدعوة الفردية؛ دعوة الناس بعضهم بعضا بدون مؤثرات عظيمة؛ مؤثرات جماعية، وإنما هذا يُرغّب في الخير فأثّر في أسرته، هذا يُرغّب في الخير فأثَّر في عمله، تجد أنه قرأ كلمة طيبة فنشرها إلى آخر ذلك..(98/4)
فهذا الترتيب وهو أن من أكبر أسباب انتشار الصحوة وزيادة الخير هو جهد الأفراد، هو الذي نريد أن يعلُق بالأذهان حتى لا يظن الظان أنه لا يمكن أن يدعو حتى يكون معه أناس، وحتى يكون معه من يساعده، وحتى يكون هناك من يرتبه، وهذا أمر لا بد منه، لأنه إذا شعر بأنه يمكن أن يعمل بمفرده، يمكن أن يدعو بمفرده، لاشك أنه إذا كان هناك معه غيره يدعون بما فيه تعاون على البر والتقوى، تُؤتِي الدعوة ثمرات أكثر في قطاعات كبيرة لكن إذا كان يشعر أنه إذا عمل بمفرده فإنه سينتج ولا يحتاج إلى غيره في أمر الدعوة فإنه يشجّعه ذلك، وهذا الذي ينبغي أن يقرّ في الأذهان بادئ ذي بدء قبل الدّخول في هذا الموضوع الذي نعرض أطرافا منه.
إذن فمهمتك أيها المسلم هي أن تحمل أولا همَّ هذه الدعوة، أن تحمل أولا همَّ مصلحتك؛ لأنك إذا دعوت فإنك لا تدعو لأجل أن تكون المصلحة لغيرك، أن تدعو لأجل أن تكون المصلحة لك، لأنك إذا دعوت أحدا إلى الله جل وعلا فاستقام وعمل شيئا من الخير فلك مثل أجره، فتزداد حسناتك بسبب هداية الناس إلى الحق والهدى، هذا الترغيب الذي يجعلك تقدم، لابد له من ضوابط، لابد أن تعرف ما فيه من محاذير، لابد أن تعرف ما له من أحكام، وهذا هو الذي سنطرقه إن شاء الله فيما نستقبل من الكلام.
الداعية المفرد الذي يدعو بنفسه أولا لابد أن يكون نبيها ذكيا من جهة حال المدعوين بل أقول قبل ذلك.
?أولا: لابد أن يكون في دعوته متجردا مخلصا لله جل وعلا، يعني له رغب في قلبه أن يجعل الناس مطيعين لله جل وعلا، ليس له رغب في الدنيا، ليس له رغب في الجاه، ليس له رغب في السمعة، ليس له رغب في السيطرة، ليس له رغب في أن يكون متعاليا على الناس، مما هي من أنواع الأخلاقيات التي قد تعرض على بعض القلوب التي تدعو إلى الله.(98/5)
المهم الأول أن يكون مخلصا لله متذللا مطيعا، ترغب أن تهدي الخلق إلى الله جل وعلا، لا أن تهديهم إلى غيره، وهذا الشرط جاء في قول الله جل وعلا?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[يوسف:108]، في هذه الآية أمر الله جل وعلا نبيَّه أن يقول هذه سبيلي؛ قل يا محمد للناس جميعا وللكفار بوجه الخصوص (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ), قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسائل كتاب التوحيد في قوله (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) التنبيه على الإخلاص، وهذا أمر مهمّ مطلوب دائما أن يكون في قلبك العمل لله جل وعلا، ثم قال على بصيرة والبصيرة للقلب كالبصر للعين، البصيرة هي العلم الواضح الذي يكون معه صورة الأشياء العلمية، صورة الأشياء العملية أمام الخلق في وضوح، كما تكون الأشياء المبصَرة بالعين أمام العين في وضوح إذا توجه النظر إليها, (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) فذكر شرط الإخلاص وذكر شرط البصيرة والعلم مما سيأتي بيانه. هذا الشرط معروف ولابد أن يتوطَّن قلبك أن تكون مخلصا لستَ مسيطرا، لستَ طالبا ذا سمعة، و هذا من الأخلاقيات المهمة، والدعائم المهمة للداعية، لما؟ لأن بعض الناس قد يأتي يدعو يرى الذي أمامه عنده مخالفات، عنده بلاء عظيم، حتى ولو كان الشرك والبدعة أو ما هو أقل من ذلك من كبائر الذنوب، أو تفريط في الفرائض أو الصغائر، قد ينظر إلى أنه متعالي عليه، فيأتي فيدعو من جهة التعالي، من جهة الاستعلاء، فيكون أمره ونهيه ليس صادرا من قلب مخلص تمام الإخلاص، وإنما فيه شيء من الاستعلاء وهذا يفسد القبول.
فإذن عندنا الأمر الأول المهم هو أن تكون مخلصا وفهمتَ معنى الإخلاص:
· أولا: أن لا تدعو إلى غير الله يعني لا تحبب الناس في غير الله، وإنما تريد أن يطيع الناس رَّبهم جل وعلا وحده.(98/6)
· الثاني: أن تكون غير متعالي على الناس يعني أن تكون أنت وهم بمنزلة واحدة ليس معناه أنه عاصي معنى أنَّك خير منه لا تدري لمن تكون الخاتمة السعيدة، ولكن تكون أنت مقبلا في أن يكون هذا مقبلا على الله جل وعلا وأنت مخلص في أن يكون مهتديا إلى الله جل وعلا.
هذا الخُلق الأول الإخلاص مهم بل شرط من الشرائط وواجب من الواجبات، وإذا قيل خُلق أو أدب في عُرف أهل العلم لا يعني أن يكون مستحَبًّا، فقد يكون واجبا قد يكون شرطا قد يكون مستحبا.
?ثانيا: أن يكون ذكيا، حصيفا، نبيها، لأن حالة المدعو كثيرا ما تحتاج إلى تنبؤ، وهذا يأتينا في الأسباب يعني في دراسة حال المدعوّين، ينبغي أن يكون الداعية ذكي ونبيه وحصيف؛ يعني يعرف كيف يدعو، كيف يرتِّب النتائج على المقدمات، كيف يعرف الطريق الأحسن للدخول لذلك، والذكاء هنا ليس أمرا فطريا فحسب، بل يكون أيضا بالتجرُبة، يكون بالتدرج، لهذا من خالط، من جرّب الدعوة اكتسب شيئا من الخبرة في معرفة كيف يكون الذكاء والحصافة والرأي في التعامل مع الناس.(98/7)
?الأمر الثالث من أخلاق الداعية: أن يكون الداعية محبًّا لبذل الخير راغبا في هداية الناس عن طريق بذل ما عنده، وأن لا يحقر شيئا من الخير، يبذل جميع ما عنده، جميع قدراته التي يمكنه أن يبذلها, يبذلها إن كان شيئا من المال يستطيع بذله أو من الجاه يستطيع بذله, شيء من الحركة والعمل, من الخدمة, من طلاقة اللسان، من بذل بعض الأمور التي يكون لها أثر، هذه مطلوبة من الداعية، يعني أن يبذل ما عنده، وهذه قد قال فيها عليه الصلاة والسلام «لا تحقرنَّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» لا تحقرن من المعروف شيئا, هذه كلمة عظيمة لا تحقرنَّ من المعروف شيئا لأنك ربما حقرت شيئا من المعروف ولو بسمة واحدة حقرتها لكن أثرها لن تراه أنت ربما يراه غيرك؛ بانفتاح صدر هذا المدعو في قبوله ما عند صاحب الخير، أما إذا لقي الداعية أو الذي يرغب في هداية الناس للخير، لقي الناس وهو مكفهرّ الوجه أو وهو غير متقدم لهم بنفس طيبة؛ يحقر المعروف يحقر الخير، فهذا لا شك يشكل شيء من الحواجز أمامه، لهذا على الداعية أن يوطِّن نفسه أن يكون باذلا؛ إذا أردت أن تتحرك بالدعوة فابذلْ، تُوَطِّن نفسَكَ على أن تبذل، إذا كنت شحيحا لست بذي جود فلا تصلح للدعوة؛ الداعية يصلح له أن يكون جوادا؛ يعني أن يكون باذلا للخير غير شحيح، والشحّ ليس في المال فحسب، الشح يكون في اللفظ، في الحركة، يكون في المعروف، في أشياء كثيرة، ومنها المال، وقد قال جل وعلا?وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?([1]), ووصف ابن القيم رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية عند ذكره في كتاب مدارج السالكين في منزلة الجود ذكر شيخ الإسلام وقال:لم أرَ في العلم أجود من شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك أنه يأتي السائل فيسأله عن مسألة، فيجيب عن أكثر منها، وهذا ربما أُنتقد عليه، ولكن هذا من الجود بالعلم لأن مثل ذلك مثل من سئِل عن الطريق إلى مكة فوصف للسائل طريق(98/8)
مكة وطرق المدينة وطريق كذا وطريق كذا إلى آخره.. وهذا مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن التوضأ بماء البحر قال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»جواب السؤال (الطهور ماؤه) أما (الحل ميتته) فهذا زيادة في الجواب من الجود الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى.
إذن في أخلاق الداعية لابد أن تُوطّن نفسك على أن تكون جوادا؛ جوادا في بيتك، جوادا في عملك، جوادا في السوق، جُود الطبيب وهو يمارس مهنته، جُود التاجر وهو يمارس مهنته، جُود القريب وهو يتعامل مع أقربائه، إلى آخره؛ يعني جُود هؤلاء وكونهم يكونون من أهل الجود، هذا من المهم في كل نِطاق لأن الجود سبب لانفتاح القلوب والناس يحبون من أحسن إليهم:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ
فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ(98/9)
وهذا واقع، إذن هذه الخصلة لابد أن توطّن نفسَك عليها، تكون جوادا ولو لم تكن كذلك في الداخل جرِّب نفسك؛ أن تكون جوادا بالكلمة، جوادا بالبشاشة، جوادا بالبذل مثلا من الأمثلة –وهذا سيأتي تطبيق له فيما نهدف إن شاء الله- مثلا رجل في بيته يشكو من وضع والده، يشكو من وضع ولده، يشكو من وضع إخوانه –مثلا- ويشكو, ويشكو، وهو إذا تعامل معهم في الدعوة يتعامل معهم من جهة الأمر والنهي، لكن لو خالط زملاءه، لو خالط أصحابه، وجد أنه معهم بشخصية أخرى غير الشخصية التي يتعامل بها مع أهل بيته، هذا الانفصام سببه أنه جواد مع أولئك بالكلمة، بالبذل، بالأخذ، فأثر فيمن أثر، وثبَّت من ثبَّت بتوفيق الله جل وعلا، أما في بيته فهو إنما هو آمر ناهي, والناس ليست مجبولة على من يحب أن يتسلط عليها؛ من يأمر وينهى، وإنما مجبولة على حب أن يقدّم لها، من يحسن إليها. إذن في البيت الجود لو جرّبته له أثره العظيم فجرّب مع أخيك الصغير، مع أخيك الكبير، مع والدك، مع ابنك، مع بنتك، مع أختك، مع قريبك، جرِّب هذا ستجد أن له أثرا وإن كان هذا الأثر ربما يكون بعد مدة لكنه أثر, وأوّل درجات الدعوة انفتاح قلب المدعو إلى الداعية؛ قلب من تريد أن تؤثر عليه أن ينفتح قلبه لك, ويحب الكلمة التي يسمعها منك, ويقتنع بالكلام الذي تقوله, ولو عشرة في المائة، عشرين في المائة, خمسين في المائة, في البداية. هذا خير عظيم، الأمور لا تصل إليها على خطوة واحدة، ومن الأسباب المهمة ما ذكرته لك وهو الجود فلا تحقر هذا السبب، فقد قال لك عليه الصلاة والسلام «لا تحقرنّ من المعروف شيئا» أيّ شيء من المعروف لا تحقره «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» بل إن ذلك فيه تنبيه على أن تلقى أخاك دائما بوجه طلق كما قال في الحديث الآخر «وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة».(98/10)
?من الأخلاق المهمّة للداعية أن يكون واسع الأفق، يعني محلِّلا لما يجري حوله؛ يعني أحيانا يكون الأثر الذي يؤثر في المدعو سلبا, أو يؤثر في المدعو إيجابا، يكون هذا أثر غير مَرَضي يكون فيه أشياء في جوانب حياة هذا المدعو خاصة من لا تعاشره دائما, فهذا كيف تؤثر عليه؟ لا بد أن يكون عندك رؤية متّسعة للمؤثرات التي تؤثر على هذا المدعو، وهذه الرؤية المتسعة ستستنتج منها الأسباب التي تصدّ هذا المدعو عن قبول الخير، وستستنتج منها الأسباب التي تجعل هذا المدعو يُقبل على الخير، يعني هناك أشياء تجعل هذا يقبل لأن كل إنسان له عواطفه، له محبته وخاصة إذا كان مسلما فإنه عنده من الخير ما عنده، لكن ربما غطّى عليه كثير من الرَّان المنتشر في الناس، ولأسباب أخرى تارة تكون من نفسه والشيطان، وتارة تكون ممن حوله من الشياطين الذين يصدون الناس عن الحق، هذا لابد أن يكون عند الداعية استيعاب لما حوله، ثم إذا استوعب كانت رؤيته غير محدودة، بل رؤيته متسعة بعد ذلك يدرس هذه الأسباب، ويحاول أن يأتي ويحصّل الإيجابيات وأن يبتعد عن السلبيات، ولهذا جاء مبدأ المشاورة والتطاوع في الدعوة، يعني أحيانا يكون الإنسان لا يدرك الأشياء بنفسه خاصة من تحليل نفسيات المدعوين، لهذا قال عليه الصلاة والسلام لمن أرسلهما إلى اليمن «تطاوعا ولا تختلفا وبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا».
? أيضا من المهمات في أخلاق الداعية: أن يكون معتنيا بشيء من العلم المتصل بالدعوة، وأنّه يعلم أن الدعوة إلى الله جل وعلا مراتبها كبيرة جدا، هناك من الدعوة ما لا يصلح إلا للعلماء، هناك من الموضوعات ما لا يصلح أن يدعو إليه من العلماء, هناك من الموضوعات ما يصلح أن يدعو إليه كل مسلم؛ لأن كل مسلم معه من اليقين والعلم بأشياء من الحق ما ينبغي له أو إذا دعا فهو عنده من العلم في تلك الأشياء ما يجعله يدعو إليها.(98/11)
العلم ذكرنا دليله في قوله جل وعلا?عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي? والبصيرة هي العلم؛ والعلم مهم وكما قلنا درجات، ولهذا أهل العلم يقولون لا يجوز لأحد أن يدعو حتى يعلم ما يدعو إليه، أما إذا كان جاهلا بالحكم، جاهلا بما يدعو إليه، فكيف يدعو إلى شيء وهو يجهل حكمه؟ لكن إذا دعا إلى تحبيب الناس في الخير، إلى تحبيب الناس في الاستقامة، في الصلاة، في الطاعة، في مؤاخاة الصالحين إلى آخره.. هذه أمور يشترك في معرفتها وفي العلم بها جميع المسلمين.
العلم لابد منه فيما تدعو إليه، إذا أردت أن تدعو إلى مسألة ليست من الواضحات فلا يجوز لك أن تتكلم فيها إلا بعد أن تكون عالما بها على ما قاله أهل العلم.(98/12)
?أيضا من الأخلاق المهمة أو من الآداب المهمة للداعية التي تكون من خلقه وشخصيته: أن يكون مرتبا للأولويات وهذا ما يُسمى بتقديم الأهم على المهم، أو ما يسميه بعض المعاصرين بفقه الأولويات -وهذا صحيح- تقديم الأوْلى على ما هو دونه، هذا مهم، تقديم الأهم على المهم، هذا أصل شرعي، كما قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم..» قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مسائل كتاب التوحيد: فيه البداءة بالأهم على المهم. نعم الأهم يُبدأ به قبل المهم، لابد أن يكون عندك معرفة بالأولويات ما المهم؟ بعض الناس ممكن أن يبدأ بالدعوة بفرعيات يعني بمستحبات ويترك الأصول، هذا ما بدأ بالأهم وترك المهم، بل بدأ بما هو من المستحبات وترك ربما الواجبات والفرائض، لابد أن يكون الداعية متمرسا في معرفة الأولى فالأولى، هل الأولى فالأولى في جميع الناس واحد؟ لا, في جميع المجتمعات واحد؟ لا، المجتمعات تختلف وكذلك الأفراد يختلفون، بل البيوت تختلف، فهناك أولويات في بيت ليست هي الأولويات في البيت الآخر، بل نفس الداعية عنده أولويات في بيته للدعوة، وينتقل قلبه إذا اتجه إلى عمله إلى أولويات أخر، وينتقل قلبه إذا خالط أصحابا له في أولويات أخر، فيكون عنده من فقه الأولويات ما يجعله إذا تكلم في كل مجلس يظن الظان أنه متناقض؛ يتكلم هنا بكلام وهناك بكلام، والواقع أنه من فقهه؛ جعل الأولويات التي يتكلم بها مع أهله غير الأولويات التي يتكلم بها مع أصحابه غير الأولويات التي يتكلم بها مع العامة وهكذا.(98/13)
فإذن من فقه الداعية ومن الأخلاق التي لابد له أن تكون معه أن يكون عنده ترتيب للمهمات ترتيب للأولويات، وهذا يتطلب أن يكون معه الأشياء السابقة وهي أن يكون ذكيا فطنا واسعا حتى يمكن أن يعرف ما هي الأولويات المتصلة بهذا الفرد، بهذه الأسرة، بهذا البيت، إلى آخره, فإذا رتبت هذه الأولويات عرفت كيف تبدأ، وأما إذا لم ترتب ربما أتيت من قبيل الغيرة، وأمرت ونهيت وأقمت الدنيا وأقعدتها، لكن هل أثرت في القلوب؟ الجواب: لا. ربما المرء يحترم في بيته قد يحترمه أولاده، قد يحترمه إخوانه، لكن المهم أن يحترموه وبعد الاحترام أن يطيعوه, وأن يقتنعوا بالحق الذي معه, وهذا ليس مهمة الآمر الناهي فقط. بل مهمته أن يكون مع أمره ونهيه دعوة بشرائطها ومتطلباتها.
?أيضا من الأخلاقيات المهمة في الداعية: أن يكون متخلِّصا عن حظ نفسه، دائما يكون باغٍ لحق الآخرين بعيدا عن أداء حق نفسه, وهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربما أتى إليه الأعرابي وجذبه من وراء ظهره بقوة من ردائِه، والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبه إجابة سمحة، وربما قام عليه الرجل فتكلم عليه، وقام عليه بسيفه، فأجابه بإجابة يكون فيها البَر والطمأنينة له، فيه أحاديث معلومة ليس هذا محل ذكرِها.(98/14)
المقصود من هذا أن الداعية يجب عليه أن يكون متخلصا، يعني وأنت في دعوتك تكون متخلصا عن نفسك يعني هذه النفس التي بين جنبيك احترامها، قوتها، إلى آخره هذه اجعلها تنزل مرتبة أو مرتبتين أو ثلاث لأن الناس خاصة إذا تعاملوا مع من يدعوهم إذا رأوا أنه يتسلط ولو بكلمة فيها شيء من القوة والغلظة فهم لا يقبلوها ?وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ?[آل عمران:159] وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وهم صحابته الكرام عليهم رضوان الله، هكذا الناس، الناس مجبولون على أنهم لا يقبلون الذي يخالف ما هم عليه؛ إذا تأمره بشيء يخالف رغبته لا يقبل ذلك، فمتى يكون لك حظ عند المدعوين؟ إذا تخلصت من رغبات نفسك, وهذا يظهر عند اللقاء، عند النقاش؛ فإذا أمرت أو دعوت فتكلَّم عليك ربما والدك، ربما ابنك، ربما أخوك، ربما أختك، وهكذا ربما يتكلم عليك، فهل معنى ذلك تظهر لك العزة وأنت تتمثل مقام الدعوة؟ لا, بل يظهر عندك مقام الداعية رحْب الصدر الذي يمكن أن يناقش، يمكن أن يتكلم في كل مسألة، وإذا ضاق به الأمر وأُحرج؛ لأنه ربما يكون المدعو يُحرج الداعية بأشياء، لأنه هو مضطرب فيها أو لا يكون عنده إلمام بها إلى أشباه ذلك يعتذر لأنه دون خطأ, لكن يرتب المهمات لأن المهم إذا وصلتَ إليه يعني الأَوْلى الأهم إذا وصلت إليه فإنه متفَق عليه؛ المحافظة مثلا على الصلوات، التزام المرأة مثلا بحجابها، بسترها، بقلة خروجها إلى آخره, التزام الرجل بآدابه، عدم مخالطة الأشراف إلى غير ذلك، هذه الأشياء تكون متفق عليها، فيأتي الكلام في خلافيات معينة.(98/15)
الانتصار للرأي يَحْرِم الدعوة، فلهذا على الداعية أن يكون واسع الصدر، أن يكون متخلصا عن نفسه، وعن الانتصار لنفسه؛ يعني لا بأس أن يقول أخطأتُ ولا بأس أن يقول معك الصواب، وألا يرتفع لأنه إذا رفع نفسه على غيره فإنه لن يقبل الداعية ندًّا, لا بد أن يكون جاعلا نفسه أقل من غيره وهو يخاطب الآخرين؛ إذا جعل نفسه ندًّا لغيره أو متعاليا فإنه في الغالب يكون كلامه محترمًا، لكن لا يكون محل قناعة وقبول.
القسم الثاني هو الميدان:
كيف تبدأ العمل؟ كيف تدعو عمليّا في بيتك؟ كيف تدعو عمليّا في مكتبك؟ كيف تدعو عمليّا في مؤسسة، في الشركة؟ كيف تدعو عمليّا في المتجر؟ كيف تدعو عمليّا في قريتك إذا رجعت إليها، أو إذا سافرت إلى أي مكان في الطائرة ؟... إلى آخره.
هذا المجال الذي هو المجال الميداني لا شك أنه من المصاعب، ويحتاج إلى تجربة، لكن هو سهل ميسور إذا أخذته بتسهيل.
الأول البيت: البيت مركّب من رجل وامرأة كبير أو صغير, الأطفال ليس هذا محل بيان كيف يؤدبون وكيف تتكلم معهم لكن مع الكبار.(98/16)
البيت يحتاج منك إلى أن تنظر في هذا البيت، في ما فيه من الخير الذي يَرْغَب فيه أهل البيت وما فيه من الشر الذي يقع فيه بعض أهل البيت وأنت لا ترض عنهم، –كل بيت من بيوت المسلمين فيه أشياء من الخير وفيه أشياء من الشر-. النظر إلى الخيرات لابد أن يكون مع النظر إلى الشرور والمنكرات لما؟ لأن تلك قَبِلُوها وهذه قَبِلُوها، فأنتَ تريد أن يقبلوا منك زيادة في الخيرات التي يمارسونها، وأن يقبَلوا منك التخفيف من الشرور والمنكرات التي يمارسونها، فإذن في نظرك إلى البيت حلّل أولا الإيجابيات والسلبيات -كما يقال-، حلّل الخيرات, وحلّل المنكرات, فانظر إلى أسباب حدوث الخير وأسباب حدوث الشر، فترى تارات كثيرة أن أسباب حدوث الخيرات هو الإيمان الكامل في نفوسهم، الرغبة الصادقة في أهل البيت في الدار الآخرة وفي الخير، هذه تحتاج منك إلى تنمية؛ تنميتها بأمور تغرس الإيمان في القلب، وأهمّ ذلك أن يُوَطَّن أهل البيت على محبة القرآن والذِّكر، هذه أدْخِلْها إلى البيت، ولو بقراءات بينك وبينهم في فترة وجيزة من فترات الزمن يعني خمس دقائق، عشر دقائق, يجتمع الجميع على قراءة كتاب الله و الإستماع له وحفظ آية أو نحو ذلك هذا شيء يشترك فيه الجميع لحُسنه، وأظنّ خمس دقائق أو عشر دقائق ليس ثَم من يعارض فيها.
مسألة الصلاة فيما يوجد مثلا عند النساء, النساء تجد أنهنَّ في البيت وهنّ مغفولٌ عنهنّ تجد أنهم يصلين لكن الصلاة عند كثيرات منهن بدون خشوع، يعني كثير من النساء ينقر الصلاة نقرًا، فهذه أنظر لها وحاول أن تعالجها بالطريقة الملائمة، بأن تقول مثلا هذه الفتوى لأهل العلم وهذه الأحاديث الواردة في ذلك, الصلاة زيدي فيها تسبيحة, زيدي فيها تسبيحتين، ونحو ذلك، لا يصح نقر الصلاة وبخطاب مودود بين المتكلم والمخاطب.(98/17)
إذا نظرتَ مثلا إلى الجهة الأخرى التي قد يعتني بها كثير من الدعاة، أو من الذين يهتمون بإصلاح البيوت جهة المنكرات الموجودة في البيوت؛ المنكرات درجات فهناك منكرات كبيرة عظيمة, وهناك منكرات وسط, وهناك منكرات أخص, والجميع يشترك في أنه منكر ومحرم, فترتيب النّظر في هذه مهم، يعني مثلا هناك بيت أهله من الرجال لا يحضرون الصلوات وتجد عندهم –مثلا- بلاء؛ فيه دخان يعني شُرب الدخان أو رؤية المنكرات، عندهم أجهزة لرؤية النساء والمحرمات ونحو ذلك، أو عندهم ممارسات لأشياء محرمة في البيت؛ علاقات أو اتصالات أو غير ذلك، فكيف تُرِّتب وضع هذا البيت، بحيث يهيئ لك الانتقال إلى المرحلة الأخرى، إذا أتيت إلى الشيء الذي هم أكثر تعلقا به وكان هو الأخص فتركتَ الكلام فيه ربما قبِلوا، وهذا جُرِّبَ وَوُجِدَ في بيوت كثيرة له نجاح؛ يعني هناك شيء يتعلقون به مثل وجود التلفاز في البيوت والتعلق به، و هم عندهم مخالفات أكبر من ذلك، فإذا أتى كلام الداعية في هذا ليلا نهارا رجع هناك بحواجز بينه وبينهم، لكن إذا سكت عنه كما سكت العلماء عن أشياء، وكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يُؤمر أولئك بالصلاة قبل الزكاة، فإذا سكتَّ عنه ونظرت إلى المصيبة الأكبر أو المنكر الأكبر الموجود فجهدت في إزالته وتركت هذا ولو سنة، فإن هذا يسبب قبولا، لأن من عوائد النفس أن لا تحبب الانفتاح على كل ما فيها مرة واحدة، وأنت أنظر إلى نفسك لمن لم يكن مهتديا من قبل ثم اهتدى، وقد قال جل وعلا ?كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا?[النساء:94]، هذا ينظر إلى نفسه لو أتى واحد وقال له انتقل في يوم من الحال التي أنت عليها إلى الحال التي عليها اليوم. لا يمكن أن يتصور ولا يمكن واحد أن يقول هذا الكلام ويقبل منه فورا, ولكن هي مدة من الزمن، فإذن هناك أشياء يمكن أن تسكت عليها، يمكن أن لا تُغلِظ وجهك فيها، ولا الكلام فيها،(98/18)
ولا تنكرها حتى يأتي زمن يقبلوا منك ذلك, لكن بشرط أن تكون ساعيا في نقلهم إلى شيء أفضل، يعني في إنكار شيء أفضل من هذا الذي يمارسونه، وهذا واقع في البيوت، وكل بيت وله تحليلاته وله أوضاعه الخاصّة.
إذا نظرت من جهة أخرى إلى وضع الرجل في بيته أنه يعطي البيت القليل، ويَرغَب من أهل بيته أن يكونوا كما يريد، هذا لا يمكن فلا بد أن تعطي البيت الكثير سواء أكان والدا, أو كان أخا، لابد أن يعطي بيته كثيرا من وقته، حتى يقبل منه أولئك لهم طلبات؛ يريدون في هذا الزمان أن يذهبوا هنا وهناك، رجالا ونساء وأطفالا، مراهقين، شبابا وشابات, يريدون من الرجل أن يبذل لهم، أن يذهب بهم هنا وهناك، إذا لم تبذل لهم؛ النفس لها طبيعة لابد أن تتسلط عليها أفكار وأفكار قد يتولد منها أشياء لا تحبذها أنت، فإذن من وسائل الدعوة المهمة العملية في البيت أن تبذل من وقتك الكثير وتنقل أهلك إلى ما يحبون، وفي خلال هذه المدة يمكن أن تُمرِّر كثيرا من الأشياء التي أمر الله جل وعلا بها ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذه إعطاء البيت وقتا في القعود في نفس البيت، في الجلوس أيضا، في الخروج للصغار والكبار.(98/19)
أيضا من المهمات في البيت أن تنظر إلى نفسية أهل البيت، وكل واحد تعالج نفسيته بما هو عليه، مثلا –وأنا ربما أركّز على النساء- البنت في البيت بدأت في العمر الثالثة عشرة, الرابعة عشرة, الخامسة عشرة, هذا السِّن إما أن يتسلط عليها الخير وإما أن يتسلط عليها الشر، لا تظن أن الخير سينغمس فيها بكلمة في خِضَمِّ هذا المجتمع الذي فيه كثير من التأثيرات بالباطل والتي قد توافق نفسية المراهقة لا بد أن تدخل في نفسياتها، أن تحتاج إلى أشياء تحتاج إلى المدح –مثلا- في زينتها، تحتاج إلى المدح في هيئتها، في كلامها، تحتاج إلى أن تلبَّى طلباتها، تحتاج أن تُنقل من شيء إلى شيء إلى أن تُقنعها بقناعات مع التسليم لها بأشياء، أن تدخل معها في المشاركة في اهتماماتها, هي مهتمة بأشياء وهي عندك لو اهتم بها فلان واطلع عليه الناس لعِيب ذلك، لكن في الواقع لعِلاج ما في البيت لا يعاب ذلك, فأنت اهتم معها باهتماماتها الخاصة؛ الاهتمامات التي تجعل هذه تشعر أنك دخلت معها في نفس الاهتمامات، ثم بعد مدة يأتي التوجيه شيئا فشيئا، وهذا يجعل هناك صدى وارتباط بين الأخ أو بين الأب في الأسرة وبين هذه الفتاة التي وصلت سن المراهقة.
بعض الآباء في البيوت يكون رجل ديّنا صالحا وفيه خير, لكن حصل في بيته أمور غير محمودة، كان من أسبابها أنه لم يهتم يوما ما لا بالشاب ولا بالشابة، هذا أحد الأسباب؛ ما اهتم بها، ما تكلم معهم في مشاكلهم، ما في داخلهم، كل واحد عنده رغبات، رغباته أحيانا تكون محرمة، رغباته أحيانا تكون بعيدة عن العقل والصواب، لكن لا بد أن تستخرج منها ذلك لأنك إن لم تستخرج منها ذلك، فسيستخرجه الأصدقاء، وسيعنى الأصدقاء بتوجيههم وإذا أتى الأخلاء والأصدقاء بتوجيهاتهم فربما وقع ما لا يحمد.(98/20)
فإذن من المهم أن تعطي البيت وقتا، وإذا أعطيت البيت وقتا فإنه مجال خصب للدخول معهم في ما تحب، والدعوة كما أنك ترى أنه لا يمكن أن تؤثر على الآخرين في خارج البيت بدون وقت، كذلك البيت لا يمكن أن تؤثر عليه بدون وقت.
النقطة الثالثة أن تأتي بكل وسيلة من وسائل الخير فتدخلها إلى البيت من شريط مستقيم طيب، ومن كتب خاصة؛ كتب الأذكار، وكتب المواعظ، والكتب النافعة التي فيها علاج المشكلات، والمجلات المأمونة الطيبة التي تعالج بعض الأشياء وتجعلها في البيت، وهم لا شك سيقرؤون، وسيكون هناك نوع تأثر بوضعها، لمجرد الوضع لا الفرض، فرض تلك الأشياء.
بالنسبة للعمل: العمل ميدان آخر مختلف تماما عن البيت، معالجة البيوت أسهل من معالجة زملاء العمل؛ لأن هؤلاء قد بلغوا من العمر ما بلغوا؛ لهم قناعاتهم, لهم شخصياتهم, لكن هؤلاء لا شك أنهم درجات يختلفون، هؤلاء لا تنظر إليهم نظرا واحدا، بل كل واحد له وضعه، له تفكيره، له عواطفه التي في داخله, زملاء العمل من أحسن ما يؤثر به عليهم، أن يكون هناك اثنين أو ثلاثة يبتدؤون بوضع شيء من الزيارات الخاصة التي يكون فيها حضور لبعض أهل العلم، يعني يجعل مثلا بينهم مثلا لقاء أسبوعي أو ما يسميه بعض الناس دورية، يكون في ثلاث مرات في الشهر جلسة عامة يتحدثون كما يشاءون، ومرة في الشهر يأتيهم بعض أهل العلم ويتناقشون معه في ساعة من الزمان، في أمر من الأمور([2]) هذا النوع من الربط الذي معه عدم فرض الشخصيات على أولئك؛ لأن منهم من لا يقبل أن يأتي كل مرة, واحد يتحدث له في هذه المجالات يعني المجالات الدينية, لكن إذا كان مرة في الشهرين، مرة في الشهر في أول الأمر، هذا مقبول, هذه وسيلة.(98/21)
الوسيلة الثانية نشر أشياء في العمل من جهة فتاوى لبعض أهل العلم بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة من نشر أشرطة نافعة يكون فيها الأثر من قضية صحبة خاصة, نفع لبعضهم، توسط لبعضهم، السعي في نفعهم بالأخلاقيات التي ذكرنا؛ يعني أن يكون المرء في عمله -الذي يخاطب الآخرين- يكون رأى منه ذاك أنه يبذل له ما لا يبذله غيره، وهذه وسيلة مهمة؛ لأنها تُدخِل الخير في النفوس ولو بعد زمن. كذلك إذا كان هناك مسؤول العمل، وإذا قلنا مسؤول العمل لا يتصور أنه –مثلا- وظيفة رسمية في أي مجال من مجالات العمل؛ إذا كان مسؤول العمل رجلا جيدا وصالحا، يمكن أن تأخذ لقاءات لكل العاملين، ويؤثر عليهم عن طريقها، يعني أمامك مجالات في جهد فردي في العمل، يمكن أن تبذله ويكون معه أشياء من الخير، ولا يمكن طرق جميع الجوانب، لكن إذا كان هناك من سعى في ذلك يجود بخبرته على الآخرين، أو إذا رأى المرء أنه سيبدأ في ذلك يشاور إخوانه، ولابد أنه هناك تجارب كثيرة في هذا المجال.(98/22)
جهة أخرى وهي ميدان الدعوة في القرى: من الناس من يأتي مثلا إلى الرياض أو للمدن، وبعد انتهاء فترة الدراسة، أو يريد أن يرجع إلى بلده في إجازة وظيفية إلى آخره, والقرى وضعُها يختلف عن وضع المدن؛ وضع الناس فيها يختلف عن نفسيات أهل المدن -كما هو معروف- كيف يخاطب أولئك وكيف يسعى فيهم؟ أولئك أقرب في الغالب، أقرب إلى الخير؛ يعني أقرب إلى عدم مجادلة أهل الخير من أهل المدن, لأن أهل المدن ترتبت فيهم أشياء من القناعة في بعض المنكرات، أما أهل القرى لا زالوا يحترمون أهل العلم احتراما طيبا، ويحترمون أهل الصلاح احتراما جيدا، هؤلاء تدخل معهم في نطاقات: النطاق الأول تنشيط مجال الدعوة في البلد؛ يعني أن يكون لك صلة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلد، أن يكون لك صلة بمكتب الدعوة في القرية أو في المنطقة, تنشيط الكلمات في المساجد والمحاضرات، الدروس التي تقام في المساجد أو المواعظ التي تقام بعد الصلوات, هذه لها أثر في نفسية أهل القرى قريبا, كذلك في الدعوات العامة وما يسمى باللقاءات العامة، هذه الحديث يكون فيها دائما متركز على رغبات الناس، والداعية إذا نظر إلى هذا المجال وجد أن هذه الأحاديث غالبا ما يتكلم فيها الناس مع أول متحدث؛ يعني إذا فتحتَ أنت موضوعا من الموضوعات فإن الحديث سيمرُّ وقتا من الزمن في هذا الموضوع، إذا طرحته في طرح جيد مقبول، يعني إذا تكلمت مثلا عن شيء من أخبار الصحابة رضوان الله عليهم أو أخبار بعض أهل العلم وما هم عليه، أو تحليل لموقف من المواقف أو نحو ذلك، أو حدث من الأحداث فإنه سيتكلم هذا المجلس في هذا الموضوع شيء من الزمن؛ ربع ساعة، ثلث ساعة، بقدر نباهة وانتباه الداعية يمكن أن يطيل ويشقق هذا الموضوع حتى يكون هناك استفادة أكبر من طرح تلك الموضوعات، يعني أن يكون هذا المشارك مهتمًّا في أن تكون الجلسات العامة ليست جلسات قيل وقال، بل تكون الموضوعات المطروحة فيها مدروسة،(98/23)
وهذا لا بد أن يكون معه كما ذكرنا من قبل دراسة موضوعية لما يكون في تلك البلاد أو القرى من الأمور الإيجابية والسلبية.
مجال رابع من مجالات الدعوة الفردية أيضا هو: التأثير على من هم أقل منك؛ يعني المعلم مع طلابه, كبير الزملاء مع صغار زملائه وهكذا, هذا نوع من التأثير أو نوع من المخالطة موجود, والتأثر به كبير، والتأثير عن هذا الطريق سهل؛ ذلك لأن الصغير في الغالب يرى المعلم، أو الزملاء الصغار يرون الكبير فيهم له محلا من الاحترام ومحلا من التقدير, وهذا يجعل الفرصة سانحة لكي يقول ما عنده، ويؤصل الدعوة الصحيحة بما يحصل لهم به الخير وينتقلون معه إلى الأفضل.
أكتفي بهذا القدر، وربما ما عندي من النقاط ما يجعلِّي الكلام مستقيما من كل جهة.
فنجيب على بعض الأسئلة وتعذروني عن القصور وجزاكم الله خيرا.
السؤال الأول: يقول من خلال الحديث عن كيفية الدعوة، هناك مشكلة تواجهني في هذا الجانب وكثير من الناس، وهي كيف أدعو زوجتي إلى الاستقامة إلى الدين، وما أفضل الطرق في ذلك لأني تعبت، ولم أرى تغيرا أرجو إفادتي وغيري بهذا الموضوع المهم؟
الجواب: التأثير على الزوجة لا شك أنه من المهمات, كذلك تأثير الزوجة على زوجها، وإن كان في الغالب تأثير الزوج على زوجته أكثر قبولا وأكثر واقعيا.(98/24)
الزوجة إذا كانت محترِمة لزوجها فإن عطاء الزوج لزوجته بمقداره يكون القبول؛ عطاء الزوج لزوجته من حيث الكلمة، من حيث العمل، من حيث المال، من حيث تلبية الرغبات، عندها أشياء مخالفة لا يريدها الزوج، عندها اهتمامات غير محمودة, محرّمة، تفعل أشياء منكرة، تجادل في أشياء لا يجوز أن تجادل فيها؛ مثل بعض مسائل الحجاب واللباس ونحو ذلك.. لكن نفسية الزوجة رقيقة؛ المرأة رقيقة بطبيعتها, فالزوج يؤثر على زوجته أول الدرجات بأن ينطلق لسانه, وكثير من الأزواج -ويعذرني الإخوان- خاصة المستقيمين لسانه ليس رطبا مع زوجته وفي هذا الزمن أن ترى المرأة أي الزوجة تسمع -نسأل الله العافية- حديث الرجل مع المرأة في الأجهزة المختلفة في التلفزيون أو في الفيديو أو إلى آخره إذا كانوا يرونه، يسمعون حديثا لم تسمع المرأة أن زوجها يخاطبها به, كذلك تسمع من زميلاتها وصديقاتها زوجها فعل معها كذا أو فعل معها كذا أو اهتم بها بهذا النوع من الاهتمام, لاشك أن هذا يولد عندها أشياء في نفسها تجعل هنالك حواجز من قبول لما يقوله الزوج, ومن المهمات أن يكون لسان الزوج منطلقا مع زوجته, يعني لا يحسن أن يكون الزوج مع زوجته صامتا -بل هذا يعد من العيوب- إلا فيما يشتهيه هو؛ إذا اشتهى شيئا تكلم أما الأشياء التي لزوجته لا يتكلم فيها, كيف يكون القبول إذن؟ الزوجة تحتاج إلى مدح, تحتاج إلى ثناء ولو كان طويلا, لا يعد هذا نقص في قيمة الرجل, الرجل له شخصيته لا تؤثر فيه هذه الكلمات, له شخصيته المتزنة يحزم مواضع الحزم, ولكن أيضا يكون لسانه طريا في مواقعه. وكذلك ادعي الإعجاب بالمرأة, المرأة ضعيفة مع الأسف, امرأة وُجِدَت على أمر ليس بحسن -مثلا مكالمة هاتفية- وهي امرأة مستقيمة في الجملة ليست لهذه الأمور, كان سبب دخول هذا الخبيث إلى قلب هذه المرأة كلمة؛ مدحها بكلمتين، أظن بصوتها أو بطريقة كلامها، فظنت أن هذا صادق فيما يقول، وربما يكون هو كاذب فيما قال,(98/25)
لكن هي صدّقت، وهكذا طبيعة المرأة, فإذن لابد أن يكون الرجل مُبدِيا لما في المرأة, المرأة تحتاج إلى ذلك، يعني الكلمة مهمّة لسانك لا ينعقد لسانك بالكلام مع زوجتك، بل من المستحسن أن تكون مبديا لإعجابك بالمرأة في لباسها، في كلامها، في أدائها لمهمّات البيت، في تربيتها للأولاد، ما تعمل, تعمل, تعمل وأنت لا تبدي شيئًا؛ ساكت, فكيف ستقبل؟ لا بد أن يكون منك شيء، وهي بالتالي سيكون منها أشياء هذه نقطة.
النقطة الثانية البذل من جهة المال؛ يعني بعض النساء يكون عندها حاجة لأشياء، تريد أن يكون ملبسها على نحوٍ ما، أو وضعها في بيتها على نحوٍ ما، أو وضعها فيما تعمل في البيت على نحوٍ ما ونحو ذلك.. فيكون الرجل متسلطاً في أن لا يأتي بهذه الأشياء، إتيانه بهذه الأشياء، والموافقة على طلبات المرأة يُسبب لينًا عندها؛ لأنها إذا وجدت أنك تنفِّذ أو أنّك تأتي لها بما تبغي تقبل منك, على الأقل في البداية خشية أن تخسر ما تبذل، هي تفكر تقول هو بذل لي أخشى أن أعانده أو لا أوافقه بعده أخسر بعض الأشياء، فهي توفِّق حتى يكون لها الخير؛ طبيعةً وجِبِلّة.
الجهة الثالثة أن المرأة تحتاج إلى الخروج مثلا من المنزل، ليس النساء على مرتبة واحدة، بعض النساء ممكن أن تجلس يوم، يومين، ثلاثة، أسبوع ما تخرج، ما عندها إشكال, بعض النساء لا؛ تعوّدت قبل أن تأتي للزوج في وضع في بيتها، قبل أن تأتي إلى هذا الزوج في وضع، مثلا في اشتراء بعض الملابس والأشياء، فإذا أتى الزوج وحملها على غيره وأراد منها أن تتخلص من أشياء كانت تمارسها في بيت أهلها مثلا، أو نحو ذلك من الأشياء غير المحمودة، فإنها لن تقبل، أو يكون هنالك شيء من عدم القَبول.
فإذن المقصود من ذلك أن يكون هنالك توازن في شخصية الزوج، فبذله للمرأة وتحليله لنفسيتها من كل الجهات ومعالجة تلك النفسية, هذا سبب من أكبر الأسباب في علاجها واهتدائها إن شاء الله.(98/26)
السؤال الثاني: إن لي أخا صغيرا لا يطيع أوامري ويشرب الدخان لأنه مُتَيَقِّن أني لن أخبر والدي.
الجواب: الدخان أمر ليس حَلُّه في يوم وليلة، ولكن مع الزمن، وترغيبا في الخير وحضوره الجماعات والصلوات، وكثرة التحديث، وكثرة تلاوة القرآن له، سماع القرآن, يبدأ يستحي على الأقل في البداية من شرب الدخان، ثم يستتر به، ثم يتركه إن شاء الله تعالى.
السؤال الثالث: ذكرتَ في درس الأصول الشرعية في التعامل مع الناس، تعامل المرء مع نفسه ومجاهدتها، وهذا عنصر مهم يعيشه كثير من الشباب وهو ضعف الشخصية أمام الوالدين، والإخوان، والزملاء، بحيث أن الشخص قد يرى المنكر أمامه ولا يستطيع أن يفعل أي شيء خوفا من والده أو أحد آخر، ما هو علاج لهذا الموضوع؟
الجواب: هذا أمر نفسي؛ يعني يخاف أن يتكلم، يخاف أن يُبدي ما عنده، هذا أمر نفسي علاجه لا بد أن يكون المرء منتبهًا لنفسه. أولا أن يُجَرِّئ نفسه على الحق, الحق ما فيه المجاملة، لكن الحق ينبغي أن يؤديه بالطريقة الصحيحة، ليس بطريقة الاستعلاء، بطريقة المحبة والإرشاد والترغيب في بداية الأمر، أما إذا كنت في بيتك الذي تعوله، وأنت رب ذلك البيت - يعني أنت صاحبه ولك فيه الأمر والنهي- أنت لست معذور على وجود منكرات فيه، إلا إذا كان هناك ترتيب في بعض المصالح في أشياء معينة من المنكرات، لكن إذا كان في بيت الوالد أو معك الإخوان -إخوانك أو نحو ذلك في البيت- هذا يحتاج منك أن تكون مرشدا محببا متوددا شيئا فشيئا، الخوف يكون غالبا في الإنكار، لكن إذا ابتدأت أن تكون داعيا غير منكرٍ يعني مرشدا تُبَيِّن للناس الخير، تحثهم على الخير, لكن لا تنكر عليهم الشر؛ في البداية ينطلق لسانك، ثم بعد ذلك تبدأ تقول الجهتين؛ ما يرغِّبهم في الخير وما يبعِّدهم عن الشر.
هذه كلها توجيهات, من جهة الواقع العملي، أمَّا لو كانت فتاوى, فلكل واحد حالة تخُصُّه, معلوم أن الفتوى العامة غير الفتوى الخاصة.(98/27)
السؤال الرابع: هل ترون أن تخرج المرأة إلى دُور العلم لحفظ كتاب الله، وقد قلتَ يجب على المرأة ألا تخرج إلا قليلا؟
الجواب: أنّ الأصل أن المرأة لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ماسّة, هذا الأصل من جهة الاستحباب, يعني أن لا تخرج إلا إذا احتاجت لشيء تشتريه لشيء تحتاجه في بيتها، لأمر ليس لها منه بد ونحو ذلك، هذا الأصل، قد قال جل وعلا?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى?[الأحزاب:33], فالقرار في البيوت هذا من خصال المرأة الصالحة في الجملة, وإذا نظرتَ إلى هذا الزمن وما فيه، فإن قرار المرأة في بيتها قد لا توافق عليه كثير من النساء, وكثير من النساء ربما إذا أكثرت المكث في البيت تولدت عندها أشياء ارتدت على العلاقة بينها وبين زوجها في البيت بأشياء غير محمودة، فهذه يُخرَج بها بما يحصل الخير ويجتنب الشر؛ فمثلا إذا كان لها رغبة في حضور مجالس الخير يحضر بها إلى مجالس الخير، إذا كان لها رغبة تُدرِّس القرآن أ و تدرُس القرآن يُذهب بها إلى المدرسة والذهاب بها منها، وهكذا إذن الأصل في مسألة خروج المرأة أنّ المرأة لا تخرج إلا لمصلحة؛ لمصلحة شرعية، وخروجها للمباحات هذا مختلف فيه بين أهل العلم هل هو مباح أو مكروه؟ والظاهر الكراهة في هذه؛ لأن الأصل عدم الخروج، فإذا كان الخروج ليس لمصلحة؛ يعني ليس فيه تحقيق مستحب ولا واجب، فإنه يكون مكروها، لكن إذا كان سيصاب بهذا الخروج مفاسد أخر وسيحصل منه مصالح فإن خروج المرأة على ذلك يكون مشروعا.
السؤال الخامس: هل إحضار الخادمة حسب طلب الزوجة يكون من حسن العشرة ؟(98/28)
الجواب: إحضار الخادمة إلى البيت لاشك أنه محفوف بمصالح ومحفوف بمخاطر أيضا، والخادمة كما قال أهل العلم لا يجوز أن تُحضَر إلى البيت إلا إذا كان ثَم حاجة لها؛ مثل أن تكون أشغال البيت كثيرة لا تستطيع المرأة أن تقوم بها من كثرة الأولاد مثلا أو انشغالها بخدمة زوجها, الرجل مثلا مِضياف أو كثير الطلبات منها، أو نحو ذلك من الأسباب، أو امرأة مريضة فإذا كان ثم سبب يجعل إحضار لها خادم فإنه يجوز إحضار الخادمة للمرأة، وقد قال الفقهاء أن الرجل يلزمه أن يُحضر للمرأة من يخدمها ويخدمه إذا كان من عادتها ذلك؛ يعني إذا كانت المرأة في بيت أهلها تُخدم إذا كانت في بيت أهلها معتادة على أنها لا تقوم بمثل هذه الأعمال فإنه من المعروف أن يؤتى لها بمثل ما كانت عليه, لأنها إنما تعاشر بالمعروف يعني ما كانت تعرفه هي في بيت أهلها, وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى ذكر أنه مما يستفاد من قوله تعالى ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ?[النساء:19]، يعني مما يتعارفه الناس في كل زمان؛ مما يتعارفه الناس في كل زمن تحصل العشرة بالمعروف فليست مقيدة بزمن.
والفقهاء تكلموا هل يجب على المرأة أن تخدم زوجها؟ ففقهاء الحنابلة رحمهم الله يقولون:لا، المرأة إنما هي معقود عليها للاستمتاع ليس عليها واجبا شرعيا أن تخدم زوجها؛ يعني أن تفعل له كذا، أو أن تطهو له، إلى آخره، أو أن تعمل له بيته، لكن هو أخذها للاستمتاع فهذا حظه منها.(98/29)
وشيخ الإسلام ابن تيمية اختار، قال: هذا القول مرجوح والصواب أن قوله تعالى ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ?[النساء:19] يعم كل أنواع المعروف، فإذا كانت المرأة من المعروف عنها في بلد من البلدان إنما تُطلب زوجة للعشرة يعني للاستمتاع وللخدمة أيضا، يعني تكون مع زوجها تطبخ له وتنظف له وتكون معه وترعى الأولاد إلى آخره، فإذا كان هذا من المعروف فهو داخل في قول الله تعالى ?وَلَهَّن مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ?[البقرة:228] فعليها هذا لأن هذا من المعروف.
وهذا القول هو المفتى به وهو الصحيح، فحصل من ذلك أنه إذا كان من عادة المرأة أنها تُخدم، أو أنها لا تستطيع أن تقوم بعمل البيت لسبب من الأسباب أو كثرة أولادٍ فإن للزوج أن يأتي لزوجته من يخدمها، هذا من جهة الحكم.
لكن وجود الخادمة في البيت له أضرار كثيرة من جهة الزوج، فعليه إذا حضرت أن يلزمها بالحجاب الشرعي عنه وعن غيره، وأن يبتعد معها عن الخَلوة، وعن الكلام فيما لا يعني، وأن ينتبه من المحاذير التي قد تكون من جهة الخادمة.
السؤال السادس: هل اليهود يصومون يوم عاشوراء إلى يومنا هذا أم لا؟ وهل يهود هذا الزمان مختلفون عن اليهود في وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟(98/30)
الجواب: أن يوم عاشوراء اليوم الذي نجّى فيه الله جل وعلا موسى عليه السلام ومن معه في توقيتهم كان قبل مجيء توقيت الهجري قبل مجيء محرم وصفر؛ لأن وقت موسى عليه السلام قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - بنحو ألف وزيادة من السنين، فيوم نجى الله موسى عليه السلام ومن معه كان التوقيت عند بني إسرائيل يختلف عن هذا، يعني التأريخ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة ووجدهم يصومون ذلك اليوم؛ يصومون يوم عاشوراء، يعني بما يوافق تلك السنة، أو بما شاع عندهم في تلك السنين أنه هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى، وموافقة التاريخ للتاريخ لا أعلمه، ولهذا اليهود يصومونه عندهم شكرا إذْ نجى الله جل وعلا موسى من فرعون، لكن لا يعني ذلك أن يوافق العاشر من محرم عندنا؛ لأن التاريخ غير التاريخ، وإنما جاءت المناسبة أنه جُعل العاشر من محرم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة وجدهم يصومون ذلك اليوم، وكان يوما من تلك السنة يوافق العاشر من محرم هذا الذي يظهر لي، وإلا فإن تاريخ اليهود غير تاريخ المسلمين.
السؤال السابع: يقول هل الدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات، مما يدعو إليه كل أحد أو العلماء فقط، وإذا كان ذلك لكل أحد فكيف يكون ذلك؟(98/31)
الجواب: الدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات هذا مطلبٌ للجميع, لأن الواقع يدلّ على أن ضيق العمل الإسلامي وضيق الدعوة إلى الله إنما جاء من جهة الحزبيات, الحزبيات هذه تجعل المرء يتحرك في دائرة ضيقة، وأنا أذكر زمنا مرت به هذه البلاد من نحو عشرين سنة ما كان الشاب يخالط إلا شابا، ما كان يعرف يدعو أهله بل كان إذا أتاه بعض زملائه يريد أن يجتمع بهم ليقرؤوا في كتاب أو نحو ذلك ربما أغلق الباب، وهذا من الفهم الخاطئ للدعوة، وسببه الحزبيات, الحزبيات فيها إعطاء نفسية من بداخل تلك الجماعات نفسية الانغلاق، طبعا هذا تغيّر في الفترة الأخيرة يعني من نحو عشرة، اثنا عشر سنة، فصار هناك انفتاح على الناس في ذلك، لكن يبقى أثر الحزبيات في النفوس أنه يبقى المرء منغلقا، يبقى المرء ضيقا، إذا أراد أن يتوجه لشيء وجد ثم من يمنعه لرؤية غيره، وهناك أشياء من الخير كثيرة يمكن أن يسلكها المرء، لكن لأجل وجود تلك الإطارات ربما حُدّ ذلك من نشاطه، فالدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات هذه عند العقلاء والمصلحين هذا مطلب عام يشترك فيه الجميع؛ لأننا وجدنا في مسيرة الدعوة في هذه البلاد أنها تسير ولله الحمد إلى وقتنا هذا وفيما نستقبل من الأيام والسنين إن شاء الله، تسير إلى التخلص من الحزبيات شيئا فشيئا، لكن التخلص من الشيء مرة واحدة هذا ليس بالسهل، لكن شيئا فشيئا ستنتهي ويكون الناس جميعا متحابين في جماعة واحدة، كلهم يدعون إلى شيء واحد ويحكمون عقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم.(98/32)
الناس يختلفون في طرح هذه الموضوعات عليهم، ولهذا من يطرح هذه الموضوعات أحيانا يكون مصيبا، وأحيانا يكون مخطئا، لأن المدعو ما حاله حتى تَطرحَ عليه موضوع جماعات أو حزبيات أو نحو ذلك، ربما لا يكون عنده فكرة أصلا عن الحزب، ليس عنده شيء من ذلك حتى تنقله إلى غيره، ومن التصور الخاطئ الذي في أذهان بعض الإخوة أن هذه الصحوة -التي تراها- الكبيرة، وهؤلاء الشباب ولله الحمد والشيب والنساء في إقبالهم على الخير، أنّ الأكثر عنده جماعة أو عنده حزب ونحو ذلك، إما متحزب أو في جماعة أو عنده اجتماع فهذا ليس صحيح، إنما الجماعات أو الاجتماعات في خضم هذا الموج ولله الحمد أو هذا الانتشار العظيم للدين قد لا يمثل عشرين في المائة، لكن هذا التأثر العظيم، هم يتأثرون بمن حولهم، يتأثرون بمن يقول لهم، الجميع مقبل على الخير ومقبل له، فمن الذي يبلغهم الخير؟ هم مع من يبلغهم، فإن بلغهم بطريقة صحيحة كانوا معه، وإن بلّغهم بطريقة غير صحيحة كانوا معه؛ لأنهم ليس عندهم من العلم ما يميزون به بين الحق والباطل، رأوا شيئا من الفساد، ورأوا شيئا من المخالفات وأنواع من المنكرات التي لا يقرها الدين ولا أهل العلم ولا يقول أحد بجواز وجودها، فيأتي من يقول لهم إن هذا منكر ولا يجوز ويثير فيه الغيرة فيقبل عليه سواء كان في حزب أو جماعة أو لم يكن كذلك.
إذن النظرة إلى وجود الحزبيات أو وجود الجماعات عندنا أو في العالم الإسلامي بعامة ينبغي أن تكون في إطارها الصحيح، وأن لا يُتَصوَّر أنَّ كل شخص يتكلم بكلام قد يشترك فيه مع بعض الجماعات أنه يكون منهم، لا، هذه تأثرات عامة في المجتمع، وأهل الاجتماع والجماعات قليلون جدا.
وهؤلاء كيف تعرفهم؟ كيف تعرف أن هذا من الجماعة الفلانية وينتمي لها؟(98/33)
لا يمكن أن تجزم على أحد بعينه إلا بشروط خاصة أن هذا فعلا من الجماعة الفلانية، ومنتمي، إلى آخره، وأكثرها ظنون، ومعلوم أن الشرعيات لا تُبنى على الظنون، وإنما تبنى على الحقائق، فمجال الدعوة أن تحذر من هذه الأمور، يعني من الحزبيات ونحو ذلك، أن تحذِّر من هو واقع فيها، وترى عنده بُعْد عن الصواب فيها، عند التعصب لجماعة من الجماعات، عنده غلو، عنده دعوة إلى أن ينتمي الناس إلى هذه الجماعة، ونحو ذلك، دفاعٌ عنها وعن أصولها ومبادئها، هذا هنا يخاطب بنفسه، أمّا تخاطب العامة جميعا بمسألة ربما ما يدري وهو في الحالة هذه، ما يعرف جماعة أو غير جماعة، فيسبب شيء في نفسه من الشكوك في الالتزام كما حصل ذلك فعلا.
إذن الكلام على هذه المسألة لا يقال الداعية يتكلم فيها بإطلاق، ولا يقال يتركها بإطلاق، بل يتكلم عنها في حدودها الشرعية، والكلام في هذه المسائل يحتاج إلى علم وحكمة وبصيرة، والشريعة -كما هو من القواعد- جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وجاءت بدرء المفاسد وتقليلها، فالكلام في هذه الأمور بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد مطلوب؛ لأن تحقيق المصالح الشرعية أمر متفق عليه، ودرء المفاسد أمر متفق عليه، أمّا أن تحدث مصلحة ويكون معها مفاسد كثيرة فهذه لا تجوز؛ يأتي واحد وتدعوه وهو مقبل على الخير وتجعل في نفسه الكلام على فلان وفلان، وفلان أو الجماعة الفلانية والجماعة الفلانية ربما ما تَحَمَّلَ عَقْلَه ذلك فَكَرِهَ الخيرَ كلَّه.
فإذن هذه المسائل لا يُتكلَّم فيها إلا مع من كان واقعا في تلك الاجتماعات أو الجماعات رغبة في إصلاحه وإسداء الخير له بالكلام عام أيضا وخاص.
نرجو أن يكون هناك كلمة في أحد الدروس أو درس من الدروس في علاج هذه المسألة من جوانبها المختلفة.
السؤال الثامن: في هذا العصر كثرت وسائل الدعوة إلى الله وفي بعضها شبهة عندي مثل التمثيل والأناشيد فهل هي جائزة أم لا مع أن بعضهم قيد.....؟(98/34)
الجواب: جواب هذه المسائل مُورِست في الدعوة التي هي التمثيل والأناشيد ونحو ذلك..
والأناشيد تختلف عن التمثيل, الأناشيد فيما أعلم من كلام علمائنا الذين يُصار إلى كلامهم في الفتوى أنهم على عدم جوازها؛ لأن الأناشيد أتت عن طريق – يعني في الخارج- الإخوان المسلمين, والإخوان المسلمون كان من أنواع التربية عندهم بالأناشيد، والأناشيد كانت ممارسة في الطرق الصوفية كنوع من التأثير على المريدين، فدخلت كوسيلة من الوسائل، وبحكم التجارب أو نقل الوسائل دخلت هاهنا في هذه البلاد، ومورست في عدد من الأنشطة، أفتى أهل العلم لما ظهرت هذه الظاهرة لا تجوز، قد قال الإمام أحمد في التغبير الذي أحدثه الصوفية، وهو شبيه الأناشيد الموجودة حاليا، قال إنه محدث وبدعة وإنما يراد منه-هذا كلام الإمام أحمد- الصدّ عن القرآن وكانوا يسمونه بالسماع المحمود وهو ليس بسماع محمود بل مذموم. هذا بالنسبة للأناشيد.
أما التمثيل فبحكم ما سمعت من فتاوى المشايخ فإنهم اختلفوا: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من أجازه بشروط -هؤلاء علماؤنا- ومنهم من قال ممنوع بجميع أنواعه، منهم من أجازه بشروط منها أن لا يشتمل على كذب ونحو ذلك، ومنهم من أجازه لأن فيه المصلحة.(98/35)
فالتمثيل من جهة الحكم صار فيه اختلاف، ولكن من جهة العمل الذي ينبغي أن يُجعل الشباب على -يعني في وسائل الدعوة- أن يأتوا إلى المتفق عليه؛ لأننا في هذا الزمن نحتاج إلى الائتلاف، نحتاج إلى الاجتماع، نحتاج إلى عدم الفرقة، وأن نسعى إلى ذلك ما استطعنا، وإذا كان كذلك فإن استعمال وسائل قد يكون فيها اختلاف مثل التمثيل؛ وهذا يحتج يقول أفتاني الشيخ فلان، وذاك يقول أمنع لأنه أفتى الشيخ فلان، فيعود في الحقيقة تضارب بين أقوال المشايخ، نقول هذا تركه فيه مصلحة شرعية من هذه الجهة؛ لأننا إن قلنا يمنع التمثيل فسيقول القائل أفتى الشيخ الفلاني بجوازه، وإن قلنا يجوز سيقول القائل أفتى الشيخ الفلاني بمنعه, فبقي التمثيل من هذه الجهة على أنه من المصلحة الشرعية المتحققة أن يُترك درءا للاختلاف ودرءا للافتراء.
مع أن كلامي أنا الذي أكرره في باب التمثيل والأناشيد أنهم جميعا من باب واحد، وأنه لا يجوز جعلها من وسائل الدعوة أصلا لأن في الوسائل الشرعية ما يكفي ويفي ولله الحمد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
قام تفريغه: سالم الجزائري.
فهرس
مقدمة ............................................03
?القسم الأول: أخلاق الداعية........................................05
لابد أن يكون في دعوته:
?متجردا مخلصا لله جل وعلا...........................07
?ذكيا، حصيفا، نبيها..................................09
?محبا لبذل الخير راغبا في هداية الناس..................10
?واسع الأفق.........................................12
? معتنيا بشيء من العلم المتصل بالدعوة................13
?مرتبا للأولويات.....................................14
?متخلِّصا عن حظ نفسه..............................15
?القسم الثاني: ميدان الدعوة......................................17
?في البيت...........................................17(98/36)
?في العمل...........................................22
?في القرى............................................23
?التأثير على من هم أقل منه...........................24
الأسئلة:
1- كيف أدعو زوجتي إلى الاستقامة إلى الدين؟........................25
2- لي أخ صغير لا يطيع أوامري ويشرب الدخان؟.....................27
3- ضعف الشخصية أمام الوالدين والإخوان والزملاء، ما هو العلاج لهذا الموضوع؟.....................................................28
4- هل ترون أن تخرج المرأة إلى دُور العلم لحفظ كتاب الله؟.............29
5- هل إحضار الخادمة حسب طلب الزوجة يكون لحسن العشرة ؟.......30
6- هل اليهود يصومون يوم عاشوراء إلى يومنا هذا أم لا؟................31
7- هل الدعوة إلى منهج السلف الصالح والابتعاد عن الحزبيات مطلب كل أحد أو العلماء فقط؟.............................................32
8- كثرت وسائل الدعوة إلى الله، مثل التمثيل والأناشيد فهل هي جائزة أم لا؟.............................................................35
-
---
(1) سورة الحشر, الآية9, سورة التغابن, الآية 16.
(1) هنا ينتهي الوجه الأول من الشريط(98/37)
كيفية دراسة الفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفية دراسة الفقه/ لفضيلة الشيخ صالح آل الشيخ.
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه و على آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أسأل الله جلّ وعلا لي ولكم التوفيق للصالحات والسداد في القول والعمل. والإصابة في كل حال وأسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يمن عليه بالعلم النافع والعمل الصالح وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، لا حول لنا ولا قوة إلا به سبحانه، اللهم وفقنا للصالحات، ومُنّ علينا بما تحب وترضى.
أما بعد:
فنذكر مقدمة في كيفية الاستفادة من كتب الفقه، وكيف يدرس طالب العلم الفقه على أنجح السبل.
أولاً : الفقه من حيث مسائله:
منه المسائل التي كانت واقعة في زمن النبوة فنزلت فيها آيات أو آية فأكثر وبيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، فهذه مسائل منصوص على حكمها وفي الغالب تكون النصوص الدالة على ذلك ظاهرة في المعنى، ومنها ما هو قابل لاختلاف المجتهدين في فهم دلالة النصوص على تلك المسائل.
ومنها مسائل وقعت بعد زمن النبي عليه الصلاة والسلام وهذه المسائل احتاج إليها الناس لتوسع البلاد الإسلامية، ومخالطة العرب لغيرهم ومعلوم أن طبيعة أهل مكة والمدينة وأهل الجزيرة ليست هي طبيعة أهل الشام والعراق وأهل فارس وأهل خراسان وأهل مصر، فطبائع مختلفة في الحالات الاجتماعية في المساكن فيما يستخدمون في الوقت في الجوّ إلى آخره، فظهرت مسائل احتاج إليها الناس يسألون عنها الصحابة رضوان الله عليهم.(99/1)
وهذا هو القسم الثاني، وهي المسائل التي اجتهد فيها الصحابة رضوان الله عليهم، واجتهاد الصحابة في هذه المسائل كان مبنياً إما على دلالة نص في ادخال مثلاً المسألة في عام، أو في الاستدلال بمطلق على هذه المسألة أو بالاستدلال بقاعدة عامة دلّ عليها دليل في هذه المسألة نحو القواعد المعروفة كرفع الحرج والمشقة تجلب التيسير والأمور بمقاصدها، ونحو ذلك من القواعد العامة.
وهناك مسائل اجتهدوا فيها والاجتهاد كان على غير وضوح في الدليل يعني يُستدل له ولكن قد يُستدل عليه وهذا ظهر وظهرت الأحوال المختلفة بين الصحابة بقوة في هذا الأمر فهذا النوع مما دُوِّن بعد ذلك في أقوال الصحابة وصارت المسألة عند الصحابة قولين أو أكثر من ذلك من مثل حكم الصلاة في الجمع بين الصلاتين للمطر، هل يقتصر فيها على المغرب والعشاء أم يلحق بها أيضاً الظهر والعصر ومن مثل الكلام في الأقراء هل هي الطهر أم الحيضات، ونحو ذلك من مسائل اختلف فيها الصحابة وهذا من نوع الاختلاف الذي له دلالته في النصوص.
هناك مسائل كما ذكرتُ لكم ظهرت مثل استخدام مصنوعات أو أطعمة، مِثل الكفار التي قد يستخدمون في صنعها بعض الأمور مثل أنفحة الميتة ونحو ذلك، هذا ما ظهر إلا لما دخل العراق ظهر مثل هذه المسائل مثل بعض الألبسة الخاصة التي كانت عندهم مثل الحمام، ودخول الحمام، وهو بيت الماء الحار الذي كان في الشام ونحو ذلك.(99/2)
وكذلك مثل أنواع من البيوع لم تكن معروفة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أُحدثت بعد ذلك، وأمثال هذا كثير مما فيه الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم، هذا الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم غالبه مسائل اجتهاد، وقليل منه مسائل خلاف، والفرق بينهما أنّ المسائل المختلف فيها تارة تكون مسائل اجتهاد وتارة تكون مسائل خلاف فيُعنى بمسائل الاجتهاد ما لم يكن في الواقعة نصٌ فاجتهد هذا الاجتهاد، ويُلحق به ما كان فيها نص، ونعني بالنص ما كان فيها دليل من الكتاب أو السنة، لكن هذا الدليل يمكن فهمه على أكثر من وجه، فاجتهد في المسألة ففهم من الدليل كذا وفهم آخر من الدليل شيئاً آخر مثل { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } هنا هل القرء هو الطهر أم هو الحيضة؟ هذه تدخل في مسائل الاجتهاد الذي لا تثريب على المجتهدين فيما اجتهدا فيه.
القسم الثاني: مسائل الخلاف وهو وجود خلاف في بعض المسائل وكما ذكرت لكم كان نادراً عند الصحابة رضوان الله عليهم والخلاف ما يكون اجتهد برأيه في مقابلة الدليل مثل ما كان ابن عباس رضي الله عنه يفتي في مسألة الربا بأنه لا ربا إلا في النسيئة وأنّ التفاضل في الربويات ليس من الربا، وإنه ليس ثم أصناف ربوية، لكن النسيئة (التأجيل) أما التفاضل بين نوعين مختلفين مما هو معروف بربا الفضل فإن هذا لا يعده ربا، هذا اجتهاد في مقابلة النص.(99/3)
كذلك إباحته مثلاً في زمن طويل كثير من عمره رضي الله عنه نكاح المتعة وظنه أنّ هذا ليس بمنسوخ ونحو ذلك، وغير هذا من المسائل التي جاء فيها دليل واضح، هذه تسمى مسائل خلاف وهذا يكون الخلاف فيها ضعيفاً ولا يجوز الاحتجاج بمثل هذا، لأن المجتهد من المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم قد يجتهد ويغيب عنه النص يغيب عنه الدليل أو يكون له فهم ولكنه معارض بفهم الأكثرين، فهذه هي التي يسميها أهل العلم ويخصها شيخ الإسلام ابن تيمة بالذكر بأنها (مسائل خلاف) ومسائل الخلاف غير مسائل الاجتهاد، قالوا وعليه فأن المقالة المشهورة (لا انكار في مسائل الخلاف)، وتصحيحها : (لا انكار في مسائل الاجتهاد ) ونفى بمسائل الإجتهاد المسائل التي حصل فيها خلاف، وللخلاف حظٌ من النظر للخلاف حظ، من الأثر حظٌ من الدليل.(99/4)
أما إذا كان القولان: أحدهما مع الدليل بظهور والآخر ليس كذلك فإنا نقول: ليس هذا من مسائل الاجتهاد، بل من مسائل الخلاف، والخلاف منهيٌ عنه، والعالم إذا خالف الدليل بوضوح فيقال هذا اجتهاده وله أجر، لكنه أخطأ في هذا الأمر، ولا يعوّل على اجتهاده في مقابلة النص، هذه الأقوال أيضاً كثرت في زمن التابعين وزمن التابعين كانت الحاجات تزيد في وقائع جديدة وكثرت الفتوى بناء على ما استجد من الواقع على نحو ما ذكرت من استدلالهم بالكتاب، استدلالهم بالسنة، استدلالهم باجماع الصحابة ونتجت هناك أقوال في مسائل في التابعين، ومن المتقرر أن المسألة إذا كانت بعينها في زمن الصحابة، فإن احداث قول زائد على أقوال الصحابة يعد هذا من الخلاف الضعيف، يعني إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة على قولين، فإن زيادة التابعي بقول ثالث، فإن هذا يعد ضعفاً يعني يعدّ من الخلاف الضعيف عند أكثر أهل العلم، ذلك لأنه يكون القول الثالث فهمٌ جديدٌ للأدلة فهم زائدٌ على فهم الصحابة للأدلة، وإذا كان كذلك كان مقتضى أن الصحابة رضوان الله عليهم قد فاتهم فهم قد يكون صواباً في الآية ، وهذا ممتنع لأن الصحابة رضوان الله عليهم الفهم الصحيح للآية عندهم ولم يدخر لسواهم من الفهم الصحيح ما حجب عنهم بل الخير فيهم، فهم أبرُّ الأمة قلوباً وأعمقها علوماً وأقلها تكلفاً كما ذكر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه، يجتهد التابعي في مسألة نازلة جديدة اختلفت في حيثياتها عما كان في زمن الصحابة رضوان الله عليهم ظهرت هناك أيضاً مسائل جديدة حتى جاء في القرن الثالث للهجرة فدونت الكتب لما دونت الكتب كان تدوين الكتب على نوعين:
كتب للأثر ، وكتب للنظر وللرأي.(99/5)
أما الكتب للأثر فهي الكتب التي يصنفها أئمة الحديث والفتوى يجعلون باباً للطهارة وباباً للآنية وباباً للجلود وباب خاص لجلود السباع مثلاً جلود ما يؤكل لحمه ... الخ. ويأتون بالآثار في هذا كما صنع ابن أبي عروبه وعبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة وغير هؤلاء كثير، وكما صنع أيضاً مالك في الموطأ وجماعات هذا نوع، وهو العلم الذي نقل فيه هؤلاء الأئمة أقوال من سبقهم في الأحكام، وهذا لما صُنف صار أئمة الأثر والحديث يدورون في المسائل حول أقوال المتقدمين من الصحابة والتابعين، ومن اشتهر بالفقه ممن بعدهم يدورون حول هذه الأقوال.(99/6)
والقسم الثاني من الكتب هي كتب الرأي، ويعنى بكتب الرأي الكتب التي تعتمد في الأحكام على الأقيسة، وهذا مبني على مدرسة كانت في الكوفة ، وهي مدرسة أهل الرأي من مثل حماد بن أبي سليمان، قبل إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وكذلك في المدينة مثل ربيعة الرأي شيخ مالك ونحو ذلك ظهرت كتب لهؤلاء ولمن بعدهم ممن تبعهم هذه معتمدة على الأقيسة وعلى القواعد العامة فيفرعون الأحكام على الأقيسة والقواعد، لاحظ أنَّ هذه هي التي عناها أهل العلم بالأثر وأهل الحديث بالذم، إيّاكم وكتب الرأي، أياكم وأهل الرأي، فإنهم اعيتهم الآثار أن يحملوها فذهبوا إلى الرأي ونحو ذلك، لأنه يستدلون بالقياس وبالقواعد، ويقدمونها على الآثار، وهذا لا شك أنه ليس بطريق سويّ، وذلك لأن أولاً من حيث التأصيل أولئك جعلوا القياس أصحّ من الحديث، ويقولون القياس دليله قطعي، القاعدة دليلها قطعي، طبعاً القياس حينما نقوله هو أعم من خصوص ما عليه الاصطلاح الأخير، يعنى بالقياس ما يدخل فيه تحقيق المناط، يعني القواعد التي تدخل في العبادات والمعاملات، فيستدلون بأدلة قطعية على القواعد، فإذا أتى دليل يخالف القاعدة يقولون هذا حديث آحاد فلا نقدمه على الأقيسة، يقدمون مثلاً القياس على الحديث المرسل، يقدمون القياس على الحديث المتصل إذا كان لا يوافق القواعد، وهكذا فظهر عندهم خلاف للآثار وهذا الذي عناه السلف بذلك، وهم لهم أصولهم فالحنفية مثلاً عندهم أصول الفقه التي تخالف أصول أئمة الفقه الذين هم من أهل الحديث مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين في أنحاء كثيرة في أبواب كثيرة، مثلاً عندهم أنّ العام أقوى من الخاص، فعندهم أن دلالة العام على أفراده قطعية إذا كان الدليل قطعياً.(99/7)
وأما دلالة الخاص على ما اشتمل عليه من الفرد يعني من المسألة الخاصة فهذه دلالتها ظنية فيجعلون العام مقدماً على الخاص، ولا يحكمون للخاص على العام، وهكذا في التقييد والإطلاق هكذا في مسائل شتى مثلاً عندهم الحديث المرسل مقدم على المسند فالحديث المرسل مثلاً عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، عن إبراهيم النخعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وهكذا المراسيل عامة كمراسيل أبي العالية ونحوهم من كبار التابعين وغيرهيم، يعتبرون أن هذه المراسيل أقوى من الأحاديث المسندة، فإذا أتى حديث مرسل وحديث متصل في المسألة نفسها، أخذوا بالحديث المرسل وتركوا الحديث المسند المتصل لأصولهم لدلالة عقلية عندهم على ذلك، وهذا طبعاً انتج أقوالاً أكثر من الأقوال التي كانت موجودة في زمن الصحابة والتابعين، فصار عندنا تفريعات كثيرة.(99/8)
كذلك في مسألة القواعد يقولون الاستدلال بالقياس مقدم على الاستدلال بالأثر لأن القياس دليله واضح يعني مثلاً القاعدة دليلها واضح، وأما الأثر فإنه فرد، والقاعدة شملت أحكاماً كثيرة، كل أدلتها تعضد هذه القاعدة، وأما الأثر فهو واحد في نفسه، وعندهم أن القاعدة هي قطعية على ما اشتملت عليه وأما الآثار فإنها ظنية، هذا هو الذي نهى عنه السلف بشدة، وحذّروا من النظر في الرأي لهذا الأمر، وكتب الحديث على هذا، على الذي أسلفت فيما هو تبويب وإيراد ما في الباب من أدلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يعني من آثار أو من كلام الصحابة أو من التابعين أو من تبع التابعين بالأسانيد أهل الأثر ويمثلهم بوضوح في اتباع أصولهم الإمام أحمد رحمه الله ورحمهم أجمعين ينظرون في المسألة فإذا كان فيها حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قدّموه إذا كانت دلالته ظاهرة أو من باب أولى إذا كانت نصاً فإذا لم تكن كذلك نظروا في فتاوى الصحابة فيما يثبت أحد الاحتمالين في الفهم كذلك إذا جاءت فتوى عن الصحابي وكان فيها احتمال في الفهم نظروا في أقوال أصحابه من التابعين بما يوضح لهم معنى قول الصاحب إذا كان القول ظاهراً أو نصاً من الصحابي في مسألة نازلة وليس له مخالف أخذوا به، وإذا اختلف الصحابة في المسألة على قولين هنا تنازعوا، يأخذون بقول من؟ فمنهم من قال نأخذ بقول الخلفاء الراشدين أو بأحدهم إذ وُجِد ذلك،لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وإذا مثلاً عثمان خالفه ابنُ عباس أخذوا بقول عثمان، وإذا عمرُ خالفه ابنُ عمر أخذوا بقول عمر وهكذا، وإذا اجتمع الخلفاء الأربعة في مسألة أخذوا بها بقوة، وتارة تكون الآثار متعارضة في المسألة فيكون للإمام أكثر من قول وفي هذا كثرت الروايات عن الإمام أحمد في المسائل تجد مسألة له فيها عدة روايات لأنه في الرواية الأولى مال إلى ترجيح أحد الآثار في(99/9)
المسألة، والرواية الثانية نظر في المرة الأخرى واختار الآخر، وهكذا، فالمقصود أنهم يدورون بالنظر مع الآثار، والإمام أحمد لما استفتي أو كان يستفتى كثيراً تلامذته صنفوا المسائل عنه فهذه المسائل عن الإمام أحمد كثيرة تبلغ نحو سبعين كتاباً من المسائل أو نحو ذلك لأصحابه منها الشيء المختصر ومنها الكثير، أعني الكبير، هذه نقل منها طائفة من أصحابه ما هو معتمد عنده مما يعرفونه من كلام الإمام أحمد وهم المسمون بالجماعة عن الإمام أحمد، هذه الأقوال دونها بعض الحنابلة في المختصرات ابتداءاً من الخرقي.
فمن بعده حولوا الفقه إلى أنه فهم الإمام في النصوصكان سابقاً مثل ما ذكرت لكم الأئمة ينظرون في الآثار فلما أتى التلامذة كثرت عليهم الآثار تنظر مثلاً في الفقه في المصنف مصنف ابن أبي شيبة مصنف عبد الرزاق تحتار أقوال مختلفة وأسانيد، ومسائل تعترضها أحياناً أدلة أصولية، وأحياناً أدلة تحتاج إلى معرفة رجال الإسناد.(99/10)
وأحياناً النظر في القرآن وفي السنة وهل يحمل هذا على هذا أو لا، فالتلامذة ضعفوا عن ذلك مع وصية الأئمة بأن يأخذوا من حيث أخذ الأئمة، لكن وجدوا في أنفسهم الضعف فتمسكوا بفهم الأئمة للنصوص لأجل أن يريحوا أنفسهم دونوا هذا، وهذا التدوين أضعف باب النظر في آثار السلف تدوين الفقه، مثل مختصر الخرقي وغيره أو مختصر المزني للشافعية أو مختصر الطحاوي أو مثلاً كتب محمد بن القاسم عن مالك مثل المدونة وغيره أضعف النظر في الآثار التي هي عمدة هؤلاء الأئمة فصاروا يدورون مع نصوص الأئمة بل زاد الأمر بعد ذلك حتى أصبحو يخرجون عليها كأن هذه قد نص عليها الإمام بمسألة جامعة، وهي كما ذكرت لكم أنهم ذكروها جواباً على الاستفتاءات والمُستفتي إذا استفتى فالجواب يكون على قدر الفتوى ولا يستحضر المفتي حين السؤال أن كلامه سيكون عاماً أو خاصاً أو نحو ذلك، فإنما يجيبون على حسب السؤال أحياناً ينتبه لهذا الأمر فيجيب قدر السؤال، لهذا ظهرت هناك أقوال، أقوال في المذهب الواحد، مثلاً عند الشافعية أقوال العراقيين وأقوال الخراسانيين قول للشافعي في القديم وقول في الجديد ومن منهم من أخذ بهذا ومن منهم من أخذ بهذا لأجل نظرهم بأن الإمام ما أراد بنصه هذا المعنى المعين بل أراد شيئاً آخر هذه كانت جواب، أو هذه أراد بها خصوص المسألة ما أراد مثيلاتها ونحو ذلك.
كذلك أصحاب الإمام أحمد كثرت عندهم الأقوال وأصحابه كثير ولأجل كثرة الروايات تعددت الأقوال في المذهب لهذا مثلاً عند الحنابلة عندنا عدد مراحل مرت بها وهي ثلاثة مراحل:
1- مرحلة المتقدمين.
2- مرحلة المتوسطين.
3- مرحلة المتأخرين.(99/11)
فالمتقدمون من أوله يعني من الخرقي او ما قبله إلى القاضي أبي يعلى ومن القاضي أبي يعلى إلى آخر الشيخين الموفق والمجد هذه تعتبر من المتوسطين ثم بعد ذلك يبدأ المتأخرون على خلاف بعضهم يزيد في هذا قليلاً، مثلاً فالشافعية عندهم قسمان متقدمون ومتأخرون والحد عندهم بين المتقدمين والمتاخرين رأس الأربعمائة وهكذا عند المالكية أيضاً عندهم طبقات هذا تجديد في فهم الكتب فهم نصوص الأئمة الى آخره.
هذه المراحل في كل مرحلة دونت كتب هذه الكتب تختلف في أسلوبها سواء في الفقه أو في أصول الفقه تختلف في أسلوبها تختلف في استيعابها ما بين ماتن وموسع قليلاً ما بين ضابط للعبارة وسهل العبارة وما بين ذاكر للخلاف وغير ذاكر للخلاف.
فلهذا المسائل التي يذكرها المتقدمون تجدها أوضح من التي يذكرها المتأخرون، فكل ما تقدم الزمن كلما كان الكلام أوضح، فالمتأخرون يذكرون المسائل لكن يصعب فهم كلامهم في بعض الأنحاء.
فإذا صعب فهم كلامهم ترجع إلى كلام المتقدمين في نفس المسألة تجدها أوضح، وليس المقصود بذكر المذهب الحنبلي فقط، لكن كتأصيل عام لهذا نقول أن التفقه وحرص المرء على أن يكون عنده ملكة فقهية يكون مبنياً على هذا الذي ذكرته وأنت تلاحظ فيما ذكرتُ كان هناك متون وهذا الأخير وكان هناك استفتاءات وهي المتوسطة وكانت هناك الآثار وهي المتقدمة.(99/12)
فأولاً: الآثار هي التي ظهرت في الأمة وهذه الآثار كان منها ما هو جواب أسئلة ثم بعد ذلك كلام الأئمة كان عن استفتاءات مثل المدونة سئل الإمام مالك فأجاب كذلك الإمام الشافعي كثير منها أسئلة، وعلم الإمام أحمد في المسائل كثير والثالث مصنفات، لهذا الفقه وتنمية الملكة الفقهية والحاسة الفقهية في فهم المسائل وفي التعبير عنها وفي إدراك كلام العلماء على المسائل الفقهية يكون برعاية هذه الثلاث مجتمعة . أولاً: العناية بالمتون. ثانياً: العناية بالفتاوى. ثالثاً: العناية بالآثار. لا بد منها على هذا النحو يعني تعكس هي في تاريخ الأمة بدأت الآثار الفتاوى ثم تدوين المتون الآن نعكس إذا أردنا طلب الفقه لأن مثلاً في زمن أهل الآثار زمن الصحابة والتابعين عندهم اللغة وأصول الفقه، وأصول الفقه مبناها على اللغة فعندهم ملكة في الفهم والاستنباط وهذه ليست عند المتأخرين لكن ننمي هذه الملكة وتتنامي هذه الملكة: إذا عكسنا الطريق
أولاً : نبدأ بالمتون ثم بالفتاوى ثم بالآثار، فإذا اتيت إلى الناحية التطبيقية مثلاً عندنا تقرأ في الزاد متن من متون الكتب للمتأخرين من الحنابلة، هذا تأخذه وتتصور مسائله مسائل مجردة تفهم صورة المسألة وهذا أهم مما سيأتي بعد لأن ما بعده مبني عليه فإذا لم تتصور المسألة كما هي صار ما بعدها مبنيٌ على غلط وما بُني على غلط فهو غلط، فإذن تبدأ أولاً بتصور المسائل، مسائل الباب إذا كان هناك معها أدلة واضحة في كل مسألة هذه دليلها كذا، وهذه دليلها كذا كحجة للمسألة. .. الخ.(99/13)
ثم تنظر في فتاوى الأئمة، تنظر في فتاوى علمائنا مثلاً فتأخذ مثلاً باب المسح على الخفين، تقرأ هذا الباب وتفهم مسائله على حسب ما يذكر من الدليل المختصر ما تتوسع لأنك إذا توسعت ضعت إذا توسعت في كل مسألة وطلبت أدلتها والآثار فيها ما نخلص في كل مسألة فيها في الكتب كتب الآثار وكتب الحديث وكتب العلماء من الخلاف الشيءالكثير، لكن تفهم هذه المسائل ثم تنظر في الفتوى السؤال والجواب من علماء وقتك يعني من علمائنا فإذا نظرت إلى هذا يقوى عندك أنّ الفهم الذي فهمته في المسائل مع ربطه بالواقعة الذي هو بالسؤال يكون الفهم عندك اتصل من المتن إلى الواقع، وكثير من الناس يفهم الفقه فهما نظرياً لكن إذا أتى يُسأل، ذهنه ما دربه على هذا الانتقال أي الانتقال من المسائل الفقهية بأدلتها إلى أن هذه الصورة المسئول عنها هي داخلة في ذلك الكلام، أو هي المرادة بتلك الجملة في المتن.(99/14)
كيف تتنمي هذه الملكة؟ إذا الربط بين الكتاب الفقهي والواقع بمطالعة الفتاوى هنا تتنامى، تبدأ يكون عندك حاسة في المقارنة إذا سُئلت ذهنك مباشرة ينتقل لأجل هذه الدربة أو ما نقول سُئلت مثلاً سألك أحد في بيتك أو أنت سألت نفسك أو وقعت واقعة تبدأ تتأمل سيكون عندك دربة إلى أنَّ هذا هو المراد أن هذه داخلة في المسألة أنت تلحظ أنه بمطالعة كلام المفتين على المسائل يصير عندك سعة في الدليل (واحد)، وتثبيت لتصور المسألة ولحكمها (اثني)ن، (والثالث) يكون عندك معرفة بما عليه الفتوى من علمائك، وهذه الثالثة مهمة لماذا؟ لأننا مثلاً الآن الواحد عمره مثلاً خمسة وعشرين سنة أو ثلاثين سنة. كم هذه المسائل عهده بها عهده بها خمس سنين أو عشر سنين، صحيح؟ لكن العالم الذي يفتي مثلاً عمره خمسين أوستين أو سبعين أو ثمانين، هذا له بها من العهد خمسين سنة مرت عليه ما هو مرة أو مرتين، مرت به عشرين ثلاثين خمسين مرة، ألف مرة، حتى صارت عنده واضحة مثل اسمه من كثرة تكررها، فإذن هنا هذه الفتاوى بمنزلة المصفِّي للكلام الذي تقرأه في المتن، هل هو مما يُفتى به ويعمل به أم لا؟.(99/15)
مما نلحظ مما سبق أن ذكرناه فيه مسائل نقول ليس عليها العمل، يعني الفتوى ليست عليها في مسائل كثيرة، مثلاً في طهارة جلد الميتة بالدباغ من المعروف مثلاً في ما قرأناه في زاد المستقنع أنه لا يطهر جلدُ ميتة بدباغ مطلقاً، لكن لو كان الحيوان قالوا يباح استعماله في يابس من حيوان طاهر حال الحياة، مما يحل بالزكاة فيه أي يحل أكله بالزكاة يعني مما يباح في ذلك، أو مما كان دون الهرة في الخلقة، إلى ما هو معروف، إذا نظرت في الفتوى الفتوى على خلاف ذلك، فإذن هنا الضرب الفتوى تبين لك ما عليه العمل في المتن مما ليس عليه العمل فإذا ضبطت هذا الضرب يأتي عندك هناك سعة جديدة في الفهم فتنتقل - بعد ما تحكم هذا الأمر تحكم الباب أو تحكم الأبواب - إلى كتب الخلاف كتب الآثار يكون عندك فهم إلى أن هذا القول أقوى من هذا القول، هذا القول ليس عليه العمل تظهر عندك إشكالات، لماذا يفتون مثلاً بهذا أو بهذه الفتوى؟ والآثار جاءت فيها كذا وكذا، بغير ذلك، في مثلا هل المرأة الحائض تقرأ القرآن أو النفساء تقرأ القرآن أم لا؟ تعرف الفتوى عند أكثر المشائخ على أي قول؟ ثم إذا نظرت في الآثار ظهر عندك شيءٌ ثاني، يبدأ عندك هناك علم مهم جداً في الفقه، وهو يوجد في كل فن وهو علم الاستشكال، إذا استشكل مستشكل هذا معناه أنه يفهم إذا كان استشكاله واقعياً إذا استشكل لماذا يفتون بكذا؟ مع أنّ الأثر دل على كذا مع أن الدليل يحتمل كذا، فإذا سأل أحداً من أهل العلم أزال عنه الإشكال وأجاب عن إشكاله، وقد قال القرافي في "فروقه" قاعدة الفرق بين الكبائر والصغائر "ومعرفة الإشكال علم في نفسه"- من المهم أنك تستشكل ما فهمت كيف يقولون كذا، والدليل محتمل لكذا ليش، ما اعتنوا بكذا؟ لماذا ما ذكروا القاعدة؟ هذه القاعدة تشمل هذه لماذا ما ستدل بالقاعدة؟. هنا استدلالات كانت مهجورة عند السلف، الأدلة موجودة ولم يستدلوا بدليل منها، ولما أتى المتأخرون أو بعض(99/16)
المعاصرين استدلوا بأدلة لم يستدل السلف في المسألة بتلك الأدلة هذا اشكال لماذا؟ لماذا السلف ما استدلوا إلى مسألة كذا وكذا بالدليل الفلاني واستدل به بعض الناس من هذا العصر ما استدل السلف بالدليل واستدل به بعض الناس من هذا العصر بعض المشايخ أو بعض طلبة العلم لماذا؟ هذا الاشكال يتولد عندك مع اشكالات أخرى تحل هذا وتحل هذا حتى يرسخ الباب في ذهنك يرسخ الباب بتصوره بمعرفة دليله وبمعرفة الفتوى وبمعرفة الأقوال الأخرى بعد حين هذه مراتب ومعرفة الأقوال الأخرى وجواب هذا وجواب هذا. إذا عكست المسألة ما يحصل عندك ملكة فقهية، إذا بدأت مثلاً بالآثار فسيكون عندك معرفة بالخلافيات كثيرة لكن الملكة الفقهية ضعيفة وتحصيلك للمسائل قليل لإن مثلاً إذا نظرنا في كل مسألة سنبحث عما جاء فيها في الأسانيد والمصنفات أو في كتب الحديث وهي هذا صحيح أم غير صحيح وما ورد عن الصحابة والتابعين سوف تطول المسألة والأئمة في عهدهم كانوا على قرب من عهد الآثار على قرب من عهد الصحابة ما عندهم علوم كثيرة جداً اشغلت أذهانهم.
الآن مثلاً من القرن الثالث إلى الآن ألف ومائة سنة كم ظهر من العلوم التي شغلت اذهاننا وأخذت خيراً منه من الأذهان، ولذلك صار الذهن لا يستطيع أن يكون مركزاً على ذلك يعني غالب الطلاب يكون مُركّزاً على الآثار ومستخرج منها الفقه الصحيح لهذا نعم نقول الغاية هي الآثار وهذا الذي يجب فالدين هو كتاب وسنة وأثر ولكن كيف تصل إليه؟ لا بد أن تسلك الطريق الذي سلكه العلماء في الأزمنه المتأخره بعد فوات التمكن في العلوم والآتها. بدأوا بالمتون المختصرة جداً هذا كالبناء ثم بعد ذلك يرون فتاوى العصر فيرون ماذا يفتي به علماء عصرهم الشافعية على الشافعية والحنفية على الحنفية ثم يبدأون بإيراد الإشكالات والنظر في الآثار.
* مسألة : كيفية التدرج في طلب الفقه.(99/17)
الفقه طويل وهذا شيء مما لا شك فيه، ويحتمل في تدرسيه كل يوم عدة سنين لو ندرس مثلاً مثل كتاب زاد المستقنع لكن هذا الأمر وهو كون الفقه طويلاً وأنهيحتاج إلى سنين هذا يسهل باتباع الطريقة الآتية:
أولاً: أن تأخذ كل باب على حده ما تخلط بين الأبواب تأخذ متن فتأخذ مثلاً كتاب الزكاة تأخذه وتفهمه لو تجلس فيه شهر مع معلم أو مع نفسك تدرسه جملة جملة تقرأ وتنظر حتى تتصور الجملة هنا إذا كان المعلم قد وصل معك إلى كتاب الزكاة أو كان في أحد من المشائخ يقرأ على سبيل المثال في الزكاة فهنا تستمر معه يجري لك الأمر وإذا لم يمكن ذلك وأردت أن تقرأ أنت فلا بد من أنت تكون على صلة بأحد العلماء الذين بعون كلام أهل الفقه هذه الصلة فائدتها كلما استشكلت شيئاً تسأل كل ما فهمت عبارة تسأل تركيبية ما استقام في ذهنك تسأل وهو يوضحك هذا الإيضاح أما باتصال هاتفي أو بملاقاة هذا الإيضاح وهذه الصلة تجعل المسائل تتضح ثم أيضاً يكون الحرص على ملازمة أهل العلم في سماع كلامهم لأنه جربنا هذا قبلكم في مسائل كثيرة في الفقه تمر عليها لكن ما تتضح لك إلا بسماع كلام أهل العلم فيها، إما مثلاً في كلمة أو في فتوى أهو تكلم يناقش المسألة تناقشه تجد أنه يعطيك مفتاح لفهم هذا الباب أو لفهم هذه المسألة ما أدركته بمجرد القراءة.
فاذن.
أولاً: أحكام الباب يكون بدون مداخله يعني تأخذ كتاب معيناً ككتاب الزكاة مثلاً أو باباً معيناً فتدرسه بدون مداخله، يعني مثلاً واحد يقول أنا باقرأ مثلاً في كتاب الزكاة وفي نفس الوقت يأخذ في كتاب البيوع، وفي نفس الوقت يأخذ كتاب في الحدود فالذهن لا يجمع بهذا الطريقة فتختلط عليه المسائل، فإذا أخذت مثلاً كتاباً على هذا تبدأ بتحرير جملة وإذا حررت جملة على وقت ما عندك فهمت، أعني بتحرير الجمل معرفة كل لفظ ومعناه من حيث اللغة ثم بعد التركيب.(99/18)
طالب العلم في الفقه بخصوصه لا بد أن يكون حساساً في اللغة، لأنه إن لم يكن حساساً في اللغة استعمل في كلامه غير لغة العلم وهذا يضعف مع طالب العلم، فإذا تكلم مثلاً في الفقه كلام ثقافي يعني موعظة كأنه، كلاماً عاما، هذا يضعف الواحد معه، لكن إذا درب ذهنه ولسانه على أن كل لفظ له دلالته يجتهد على أن يستعمل ألفاظه مع مرور الزمن، يبدأ يتربى شيئاً فشيئاً حتى يستعمل ألفاظه، فإذن : 1- معرفة ألفاظ الفقهاء ودلالة كل لفظ . ثم : 2- معرفة التركيب لهذه الجملة، ثم: 3- الحكم. 4- دليل الحكم، قد يكون راجحاً في نفس الأمر وقد يكون مرجوحاً، المهم تعرف الدليل الذي اعتمد عليه في هذا الحكم، لأن معرفة الدليل يعطي ذهنك قريحة في استنتاج الحكم من الدليل على فهم جماعة من العلماء الذين صنفوا هذا أو رضوه أخذوه مذهباً.
الخامس : القول الآخر في المسألة بشرط أن يكون قولاً قوياً، وليس في كل مسألة، يعني مثلاً: مثل ما كان في المشايخ رحمهم الله الأولين الذين يدرسون الفقه عندنا هنا يذكرون اختيارات شيخ الإسلام ، وقد يكون بعدها استدلال أو ترجيح.
هذه خمس خطوات، إذا أخذت مثلاً باب من الكتاب بعد ذلك ترجع إلى نفسك باختبار، إذا سمعت شرح الباب مثلاً من معلم من شيخ او عالم أو قرأته وناقشت فيه أحد العلماء أو سمعته بواسطة شريط أو نحوه بعد ذلك اختبر نفسك في هذا الباب. كيف تختبر نفسك ؟(99/19)
تأخذ متن مجرداً عن الشرح وتجتهد في أن تشرح، أن تعلق مثلاً، الروض المربع أو شرح الشيخ بن العثيمين أو حاشية البليهي أو حاشية بن قاسم إلى اخره، ستلحظ في أول مرة أنك فيه مسائل تصورتها ، وعبارتك كانت عبارة جيدة رضيت عنها، لكن في مسائل أردت أن تتكلم اشتبكت عندك الخطوط ما عرفت، اشتيكت مع أنك حين القراءة كانت واضحة، مثل ما يأتي في الاختبار فقبل الاختبار تقول : أنا والله فاهم، وحينما جاء الاختبار استشكلت أو ضاعت عليك، كذلك في الفقه، فإذا راجعت على هذا النحو وحاولت أن تشرح فسيكون تقييمك لنفسك شيئاً فشيئاً، بهذا الطريقة تقوى مداركك تقوى قوة ذهنك.
ثانياً : يقوى تعبيرك عن مسألة بلغة العلم يقوي تعبيرك عن مسألة بلغة العلم.
ثالثاً : يكون لسانك متحرياً في الألفاظ لا تأتي إلى المسألة فتذكرها بالمعنى، يعني تذكر ما يدل عليها بحسب ما تفهم، بل تكون دقيقاً في اللفظ فتعبر بتعبيره، تعبر بلغته شيئاً فشيئاً بحسب ؟؟؟(99/20)
أنت والله أخذت خمسين من عندك نفسك استشكلت مسائل تعيدها ثم تكرر مرة أخرى حتى يكون عندك دربة هنا وأنت تسير على هذا تأتيك مسائل يكون لك رغبة في أن تطلع على الكلام فيها، فهنا لا بأس في أن تذهب إلى المطولات، مثل المغني في الفقه، أو المجموع أو نحو ذلك، لكن ما يكون ديدنك هذا في الباب كله تطالع . لا. هذا يكون في مسائل تختارها فتطالعها ، لماذا؟ لأن الكتب المطولة كتب سائحة،والكنب المختصرة كتب مجموعة، تناول المجموع أسهل من تناول المبسوط أو السائح، لماذا؟ لأنك طبعاً المغني أصعب من الزاد، والله واحد يجيء يقول الزاد عبارته كده والمغني كله أدلة، فتمشي معه بسلاسة، ولكن الواقع أن المغني بالنسبة لطالب العلم المبتدئ مضرٌ، بخلاف مثلاً المختصرات لأن المختصر يعود العقل على نوعية معينة من التعامل مع الكلام الفقهي يعوده على الحصر، يعوده على العبارة من لفظين ثلاثة، يعوده على مبتدأ وخبر، يعوده على شروط، يعني يحكم الذهن، أما ذاك فيكون مبسوطا، والمبسوط الذهن يقرأه بسهوله، يمشي ثم بعد ذلك ما يتربى عنده إلا يتذكر أن المسألة فيها أقوال، أما العبارة والإدراك ما يتربى عنده، ولهذا كان الشيخ عبد الرزاق رحمه (عفيفي) الله يقول الموفق، صنف في الفقه كتاباً أربعة للابتدائي وللمتوسط وللثانوي وللجامعي، فصنف للابتدائي العمدة في الفقه، وصنف للمتوسط المقنع، وصنف للثانوي الكافي، وصنف للجامعي المغني، فلاحظ عمدة، ثم مقنع، ثم كافي ثم مغني، والغناة لا يريد أحد بعدها شيء.(99/21)
لكن هذا لا بد يمشي على هذا النحو، لا بد أن يكون عندك تسلسل، فقراءة في المغني المطول دائماً، هذا غلط، وتركه دائماً أيضاً غلط. لماذا ؟ لأن المطولات فيها اسهاب في الاسهاب يحل بعض الاشكالات، فأحياناً يأتيك قول لم تفهمه أصلاً كيف تحل المسألة؟ مثلاً اتصلت ما وجدت أحداً، كيف تفهم هذا القول في الفقه بخصوصه؟ تذهب إلى الخلاف في المسالة، إذا لم تفهم قولاً من الأقوال اذهب إلى الكتب التي فيها ذكر الخلاف بمعرفة الأول المختلفة يتضح لك المراد بالقول الذي استشكلته، هذه مجربة ونافعة جداً في حل مثل هذا.
على كل حال هنا عدة أشياء أُخر لكن ربما احتاج الكلام عليها إلى طول مثل كلام مراتب كتب الحنابلة لماذا اختاروا كتاباً دون كتاب، كيفية الدمج بينها؟ وهل يسوغ لطالب العلم أن ينوع مثلاً عند أحد العلماء من الزاد وعند الثاني منار السبيل وعند الثالث من كذا .. . هذه كلها أشياء تحتاج إلى أجوبة لكنها تحتاج إلى مزيد من الوقت، نكتفي بهذا القدر .
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله.(99/22)
مسائل في طلب العلم
الدرس الثاني والأربعون
من شرح العقيدة الطحاوية
[مفرّغ]
الدرس الثاني والأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل القبول لديه، وممن غُفر لهم الذنب والتقصير.
اللهم من أحسن منا فتقبل منه إحسانه، ومن أساء منا فاعفُ عنه وتجاوز عن إساءته.
ثم إن الدروس الباقية في هذا الفصل قليلة، وبودي أن لو تمكنا من ختم هذا المتن المختصر الطحاوية، ولهذا فإنه قد يكون من المناسب أن نجعل الأسبوع القادم الدروس فيه يومية؛ يعني كل يوم بعد المغرب من السبت -فقط الأسبوع القادم - حتى نعطي خمسة أو ستة دروس في الأسبوع يمكن معه إن شاء الله تعالى أن نختم الكتاب بإذنه تعالى.
وتكون إذن بعد المغرب من يوم السبت القادم إن شاء الله السبت الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء والخميس إن احتجنا إليه.
أسأل الله للجميع الإعانة والتوفيق، وتنبهون الإخوان الذين ما حضروا؛ لأن الدرس سيصير بعد المغرب يوم السبت، ونسير على ذلك الأسبوع القادم، ثم نرى إن كان من المناسب أن نكمل على هذه الطريقة حتى نختم؛ لأن هناك قرب اختبارات وأشياء قد ما نتمكن من الختم إلا بهذه الطريقة.
ثم إنه بين يدي هذا الدرس نذكر أشياء تهم طالب العلم في سيره لطلب العلم والتلقي عن الأشياخ والحرص على ما ينفعه، وهي تذكرة وربما يكون بعضها قد سبق لكم سماعه مني أو من غيري.(100/1)
الأمر الأول: الذي ينبغي لك أيها الطالب أن تعتني به أتم عناية أن تذكر نفسك دائما بأن العلم عبادة تتقرب بها إلى الله جل وعلا، وأنّ العلماء ذكروا أن أفضل التطوع أفضل الأعمال بعد الفرائض طلب العلم، وكثير منا طلبه للعلم يكون واجبا؛ لأنه لم يأخذ القدر الكافي فيما ينفعه في دينه؛ في التوحيد في إصلاح العقيدة وفي إصلاح العمل بمعرفة الأحكام الشرعية، وهذا يحثّك ويجعلك لا تمل ولا تكل، وهما الدعّان اللذان يصيبان طالب العلم الملل والتعب والكلل من الحفظ ومن المدارسة ومن الكتابة ومن اقتناء الكتب ومن المطالعة إلى آخر ذلك.
فإذا علمت عظم المقصود وعظم الفضل للعلم وفي طلبه، وأنه أفضل الأعمال، حتى إن أهل العلم فضلوه على الجهاد -جهاد النفل جهاد التطوع يعني جهاد الأعداء-؛ لأن طلب العلم متعدٍ، لأن طلب العلم متعدي النفع، والقاعدة الشرعية أن الأعمال المتعدية في النفع هي أفضل من الأعمال القاصرة، وكلما كان التعدي تعدي النفع أكثر، كلما كان أفضل مما هو أقل منه في تعدي النفع، ولهذا كان مذهب كثير من أهل العلم أنَّ طلب العلم أفضل من الجهاد التطوع؛ يعني لأن نفعه أكثر تعديا في الغالب.
المسألة الثانية: هي طريقة طلب العلم، وألحظ الإخوة الذين أمامي الآن أن أكثرهم ربما يكون قد سار بتوّه في طريق طلب العلم أو توسط.(100/2)
طريقة طلب العلم مهمة، طلب العلم منكم من يحرص على الحضور عند المشايخ وطلاب العلم والمعلمين، فيحضر ويسمع ويكتب، أو يحرص على التسجيلات؛ لكن هذا وحده لا يكفي لابد من الدرس والمراجعة، لابد أن تدرس كأنه غدا لديك اختبار، تختبر في هذه المواد؛ لابد تدرس وتدقق في الألفاظ وفي الأدلة وتحفظ وترتب وتكتب حتى يكون عندك التلقي على أقوى ما يمكن أن تعمله، وإلا فالسماع والكتابة وحدها لا تنفع، تسمع فقط وإلا تسمع وتكتب ثم تنسى هذه الفوائد إلى بعد سنة، ترجع إليها تثقل عليك؛ لكن إذا كان لك مراجعة فيما سمعت مراجعة أسبوعية تدرس فيها الفوائد، تدرس فيها المتن أولا، وتراجع الكلمات ثم الشرح والفوائد، وتحفظ الأدلة، وتنظر كيف تعامل المعلم أو الشيخ كيف تعامل مع النصوص الشرعية، كيف تعامل مع المتن، كيف تعامل مع المسائل، كيف شرح أوضح، هذا هو بالدربة احفظ المسائل ويكون عندك قدرة ودربة على نقل هذا العلم.
فإذن كي تتعلم؟ هذا مهم أن تسأل نفسك دائما كيف تتلقى العلم؟ وكيف تأخذ بذلك؟ ومن المهم هنا أن تحرص على ثلاثة أمور:
الأول: أن يكون ما تقيده من الفوائد عن المعلم أو عن الشيخ أو عن طالب العلم أن يكون مرتَّبا بخط واضح، البعض يكتب بخط صغير متقارب الكلمات ويحشر الصفحة، هذه لا تنشِّطه للقراءة، إذا أراد أن يراجع، فتكتب سطر وتترك سطر بخط واضح والصفحات ولله الحمد والورق كثير.
الأمر الثاني: أن يكون هناك تلخيص لما قرأت؛ يعني بعد أن تسمع أنت ستنتخب أحسن ما سمعت، ثم بعد ذلك اختر أيضا الفوائد مما كتبت؛ لأن بعض ما كتبت ربما يكون فيه تكرار، ربما يكون فيه زيادة ونحو ذلك.
المرحلة الثانية أن تنتخب أحسن ما كتبت، الفوائد التي تراها أكثر فائدة لك وترددها وتحفظها.(100/3)
الأمر الثالث: أنه بعد حين يجب أن ترجع إلى ما كتبت عن الشيخ وتراجعه مرة أخرى حفظا ودراسة؛ لأن العلم يذهب بالغفلة ويبقى مع التَّرداد، فيه كتب كثيرة ومختصرات إذا قرأناها مرة ثانية وقد قرأناها عشرة وعشرين مرة تخرج لنا منها فوائد، والمرء لا([1]) يقل هذا الكتاب قرأناه هذا المتن قرأناه، لا إذا صار عند فرصة تراجع ما كتبت تراجع ما قرأت، وكلما كان الأمر أثبت كلما كان أقوى لك في المستقبل؛ لأنه كلما ثبتت عندك العلوم كلما كان التصور أسهل لديك وحفظ المعلومات الجديدة أسهل؛ لأن ما بني على صحيح فهو صحيح، وما بني على مختل فهو مختل، وما بني على غلط فهو غلط، لهذا صارت البنية الأساسية واضحة وصحيحة فيكون ذلك له أثره فيما بعده.
الثالثة: مما ينبغي لطالب العلم أن يعتني به كثيرا أن يمايز بين الزوائد في شرح الكتاب الواحد أو شرح الكتب المتماثلة المتقاربة، مثلا شرحنا لمعة الاعتقاد، شرحنا الواسطية، وشرحنا الحموية، الآن الطحاوية لك في كل شرح فيه زيادات على الشرح الآخر، ربما يكون شرح الواسطية أطول من غيره؛ لكن تجد في شرح الطحاوية مسائل جديدة ليست هناك، وأيضا في المسألة ربما فيه فوائد وتفصيلات ليس فيما مر، هذه أيضا مع بقائها في شرح الطحاوية تأخذها زيادة، وتضعها مع شرح الواسطية، هذا بالنسبة إلى شرح الشخص الواحد؛ لكن إذا كنت تحضر عند أكثر من عالم وأكثر من طالب علم أو سمعت عددا من الأشرطة، والشروح سمعت من هذا، وسمعت من هذا، وسمعت من هذا، كيف تستفيد من هذه الكتب جميعا؟ كل معلم له طريقة له طريقة في التعامل مع الفن أصلا له طريقة في التعامل مع الكتاب في شرح المسائل في تقريب العلم؛ لكن هناك قدر مشترك من المعلومات يكون عند الجميع، وهناك فوائد يتميز بها فلان عن فلان؛ لأنه وفوق كل ذي علم عليم، لابد، لابد أن يكون هذا له ما ليس عند ذاك من الفوائد، لن يتطابق الجميع على شرح واحد.
لهذا كيف تعمل في مثل هذه الحالة؟(100/4)
تنظر إلى أكثر الشروح تفصيلا وإفادة، ثم تنشر الزوائد من الكتب التي سمعت شرحها، أو مما دونت من الفوائد تدونها على هذا حتى يكون أصلا.
يعني تأخذ مثلا شرح سماحة الشيخ على كتاب التوحيد مثلا وتجعله أصلا ثم تأتي في الفوائد الأخرى وتدونها على هذا الشرح، فيكون عند الشرح لهذا الكتاب قد جمعته من شروح أهل العلم ودونت فيه أكثر الفوائد التي حرصت عليها.
إذن هذه الطريقة مهمة في التلقي من معلم واحد أو من شيخ واحد، وكذلك في التلقي من عدد من المعلمين أو عدد من طلبة العلم والأشياخ.
تختار أحد الشروح التي هي أكثر فوائد، ثم بعد ذلك تأتي بالفوائد الزائدة وتدونها عليه.
المسألة الرابعة: فيما ينفعك في طلب العلم أن تنتبه دائما إلى أن كثرة التفصيلات ليست دليل صحة، وقلة التفصيلات ليست أيضا دليل صحة.
وهذه مهمة لطالب العلم؛ لأنه سيتعامل مع شروح المشايخ، ويتعامل مع شروح الكتب، ويتعامل مع فوائد ينتقيها من هنا وهناك.
فإذن متى تحرص على التفصيلات؟ ومتى لا تحرص عليها؟ التفصيلات التي هي طول شرح للمسائل تارة تكون تابعة لأصل المسألة، فهذه احرص عليها وتارة تكون استطرادات يستغنى عنها في فهم أصل المسألة وما يتصل بها، فهذه يمكنك أن تستغني عنها في الدرس وفي المراجعة إلى آخره.
وأنت تقرأ مثلا لابن تيمية رحمه الله أو لابن القيم يورد المسألة ثم بعد ذلك يستطرد، هذه الاستطرادات تارة تكون تخدم أصل المسألة وتارة تكون لا هي تنظير للمسألة من مسألة إلى أخرى.
وهنا لابد من الانتباه كثيرا إلى كثرة المعلومات، ونحن الآن في وقت كثرة المعلومات، تسمع من الفتاوى الكثير، تسمع من الشروح الكثير، وتقرأ من الكتب الكثير، وهذا الشرح مطول وهذا مفصل، ترجع إلى فتح الباري تجد فيه، وترجع شرح الطحاوية تجد فيه، ترجع إلى فتاوى ابن تيمية.(100/5)
كيف تتعامل مع هذا الطول؟ تتعامل معه بأنه ما يخدم فهمك للفن اجعله الأساس، ثم هذه التفصيلات إذا كانت تخدم المسألة فانقلها على نحو ما ذكرنا سابقا، وكثّر الفوائد والتفصيلات التي تخدم أصل المسألة، وإلا فإن المسألة الواحدة يمكن أن نمكث في شرح حديث أسبوع كامل، شرح حديث واحد، إذا كان سنتكلم على التحليلات اللغوية، ثم أولا قبل كل شيء التخريج مثلا، وتراجم الرواة والتصحيح والتضعيف، ومن قال بصحته والاستطراد في ذلك، ثم نتكلم على اللغويات والتراكيب والقواعد اللغوية في الحديث، ثم بعد ذلك المسائل الأصولية والأحكام الفقهية واختلاف العلماء والفوائد، هذه تطول جدا المسائل.
ثم لا غرابة أن وجدنا أن الحافظ بن دقيق العبد رحمه الله شرح في مجلدين كبيرين إذا طبعا فستكون أربعة كبار، شرح في هذين المجلدين نحوا من أحد عشرة حديثا من كتابه الإلمام، وهذا المسمى بشرح الإلمام لابن دقيق العيد الموجود منه مجلدين، لم يؤلف منه إلا مجلدين شرح فيه بضعة عشرة حديثا أو اثنا عشرة أو ثلاثة عشرة؛ يعني أنه لا زال في أوله، حتى أنه ذكر عند حديث لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة أكثر من ثلاثمائة مسألة، هذا لو أردنا أن نتعرض لمثل هذه التفاصيل في الشروح.
إذن سيكون الطالب يجلب له كل شيء في الكتب وكل المسائل تعرض عليه، هذا ليس هو العلم، العلم أن تخدم المتن الذي تحفظه أو تدرسه مما يكون موافقا للمنهجية أن تخدمه بالشروح والتفصيلات حتى تضبطه.
ثم بعد ذلك إذا جاءت التفصيلات تأتي التفصيلات وأنت بالخيار تأخذ منها ما تشاء وتدع منها ما تشاء؛ لكن الطول لا يخدم.
لهذا تهتم كثيرا ما ينفعك من التفصيلات، التفصيلات هذه لا تتساهل في أن تسمع الكثير وتقول هذا أفضل، لا، قد يكون ذلك ويشتت ذهنك في العلم.(100/6)
فإذن الطريقة المثلى لهذا ما ذكرته لك من أن هذه التفصيلات تميزها، هل تخدم أصل الكتاب؟ هل تخدم أصل المسألة أم أنها استطرادية في مسائل لا صلة لها بأصل المسألة.
مع الزمن ستجد أنك ترقّيت في العلم، تفصيلات استغنيت عنها في سنتك الثالثة في طلبك للعلم أو الرابعة؛ لكنك تجد ...... في أول السن صار واضحا بحيث تقول كيف استفدت هذه الفوائد؟ كيف أجعلها فوائد أصلا فتجد أنك تحتاج إلى تفصيلات أخر ومزيد من العلم وتدقيقات، وهكذا ينبني بناء العلم لك شيئا فشيئا.
المسألة الخامسة: وقد ذكرتها لكم مرارا الاهتمام بالكتب التي تقرأ فيها، والطبعات، والآن المطابع ترمي بآلاف من المطبوعات المختلفة، لابد أن تنتقي الكتاب الذي تأخذ منه، تجعله مرجعا لك في مكتبتك، ليس كل كتاب يصلح، ليس كل طبعة أعني تصلح، يعني مثلا فتح الباري متقاربة الطبعات؛ لكن مثال كم له من طبعة؟ له أكثر من عشر طبعات، بداية من طبعة الهند إلى الطبعات الأخيرة هذه الملونة التي فيها أحمر ... صغيرة طيب عندك شرح مسلم للنووي أيضا طبعات كثيرة، المغني كم هناك من طبعة له الكثير كتب الفقه، كتب الحديث، كتب الرجال كم لها من طبعة؟ تأخذ الطبعة وتحفظها بحيث أنه تكون عندك في المراجعة.
هذه المعلومات سبق أن سمعها الأكثر مني؛ لكن وجود كثير من الأخوة ممن ربما لم يسمعوا القديم يجعلنا نكرر ليتضح الأمر.(100/7)
المسألة السادسة: أهمية البحث، وهذه ألقينا فيها كلمة مستقلة مطولة، وجاءتني رسالة من بعض الإخوة يقول فيها أنه سمع هذه المحاضرة أو الكلمة في منهجية البحث، وهي ألقيناها هنا في بداية الدروس في أحد الفصول، وأراد التعقيب للعلم الذي ذكرت التعقيب للعلم ويثبط الهمة ووو إلى آخره من الكلام، قال في أخره أظنك أنت يعنيني أظنك لا تطبق ما ذكرت أصلا، وهذا الكلام وإن كان انفعاليا؛ لكنه دليل صحة لأنه كون المرء استمع للكلام وتأثر وحسن الطعن هذا دليل خير، لماذا؟ لأنه يدل على أنه وجد أن الطريقة التي كان يسير عليها في البحث ليست هي الطريقة السليمة، هذا الذي كان يهمنا أن نوصله للإخوة، أن يكون هناك سعي في أن يكون البحث موافقا للطريقة السليمة، والعلوم إنما تثبت بالبحث، لا يمكن أن تتقدم في العلم إلا بالبحث، والبحث إذا كان سليما كانت النتائج سليمة، وإذا كان البحث قاصرا أو غير ممنهج كذلك ستكون النتائج على غرار قوة البحث وضعفه.
لهذا نقول: كيف تبحث؟ هذه مهمة جدا، فينبغي أن تراجع الكلمة التي قلناها سابقا وتهتم بالبحث يعني أن يكون عندك تقسيم لوقتك، تدرس على المشايخ، تقرأ المتون الأساسية وتحفظ وتؤسس نفسك في جزء، تقرأ المطولات والشروحات هذه والأشياء التي ترغب فيها في بحث المسائل، وأيضا تبحث في مسائل بحثا مكتوبا، هذا مهم لأن الذي لا يبحث لا تتأصل عنده المسائل، الذي لا يبحث ويطالع المسألة ينظر ماذا قال هنا وماذا قال هنا أوش قال في الكتاب الفلاني، لا تتأصل عنده المسائل.
في مسألة من المسائل كنت أنا أظن أنه مجمع عليها، وإذا بي في حج هذا العام عرفت أن فيها خلاف، وخلاف قديم للسلف وقوي، وهناك من نسبها من نسب المسألة إلى الإجماع أن العلماء أجمعوا عليها.(100/8)
فإذن العلم لا يكون إلا بالبحث؛ لكن البحث هنا لا يكون بحثا مقروءا؛ يعني تقرأ فقط، بل لابد أن تكتب؛ لأنه إذا لم تكتب فتلحظ أنه أن بحثك بعد شهرين أو ثلاثة أربعة خمسة انتهى، لا تذكر منه شيئا، لهذا إذا بحثت في ساعتين أو ثلاث أو خمس تكتب ما بحثت يبقى، وإلا فستبقى المعلومة معك لمدة أسبوع أسبوعين ثم تذهب.
وهذا واقع ومجرب، لهذا أؤكد على أهمية أن تبحث وأن يكون بحثك مكتوبا تارة أو تارات، ومقروءا تارة.
في تفسير آية لا تحرص أن تسأل إيش معنى الآية الفلانية؟ ابحث قبل، ثم بعد ذلك اسأل المشايخ والعلماء عن معناها.
المسألة الفقهية، ما حكم كذا؟ ابحث قبل، ثم بعد ذلك سل.
ومرة كتب أحد القضاة إلى سماحة جدّي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، كتب إليه يسأله عن حكم مسألة عرضت له في القضاء، فأجابه الشيخ بسطرين قال: المسألة معروفة في جميع كتب أهل العلم؛ لكنك كسلان لا تبحث والسلام.
وهذا واقع؛ لأن طالب العلم إذا تعود على أن يسأل ولا يبحث، فإنه سيصاب لأن السؤال لن يأتي دائما، السؤال لا ينشط الإنسان.
ومرة كان الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله في الحج، ذكرت لكم القصة وكان واحد جنبه يسأله ويسأله، قال العلم لا ينال بهذه الطريقة، اقرأ المسائل اقرأ العلم اقرأ الكتب بعد ذلك أشكل شيء تسأل عنه، أما كل مسألة تسأل عنها، ما حكم كذا ما حكم كذا، لو عمل كذا لو لم يعمل لا تحصّل العلم بذلك.
فإذن البحث مهم وبعد البحث تسأل، بعد البحث تعرض على أهل العلم ما بحثت، والله هذه طريقتي في بحث مسألة فقهية هل هي سليمة أم ليست بسليمة؟ هذا تخريج حديث أحاديث خرجتها بهذه الطريقة، مثلا تكون متأثرا بتخريج الأحاديث بمدرسة من المدارس الموجودة في تخريج الأحاديث، وتكون المدرسة عليها ملاحظات أو ليست المدرسة الصحيحة في التخريج، فإذا عرضتها على من يبحث معك أو يناقشك أو يعلمك فإنك ستستفيد.(100/9)
فإذن من المهم أن يكون لطالب العلم بحث مقروء يقرؤه هو، يبحث المسائل، وبحث مكتوب يعرضه على من هو أعلم منه.
المسألة السابعة: كثيرا ما أورد مثلا أو يورد غيري من المدرسون -خاصة العقيدة- خلاف المذاهب الضالة، مثلا قول الخوارج، قول المعتزلة، قول الأشاعرة، قول الماتريدية قول كذا، وربما يأتي بعض طلبة العلم منكم يحرص على مراجعة كتب القوم، وهذا لا يُنصح به، ولا ينبغي لطالب العلم في طلبه للعلم أن يسلك هذا السبيل؛ لأن الأصل أن مذاهب هؤلاء من مذاهب أهل الأهواء، وأهل الأهواء لا يقرأ كلامهم؛ لأنه لا يؤمن على طالب العلم أن يتأثر، أو أن يجد فيما قرأ شبهة لم يردها شيخه، فتبقى الشبهة ويحتار في رده عليها إلى آخر ذلك.
لهذا يعني عدد من الأخوة طلبوا أسماء مراجع المذاهب المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة من كتب المعتزلة والخوارج والأشاعرة، وطبعا الجواب أنه لا يرشد أحد إلى هذه المذاهب من طلاب العلم إلى كتب القوم حتى يقرأها، لا؛ بل الذي نقل له هذه المذاهب وبينها له ثقة فيأخذها على هذا النحو.
وقد كان مشايخنا رحمهم الله رحم الله الأموات وأطال في عمر الأحياء وبارك في الجميع، كانوا يعتمدون في نقل المذاهب المخالفة على أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ونحوهما ممن يعتنون بنقل المذاهب هذه فقط، ولا يرجعون إلى أصل الكتب؛ لأنهم ثقات وحديث النبي صَلَّى الله عليه وسلم إذا نقله عدل ثقة قبلناه واعتمدناه وصار حجة لنقل العدل الضابط عن مثله، فكيف بمذاهب الآخرين التي هي مذاهب ردية.
ربما يأتي وقت يكون طالب العلم بحاثة في تحقيق مسألة ما، هنا قد يرخص له إذا كان يريد الرد ويريد المناقشة ونحو ذلك، قد يرخص له في حد محدود؛ لكن طلاب العلم من أمثالكم يقرؤون في كتب القوم وفي تفاسير الأشاعرة وتفاسير المعتزلة أو نحو ذلك، لا، ولا يعرّض المرء دينه للخطر.
هذه بعض الكلمات تناسب البداية، ونجيب بعدها على بعض الأسئلة.
[الأسئلة](100/10)
س1/ لا يخفى عليكم ما يحصل من مخالفات في التعزية في هذا الزمن، وأقلها اجتماع أهل الميت القريبين والبعيدين في بيت أحدهم أو في بيت الميت، وتلقي العزاء لمدة أيام، وقد اختلفت آراء العلماء في هذا.
فالسؤال: إذا حصل لي ذلك هل أترك المنزل ولا أستسلم مع أن أقاربي يحملون الإنسان على ذلك، إلى آخره؟
ج/ مسائل التعزية واجتماع أقارب الميت الذين يقصد تعزيتهم أو مواساتهم في موت قريب لهم؛ يعني الاجتماع المعروف الذي يسمى اجتماع العزاء هذا حصل الكلام؛ كلام الشباب فيه وبعض الناس في هذا الوقت من جرّاء فتوى من لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين في أنّ الاجتماع لا يشرع، أصل الاجتماع بل الذي يشرع هو التفرق.
وبقية علمائنا وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز وبقية المشايخ يقولون لا بأس بالاجتماع، وهذا القول هو الأولى والراجح؛ لأن الاجتماع إلى أهل الميت في هذا الزمن يحصل به التعزية، والتعزية سنة وعمل مشروع قد قال عليه الصلاة والسلام «من عزى مصابا فله مثل أجره»، والمواساة مشروعة، وإذا تفرق الناس فلن تحصل المواساة والتعزية إلا بكَلَفة؛ يعني أين تلقاه هل في العمل الفلاني ستجده أو في بيته أو خرج، سيكون هناك مشقة في التتبع وفوت للتعزية.
ولهذا قال من أفتى بمشروعية الاجتماع قال: إنه يدخل تحت قاعدة الوسيلة للمشروع مشروعة، وأنّ الوسائل لها أحكام المقاصد، فلما كان المقصد وهو السعي مشروعا فوسيلته الآن وهي الاجتماع مشروعة، في مثل هذه المدن الكبار مثل تفرق الناس ونحو ذلك، لا يحصل إلا بهذا، إلا فيما ندر إذا كانت القرية صغيرة أو الإنسان معروف أنه طول الوقت في هذا أو كان المعزى واحد فقط؛ يعني واحد فقط إما أن يكون في بيته أو في عمله، فهذه المسألة تختلف؛ لكن إذا تعددوا وصارت التعزية لا تحصل إلا بالاجتماع اجتماع من يُعزى أولى من تفرقهم؛ لأن التعزية التي فيها تسلية ومواساة وتحصيل لأجر لا تحصل إلا بذلك.(100/11)
هنا هل الاجتماع يُعد من النياحة؟ الاجتماع لا يعدّ من النياحة إلا إذا انظم إليه أن يصنع أهل الميت الطعام للحاضرين جميعا ليظهر الفخر وليظهر كثرة من يحضر الوليمة ونحو ذلك، وهذا موجود كان في الجاهلية، ولهذا جاء في حديث أبي أيوب: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة.
فالنياحة تشمل شيئين صنع الطعام مع الاجتماع، لماذا؟ لأن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام ويدعون الناس ليقال هذا عزاء فلان أنه أكبر عزاء، أو أنهم اجتمعوا لأجل فلان، ما يموت ويروح هكذا، مثل ما يقول بعض البادية، فيعملون [...] ضخمة وكذا، وهم الذين يتكلفون بصنع الطعام وبنحر الإبل وبذبح الذبائح؛ ليكثر من يجتمع عليها، هذه النياحة المنهي عنها بالاتفاق.
أما الاجتماع اجتماع المواساة والعزاء دون صنع الطعام ودون تكلف، فإن هذا لا يدخل في النياحة، وقد جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها كان إذا مات لها ميت اجتمع النساء من قرابتها إليها، اجتمعوا إليها، فقالت: فربما حضر وقت الطعام فقامت امرأة إلى برمتها أو كذا فصنعت شيئا يأكلونه. يعني هؤلاء القرابة القليلين.
استدل بهذا الحديث على أن أصل الاجتماع للنساء لأجل المواساة تجتمع المرأة بقريبتها أختها فلانة كذا أن هذا له أصل من هدي السلف.
أيضا الاجتماع اجتماع الرجال ليس ثم ما يمنع منه.
ابن القيم رحمه الله وغيره تكلموا عن مسألة الاجتماع، وقالوا: إن هدي السلف هو التفرق، والنبي صَلَّى الله عليه وسلم ما أثر عنه أنه جلس في مكان ليقبل العزاء أو نحو ذلك. وهذا صحيح؛ لكن ليس الحال هو الحال، وليس الوقت هو الوقت، وليست الصورة هي الصورة الموجودة في هذا الزمن، فكلام ابن القيم على بابه في قرية؛ واحد معروف إذا ما لقيته في بيته تلقاه في المسجد أو في السوق أو نحو ذلك، في شيء محدود هذا صحيح.(100/12)
أما في مثل بلد لا يمكن أن يلتقي فيه الناس إلا باجتماع، أو إذا تفرقوا عسر على الناس تحقيق سنة العزاء فإن الاجتماع للعزاء لا بأس به.
أما تحديد مدة فلا أصل له، تحديد مدة ثلاثة أيام سبعة أيام اختلف فيها الفقهاء لكن لا أصل له من السنة، السنة ليس فيها دليل يدلُّ على أن مدة العزاء محدودة بأيام؛ بل مدة العزاء تكون بحسَب من يأتي، إذا كان الناس يأتون يوم فينتهي، يومين وانتهى، خمسة أيام وانتهى وهكذا، وإن كان غالب أحوال الناس أنهم في ثلاثة أيام الأول ينتهون؛ لكن لا اصل لتحديد المدة في الشرع.
س2/ ما هو رأيكم في قراءة طلاب العلم للجرائد؟
ج/ الجرائد هذه فيها ما ينفع وفيها ما يضر، فهي بحسب الحال، إذا كان يطلع على أشياء تنفعه في دينه أو في الأخبار أو فيما حوله ليكون على بينة، هذا طيب لا بأس به، أما إذا كانت ستشغله على طلب العلم أو يقرأ جريدة يبقى فيها ساعة، والكتاب ما يصبر عليه ساعة، هذه ليست من سيما أهل العلم.
س3/ لو رأيتم جعل الدروس بعد صلاة العشاء نظرا لأحوال بعض الطلبة؟
ج/ بعد العشاء الوقت ضيق وصعب أننا نستمر بعد العشاء الأسبوع القادم نستمر الأسبوع كاملا؛ يعني كل يوم بعد العشاء؛ لأن بعد العشاء تعترضه ارتباطات ومناسبات وإلى آخره، بعد المغرب يمكن أن نستمر في الأسبوع كله، ونسأل الله الإعانة للجميع.
س4/ نحن مجموعة شباب نريد أن نقرأ العلم على المشايخ؛ ولكن لم نجد أحدا من المشايخ نقرأ عليه، كما هو المعتاد في التدرج لطلب العلم.
ج/ ستجد إن شاء الله تعالى، المشايخ ولله الحمد كثير خاصة في [...] الكثيرة مثل الرياض والقصيم ومكة والمدينة وأشباه ذلك هاهنا طلبة العلم والمشايخ كثير؛ لكن لا تشترط خذ من يفيدك من يكون نافعا للطلاب وصابرا عليهم، ولا تشترط أن يكون الذي تقرأ عليه فلان.(100/13)
بعض الناس فلان، مرة أذكر أحد الطلاب كان من القصيم، وقيامي في مكان نسيت الآن أين هو، قال أنا جاي من القصيم وأريد أن أقرأ عليك، أمر عليك متن من المتون نسيت ماهو، أظن ثلاثة الأصول أو غيره، قلت له خير إن شاء الله ذاك الوقت كان عندي بعض الفراغ، قلت غدا إن شاء الله بعد العصر أو بعد غد، قال: لا أنا أريد الليلة. لماذا الليلة؟ قال لأني بعد الفجر راجع إلى القصيم، طيب الليلة الآن فيه دعوة قد ننتهي عشرة ونصف أو إحدى عشر، قال استرحلك ساعة وبعد الثانية عشر أن مستعد أسهر إلى الفجر حتى نتمه، هذا شيء مو معقول، قال: والله المستعان الأولين جاهدوا في طلب العلم وفي التعليم، طيب أنت.....
الشاهد بعض الإخوة يتشدد في اختيار المشايخ والمتون الأولى لا تحتاج إلى تشدد تأخذ من تقرأ عليه؛ لأن التصور الأول والإمرار الأول لعلم يكون ممن ينفع لا تشترط لا تتشدد فيه، وبعد ذلك يمكن أن تجد من هو أمكن في تدريس العلم.
س5/ مريد منهجا جيدا في قراءة الكتب، هل يكتفى بقراءة مرة واحدة أم لابد من تكرار الكتب، وكيف يمكن هذا مع الكم الكثير للكتب؟
ج/ قراءة الكتب تختلف، بعض الكتب يكون كتاب علم مؤصل، هذا ممكن تقرأ مرتين ثلاث، وبعض الكتب لا يكون للمرجع فقط تقرأ مرة عند الحاجة، يعني مثلا تيسير العزيز الحميد فتح المجيد، هذه تقرأها عدة مرات لأنها كتب أصول، وشرح الواسطية للشيخ ابن رشيد رحمه الله، مثل شرح الطحاوية ونحو ذلك هذه مهمة لو قرأتها كذا مرة لا بأس، مثل شرح شروح البذور، مثل الشروح على الزاد أو الحواشي ما يضر هذا بل هو أفضل إذا كررتها؛ لكن مثل فتح الباري تمر عليه مثل المغني الكافي إلى آخره تمر عليه كذا مرة ليس هذا الكتاب أو ذاك مما يقرأ كثيرا.
فإذن بعض الكتب إذا كررتها أمكن لك وبعضها إذا مرت عليها وقت الحاجة وعند المراجعة فهذا هو المقصود.
س6/ كتاب مدارج السالكين نرجوا أن تكون هناك كلمة قصيرة حوله؟(100/14)
ج/ مدارج السالكين من الكتب الكبيرة المهمة للعلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله شرح به كتابا مختصرا لشيخ الإسلام الهروي كتاب اسمه منازل السائرين إلى الله، وهي مراتب في المقامات والأحوال عند أهل التصوف، شيخ الإسلام الهروي كان حنبليا؛ ولكنه ربما تأثر بالطرق الصوفية وشارك القشيري والحويني وجماعة ومثل هؤلاء [الكلابادي] المقامات والأحوال والتعاريف لها.
هذا الكتاب الذي هو منازل السائرين اعتنى به الصوفية وحولوه إلى أشياء من وحدة الوجود وأشياء تخالف هدي السلف فأراد ابن القيم، وقد كان في فترة من حياته متأثرا بالقوم بعض التأثر، أراد ابن القيم رحمه الله أن يكتب كتابا سلفيا في السلوك يهدي به المتصوفة ويكون أيضا سبيل لأهل السنة لإطلاع على السلوك والسلفية........ منازل السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
الكتاب في أكثره في أكثر الكتاب يمكن أن يفهم ويوجه على منهج السلف، وفي بعضه أشياء لا توافق منهج السلف ولا تربية السلف إلا على ضرب من التأويل يصعب، مثل الكلام على منزلة البرق ومنزلة الصعق ومنزلة كذا وكذا، ومثل الكلام على الفناء وأشباه ذلك مما لا يفهمه كل أحد.
حتى إنه في أثنائه ذكر أشياء ربما اعترض عليها بعض العلماء؛ لكن ابن القيم له وجهته في ذلك ووجهته صحيحة، وأراد به هداية الطائفتين يعني الصوفية يهتدوا إلى منهج السلف، ويريد ممن يكونوا على منهاج السلف أن يكون عنده سلوك شرعي؛ يعني عنده زهد عنده عبادة عنده رعاية لمقامات القلوب وأحوال القلوب والإيمان والعمل الصالح وما أمر الله جل وعلا به من منازل العبادة.
س7/ هل يمكن أن يخرج الشرح للطحاوية مطبوعا كما فعل بعض المشايخ الآن؟ نأمل ذلك.
ج/ وأرجوا أنا أيضا ان يكون ذلك متحققا.
س8/ كيف يكون الإخلاص في طلب العلم، هل يكون طلب العلم للعمل أو للدعوة آمل الإجابة والتوضيح الشافي؟
ج/ ذكرنا لكم مرارا أن الإخلاص في طلب العلم والنية فيه يكون بشيئين:(100/15)
الأول أن يكون متقربا به إلى الله جل وعلا وحده، لا يريد بطلب العلم نيل جاه في الدنيا ولا سمعة ولا أن يصرف وجوه الناس إليه، أن يكون مخلصا لله، يرجو الله والدار الآخرة، والقصد وجه الله بالأعمال والأقوال والنيات.
والثاني في تحقيق الإخلاص والنية الصحيحة في طلب العلم أن ينوي بطلبه للعلم رفع الجهل عن نفسه، حين يطلب، لماذا تطلب العلم؟ لرفع الجهل عن نفسه والجهل ذمه الله جل وعلا وامتدح أهل العلم وبين أنه رفعهم على المؤمنين درجات.
فإذن يطلب العلم ليرفع الجهل عن نفسه، لهذا سئل الإمام أحمد كيف تكون النية صالحة في العلم قال أن ينوي رفع الجهل عن نفسه؛ يعني مع نية الإخلاص لله جل جلاله.
ثم بعد ذلك يترقى وجد في نفسه انشراحا أن يعلم غيره هنا يكون معه نية أخرى أيضا أن ينوي بطلبه للعلم رفع الجهل عن الناس، يكون لا ينوي أن يتصدر أن يقال هذا فلان بل ينوي أن يرفع الجهل عن الناس، وهذه النية الصالحة لها علامة ولها دلالة؛ وهو أن يكون في تعلمه لنفسه أو تعليمه أن يعلم ما يحتاجه الناس، أما أن يعلم ما لا يحتاجه الناس، فهذه ربما تكون لشهوة في النفس، وربما تكون لغرض آخر.
لهذا ابن تيمية لما بحث مسألة الأعمال -ذكرتها لكم عدة مرات- لما ذكر الأعمال التي يفعلها المؤمن لرغبة وشهوة له فيها، مثلا يحب يكرم الناس لأجل رغبة هو في داخله، إذا أكرم الناس يرتاح، يحب يعطي فلان ويعطي فلان ويسعى ويكون عنده نخوة شيء يجده في صدره، إذا كان هذا ارتاح ونحو ذلك.
طلب العلم يطلب العلم لأنه ينشرح لطلب العلم، تقول له أدرس العقيدة، يقول أنا منشرح في مصطلح الحديث وللرجال هذا منشرح الصدر في هذا الأمر منشرح الصدر في طلب الصدر، يبحث معك في الحلال والحرام لا يعرف أحكام كثيرة لا في الصلاة ولا في الحج ولا في البيوع أو في معاملته مع أهله أو نحو ذلك من الأحكام.(100/16)
فهنا سئل شيخ الإسلام هل من عمل عملا مما يتعبد به للذة تحصل له في هذا العمل هل هو مأجور أم يكون مرائيا؟ وأجاب عنها في رسالة مطبوعة بتحقيق الدكتور رشاد سالم رحمه الله تعالى.
وملخص الجواب أنه إن كان في أصله مخلصا لله جل وعلا فيكون ما حصل له من لذة الطاعة يكون تبعا لأصله؛ لكن ينبغي أن ينتبه إلى التفريق ما بين اللذة التي هي للدنيا واللذة التابعة؛ يعني شيء تبع شيئا أو هو مستقل في اللذات هو يريده بلذة له.
واستدل له -الجواب طويل- استدل له بما ثبت في السنن أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لبلال «يا بلال([2])أقم الصلاة أرحنا بها»، فقوله (أرحنا بها) دل على أن حصول الراحة للإنسان بالتعبد لا يمنع صحة العبادة والإخلاص فيها.
كذلك السياحة، المرء يذهب لشيء يجده في نفسه من السياحة، وقد أثنى الله جل وعلا على بعض عباده بأنهم سائحون، والسائحون إما أن يكونوا الصائمين كما في تفسير، أو أن يكونوا المجاهدين في سبيل الله في تفسير، فحصول هذه اللذة لهم لم تمنع الأجر.
المقصود من ذلك أن تحصيل النية في العلم وفي الانتباه لهذا الأصل مهم لأجل الإقبال على الخير والمداومة على ذلك.
نكتفي بهذا القدر.
ونلتقي بكم إن شاء الله تعالى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1])انتهى الشريط الرابع والثلاثون.
([2])نتهى الوجه الأول من الشريط الخامس والثلاثون.(100/17)
نصائح لطلبة العلم
منتخبة من
شرح الأربعين النووية
[مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
منذ بدأت بتفريغ أشرطة العلامة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ سواء أشرطة الشروح أو الأشرطة المتفرقة إلا وأزدت إعجابا بسعة علمه وإطلاعه على أقوال العلماء قديما وحديثا في شتى الفنون، ويلفت النظر طريقته المتميزة في نصائحه لطلبة العلم في طلبهم للعلم وكيفية التعامل مع العلم، وهذه النصائح كثير منها منثور في أشرطته، فعزمت على تجميع المتفرق منها.
وأبدأ إن شاء الله بتلك التي في شرحه للأربعين النووية الذي يبلغ أحد عشرة شريطا.
وإن شاء الله سوف أعمم هذا الأمر على باقي السلاسل وضمها للأشرطة التي هي محاضرات ألقاها وتعالج موضوعاتها طالب العلم وما يتعلق بذلك.
ولعله في المستقبل -إذا بقي في الحياة بقية- أستخرج موضوعات أخرى.
وفي الحقيقة فأنا أعتزم على وضع فهرسة شاملة لكل ما في أشرطة الشيخ لكن أعلم أن هذا ليس بالأمر السهل، فاللهم يسّر ذلك.
أخوكم: سالم الجزائري
قال في أول شرح الأربعين النووية الوجه الأول من الشريط الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لمجده، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا، أن يجعلني وإياكم ممن يتحرّك لله، ويعمل لله، ويطلب العلم لله، ويتكلم ويعمل لله جل جلاله فـ«إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات, وإِنّمَا لِامْرِىءٍ ما نَوَى» وما من شك أن «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ» كما ثبت ذلك عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.(101/1)
وطلب العلم له أصوله، وله رتبُه، فمن فاته طلب العلم على رتبِه وأصوله، فإنه يحرم الوصول، وهذه مسألة كثيرًا ما نكررها رغبة في أن تَقَرَّ في قلوب طلبة العلم ومحبِّي العلم، ألا وهي: أنْ يُطلب العلم شيئًا فشيئًا على مر الأيام والليالي، كما قال ذلك ابن شهاب الزهري الإمام المعروف إذ قال: ”من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وإنما يُطلب العلم على مر الأيام والليالي“، وهذا كما تُدَرِّس صغيرًا أصول الكتابة، أو أصول نُطق الكلمات، فإنه لا بد أن يأخذه شيئًا فشيئًا، ثم إذا استمرّ على ذلك أحكم الكتابة، وأحكم النطق حتى تمكّن من ذلك، والعلم كذلك، فالعلم منه صِغار ومنه كِبار باعتبار الفهم وباعتبار العمل وباعتبار كون العلم من الله جل جلاله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس في العلم شيء سهل، كما قال مالك رحمه الله تعالى إذ قيل له: هذا من العلم السهل، قال: ليس في علم القرآن والسنة شيء سهل، وإنما كما قال الله جل وعلا?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً?[المزمل:5]، فالعلم من أخذه على أنه ثقيل صعب أدركه، وأما من أخذ المسائل على أنها سهلة، وهذه سهلة، وهذه مُتصوّرة، وهذه مفهومة، ويمرّ عليها مرور السريع، فإن هذا يفوته شيء كثير.(101/2)
فإذن لا بد لنا في طلب العلم من تدرج فيه، على أصوله، وعلى منهجية واضحة، ولا بد لنا أن نأخذ العلم على أنه ليس فيه شيء سهل؛ بل كلُّه ثقيل من حيث فهمُه، ومن حيثُ تثبيتُه، ومن حيث استمرارُه مع طالب العلم، فهو ثقيل لا بد له من مواصلة ومتابعة، فالعلم يُنسى إذا تُرِك، وإذا تواصل معه طالب العلم فإنه يبقى، وهذا يُعظِّم التبعة على طالب العلم في ألا يتساهل في طلبه للعلم، فلا يقولن قائل مثلا: هذا الكتاب سهل، وهذا المتن لم يشرح لأنه سهل واضح، أحاديث معروفة، فإن هذا يُؤتى من هذه الجهة، حيث استسهل الأصول وعُقَد العلم، وقد قال طائفة من أهل العلم: ”العلم عُقَد وملح، فمن أحكم العقد سهل عليه العلم، ومن فاته حل العقد فاته العلم“ وهذا إنما يكون بإحكام أصول العلوم.
وإذا ضبط طالب العلم المتون المعروفة في الحديث، وفي العلوم المختلفة، فإنه يكون مهيئًا للانتقال إلى درجات أعلى بفهمٍ وتأسيس لما سبق، فلهذا أحض جميع الإخوة وجميع طلاب العلم ممن يسمعون كلامي هذا؛ أحضهم على أن يأخذوا العلم بحزم، وألا يأخذوه على أن هذه المسألة مفهومة، وهذه سهلة، وهذه واضحة؛ بل إنّه يكرّر الواضح ليزداد وضوحًا، ويكرر المعلوم ليزداد به علما وهكذا.
وقال في الوجه الثاني من الشريط الأول.
عند شرحه لحديث جبريل؛ الحديث الثاني:
وقال آخرون: لا، (ووَضَعَ كَفّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) هذه على فخذي جبريل أيضًا، يعني وضع كفي نفسه على فخذي نفسه، وهذا أدب منه أمام مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -.(101/3)
في هذا أنّ طالب العلم ينبغي له أن يكون مهيِّئا نفسَه، ومهيِّئا المسؤول للإجابة على سؤاله في حسن الجِلسة، وفي حسن وضع الجوارح، وفي القرب منه، وهذا نوع من الأدب مُهم، فإنّ سؤال طالب العلم للعالم، أو سؤال المتعلم لطالب العلم له أثر في قَبول العالم للسؤال، وفي انفتاحه للجواب. قد ذُكر في آداب طلب العلم، وفي الكلام عليه أنّ بعض العلماء من علماء السّلف كانوا ينشطون لبعض تلاميذهم فيعطونهم، وبعضهم لا ينشطون له فيعطونه بعض الكلام الذي يكون عامًّا، أو لا يكون مكتملاً من كل جهاته، وذلك راجع إلى حسن أدب طالب العلم أو المتعلم، فإنّه كلما كان المتعلم أكثر أدبًا في جلسته، وأكثر أدبًا في لفظه، وفي سؤاله كلما كان أوقع في نفس المسؤول؛ فيحرص ويتهيأ نفسيًّا لجوابه؛ لأنه مَن احْتَرَم احْتُرِم، ومن أَقبل أُقبل عليه، فهذا فيه أن نتأدب جميعًا بهذا الأدب؛ فمثلاً ألحظ على بعض طلاب العلم، أو بعض المتعلمين أنه إذا أتى يسأل العالم يسأله بِنِدِّية لا يسأله على أنّه يستفيد، فيجلس جلسة العالم نفسه، أو يجلس جلسة المستغني، ويداه في وضع ليس في وضع أدب؛ واحدة هنا والأخرى هناك، وجسمه أيضًا يعني في استرخاء تام ليس فيه الاستجماع، ونحو ذلك مما يدل على أنه غير متأدب مع العالم، أو طالب العلم الذي سيستفيد منه.(101/4)
وهذه الآداب لها أثر على نفسية العالم أو المجيب، فإنك تريد أن تأخذ منه العلم، وكلما كنت أذلّ على الوجه الشرعي في أخذ العلم، كلما كان العالم أكثر إقبالًا عليك؛ ولهذا تجد أنَّ مِنْ؛ بل أكثر أهل العلم لهم خواص، هذا من خاصته، هذه الخصوصية راجعة إلى إيش؟ راجعة إلى أن هذا المتعلم كان متأدبًا في لفظه، وفي تعامله، وفي كلامه، وفي حركته مع شيخه، مما جعل شيخه يثق فيه، ويقبل عليه في العلم، ويعطيه من العلم ما لا يعطيه غيره، ويعطيه من تجاربه في الحياة وتجاربه مع العلم ومع العلماء، وفي الأمور، وفي الواقع بما لا يفيده غير المتأدب معه.
فهذه نأخذها من حديث جبريل عليه السلام هذا، ونأخذها أيضًا، من قصة الخضر مع موسى في سورة الكهف، وهي حَرِيَّة بالتأمل في آداب طلب العلم.
وقال في الوجه الأول من الشريط الثالث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الاهتمام بشرح الأحاديث يُثرِي طالب العلم في مادته، وفي فهمه للشريعة بعامة، والأحاديث منها ما يشتمل على أصول وقواعد، فهمُها يريح طالب العلم في فهم مسائل كثيرة إذا اشتبهت عليه ردَّها إلى هذه الأصول الواضحات، فاتضح له علم ما ربما أشكل أو خفي في بعض المواضع.(101/5)
فعلم الحديث وفهم كلام العلماء على الأحاديث ينبغي أن يكون متسلسلا بحسب أهمية تلك الأحاديث، فكما ذكرت لكم سالفا أنّ هذه الأربعين النووية مهمة؛ لأن في شرحها بيان كثير من الأصول الشرعية، التي إذا استوعبها طالب العلم رَدَّ إليها ما أَشكل عليه؛ تجد مثلا أن العالم أو طالب العلم إذا وردت عليه مسألة مشكلة، ربما لم يطَّلِع فيها على كلام لأهل العلم، وهي مشكلة، فيرد ذلك المشكل إلى ما يعلمه من الأصول الشرعية التي دلت عليها أدلة الكتاب أو أدلة السنة، فيتضح له الإشكال؛ لأنه مما يميز أهل العلم أنهم يردون المتشابه إلى المحكم.
فإذا ضبط طالب العلم المحكمات من الأدلة الواضحات البينات، وتبَيَّن له كلام أهل العلم الراسخين عليها، فإنه يستطيع بفضل الله ونعمته ورحمته أن يردّ ما يشكل فيما يقرأ، أو فيما يسمع، أو ربما فيما يُورد عليه من سؤال، أو في مجلس من حديث، أو نحو ذلك، يرد ما أَشْكَل إلى ما اتضح له أو يتوقف فيه.
وهذا هو الفرق ما بين طالب العلم المُؤَصَّل وطالب العلم الذي يقرأ فقط؛ فطالب العلم المؤصّل يكون عنده بناء المحكمات شيئا فشيئا في العقيدة والحديث والفقه، فلا تجد أنه يضطرب عند إيراد المشكلات، أو أنه يغير رأيه تارة هنا وتارة هناك، كما قال الإمام مالك رحمه الله ”من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل“؛ لأنه لا يكون عند كل أحد من العلم بالشريعة وفهم أصولها وفروعها والمحكمات ما يمكنه أن يرد الشبه، أو يرد الإشكالات إلى ما أُحْكِمَ من أدلة هذه الشريعة العظيمة.(101/6)
لهذا لا بد من أنْ يؤخذ العلم شيئا فشيئا، وأن تُفْهَمَ شروح أهل العلم على الأحاديث على مر الأيام والليالي، فيتحصل طالب العلم على حصيلة علمية متينة يكون معها إنْ شاء الله تعالى وضوح الشريعة، وفهم الأدلة، وهكذا كان يسير العلماء، فيحرِصون على فهم الأولويات، فهم الأشياء، أو الأحاديث التي هي مختصرة أو جوامع أو كليات، ثم ينتقلون إلى المطولات بحسَب الحاجة.
وقال أيضا عند شرحه للحديث الخامس: وعن أمِّ المؤمنين أمِّ عبدِ الله عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [رواه البخاري مسلم]، وفي رواية لمسلمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». ما يلي :
هذا الحديث حديث عظيم جدّا، وعَظَّمَه العلماء، وقالوا إنه أصل في رد كل المحدثات والبدع والأوضاع المخالفة للشريعة، فهو أصل في ردّ البدع في العبادات، وفي ردّ العقود المحرمة، وفي ردّ الأوضاع المحدثة على خلاف الشريعة في المعاملات، وفي عقود النكاح، وما أشبه ذلك، ولهذا جعل كثير من أهل العلم هذا الحديث مستمسكا في ردّ كل مُحدَث، كل بدعة من البدع التي أحدثت في الدين، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحرص على هذا الحديث حرصا عظيما، وأن يحتج به في كل مورد يحتاج إليه فيه في رد البدع والمحدثات، في الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ فإنه أصل في هذا كلِّه.
وقال في الوجه الأول من الشريط الخامس.
عند شرحه للحديث الثاني عشر «مِنْ حُسْن إِسلاَمِ الْمَرْءِ: تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ»:(101/7)
فلهذا يظهر من الحديث عند كثيرين أن المراد به -كما ذكرتُ- القول أو السماع، فيدخل فيه إذن البحث عن أحوال لا تخصك، أو لا تعنيك في دينك، أو الحرص على معرفة الأخبار، أخبار فلان، وإيش عمل، وأيش سوَّى وقال وفعل، وخبره مع فلان، وأيش عندك من الأخبار، وأيش قال فلان، والناس أيش عملوا، ونحو ذلك، فالاهتمام بهذه الأشياء بما لا يعني هذا مخالف لما يدل عليه حسن الإسلام، فمن أدلة حسن الإسلام ترك ما لا يعني من فضول الأقوال، وفضول ما يسمع.(101/8)
فإذن هذا الحديث من أحاديث الآداب العظيمة فينبغي لنا وجوبا أن نحرص على حسن الإسلام؛ لأن فيه من الفضل العظيم ما فيه، ومن حسن الإسلام أن نترك ما لا يعني من الكلام أو السماع، الكلام، الأسئلة التي ليس لها داع، يأتي يستفصل، وتارة مع من هو أكبر منه، أو من قد يحرج باستفصاله، وتدقيق في الأسئلة، تجميع الأخبار عن الناس، وهذا فَعَل، وهذا ترك، وهذا ذهب، وهذا جاء إلى آخره، والتحدث بها، وتوسيع ذلك هذا كله مذموم، ويسلب عن العبد حسن الإسلام إذا غلب عليه، ولهذا نقول: في هذا الحديث وصية عظيمة في هذا الأدب العظيم من المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ فإنّ من حسن إسلام المرء أن يترك ما لا يعنيه، ما لا يعنيه في دينه، ما لا يعنيه في أمر دنياه، ما لا يعنيه من الأقوال، ومما يَسمع أو مما لا يُسمع، وأشباه ذلك، فإن في هذا الأثر الصالح له في صلاح قلبه، وصلاح عمله، والناس يؤتون من كثرة ما يسمعون أو يتكلمون، ولهذا قال بعض السلف في أناس يُكثرون الكلام والحديث مع بعضهم قال: هؤلاء خفَّ عليهم العمل، فأكثروا الكلام، وهذا مذموم أن نكثر الكلام بلا عمل، نجلس مجالس طويلة ساعة، ساعتين، ثلاث في كلام مكرّر، وضار لا نفع فيه والواجبات لو تأمَّلها كثيرة، تجد أنه يتوسع في مباح، وربما كان معه بعض الحرام في الأقوال والأعمال ويترك واجبات كثيرة، وهذا ليس من صفة طلاب العلم، فطالب العلم يتحرى أن يكون عمله دائما فيما فيه نفعٌ له، يعني فيما يعنيه مما أُمر به في الشريعة أو حُثَّ عليه، وأن يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وقال في الوجه الثاني من الشريط الخامس.
عند الحديث السادس عشر الذي رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رجلاً قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْصِني، قال«لاَ تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قال «لاَ تَغْضَبْ»:(101/9)
فهذا الحديث دل على هذا الأدب العظيم، فحرى بطالب العلم، وبكل مستقيم على أمر الله أن يوطن نفسه على ترك الغضب، وترك الغضب لا بد له من صفة تحمل عليه، والصفة التي تحمل عليه الحلم والأناة، ومن اتصف بالحلم والأناة كان حكيما؛ ولهذا الغضوب لا يصلح أن يكون معالجا للأمور، بل يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون حكيما.
وكان للغضب بعض الآثار السيئة في قَصص متنوعة، ولهذا نقول قوله عليه الصلاة والسلام (لاَ تَغْضَبْ) ينبغي أن يكون بين أعيننا دائما في علاقاتنا مع إخواننا، ومع أهلينا ومع الصغار، ومع الكبار فكلما كان المرء أحلم وأحكم في لفظه وفعله، كلما كان أقرب إلى الله جل وعلا، وهذا من صفات خاصة عباد الله.
وقال في الوجه الثاني من الشريط الثامن.
عند شرحه للحديث التاسع والعشرين حديث معاذ بن جبل:(101/10)
قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - (قلتُ: يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار) هذا فيه ما ينبغي التأدب به؛ على ما ينبغي التأدب به لأهل العلم؛ لأن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ورحمه، من أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، بل هو أعلم الأمة بالحلال والحرام، فهو من أهل العلم، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي عليه أن يكون حريصا على ما يقربه من الجنة ويباعده عن النار، قال معاذ (يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار) وهذا مما ينبغي لكل طالب علم أن يحرص عليه؛ ما يقربه إلى الجنة، وما يباعده من النار. لأن العلم له شهوة، والعلم له عنفوان، وقد يصرف صاحبه عن السعي في الغاية من العلم، وهو ما يُقرِّب من الجنة، وما يباعد عن النار، وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: ”إن للعلم طغيانا كطغيان المال“، فالعلم يُطغي إذا لم يكن صاحبه يسعى فيما يقرِّبه إلى الجنة، ويباعده عن النار. فالعلم له مقتضيات كثيرة، وأصحاب العلم وأهل العلم وطلبة العلم ينبغي لهم أن يكونوا ألين الناس في غير تفريط، وأن يكونوا أبصر الناس، وأحق الناس بالحكمة والأخذ بما يقربهم إلى الله جل وعلا؛ فهم القدوة، وهم البصراء في العلم والعمل. لهذا سأل معاذ هذا السؤال، وذلك من حكمة الله جل وعلا أن يسأل ليبصِّر أهل العلم جميعا بما ينبغي أن يكونوا عليه، قال (يا رسول الله؛ أخبرني بعملٍ يُدخِلُنِي الجنَّة ويباعِدُني عن النار. قال عليه الصلاة والسلام «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمِ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله تَعَالى عَلَيْهِ»). هذا السؤال العظيم ”ما يقرب إلى الجنة، ويبعد عن النار“، سؤال عظيم، وهو شاق من حيث الامتثال، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فإذن نفهم من هذا أن ثم كلفة في أن يمتثل المرء بمقتضى العلم، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.(101/11)
وقال في الوجه الثاني من الشريط العاشر.
عند شرحه للحديث السادس والثلاثين:
قال (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ) وهذا فيه الحثّ والترغيب على سلوك طريق العلم، والرغب فيه، فأي طريق من طرق العلم سلكته، فإنّ الله جل وعلا يسهل لك به طريقا إلى الجنة، بشرط إخلاصك في طلب العلم؛ لأن العلم باب من أبواب الجنة، والجنة لا تَصلح إلا لمن علم حق الله جل وعلا؛ فمن طلب العلم، ورغب فيه مخلصا لله جل وعلا سهل الله له به طريقا إلى الجنة.
تم بحمد الله(101/12)
نصائح لطلبة العلم
منتخبة من
شرح ثلاثة الأصول
[مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الرحمة محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه الأخيار الكرام ومن تبعهم على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
هذه المجموعة الثانية من النصائح وهي ملتقطة من شرح ثلاثة الأصول للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ لطلبة العلم لعلنا نحصِّل بها حكمة، وقد قال الشاعر وما أحسن ما قال:
اليوم علم وغدا مثلُه
من نُخب العلم التي تُلتقط
يُحصِّل المرء بها حكمة
وإنما السيل اجتماع النقط
فأرجو من الله عز وجل أن يرزقنا العمل بما نعلم وأن يزيدنا علما نافعا، آمين.
أخوكم:سالم الجزائري
وقال في أول شرح ثلاثة الأصول الشريط الأول والوجه الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
نسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بالحق وأن يمن علينا بالالتزام به، وبالثبات عليه، حتى يتوفانا وهو راضٍ عنّا.
هذه الدروس متنوعة، منها درس في ثلاثة الأصول وهي رسالة لإمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وبعدها درس في الورقات للجويني في أصول الفقه, وهذا بعد العصر, وبعد المغرب إن شاء الله تعالى, يكون ثَم درسان؛ الأول في التفسير؛ وسنفسر إن شاء الله تعالى سورة تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير؛ المسماة سورة الملك، وبعدها درس في الحديث؛ نشرح فيه إن شاء الله تعالى، ما نتمكن من شرحه من الأربعين النووية، على وجه الاختصار والإيضاح إن شاء الله تعالى.(102/1)
سبب الاختيار، أن هذه الدروس مدتها وجيزة أولا من حيث الزمن؛ لأنها مُقْتَطَعة من هذه العطلة، وبالتالي هي غير متصلة، فلهذا يناسب أن يشرح فيها أشياء تُنبه طلاب العلم إلى ما يجب أن يسلكوه في طلب العلم؛ لأن الكثير من الشباب يحب العلم، ويروم طلبه, لكنه لا يوفق إلى الطريق الصحيح لطلب العلم، فمنهم من مضى عليه سِنُون عددا يقرأ وربما يبحث، لكن لو فتّش في نفسه لوجد أنه لم يحصل من العلم ما به يكون على أرض يمكنه المشي عليها في طريق العلم اللاّحد الطويل؛ وسبب ذلك أنه فقد التأصيل العلمي الذي كان يعتني به العلماء منذ قرون كثيرة.
رسالة ثلاثة الأصول, رسالة مهمّة لكل مسلم، وكان العلماءُ -أعني علماءنا- يعتنون بها شرحا، في أول ما يشرحون من كتب أهل العلم، ذلك؛ لأن فيها الجواب عن أسئلة القبر الثلاث؛ ألا وهي سؤال الملكين العبد عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، وهي ثلاثة الأصول يعني معرفة العبد ربه؛ وهو معبوده، ومعرفة العبدِ دينه؛ دين الإسلام بالأدلة، ومعرفة العبد نبيه عليه الصلاة والسلام، فمن هاهنا جاءت أهمية هذه الرسالة؛ لأن فيها من أصول التوحيد والدين الشيء الكثير.
وأصول الفقه مهمة أيضا والعناية بها ضعيفة فيما أحسب وأسمع، وتأتي أهميتها لأنه كثر المجتهدون دون معرفةٍ لأصول الاستنباط، والاستنباط له أصوله؛ أصول الاستنباط هي أصول الفقه, فكم سمعنا من متكلم في مسائل شرعية, لم يحسن الكلام عليها تأصيلا و لا استنباطا, ويظن أنه محسن مصيب في استدلاله, لم؟ من أين أتاه الغلط؟ أتاه من ضعفه بأصول الفقه, نعم, إن هذه الورقات مقدمة في أصول الفقه, لم تشتمل من أصول الفقه إلا على أشياء يسيرة, فلا تهيئ تلك الرسالة طالب العلم إلى أن يفهم الأصول كما ينبغي, ولكنها تعطيه مفاتيح يدخل بها بيت أصول الفقه.(102/2)
وأما التفسير, تأملتُ فترة فيما أختاره في التفسير, هل أختار تفسير سورة الفاتحة؟ أم أختار تفسير جزء عم؟ باعتبار أنه كثيرا ما يقرأ في المساجد في الصلوات الجهرية, وربما قرأه كثيرا من المسلمين, بله طلاب العلم في صلاتهم، وربما لم يدركوا، أو لم يعلموا كثيرا من معاني التي يتلونها كثيرا ويسمعونها كثيرا, لكن لقصر الوقت نظرت في أن سورة تبارك اشتملت على أصول عظيمة, ويمكن ببيان وتفسير آياتها ما يُنبه طلاب العلم على ضرورة الاعتناء بالتفسير, خاصة تفسير الآيات التي تحفظُها, والتي تقرأُها في صلاتك والتي تسمعها، فكم يُعاب المرء أن يَسمع كلاما يردد عليه وهو يجهل معناه، تُردد عليه قصار السور وربما جهل بعض تلك المعاني، ليس الجهل عيبا, لكن الإصرار على الجهل هو العيب, وما أحسن قول أبي الطيب المتنبي حيث قال:
ولم أر في عيوب الناس عيبا
كنقص القادرين على التمام
وأنتم أيها الشّبَبَة قادرون بلا شك على التعلم، قادرون على الفهم, قادرون على الفقه, لكن العيب يأتي من إضاعة الوقت في غير ما ينفع, التفسير مهم ومعرفة معاني الآيات وسيلة –لاشك- من وسائل الثبات على الإيمان, وتحصيل العلم النافع.
بعد التفسير الأربعون النووية, وهذه الأربعون النووية جمعت أحاديث، شهد العلماء بعد محي الدين يحيى بن زكريا النووي -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- على حسن اختياره لها, وعلى أنها جمعت الأحاديث التي عليها مدار الإسلام, لهذا اعتنى العلماءُ بشرحها؛ هذه الأربعون, ينبغي لنا أن نحفَظَها, وينبغي أن نفهم معانِيَها, وأن نقرأَ ما قاله العلماء في شرحها.(102/3)
هذه مقدمات لهذه الدروس, هذه المقدمات التي قدمتُ بها, أردتُّ منها أن أرشدك إلى أن العلم لا يُنال مرة واحدة, وإنما يُنال العلم على مر الأيام والليالي, كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى، فيما رواه ابن عبد البر في كتاب الجامع قال: "من رام العلمَ جملة ذهب عنه جملة، إنما يُطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي" وهذا حق, العلم يبدأ بتحصيل صغاره قبل كباره، إذا حصلت صغار المسائل قبل الكبار فأنت على طريق العلم، وأما إذا ابتدأت بالكبار دون معرفة الصغار؛ صغار المسائل؛ واضحات المسائل, وابتدأت بالكبار التي فيها خلاف، تحتاج إلى بحث، تحتاج إلى ترتيب, تنازع العلماء فيها, كما هو ديدن بعض طلبة العلم، أو بعض المبتدئين في العلم، فإنه يذهب عنك العلم، لهذا أأكد على ضرورة تأصيل العلم والسير فيه خطوة فخطوة, وإنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي:
اليوم علم وغدا مثلُه
من نُخب العلم التي تُلتقط
يُحصِّل المرء بها حكمة
وإنما السيل اجتماع النقط
وهذا واقع، وقد ذكر الخطيب البغدادي بإسناده في كتاب الجامع ببيان أدب السامع، ذكر حكاية عن أحد رواة الأحاديث، بأنه طلب العلم، وحرص على لقاء الشيوخ، وأخذ عنهم، لكنه لم يحفظ، مرت عليه الأيام ولم يحفظ، لم يفهم، ومضى الوقت وهو على هذا فظن أنه لا يصلح للعلم فترك العلم، فبينما هو يسير مرة إذا بماء يتقاطر على صخرة، وهذا الماء قد أثَّر في الصخرة، فحفر فيها حفرة، فنظر متأملا فقال: هذا الماء على لطافته أثر في هذا الصخر على كثافته، فليس العلم بألطفَ من الماء، يعني بأخف من الماء، وليس قلبي وعقلي بأكثف من الصخر، ورجع يطلب العلم من جديد، وحصَّل وأصبح من رواة الحديث الذين لهم شهرة.
إذن فالعلم يحتاج إلى مواصلة ما نيأس نواصل, نواصل, نحفظ، ندارس, لكن ينبغي بل يجب أن يكون على أصوله خطوة فخطوة، ومن بدأ من الأهم ثم أعقبه بالمهم، فإنه يحصّل إن شاء الله تعالى.
?????(102/4)
وقال في الوجه الثاني من الشريط الأول
لأجل أن هذه الرسالة؛ رسالة علم، كلها شرح وبيان للمسألة الأولى، للواجب الأول، ألا وهو العلم، فينبه طالب العلم أن العلم مهم, مهم للغاية، حتى إنه قبل القول والعمل، فقبل أن يستغفر العبد، لابد أن يعلم العلم الواجب عليه، وهذا العلم هو الذي ينجيه بنفسه، هو الذي ينجي به نفسَه -بفضل الله جل وعلا- إذا سئل عن هذه المسائل الثلاثة.
الشيخ رحمه الله تعالى يريد أن يبين لك، ثلاثة الأصول هذه، والمسائل المتعلقة بها، فأكد لك أهمية العلم بقوله، فيما ساق عن البخاري (باب العلم قبل القول والعمل)، العلم قبل ولاشك؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى، وما أحسن ما قال، يقول:والجهلُ داءٌ قاتل. صدق؛ الجهل داء قاتل، قال:
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه
أمران في التركيب متفقانِ
[نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث]([1]) مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكلُّ في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقان
والله ما قال امرؤ متحذلق
بسواهما إلا من الهذيان
بين أن الجهل داء قاتل، بما يُزال الجهل؟ قال (بنص من القرآن أو من سنة).
من طبيب ذاك الذي يرشدك ويبين لك؟ قال(وطبيب ذاك العالم الرباني), ليس كل منتسب للعلم ولكن هو العالم الرباني، الذين وصفهم الله جل وعلا في سورة آل عمران، بقوله ?وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ?[آل عمران:79].
ثم بين العلم هذا ما هو -الذي تسعى إليه-؟، فقال (علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للديان)، هذه شملت التوحيد؛ توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.(102/5)
ثم قال العلم الثاني ما هو؟ قال(والأمر والنهي الذي هو دينه) يعني الفقه؛ الأمر والنهي، الأحكام؛ الحلال والحرام، هذا مأمور به، وهذا منهي عنه، هذا افعله، وذاك لا تفعله، هذا النوع الثاني من العلم النافع.
والثالث (وجزاءه يوم المعاد الثاني) الذي هو العلم بما يكون يوم القيامة، ووسائل ذلك.
الشيخ رحمه الله تعالى يقول (العلم قبل القول والعمل)، نعم، وصدق رحمه الله، فالعلم إذا كان قبل القول والعمل بورك لصاحبه في القليل، وإن كان العملُ و القول قبل العلم ربما كانت الأعمال و الأقوال جبالا، ولكنها ليست على سبيل نجاة، ولهذا روى الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم وجماعة عن أبي الدّرداء أنه قال: «يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبِطُنا سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة مع بِرٍّ ويقين أعظم عند الله من أمثال الجبال عبادةً من المغترين» يقول يا حبذا، يعني يتمنى نوم الأكياس, الأكياس من؟ (إن لله عبادا فطنا) هؤلاء هم الأكياس الذين حيوا؛ قلوبهم صحيحة، عقولهم صحيحة، يقول يا حبذا نوم الأكياس؛ أهل العلم، وإفطارهم، ناموا، والحمقى على كلام أبي الدرداء سهروا ليلهم في صلاة، لكن هؤلاء لا يستوون عند أبي الدرداء مع أولئك؛ لأن أولئك عبدوا الله جل وعلا على جهل، وهؤلاء عبدوا الله بعبادات قليلة، ولكنها مع علم وبصيرة فكانوا أعظم أجرا، بحيث قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ولمثقال ذرة مع بر ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
لهذا نقول العلم في غاية الأهمية, العلم في غاية الأهمية، ويُبدأ به قبل أي شيء, خاصة العلم الذي يصحح العبادة، يصحح العقيدة، يصحح القلب، ويجعل المرء في حياته يسير على بيِّنة وفق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ليس على جهالة.
?????
وقال في الوجه الأول من الشريط الثالث(102/6)
مما ينبغي أن يتنبه له طالب العلم في مقامات الاستدلال أن تنويع الاستدلال عند الاحتجاج على الخرافيين والقبوريين وأشباههم مما يقوي الحجة؛ تُنوِّع الاستدلال؛ مرة بأدلة مجملة، مرة بأدلة مفصلة، مرة بأدلة عامة، مرة بأدلة خاصة حتى لا يُتوهَّم أنه ليس ثَم إلا دليل واحد يمكن أن ينازع المستدل به الفهم، فإذا نوعتها صارت الحجة أقوى والبرهان أجلى.
?????
وقال في الوجه الأول من الشريط الرابع
الذبح من العبادات العظيمة، لكن قد يغفل الناس عن تعلق القلب وفعل الجوارح حين الذبح، وكيف تكون لله جل وعلا، ولهذا على طالب العلم أن يتعلم هذا إن لم يحسنه، يتعلم كيف يكون حال الذبح؛ حال ذبحه لذبيحته للأضحية وهي آكد وآكد وآكد، أو لغيرها، أن يكون موحدا تماما، يرجو في ذبحه أن يكون على غاية من العبودية في لسانه وقلبه وجوارحه؛ لأنه فيه حركة لسان للتسمية والتكبير، وفيه عمل القلب بأنواع من العبوديات ذكرت بعضها، وفيه أيضا حركة اليد، وهذا كله مما يجب أن يكون لله جل وعلا وحده.
?????
وقال في الوجه الأول من الشريط الخامس
على طالب العلم أن يكون معنى الشهادتين واضحا في قلبه، واضحا في ذهنه، فاهما له، بحيث يستطيع أن يعبر عن ذلك بأيسر عبارة وبتنوع العبارة؛ لأن أعظم ما يدعا إليه ما دلت عليه الشهادتان.
فعلى طالب العلم أن يعوّد لسانه على تفسير الشهادتين بتنويع العبارة، وعلى حفظ الأدلة التي فيها معنى الشهادتين، وعلى تفسير ذلك.(102/7)
وإذا دَرَبَ على ذلك، فسوف يرى أنه ستفتح له أبواب بفضل الله جل وعلا وبرحمته بمعرفة التوحيد وحسن التعبير عنه، وأما أن يترك طالب العلم نفسه لفهم ما دلّت عليه، دون أن يمرن نفسه على تأدية المعنى وتعليمه لأهله وللصغار، ولمن حوله ولمن يلقاه ممن لا يعلم حقيقة معنى هذه الكلمة، فإن هذا تضيعه النفس ولا يصدق على فاعله أنه طالب العلم؛ لأن العامي هو الذي يفهم ذلك؛ يفهم ذلك فهما، لكن لا يستطيع أن يعبر عن فهمه بالتعبير العلمي الصحيح، وأما طالب العلم فعليه أن يهتم بأصل الأصول هو تفسير الشهادتين، ومر معنا بعض ما يتصل بتفسيرها.
أسأل الله جل وعلا أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يجعل ألسنتنا لاهجة بالثناء عليه وبذكره، وجوارحنا مقيمة على طاعته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
تم بحمد الله
---
(1) غير موجودة فربما الشريط هو المقطوع.(102/8)
طالب العلم و الكتب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد:
فأسأل الله جلَّ وعلا أن يجعل هذه السنَّة لنا سنة خير وعلم وعمل وتقى وصلاح وأن يزيدنا فيها من العلم النافع والعمل الصالح وأسأله جلَّ وعلا أن يقوي همتنا في العلم والعمل وأن يعلي عزمنا في درس العلم وتحصيله والمحافظة عليه والثبات على ذلك وكمقدمة لدروسنا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى نتحدث كالعادة بحديث عام مما يسنح في الخاطر بما يكون معه النفع إن شاء الله تعالى وحديثنا سيكون عن ((طالب العلم والكتب)).
من المعلوم أن العلم يتلقى بأحد طريقين إمَّا عن طريق المشافهة والسماع ومجالسة أهل العلم وأخذ العلم عنهم سماعًا وإمَّا أن يكون عن طريق الكتب بالمطالعة والنظر والاستفادة والأوَّل هو طريق الثاني والثاني صوابه مبني على الأوَّل كما قال بعض أهل العلم ((كان العلم في صدور الرجال ثم صار في بطون الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)) يعني أنَّ طالب العلم الكتب له مهمة ولكن هذه الكتب إنَّما يُحْسٍنُ التعامل معها ويحسن فهمها من أسَّسَّ نفسه عن طريق طلب العلم على أهل العلم وخالطهم وفهم مراد أهل العلم بكلامهم فيما دونوه في الكتب.(103/1)
التدوين، تدوين العلم في الكتب قديمٌ في الناس فكانت الحضارات السالفة لحضارة الإسلام كانوا يعتنون بالكتابة، وكانت كتب الله جلَّ وعلا تكتب كما قال جلَّ وعلا: {وما آتيناهم من كُتُبٍ يدرسونَها} وقال جلَّ وعلا: {فيها كُتُبٌ قيِّمة} وربنا جلَّ وعلا خَطَّ لموسى عليه السلام في الألواح وكتب له فيها وبقيت الكتب في الناس يتداولونها بالكتابة وكان من الأمور المهمة أن تحفظ من التغيير والتبديل وأن يًهْتَمَّ بها الناس وأن يحافظوا عليها وهذه المسألة عامة في الأمم وكتب الله جلَّ وعلا جعلها الله سبحانه وتعالى ابتلاءً وامتحانًا للأمم هل يحافظون عليها أم لا فحصل في الكُتُبِ قبل القرآن عدم المحافظة حيث دخلها التحريف في اللفظ ودخلها التحريف في المعنى بما هو معلوم وخصَّ الله جلَّ وعلا هذا القرآن وعلوم نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسَّلام خصها بالحفظ كما قال جلّ وعلا {إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون} والذكر هنا هو القرآن، والسنة المبينة له محفوظة أيضًا فالله جلَّ وعلا حفظ القرآن وحفظ السنة ومعنى ذلك أن هناك أشياء مما يكتب يطرأ عليه التحريف والتغيير والتبديل فليس كل ما كُتب يعدٌّ صحيحًا وليس كل ما زُبِرَ في الورق عُدَّ نافعًا وصوابًا بل لا بدَّ أن يكونَ من العلم المحفوظ ويكون حفظه حفظ ألفاظه وحفظ معانيه أيضًا من التغيير والتبديل في أوائل هذه الأمة ما كتب من الصحابة السنة إلاَّ نفرٌ قليل وهكذا فيمن بعدهم كتبوا أشياء من التابعين كما هو معلوم في صحيفة همام بن مٌنَبِّه عن أبي هريرة وكغيرها كتبوا أشياء من السنة وحفظت أيضًا رسائل للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم إلى ملوك الأطراف وإلى عماله والأمراء عليه الصلاة والسلام وكذلك حفظت رسائل للخلفاء الراشدين وللأمراء من بعدهم ومراسلات الصحابة فيما بينهم حتَّى جاء وقت تدوين العلم فصنِّفت المصنفات ودونت وتوسع الناس في ذلك حتَّى صار التصنيف في كل أنواع العلوم(103/2)
فصنف أول ما صنف في الحديث والسنة ثم صنف في التفسير ثم صنف في اللغة ومعاني القرآن ثم توسعت التصانيف والكتب لمَّا كان الأمر كذلك العلماء أوصوا الطلاب بحفظ الكتاب من التغيير والتبديل لأن الكتاب يكتب وينسخ والنسخ والكتابة إذا كانت صحيحة فإنَّ الكتاب يكون صحيحًا وإذا كانت الكتابة غير دقيقةٍ وكان النسخ غير دقيق دخل من الخلل في العلم من جهة عدم الدقة في الكتابة وعدم الدقة في النسخ ولهذا ذَكَرَ طائفة من الأدباء ومنهم الجاحظ في كتابه ((الحيوان)) وذكره غيرهُ أيضًا أن من أهل العلم من كان يقتني من الكتاب الواحد ثلاث نسخ برواية واحدة وربما إذا تعددت الروايات أيضًا حرصوا أكثر على إقتناء كل الروايات التي رٌوي بها الكتاب وهذا لأجل الحرص على دقة العلم ودقة تلقيه لأنَّه ربما اختلف لفظ عن لفظ أو سقطت جملة أو تحرف في موضع فبان في الموضع الآخر. أهل العلم أوصوا طلاب العلم أن يحرصوا جدًّا على كتبهم بأن يكون الكتاب محفوظًا من التغيير والتبديل وأن يكون التقييد عليه له آدابه وأن يكون طالب العلم فيما يكتبه على الكتاب بعد نسخه من تعليقات ومن حواشٍ ومن فوائد ومن مطالب وأشباه ذلك أن يكون دقيقًا فيما يكتب حتَّى يتسنى له أن يستفيد مما كتب وحتَّى لا يتغير الكتاب بكتابة في أثناء الأسطر وأشباه ذلك لهذا جعل أهل العلم في كتب الرواية وكتب طلب العلم جعلوا آدابًا لطالب العلم في تعامله مع الكتاب، فالكتاب لطالب العلم أشبه ما يكون بأحد أعضائه فكُتُب طالب العلم خلاياه التي يعيش بها وهي سمعه وبصره الذي لو فقده لضعف في العلم شيئًا فشيئًا وترى أن الذي يَضْعُفُ في المطالعة ويَضْعُفُ في النظر في العلم وفي القراءة تجد أنَّه يضعف قليلاً قليلاً يُنسى العلم شيئًا فشيئًا حتَّى يكون أٌمِّيًا بعد مرِّ سنين من الزمان وهذا لأن مطالعة العلم في الكتب من أهم ما يكون وهذا يتطلب أن يكون لطالب العلم صلة عظيمة بالكتاب وهذه الصلة لها(103/3)
آدابها ولها رونقها ولها شروطها التي بينها أهل العلم في كتبهم ككتاب مثلاً (الجامع) لابن عبد البر وكتاب ابن جماعة في أدب الطلب ((تذكرة السامع والمتكلم)) وكتب كثيرة في هذا ذكروا كيف يتعامل طالب العلم مع الكتب ونذكر من هذا أشياء وقبل أن ندخل في الآداب العامة فإنَّا نذكر أنّ اهتمام طالب العلم بكتبه يدل على اهتمامه بالعلم فمن الآداب التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها:
أوَّلاً: أن يرتب كتبه حتَّى يتسنى له أن يراجع إذا كانت مسألة يحتاج أن يراجع لها بعض الكتب فلا بدَّ له من أنْ يرتبها وترتيب الكتب بحسب حال هذا الطالب فإذا كان يحتاج إلى أن يرتب كتب التفسير جميعًا وكتب الحديث جميعًا ويصنف التفسير إلى علومه والحديث إلى علومه والفقه إلى مذاهبه وأشباه ذلك فلا بأس وإذا كان يرى ثمَّةَ ترتيب آخر له يرى أنه أنفع له فلا بأس، المقصود أن يكون الكتاب في مكانه الذي إذا احتاجه طلبه، والكتب على قسمين: كتب كبيرة وكتب رسائل صغيرة أمَّا الكتب الكبيرة فهذه سيراها في المكتبة لأنَّها كبيرة عشر مجلدات وخمسة عشر مجلد وثلاثة وأربعة فهذه ظاهرة ولكن الذي يحتاج إلى العناية به الرسائل الصغيرة التي هي مهمة وربما يكون فيها من العلم ما ليس في الكتب الكبار إذا احتاج أن يراجع كتابًا منها أو رسالة فبحث عنه لا يجده لِمَ؟ لأنه ما وضعه في مكانه المناسب وهذه الرسائل الصغيرة ينبغي أن يهتم بها في أن تكون في مكان مستقل يعني أن لا تكون ضمن البحوث أو ضمن الكتب الكبيرة فيضع كتابًا كبيرًا وبجنبه كتاب صغير عبارة عن أوراق وبجنبه رسالة أربعين صفحة أو خمسين صفحة إلخ وهذا النوع اعتنى به العلماء حيث وضعوا له ما أسموه بالمجاميع ترون في فهارس المخطوطات ما يسمَّى مجموع، المجموع عبارة عن مجلد أو أكثر فيه عشر رسائل أو فيه اثنا عشرة رسالة أو أكثر من ذلك. فإذا تهيأ لطالب العلم أن يجمع هذه الرسائل الصغيرة في مجموع ويجمع النظائر في مجلد(103/4)
يعني يجعل الرسائل التي في آداب طلب العلم في مجلد مستقل أو الرسائل التي في مصطح الحديث الصغيرة في مجلد مستقل أو الرسائل التي في علوم التفسير أو علوم القرآن يجعلها مجموعة أو ما أشبه ذلك، كذلك الكتب والرسائل الفقهية يجعلها مستقلة ومن المناسب في الكتب والرسائل الفقهية أن يبوبها على حسب أبواب الفقه مثلاً يجعل رسالة في الجنايات في موقعها في الفقه فيرتب الكتب يبتدئ بالرسائل التي في الطهارة ثم الرسائل التي في الصلاة ثم الصلاة أيضًالا يرتبها في داخلها شروط الصلاة أولاً ثم يجعلها بلأحكام التي فيها سجود السهو يجعلها في مكانها التي في الزكاة أيضًا يجعلها بعد الصلاة وهكذا في نظائرها يعني أن يرتب هذه الرسائل الصغيرة التي قد لا يصل إليها لو احتاج في خضم كتبه أن يرتبها بحسب موضوعات الفقه كذلك غيرها من العلوم في التاريخ أو في العقيدة أو ما أشبه ذلك يجعل العقيدة العامة مستقلة في الكتب أو الرسائل العامة في العقيدة أو التي تبحث في مسألة في العقيدة يرتبها عن مباحث العقيدة حتَّى يتسنَّى له مراجعة ذلك إذن أول أدب أن يحسن الترتيب والترتيب ترتيب المكتبة هو عنوان طالب العلم في عنايته بكتبه أمَّا إذا أتى وكان المكان متيسرًا ووجدت أن الكتب مبعثرة إلخ فهذه لها أحدٌ احتمالين إما أن يكون من كثرة بحثه وكثرة مطالعته للكتب جعلها تنتشر وهذا أمر محمود لكن لا بد أن يكون بعدها يرجعها إلى ترتيبها وإمَّا أن يكون هو أصلاً غَير مرتب وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه في قضاة مصر الذي سماه ((رَفْعٌ الإِصْر عن قُضَاةٍ مِصْر)) تَرْجَمَ لأحد القضاة قضاة مصر حيث تولى القضاء وكان يجلس في مكان فيه كٌتُبُه وكانت كتبه حَسَنَةَ التصفيف، مصففه بطريقة جملة فدخل عليه أحد الناس من طلاب العلم وقال له ما أحسن تصفيف هذه الكتب قال الحافظ ابن حجر يُعَرِّضُ به أن حسْنَ تصفيف الكتب يدل على عدم المطالعة فيها وعدم الاشتغال ففهم القاضي هذا(103/5)
وأسرها في نفسه قال حتَّى تولَّى هذا الرجل الذي انتقد القاضي بحسن تصفيف كتبه قال تولى الكتابة للناس في أنكحتهم يعني عقود النكاح وما يُسَمَّى مأذون الأنكحة، فَعَثر منه القاضي على غلطة منه في أحد صكوك النكاح قال فَعَزَّرَهُ تَعْزِيرًا بليغًا حافظ تلك الكلمة المقصود أنَّه استدل بحسن التصفيف على عدم الاشتغال وهذا ليس بمُطَرِّد بل طالب العلم إذا أراد أن يشتغل بفنٍ أو ببحث فيجلب عددًا من الكتب تكون أمامه ويبحث في هذا وهذا وإذا إنتهى منها أرجعها في أماكنها حتَّى يتسنَّى له أن يطالعها.(103/6)
الأدب الثاني: من آداب التعامل مع الكتب أن يهتم طالب العلم بالنُسَخ المصححة، في القديم كان الكتاب يشتري من الورّاقين يقال فلان ورَّاق يعني عنده مكان ينسخ فيه الكتب ويبيعها أو يبيع لمن أراد أن يبيع كتبه يسمَّى هؤلاء الوراقون الذين يعتنون بنسخ الكتب باليد أو بيع الكتب وهؤلاء الوراقون منهم المعتني ومنهم غير المعتني وأشبه ما يكون في هذا الزمن بالمطابع المطابع الموجودة الآن هي ورثت عمل الوراقين فيما مضى من الزمان لهذا نقول إن صنعة الورَّاقين فيما مضى تناولها أهل العلم بالتحليل وأن طالب العلم يحرص على أن يشتري كتابًا مصححًا مدققًا أو أن ينسخ بيده ويقابل ما نسخ بأصله أو أنْ يشتريَ كتابًا ويقابِلَه بنسخة معتمدة مقروءة على أهل العلم وأشباه ذلك يعني أن طالب العلم مع الكتب لا بدَّ له من أن يعتني بالنسخ الصحيحة في النسخ المخطوطة أو في المطبوعات وفي هذا الزمن عناية جلّ طلاب العلم بالمطبوعات ولهذا نقول المطبوعات كثيرة وقد ابتدأت الطباعة باللغة العربية منذ أكثر من خمسة قرون يعني منذ أكثر من خمسمائة سنة ابتدأت الطباعة بالعربي يعني من نحو سنة ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة بالميلاد لأنها هكذا أُرِّخت يعني من نحو خمسمائة سنة أو أربعمائة سنة وزيادة وأكثر ما طبع في اللغة العربية في البلاد العربية والإسلامية منذ نحو مائتين سنة من الزمان وما قبل ذلك تطبع في بلاد الغرب لاهتمامهم بالطباعة المقصود من هذا أنَّ الكتب طباعتها قديمة واليوم الذي يطرح في السوق أنواع من دور النشر وأنواع من الكتب وأنواع من أسماء المحققين أو أسماء المصححين إلخ ولهذا حصل مرات أنه تنقل عبارات وجمل عن كتب مطبوعة مؤخرًا وتكون طباعتها غير صحيحة وغير دقيقة فيقع الخلط كما حصل لي مثلاً عدة مرات في قاعات الجامعة من أني أقرر شيئًا مثلاً بناء على نسخة من المطبوعات الصحيحة ويأتي بعض الطلاب مجتهدًا ويبرز الكتاب الذي طبع مؤخرًا فإذا(103/7)
الكلام الذي فيه غَيْرُ صحيح لأنَّ الطَبَعَات المتأخرة ليست كلها معتنى بها وهكذا الطبعات المتقدمة، إذن فالمطبوعات سواء منها ما طبع قديمًا أو ما طبع حديثًا لا بدَّ لك من البحث هل هذه الطبعة صحيحة وإذا أردت أن تعتني بشراء كتاب أو أن تعتني بعلم ما فلا بد أن تحصل الكتب الصحيحة المطبوعة بدقة فيه فتسأل أهل العلم أو الذين يعتنون بهذا الجانب فتقول مثلاً الكتاب الفلاني ما النسخة المعتمدة منه مثلاً تقول تفسير القرطبي ما أصحُّ نُسَخِهِ. تفسير الطبري ما أصح نسخه. صحيح البخاري ما أصح نسخه التي تقتنيها وتكون عندك في المكتبة ما تحتاج معها إلى نسخة أخرى الملاحظ اليوم مع كثرة المطبوعات تجد أن دور النشر تطبع لغرض التجارة بطبعات لا تأمنها فلهذا ينبغي لك أن تسأل عن الطبعة التي تقتنيها أو الطبعة التي تريد شراءها فلا تشتري أي كتاب طرح أمامك بل تسأل عنه وتعرف دار النشر التي أصدرته وإذا كان اعتنى به أحد المحققين تسأل هل هذا المحقق دقيق أو غير دقيق هل هو تجاري أو غير تجاري إلخ يعني أن اهتمام طالب العلم بالنسخة الصحيحة التي يقتنيها لابد منه تشتري مثلاً كتاب بعد السؤال عنه تقول مثلاً تفسير القرطبي النسخة الصحيحة منه ماهي فإذا أجبت على هذا السؤال ذهبت وحرصت أن تقتني هذه النسخة سواء كانت مطبوعة أو مصورة أو مطبوعة طبعًا حديثًا بالكمبيوتر بعني أن تحرص على النسخ الصحيحة من الكتب الملاحظ أنَّ من جهة نظري فيما بأيدي الإخوان من الكتب أنَّ كثيرًا منها يكون نسخًا غير صحيحة تكون نسخة لكن غير دقيقة اعتنى بها أحد الناس عناية لا تسمَّى عناية أو يقال إنَّا صححت بمعرفة الناشر أو ما أشبه ذلك ويكون فيها من الأغلاط والسقط وأشباه ذلك ما يعيبها ولا يصلح أن تقتنى لطالب علم يرجع إليها ويبحث من خلالها إذن فالأدب الثاني أن يحرص طالب العلم على اقتناء النسخ الصحيحة سواءً كانت مطبوعة طبعات قديمة أو كانت مطبوعة حديثًا المهم أن(103/8)
تكون نسخة صحيحة فيعرف دور النشر المعتنية الدقيقة ودور النشر التي لا تعتني حتَّى يميز يعرف المحققين الذين يتاجرون والمحققين الذين يعتنون بتحقيقاتهم ويعرف أيضًا مزايا الطبعات وتعدد الطبعة للكتاب الواحد وميزة هذه على هذه، نتفرع من هذا إلى أن طالب العلم الي يعتني برؤية التحقيقات وما يعمله المتأخرون من حواشي وتعليقات لا بدَّ له أن يعرف أيضًا طبعات الكتاب لأنَّه حصل مثلاً أن المحقق يرجع إلى جزء وصفحة فهذا يظن أن الكتاب إنَّما طبع مرةً واحدة فيذهب ويرجع إلى الجزء والصفحة هذه فلا يجده فيقول إنَّ هذا وَهِمَ أو غَلِطَ أو نحو ذلك وقد يكون الكتاب طبع مائة مرة أو عشرين مرة أو ثلاثين مرة أو خمس أو أربع إلخ فإذن معرفة طالب العلم بطباعة الكتب وعدد مرات طباعتها وميزات هذه وهذه هذا أيضًا من مُكَمِّلات العلم ومن مُلَحِة التي هي من الآداب العامة التي ينبغي لطالب العلم العناية بها.
الأدب الثالث: مع الكتب الحرص على نظافة الكتاب وطريقة حفظه يعني أن يكون الكتاب نظيفًا ليس عليه غبار يعلق به أو يكون متسخًا أو أن يكون عليه كتابات سيئة أو أن يكون يضعه في موضع غير لآئق به يعني أن يضع الكتاب فيما يكون لآئقًا به.(103/9)
فمما لا يليق بالكتب خاصة كتب أهل العلم التي فيها بيان معاني الكتاب والسنة أن تكون عليها الأتربة أو أن تكون متسخة، تنظيف الكتب هذا دليل توقير ما اشتملت عليه وتعظيم شعائر الله وقد قال جلَّ وعلا {ومن يعظم شعائر الله فإنَّها من تقوى القلوب} فإذا كان الكتاب في التفسير أو كان في السنة أو كان في الفقه الحلال والحرام أو في العقيدة فإن النفس تنبعث في المحافظة عليه وفي تنظيفه من إجلال الله جلّ وعلا وإجلال العلم الشرعي الذي هو مأخوذ من الكتاب والسنة، كذلك أن يكون طالب العلم في تعامله مع الكتاب من جهة صيانته وحفظه بأن لا يتخذه صندوقًا لوراقه ورسائله الخاصة أو الفواتير فواتير الكتب ونحو ذلك فتأخذ وتنظر كتابًا من الكتب فتجد أن فيه فاتورة ورسالة، وفيه قلم، وفيه داخلة محاية وإلخ وقد قال بعض العلماء: ((لا تجعل كتابك بوقًا ولا صندوقًا هذا من الأدب المهم مع الكتاب أن لا تجعله صندوقًا يعني أن تجعل فيه الأحلام وتجعله مستودعًا للفلوس والريالات يعني تفتح الكتاب تجد فيه كل هذا ثم تلاحظ أن الجلدة تغيَّرت والكتاب تغير وإلى آخره من جراء عدم الصيانة كذلك لا تجعله بوقًا يعني لا تلف الكتاب لفًا لا يليق به فمثلاً تجد أن بعضهم يلف الكتاب ويأخذه ويجعله كأنَّه بوقًاله هذا لا يليق لأنَّ الكتاب فيه كلام الله جلَّ وعلا وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم فلا يليق أن يجعل بهذه المثابة كذلك لا يليق أن تضع عليه كأس ماء أو شاي أو ما أشبه ذلك كتب أهل العلم التي فيها نصوص الكتاب والسنة تجعل أعلى ما تجعل أسفل وتجعل فوقها دفاتر بيضاء وأشباه ذلك وهذا مما يجعل في القلب تعظيمًا لكلام الله جلَّ وعلا وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكل ما استفيد من العلوم من هذين الأصلين كذلك مما يتعلق بحفظ الكتاب أن ينتبه طالب العلم في طريقة الكتابة عن الكتب أحيانًا نرى بعض الكتب يعلق عليها حواشي بحيث أنَّه تضيع فائدتها وقد نهى العلماء،(103/10)
فيما سبق عن الخط الصغير على الكتب أن تكتب الكتب بخط دقيق أو أن يعلق عليها من الفوائد ما يكون بخط دقيق بحيث إذا أراده طالب العلم لم يتهيأ له أن يستفيد منه وندم فيما يُذكر الإمام أحمد مرة على أنَّه كتب أحاديث بخط دقيق لما احتاج لها في كِبَرِهِ لم يحسن أن يستخرج تلك الفوائد لأنَّها كانت بخط صغير وتقارب الحبر مع بعضه حتَّى فاتت الفائدة بعض العلماء لا يكون خطه حسنًا أو بعض طلاب العلم لا يكون خطه حسنًا هذا ليس بعيب لكن أن يرتب الكتابة بحيث تكون بخط واضح ولهذا كان بعض العلماء ممن خطه غير جيد هو نفسه لا يحسن قراءة خطه مثل شيخ الإسلام ابن تيمية كان هناك أحد طلابه هو الذي يستخرج كتابه وقد ذُكر هذا في التراجم ونبَّه عليه الحافظ ابن كثير في الجزء الرابع عشر من البداية والنهاية في سنة وفاة تلميذ شيخ الإسلام قال: ((وكان هو الذي يحسن استخراج الخطبة الثانية ابن تيمية وإذا أراد ابن تيمية أن يأخذ موضعًا لا يستخرجه إلاَّ هو لأن شيخ الإسلام يكتب بسرعة ويشتبه فربما التبس عليه)) لكن هذا من دقته يحسن ذلك لكن هذا قد لا يتهيأ دائمًا -لهذا طالب العلم يحتاج إلى معرفة كيف يكتب على الكتب نبه علماء الحديث في آداب الكتابة أن طالب العلم إذا أراد أن يكتب فيبتدئ في الكتابة من السطر الذي فيه أو عليه التعليق ثم يرتفع إلى أعلى ولا ينزل إلى أسفل يعني قرأت على شيخ أو تعلق على كتاب فأتيت على موضع فتبدأ بالكتابة من هذا السطر إلى أعلى لأنه ربما أتى في السطر الذي بعده فائدة تحتاج إلى الكتابة عليها فألتبس عليك فكيف تكتب؟ تبدأ تُعَرِّج عليه، وإذا كتبتَ إلى أعلى فحبذا أن تكون الكتابة واضحة وفيها نوع ميول متساوي الأسطر حتى أيضًا إذا احتجت إلى ضبط يمكن إدخاله في الفراغات فيما بين الميول، ربما بعضكم رأى بعض الكتب القديمة المحشاة فتجد أن الكتابة أتت على شكل مثلثات هذا ليس عبثًا لكن لأنه يكتب بهذه الطريقة على طريقة(103/11)
الأقدمين لأنَّه قد يحتاج إلى ضبط بعد ذلك فيدخله في هذا الفراغ أو أن يقابل هذا الكتاب بنسخة أخرى فيقول: في هذا الفراغ نسخة كذا وكذا وهكذا فإذن تهتم بوضوح الخط وبأن يكون مرتبًا في معرفة مكان البداية فإذا أتيت إلى ما كتبته أنت وعلقته أعرف أن هذه الجملة التعليق عليها سيكون بهذا الاتجاه وحبذا لو راجعتم كتب المصطلح فقد بَيَّنوا كيف تكتب وتحشي على الكتب في ضوابط لهم وتفصيلات سواء كانت في التضبيب أو بيان الكلمة والتصحيح عليها أو كانت حاشية أو بيان نسخة أو كيف تكتب صحة العبارة أو ما أشبه ذلك فنحيلكم على كتب المصطلح لأنهم كتبوا في هذا وأوفوا المقام...(103/12)
من آداب الكتب أيضًا التي ينبغي العنايةٌ بها أن يكون طالب العلم له فوائد ينتخبها من الكتاب يعني أنَّه إذا قرأ كتابًا لا يثق بحافظته وذاكرته ولو كان شبابًا بل فوائد هذا الكتاب ينتخبها في دفتر خاص عنده أو يشير إليها في ديباجة الكتاب في ورقة في أوله بأن يضع شبيهًا بالفهرس له لأنَّ هذه الفوائد التي تناسبه قد لا تناسب شخصًا آخر فتحتاج أنت إلى أن تراجع ما استفدته من هذا الكتاب، وقبل ليلتين أخذت كتاب ((الفضل المبين في شرح الأربعين)) لجمال الدين القاسمي، من مكانه في المكتبة وقد كنت قرأته منذ نحو عشر سنوات، فلما نظرت في أوَّله فإذا بي قد ذكرت الفوائد التي فيه، وهي فوائد كثيرة تسعين في المائة منها نسبته فبدل أن أقرأ الكتاب مرة أخرى فإذا هذه فائدة وهذه فائدة وهذه فائدة ومن الفوائد التي كانت فيه مثلاً الفرق مابين العالم والعارف ولِمَ عدل الصوفية عن العالم إلى العارف؟ لماذا يقولون العارف فلان ما يقولون العالم هذه من الفوائذ ومن الفوائد أيضًا نقلٌ كان جيدًا ومتينًا عن ابن حزم في ((الفِصَل)) في معنى قضى وقدَّر وقال في آخره جمال الدين القاسمي: ((وهذا ألطف ما قيل في معنى قضى وقدَّر)) أو ((القضاء والقدر)) وأحقه بالقبول؛ وهو كما قال وربما نذكره لكم في مكانه هذه الفوائد التي تكتبها في صدر الكتاب مهمة إذا راجعت بعد حين تجد أنَّ الفوائد أمامك يعني أن الكتاب إذا قرأته أو أن الكتب إذا قرأتها فتنتخب منها ما تراه مفيدًا لك وتجعله في صدر الكتاب في الورقة الأولى على شكل فهرس فيه عبارة مختصرة وهذا لا شك أنَّه مهم جدًا لطالب العلم إذا حصل أن تجعل له دفترًا خاصًا تنتخب فيه ما تحتاجه فهذا مهم وسترجع إليه ولا بد بعد زمن يعني لا يناسب أن تقرأ هكذا وتقول هذه القراءة كافية لأنَّك بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة أو سنة تنسى لكن لو قيَّدت فإنَّك قد ترجع إليه بعد سنين فتجد أن الفوائد ما ثلة أما مك وكما قيل: ((الفهم(103/13)
عرض يطرأ ويزول، والكتابة قيد)) تقيد ما فهمته أو تقيد ما استفدته.
من الآداب أيضًا المتعلقة بالكتاب أدب الإعارة والإعارة للكتب منهي عنها إلاَّ لمُؤْتَمَنٍ عليها لأنَّ كتابك أنت أولى الناس به إلاَّ إذا وجدت من هو حريص على الكتب وإذا استفاد منها أرجعها وذُكر في ترجمة الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى أنَّ رجلاً طلب منه أن يعيره كتابًا فقال: ((لك ثلاثة أيَّام فقال قد لا تكفي قال قد عددتُ أوراقه فإن احتجت إلى نسخه فالثلاثة كافية وإن احتجت إلى قراءته فالثلاثة كافية وإن كنت تريد أن تستكثر به فأنا أولى بكتابي)) وهذا صحيح فالجزء الأول من كتاب كبير من ثمانية مجلدات عندي -ما أريد أن أذكره ربما يسمعه هذا فيظن أنَّه تعريض به- استعاره أحد الإخوة وإلى الآن من اثني عشرة سنة ما وصلني وهو يقول ما أدري أين ذهب وأيضًا الجزء الثامن من كتاب آخر قد لا آسف عليه كثيرًا له أكثر من عشرين سنة إلى الآن ما رجع ولذلك قال القائل:
لا تعيرنَّ كتابًا
من أعارنَّ كتابًا
واجعل العُذْر جوابًا
فلعمري ما أصابا(103/14)
وقال آخر: ((آفة الكتب إعارتها))، وقيل لرجل في الهند كوَّن مكتبة عظيمة: كيف كونت هذه المكتبة؟ قال: من استعارة الكتب قال كيف؟ قال استعير كتابًا فلا أرده فتكونت هذه المكتبة، فقيل له أليس هذا جناية على من استعرت منهم، قال من أعار الكتاب فهو مجنون ومن ردَّ من استعار فهو أكثر جنونًا منه؛ وهذا لأنَّ الكتاب النفوس متعلقة به وقد ذكر الحافظ ابن رجب في مسألة في كتاب القواعد ضمن قاعدة أنَّ الكُتُبَ لا قطعَ في سرقتها يعني إذا سَرَقَ كتابًا فعند بعض العلماء لا يقطع لأنَّ فيه شبهة أنَّ الحق في الكتاب للجميع فلهذا قد يأخذ بعض طلبة العلم مثلاً أو بعض الزملاء كتابًا ويرى أنَّ له حقًا فيه خاصة إذا كان وقفًا أو كان مهدى إليك أو ما أشبه ذلك فيتساهل فيه يتساهل فيه ثم تخسر أنت الكتاب فإذا لم تعلم أنَّ هذا الذي طلب الإعارة جادٌ وسيستفيد منه في أيَّام يسيرة وليالٍ وإلاّ فلا تعر الكتاب لأنَّ في إعارته حرمانك من الإستفادة وليس كل مستعير للكتاب مأمونًا على الكتاب فكم استعار أناسٌ وما ردُّوا الكتب.(103/15)
أيضًا من الآداب المتعلقة بالاهتمام بالكتاب والحديث ذو شجون ويطول أنْ يستعرض طالب العلم كُتُبَهُ بين حين وآخر يعني أن لا يجمع الكُتُبَ دون استعراض لها يأتي لما أخذ الكتاب ويضعه وأخذ الكتاب ووضعه أخذ الكتاب ووضعه ثم إنما يراجع طائفة قليلة منها لا بدَّ من استعراضها تأتي وتستعرض هذه الكتب حتَّى تتذكر الموضوعات لأنَّ من الناس من اشترى الكتاب مرتين وثلاث وأربع لأنَّه ينسى أن الكتاب عنده لقلة استعراضه لكتبه أمَّا لو أنَّه كثير الإتصال بكتبه خاصة في مثل بلادنا مكتبات بعض طلاب العلم كبيرة إذا ترك الاستعراض فربما طلب الكتاب من غيره وهو عنده أو نسي ما في الكتب أو احتاج إلى موضوعه ولم يراجع فيه الخ من الآداب أيضًا المتعلقة بالكتب الإهتمام بكتب الوقف والكتب الموقوفة يعني التي عليها طبعٌ أنَّه وقف أو ختم بأنها موقوفة أو أشباه ذلك هذه الإحتفاظ بها في مكتبتك لا بدَّ أن يكون على شرط الواقف، والواقف حين وقفها جعل على طلبة العلم وإذا كنت لا تستفيد من الكتاب وغيرك بحاجة إليه فدفعك الكتاب إلى من يحتاجه أولى نعم قد يكون لك حاجة فيه ولو مرة في السنة تراجع فيه فهذا لا بأس لأنّ الكتاب موقوف على طلاب العلم لكن إذا كنت لا تراجعه تمر عليك سنين أربع خمس سنين وأنت لا تراجعه وتعرف أن نفسك ليست ذات همَّة في مراجعة هذا الكتاب أو الكتب بعامة أو قد لا تحتاجه في المستقبل فإنَّ الاحتفاظ به مع هذه الحال خلاف الأولى وبعض أهل العلم يقول لا يجوز الاحتفاظ به بل يدفع إلى مستحقه يدفع إلى من ينتفع به لأنَّ الواقف وقفه على من ينتفع به وإذا كنت لا تنتفع به فمن ينتفع به أولى ومن هنا كان كثيرٌ من طلاب العلم من يتنزَّه عن الاحتفاظ بالكتب الموقوفة إذا كان عنده فضل مال يمكن أن يحصِّل الكتاب ببذل ماله لأنَّه ربما يركن الكتاب ولا يستفيد منه فإذا كان موقوفًا ربما لحقه إثم بحبسه عمن ينتفع به وهذا ربما ظهر أكثر في البلاد التي(103/16)
يكون الكتاب فيها شحيحًا.
من الآداب أيضًا المتعلقة بالكتاب أن تهتم في الكتاب بتجليده وبطانته وظهارته حتَّى يكون الكتاب بالوضع اللائق به للاسمراء لأن طالب العلم حين يقتني الكتاب لا بد أو نقول الأفضل له أن يستحضر نوعين من النية أما الأولى فأن ينوي الإنتفاع به في تخليص نفسه من الجهل والثاني أن ينوي أن يستفيد غيرُه من هذا الكتاب إمَّا أهله وولده وإمَّا من يكون عنده أو أن يوقف الكتب بعده أو أن يبذلها لغيره بإهداء أو أن يبيعها إلخ وهذا يعني أنَّه كلما اعتنى بالكتاب من جهة جلده والمحافظة عليه ربما يبقى أكثر في المستقبل كلما كان ذلك أكثر في الأجر والثواب ومن عجائب التفريط في الكتب ما ذكره القِفْطِي صاحب كتاب ((إنباء الرُّوَاة)) ربما ذكرته لك مرة في قصته مع كتاب ((الأنساب)) للسمعاني وكان حريصًا على الكتب جدًا فجمع مكتبة من أنفس ما جمع قال عُرض عليَّ كتاب الأنساب للسمعاني بخط مصنفه الأجزاء الثاني والثالث والرابع، والأول مفقود بخط مؤلفه السمعاني وبين القفطي والسمعاني نحو مائتين وخمسين عامًا أو قريبًا منها فاشترى هذه الثلاثة قال اشتريتها فلما مضى مدَّة من الزمن وهو يسأل عن الكتاب عن الجزء الأول ويسأل فَظَنَّ أنَّه فقد وانتهى وبخط مصنفه عُرْضَةٌ إلى أنّه أُعير ففقد أو أنَّه ضاع أو الخ قال فمرَّةً جاءني خادمي بصرة من بُقُول يعني الخضروات هذه وقد لفت بورق كتاب قال فأخذت الورقة قبل البقول -لأن مالها قيمة عنده بالنسبة لهذه الورقة- يقول فلما نظرت إليها فإذا هو خط السمعاني الذي أعرف فأتيته بنسخة الأنساب فإذا هذا الورق من الجزء الأول المفقود قال فذهبت سريعًا إلى الذي يبيع البقول فوجدت عنده بعض أوراق بقيت من هذا فقلت له أين بقية هذه الأوراق قال لففنا بها البقول فتفرقت في البيوت فقال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون مأساةٌ مصائب قوم عند قوم فوائد هذا يأسى على فقده وذاك فَرِح لأنه وجد هذه الأوراق(103/17)
التي لا قيمة لها بخط الحافظ السمعاني يلف بها البقول ويعطيها الناس قال فأقمت مناحة أو قيل فأقام مناحة شهرًا من الزمان على العلم وأهله وعلى كتاب ((كتاب الأنساب)) للسمعاني نريد من هذا نقول أن الكتب لا بد من العناية بها من جهة تجليدها ومن جهة حفظها هذا وجدها مفرقة فسهل أن تتفرق الأوارق وأن تضيع لكن لو كانت محفوظة مضموم بعضها إلى بعض لكان ذلك أدعا إلى إستمرارها في مكتبتك والمسائل المتعلقة بذلك كثيرة لعل فيما ذكرنا تنبيهًا على بعض ما يحتاج إليه اسأل الله جلَّ وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والصلاح والرشاد وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد.(103/18)
المنهجية في طلب العلم
للشيخ صالح آل الشيخ
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت، اللهم إنّا نسألك صلاحا في قلوبنا وصلاحا في أعمالنا وصلاحا في أقوالنا اللهم وفقنا لما تحب وترضى واجعلنا في مسيرنا متبعين لنبيك صلى الله عليه وسلم.
هذه الليلة نذكر مقدمة مهمة نافعة إن شاء الله تعالى في طريق طلب العلم، والداعي لها أنّنا نرى إقبالا من الشبيبة بارك الله فيهم ومحبة لطلب العلم لكنّ كثيرا منهم لا يعرفون طريق الطلب كيف يطلب العلم؟ بعضهم يمضي أوقاتا طوالا ربما سنوات، يمضيها ولا يحصل من العلم ما حصله غيره ممن أنفذ سنوات مثل السنوات التي أنفذها ذاك والسبب هو أنه لم ينهج في طلبه للعلم النهج الصحيح، النهج الذي يحصل معه مبتغيه -أعني طالب العلم- يحصل طرفا مما كتب الله له، طرفا ينفعه طرفا، ثابتا مؤصلا يمكنه أن ينقله إلى غيره نقلا واضحا لا شك معه ولا ارتياب.
كثير من الشباب يقرؤون قراءات متنوعة تارة في الحديث وتارة في التفسير وتارة في الفقه يسمعون ويحضرون مجالس أهل العلم ولكنّهم إذا رجعوا إلى أنفسهم فيمن حضر سنة أو حضر سنتين إذا رجع لنفسه لم يفهم المادة التي ألقيت عليه أو رأى أنه لم يحصل شيئا كثيرا لم يؤسس عنده حضورُه علما مؤصلا يمكن معه أن ينطلق ويقيس على منواله وينهج نهجه والسبب انعدام المنهجية الصحيحة في طلب العلم لأنّ طالب العلم لابد أن يسلك في طلبه منهجا واضحا محددا، إذا لم يسلكه تخلف عن الطريق ولذلك نرى أنّ كثيرين ملوا من طلب العلم، سنين أمضوها ثم ملّوا وتركوا، تمضي عليهم سنون أخر ويرجعون عواما أو قرّاءا لا يعدون ذلك ونريد من طالب العلم المقبل أن يتحلّى بخصلتين:(104/1)
الأولى: أن يكون سائرا على منهج الطلب الذي سار عليه من قبلنا من أهل العلم وصاروا علماء بعد مسيرهم ذلك السير.
والثاني: أن يوطن نفسه على أن يكون باذلا للعلم وقته وأن لا يمل مهما كان.
روى الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: أنّ أحد طلبة الحديث رام طلبه ورغب فيه وحضر عند الأشياخ وجلس مجالسهم ثم لما مرّ عليه الزمن رأى أنّه لم يستفد شيئا ولم يحصل كبير علم فقال: إنّني لا يناسبني هذا العلم وترك العلم لظنّه أنّ عنده في فهمه ركودة أو أنّه لا يصلح لطلب العلم؛ قال: فلما كان ذات يوم -أي بعد أن ترك بمدة- مرّ على صخرة يقطر عليها ماءٌ قطرة تلو قطرة وقد أثر ذلك الماء في تلك الصخرة فحفر فيها حفرة فتوقف متأملا ومعتبرا ومتدبرا فقال: هذا الماء على لطافته أثّر في هذه الصخرة على قساوتها فليس عقلي وقلبي بأقسى من الصخر وليس العلم بألطف منه من الماء، فعزم على الرجوع إلى طلب العلم فرجع ونبغ وصار ممن يشار إليهم فيه
هذا يفيدك أنّه يحتاج طالب العلم إلى العزيمة وأن لا يملّ، لا يقول أنا درست فما استفدت ليرجع إلى السبب، ليس السبب في طبعه في أكثر الشباب أو أكثر المقبلين على طلب العلم ليس السبب هو أنّهم لا يفهمون كثير منهم يفهم ولكن السبب في عدم تحصيله العلم أنّه لم يسلك طريقه ولم يأخذه على المنهاج الذي به تخرج من سبقنا من أهل العلم، هذا الطريق سهل ميسور وهو أسهل من الطريقة التي يسلكها الأكثرون اليوم.
إذا تبيّن هذا يحضر هنا السؤال المهم وهو يردد كثيرا يردده كثير من الشباب ويسألون عنه ألا وهو:(104/2)
ما هي المنهجية الصحيحة في طلب العلم؟ كيف يسير طالب العلم في هذا الطريق على وفق المنهجية التي إذا وفق الله جلّ وعلا العبد معها صار طالب علم ووفق إلى دراسته؟ وهو سؤال مهم للغاية وحضور مجالس العلم مفيد فوائد جمّة ومن أعظمها أن يتخرّج طالب العلم منها من تلك الحلق أن يتخرج فاهما لما ألقى عليه ويستطيع به -أي بمافهم- أن يفهم غيره.
أولا: يحتاج طالب العلم إلى أن يكون عنده أخلاق ضرورية وصفات ملازمة له في مسيره لطلب العلم:
أولها: وأعظمها أن يكون مخلصا لربّه جلّ وعلا في طلبه للعلم لأنّ طلب العلم عبادة والملائكة كما ثبت في الحديث الصحيح تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع؛ فهذه العبادة لابد لقبولها ولتوفيق الله جلّ وعلا لصاحبها أن يكون مخلصا فيها لله جلّ وعلا، يعني لا يطلب العلم لنيل مرتبة دنيوية، لا يطلب العلم الشرعي علم الكتاب والسنة لنيل جاه أو سمعة أو ليصبح معلما أو ليصبح محاضرا أو ليشار إليه بالبنان أو ليكون ملقيا لدروس ونحو ذلك، بل يكون قصده التعبد لله بهذا وأن يتخلص من الجهالة فيعبد الله جلّ وعلا على بصيرة.
إذن الإخلاص في طلب العلم أن يكون المراد وجه الله جلّ وعلا لا عرضا من الدنيا -بأنواع تلك الأعراض- ويكون ناويا أن يرفع الجهالة عن نفسه، سئل الإمام أحمد قيل له: كيف الإخلاص في العلم؟ قال: الإخلاص فيه أن ينوي رفع الجهالة عن نفسه لأنّه لا يستوي عالم وجهول قال جلّ وعلا: {أمن هو قانت لله ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال جلّ وعلا في آية المجادلة: {يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات}.(104/3)
فإذن الله جلّ وعلا فضل أهل العلم على غيرهم والذي يطلب العلم ليعبد الله على بصيرة ليخلص نفسه هو من الجهالة وليكون في حياته موافقا لما شرع الله جلّ وعلا هذا قد أخلص، قد أخلص لأنّه قصد وجه الله جلّ وعلا قصد أن ينجو من أن يكون متبعا لهواه جاهلا مقلدا.
الإخلاص أول تلك الشرائط وأول تلك الآداب والصفات، والصفات والآداب كثيرة صنّفت فيها كتب ومؤلفات بعضها صغير وبعضها كبير لكن نذكر منها ما يهم في هذا المقام.
ثانيها: أن يكون رفيقا مترفقا في طلب العلم لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا بخبر عام فقال: ((إنّ الله يحب الرفق في الأمر كلّه)) وهذا ظهور في العموم وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ الرفق ما كان في شيء إلا زانه)) ويدخل في ذلك العلم وطلب العلم.
كيف يكون الترفق؟ يكون بأن لا تروم العلم جملة كما قال ذلك ابن شهاب الزهري الإمام التابعي المعروف قال: ((من رام العلم جملة ذهب عنه جملة وإنّما العلم يطلب على مرّ الأيام واللّيالي)) وقد أفصح عن هذ ا المعنى الشاعر حيث قال:
اليوم علم وغدا مثله
من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمة
وإنّما السيل اجتماع النقط(104/4)
الرفق مطلوب كيف يكون الرفق بأن لا تروم العلم جملة، بمعنى واحد يريد أن يروم علم التفسير يذهب يقرأ تفسير ابن جرير، تفسير ابن جرير فيه كلّ التفسير، هذا رام العلم جملة ما يحصل يبدأ وينتهي من تفسير ابن جرير وإذا سألته لم يعلق بذهنه من التفسير إلا القليل يتذكر أنه قرأ كذا وقرأ كذا ولكنه لا يفصح لك عن تفسير آية على الوجه المطلوب إذن كيف يكون لا بد من التدرج، والتدرج سنة لابد منها كذلك رجل يريد أن يطلب علم الحديث يذهب إلى نيل الأوطار يبدأ به أو فتح الباري يقول أنا خلاص انتهيت من مجلد من فتح الباري، هذا الرجل اعلم أنه لن يحصل العلم على ما كان عليه أهل العلم فيكون قارئا مثقفا عنده معلومات متناثرة لكن ليس هو العلم الذي قد أُصِّل والذي بعده سيكون عالما إن وفقه الله جلّ وعلا، كذلك في الفقه ماذا قرأت في الفقه؟ يقول أنا أقرأ في المغني أنا أقرأ في المجموع هذا يصدق عليه أنه لم يأخذ بالترفق رام العلم جملة المغني والمجموع والكتب الكبار هذه إنّما يعي مسائلها الكبار من أهل العلم لكن طالب العلم المبتدئ لا يقرأها قراءة من أولها إلى آخرها لا شك أنّه قد يحتاج إلى بحث مسألة بخصوصها يرجع فيها إلى المطولات لكن لا يقرأها سردا يمرّ عليها.
أيضا لا يهتم طالب العلم، وهذا من فروع الترفق لا يهتم بالتفصيلات فإنه إذا كان في طلبه للعلم اهتم بدقيق المسائل واهتم بالتفصيلات فإنه ينسى ولن يحصل علما لأنّه لم يؤصل ولم يبن القاعدة التي معها تفهم تلك التفصيلات بعضنا يذهب إلى دروس مفصلة جدا يمكث أصحابها سنين عددا طويلة ما انتهوا منه أو في الباب الواحد يجلسون أشهر ونحو ذلك ويظنّ أنّ هذا يحصل معه علما لا هذه الطريقة ليست بطريقة منهجية لأنّه لم يترفق صاحبها فيها ولقد قال جلّ وعلا: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}(104/5)
كونوا ربانيين فسرّها أبو عبد الله البخاري رحمه الله رحمة واسعة في صحيحه قال: الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، هذا الرباني في العلم والتدريس هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
يشرف بالمدرس وطالب العلم إذا درس أن يذكر كل ما يعلم في المسألة، أن يذكر بعد تحضير واسع كل ما وصل إليه تحضيره وهذا شرف له ولكنّه ليس بنافع لمن يعلّم لأنه هو يستعرض ما علم والعالم إنما يعطى ما يحتاج إليه السامع لا يعطي ما هو فوق مقدار السامع.
إذن فلابد من الترفق كيف يكون الترفق؟ سيأتي جوابه في بيان المنهج الصحيح في التدرج في طلب العلم.
ثالثا: أن يكون مواصلا في طلب العلم يجعل للعلم أعزّ أوقاته وأحلاها، لا يجعل للعلم الأوقات الميتة، الأوقات التي كلّ فيها ذهنه وضعف فيها فهمه يجعلها للعلم يجعلها للدرس هذا قد خالف وما نصح نفسه.(104/6)
إذن العلم تعطيه من وقتك أعز الأوقات التي فيها صفاء الذهن وقوة الذهن والفراغ، وهذا إنما يكون بضميمة أمر آخر ألا وهو أن يكون طالب العلم شغفا بالعلم ليلا ونهارا يصبح مع العلم ذهنه مشغول بالعلم يمسي كذلك، همّه العلم إذا أراد أن ينام بجنبه كتاب ربما يحتاج فيه إلى مسألة ولهذا يقول بعضهم إذا رأيت كتب طالب العلم مرتبة فأعلم أنه هاجر لها إذا أتيت على غفلة ودخلت مكتبة فلان من الناس ورأيت كتبه مرتبة، كلّ واحد في مكانه، معنى ذلك: أنه ما يطالع، الأرض ما عليها كتاب ولا بجنبه كتاب وإذا كان عنده طاولة ليس عليها كتاب، هذا معناه أنّه يأخذ الوقت الذي يفعله بعض المثقفين أصحاب المشاغل وقت قراءة، طالب العلم ما عنده وقت يسمى وقت قراءة لأنّ وقته كله في طلب العلم يصبح يمسي ذهنه مشغول بمسائل العلم في فترة شبابه الفترة الرّئيسة في عمره التي بها يُحَصِّل يكون شغفا فيها هنا تتوزع الأوقات، الأوقات الجليلة التي يقوى فيها ذهنه يختار لها العلوم التي تحتاج إلى كدّ ذهن مثل الفقه والأصول ونحو ذلك، الأوقات المتوسطة يختار لها العلوم التي لا تحتاج إلى كدّ ذهن مثل التفسير الحديث المصطلح ونحو ذلك، الأوقات التي يضعف فيها فهمه يختار لها قراءة كتب الآداب كتب الرجال تراجم الرجال التاريخ ونحو ذلك الثقافة العامة، إذن هو منشغل دائما، أينما كان، منشغل بطلب العلم لا يسليه عن طلب العلم نزهة ولا صحبة ولهذا نرى أنه من أكبر ما يعاب على بعض من يظنّ أنّه طالب علم أنّه يمضي الساعات الطوال في مجالس في قيل وقال وأحاديث لا تمت إلى العلم بصلة هذا لا يكون طالب علم وإنما يكون شيئا آخر بحسب ما أشغل به نفسه، أما طالب العلم فمشغول سلواه وهواه ورغبته في طلب العلم، المجلس الذي فيه مسائل كلام عن طلب العلم وبيان ما أنزل الله جلّ وعلا في كتابه أو قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مكان انشراح الصدر ومكان سعة الصدر أو مكان تعليم أو مكان(104/7)
بيان للعلم الذي أنزله الله جلّ وعلا هذا هو مكان سعة الصدر وراحته.
إذن يجب على طالب العلم أن يكون من خصاله الملازمة له أن يكون ملازما للعلم لا يعطي العلم بعض الوقت إنما يعطيه كل الوقت أو جله في فترة شبابه الفترة التي فيها تحصيل العلم ولهذا يقول بعض من تقدم: ((اعط العلم كلّك يعطيك بعضه)) لأنّ العلم غزير مسائله كثيرة شتى ولهذا كان بعض أئمة الحديث حدث بحديث وهو على فراش الموت فقال لكاتبه أكتبه علم حصّله في هذه اللّحظة.
هذا يدلك على إخلاصه ومتابعته وقلبه شغف بذلك الشيئ والإمام أحمد لما كان في مرضه الأخير كان ربما أنْ أصابه بعض الوجع فأن أنين فأتى بعض تلامذته فروى له بالإسناد أنّ محمد بن سيرين قول أنس بن مالك رضي الله عنه كان يكره الأنين قال: فما سمع أحمد آنّا حتى مات، هذه النفسية لطالب العلم وللعالم هي التي بها يجعل الله جلّ وعلا طالب العلم عالما في مستقبل أمره إن شاء الله تعالى نافعا يكون همه مع العلم ليلا ونهارا يستفيد ما يحتقر فائدة يأتي بها الصغير أو الكبير، بعضهم يأتيه من هو أصغر منه بفائدة فيستكبر عليه أو لا يصغي لها كل سمعه وهذا لأجل أنّه عظم نفسه على العلم فإذا عظم نفسه على العلم فإنّه لا يكون من المحصلين للعلم، بل إن العلم يكون مع الصغير ويفوت الكبير، بعض العلم يفهمه من هو أصغر ويفوت الأكبر فإذا وضحه له استفاد، وهذا يذكر له أهل العلم المثل الواضح ألا وهو قصة سليمان مع الهدهد فإنّ الهدد مع وضاعته قدرا وذاتا ومع رفعة سليمان قدرا وذاتا ومنزلة عند الله وعند الخلق قال له الهدهد {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين} فعلمها الهدهد وجهلها سليمان عليه السلام فهذا استفاد منه أهل العلم ألا تتكبر على من أتاك بفائدة صغر أم كبر يأتيك بفائدة يستشكل استشكالا أرعه سمعك لأنه يفتح لك باب بذاته.(104/8)
هذه الخصال الثلاث مهمة جدا لطالب العلم وهناك غيرها كما ذكرت لك تطلبها من الكتب التي أُلفت في هذا الباب.
الآن نأتي للسّؤال المهم: كيف يكون الترفق؟ كيف يكون التدرج في طلب العلم؟ أو ما هو المنهج في طلب العلم؟
الجواب: أنّ العلوم الشرعية متنوعة مختلفة فمنها علوم أصلية ومنها علوم مساعدة يسميها بعضهم علوم الآلة ويسميها آخرون علوما صناعية.
فالعلوم الأصلية هي علم الكتاب والسنة يعني علم التفسير علم الحديث علم الفقه، ثم علم التوحيد نخرجه من علم الكتاب والسنة لأجل عظيم منزلته لأنّ كل هذه العلوم متفرعة ومفهومه من الكتاب والسنة.
إذن عندنا العلوم الأصلية لطالب العلم: التفسير والتوحيد والحديث والفقه.
والعلوم المساعدة هي: أصول التفسير أو ما يسمونه بعلوم القرآن، أصول الحديث أو ما يسمى بمصطلح الحديث، أصول الفقه والنحو وعلوم اللغة.
ثم هناك تقسيم آخر العلم منه أصول ومنه ملح، الأصول مثل هذه العلوم سابقة الذكر كلها الأصلية والمساعدة والملح كالأخبار والتراجم والغرائب والقصص والتاريخ ونحو ذلك.
أولا: علم التفسير:
علم التفسير تتدرج فيه بأن تبدأ بتفسير مختصر جدا، تتطلع فيه على معاني كلام الله جلّ وعلا خاصة إذا كنت حافظا للقرآن فإنه يكون من أنفع الأشياء لك أن تمر على تفسير مختصر كان العلماء يعتنون بتفسير الجلالين في الأعصر المتأخرة وهو نافع مفيد لكن تحترز في قراءته على ما فيه من التأويلات وقد صنفه الجلالان جلال الدين المحلي وجلال الدين السّيوطي، تمر فيه من أوله المفصل حيث إنّك تسمعه كثيرا في الصلاة تفهم المعاني باختصار وهو كله مجلدان صغار فإذا مررت على خمسين صفحة أخذت المفصل كاملا فهمت المعاني التي تسمعها في الصلاة فيكون معك علم واضح.
كيف تعرف أنك فهمت التفسير حتى تنتقل إلى غيره؟(104/9)
هنا الجواب: أن تستطيع أن تفسر السّورة على نفسك مثلا تقرأ سورة والشمس وضحاها فقرأت تفسيرها في الجلالين وفهمته كيف تعلم أنك فهمته؟ تغلق التفسير وتبدأ تفسر على نفسك فإذا استطعت أن تفسر بصواب وبدون تلكؤ بوضوح في فهم الآيات عند نفسك فإنك تكون قد درجت فهمت تفسيرها ويمكن أن تنتقل بعدها إلى غيرها وهذه طريقة يأتي تفصيلها في غير التفسير هذا أولا تبدأ بتفسير الجلالين، بعد ذلك تنتقل إلى ما هو أعلى منه مثل تفسير الشيخ ابن سعدي أو مثل تفسير البغوي أو ابن كثير أو مختصراته إذا كان هناك مختصرات سالمة من المعارضات فترجع إليها تمر عليها مرورا تعرف معه المعاني تكون المعلومات التي فيها التي هي أطول من الجلالين قد أتت ذهنك بعد فهمك لما أورده الجلالان، فإذا أتت المعلومات الأكثر تكون المعلومات الأقل واضحة لأنّك استطعت أن تفسر والشمس وضحاها من ذهنك، إذا قرأت ابن كثير إذا قرأت البغوي ونحو ذلك من الكتب التي هي أكبر قليلا ستحس من نفسك أنك أدركت أكثر وهكذا مع مرور الزمن تحس أنك قد نميت فهمك لكلام الله جلّ وعلا.
ثانيا: التوحيد.
التوحيد قسمان:
القسم الأول: العقيدة العامة.
القسم الثاني: توحيد العبادة.(104/10)
يعني علم التوحيد الذي ستدرسه إن شاء الله هذا تقسيم للتوحيد من حيث هو علم العقيدة العامة ألفت فيها كتب منها: لمعة الاعتقاد، ومنها الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها العقيدة الطحاوية وغير ذلك من ما ذكرت فيه مباحث الاعتقاد كاملة يعني يذكرون مباحث الاعتقاد كلها، مثل الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وما يتعلق بذلك الإيمان بالملائكة الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل الإيمان باليوم الآخر أحوال القيامة أحوال القبر البعث وما يحصل في عرصات القيامة الجنة والنار القدر وما يتعلق به ثم يذكرون تفاصيل الاعتقاد مباحث أخر مثل الكلام في الأولياء وكراماتهم مثل الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم مثل الكلام في الإمامة وحقوقها مثل الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل الكلام في الأخلاق ونحوها كما ذكر شيخ الإسلام في آخر الواسطية هذه تسمى عقيدة عامة.
عقيدة أهل السنة والجماعة هذه تأخذها بالترتيب تبدأ بكتاب مختصر تقرأه على شيخ التفسير ما يحتاج أن تقرأه على شيخ إذا أشكل عليك شيئ فسل فيه، أما التوحيد فلابد من قراءته، تأخذ مختصرا مثل لمعة الاعتقاد إن حفظتها فحسن وهو المراد وإن لم يتيسر فكررها حتى تفهم مباحثها.
من الأغلاط التي تواجه طلاب العلم أنهم يأخذون كتابا ما استعرضوا مسائله ولا مباحثه يعني يحضر يعرف الموضع الذي يحضر فيه عند المعلم هذا غلط بل الواجب أن تعرف المباحث التي تكلم عنها الكتاب.
لمعة الاعتقاد تمر عليها من أوله إلى آخره، تعرف ترتيبه والمسائل التي تعرض لها ونحو ذلك ثم بعد ذلك تقرأه على معلم أو شيخ.
كتاب في أوائل الكتب لمعة الاعتقاد مسائله واضحة مختصرة إذا شرحه لك قرر عليه تقريرات كتبتها بعد ذلك أضبطه فإذا ضبطت هذا الشرح وعرفت من نفسك وأنست أنك أحكمته أو أحكمت أكثره تنتقل بعده إلى الواسطية، تأخذ أيضا الواسطية على معلم.
ثم كيف تعلم من نفسك أنّك فهمت الباب؟(104/11)
بعض الناس يقرأ فإذا أتى يعبر عما قرأ إما أن يعبر بعبارة غير شرعية غير علمية وإما يعبر خطأ يكون فاهما أصلا خطأ من جراء قراءته لمَ لأنّه لم يختبر نفسه فأنت إذا قرأت الفصل من الواسطية مع شرحه تبدأ تدرسه مع نفسك تعبر عنه بقول مثلا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية في أولها مثلا هذا اعتقاد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، تبدأ تشرح الفرقة الناجية من هم؟ أهل السنة والجماعة من هم؟ حتى تعرف من نفسك أنك أدركت معاني هذا الكلام إذا أتى في أثنائه درست الكلام عن الصفات مثلا صفة العلو لله جلّ وعلا الاستواء على العرش تذكر ما تعرض له الشارح من المسائل ما تأخذها سماعا أو قراءة تقول أنا قرأت الواسطية هذا ما تحصل معه العلم لابد أن تدرس وهذا الذي يسميه أهل العلم معارضة العلم ومدارسة العلم، ومذاكرة العلم، له ثلاثة أسماء معارضة مذاكرة مدارسة، يستعمل أهل الحديث له لفظ المذاكرة يقول ذاكرته بكذا كما مرّ في بعض أخبار الإمام أحمد أنه صلى العشاء هو وأبو زرعة الرازي عبيد الله بن عبد الكريم الإمام المعروف صليا العشاء سويا ثم دخلا إلى المنزل فما فجئا إلاّ بآذان الفجر مكثا الليلة يتذاكران كيف يتذاكران؟(104/12)
هذا يذكر إسناد وذاك يذكر المتن هذا يذكر المتن ما تكلم عليه إذا كان عليه فقه أو نحو ذلك يتذاكران العلم هذا فيه تثبيت له أما أنْ تحضر عند الشيخ أو المعلم وتسمع وتذهب وعهدك به آخر ما سمعته هذا لا يحصل علما تسمع وتستفيد ومأجور إن شاء الله لكن لا تنمّي العلم ولا تؤسسه عند نفسك فإذن إذا سمعت قرأت الشرح، فهمت معنى الكلام علامة فهمك عند إغلاق الكتاب تبدأ تشرح وتوضح المسائل إذا كنت فاهما مائة في المائة فتوضح كل المسائل لن يكون في ذهنك اشتباه إذا كان فهمك ناقصا أو مضطربا أو مشوشا ستلاحظ أنك أثناء الشرح في هذه الكتب الأساسية التي هي أصول ستلاحظ أنك اضطربت، تتكلم ما تعرف كيف تعبر! اختلطت عليه المسألة مع أنّك كنت حين أمررته كنت فاهما له ولكن عند الاختبار يكرم المرء أو يهان فتنظر إلى نفسك فتعرف أنك فاهم أو لست بفاهم فإذا ما استطعت أن تشرح هذا المقطع أو تلك الجملة فمعنى ذلك أنّك تحتاج إلى إعادتها فلا تنتقل إلى ما بعدها إلا بعد إحكامها.
سابقا طلاب العلم يحضرون عند الشيخ مثلا يدرّسهم، في الليل مدارسه لما درسوه، كل واحد يغلق الكتاب ويشرح لصاحبه والآخر يشرح له ومن الحسن في طلب العلم أن تتخذ لك صاحبا واحد لا تكثر فهذا الصاحب تراجع أنت وإياه العلم تشرح له ويشرح لك تبين له خطأ فهمه ويبين خطأ فهمك وتتساعدان في هذا.(104/13)
إذا انتهيت من الواسطية تأتي الدرجة الثالثة وبعد فهم الواسطية تماما تنتقل إلى الحموية وإن شئت تنتقل إلى شرح الطحاوية ما في حرج وإذا فهمت الواسطية تماما تستطيع أن تأتي لكتب شيخ الإسلام تمر عليها تفهمها بإذن الله تعالى لكن من العجب أن يأتي بعض منّا ويفتح الفتاوى ويقرأ منها وهو ما أحكم أصول علم الاعتقاد يجيء به نوم تعبان كليل ما عنده إلا عشرة دقائق أو ربع ساعة قال: خلّنا نقرأ في الفتاوى يفتح ويقرأ ثم بعد ذلك يجادل في بعض المسائل وهو ما فهمها أصلا وهذا كثير وواجهناه كثير، يأتي يقول قال شيخ الإسلام كذا وإذا راجعت وجدت أنّ شيخ الإسلام ما قاله، لأجل أنه أعطاه وقتا مقتطعا ليس بجيد، الثاني لأجل أنّه ما عنده أصول تلك المسألة يعني أصول تلك المسألة ليست ثابتة عنده فيكون فهمه لكلام العلماء ليس بقوي، الأعظم من ذلك أن لا يكون أحكم الواسطية أو الحموية أو لمعة الاعتقاد فنذهب إلى كتب السلف كالسنة لعبد الله بن الإمام أحمد والإيمان لا بن منده أو كالتوحيد لا بن خزيمة أو كالتوحيد لا بن منده ومثل ذلك من الكتب الكبار التي ليس المسائل فيها مؤصلة كما أصلت في كتب المتأخرين لكن إذا أصلت المسائل ثم ذهبت إلى تلك الكتب فسوف يكون استدلالك بكلام السلف على أتم وجه فستفهمه على أتم فهم إن شاء الله تعالى لأنّ الكلمة من كلام السلف سوف تكون في بالك منوطة بالمسألة التي كانت عندك أصولها في تمام الوضوح، ترتبط الكلمة واضحة عندك معناها مرادهم بها محترزاتها ما تحوى من أمثلة ذلك مثلا الكلمة التي هي في أول لمعة الاعتقاد قال صاحب اللمعة في الإيمان بالأسماء والصفات قال: بلا كيف ولا معنى؛ هل هاذي يأتيها طالب العلم إذا ما فهمها على حقيقتها فإنه إذا أتى إلى كتب السلف... ثم يحيل على علمائنا الكبار لأنّ عندهم من العلم ما ليس عند غيرهم فإن لم يكن عندك من الوقت ما يناسب أوقاتهم ونحو ذلك فلا بأس أن تلحق بغيرهم من طلبة العلم ممن(104/14)
هم من أساتذتنا لكن بشروطه المعتبرة.
الثالث: الحديث.
أول ما يبدأ طالب العلم بحفظ الأربعين النووية وربما لو سألت أكثر الحاضرين هل حفظوا الأربعين النووية يقول: لا، ما حفظوها وانتقلوا إلى دراسة الكتب الكبار مثل نيل الأوطار أو سبل السلام أو فتح الباري والأربعون النووية هي القاعدة.
إرجعوا إلى الكتب التي ترجم فيها مؤلفوها لأهل العلم كتب التراجم انظر واقرأ ما تجد أنّهم ذكروا في ترجمة عالم أنّه قرأ كتابا كبيرا مثلا ما تجد أنّه ترجم لعالم أنّه قرأ فتح الباري أو قرأ المجموع ونحو ذلك ما تجد لكن تجد في تراجمهم أنه يقول: حفظ مثلا الأربعين النووية حفظ الملحة في النحو حفظ العمدة في الفقه حفظ عمدة الأحكام يذكرون مثل المختصرات لمَ؟
لأمرين: الأول: ليدلك أنّ طريق العلم هو هذا لا غير.
الثاني: ليبين مكانة هذا العالم وأنّ علمه مرسخ مؤصل لأنه ابتدأ بتلك المتون فأحكمها ودرسها على الأشياخ، ما تجد أنّ فلانا قرأ فتح الباري قرأ نيل الأوطار ما تجد، ولا يثني على العالم بذلك لأنّ هذه الكتب تعرف مسائلها التفصيلية إذا أحكمت.
إذن في الحديث تبدأ بحفظ الأربعين النووية حفظا لا غير تحفظها وتمرُّها دائما لابد تحفظها مثل الفاتحة كل أسبوع تختمها، كل ختمة تكون واضحة عندك بعد ذلك تقرأ شرحا لها وحبذا لو يكون على شيخ أيضا وإن لم يكن فتقرأ شرحا وتضبطه وتسأل فيما أشكل عليك أحد العلماء.(104/15)
بعد حفظ الأربعين تبدأ في كلّ حديث تقرأ شرح النووي عليه، شرح النووي مختصر أكبر من النووي شرح ابن دقيق العيد، ثم يليه شروح كثيرة ولكن أكبرها شرح ابن رجب الحنبلي الحافظ المعروف، تقرأ شرح النووي فإذا قرأته على حديث إنما الأعمال بالنيات تغلق الكتاب وتبدأ تشرح الحديث وهذا ينفعك كثيرا إذا أردت أن تعظ في مسجد، لك أن تبتدأ من أيّ حديث من الأربعين النووية ثم تضبط الشرح كاف ونافع للغاية، احتيج إليك لخطبة جمعة تأتي مسجد فيه عدد من طلبة العلم كل واحد يقول للثاني: لا ما أخطب أنا يخطب الثاني، طالب العلم لابد عدته معه في كل مكان أقل العدة آيات مع إحكام تفسيرها سورة العصر وتفسيرها سورة الإخلاص وتفسيرها وغيره أو الأربعين النووية مع إحكام شرحها فلابدّ من قاعدة لك تنطلق منها وستكون بإذن الله رآيا ومشاهدا لعظم النفع بحفظ الأربعين النووية مع إحكام شرحها لأنها ضمت من السائل الشيء الكثير بعد ذلك تنتقل من الأربعين النووية إلى عمدة الأحكام في الحديث بعد ذلك إلى بلوغ المرام إذا الواحد حس من نفسه نشاط يقول أنا أبدأ بالبلوغ حفظا لا بأس وإن لم يكن فعمدة الأحكام وبعد البلوغ خلاص بركة ونعمة، لا مانع أن تقرأ في كتب السنة صحيح البخاري صحيح مسلم وفي غيرها لكن لا تقرأ فيها وأنت ما ضبطت تلك الأصول لأنّه تأتيك أحاديث ما تعرف معناها أحاديث ربما يكون المعنى فيه شيء من التعارض، المسائل الفقهية المستنبطة منها ربما تعز عليك ونحو ذلك.(104/16)
رابعا: الفقه تبتدئ بعمدة الفقه لا بن قدامة رحمه الله ومن لم يكن في هذه البلاد يبتدئ بأي متن من المتون الفقهية من أي مذهب لكن مذهب الحنابلة هو أقل المذاهب مخالفة أو أقل المذاهب مسائل مرجوحة فإنّ المسائل المرجوحة مثلا في زاد المستقنع قليلة وأكثره راجح المقصود تأخذ متن مثل عمدة الفقه تأخذه وتضبط مسائل كل باب مثلا تمر على باب المياه فتمر عليه مرة سريعة فتعرف تقسيمه في الباب، وش بدأ؟ وش انتهى؟ ما مسائله؟ ثم بعد ذلك تبدأ على معلم هذا لابد منه إذا لم يتيسر تقرأه على نفسك أو تقول والله إنّي رجل تقدمت بي الأمور يشار إليّ بالبنان مدرس صعب عليّ أن أحضر على شيخ أونحو ذلك، بل تقرأ وتسأل عما أشكل عليك.(104/17)
كيف يقرأ الفقه؟ هذا سؤال مهم كثيرون يقرؤون الفقه ولا يعرفون كيف يقرأون، الفقه ليس كالتوحيد فالتوحيد تصور مسائله سهل مسائل الصفات فيها إثبات فيها تأويل تأولوا العلو إلى كذا إلى علو القدر علو القهر تأولوا الاستواء إلى كذا تصورها واضح لكن الفقه تصوره ليس بالواضح فهم صور المسائل لئلا تشتبه بمسائل أخر سيحتاج منك درس الفقه إلى أناة، أولا تتعامل مع هذا المختصر بالسؤال والجواب كيف؟ تقول مثلا المياه ثلاثة أقسام تأتي تخاطب الشرح كم أقسام المياه تقول: أقسام المياه ثلاثة الأول: هو الطهور، ما تعريفه؟ يأتي تلاحظ أنك في هذه الأسئلة إذا مرنت يكون الجواب بعد سؤاله ما تعريفه هو الماء الباقي على أصل خلقته أو كما يقول غيره هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، إذًا سألت وهو أجاب تعاملت مع كتاب الفقه كأنه معلم تسأل أنت وهو يجيب إذا أتى احتراز أو شرط تسأل بالأسئلة المناسبة تقول مثلا إذا قال الماء الباقي على أصل خلقته تسأل تقول مطلقا وهو يجيبك يذكر لك الحالات هل خالطه ممازج أم غير ممازج ...الخ تبدأ أنت تسأل وتقسم والعلم في الفقه إنما هو بشيئين هما أولا: بالتصور ثانيا: بالتقاسيم أنفع شيء لك في الفقه التقسيم تقول هذه تنقسم إلى كذا وكذا الأشياء العارضة على الماء الباقية على أصل خلقتها قسمين ممازجة وغير ممازجة، طيب، مَثِّل للممازجة وغير الممازجة؟ كذا وكذا الشارح يمثل لك ابن قدامة في العمدة، لا تهتم في درس الفقه بالراجح بالدليل لا لأنه ما يراد منك أن تكون مفتيا أنت الآن متعلم يراد من درسك الفقه أن تتصور المسائل الفقهية وتفهم تعبير أهل العلم في الفقه مثلا: مختصر الزاد، الزاد تعرفونه صغير إنّه يحوي ثلاثين ألف مسألة كيف كل واحدة نعرفها بدليلها والراجح والمرجوح منها، نكون أمضينا وما فهمنا الزاد ولذلك الآن قليل من شرح الزاد من العلماء لأن الطريقة التي يستعملها العلماء سابقا في الشرح والتي نفعت الطلاب وأخرجتهم(104/18)
أهل علم ليست هي الموجودة الآن تفصيلات وتعليلات يطول الكلام في مسألة واحدة ولا يراد من طالب العلم أن يتصور في المسألة كل ما قيل عنها إنّما تتصور المسألة وحكمها بناء على هذا المذهب إذا انتهيت من القسم الأول من أقسام المياه تغلق الكتاب وبنفس الطريقة تأتي تعيد هذا القسم وتشرحه تلاحظ إذا كان فهمك مشرقا تلحظ من نفسك وإذا كان فهمك مغربا فتلحظ من نفسك وشتان بين مشرق ومغرب.
سارت مشرقة وسرت مغربا
شتان بين مشرق ومغرب
تعيد تسأل أهل العلم المعلم الذي يعلمك في المسائل التي يعلم أن الفتوى بخلاف ما ذكر في هذا المتن المعلم الرباني يذكرك بها يقول: هذا والفتوى على خلافه، القول الراجح هو كذا ليس القول الراجح في كلّ مسألة بما يترجح للمعلم، لا يكن القول الرّاجح بما عليه المفتون الذين يفتون من أهل العلم الكبار يربطك بين كتاب الفقه وبين الفتوى يجعل فيه الصّلة بينك وبين هذا وهذا كان أهل العلم عندنا يذكرون في تدريس الزاد الأشياء التالية يذكرون.
أولا: صورة المسألة حكمها، بناء على ما ذكره صاحب الكتاب.(104/19)
هل لشيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم أو أحد من أئمة الدعوة هل لهم اختيار مخالف لأنهم نخلوا المذهب فالمسائل المرجوحة بينوها نقول مثلا في المياه ثلاثة أقسام يقول لك المعلم واختار الشيخ تقي الدين شيخ الإسلام أنّ المياه قسمان، لا تحتاج تفصيل في كل مسألة ولا تعليق المعلم يحتاج إلى معرفة ما عليه الفتوى فيقول لك يفتي الشيخ الفلاني مثلا يفتي سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله في المسألة بكذا يربطك هذا الذي تحتاجه أما نأتي عند مسألة نقول دليلها كذا واستدلوا لها بكذا وهذا الدليل أخرجه فلان وفلان وفيه الراوي الفلاني فيه علة ولا يصح الاستدلال والقول مرجوح والصواب قول الشعبي وإسحاق والشافعي، هذا في المسائل ما يحتاج لكن طالب العلم الذي يعرف هذه المسائل ويتحملها يقرأها في الكتب المطولة ليس كل كتاب قرأت منه أو حضرت آتي وأعطيك المعلومات فمعناه أنّي أستعرض ما قرأت هذه ليست طريقة أهل العلم إنما طريقة أهل العلم أن يعطيك ما ينفعك هكذا في سائر أبواب الفقه كل باب تمر عليه بهذه الطريقة إذا ضبطت المسائل بتصورات تأتي أنت مع مرور الزمن تكون القاعدة قد بنيت المسألة هذه مرجوحة راجحة دليلها القول المخالف تنبني معك مع الزمن يأتي كل ركن في مكانه الصحيح تنبني يبدأ البنيان معك يرتفع يرتفع وتتصور المسائل في البداية يكون عشرة في المائة فأهمها فأهم أدلتها تصورت المسائل بعد سنة تلاحظ أنها خمسة عشر في المائة بعد سنتين تكون عشرين وهكذا مع الزمن أما الطريقة الموجودة اليوم يأتي طالب العلم عنده في مسألة تفصيل ساعة تسأله في مسائل أخرى في الفقه ما عنده علم بها هذا خلل في طلب العلم شمولية ثم بعد ذلك تبدأ تنمي حتى يكبر.(104/20)
على نفس الطريقة تسير في العلوم المساعدة طبعا انتهينا من العلوم الأصلية تسير في العلوم المساعدة على نفس الطريقة تبدأ بالمختصرات ثم تترقى شيئا فشيئا وذكرت لك من العلوم التاريخ يدخل فيه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة ابن هشام فيها كفاية في ذلك كذلك يدخل فيه أنواع التاريخ هذه علوم التي هي الملح تقرأ ما شئت من ذلك العلوم لابد من العناية بها أصول التفسير أصول الفقه أصول الحديث الذي هو المصطلح والنحو ولا علم بدون النحو يقول الشاعر ابن الوردي:
جمّل المنطق بالنحو فمن
يحرم الإعراب بالنطق اختبل
طالب العلم تجد كلامه مكسر هذا لا يصلح كيف أئتمنه على فهم معاني الكتاب والسنة وهو لا يفهم النحو ما يؤتمن في الواقع بأنّه سيكون مقلد ينقل لكن يأتيني في مسائل يجتهد فيها وعبارته أصلا عربيته ليست بجيدة ما يفهم اللسان العربي هذا لا شك أنّه خلل لابد من العناية بالنحو والنحو عمدته الإعراب تقرأ على شيخ ثم تعرب ما شئت أي شيئ يقابلك أعرفه، تقرأ خبر في الجريدة أعربه سورة تقرأها من القرآن أعربها حديث أعربه هذا يبين النحو عندك وإلا بدأت تشارك فيه الآن من كبار العلماء كان يأتي يسأل في الإعراب لابد من مجالس أهل العلم الذي يدرس فيه النحو والعلوم الأخرى لابد يسأل ما إعراب قوله تعالى كذا؟ ما إعراب الجملة الفلانية ينشطون مع الإعراب، إذا ترقى وحفظ الألفية سيأتي بالإعراب والدليل مثلا يقول محمد قادم محمد ما إعرابها؟ قال مبتدأ يقول المعلم قلت مبتدأ ما الدليل يقول قال ابن مالك في الخلاصة:
مبتدأ زيد وعاذر خبر
إنْ قلت زيد عاذر من اعتذر
مثلا لو قلت الآية {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} هذا يقول الذين اسم موصول لابد له في صلته من عائد يعود له ما العائد؟ يقول الطالب العائد محذوف يسأل المعلم ما الدليل؟ يقول: قول ابن مالك:
.......................................
والحذف عندهم كثير منجل
في عائد متصل إن انتصب(104/21)
بفعل أو وصف كمن يرجو يهب
قال الدليل هذا يربطنا بالنحو تماما لكن هذه الطريقة ليست موجودة الآن المقصود من هذا نختم الدرس بالوصية بالجد في طلب العلم وأن تحرصوا على المنهجية والأمة اليوم بحاجة إلى علماء بحاجة إلى طلاب علم،لأنه أين الموجهون؟ يوجهون الناس بالآراء بالأفكار بالثقافات بالمفاهيم لا إنما يوجه بالعلم علم راسخ يستحضر دليله يفهم أصول المسألة وكلام أهل العلم عليها حتى يسير الناس على بينة ونحن بحاجة إلى طلاب علم اليوم والطلاب الراغبون في العلم كثيرون لكن طلاب العلم قليلون من هم طلاب العلم؟ هم الذين يسيرون على وفق الطريقة الصحيحة التي سار عليها من كان قبلنا من أهل العلم وهي هذه الطريقة التي ذكرت لك فإن أنت طبقتها فستكون منتفعا بإذن الله أكبر الانتفاع تحس في نفسك في سنة أنك تغيرت تغير واضح وأحسست أنك طالب العلم علم بدأت تفهم وإن أهملت وحضرت ورحت وجئت وما أصلت فإنك ستحرم بقدر ما أخللت بذاك أسأل الله أن ينور قلبي وقلوبكم بالهدى والاستقامة وأن يجعلنا من طلبة العلم الذين يخشونه وأن يجعلنا للناس أئمة هدى يرشدون من ضل إلى الهدى ويحيون بكتاب الله الموتى وأسأله لكل واحد حاضر معنا أن يكتب الله جلّ وعلا له خير خاتمة في حياته وأن ييسر لنا الخير أينما كنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يأخذ بأيدينا إلى كلّ قول أو عمل يحبه ويرضاه إنّه ولي ذلك والقادر عليه وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(104/22)
المنهجية في قراءة كتب أهل العلم
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الذي بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كلّه، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما مزيدًا.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، والقلب الخاشع، والدعاء المسموع، اللّهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علمًا وعملاً يا أرحم الراحمين، ثم إني مسرورٌ بهذا اللِّقاء بالإخوة طلبة العلم، في هذا البلد المبارك، وبالشباب بعامة، لما بيننا من صلة ومحبة في الله وإنْ لم نلتق قبلُ، ولا شك أنّ العلمَ، من أقوى الروابط بين أهله، فطالب العلم لطالب العلم أخٌ وناصرٌ ووليٌّ ومحبٌ، فهم خاصة أهل الإيمان، وقد قال جلّ وعلا: {والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، ومن مقتضى الولاية، أنْ يحبه وأنْ ينصرهُ وأنْ يكون معه كما يحب أنْ يكون مع نفسه.
طلب العلم طريقٌ طويل، لا يكون إلاّ بترك للهو والشهوات، وإقبال جادٍ عليه، لأنّ الله جلّ وعلا، وصف وهو أصدق الواصفين، وأصدق القائلين، وصف ما أنزل على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، بأنّه قول ثقيل، فقال جلّ وعلا: {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلا}، والقول الثقيل هو ((الكتاب والسنة)) ولهذا لما قيل للإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، في مسألة، توقف عن الإجابة فيها، قال القائلُ له: ((هذه مسألة سهلة، أو مسألة يسيرة))، فقال: ((لا تقل هذا فما في العلم صغر أو كَبُر شيءٌ يسير أو شيء سهل، لأنّ الله جلّ وعلا وصفه بأنه ثقيل: {إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً})).(105/1)
وهذا الفهم العظيم، هو أول درجات الصعود في طلب العلم، أنْ تفهم أنّ العلم كلّه ثقيل، فكل مسألة من مسائل العلم، تحتاج منك إلى إقبال بقلبٍ، وفهمٍ مستقلٍ، فمن قال هذه مسألة سهلة نمرّ عليها وعنها مرور الكرام، فإنّه لن يحصِّل العلم حتى يكون العلمُ عنده سواء، بكلياته وجزئياته، بقواعده وفروعه، بأصوله وتفريعاته، سواء من جهة العناية به، سواء من جهة تحصيله، وترديده وحفظه، وتثبيته فالعلم، إذا تركته تركك، وإذا أقبلت عليه أعطاك بعضه، كما هو معلوم في المقالة المشهورة: ((العلم إنْ أعطيته كلّك أعطاك بعضه، وإنْ أعطيته بعضك لم تدرك منه شيئا)).
وهذا واقع مجرب. هذه المحاضرة، عنونت: ((بالمنهجية في قراءة كتب أهل العلم))، وموضوعها مهم، لأنّ كثيرين قرءوا كتبًا متنوعةً، لكن تجيء الشكوى منهم، متواترة بأننا لم نحصِّل علمًا راسخا مقعدًا، لم نضبط العلم بحيث نطمئن إلى هذا العمر الذي بذلناه في العلم، وهذا تجده عند كثيرين؛ لأنهم قرءوا مدة طويلة وربما حضروا بعض الدروس عند أهل العلم، وربما كتبوا الكتابات أو البحوث أو ألّفوا، ولكن في قرارة نفسه يدرك أنّه لم يحصل من العلم ما به تتميز مسائله، وما به يتضح المُشْكلُ منه، فلهذا جاءت هذه المحاضرة، وكانت مهمة لأنه لابدّ من منهج مضبوطٍ للقراءة في كتب أهل العلم، ومن لم يسر في حياته كلّها على منهج منضبط يرجعُ إليه، فإنّه سيترك الطريق الواضح، وسيأخذ بالطرق المختلفة.
كتب أهل العلم، إذا نظرت إليها في هذا الزمن وجدتها تصل إلى عشرات الآلاف في الفنون المختلفة، فهل العلم كثير، بكثرة هذه الكتب؟(105/2)
الجواب: ما وصفه وأجاب به الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال: ((العلم نقطة كثرها الجاهلون))، يعني أنّ أصل العلم، الذي فقهه الصحابة رضوان الله عليهم قليل، هو فقه الكتاب وفقه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قليل بالنسبة إلى ما كَثُرَ في زمن علي رضي الله عنه من كثرة المسائل والتفريعات التي لا يحتاج إليها الناس، وكلّما ازداد الناس بعدًا عن الزمن الأول، احتاجوا إلى ازدياد العلم، أو ازدياد الكتب لأجل أنْ يفقهوا -كما قال العلم نقطة كثرها الجاهلون، فلأجل وجود الجهل وأهله كثر التأليف وكثر التصنيف، لأجل أنْ يبسط العلم لأهله، وبه أهله يهدون الجاهل ويرشدون الضال، كذلك إذا تقدمت في الزمن وجدت أنّ الكتب في أول زمان الإسلام قليلة، ثم تكثر شيئا فشيئا، وهذه الكتب تنوعت بتنوع العلوم والفنون، فأوّل ما دوِّن من الكتب، الحديث، هو أول ما دون بعد القرآن العظيم، دونت السنة، على اختلاف أنواع التدوين ما بين صحائف محدودة، إلى أشياء كثيرة، ثم تلاها تدوين التفسير عن ابن عباس رضي الله عنه كما هو معلوم في الصحيفة الصادقة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، والتي قال فيها الإمام أحمد رحمه الله إنّ بمصر صحيفة في التفسير، يرويها علي بن أبي طلحة، لو رحَلَ رجل لها ما كان كثيرًا، وهذه الصحيفة صادقة صحيحة عن ابن عباس وإنْ لم يلق عليُّ بنُ أبي طلحةَ ابنَ عباس، كما هو معلوم، فهي مروية بالوجادة عن مجاهد عن ابن عباس، كما حرّره الحافظ ابن حجر أول التفسير من كتاب فتح الباري.
جاءت مصنفات في التوحيد -في العقيدة- لما ظهر أهل الفرق، لما ظهرت الفرق المختلفة من خوارج ومرجئة، جاءت الرسائل ومختصرات التصنيف إمّا في كتب أهل الحديث، وإما مفردة شيئا فشيئا، ثم توالى الزمان، حتى صار لك فنٍّ كتب كثيرة، وإذا أردنا أنْ نضبط المنهجية في قراءة كتب أهل العلم، فإننا نقسِمُ ذلك إلى قسمين:(105/3)
الأول: منهجية عامة تصلح للضبط في قراءة أي نوع من كتب أهل العلم، سواءٌ أكان في العقيدة أمْ كان التفسير أم الحديث أم الفقه إلى آخر الفنون الأصلية، والمساعدة، فالعلوم الأساسية والعلوم الصناعية كلها ثمَّ ضوابط عامة يمكن أنْ تسير عليها في منهج واضح تضبط به العلم المنتشر في تلك الكتب، وثمَّ ضوابط خاصة بكل علم، التفسير له قواعدُ تحصل علمه، وله قواعد ضبط التفسير من حيث هو، الحديث كذلك، العقيدة كذلك، إلى آخر الفنون...(105/4)
القسم الأول: الضوابط التي تصلح لجميع كتب أهل العلم نقدم لها بمقدمة، وهي أنّ العلم الشرعي ينقسم إلى قسمين، علم مقصود لذاته، وعلم مقصود لغيره، أما العلم المقصود لذاته فهو علم الكتاب والسنة، فقه كلام الله جلّ وعلا، وفقه حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذان العلمان هما المقصودان بالأصالة، وبهما يُمدَحُ أهل العلم، {يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، يعني الذين فقهوا عن الله جل وعلا مراده وعن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مراده، علم الكتاب وعلم السنة فيه التوحيد، وفيه الحلال والحرامُ، فرجعَ الأمرُ إذًا إلى علمين، ألاَ وهما علم العقيدة، والتوحيد، وعلم الحلال والحرام، الذي هو الفقه، هذا العلمان التوحيد والفقه، مقصودان لذاتهما؛ لأنّه بالتوحيد يتحقق الإخلاص، وعبادة الله جلّ وعلا وحده دون ما سواه، والإيمان بأركان الإيمان حقّ الإيمان، وبالفقه يكون الامتثال في الأمر والنهي، لأنّ الله جل وعلا، جعل دينه أخبارا وأوامر ونواهي، فالتصديق بالأخبار، هو الاعتقاد، وامتثال الأوامر والنواهي، هو امتثال العمليات، كما قال جلّ وعلا: {وتمت كلة ربك صدقًا وعدلا}، صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأمر والنهي، فإذًا العلمان المقصودان لذاتها في طلب العلم هما التوحيد والفقه، والمقصود لغيره من الفنون ما كان من العلوم الصناعية المختلفة، علوم العربية بعامة ليست مقصودة لذاتها، علم النحو علم الصرف، وعلم المعاني والبيان، والبديع، وعلوم البلاغة المختلفة، وعلوم الاشتقاق وهي ضمن الصرف، ومفردات اللغة، وأشباه ذلك، وكذلك أصول الفقه، أصول الحديث، السيرة، هذه كلّها مقصودة لغيرها، ليس طلبها مقصودًا لذاته، يعني أنّ طالب العلم إذا قرأ هذه الفنون فإنما يقرأها للتوصل إلى العلمين المقصودين، ألا وهما علم التوحيد وعلم الفقه، فقه الكتاب والسنة، فإذا رامَ أنْ يجعل الوسيلة غاية، فإنه لا يكون فاقهًا الكتاب والسنة،(105/5)
وإنّما يكون قام ربما بفرضٍ كفائي في تعلم وسيلة مساعدة لفقه الكتاب والسنة، هذا النوع بعامة
-العلم المقصود لذاته والمقصود لغيره- كتُبُهُ كثيرةٌ متنوعة كما قلنا هذه منهجية تشمل الجميع، فأول الضوابط في ذلك، أنْ تعلم أنّ كتب أي علم من العلوم تنقسم إلى كتب مختصرة، (متون)، وإلى متوسطة، وإلى منتهية، إلى شروح كبار، فأي علم من العلوم، التفسير، شروح الحديث بل الحديث نفسه، والفقه، والعقيدة، إلى آخر ذلك، كتبه ما بين مختصر ومطوّل، من رامَ المطول قبل المختصر، فقدَ منهجيةً مهمة، في استقرار الأصول، والمختصرات لها فائدة، وفائدتها تثبيت أصول العلم، والبناء كما هو معلوم يحتاج إلى أساس قبل تشييد ارتفاعه، فالمختصرات طريق للكتب المتوسطة، طريق للكتب المطوَّلة، فإذًا من لم يحكم المختصرات فلا يديمنّ النظر في المطوّلات، وإنما المطولات في أي فنٍّ من الفنون يُحتاج إليها في معرفة ما أشكل من المختصرات، فالمطولات بالنسبة للمختصرات، كالعلوم الصناعية بالنسبة للعلوم الأساسية، يعني أنّ ابتداء طالب العلم والمتوسط أيضا لا يكون بالكتب المطولات، فإذا لا يحسنُ أنْ نسمع من بعض طلبة العلم المبتدئين أنْ يقول قرأت كتاب فتح الباري، وقرأت المغني، قرأت المجموع شرح المهذب، قرأت المحلى، قرأت نيل الأوطار، إلى آخر ذلك، هذا لا يحسن؛ لأنّه وإنْ قرأ فسيؤول به الأمر إلى عدم التحصيل، سيكون ثمَّ معلومات متناثرة، في قلبه لا يجمعها زمام، ولا يربط بينها رابط، هنا لابدَّ إذًا كمنهجية في القراءة أنْ تبدأ بالمختصر، ثم المتوسط، ثم المطوَّل، في تأسيسك، لكن إنْ أردتَ مراجعةَ مسألة، فتراجعها في أيّ كتاب شئتَ، في المطول أو المتوسط أو غيره، لكن كتأسيس في طلب العلم، لابدّ من رعاية الاختصار، قبل المتوسط، قبل المطوَّل، وما أحسن صنيع الموفق ابن قدامة رحمه الله، إذ ألف في الفقه ما يمثل هذا المنهج، فألَّفَ مثلاً كتاب العمدة في الفقه، المعروف وهو(105/6)
كتاب مختصر، أطول منه قليلا المقنع وله منهج، أطول منه الكافي وله منهج، والمنتهي يقرأ المغني، وسمعت الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله تعالى مرّة يقول: ((إنّ الموفق ابن قدامة رحمه الله سبق المدارس الحديثة، فجعل العمدة في الفقه للمستوى الابتدائي، والمقنع للمستوى المتوسط، والكافي للمستوى الثانوي، والمغني للمستوى الجامعي))، طبعًا بالنسبة إلى أهل العلم الذين يدركون هذه الكتب، وإلاّ فربّما قرأ بعض من في المستوى الجامعي الآن، العمدة ولم يدرك أكثره، فإذًا من المهم في المنهجية في القراءة، أنْ يكون ثمَّ تفريق ما بين التأسيس والاطلاع، وهذه مرة كلمة قلتها وسجلت وهي مهمة لو رُجِعَ إليها، وهي: ((الفرق ما بين العقد والملح في العلم))، العلم منه عُقَد يصار إليها ومنه ملح مساندة، فمن رام المُلح وترك عقد العلم، فإنّه لن يدرك بل سيكون عنده أخبار كثيرة ومعلومات أو ثقافة لكن لا يستطيع أنْ يتكلم بوضوحٍ في مسألة عقدية، أو في مسألة فقهية، فإذًا أول المنهج العام في قراءة كتب أهل العلم بعامة، أنْ يكون ثمَّ انتقال من المختصر إلى المطوّل وهذا يتفرّع بتفرع الفنون المختلفة.
الثاني: أنْ يكون القارئ منتبهًا إلى مذهب الإمام أو المؤلف، فالعلماء ألّفوا كتبًا ولكن ألفوها بحسب نزْعَةِ كلّ منهم، من جهة مذهبية، فمنهم من هو من الحنابلة، ومنهم من هو من الشافعية، ومنهم من هو من الحنفية، ومنهم من هو من المالكية، وكذلك منهم من صفى مشربه في السنة، ومنهم من صار عنده صواب كثير وغلط قليل في السنة، ومنهم من خلط سنة وبدعة إلى آخر ذلك، فمعرفة هذا المؤلِّف، والمُؤَلَّف، مهم قبل الإقبال عليه، وهذا لابدّ منه، لأنّه قد يتأثر القارئ، بمؤلف وهو لا يدري إلى أيِّ شيء نزع.(105/7)
فمثلاً بعض طلبة العلم، يرجح دائما ما في (شروح كتب الحديث) على ما في الشروح المطولة في كتب الفقه، لأنّ شارح الحديث عندهم أكثرا استقلالا وأميل للاجتهاد من الذي ألَّف في الفقه، فينظر إلى أنّ ترجيح صاحب كتاب الحديث أوثق من ترجيح صاحب كتاب الفقه، هذا ليس صوابًا على إطلاقه، بل نجد أنّ شرّاح الحديث نزعوا في ترجيحاتهم إلى مذاهبهم، فمثلا، تجد أنّ الحافظ النووي في شرح مسلم رجَّح ما يرجحه الشافعية، وإذا دخل أيضا في استدلالٍ، وتطبيقٍ لأصول الفقه، فهو يطبق أصول الفقه الشافعية، فينظر الناظر إلى أنّه إذا قال في مسألة ما هذا الحديث صحيح، وهذه المسألة الراجح فيها كذا، لمجيء الحديث الصحيح بها، فيرجح من جهة ترجيح النووي، المنبني على صحة الإسناد، وهذا صحيح في كثير من المسائل، وغيرُ صحيح في بعض لهذا نجد أنّه رجح أشياء في مسائل الصواب خلافُها، لم؟
لأنّ صحة الإسناد، أو صحة الحديث، ليست كافية في الفقه، بل الأهم منها، أنْ ننظر في وجه الاستدلال من الحديث على المسألة وجه الاستدلال، يعني الاستنباط، كيف استنبط الحكم من المسألة، استنباط الحكم من الدليل، هذا يُرجع فيه إلى أي علم؟!
إلى أصول الفقه، الحكم بصحة الإسناد يرجع فيه إلى مصطلح الحديث وإلى علم الرجال، في كلا الأمرين المصطلح والرجال، وعلم أصول الفقه، هذه كلّها لها تبعات ولها خلفيات سابقة، فتجد أنّه رجّح صحة الإسناد لمذهبٍ له في الإسناد.
فمثلاً، تجدُ أنّه يرجح صحة الترجمة المعروفة ((عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه))، أو يرجح صحة ((بهز بن حكيم عن أبيه عن جده))، أو ما أشبه ذلك، وغيره قد ينازعه في ذلك، كذلك من جهة رجل، هل هو ثقة أم ليس بثقة، هل هو صدوق أم هو يهم، هل هو مقبولُ الرّواية في هذا الباب أم ليس بمقبول الرواية، هل هو مقبول الرواية عن هذا الشيخ أم ليس بمقبول الرّواية وهذا مما يدخل في علم علل الحديث.(105/8)
المسألة الثانية: أصول الفقه إذا صح الإسناد، وصح الحديث، فكيف نستنبط الحكم من الدليل لابدّ من استخدام أصول الفقه فيأتي استخدام أصول الفقه في بعض الأحيان موافقا لمذهب المؤلف، فينظر الناظر ويقول هذه المسألة رجحها الحافظ ابن حجر، رجحها الحافظ ابن حجر بناءً على مذهبه في أصول الفقه، فيأتي الناظر، ويقول الدليل كذا وصحّح إسناده الحافظ أو صححه الحافظ في الفتح أو في البلوغ، ورَجَح كذا لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد، بل لا بد من النظر في أصول الفقه التي بها استنبط الشارح الحكم في المسألة، ولهذا نقولُ إنّ بعض المسائل، جاء الخَلل فيها من جهة العقيدة، من جهة عدم إحسان تطبيق أصول الفقه، أو من جهة عدم معرفة هدي السلف، أو من جهة أنّ المؤلف لم يكمل الآثار في هذا الباب، وهذا متنوعٌ كثير، فتجد مثلاً الحافظ النووي، عنده أشياء حتى في كتاب رياض الصالحين، في كتاب رياض الصالحين عقد بابًا في كراهة الحلف بالأمانة وبتربة فلان وبقبر فلان، والحديث الذي استند إليه قوله عليه الصلاة والسلام: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))، واستند أيضا إلى ما صح في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: (( من حلف بالأمانة فليس منّا))، فيأتي الناظر ويقول النووي قال: يكره، ما دليل النووي؟ أتى بالدليل الذي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، ويدخل في عموم قوله من حلف بغير الله الحلف بالقبر أو بالتربة أو بالأمانة، إلى آخر ذلك، فإذًا هناك بونٌ شاسعٌ ما بين قوله مكروه، وما بين قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، وقوله: ((من حلف بالأمانة فليس منا))، ومن المتقرر عند المحققين من أهل العلم أنّ قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ليس منّا من فعل كذا)) أنّه يدلّ على التحريم كما هو مقرر عند الجمهور في تحقيق أصول الفقه، إذًا الترجمة شيء والاستدلال شيءٌ آخر، لو ناقشنا النووي(105/9)
لمَ ذهبتَ إلى الكراهة؟ ما ندري بمَ يجيب؟ لكنْ أظنّ أنّه نزع إلى شيء عنده في أصول الفقه، به فهم قوله: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، أنّ المقصود به كفر النعمة أو الشرك الأصغر، وهذا يدخل في كراهة التحريم، ولم يطلق كراهة التحريم، وإنّما أطلق الكراهة دون التحريم، المقصود من هذا أنْ تنتبه إلى الفرق ما بين وجه الاستدلال وما بين حكم صاحب الكتاب، وهذه مسألة كبيرة تدخلك في أنواع من البحث في قراءة كتب أهل العلم.(105/10)
فإذًا ضابط عام، فيما تقرأ من كتب أهل العلم أنْ تتبين منهج المؤلف، فليس كلّ عالمٍ رجّح مسألة، تكون راجحة في نفس الأمر، بل لابدّ لرجحان مسألة، من صحة الدليل، ورجحان الاستدلال، من الفروق المهمة في قراءة كتب أهل العلم، وفي طلب العلم ألاّ يظنّ الظان أنّ الراجح في المسائل العلمية يكون راجحا لمجيء الدليل لقولٍ، وعدم مجيء الدليل لقول آخر، هذا قليل، وهذه هي المسائل التي تسمى مسائل الخلاف، هي ليس الكلام فيها، وإنّما أكثر الخلاف مجيء دليل، ينزع المجتهد الأول منه بوجه من الاستدلال، وينزع المجتهد الثاني منه بوجه استدلالٍ آخر، متى يكون الاستدلال راجحًا؟ ويكون القول في المسألة راجحًا؟ إذا كان الاعتراض على الاستدلال الأول أقل من الاعتراض على الاستدلال الثاني، تجد مثلا إذا نظرت مثلا في نيل الأوطار أو فتح الباري أو المجموع أو المغني، أو غير ذلك، ترى أنّ هذا الإمام ينزع من نفس الدليل إلى حكم، والآخر ينزع إلى حكم آخر من نفس الدليل، وهذا راجع إلى اختلاف المجتهدين، متى يكون القول راجحا؟ نرجح الأول أوالثاني؟! ليست المسألة مسألة أهواء ولا شهوات، يرجح ما كان الاعتراض عليه من القولين أقل، وإلاّ فلا تتصور أنّ ثمة مسائل كثيرة في العلم الراجح فيها راجح مطلق، بمعنى أنْ يكون الأول صوابًا تاما، والآخر غلطا تاما، هذا قليل في مسائل العلم، والأكثر أنْ يكون هذا عنده وجه استدلال، وهذا عنده وجه استدلال، لكن الاعتراض على أحد الاستدلالين أكثر من الاعتراض على استدلال الإمام الآخر، فيكون ما قلّ عليه الاعتراض راجحًا وما كثُر عليه الاعتراض مرجوحا.
الضابط الثالث: من الضوابط العامة في المنهجية، أنْ ينتبه طالب العلم، إلى المسألة التي يقرأها في فَهْم بلغةِ أهل العلم، وهذا يحتاج إلى شيء من التفصيل:(105/11)
ذلك أنّ لغة أهل العلم، بها ألفت العلوم فمن نظر مثلا في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بما يفهمه من لغته الدارجة أو من لغة الجرائد أو من لغة الثقافة العصرية، فإنّه سيخطئ في كثير من المسائل، في فهمها، في فهم مراد شيخ الإسلام من كلامه، لأنّ أهل العلم على اختلاف العصور دونوا العلم بلغة العلم، لم يدونوا العلم بلغتهم في زمانهم حتى يتواصل العلم ويلحق الآخر بالأول في فهم العلم، فإذًا العلم له لغة، العلم له مصطلح، العلم له ألفاظ، يجب أنْ يفهم العلم بالوعاء الذي احتوته تلك الألفاظ، فالألفاظ وعاءٌ للمعاني فكل لفظ، في كتب أهل العلم لا يسوغُ أنْ يفهم بما عند القارئ من المقررات السابقة، لأنّه إذا فهمه على هذا الأساس فإنه سيفهم العلم على غير مراد أهله، وهذه مهمة جدًّا، وإنما تدرك بطلب العلم عند أهل العلم، كيف أو ما مراد العلماء في الفقه بهذه الكلمة؟ و هذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ ما مرادهم في العقيدة بهذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ وهذه الكلمة؟ ما مرادهم في النحو؟ إلى آخره.
فألفاظ العلم ألفاظ رعاها العلماء، وهكذا ينبغي على كل طالب علمٍ درّس أو تلقى العلم أنْ يجتهد في التعبير عن العلم بلغة أهله، فإنْ عبر عن العلم بغير لغة أهله، فإنّه لن يكون متصلا مع من سبقه بسبب وثيق، وكذلك من فهم كلام أهل العلم على غير ما تقرره لغة أهل العلم، فإنه لن يدرك.
الضابط الرابع من الضوابط العامة: أنّ كتب أهل العلم المطولة والمتوسطة والمختصرة، تحتاج من القارئ ومن طالب العلم إلى تدوين للمهم منها، فالقراءة وحدها غير مجدية، فلابد مع القراءة من تدوينٍ وكتابة، وكم سمعنا في كتب أهل العلم، وفيما خلّفوه مختصرات للكتب، تجد مثلا العالم الفلاني اختصر الكتاب الفلاني، واختصر الكتاب الفلاني، واختصر الكتاب الفلاني، لمَ؟(105/12)
هل هو رغبة في الاختصار من حيث هو؟ لا، الاختصار نوعٌ فهمٍ للمختصر، ولذلك انتخاب طالب العلم من كتب أهل العلم ما ينفعه في فهم العلم هذا مهم فتأخذ مثلا في قراءتك في المختصرات أو في المطولات تأخذ الفوائد لتجعلها في كُنَّاشَةٍ مستقلة، في دفتر مستقل، وهذه الفوائد تترقى معك، بترقي عمرك في طلب العلم، فستجد يومًا ما بعد سنين عددا، أنّ ما كتبته في أول الطلب مع أنه كان عندك أعَزّ من بيضِ الأنُوق في الفائدة، ستجد أنّه لا شيء، لأنّه صار عندك واضحا جدا، بحيث إنك تقول كيف كتبت أول عمري هذه الفائدة فمثلا واحد يكتب الفرق بين السنة والمستحب، بعد سنين يرجع كيف أنا أفرق بين السنة والمستحب!! يعني هذه المسألة واضحة ما تحتاج إلى أنْ تكتب فائدة، من كتب أهل العلم، مثلا يكتب هل المباح من الأحكام التكليفية أو خارج عن الأحكام التكليفية، فائدة ينقلها من كتاب أصول أو كتاب قواعد، وهذا يجد في يوم ما أنّ هذه المسألة لا تستحق أنْ تدون.
القواعد انقسامها إلى قواعد كلية وإلى قواعد جزئية، والجزئية انقسامها إلى كذا وكذا في قواعد الفقه، هذه سيكتبها يوما ما ثم بعد ذلك يقول هذه لم أحتج أنْ أكتبها، لظنه أنها صارت واضحة عنده، فمن سهولتها قال لا احتاج إلى كتابتها، وهذا غير صحيح فإنما تتضح بالانتخاب، يعني أنّك إذا قرأت كتابا، فاجعل دائما بجنبك الدفتر والقلم، واكتب الفوائد التي تمر بك، اكتبها تارة بالعنوان، ترجع إليها في وقت فراغك وتملي، وتارة تكتبها بالتفصيل حتى تراجعها مرّةً وثانيةً وثالثةً، فإذا اتضحت، صار ما بعدها من العلم أيسر، كما تعلّم الصغير ألف باء تاء ثاء، فإنّ العلم كذلك يحتاج إلى تعود، هذه بعض الضوابط العامة في قراءة كتب أهل العلم بعامة.(105/13)
وسبق أنْ ألقيت كلمة بعنوان: ((كيف تقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية))، مؤلفات شيخ الإسلام العقدية، ومؤلفات شيخ الإسلام الفقهية، سواء من الرسائل والقواعد والأصول في هذا العلم أو من هذا العلم، أومن الكتب الكبار، ((كيف تقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية)) هذه آمل أنْ يرجع إليها الأخ لأنها تفصيل وهي طويلة بعض الشيء، تفصيل لضوابط عامة في قراءة كتب شيخ الإسلام رحمه الله، وهي تنطبق أيضا في جمل منها على غالب كتب شيخ الإسلام.
إذا تبين ذلك، فالقسم الثاني ممّا يحتاج فيه إلى تبيين المنهجية، التفصيلات بالنسبة للفنون، يعني كيف نقرأ كتب التفسير، كيف نقرأ كتب العقيدة، كيف نقرأ كتب الفقه، كيف نقرأ كتب الحديث إلى آخره، تلك ضوابط عامة، ونأتي الآن إلى ضوابط خاصة لكل فن من الفنون.
نبتدئ بالتفسير لأنّه شرح كلام الله جلّ وعلا، وفَسْرُه، وبيان تأويله، التفسير لا شك أنّه من العلوم المهمة بل هو أصل العلوم، لأنه فقهُ القرآن والله جلّ وعلا قال لعباده: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، {كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} والآيات في الأمر بالتدبر متنوعة، التفسير كتبه منها المختصر ومنها المطول لكن كيف يترقى طالب العلم في فهم التفسير، كيف يقرأ كتبه منهم من يقرأ المطولات من كتب التفسير دائما وهذا ينطبق عليه ما ذكرناه قبل ذلك.
المنهجية العامة لتحقيق هذا العلم، أنْ ترتب القراءة فيه على هذه المراتب:(105/14)
أما المرتبة الأولى: فهي معرفة الوجوه والنظائر في التفسير، فالتفسير بيان لمعاني القرآن، القرآن ثمَّ فيه كلمات كثيرة تكررت في السور فقد تكون الكلمة لها معنى في سورة البقرة، والمعنى نفسه في سورة آل عمران وتمشي إلى آخر المصحف، وهذه ما تسمى بالكلمات ذات المعنى الواحد، وهناك كلمات لا، الكلمة واحدة ولها عدة معاني في القرآن، وهي التي تسمى الوجوه والنظائر أو الأسماء المتواطئة والمُشْتَرَكَة، معرفة المفردات هذه مهمة، ومعرفة المفردات تكون بقراءة كتب الوجوه والنظائر، وكتب مفردات القرآن، أما الوجوه والنظائر فمن أمثَلها كتاب ابن الجوزي رحمه الله: ((الوجوه والنظائر)) وهو من الكتب المفيدة في هذا الباب، يقول لك مثلا: كلمة ((السماء)) جاءت في القرآن على معنيين، ((الأرض))، جاءت في القرآن على ثلاثة معانٍ، ((الدابة)) جاءت في القرآن على كذا معنى، ويقدم قبل هذا بمقدمة يبين لك فيها الأصل العام لمعنى هذه الكلمة.
الخُطوة الأولى إذًا في قراءة التفسير أنْ تطلب معنى الكلمات التي يكثر ورودها في القرآن لأنّك إذا ضبطت هذه الكلمات فإنها تتكرر في التفسير فتريح قلبك وعقلك من دقة النظر والحفظ حين قراءة كتب التفسير، وتروح تهتم بشيء آخر، وكذلك مفردات القرآن، ومن أمثلها على غلطٍ عنده في الاعتقاد، وانتمائه إلى مذهب المتكلمين، كتاب ((مفردات القرآن)) للراغب الأصفهاني، وهو من أمثل الكتب في معرفة معاني المفردات.
المرتبة الثانية: في قراءة كتب التفسير أنْ ترجع في التفسير إلى اشتقاق الكلمات يعني أنْ تضبط الكلمة هذه من أين اشتُقَّت في اللغة، وتبحثها بحثًا لُغَويا لأنّ بحث الكلمات بحثا لغويا، يقوي الملكة وما يحفظ والمحفوظ في علم التفسير.
المرتبة الثالثة: أنْ تنظر إلى كتب التفسير، وكتب التفسير كما هو معلوم منقسمة إلى مدرستين:
- مدرسة التفسير بالأثر.(105/15)
- ومدرسة التفسير بالرأي، ومدرسة التفسير بالرأي أيضا لها عدة أقسام منها ما هو من ثوابت الرأي المحمود، يعني الاجتهاد والاستنباط، المقبول، الذي له أُسُسه، المقبولة شرعا، ومنها ما فسر القرآن برأي مجرد يعني بغير حجة، إما في الاعتقاد أو في غيره.
فكتب التفسير إذًا على قسمين كتب التفسير بالأثر وكتب التفسير بالرأي، كتب التفسير بالأثر، نعني بها الكتب التي تمحظت في نقل الآثار، فيأتي في التفسير هذه فسرها ابن عباس كذا وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير مثلا، وابن مسعود وعلقمة إلى آخر ذلك، به قال فلان وفلان وفلان يعني نقل أقوال السلف في التفسير تسمى التفسير بالمأثور، من المهم الطالب العلم، قبل أنْ يقرأ في كتب التفسير بالرأي المحمود، مثل تفسير القرطبي، أو تفسير الألوسي أو تفسير كذا وكذا من الكتب، سواء كانت من مدرسة التفاسير الفقهية أو الموسوعية، قبل أنْ يقرأها لابدّ أنْ يطالع قول السلف في التفسير لمَ؟
لأنّه من المتقرر عند أهل العلم بعامة أنّه لا يجوز أنْ يعتقد أنّ صوابا في مسألة من مسائل التفسير يحجب عن الصحابة والتابعين، ويُدْرِكُ هذا الصواب من بعدهم؛ لأنّهم هم الذين نزل عليهم التنزيل، أعني الصحابة، فنقوله إلى من بعدهم، فكل تفسير يضاد، -وألحظ أنني أقول يضاد، ولا أقول يخالف- تفسير السلف فإنه قطعًا غلط؛ لأنّه لا يجوز أنْ يُعتقدَ أو يظنّ أنّ ثمة صوابا في التفسير يُحجب عن سلف هذه الأمة لأنه لا يجوز أنْ نقول أو نظن أنّ كلمة من القرآن جهلها الصحابة وأدركها من بعدهم، فسرها الصحابة بتفسير ويأتي المتأخر فيفسرها بتفسير مضاد له ويكون الصواب مع المتأخر هذا قطعا ممتنع.(105/16)
ولهذا نقول في أساسيات قراءة كتب التفسير أنْ تبدأ بقرأءة التفسير بالمأثور، قبل التفسير بالرأي، أنْ تطالع آثار السلف في الآية، قبل أنْ تنظر في اجتهادات المتأخرين التي تكون مبنية على العلوم المختلفة، النحو ومفردات اللغة وأصول الفقه إلى غير ذلك... كتب التفسير بالأثر متدرجة، عندك صحيفة علي بن أبي طلحة التي ذكرنا مهمة انْ تقرأ تفسيرها أول ما تقرأ ثم تفسير عبد الرزاق وهو مطبوع في أجزاء قليلة، ثم تفسير ابن جرير، تفسير البغوي، تفسير ابن كثير إلى آخره، هذه مدرسة التفسير بالأثر ثم مدرسة التفسير بالرّأي يعني بالاجتهاد والاستنباط، وأكثرهم استخدموا علوم الآلة يعني اللغة والمفردات في التفسير هذه وهذه فإذا ضبطت أقوال المفسرين ومشيت ومعها خَطوة فخطوة، ترجع إلى التفسير بالرأي -لا بأس-، يكون عندك منهجية صحيحة تدرك بها الصواب من غيره في التفسير.
العقيدة كيف تُقرأ كتب الاعتقاد؟ العقيدة في الأصل واضحة هي بيان أركان الإيمان، {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}، فالإيمان بأركان الإيمان الستة سهل واضح تقبله الفطرة، لكن لما شاع الخلل في ذلك، ألّف أهل العلم كتبا في الاعتقاد، وهذه الكتب عند السلف على قسمين منها:
كتب أوردت الاعتقاد إيرادًا إجماليا، ومنها كتب فصلت كل مسألة من مسائل الاعتقاد، فألف في الإيمان وحده عدة مؤلفات، أُلِّفَ في القدر وحده عدة مؤلفات، ألّف في الكتاب -يعني في القرآن- عدة مؤلفات، وهكذا فإذًا كتب الاعتقاد، منها ما عرضت فيه العقيدة بعامة، ومنها ما عرض فيه موضوع من موضوعات العقيدة طبعا يمشي معك ما ذكرناه أولا من التدرج بقراءة المختصر ثم المتوسط ثم المطول من الكتب وهذا ذكرناه في محاضرة بعنوان: ((المنهجية في طلب العلم))، يمكن أنْ ترجع إليها بتفصيل إذا سرت في فهم مختصرات العقيدة، فهل هذه هي النهاية؟(105/17)
بعض طلبة العلم يرى أنّ الأكثر فائدة أنْ يقرأ في الكتب المطولة في العقيدة، يقرأ مباشرة في فتاوى شيخ الإسلام، يقرأ مباشرة في في (الإيمان) لابن منده، يقرأ مباشرة في كتاب (التوحيد) لابن منده، مثلا أو الكتب المتقدمة أو في (الشريعة) للآجري أو في كتاب اللالكائي، وهكذا، وهذه الكتب لا شك أنّها أصلت مذاهب السلف لكن مذاهب السلف وأقوالُهم تفرقت بحيث إنّ المؤلفين الأقدمين لم يجعلوها متواليةً في انضباطٍ تأليفي واضح في مؤلفاتهم القديمة، فأتى المتأخرون من أهل العلم والسنة، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة، وغيرهما، أتوا فلخصوا هذه العقائد في كتب مختصرة ومتوسطة لابدّ لفهم كلام السلف من فهم هذه الكتب، فإذًا الطريق إلى فهم المطولات، أنْ تفهم مختصرات الاعتقاد، مثل (الواسطية) لشيخ الإسلام و(الحموية) و(لمعة الاعتقاد) لابن قدامة وهكذا في كتبٍ كثيرة مختلفة إذا ضبطت الكتب هذه، يمكن أنْ ترجع إلى الكتب المتقدمة على ثلاث مراتب:(105/18)
المرتبة الأولى: أنْ يكون الاطلاع على المطول عند تقرير المسألة المختصرة، يعني مثلا، تأتي مسألة الإيمان في العقيدة، هل الإيمان قول وعمل واعتقاد أم أنّه قول واعتقاد دون عمل؟ المسألة المعروفة بالخلاف ما بين أهل الحديث والسنة ومرجئة الفقهاء، الفرق بين هذا وهذا يكون في الكتب المختصرة لَمْحَة عنه، لكن تفصيله يكون في المطولة، إذا احتجت إلى تفصيله تذهب إلى الكتب المطولة بخصوصها، هذه المرتبة الأولى، ويتبع هذه أنْ تنتقل من مرتبة المختصر بعد إحكامه إلى المطول بعامة، يعني إذا قرأت مثلا العقيدة وضبطتها -على المنهجية فيها- بقراءة المختصر ثم المتوسط إلى آخره على نحو ما سبق إيضاحه، فإنك تنتقل إلى كتب المتقدمين لقراءتها من أولها إذا ضبطت شروح الكتب المتأخرة فإنْ كتب المتقدمين ستَنْزِلُ كل مسألة منها منزِلها، أما إذا أخذت كتب المتقدمين دون النظر في قواعد المتأخرين التي ضبطوا بها الاعتقاد، فإنه سيكون ثم خلل كبير في فهم منهج أهل السنة وعقيدة أهل السنة، -مثال ذلك-: ما ورد في بعض كتب أهل السنة من الكلام على أبي حنيفة الإمام، رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة، هذا. لو أقبل مقبلٌ على كتب العقيدة الأولى مثل بعض كتب السنة ونحو ذلك لوجد فيها كلامًا على هذا الإمام، لم يقله أئمة أهل السنة المتأخرون، وإنّما هجروا هذا الكلام وتركوه، فلا ترى مثلا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية مقالةً سيئة في الإمام أبي حنيفة رحمه الله، مع أنّ كتب السنة المتقدمة فيها من هذا الكلام وفيها الكلام عمّا فعله وعما فعله... إلى آخره، أما الكتب المتأخرة فلا تجد فيها ذمّا للإمام أبي حنيفة رحمه الله بما في كتب الأولين، بل هُجِر ما في كتب الأولين، وقُرِر ما يجب أنْ يقرر تباعًا لمنهج أهل السنة بعامة، لأنّ المسألة تلك كانت لها فتوى بظروفها وزمانها إلى آخره، فألف شيخ الإسلام رحمه الله ((رفع الملام عن الأئمة الأعلام))، ومنهم أبو حنيفة، مع(105/19)
أنّ قوله في الإيمان معروف وقوله في كذا معروف لكن كما قيل في حقه إنّه لا يُنْظر فيه إلى هذه الأمور، لو قرأ قارئ في الكتب المتقدمة قبل المتأخرة فإنه سيحصل عنده خلل في الفهم، من أين يأتي الخلل؟
يأتي الخلل من جهة أنّ كلام السلف له بساط حال قام عليه إذا لم يَرْعَ المتأخرُ بساط الحال الذي قام عليه كلام السلف فإنه لن يفهم كلام السلف، يعني أنْ تعرف حال ذلك الزمان، وما كان فيه من أقوال، ومن مذاهب، ومن فتن إلى آخر ذلك، فينبني كلامهم على ما كان في ذلك الزمان، لكن المتأخر لما ترك، علمنا أنه تركه لعلة، ولهذا مثلا لما طبع الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله، ومعه بعض المشايخ في مكة لما طبعوا كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله لم يروا بأسا من أنْ ينتزعوا منه بابًا كاملا، وهذا لأجل المصلحة الشرعية التي توافق منهج أهل السنة والجماعة فانتزعوا فصلا كاملا متعلق بأبي حنيفة رحمه الله وبأصحابه، وبالأقوال التي فيهم وذمهم أو تكفيرهم، إلى آخر ذلك، انتزعوه لمَ؟
هل انتزاعه كما قال بعضهم إنّه ليس من أداء الأمانة؟ لا بل هي أمانة، لأنّ الأمانة التي أُنيطت بنا ليست هي أمانة قبول المؤلفات على ما هي عليه، وإنما هي أمانة بقاء الأمة على وحدتها في العقيدة وعلى وحدتها في المحبة، فإذ ذهب ذاك الكلام مع زمانه فإنْ تكراره مع عدم المصلحة الشرعية منه لا حاجة إليه، وهذا لا شك أنه من الفقه المهم.(105/20)
بعض كلمات السلف في المبتدعة، بعض كلمات السلف في أهل الأهواء لها بِساطُ حال في الزمن الأول، وليس ذلك منطبقا على بساط الحال في الزمن هذا، ولذلك ترى أنّ بعضهم أخذ من تلك الكلمات كلمات عامة فطبقها على غير الزمان الذي كان ذلك القول فيه، ولو رأى كلام الأئمة الحفاظ والمحققين من أهل السنة، لوجد أنّه يخالف ذلك الكلام في التطبيق، أما في التأصيل فهو واقع، هذا استطراد لبيان أهمية قراءة كتب المتأخرين من أهل السنة في الاعتقاد وإِحْكامها قبل إدمان النظر في كتب السلف؛ لأنّ إدمان النظر في كتب السلف دون معرفةٍ بقواعد أهل السنة التي قعّدها أهل السنة والجماعة المتأخرون فإنّ هذا يعطي خللاً في فهم منهج السلف بعامة، وهذا له أمثلة كثيرة ربما تحتاج إلى وقت طويل.(105/21)
المرتبة الثانية: معرفة أقوال المردود عليهم من كتبهم، هذا الآن منهجية للمنتهين ليس للمبتدئين في طلب العلم، يعني بعد أنْ يحكم الأصول والمختصرات، ويضبط كلام السلف، ينتقل بعدها إلى معرفة أقوال المردود عليهم من كتبهم؛ لأنّه لا يسوغ أنْ تقبَل ردًّا على مردودٍ عليه بعامة، دون أنْ تسمع أو تقرأ كلام المردود عليه إلاّ إذا كان الناقل له ثقة وهذا لا شك أنّه يكفي لكن قراءة الكتب التي منها أخذت الأقوال توضح لك المراد. فتجد مثلا أنّه يقال قال فلان كذا، ومذهب مثلا الأشاعرة في المسألة كذا، وإذا نظرت كتب القوم وجدت أنّ لهم تفصيلا، لم يحتج المؤلف إلى ذكره في هذا الموطن لكن القارئ فهمه على الإطلاق، فيحصل هناك لبس في فهم مذهب القوم، نعم نحن لا ندافع عن أهل البدع لكن الله جلّ وعلا أوجب علينا أنْ لا يجرمنّا شنئان قوم على ألا نعدل، كما قال سبحانه: {ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أنْ لا تعدلوا}، والمتخلص من هواه يكون متخلصا منه في العلم أولى منه في الحُكْمِ وفي الرأي؛ لأنّ العلم يحتاج إلى تجرد ومن تجَرَّدَ في العلم أقبل على الله بقلبٍ سليم، فينظر مثلا في أقوالهم، في القول من حيث هو حتى إذا أتى من يردّ على من ردّ عليهم، فيقول لا هذا ليس في كتبنا، فتكون أنت عنده بالحجة الدامغة يعني من كان منتهيًا في طلب على العقيدة يقول لا مذكور في الكتاب الفلاني كذا وكذا، مثل المسألة التي كثيرا ما نمثل بها، مثلا، نقول: المتكلمون والأشاعرة والماتريدية إلى آخره يرون أنّ التوحيد الذي هو الغاية هو توحيد الربوبية، لا توحيد الإلهية، يعني من آمن بوجود الله جلّ وعلا وأنّه هو القادر على الاختراع وأنّه هو الخالق هذا يكفي في تحقيق (لا إله إلاّ الله)، فيأتي قائل، فيقول هذا ليس بصحيح، ليس عند علمائنا من الأشاعرة أو الماتريدية إلى آخره ليس عندنا هذا الكلام، وإنما أنتم ترددون كلامًا، تبعًا لعلمائكم لا تدرون معناه، فتقول له إنّ كتبكم(105/22)
المختصرة مثل ما في السنوسية المعروفة بأصول مذهب الأشاعرة أو عقيدة الأشاعرة، قال فيها ما نصه: ((فالإله هو المستغني عن ما سواه المفتقر إليه كل ما عداه فمعنى (لا إله إلا الله) لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرًا إليه كل ما عداه، إلاّ الله))، فهنا تقوم أنت بالحجة الواضحة البينة، ثم الحظ أيضا أنك قد تنقل كلاما عن متقدم ردّ به على من تقدمه، ولكن يكون في المذهب عند المتأخرين غير ما ذكره الإمام الأول عمن تقدمه، فتكون أنت تقول كلاما يأتي صاحب المذهب المنحرف يقول: ليس عندنا كذا، وقد يشكك الناس ويرد، مثل ما حصل فعلا في عدد من المؤلفات الموجودة، فإذًا طلاب العلم المحققون الذين يزاولون التأليف بخاصة هذا لابدّ لهم أنْ يرجعوا إذا أرادوا أنْ يألفوا، وخاصة في الردود أنْ يرجعوا إلى أصول كتب الناس حتى يرووا الكلام فيها نصا حيث يكون مع ذلك القيام بالأمانة، ونقل الأقوال كما فيها، لكن أعود فأنبه أنّ هذا ليس إلاّ بعد الإحكام في الاعتقاد، لا يصلح الرجوع إلى كتبهم للمبتدئين ولا أوصيكم جيمعا بالرجوع إلى كتبهم لكن من أراد أنْ يردّ ردا صحيحًا أو أنْ يكون ذا منهجية كاملة في ذلك، فلابدّ أنْ يسير على هذا النحو.
المرتبة الثالثة والأخيرة: الاطلاع على فتاوى العلماء في العقيدة، كثير من المسائل تنظيرية في كتب الاعتقاد سواء أكانت كتب الاعتقاد المتأخرة أو كتب الاعتقاد المتقدمة، تنظيرية من الذي يطبقها على الواقع؟ المحققون من أهل العلم والراسخون من أهل العلم، فالاطلاع على فتاوى العلماء، ينقل تلك المسائل من كونها نظرية إلى كونها على بساط الحال، وبساط الواقع، فإذا المرتبة الثالثة في منهجية قراءة كتب العقيدة، أنْ ترجع إلى الفتاوى في المسائل، لتربط ما بين ما هو موجود في كتب التوحيد وما هو موجود على الواقع.(105/23)
العلم الثالث، علم الحديث وعلم الحديث التدرج فيه معلوم بأنْ تُحفظ الكتب المختصرة كالأربعين النووية ثم العمدة عمدة الحديث، ثم البلوغ، بلوغ المرام، أو أنْ ينتقل من الأربعين النووية إلى البلوغ مباشرة، وينتقل بعدها إلى المنتقى إلى آخر ذلك، وهذا واضح في التدرج العام في طلب علم الحديث، لكن كتب الحديث، تحتاج منك إلى منهج واضح في قراءتها، وأعني بكتب الحديث هنا شروح الأحاديث، أما كتب الحديث التي هي المتون فهذه موجودة في الشروح، شروح الأحاديث مختلفة بحسب اختلاف المؤلفين، وبحسب اختلاف الكتب، فشروح البخاري كما هو معلوم متنوعة، شروح مسلم متنوعة، شروح أبي داود متنوعة، ولكن هناك صبغة عامة على هذه الشروح، يمكن أنْ تنضبط إذا سرتَ عليها بضابط ومنهجية مقبولة في قراءة كتب الحديث ، الأول من هذه الضوابط في قراءة كتب الحديث بخاصة أنّ المسألة الفقهية التي ذكرت في كتب الحديث يكون تفسيرها في شرح الحديث بحسب مذهب الشارح، فإذا أراد الشارح -مثلا- أنْ يعرِّف المرابحة، فسيُعَرِّفُها بما عند أهل مذهبه إذا أراد أنْ يعرِّف مثلا العروض في زكاة العروض، فسيعرفها بما عنده في مذهبه، إذا أراد أنْ يبيّن معنى الفقير والمسكين، سيبينها بما عنده في مذهبه إلاّ أنْ يكون محققا، يتوسع في كل مسألة وهذا نادر أنْ تجد من يتوسع في كل مسألة من جهة التفسير، فإذًا تفسير الكلمات تفسير المسألة، صورة المسألة، هذه ينبغي أنْ تؤخذ من كتب الفقه لا من كتب الحديث، وهذا ضابط منهجي مهم، لأنّك ترد على هذه المسألة في شروح الأحاديث، وضبط المسألة بتصويرها وبيان ما يتعلق بها ليس من واجبات الشارح، وإنّما هي راجعة إلى الفقه ففي كتب الفقه ترى تفصيل الكلام على صورة المسألة وبيان ما عليها من الضوابط أو الشروط إلى آخره، تجدها هناك، فإذًا قبل قراءة مسألةٍ ما في كتب الحديث تنظر هل فسرها هذا الشارح بتفسير يستوعب الاستدلال أو يستوعب المذاهب جميعا، ويرجح(105/24)
فيها، أم هو ذكر تعريفا ومرّ عليه، بل ينبغي لك أنْ لا تقبل على كتاب حديث من حيث الشرح في مسألة من المسائل إلاّ وقد تصورتها فقهيًا، تصورت المسألة من حيث هي... ليس المقصود الحكم، تصورت المسألة من حيث هي في كتب الفقه، يعني مثلا أوقات النهي عن الصلاة، هذه إيضاحها يكون في كتب الفقه من حيث التعريف والضابط وتفصيل الكلام عليها يكون في كتب الفقه وكتب الحديث، هذه المرتبة الأولى، أي أنْ تأخذ صورة المسألة من كتب الفقه قبل قراءة شرح الحديث إذا كان شارح الحديث لم يستوعب الكلام على صورة هذه المسألة، وفي الغالب كما جربت وربما جرب الكثيرون منكم، أنّ شارح الحديث يعتمد على أنّ المسألة واضحة والصورة واضحة فيبدأ يتكلم عن حكمها اختلف العلماء فيها، استدل هذا بكذا وهذا بكذا، أما صورة المسألة فلا يأتي عليها ببيان.(105/25)
المرتبة الثانية: أنّ تلحظ أنّ كتب الحديث بعامة، أعني شروح الأحاديث منها ما هو تأصيلي، ومنها ما هو للمجتهد، فمثلا كتاب ((فتح الباري)) هذا للمجتهدين وإنْ كان يرجح فيه، لكن إيراده للخلاف وللترجيح وللمسائل بعبارة عالية جدًّا، من حيث صياغتها الأدبية، وصياغتها الفقهية أيضا، وغلط من قال، إنّ الحافظ ابن حجر، ليس من بابة الفقه، بل هو محدث فقيه وعبارته في ذكر الخلاف من أرفع عبارات أهل العلم لكنه يصلح للمجتهد الذي تصور الخلاف في المسائل، قبل ((فتح الباري)) فلهذا ترى مثلاً أنّ كتاب ((جامع العلوم والحكم)) هذا ينفع في تصوير المسائل وفي ذكر تأصيلاتها فيما ذُكر في الأربعين النووية للنووي رحمه الله، بعده يأتي شرح ((بلوغ المرام)) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المعروف، وشرحه يسمى ((سبل السلام))، لكن فيه مسألة ربما خفيت على كثيرين، وهو أنّ ((سبل السلام))، لم يؤلفه الصنعاني قصدا وإنما اختصر به كتابًا آخر لأحد علماء الزيدية وذلك الكتاب اسمه ((البدر التمام))، وهو موجود بكامله، فاختصر ((البدر التمام)) في ((سبل السلام))، وأضاف عليه بعض الأقوال، و لذلك تجد أنّ هذا الكتاب فيه عدم تحقيق في المسائل المنسوبة إلى الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله، أما الحنفية والشافعية فالغالب عليه الصواب، أما ما ينسب للإمام أحمد أو ينسب للإمام مالك، يعني من مذاهبهم فهذا تجد فيه هفوات كثيرة بسبب أنّ الأصل على هذا الأساس الأصل هو الذي نقل النقول الكثيرة، فإذًا في قراءة الكتب هنا من جهة العزو لا تأخذ العزو عن كتاب حديث، يعني قال الحافظ ابن حجر، ومذهب الإمام أحمد كذا، أو مذهب الحنابلة كذا، لا تأخذه منه لا تأخذه من الصنعاني، لا تأخذه من ((نيل الأوطار))، لا تأخذ قوله مذهب الشافعية كذا، ومذهب الحنفية من هذه الكتب، بل لابدّ من الرجوع إلى الكتب كتب المذاهب نفسها، لِمَ؟(105/26)
لأنّا وجدنا أنّ عزوهم للمذاهب يختل كثيرا وخاصة في ((سبل السلام)) و((نيل الأوطار)).
المرتبة الثالثة: أنْ تنتبه في قراءتك لكتب أهل العلم في الحديث وشروح الأحاديث إلى أنّ مؤلفي الشروح لا يشترطُ فيهم أنْ يكونوا محققين في كل فنّ من الفنون، فلا تظنّن أنّ شارح ((بلوغ المرام)) أو شارح ((نيل الأوطار))، أو شارح ((البخاري)) أو شارح ((مسلم)) أو شارح ((أبي داود)) أو ((الترمذي)) لأنه شرح كتاب حديث فهو محقق في كل المسائل التي شرحها، والواقع يخالف ذلك، فمثلا لو نظرت -هذا تمثيل لأجل كثرة الورود عليه- إلى كتاب ((نيل الأوطار)) للشوكاني لوجدت أنه في الأصول إذا أورد مسائل الأصول فهو يحققها لأنّه قويٌ في الأصول، أما إذا أتى لمسائل التخريج تخريج الحديث والرجال والحكم على الإسناد، فتجد فرقا كبيرا بين مستواه فيه ومستواه في علم أصول الفقه، فإذًا تعرف الميدان الذي يحقق فيه المؤلف ((الشارح)) فمثلاً عندك الصنعاني يميل إلى الظاهرية، ويتابع ابن حزم كثيرا في ترجيحاته وفي استدلالاته، ((نيل الأوطار)) من جهة استنباطه وإيراد الأدلة، واستعمال أصول الفقه، تجد أنّه يحقق في ذلك، ولأجل قوة تحقيقه وقع في مشكلات في بعض المسائل، لكن في التخريج في الرجال في الأسانيد إذا حكم هو ليس محققا في علم الحديث، وإنما هو ناقل ينقل في الغالب عن غيره، أو يذكر ما بدا له، فإذًا في منهجيتك في قراءة كتب الحديث يعني شروح كتب الأحاديث ينبغي بل يجب أنْ تعرف فنّ المؤلف ما هو؟ هل هذا المؤلف شرَحَ وفنه الرجال والأسانيد، شرح وفنه الفقه، شرح وفنه الأصول، شرح وفنه الاعتقاد، شرح وفنه اللغة، فإذا عرفت منهجه وعرفت فنه الذي يحققه، عرفت ميزة هذا الكتاب، وكيف تجعله في مرحليات القراءة، أما أنْ يُظَن أنّ كل شرح للأحاديث ففيه كلّ الصواب، فهذا ليس كذلك كما هو معلوم لهذا تجد أنّ بعض الخلاف يكون في كتب الفقه أقوى منه في بعض شروح الأحاديث، لم؟؛ لأنّه يكون(105/27)
المؤلف في شرح الحديث لم يحقق المسألة ويعتني بها كما اعتنى بها شارح الفقه كالنووي في ((المجموع)) أو الحافظ ابن قدامة في ((المغني)) أو ابن حزم إلى آخره.
أيضا من المنهجية المتقررة في كتب الحديث -ولا نطيل عليكم بهذا-، أنّ كتب الأحاديث يعني شروح الأحاديث الكبيرة، قل أنْ تسلم من غلط في العقيدة وسبب ذلك، ليس راجعًا إلى قصورٍ أو إلى بدعة في مؤلفيها بل كلهم حريصون على السنة لكنه راجع إلى عدم الاطلاع على ما في الباب من الآثار والسنن تارة، وراجع تارة أخرى إلى عدم الاطلاع على كلام المحققين في هذه المسألة، بل ربما وقع من بعضهم كلامات قبيحة في حق بعض الصحابة، وهذا لا شك أنّه لا يسوغ أنْ يقبله طالب العلم على إطلاقه، بل تعرف أنّ شروح الأحاديث فيها سمين كثير وصواب كثير، وفيها أيضًا بعض الغلط -يعني مثلاً- هل يجوز أنْ يُقرّ في شرح من شروح الأحاديث، لعن معاوية؟ لا يجوز، هل يجوز أنْ يقرَّ في شرح من شروح الأحاديث وصف عمر رضي الله عنه بالمسكين؟، أين يقع هذا المسكين من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل ما قال بعض الشرّاح، هل يتهم عمر رضي الله عنه بإحداث بدعة التراويح، كما في بعض الشروح، هل نجعل بعض الشروح مقبولة لأنّها شرح حديث لأجل مؤلفها وجلالته وإمامته إلى آخر ذلك، ونقبل كل ما فيها؟ الصواب: لا، الصواب الكامل ليس إلاّ عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن كان صوابه أكثر من أهل العلم، فهو الحري بالثناء، هو الحري بالإجلال؛ لأنّه اجتهد في أنْ يكون صوابه أكثر، وهذه مسائل راجعة عند كثيرين إلى مسألة الاستنباط والاجتهاد.(105/28)
ومن القواعد المقررة عند الفقهاء أنّ العالم لا يُتْبَعُ بزلته وكذلك لا يُتَّبَعُ على زلته، قال بعض العلماء: ((جعل الله جلّ وعلا لكل عالم غلطا إمّا في قول أو في فعل ويعلم الناس أنّه غلط في هذا حتى لا يرتفع عالم إلى مرتبة النبوة))، لا يمكن أنْ يعتقد في أحدٍ أنّه على الصواب التام لا يخطئ البتة، هذا ليس إلاّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهذا شروح الأحاديث ينبغي من جهة التوحيد والعقيدة، أنْ تنظر على احترام مؤلفيها والترحم عليهم، وعذرهم فيما أخطأوا فيه، لكن لا يتابعون على ذلك، نقول: أخطأ أو يقول العالم الراسخ أخطأ العالم، أولا يذكر أصلا أنّ فلان أخطأ؛ لأنّه ما من عالم إلاّ وله سهو، قد يكون غُلِبَ عليه ما حقق المسألة، تبع ما كان شائعا عندهم إلى آخر ذلك كما هو موجود عند كثيرين، فلابدّ أنْ تُلاحَظ مثل هذه المسائل في قراءة كتب شروح الأحاديث يعني أنْ تجعل العقيدة معك، فلا تتساهل في من يتكلم على الصحابة ولو كان من شراح الحديث، أو ينتمي إلى البدعة والخرافة، ولو كان من شراح الحديث، أو من يحسن البدع العملية ولو كان من شراح الحديث، فإنّ هذا لا يقبل منه ، وهو على نيته ونترحم على الجميع، لكن طالب العلم لا يقبل كل ما في الكتب المختلفة؛ لأنّ مؤلفها فلان وفلان بل يُنْظَر إلى دليلها وإلى موافقتها لقواعد السلف الصالح -رحمهم الله تعالى-.
لو أردنا أنْ نطيل لأخذنا الفقه وأخذنا الأصول والنحو والصرف إلى آخره، ولكن ذكرنا العلوم الثلاثة هذه، ((التفسير والعقيدة والحديث))، لتكون دليلا على غيرها والقواعد العامة، والضوابط العامة في أول الكلام ربما تمشي معك في قراءتك لأكثير الفنون.(105/29)
وفي الختام أسأل الله جلّ وعلا أنْ يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأنْ يقينا الزلل والعثار، وأنْ يجعل صوابنا أكثر من خطئنا اللّهم إنّا نستغفرك من سيّئاتنا وخطلنا وغلطنا ونسألك اللّهمّ أنْ تعفوَ عنا جميعا، اللّهم ارحمنا وارحم آبائنا وارحم أمهاتنا، اللّهم واغفر لنا جميعا، ونسألك اللّهم أنْ تصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأنْ تصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأنْ تصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللّهمّ وأصلح ولاة أمرنا ووفقهم اللّهم لما فيه الرشد والسداد، وباعد بينهم وبين سبل أهل البغي والفساد يا أرحم الراحمين، وفي الختام أيضًا أشكر الإخوة القائمين على فرع الوزارة في منطقة مكة المكرمة وعلى رأسهم مدير الفرع الأخ الدكتور حسن الحجاجي، على اعتنائهم بهذه الدروس والمحاضرات والدعوة، ولا شكّ أنّ هذا من الواجبات الشرعية المهمة التي أُنيطت بالمسؤول الأول ويؤديها واجبا شرعيا من جهة أخرى، فيؤديها على أنّها واجب ويؤديها على أنها مطلوبة شرعا، فإثراء البلاد بالدروس العلمية وبالدعوة والمحاضرات النافعة هذا لا شك أنّه أمر مطلوب شرعا، وأيضا مم تُيسر له السبل ولله الحمد في هذه البلاد المباركة فلهم منا الشكر الجزيل ودعائنا لهم ولنا جميعا بالتوفيق والسداد.
وصلّ اللّهم وسلم وبارك على نبينا محمد.(105/30)
الفرق بين العُقد و المُلح
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا أنْ يجعلني وإياك ممّن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر فإنّ هذه كما قال إمام الدعوة عنوان السعادة، وأسأله جلّ وعلا لي ولك الثبات على الحق والهدى وأنْ لا يزيغ قلوبنا بعد إذْ هدانا وأنْ يلهمنا ويوفقنا إلى الحق ويمنّ علينا باتباعه والالتزام به وأنْ يوفقنا إلى هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأحوال في حالتي الفقر والغنى وفي حالتي الرضا والغضب، وأسأله سبحانه أنْ يصلنا بحبله، وأنْ لا يقطع ذلك بذنوبنا، ثم إنّ هذه الدروس لأجل عدم حضور من كان العادة يحضر في درس كشف الشبهات، نقدم لهذه الدروس بمقدمة في العلم وطلبه كالعادة، لعلها أنْ تكون نافعة إنْ شاء الله.(106/1)
من المعلوم أنّ العلم قسمان كما يقول طائفة من أهل العلم منهم الشاطبي في أول الموافقات: ((العلم قسمان عُقَدٌ وملَح))، والعقد تعقد القلب مع العلم والملح لابد منها للمسير في طلب العلم واستمرار المرء بِعُقَد العلم يعني بقوي العلم وأصوله ومنهجيته دون مُلَحِهِ قد يجعل المرء يكسل أو يمل لأنّ النفس حُمظة تحتاج إلى أنْ تصقل وتزال بشيء من الملح ولهذا روى ابن عبد البر وروى غيره ابن شهاب الزهري الإمام المعروف كان إذا اعطى الدرس في الحديث وانتهى قال هاتوا من ملحكم هاتوا من أشعاركم هاتوا من أخباركم فيأخذوا: هذا يقص وهذا يقص ويروي هذا ويروي ذاك، فتأنس النفس بما ذكر ويكون لها نشاطًا فيما تستقبل. العلم عقدة هي الأصل هي الغاية ومُلَحُهُ وسيلة لهذه الغاية وسيلة لتقوية الذهن ولتوسيع المعارف؛ فعقد العلم أيضًا قسمان: علوم أصلية وعلوم صناعية أما العلوم الأصلية فهي التفسير والحديث والفقه والتوحيد (العقيدة) ونحو ذلك والعلوم الصناعية هي علوم الآلة، سميت صناعية لأنها كانت اصطلاحية جاءت بعد الأصول مثل مصطلح الحديث وأصول الفقه وأصول التفسير والنحو وعلوم العربية بعامة وأشباه ذلك.
هذه عقد العلم يعني أنّ هذه العلوم الأصلية والصناعية لابد منها لطالب العلم لاستكمال تفقهه في العلم وهناك علوم أُخر يحتاجها لتكميل بناء العلم وهي التي سماها طائفة ملح العلم من مثل قراءة التاريخ والأخبار والأدب والأشعار وتراجم أهل العلم والمناظرات وما أشبه ذلك، فهذه مُلح الاطلاع عليها مفيد لكن من جهلها فلا يضره الجهل بها في العلم، لهذا تجد من العلماء الكبار من قد لا يعرف بعض التراجم المفصلة أو تواريخ الوفيات لأهل العلم أو نحو ذلك، ولا يضيره هذا لأن هذا ليس من العلم الأصلي الذي به يكون المرء طالب علم أو عالمًا ولكن هذا من الملح.(106/2)
الفرق بين العقد والملح أن العقد لابد لها من رجال يُعَلّمون كيف تُفتح أو كيف تحل هذه العقد؛ لأنها عقدة تحتاج إلى حل، والعقدة مجتمع الشيء لتقويته وتحتاج إلى فكها حتى تعرف مسار الشيء إلى من يساعدك في هذا، والمساعد هم الرجال، هم أهل العلم، وهذا عن طريقين: طريق المشافهة يعني الدروس، أو عن طريق قراءة الكتب، وفتح المغلق منها عن طريق العلماء، ولهذا قال من قال من السلف: ((كان العلم في صدور الرجال))، يعني قبل أنْ يدون الحديث، قبل أن يدون التفسير، قبل أنْ يدون الفقه، كان العلم في صدور الرجال، ((ثم صار في بطون الكتب، وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال))، العلم انتقل من الصدور إلى الكتب، هذا صحيح ولكن المفاتيح بقيت بأيدي الرجال يعني بأيدي أهل العلم، الكتب قوة قريبة لك تراجع، تفتح، تنظر، تبحث، لكن مفتاح فهم كلام أهل العلم لابد أنْ يكون معك عن طريق أهل العلم؛ لأنّ كلام أهل العلم له اصطلاحه، له أصوله... الخ، فلابدّ من أخذه عن مُعَلّم.
اذن. فصارت العقد هذه أصول العلم التي ذكرنا بنوعيها لابد فيها من معلم، وإنْ كان المرء أخذ عن طريق الكتب فلابد أنْ يأخذها عن طريق معلم أو يسأل فيما يشكل منها ولكن لابدّ من معلم يفتح لك وتستفيد منه في ذلك مثل ما ذكرت لك المقولة: ((كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى بطون الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)).
أمّا العلوم الأُخر أو المُلح ملح العلم فهذه لا تحتاج فيها إلى عالم، تقرؤها ما شئت؛ لأنها علوم غير مقصودة لذاتها إلاّ فيما إذا كان المرء يريد التخصص، يريد أنْ يكون متخصصا في الأدب، في الشعر، في الأخبار، في التاريخ، فهنا يحتاج إلى أنْ يكون أخذه عن معلم؛ لأنّه يصبح في حقه من العلم المقصود لذاته لا المقصود قصد الوسائل.
تكامل شخصية طالب العلم في العلم لابد أنْ يكون فيها هذا وهذا، ولكن أيهما يغلب الآخر؟(106/3)
هل يغلب عليه اهتمامه بالمُلح بالتراجم بالأخبار بالقصص بالحكايات، بنتف العلم بالكتيبات التي تنشر بالفتاوى إلى آخره؟ أم أنّه يهتم بالعُقَد بأصول العلوم بالعلوم الأصلية والعلوم المساعدة (الصناعية)، ويكون ذاك مكملاً؟ يظهر مما ذكرنا أنّ الصواب في هذا أنّ الوسائل هذه يعني الملح لابد أنْ تؤخذ بِقَدرِها، وبقَدْرِها الملائم لما يكون معه تنشيط النفس في العلم فإنْ كان طالب العلم يعيش بالعلم القوي (العقد) بلا ملح، نفسه ستضعفُ بعد فترة ولا يستأنس بالعلم؛ لأن المُلح هذه كالملح في الطعام، تجعل المرء يقبل على الشيء ويزيد منه؛ لأنّ فيه أنسا وفيها ومعها انشراح النفس فيما يقرأ لأنها توافق الرغبة مثل قراءة التواريخ والتراجم والأشعار والأخبار وما شاكل ذلك.
الذي يحصل ونراه في طائفة من الإخوان الشباب أنّهم يُغَلِّبون المُلح على العلم التأصيلي، ولهذا تجد أنذ بعضهم عنده معلومات واسعة مختلفة لكن ليست مؤصلة، فهذه تكون بسبب غلبة الملح عليه، يعرف تراجم العلماء وأخبارهم وهذا كذا وهذا كذا وحصل منه كذا وفلان وفلان تناظرا وصار بينهما نُفرة، وهذا حكم... في أخبار طويلة... وأشعار وقصص وحكايات لكن أين هو من العلم في نفسه إذا كان قد أصّل نفسه في العلم وصارت هذه مساعدة له فيكون قد سار سيرًا صحيحا ولكن إذا غلبت عليه الملح وترك العقد ترك الأصول ترك العلم، فهذا يكون مهزوزًا يكون عنده الملح مقصودة لذاتها هذا خلاف سنة أهل العلم، سنة أهل العلم أنْ يكون هذا القسم ترويحيا يُنَشِّط المرء بدل أنْ يقضي وقته الذي يرتاح فيه في كيت وكيت، يُقضِّيه مع العلم لكن بشيء تنشط معه النفس وتأنس فيه الروح.(106/4)
كذلك السعي في أخذ العلم وحفظ المتون والقراءة الجادة بدون ملح هذه تسبب شيئًا من الهز والاهتزاز في نفسية طالب العلم؛ لأنّه لابد أنْ يكون عنده هذا وهذا، وإذا أخذ نفسه بالقوة دون الملح فإنه يكسل بعد فترة، وهذا مجرَّب، وكل طالب للعلم لنفسه مع العلم إقبال وتوسط وإدبار وهذا لابد منه، فإقبالها أنْ يكون نشيطا يجتهد في الحفظ يجتهد في المراجعة يجتهد في البحث بقوة وإقبال ثم يرى من نفسه أنه في فترة أخرى يريد يتنزه، يتنزه بمعنى يخرج يريد أنّه يتصل ما يريد يطلب العلم ما يريد يقرأ... الخ، هذا بسبب عدم توازنه في ما سار فيه، والذي ينبغي لمن أراد العلم وأراد طلبه أنْ يكون متوازنا فيه وأنْ يرعى حقوق النفس والنفس لها حقوق، ((وإنّ لنفسك عليك حقا وإنّ لأهلك عليك حقا وإنّ لربك عليك حقّا فأعطي كلّ ذي حقٍ حقه)).
المهم لطالب العلم أنْ لا ينقطع عن العلم ومن أسباب عدم الانقطاع أنْ يكون متوازنا فيما يطلب، يعني يكون عنده عناية بالملح التي تُنشِّط نفسه يأنس بأخبار وحكايات وطُرَف وهذه تطربه وهذه يستغرب منها وهذا موقف وهذه تقوِّيه أيضا في الكلام وفي سعة الإدراك والاطلاع على ما عند الناس وعند أهل العلم.
لذلك مثلا تجد ابن عبد البر مع مصنفاته العظيمة وهو إمام من الأئمة المشهورين مع مصنفاته العظيمة في شروح الحديث كالتمهيد الذي قال فيه لنفسه:
سمير فؤادي مُذ ثلاثين حِجةً
وصيقل ذهني والمفرِّج عن همي
يقتصد التمهيد هو المفرِّج من همه إذا نظر فيه تفرجت همومه لما يجد فيه من الأنس والإنشراح، تجد أنه صنف (التمهيد) وصنف (الاستذكار) وصنف (الكافي) في الفقه المالكي، وصنف الجامع المعروف، وصنف من جهة أخرى كتاب (بهجة المجالس)، في الأخبار والأشعار... الخ، شبيه (بعيون الأخبار) و(والبيان والتبيين)، و(العقد الفريد) لابن عبد ربه وأشباه هذه الكتب (بهجة المجالس)، كتاب يُكمل هذا، لماذا؟(106/5)
هل معنى هذا أنّ العالم الكبير يذهب إلى مثل هذا النوع من العلوم لأجل أنّ الوقت عنده لا قيمة له؟
لا، ولكن لأجل توازن نفسه مع العلم ولا يريد أنْ يخرج من العلم إلا إلى العلم، أما أنْ يخرج منه إلى لهوٍ كما يلهو الناس أو إلى فرجةٍ أو إلى حديثٍ أو إلى ما شاكل ذلك أو إلى علمٍ فيه أنس نفسه ويحصل معه المقصود ولا يخرج به عن الكتب وعن العلم فتجدُ أنّ طائفة من العلماء اعتنوا بهذا وعندهم عناية بالملح.
فإذن، عقد العلم وأصوله مهمة وهي الأصل وهي التي تقضى معها الأوقات ولابد لك أيضا من رعاية للملح وحفظ الأخبار والأشعار والأمثال وقصص ذلك وقراءة في شيء من كتب الأدب وقراءة في كتب التاريخ والتراجم... الخ، فهذه تقوي منك الملكة في العلم ويكون معك أيضا نشاط في العلم بسبب ما ذكر.(106/6)
فإذن نخلص من هذا إلى ضرورة التوازن، والتوازن ليس معناه التساوي لا، يُغَلَّب، يعطي كل ذي حقٍّ حقه، فتعطي أصول العلم حقها تعطي وسائل العلم حقها وتعطي الملح أيضا حقها، وهذا أنت تحكم به على نفسك، إذن طالب العلم يكون له في العلم إقبال وتوسط وإدبار وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ لكل شيء شِرَّة وإنّ لكلّ شرّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح ومن كانت فترته إلى بدعة فقد خاب وخسر))، يعني أنّه ما من شيء إلا له قوة إقبال شرة وقوةً وعنفوان وشدة، وله فترة ضعف بعد ذلك فمن كان ضعفه بعد ذلك إلى سنة يعني اقتصاد في المرء وسنة ومتابعة فهذا أفلح وأنجح، يعني ما كانت فترة إلى غير الهدى إلى معصية ومن كانت فترته إلى معصية فهذا خاب وخسر، وهذا يجعل طالب العلم ينتبه لنفسيته لا يخسر نفسه لأجل أنه ما أعطاها حقها، وهذا وجدناه من بعض الإخوان وطلبة العلم فإنّهم طلبوا العلم قليلا ثم بعد ذلك كَسُلوا السبب عدم التوازن، الرغبة كانت في الأول قوية لكن أتعب نفسه أتعب نفسه بغير توازن وظن أنه يمكن أنْ يأتيه كلّ شيء جملة مع قوة نفسه لا، النفس تحتاج إلى تدرج، {ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}، الرباني: هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره.
وهذا يحتاج إلى تدرج حتى المرء مع نفسه يحتاج إلى أنْ لا يأتيها جميعا ففي طلب العلم لا تأتي العلم مع كراهيته أو مع التوسط في قبوله، إذا كان لك إقبال فيه فكما قال الشاعر:
إذا هبتْ رياحُك فاغتنمها
فإنّ لكلّ عاصفة سكونُ
إذا وجدت في نفسك نشاطا في العلم أقبل واحفظ، وأكثر من الاطلاع والبحث ثم إذا خفت نفسك مع العلم فدعك في أمور لا تخرجك عن العلم ولكن تظل معه.(106/7)
هذه الجملة أيضا لها تفصيلات من جهة أنواع ما يسلكه المرء من المُلح وما ينبغي وما لا ينبغي وطلب العلم الجاد وأنه هو الأصل وهو الذي ينبغي للمرء أنْ يحمل نفسه عليه وأنْ يَجدَّ فيه وأنْ يتخلص من الشواغل التي تصرفه عنه.
المسألة الثانية في طلب العلم:
الاهتمام بالبحث وطالب العلم من أسباب حبِّه للعلم وإقباله عليه أنْ يكون متلقيا تارة وباحثا تارة أخرى إذا عاش دائما على التلقي دون أنْ يبحث دون أنْ يطالع يفتش يحرر المسائل يحقق في حديث في مسألة فقهية في تفسير آية يذهب ينظر الصحيح إذا لم يكن مدققا أو باحثا فإنّ نفسه ربما أسنت وربما ضعفت، البحث من أسباب قوة النفس والرغبة في العلم ولهذا نقول لابد لكل طالب علم أنْ يكون معه هذا وهذا يكون معه الاقبال الحفظ وحضور الدروس والمطالعة ومعه أيضا قسم آخر، البحث، والبحث ليس معناه أنه إذا بحث شيئا نشره بحث شيء يعني لأجل أنْ يطبعه ويظهر اسمه على ديباجة الكتب ليس هذا المقصود، بحثه ليقوي نفسه وما من أحدٍ من أهل العلم إلاّ وله بحوث في فترة طلب العلم والشباب لابد له فيها نظر.
وقد نبه على هذا النووي رحمه الله في أوائل كتابه ((المجموع شرح المهذب))، فإنّ في أوائله جملة جيدة من آداب العلم وحملة العلم وما ينبغي في ذلك البحث هذا الذي تكلم عنه ليس معناه تخطئة الناس أو تخطئة أهل العلم؛ لأن الباحث ولو جمع لك كلاما طويلاً من الكتب فإنه يظل باحثا ونظر العالم المحقق يختلف لأنّ هذا يكون إيراده بحسب ما اطلع لكن الذي لم يطلع عليه كيف يعرفه، القواعد العامة كيف يعرفها، الأصول التي تحكم مثل هذه المسائل فتجد أنّ منهم من يبحث بحوثا وربما بعض تلك البحوث طُبع ولكنه خرج بصورة لا يرضى عنها المحققون من أهل العلم لمَ؟(106/8)
لأنه اقتصر فيه على الجمع جمع كلام أهل العلم في المسائل وليس العلم بالنقل فقط ولكنه نقل واستنباط وفهم وتحليل فهذا مع هذا كما قال عليه الصلاة والسلام: ((رب ناقل فقه غير فقيه، ورب ناقل إلى من هو أفقه منه))، فالناقل قد يكون غير فقيه أصلا، وقد يكون عنده شيء من الفقه ولكن ثم من هو أفقه منه لا يوافقه على ما فقِهَ من هذا العلم.
فإذن إذا بحثت وصار عندك رغبة في البحث والتحرير وتدقيق المسائل في التفسير أو في التوحيد أو في الحديث أو في الفقه، فلا تظننّ أنّ هذا هو نهاية المطاف وأنّ ما وصلت إليه في بحثك هو الراجح وهذه هي المشكلة عند كثير من أساتذة الجامعات أنهم إذا حرروا المسألة ببحثهم فيها ظنوا أنّ هذا هو النهاية فرجحوا والراجح في نفس الأمر أو الصحيح عند المحققين من أهل العلم خلافه.
فلهذا تجد أنّ في أقوال بعضهم شيئا من الغرابة لخروجهم عن أقوال المحققين من أهل العلم، لأنه بحث والكتب موجود فيها كلّ شيء لو أردت أنْ أجمع ما شئت من الأقوال في أي قول ذُهب إليه لوجدت أنّ البحث يمكن معه أنْ تجمع ما شئت.(106/9)
وهناك قصة طريفة وإنْ كانت غريبة لكن تدلك على ما في طيّ هذا الكلام، كان هناك أحد الباحثين في رسالة للدكتوارة في الأزهر وأورد مذهب المعتزلة في مسألة خلق القرآن وسفهه ونقل نقولا يسيرة في الموضوع فالمناقش للرسالة، وكان أشعريا قال له: إنك أوردت هذين النقلين أو الثلاثة عن شيخ الإسلام وغيره في ردّ هذا القول لكن ما تقول في حجج القوم هم احتجوا بكذا وأورد الدليل الأول واحتجوا بكذا وأورد الدليل الثاني، واحتجوا بكذا ثالث رابع خامس عشرة عشرين إلى نحو الثلاثين من الأدلة التي يستدل بها أهل الاعتزال على خلق القرآن قال: فما ترد عليها، الطالب ما عنده ملكة في هذا الأمر فسكت فكان هناك حضور وأساتذة والطالب طبعا يمثل أنه من أصحاب العقيدة السلفية جاء من هذه البلاد فأحرجَ، قال: رُدَّ على هذا كيف تقول أنّ خلق القرآن قول ضعيف وأنّ هذا قول كذا رد على هذه الأدلة فلما لم يحرِّ جوابا، قال له المناقش: إذن إذا لم تستطع الإجابة عن هذه الإيرادات وهذه الاستدلالات فاسمع جواب أئمة الأشاعرة عليها، فأجابوا عن الأول بكذا، ردُّ في محله، والثاني كذا والثالث كذا... الخ.
نعلم أنّ الأشاعرة نفع الله جلّ وعلا بهم في رد حجج أهل الاعتزال فكانوا من أعظم الرماح في عنق المعتزلة فندوا شبههم وفندوا استدلالاتهم واحدة تلو واحدة.
المقصود من هذا أنّ هذا المناقش أورد هذه الأدلة جميعًا، كلها موجودة فأنت ممكن تورد ما شئت من الأقوال موجودة في الكتب لكن الكلام في فقهها وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ.(106/10)
فإذن من ليس عنده ملكة قوية في العلم فالبحث عنده لا يؤهله أنْ ينشر بحثه ولا أنْ يجيزه عند نفسه، ولو كان مكث فيه كذا وكذا وجمع من النقول في المسألة إلى آخره؛ لأنّه ثمَّ أشياء تفوته مثل هذا الطالب أورد عليه طيب هذه نقول كثيرة ردَّ عليها؟ ما استطاع أنْ يرد؛ فهكذا الذي يقرأ في الكتب قد يجد أقوالا هي ضد المذهب الصحيح أو ضد القول الصحيح ما يستطيع أنْ يحللها ولا أن يرد عليها لضعفه، فإذن البحث وسيلة لتقوية ملكة طالب العلم في العلم وليس البحث غاية في أنْ ينشر طالب العلم بحثه وأنْ يطبعه للناس وأنْ يُنشر إلاّ إذا أجازه عدد من أهل العلم ولا غرابة فالإمام مسلم صاحب الصحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري من أنفسهم رحمه الله لما صنف كتاب الصحيح، عرضه على مشايخ بلده فوافقوه واعترضوا عليه في بعض الأحاديث وما مكنه العمر أنْ يتم كتابه على نحو ما أراد بل وافته المنية كما هو معلوم قبل أنْ يحرر الكتاب كما يريد هو محرر في نفسه لكن كما يريد.
ولهذا وقع بالإجازة في مواضع بدون قراءة وهو الكتاب الوحيد من كتب أهل الحديث الذي فيه مواضع لم ينقلها أحد من أهل العلم ألبتة بالسماع عن مصنفه قطع رواها الراوي عن مسلم وهو ابن سفيان المعروف رواها بالإجازة قطع كبيرة منه ثلاث قطع متفرقة إنما رواها بالإجازة بلا سماع ما قرأها على مسلم ولا هو أيضا عرضها عليه وإنما أجازها له لأنه ما اكتمل.(106/11)
المقصود من هذا أنّ الإمام مسلم عرضه على مشايخ عصره فأقروا له وسلموا فنشر فلابد من العرض والعرض ليس معناه أنْ تعرض للبركة أو أنْ تعرض لتأخذ القبول لا، تعرض فإذا قيل لك: لا يصلح، فقل: هذا ما أردتُ، إذا قيل لك: هذا وهذا وهذا غيّره والغه، فتقول: هذا ما أردتُ، يعني أن تستفيد وهذا الذي ينبغي في مسألة البحوث لكن الأصل أنّ طالب العلم يبحث لا للنشر يبحث لنفسه فنفسية البحث هذه مهمة لأنّها تقوي طالب العلم ولابد أنْ يكون عندك دفتر تحقق فيه مسألة في التفسير، تجمع أقوال المفسرين والصحيح فيها تشوف كلام السلف وما يدور حول ذلك، مسألة فقهية، فتوى سمعت فتوى غريبة من أهل العلم تريد أنْ تنظر إلى اختلاف أهل العلم فيها فتبحث في ذلك حتى يستقيم العود في طلب العلم.
المسألة الثالثة والأخيرة نختم بها هذه الكلمات:(106/12)
أنّ طلب العلم يحتاج إلى نفسية خاصة يعني أنْ يكون طالب العلم دائما يتجدد مع نفسه في حبه للعلم وهذا لا يكون إلاّ بشيء وهو كثرة الاتصال بأهل العلم وسماع كلامهم والحرص على لقائهم وعدم تهجين أقوالهم لأنّ الذي يعترض على أهل العلم يُحرم وهذا كثير، وشاهدنا منه أشياء، فطالب العلم ينبغي له لاستكمال جوانب نفسه، أنْ يكون كثير الاتصال بأهل العلم لأنّ رؤية طالب العلم ونظره في الأشياء وتحليله للعلوم وتعامله مع العلم وتعامله مع الكتب وتعامله مع أهل العلم وأقوال أهل العلم ويعرضُ عليه مسائل ويسمع أراءه ويرى تصرفاته هذه تقيد طالب العلم في كثرة إدمانه عليه وإقباله عليه وفي ملازمة الصلة بأهل العلم، البعيد عن أهل العلم إذا انقطع عن نفسه، لكن الذي له صلة بأهل العلم إذا انقطع سألوا عنه وين راح؟! وش تغير في الأمر؟! ولماذا تركتَ؟! والذي حصل؟ فتكون صلته بهم مدعاة للمواصلة في طلب العلم، لكن لا يكون في اتصاله بهم ينظر نظر المعترض لأنه إذا كان ينظر نظر المعترض معناه أنه لن يستفيد منهم ولن يقبل، بل لابد أنْ ينظر ويصحب على الاستفادة لا المجادلة وكن حريصًا عن أنْ تسمع في مجالس أهل العلم أكثر بل أكثر وأكثر من أنْ تتكلم تسمع وتسمع وتُجمّع، تجمع في ذهنك تجمع أخبار وتجمع الفتاوى وتجمع الأراء وتجمع التحليلات والأقوال وما شابه ذلك حتى يكون لك بذلك إنْ شاء الله فرصة لأخذ العلم كما ينبغي، نكتفي بهذا القدر ونجيب على بعض الأسئلة في هذا.
أسئلة والجواب عليها
س1/ يقول بعض العلماء: ((لا تأخذ القرآن من مُصحفي ولا العلم من صَحَفي)) فما هو ضابط العلم هذا؟ وهل القراءة في كتب الفقه والتفسير والتوحيد الميسرة من ذلك ((حاشية كتاب التوحيد)) ((والقول المفيد))، و((الشرح الممتع)) و((تفسير ابن سعدي))، ((وابن كثير)) و((زاد المعاد))، ونحوها من الكتب الميسرة وما هي التي لا بد لها من شيخ ومعلم؟(106/13)
الجواب: لا تأخذ القرآن من مُصحَفي يعني ممن حفظ القرآن وقرأه من المصحف ما قرأه على شيخ لا تأخذ منه القرآن لأنّه يكون ولابد يفوته بعض الأشياء إما في الضبط أو في آداب التلاوة، أو في التجويد أو في الوقف أو نحو ذلك مما يتميز به القارئ عن غيره، سابقا قبل أنْ يكون هناك شكل للمصحف يعني شكل تام بالحركات في وقت مقولة هذه الكلمة كانت المصاحف بلا شكل بنقطٍ ولكن لم تكن مشكولة فكان يحصل فيها خلل وتصحيف حتى نسب لبعض الكبار من المشهورين تصحيفات في ذلك مثل ما يروى عن ابن أبي شيبة عثمان ومثل ما يروى عن غيره من تصحيفات في التلاوة بل قد ذكرَ لي بعض الثقات أنّ أحد الأساتذة في جامعة من الجامعات غير الشرعية كان يدرس مادة ثقافةأو شيء من هذا فأتى وهو يقرأ بسرعة، يملي عليهم أو عنده أوراقه التي يطالع فيها، قال: وقال تعالى: ((وإذ نتفنا الحبل فوقهم)) نقل لي الثقة هذا وكان حاضرا، يقول: فقلنا له: يا شيخ الآية في سورة الآعراف: {وإذْ نتقنا الجبلَ فوقهم كأنه ظلة} مااستسلم هو للحق، قال: لا. لا. فيها قراءات: ((وإذ نتفنا الحبل فوقهم)) فيها قراءات!! هذا من الاستهانة بالعلم... طيب تعلم هذا أو تخلصا؟ إنْ كان تخلصا هذا والعياذ بالله تتخلص أنت من التبعة، وتنسب شيء لـ... يعني عدم احترام للعلم... الخ المقصود هذا من جهة الصَحَفي من جهة أنه يقرأ وهو ما يعرف، مرة أيضا واحد في مكتبة أنا سمعته لا بل سمعه غيري وهو الذي حدثني بها يقول يسأل وهو جاء من غير هذه البلاد وهو ما يعرف القرآن وعنده ولد عليه سورة الظاهر يحفظها قال السورة... السورة... هو عنده منهجه يبدأ من سورة الهَمْزة... الخ، وهي سورة الهُمزَة... يبدأ من سورة الهَمْزَة... الخ!!
فمثل هذا هو الذي قيل في هذه الكلمة لا تأخذ القرآن من مُصحفي لأنه يدرس بالباطل وبالغلط.(106/14)
((ولا العلم من صحَفي)) وهي اصح من صُحُفي لأنّ النسبة للجمع لابد من إعادتها للمفرد، القاعدة في النسبة في النحو عند البصريين أنّ النسبة تكون للمفرد مثلا ستنسب للدول لا تقول دُوَلي وإنما تنسب إليه بالمفرد دَوْلَة، ترجع الجمع إلى مفرده ثم تنسب إليه فتكون النسبة دَوْلي ستنسب للصُحف لابد أنْ ترجعها إلى مفردها صحيفة فتنسب إليها صَحَفي.
في المدينة مدني وهذه هي القاعدة إلاّ في ما شذّ لأجل وقوع الالتباس مثل النسبة للمدائن -المدائن المعروفة- بالمدائني، وأشباه ذلك لأجل أنه لو أرجعت إلى أصلها مدينة ونسب إليها مدني لوقع الالتباس بين المدني نسبة إلى المدائن والمدني الذي هو نسبة إلى المدينة في بحث معروف في النحو.
المقصود أنّ صحتها صَحَفي بفتحتين وليس صُحُفي مثل ما هو شائع في الأخبار وفي بعض الجرائد إلى آخره.
((لا تأخذ العلم من صَحَفي))، يعني ممن قرأ في الكتب دون أشياخ لأنه سيرجح من عند نفسه سيرجح بناءً على ما قرأه والعلم لا يؤخذ هكذا العلم منه شيء للترجيح ومنه شيء للبحث الأقوال كثيرة وتنوع الأقوال وما أورده أهل العلم في شروحهم هذا طويل لكن منه شيء للإطلاع منه شيء لمعرفة ما قيل في المسألة للنظر لعله يكون له شواهد له قوة... الخ.(106/15)
فمن كان علمه من الصُحُف فإنه لا يكون على الجادة السوية بل لابد أنْ تجد عنده شواذ وعنده أغلاط يخالف بها أهل العلم، ولهذا عابوا على ابن حزم مثلا أشياء في مسائل الحجد، وهِم فيها وانتقدها ابن القيم في زاد المعاد وعقد لها فصلا طويلا، أغاليط ابن حزم في الحج لأنه ما حج أصلا، ولا تلقى كتاب الحج عن أحد من أهل العلم، وكذلك ابن القطان الفاسي العالم المشهور صاحب كتاب ((بيان الوهم والإيهام)) انتقده الذهبي وغيره بأنه لم يأخذ علم الرجال ولا علم الحديث عن المشايخ عن العلماء، لهذا وقع في أوهام وفي أشياء تفرد بها كثيرة ولهذا سلسلة العلم إذا اتصلت يكون الاجتهاد واقع في أصوله ما يكون بعيد، والذين خرجوا بأقوال شاذة في الأمة أو أقوال غريبة خالفوا بها قول المحققين من أهل العلم أو الجمهور لابد أنْ يكون فيهم هذا المَنْزَع أنهم فاتهم الأخذ عن الأشياخ في ذلك وهناك أمثلة في التاريخ كثيرة المرء يحرص على أنْ يستفيد من أهل العلم لأجل أنْ يكون طلبه للعلم على أصوله أما من أخذ من الصحف دون الأشياخ فإنّ هذا يكون عنده نقص إذا حصل أنه أخذ عن الأشياخ في أصول العلوم ثم توسع بالقراءة في الكتب فلا عيب، هذا سنة كثير من أهل العلم بل الأكثر من أهل العلم أنهم لا يظَلون أعمارهم يقرأون على المشايخ بل جملة من عمره يقرأ فإذا حصل الأصول وشهد له بذلك واستشار شيخه ممكن أنه بعد ذلك يترك القراءة للمشايخ ويأخذ يقرأ لوجود الأصول عنده الأصول في التوحيد والأصول في التفسير الأصول في الحديث وفي الفقه... الخ، يعني الأشياء التي يربط بها العلم وكما ذكرتُ لك في أول الكلام:
((كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى بطون الكتب ولكن بقيت مفاتيحه بأيدي الرجال)).
س2/ لو تكلمت أحسن الله إليك عن المراجعة والمذاكرة بين طلبة العلم؟(106/16)
الجواب: هذا مهمة لا شك أنْ يكون لطالب العلم صديق في مثل همته يكون بينه وبينه مراجعة في العلم يحفظ ويُسمِّع عليه ويتراجعان وإذا ضبط مسألة أو شرح حديث تناقشا فيه أو ضبطا باب فقه تناقشا فيه هذا يورد إشكال وهذا يورد وهذا يشرح شيء منه وهذا يشرح شيء منه كما كان العلماء السالفون بتذاكرون العلم المحفوظ والمفهوم.
ولما قدم أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي المعروف الإمام قرين أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، لما قدم بغداد في مدة مُكْثه في بغداد لم يصلي الإمام أحمد نافلة كان يقتصر على الفرائض فقيل له في ذلك، فقال: ((استعضنا عن النوافل بمذاكرة أبي زرعة))، فمذاكرة العلم تقوي العلم وتثبته، ويكون معها قوة في الإدراك والفهم والحفظ... الخ.
لكن بشرط أنْ يكون الذي تذاكر معه في نفس مستواك كي يفهم مثل ما تفهم وتشترك أنت وإياه في حفظ ما تحفظون متدرجًا، كذلك في الحضور على العلماء،
أسأل الله جلّ وعلا لي ولكم التوفيق والسداد؛ وصلّ اللهم وسلّم على نبينا محمد.(106/17)
الفكر و العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين أوضح المحجة وأبان السبيل للمؤمنين فندت بعد نزول القرآن وبيان سيد ولد عدنان واضحة المعالم بينة الأركان فالحمد لله الذي هدى وبيَّن والحمد لله الذي أرشد
وعلَّم وهو جلّ وعلا للحمد أهل ولا يعلم حقيقة ذلك إلاّ من رأى الشبهات في هذه الدنيا وما تؤول إليه ورأى كيف تكون منازل السعداء في الآخرة فإنما هي لمن أتى الله بقلب سليم سَلِمَ من الشبهات وسلم من كلاب الشهوات وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أمَّا بعد: فموضوع هذه المحاضرة بعنوان ((الفكر والعلم)) وإذا ذُكر الفكر فإنه يتبادر على الدهن ما شاع في هذا العصر مما يسمّى ((الفكر الإسلامي)) و((المفكر الإسلامي)) وهذا الاصطلاح (الفكر الإسلامي أو المفكر الإسلامي) .. هذا اصطلاح جديد في تاريخ هذه الأمة، فإن الأمة في تاريخها عرفت أنواعًا من الذين يتكلمون ويكتبون منهم أهل الاختصاص بالعلم إما المفسر وإما المحدث وإما اللغوي وإما الفقيه وإما المؤرخ أو الأديب أو الفيلسوف أو عالم الاجتماع إلى آخر أنواع العلماء والكتبة في تاريخ الأمة.(107/1)
أمَّا هذا المصطلح ((فكر إسلامي)) أو ((المفكر الإسلامي)) فإنه اصطلاح جديد ومعلوم عند أهل الشرع والمحبين للعلم وللديانة إنْ الأمور إنما توزن بالعلم لأن العلم نزل من عند الله جلَّ وعلا ليكون حاكمًا على الناس غير محكوم فإذا ظهرت اصطلاحات أو استجدت أحوال فإن المرجع في فهمها إنما هو إلى العلم فما هذه الصلة التي بين الفكر والعلم وهل هذا الفكر الذي يسمى ((فكرًا إسلاميًا)) هل هو ممدوح كله أو هو مذموم كله وكيف هي الصلة بين الفكر والعلم وبحوث متصلة بذلك من المهمات أن يتعرض لها لأنك ترى في هذا الزمن كثر الذين يتكلمون عن الإسلام باسم الفكر ومنهم من عنده أخطأ بسيرة، ومنهم من يسمى ((مفكرًا إسلاميًا)) وإنما هو مفكر ليس بالإسلام وإنما يفكر برأيه وبطريقته وبما يهوى فظهرت مدارس مختلفة في الفكر والتفكير وظهر مفكرون متنوعون وهذا الذي ظهر من الفكر والمفكرين وما يسمى ((بالفكر الإسلامي)) في العصر الحديث ظهر ونشأ ولظهوره ونشأته أسباب ومن أعظم أسباب ذلك كثرت الهجوم على الإسلام في العصر الحديث فإن ابتعاد قلب الأمة عن عقيدتها وتاريخها وعن حضارتها وعن ماضيها وعن مؤهلاتها نشأ في العصر الحديث مع المدِّ الاستعماري والمد الاستعماري كانت له وجهتان وجهة عسكرية وهذه ظهر منها الاستعمار والكُلُ يعلم عن حقيقة ذلك الاستعمار العسكري وله وجهة أخرى وهي الاستعمار الثقافي والتبعية الثقافية حتَّى صار في المسلمين من يكون تابعًا في فهم الإسلام لأعداء الإسلام وأولئك الأعداء تمثلوا في المستشرقين والمستشرقون لهم كتابات متنوعة في تحليل أهداف الإسلام وتحليل أحكامه وتحليل آرائه وتحليل تاريخه وتحليل قضاياه …إلخ ذلك فقام طائفة في البداية يتكلمون عن تلك المسائل التي طرقها المستشرقون أعداء الملة وأعداء الدين وأعداء هذه الأمة تكلموا عنها بنفس منطقهم لأجل أن يقنعوا الناس وأن تكون اللغة بينهم مَتَعارَفَة فلم يردوا عليهم بالعلم وإنما(107/2)
ردوا على أفكار المستشرقين غير الإسلامية بأفكار مماثلة في الصيغة وفي الاستنتاج والاستدلال والأخذ والعطاء والمراجع والمصادر ووسيلة الإقناع حتَّى صار ذلك فكرًا مقابلاً لفكر فظهر الفكر الإستشراقي وفي المقابل ظهر فكر آخر سُمِّيَ فيما بعد (الفكر الإسلامي) لأنه يقابل ذلك الفكر الاستعماري الاستشراقي ولهذا صار أول ما نشأ هذا الفكر ونشأ المفكرون راجعٌ ذلك إلى الدفاع عن الإسلام وإلى رد هجمات المستشرقين وهجمات أعداء الإسلام فكل من أراد أن يرد وكل من أراد أن يدافع من المثقفين أو من العلماء أو ممن عنده بدايات علم أو ممن عنده اطلاع وقراءة عامة كتب في الدفاع عن الإسلام حمية له وبيان لمحاسنه وردًا على المفتريات باسم الفكر ليسوا بعلماء ولكنهم كتبوا هذه الكتابات فظهر أنّ هؤلاء مفكرون إسلاميون منهم من تخصص في ذلك حتَّى غدا ما يكتبه وما يؤلفه في هذا المضمار وخُصوا بهذا الاسم ، باسم ( المفكرين الإسلاميين ) ومايكتبونه باسم (الفكر الإسلامي) لا شك أنه في هذا الجيل أيضًا يعني في القرن هذا ، القرن العشرين أو القرن الرابع عشر الهجري الذي سلف لا شك أنه ظهرت مشاكل متعددة في المسلمين ، مشاكل إعلامية مشاكل من جهة الالتزام بالدين والقناعة به مشاكل اقتصادية، شبهات تتعلق بالسياسة ، شبهات تتعلق بالاقتصاد شبهات تتعلق بتاريخ الإسلام ، شبهات تتعلق بموقف علماء الإسلام شبهات تتعلق بالنصوص وما مدى العمل بالنص؟ القواعد وما مدى العمل بالقواعد؟ وأصول الفقه .. إلى آخر تلك المسائل فظهرت مشاكل وشبهات في هذه الأمور فظهر أولئك المفكرون ليدلوا بدلوهم في بيان حقيقة ما عليه الأمة في هذه العلوم وذلك المضمار فظهرت كتابات متنوعة لا شك أن تلك الكتابات التي ظهرت تتطلب علمًا تتطلب معرفة، تتطلب ثقافة والجميع لو اجتمع لحصلت نتائج سليمة لكن خاض غَمْرَةَ ذلك لقصد نصرة الإسلام ولبيان حقائقه خاض غمرة ذلك من ليس عنده إلاَّ الثقافة أو(107/3)
عنده بعض المعلومات التاريخية أو عنده بعض الاطلاع العام ولكن ليس عنده علم فظهر في كلامهم صواب وظهر في كلامهم خطأ كثير فمزجوا الصواب بالخطأ وسبب ذلك الفكر كما سيأتي إيضاح ذلك أيضًا لما ظهرت تلك المدارس المختلفة الفكرية يعني من وجهات النظر المختلفة في علاج مشاكل المسلمين وفي الرد على الأعداء لا شك أنه سيحصل نوع من التحزب نوع من الرجوع إلى أولئك المفكرين، فكل من أُعجب بفكرة عالم، كل من أعجب بفكرة مثقف فإنه ستكون التبعية لذلك، فظهر بعد ذلك مفكرون تبعوا المفكرين الأصليين، أو ظهر فكر يتبع أساسيات تلك الأفكار حتَّى توسعت الشقة وحتَّى ابتعدا طرفا الطريق فتوسع جدًا وكثرت الطرق من أجل كثرة أفكار الذين ابتدءوا بذلك الفكر فننظر مثلاً إلى أن أول من دخل في هذا المضمار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومن بعده محمد رشيد رضا ثم ظهرت الأفكار في الجانب الآخر من مثلاً أفكار عباس العقاد أفكار وطه حسين أو أفكار ... الخ وهؤلاء كل بحسب ما عنده الخط الأول عنده علم كثير ولكن لأجل الضعف عن مواجهة الغرب بكل شئ صاغوا أساليبهم بأساليب فكرية فظهر عندهم من الأخطاء حتَّى تجاهلوا أصولاً عظيمة في الإسلام من أصول الغيبيات ونحو ذلك والطرف الآخر من المدرسة الجديدة أرادت أن ترد ولكن باستخدام لغة المستشرقين حتَّى غدا ذلك التأثير بيِّنًا ظهرت بعد ذلك الجماعات العاملة الجماعات الإسلامية فظهر لكل مدرسة من تلك الجماعات من يمثل فكرها بكتابات ففي الباكستان ظهرت هناك الجماعة الإسلامية وظهر لها من يمثل فكرها كأبي الأعلى المودودي وفي مصر ظهر من يمثل فكر جماعة الإخوان المسلمين وفي الشام ظهر وفي المغرب أو الجزائر ظهر من يمثل الفكر الذي يراد أو الذي تبنى نقل الناس إلى الإسلام بفكرٍ كفكر مالك بن نبي ونحو ذلك المقصود من هذا أنها تنوعت المدارس حتَّى تنوعت الجماعات وتنوعت الأفكار بسبب تنوع تلك المدارس.(107/4)
إذًا فلنشأة الفكر أسباب وهذه بعض أسبابه ولا شك أن المتأمل لذلك ينظر إلى أن نشأة الفكر إذًا لم تكن نشأة على علم وإنما كانت نشأة عاطفية اندفاعية ليست مؤصلة ولا منظمة وإنما كانت بحسب الحال دفاعٌ عن التاريخ دفاع عن العقيدة دفاع عن الإسلام لكن بطريقة غير مقننة غير منظمة غير مؤصلة غير منضبطة بالتالي ظهر كثير من الكتابات التي تراها اليوم ممن يسمون بمفكرين إسلاميين وفي الحقيقة إنما هم مفكرون ليسوا بإسلاميين لأنهم إنما يفكرون تارة بالنظرة الاشتراكية وتارة بالنظرة الاعتزالية وتارة بنظرات مختلفة فنشأ ما يسمى بالتنوير والاجتهاد والتطور والتقدم حتَّى أتى من المفكرين من يزعم أنه لا بد من إقامة صرح جديد لطريقة العقل والتفكير والتعامل مع النصوص لأن تلك إنما تناسب زمنًا مضى وهذا الزمن لا بدَّ له من شئ جديد إنه ولا شك انحراف خطير عن أصل هذا الدين وعن العلم الصحيح الذي نزل به جبريل عليه السلام من عند رب العالمين في كتاب الله جلّ وعلا وفي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم هذا الموضوع الذي هو الفكر والعلم مهم وسبب الاختيار له أنَّ كثيرين من طلبة العلم أو من الناس من المثقفين من الشباب لا يعون حقيقة المصطلح ولا يعون أبعاده ولا يعون ما ينبغي أن يؤخذ به وما ينبغي بل يجب أن يحذر منه من الفكر فكان لا بدَّ من طرق هذا الموضوع حتَّى تتضح حقيقة الفكر ومن أسباب طرح هذا الموضوع كثرة الذين يكتبون عن الإسلام فكريًا وانتشار كتاباتهم فترى في الصحف كثيرًا ما يكتب أناس هؤلاء يقال عنهم مفكرون إسلاميون وهناك كتابات قديمة من أناس ليسوا بحاضرين من أمثال مالك بن نبي، المودودي، سيد قطب، محمد قطب .. إلخ لهم كتابات وهذه الكتابات تتسم بأنها كتابات فكرية فما حجم هذه الكتابات كيف توزن؟ هل ترد؟ هل تقبل؟ هل يعتمد عليها أم لا يعتمد عليها أم لا يعتمد عليها ما حدودها؟ هؤلاء المفكرون الذين ذكرت أسماؤهم ومن لم نذكر أسماؤهم ما(107/5)
موقعهم الصحيح في الأمة؟ وما الذي ينبغي أن يوضعوا فيه في أي إطار؟ لا شك أنَّ هذه الأسئلة مهمة والجواب عنها مهم ولعله أن يكون في هذه الكلمة أو هذه المحاضرة بعض إجابات عن ذلك . ومن الأسباب أيضًا أن طائفة من المثقفين علت درجاتهم في الثقافة أو توسطت خلطوا بين الفكر والعلم حتى صار الفكر دليلاً حتَّى صار ما يكتبه المفكرون أعظم في القناعة وأعظم في الإتباع مما يكتبه العلماء بل زاد الأمر على ذلك حتَّى سمِّي العلماء بأنهم متأخرون وأن المفكرين هم المتقدمون وهذا لاشك يتطلب بحثًا لهذا الموضوع وتعريفًا للناس بالفكر ماهو؟ وهل يقبل أم لا يقبل؟ إلى آخر ذلك ، والسبب الرابع لطرح هذا الموضوع أن كثيرًا من قيادات الدعوة وقيادات الجماعات الإسلامية في هذا العصر وهي الجماعات التي سواءً كانت منظمة أو غير منظمة هي التي يراد منها أن تصلح أوضاع المسلمين وأن تعيد الناس إلى جادة الصواب كثير بل الأكثر من تلك القيادات إنما هي قيادات فكرية وينتج عن تلك القيادات آراء وأنواع من التعامل وينتج عن قياداتهم الفكرية توجيه للشباب في أن يتخذوا الموقف الفلاني وأن لا يتخذوا الموقف الفلاني ودلائل ذلك إنما هو فكر دون علم ومن المسلّم به بل من المجمع عليه أن الدليل إنما هو العلم أما الفكر فليس بدليل وإنما هو تلمسٌ كما سيأتي ، السبب الخامس لطرح هذا الموضوع أن هذا العصر تنوعت فيه أفهام الناس، وتنوعت فيه طرائقهم في التفكير فنتج من ذلك أن خطاب الناس بالفكر مهم وطرح بعض المسائل طرحًا فكريًا في الصُحُف أو في بعض الكتيبات هذا مهم لأن الناس لا يعون لغة العلم ولا يتحمسون للعمل فإذا طرح لهم بأسلوب فكري ثقافي فإن كثيرين من المسلمين يقبلون على ذلك ويرعونه ويهتمون به وتصلهم أفكار وتصلهم أصول بالفكر ربما لا تصلهم بالعلم لعدم محبتهم للعلم أو لعدم إقبالهم عليه وهذا يتطلب أن توضع ضوابط للمفكر وضوابط للفكر حتَّى يكون إرشاداً للأمة وحتّى(107/6)
تكون الكتابات الفكرية منضبطة غير مخالفة لمقتضى العلم ومقتضى الكتاب والسنة وقواعد الإسلام.
نبدأ أولاً بإيضاح معنى الفكر الإسلامي ما المراد به ذكرنا أنه مصطلح جديد وإذا كان مصطلحًا جديدًا فلا بد له أذن من تعريف عرَّفه بعضهم بقوله: ((إن الفكر الإسلامي هو عمل المسلمين العقلي ونتاجهم الفكري في سبيل خدمة الإسلام بيانًا ودفاعًا)) وهذا المعرِّف لهذا التعريف جعل البيان من الفكر وجعل الدفاع من الفكر ويعني بالبيان العلم فجعل العلم من الفكر لأن بيان الإسلام هو العلم والدفاع عن الإسلام هذا بعض مهمات الفكر وفسَّر قوله بيانًا بأنه المراد به بيان الإسلام بيان الأصول بيان التفسير بيان الحديث إلى آخره فجعل العلم من الفكر فهل يصح أن يجعل العلم من الفكر ؟! آخر عرَّف الفكر بأنه جمع الشواهد والأدلة ثم تحليلها لخدمة الإسلام يعني إذا أراد أن يبحث قضية من القضايا فيجمع لها الشواهد والأدلة ونعني بالشواهد والأدلة ما يشهد للغاية فالغاية عنده معلومة فيريد أن يجمع لها من الشواهد والأدلة ما يصحح هذه الغاية حتَّى يدافع عن الإسلام أو يبين محاسن الإسلام أو ينصر الإسلام في قضية من قضاياه وهذا يعني أيضًا أنه أدخل العلم في الفكر جمع الشواهد والأدلة ماحده؟ ماهي هذه الأدلة؟ وما هي هذه الشواهد التي توصل إلى تلك النتيجة؟! إذًا دلنا ذلك على أن تعريف الفكر بما ذكر ليس منضبطًا ولا ثابتًا بل قد يدخل فيه أشياء وقد يخرج منه أشياء ماحدّد ذلك مهمة المفكر ما يتعرض له ولا مالا يتعرض له كيف يصل بفكره إلى النتائج؟ هل النتيجة هي الأولى أم النتيجة مراده؟ في الواقع أن ذلك لم يضبط ولهذا تجد أن المفكرين كل يورد ماعنده بحسب طريقته فيختلفون في البداية ويختلفون في النهاية ويختلفون أيضًا في وسائل ذلك كل بحسب مدرسته ، هل يصح أن يقال على هذا إن العلم من الفكر ؟ لا شك أن العلم لا يجوز أن يقال إنه فكر إسلامي وقد سُئل الشيخ العلامة محمد(107/7)
بن عثيمين عن هذه الكلمة كلمة (فكر إسلامي) هل يجوز أن تقال ؟ فقال الشيخ حفظه الله ورحمنا وإيا: كلمة فكر إسلامي من الألفاظ التي يحذر عنها إذ مقتضاها أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد) لأن الفكر رأي فإذا قلنا فكر إسلامي معناه أن الإسلام صار مجموعة أفكار قابلة للأخذ والرد قابلة للنقاش قال الشيخ (وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر) –وقال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله عند هذه الكلمة في كتابه ((معجم المناهي اللفظية)): (كيف يصح أن يكون الإسلام ومصدره الوحي ((فكرًا))، والفكر هو ما يغرزه العقل، فلا يجوز بحال أن يكون الإسلام مظهرًا من مظاهر لفكر الإنساني! فالإسلام بوحي معصوم والفكر مصدره العقل و ليس معصومًا، وإذا كان بعض الكاتبين- يعني به الأستاذ سيد قطب- أدرك الخطأ في هذا الإصطلاح فأبدله باصطلاح آخر هو ((التصور الإسلامي)) – وهذا في كتاب ((خصائص التصور الإسلامي)) و((مقامات التصور الإسلامي)) - فإنه من باب رفع آفة بأخرى؛ لأن التصور مصدره الفكر المحتمل للصدق والكذب)) وهذا الذي قاله الشيخ بكر سديد لأن من رأى بحث خصائص التصور الإسلامي ((مقومات التصور الإسلامي)) وجد أنها تبحث في تحليلات للعقيدة، التوازن، الشمول إلى آخره .. فيجعل أصولاً عقدية جديدة ويجعل ذلك مزايا التصور كما قال (الإسلامي) يعني مزايا العقيدة الإسلامية وتلك إنما هي بأفكار لم يسبق إليها كتابها والتصور هو الفكر فرجع الأمر إذًا إلى الحديث عن أصول الإسلام وعن العقيدة وعن مزايا ذلك والحكم والأسرار في أصول فكرية وقوالب تصورية ثقافية ولا شك أن هذا كما قال الشيخ ((رفع آفة بأخرى)) يعني محاولة علاج آفة بإحلال آفةٍ أخرى جديدة والكل راجع إلى أنه فكر، فكر إسلامي كما يعبرون وهو في الحقيقة فكر غير منضبط وليس عندنا ما يسمى فكرًا إسلاميًا يعني ليس عند العلماء ما يجوز أن يقال له فكر إسلامي هل يجوز أن يقال(107/8)
مفكر إسلامي؟ قال الشيخ ابن عثيمين : مفكر إسلامي يعني من يفكر ويكون مصدره في التفكير الإسلام وهذا إذا انضبط بالعلم صحَّ لأن من فكر بطريقة علمية صحيحة فهو مفكر إسلامي فيصح أن يقال عن من انضبط بالعلم في التفكير إنه مفكر إسلامي يعني مسلم ذو فكر وهذا الاستعمال صحيح ، بعضهم اعترض وقال إنَّ هذا الكلام غير منضبط لأن القرآن والسنة فيها الحث على التفكر والحث على النظر وقد جاءت آيات كثيرة في ذلك منها قوله جلّ وعلا : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ماخلقت هذا باطلاً سبحانك} فمدح الله جل وعلا خاصة المؤمنين بأنهم يتفكرون وكذلك قال جلّ وعلا { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق وأجل مسمى } وقال جلَّ وعلا: { قل إنما أعظم بواحدةٍ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا } ، وجاء في الحديث أو في الأثر ((اللهم اجعل كلامي ذكرًا وصمتي فكرًا)) ولا شك أن التفكر أمر مطلوبٌ ومستحب أو واجب في بعض الأحيان لأن التفكر ينتج نتيجة عظيمة وهي تعظيم الله جلًّ جلاله وتعظيم ما أنزل على رسوله واتباع الرسل والخوف من الآخرة والرغب في الجنة والحذر من النار فهل هذا التفكر الذي جاء في الآيات وفي بعض الأحاديث ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا)) هل هذا التفكر هو المقصود بالفكر ننظر إلى ما قاله العلماء في كلمة التفكر لأن من استدل على صحة الفكر بالتفكر نقول هذا استدلال غير صحيح لأنَّ الفكر أو التفكر الذي جاء في هذه الآيات ليس هو الفكر في الشرع وإنما هو تفكر في آلاء الله ففرق بين الفكر في الشرع التفكر في آلاء الله ، التفكر في آلاء الله في مخلوقات الله هذا هو المقصود بما أمر الله جل وعلا به في تلك الآيات .(107/9)
أمَّا التفكر في الشرع التفكر في أحكامه فإنَّ هذا هو الذي ينتج الفكر، وهذا الفكر قد يكون صحيحًا وقد يكون سقيمًا فإن الفكر إذًا الذي يقصد به حين يقال ( فكر اسلامي ) لا يقصد به التفكر في ملكوت الله ولا يقصد به النظر في الآفاق وفي الأنفس وإنما يقصد به النظر في الشرع، والنظر في أدلته والنظر في التاريخ للوصول إلى نتائج معينة وهذا غير الفكر، ولهذا قال بعض الأدباء وكلامه كلام حسن قال : الفكر مقلوب فرك ، فَرك الشيء يفركه فركًا لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبًا للوصول إلى حقيقتها وهذا في الحقيقة تعبير صحيح وتعبير جيد.(107/10)
يخرج بالتفكر والفكر عن المدلول العصري الاصطلاحي في قولهم( فكرإسلامي) إذا كان التفكر إنما هو في الملكوت التفكر في آلاء الله التفكر في الأنفس للوصول إلى نتيجة تُقَوي الإيمان وتعظم في العبد تعظيمه لله جلَّ وعلا وخوفه منه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه والقرب من جنته والحذر والبعد من عذابه وناره فإن هذا يخالف ما يسمى بالفكر والفكر في الحقيقة في الإصطلاح الجديد هذا إنما هو (الرأي) لأننا عندنا في الشرع أدلة دلت على النهي عن الرأي، فما هذا الرأي الذي حذرت منه الأدلة ؟ هو في الحقيقة هو الفكر لأنَّ الرأي مصدره العقل يرى رأيًا ومعلوم أن الرأي يكون بعد ترو فيرى بعد التروي وهذا في الحقيقة هو الفكر لأنه أي بعد التروي و أصدر فكرًا أو قال فكرًا بعد أن فكَّر، فالرأي والفكر متقاربان ولهذا جاء في النصوص النهي عن الرأي وجاء في كلام الصحابة والتابعين كما سيأتي . الفكر إذن رأي وهذا أمر واضح لأنه ناتجٌ عن تصرف العقل وتفكير العقل وهكذا الرأي ناتج عن تصرف العقل وتفكير العقل، الرأي في تاريخ الإسلام انتج لنا أشياء كثيرة انتج لنا الرأي أراء جديدة في العقيدة انتج لنا الرأي أراء جديدة في أصول الفقه انتج لنا الرأي أراء جديدة في الحديث وما يقبل منه وما يرد والأحاد وغير الآحاد والمتواتر وغير المتواتر والقطعي والظني إلى آخر ذلك انتج لنا آراء جديدة في المصالح والمفاسد حتَّى قال بعضهم حيث وجدت المصلحة فثم شرع الله وقلب الحقيقة برأيه والحقيقة أنه حيث وجد الشرع فثم المصلحة لأن المصلحة مفرزة من الشرع وليس الشرع مفرزًا من المصلحة، فالشرع هو الأساس وعن الشرع تنتج المصالح وتدرأ المفاسد. بالرأي ظهرت أراء سياسية متنوعة غير السياسة الشرعية سياسات يتبع فيها أصحابها ما يرون كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ظهرت السياسات المَلِكِيَّة والسياسات الأماراتية وظهرت السياسات العقلية وظهرت السياسات الفلسفية... إلى آخره فكل يسوس(107/11)
برأيه، فجعلوا أن هذه المفرزات جميعًا صحيحة وإسلامية ومرجعها إلى الشرع أصحابها في الواقع أهل رأي تمسكوا بقواعد تمسكوا بأشياء من المتشابه ونتجوا عنها بتصرفاتهم وأفكارهم وهذا هو في الحقيقة هو الذي انتج لنا الرأي وهو الذي انتج بعد ذلك الفكر إذ أنَّ الفكر فيما ترون في الوقت الحاضر انتج لنا فكرًا عقائديًا تُكلِّم في العقائد من منطلق فكري فمن منطلق نظر، فقيمت بعض الإتجاهات العقدية تقييمًا فكريًا فبعضهم قال إن المعتزلة هم القوم وأن أهل الحديث ليسوا بشيئ لِمَ؟ بموازنات فكرية فرجحوا عقيدة على عقيدة بمعطيات فكرية فأين الدلائل؟ أين النصوص؟ أين ما يدل على ذلك إنما هو الرأي المجرد . وكذلك رُجِّحَت أنواع من السياسة في الدول وسوَّغ بعض الناس من المفكرين لبعض الدول أنواعًا من التعامل وأنواعًا من التصرفات بالفكر والرأي وهذا لا شك أنه خطر عظيم وانحراف جسيم جاء في الأمة نتيجة لمفكرين نتيجة لأقوال فكرية وتضخم ذلك وتضخم حتّى غدت الأقوال والفرق والإختلافات كثيرة لهذا يجب علينا أن نصيخ لدلائل الشرع العظيمة التي تنهى عن الرأي ، إن الرأي في دين الله مذموم إلاَّ إذا كان عن مسائل الإجتهاد في مسائل الإجتهاد ممن كانت عنده آلات الاستنباط والاجتهاد يعني أن من رأي رأيًا أو قاس قياسًا أو ظهر بأفكار وهذا عنده لأجل تمكنه من آلات الاستنباط والاجتهاد فهذا مقبول منه أما أن يرى الرأي ويصدر الفكر والأحكام من ليس عنده شيئ إلاَّ أنه قرأ وتثقف وقال عندي ملكة للمطالعة وعندي ملكة الاطلاع فهذا لا شك أنه لا يقبل بل هو ما جاء في النصوص النهي عنه ومن تلك النصوص أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص قال في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً فأفتوا بغير(107/12)
علم)) وفي رواية مسلم: ((فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا)) أفتوا برأيهم يعني : حكموا على الأمور وعلى الأحوال وعلى ما عندهم مما يحتاج إلى حكم بالرأي يعني بالفكر والرأي والفكر هما شيءٌ واحد فضلوا وأضلوا ومن ذلك حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والنسائي وحسنه الحافظ ابن حجر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (( من قال في القرآن برايه فليتبوا مقعده من النار)) فظهر من المفكرين من يتكلم في القرآن برأيه ويجعل بعض المعطيات الفكرية أو النتائج هي من دلالات القرآن حتى جعل من دلالات القرآن والعياذ بالله أمر مجمع على بطلانه ولم يقل به أحد من أهل العلم، بل جعل من دلالات القرآن ما يدل على عقائد فاسدة أو ما يدل على آراء الأدلة والقواعد تقضي عليها من أُسِّها والأدلة في ذلك في السنة كثيرة ومما جاء عن الصحابة في ذلك قول عمر وهو قول عظيم قال رضي الله عنه: ((إنّ أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أنْ يحفظوها والسنن أنْ يتفهموها فعارضوا السنن برأيهم فإياك وإياهم)) وفي طريق أخرى قال رضي الله عنه: ((فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا)) وهذا الذي قاله عمر منطبق تماما على بعض أنواع الفكر يعني الفكر الذي لا دليل عليه أو الفكر الذي يهدم أصولاً فيكون استدلال أصحابه بالمشتبهات لا بالأصول العلمية فتنتج عن ذلك أنهم قالوا بالفكر قالوا بالرأي فضلوا فعلا وأضلوا وهذا ظاهرفي مدارس كثيرة تراها اليوم في كثير من بلاد المسلمين، فإذا نظرت مثلا إلى فكر بعض الكُتّاب الذين تكلموا في أشياء من طريق الرأي وجدت أنه تفرع ونشأ عنهم مدرسة مثل مثلا مالك بن نبي في الجزائر نتجت عنه مدرسة مالك بن نبي نتائج فكره قامت عليها دعوة بعد ذلك تأثر به راشد الغنوشي المعروف زعيم الحركة الإسلامية في تونس -كما يقال- وهذا حال حركة لا تعي السنن ولا تعي العلم وإنما هي معطيات فكرية حتى إنه قال في يوم من الأيام حينما سئل عن مطالبكم في تونس قال: مطالبنا(107/13)
أنْ يُحكّم الشعب، قالوا: فإذا اختار الشعب الديمقراطية، قال: ليس عندنا مانع، فإذا اختار الشعب الديمقراطية فإننا نختار ذلك لكن لا يجبر الشعب على اختيار لا يريده.
هذا فهم للإسلام وإن كان ذلك عليه من قبله وهو أيضا عنده شبه في ذلك لكنه عطاء فكري مارد ليس له من الإسلام نصيب وتبني هذا دعوة تبنته دعوة تبنت هذه الدعوة مواقف وتحليلات سواء في داخل بلادها أو في خارجها كل ذلك نتاج مفكر أو نتاج فكر سابق كذلك في مصر ترى أنّ كثيرا من المواقف والمقررات مثل في انتشار الجماعات المختلفة بعد دعوة الإخوان المسلمين والجيوب التي حصلت في الجماعة واختلاف الآراء فيها كانت نتاج كلام فكري قاله بعض المفكرين وتبنى هذا الكلام أناس فنشأت جماعات ثم تبنى أفكار أخرى جماعات أخر فكثرت الجماعات حتى إنه يقال إنّ اليوم بمصر نحو مائة جماعة أو اسم أو قريب من ذلك ربما للمبالغة والتكثير وهذا نتاج الفكر ويأتينا أنّ الفكر مفرق، الفكر لا يجمع، الفكر يفرق الناس لأنه إذا كان عندي أفكار فلابد أنْ يكون ثمّ من يقتنع بهذه الأفكار فيكون هناك تفرق في الأمة هؤلاء يقتنعون بهذا الفكر والفكر ليس مصدرا عقليا وليست نتاجا عقليا والغاية عقلية بل يتبعه عمل ولهذا في كتابات مثلا سيد قطب المتأخرة بل وفي كتابه ((في ظلال القرآن)) نتجت هناك جماعات تتبنى أفكاره التي قاله في نحو كتاب ((معالم في الطريق)) أو في نحو كتاب ((خصائص التصور الإسلامي)) ونحو ذلك مما فيه انحراف عن قواعد الإسلام وعن أصول هذا الدين، نشأت جماعات الخ تبنت هذه الجماعات مواقف الخ ذلك وكل له تبريراته وكل له فكره لكن العلم ليس متصلا بذلك، بل العلم من ذلك براء.(107/14)
ننتقل إلى نقطة أخرى، الفكر ما مصدره؟ يعني إذا نظرت في كتابات المفكر ماذا يعتمد عليه حتى يكتب؟ ما دلائله؟ ما مصادر الفكر عنده؟ متنوعة ومتعددة، لكن يمكن أنْ نذكر منها أولا: الثقافة العامة المجموعة مما علق بذهن ذلك المفكر أو مرّ عليه من أدلة الشرع وكلام يعض السابقين، وثقافته التاريخية والواقع السياسي ونفسية الكاتب إلخ ، يعني أشياء مجموعة ثقافية دليل من الكتاب ، دليل من السنة ، دليل من قاعدة ، واقع تاريخي، قصة تاريخية هذا مصدر من مصادر الفكر فإذا نظرت في كتابات المفكر أي مفكر تشاء لا تجد أنه يستدل بأمر خارج عن الكلام الإسلامي ولذلك قيل عنه إنه (مفكر إسلامي) ، لكن هذا الكلام الذي يستدل به ويجعله من مصادره هل هو مستقيم في نفسه؟ يعني صحيح في نفسه غير معارض أم أنه أدلة لكنها تدخل في المتشابه كثيرا من الأحيان ! في الواقع أنك تجد أدلة بعضهم يكتب ويبدأ كلامه التفكير الإسلامي كما يقولون بقاعدة من القواعد هذه القاعدة صحيحة ويفرع عنها ويبدأ ويتخذ الوسائل ويصل إلى الغاية والأحكام والعلاج إلخ ، منطلقاً من ذلك وكأنه ليس في تقييم ذلك الوضع أو في علاج هذه النقطة أو في علاج تلك المشكلة إلاّ هذه القاعدة يذكر مسألة أصولية يتعامل في المسألة بنص واحدٍ أو يذكر ثقافة أو يكون عنده عاطفة من العواطف فيتكلم من منطلق هذه العاطفة يرى مثلا ما حلّ بالمسلمين من نكبات وما يمارسه عدو الإسلام من ضغطٍ على الإسلام والمسلمين وإهانة وويلات إلى آخر ذلك مما هو مشاهد في ميادين مختلفة فتتعاظم نفسه ذلك فينتج ذلك إفرازا هذا الإفراز يسمى إفراز فكري وهذا الإفراز يصبغه بالصِبغة الإسلامية فيستدل بآية ويستدل بحديث ينقل كلام يذكر واقعة تاريخية وهذا يعدّ أكبر المصادر عند المفكرين فيرى كثيرا من الناس وينظرون إلى هذا المقال أو ذلك الكتاب فيجد أنّ فيه استدلالاً بآية وفيه استدلال بحديث وفيه استدلال بقاعدة فيه ذكر لخبر تاريخي، لقصة(107/15)