وقد ذكرنا فيما سبق أن الشرك هو : إشراك غير الله معه في أي نوع من أنواع العبادة ، وقد يكون أكبر ، وقد يكون أصغر ، وقد يكون خفيا .
قال الشيخ رحمه الله : ( وقول الله - عز وجل - : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48 و 116])
والمغفرة هي : الستر لما يخاف وقوع أثره ويقال في اللغة : غفر : إذا ستر ، ومنه سُمِّي ما يوضع على الرأس مغفرا ؛ لأنه يستر الرأس ، ويقيه الأثر المكروه من وقع السيف ونحوه ، فمادة ( المغفرة ) راجعة إلى ستر الأثر الذي يخاف منه ، والشرك والمعصية لهما أثرهما إما في الدنيا وإما في الآخرة أو فيهما جميعا . وأعظم ما يُمَنُّ به على العبد أن يغفر ذنبه ، وذلك بأن يستر عليه ، ويُمحي عنه أثره ، فلا يؤاخذ به في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة ، فلولا المغفرة لهلك الناس .(41/41)
ومعنى قوله - جل وعلا - في هذه الآية لَا يَغْفِرُ أي : أبدا ، فقوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } هذا وعيد بأنه - تعالى - لم يجعل مغفرته لمن أشرك به ، وقد قال العلماء في قوله : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } إن في هذه الآية دليلا على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركا أكبر ، أو أشرك شركا أصغر ، فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة ، بل يكون بالموازنة ، فهو لا يغفر إلا بالتوبة ، فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك ، وقد يغفر الله - تعالى - غير الشرك كما قال { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فجعلوا الآية دليلا على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخل تحت المشيئة .(41/42)
وجه الاستدلال من الآية : أن ( أن ) في قوله - تعالى - : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } موصول حرفي ، فتؤول مع الفعل الذي بعدها وهو يشرك بمصدر - كما هو معلوم - ، والمصدر نكرة وقع في سياق النفي ، وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمت ، قالوا : فهذا يدل على أن الشرك الذي نفي هنا يعم الأكبر والأصغر ، والخفي ، فكل أنواع الشرك لا يغفرها الله - جل وعلا - وذلك لعظم خطيئة الشرك لأن الله - جل وعلا - هو الذي خلق ، ورزق ، وأعطى ، وهو الذي تفضل ، فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره ؟! لا شك أن هذا ظلم في حق الله - جل وعلا - ولذلك لم يغفر . وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأكثر علماء الدعوة .(41/43)
وقال آخرون من أهل العلم : إن قوله هنا : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } دال على العموم ، لكنه عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر ، فالمقصود بالشرك في قوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } هو : الشرك الأكبر فقط دون غيره ، وأما ما دون الشرك الأكبر فإنه يكون داخلا تحت المشيئة ، فيكون بالعموم في الآية مرادا به الخصوص ، لأنه غالبا ما يرد في القرآن هذا اللفظ : { أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } ونحو ذلك ويراد به الشرك الأكبر دون الأصغر ، وهذا في الغالب - كما سبق - فالشرك غالبا ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر ، ومن شواهد ذلك ، قوله - جل وعلا - : { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } ، فقوله في الآية : يُشْرَكَ هو - أيضا - : فعل داخل في سياق الشرط ، فيكون عاما ، لكن هل يدخل فيه الشرك الأصغر والخفي ؟؟ الجواب : أنه لا يدخل بالإجماع ؛ لأنه تحريم الجنة ، وإدخال النار ، والتخليد فيها ، إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر ،(41/44)
فدلنا ذلك على أن المراد بقوله : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة : 72] أهل الإشراك بالله الشرك الأكبر ، فلم يدخل فيه الأصغر ، ولم يدخل ما دونه من أنواع الأصغر .
فيكون المفهوم - إذًا - من آيتي سورة النساء كالمفهوم من آية سورة المائدة ، ونحوها وهذا كقوله في سورة الحج { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج : 31] فهذا ونحوه وارد في الشرك الأكبر .(41/45)
فيكون - على هذا القول - المراد بما نُفي هنا في قوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ } الشرك الأكبر . ولما كان اختيار إمام الدعوة ، كما هو اختيار عدد من المحققين : كشيخ الإسلام : ابن تيمية ، وابن القيم وغيرهما أن العموم هنا شامل لأنواع الشرك : الأكبر ، والأصغر ، والخفي ، كان الاستدلال بهذه الآية صحيحا ؛ لأن الشرك : أنواع ، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يغفر ، فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف ، فإذا كان الشرك الأصغر : كالحلف بغير الله ، وتعليق التميمة ، والحلقة ، والخيط ، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر ، كقولك : ما شاء الله وشئت ، ونسبة النعم إلى غير الله ، إذا كان ذلك لا يغفر فإنه يوجب أعظم الخوف كالشرك الأكبر .(41/46)
وإذا كان كذلك ، فيقع في الخوف من الشرك مَنْ هم على غير التوحيد ، كمَنْ يعبدون غير الله ، ويستغيثون بغير الله ، ويتوجهون إلى غيره ، ويذبحون وينذرون لغيره ، ويحبون غير الله محبة العبادة ، ويرجون غير الله رجاء العبادة ، ويخافون خوف السر من غير الله ، إلى غير ذلك من ألوان الشرك ، فيكون هؤلاء أولى بالخوف من الشرك ؛ لأنهم وقعوا فيما اتُّفِقَ عليه : أنه لا يغفر . كما يقع في الخوف من الشرك أهل الإسلام الذين قد يقعون في بعض أنواع الشرك الخفي ، أو الشرك الأصغر بأنواعه ، وهم لا يشعرون أو وهم لا يحذرون .(41/47)
فإذا علم العبد المسلم أن الشرك بأنواعه لا يغفر ، وأنه مؤاخذ به ، وأن الصلاة إلى الصلاة ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان : لا تكفر ذنب الوقوع في الشرك الأصغر ، فيجب أن يعظم في قلبه الخوف منه . فإن قيل : فبماذا يغفر إذا ؟ فالجواب أنه لا يغفر إلا بالتوبة فقط ، فإن لم يتب فثمة الموازنة بين الحسنات والسيئات ، ولكن ما ظنكم بسيئة فيها التشريك بالله مع حسنات ؟ فمن ينجو من ذلك ؟!! لا ريب أنه ينجو إلا من عظمت حسناته ، فزادت على سيئة ما وقع فيه من أنواع الشرك . ولا شك أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك بعامة ؛ لأن المرء يكون على خطر عظيم إذ وُزنت حسناته وسيئاته ، ثم كان في سيئاته نوع من أنواع الشرك ، لأن من المعلوم وأن الشرك بأنواعه من حيث الجنس أعظم من كبائر الأعمال المعروفة .(41/48)
فوجه الاستدلال من آية النساء وهي قوله - جل وعلا - : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } أن فيها عموما يشمل أنواع الشرك جميعا ، وأنها كلها لا تغفر ، فيكون ذلك موجبا للخوف من الشرك ، وإذا وقع أو حصل الخوف والوجل من الشرك في القلب ، فإن العبد سيحرص على معرفة أنواعه حتى لا يقع فيه ، ويطلب معرفة أصنافه وأفراده ، حتى لا يقع فيها ، وحتى يحذِّر أحبابه ومن حوله منها ؛ لذلك كان أحب الخلق ، أو أحب الناس ، وخير الناس للناس : من يحذرهم من هذا الأمر ، ولو لم يشعروا به ولو لم يعقلوه قال - جل وعلا - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران : 110] لأنهم يدلون الخلق على ما ينجيهم ، فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذرهم من الشرك بأنواعه ، ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه ؛ لأن هذا أعظمُ ما يُدعي إليه ؛ ولهذا لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد وشك ورجوع عن مناصرة الدعوة ، وفَهْمِ ما جاء به الشيخ - رحمه الله - وكتبوا للشيخ وغلَّظوا له القول ، وقالوا : إن ما جئت به ليس بصحيح ، وإنك تريد كذا وكذا لمّا حصل منهم ذلك ، أجابهم بكتاب قال في آخره بعد أن شرح التوحيد وضدَّه ،(41/49)
ورغَّب ورهَّب : ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم ، ولكنكم قوم لا تعقلون . انتهى كلامه - رحمه الله - . وهو كلام صحيح ، ولكن لا يعقله إلا من عرف حق الله - جل وعلا - فرحمة الله على هذا الإمام ، وأجزل له المثوبة ، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء ، ورفع درجته في المهديين ، والنبيين ، والصالحين .
ثم ساق الشيخ - رحمه الله - بعد هذه الآية قول الله - جل وعلا - :(41/50)
{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم : 35] وصاحب هذه الدعوة هو إبراهيم - عليه السلام - ، ومر بنا في الباب قبله : أن إبراهيم قد حقق التوحيد ، وقد وصفه الله بأنه كان أمة قانتا لله حنيفا ، وبأنه لم يك من المشركين ، فهل يطمئن من كان على هذه الحال إلى أنه لن يعبد غير الله ، ولن يعبد الأصنام ، أو يظل مقيما على خوفه ؟؟!! وهل حال الكمَّل الذين حققوا التوحيد أنهم يطمئنون أم يخافون ؟؟! هذا إبراهيم - عليه السلام - كما في هذه الآية خاف الشرك ، وخاف عبادة الأصنام ، فدعا الله بقوله : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } [إبراهيم : 35 - 36] فكيف بمن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفا ، وهم عامة هذه الأمة ؟؟!! والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك ، فمن الذي يخافه إذًا؟ الذي يخافه هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد .(41/51)
قال إبراهيم التيمي - رحمه الله - وهو من سادات التابعين لما تلا هذه الآية قال : ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟!! (1) إذا كان إبراهيم - عليه السلام - وهو الذي حقق التوحيد ، وهو الذي وُصِفَ بما وُصِفَ به ، وهو الذي كسَّر الأصنام بيده يخاف من الفتنة بها فمن يأمن البلاء بعده ؟!
إذًا فما ثمَّ إلا غرور أهل الغرور ، والمقصود : أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك ؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - مع كونه سيد المحققين للتوحيد في زمانه ، بل وبعد زمانه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ما أعطي الضمان والأمان من الوقوع في الشرك ، وألا يزيغ الحال مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله هنا : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } الأصنام : جمع صنم والصنم هو : ما جُعِلَ على صورة مما يُعبد من دون الله ، كشكل وجه رجل ، أو شكل جسم حيوان ، أو رأس حيوان ، أو صورة كوكب ، أو نجم أو شكل الشمس أو القمر ونحو ذلك كله وما أشبهه يطلق عليه أنه صنم .
والوثن هو : ما عُبد من دون الله ، مما ليس على هيئة صورة ، فالقبر وثن ، وليس بصنم ، وكذلك : المشهد ، أعني : مشاهد القبور عند عُبَّادها ، فهذه أوثان ، وليست بأصنام .
_________
(1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور ( 5 / 46 ) .(41/52)
وقد يطلق على الصنم اسم الوثن ، كما قال - جل وعلا - في قصة إبراهيم في سورة العنكبوت : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } [العنكبوت : 17] ولكن هذا يطلق على قلة .
وقال بعض أهل العلم : هم عبدوا الأصنام ، وعبدوا الأوثان جميعا ، فصار ذكر الأصنام في بعض الآيات لعبادتهم الأصنام ، وذكر الأوثان في بعض الآيات لعبادتهم الأوثان ، والأول أظهر في أنه قد يطلق على الصنم أنه وثن . ويدل على أن الوثن ما ليس على هيئة صورة قول النبي : صلى الله عليه وسلم « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » (1) فدعا الله أن لا يجعل قبره وثنا فدل ذلك على أن الوثن ما يعبد من دون الله مما ليس على هيئة صورة .
قال - رحمه الله - : ( وفي الحديث : « " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " ، فسئل عنه فقال : " الرياء » (2) والرياء قسمان : رياء المسلم ، ورياء المنافق .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 246 .
(2) تقدم .(41/53)
فرياء المنافق : رياء في أصل الدين ، يعني : أنه راءى بإظهار الإسلام ، وأبطن الكفر ، قال تعالى : { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء : 142] ورياء المسلم الموحِّد : مثل أن يُحسِّن صلاته ؛ من أجل نظر الرجل ، أو : أن يُحَسِّن تلاوته ؛ لأجل التسميع ؛ ليُمدَح ويُسمع ، لا لأجل التأثير .
فالرياء : مشتق من الرؤية ، ومن صوره : أن يحسن العبادة لأجل أن يرى من المتعبدين كأن يطيل في صلاته ، أو يطيل في ركوعه ، أو في سجوده ، أو يقرأ في صلاته أكثر من العادة ، لأجل أن يرى ذلك منه ، أو يقوم الليل لأجل أن يقول الناس عنه : إنه يقوم الليل . فهذا كله شرك أصغر .
والشرك الأصغر - الذي هو الرياء - : قد يكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به ، وقد يكون محبطا للزيادة التي زادها فيه .
فيكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به : وإذا ابتدأ النية بالرياء ، كمن يصلي الراتبة لأجل أن يرى أنه يصليها ، وليست عنده رغبة في أن يصليها ، لكن لما رأى أنه يُرَى صلاها ؛ ولأجل أن يمدح ؛ لما يرى من نظر الناس إليه ، فصلاته هذه حابطة ليس له فيها ثواب .(41/54)
لكن إذا عرض الرياء له في أثناء العبادة ، فيكون ما زاده لأجل الرؤية باطلا ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : « قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » (1) .
فالشاهد من حديث الباب : قوله - عليه الصلاة والسلام - : « أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » فهو أخوف الذنوب التي خافها النبي - عليه الصلاة والسلام - على أهل التوحيد ؛ لأنهم ما داموا أهل توحيد فإنهم ليسوا من أهل الشرك الأكبر ، فيكون أشد ما يُخاف عليهم هو الشرك الأصغر . والشرك الأصغر تارة يكون في النيات ، وتارة يكون في الأقوال ، وتارة يكون في الأعمال ، يعني أنه يكون في القلب ، وفي المقال ، وفي الفعال ، وسيأتي في هذا الكتاب بيان أصناف كل واحد من هذه الثلاثة .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 2985 ) .(41/55)
فيدل قوله - عليه الصلاة والسلام - : « أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » أنه أخوف الذنوب على هذه الأمة . لكن لماذا خافه النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعظم الذنوب خوفا ؟ الجواب : أنه كان كذلك لأجل أثره ، وهو أنه لا يغفر ، ولأجل أن الناس قد يغفلون عنه . والشيطان حريص على إيقاع أهل التوحيد في الشرك الأصغر ، ووصمهم بالرياء في الأقوال ، والأعمال ، والنيات . وفرحه بذلك أعظم من فرحه بغيره من الذنوب .
ثم بعد ذلك ساق حديث ابن مسعود فقال : ( وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار » (1) .
وجه الاستدلال منه : أنه قال : « من مات وهو يدعو من دون الله ندا » ودعوة الند من دون الله من الشرك الأكبر ؛ لأن الدعاء عبادة ، وهو من أعظم العبادات ؛ فقد جاء في الحديث الصحيح : « الدعاء هو العبادة » ، (2) وفي معناه حديث أنس الذي في السنن ، ولفظه « الدعاء مُخُّ العبادة » (3) . فهو أعظم أنواع العبادة ، فمن مات وهو يصرف هذه العبادة أو شيئا منها لند من الأنداد ، فقد استوجب النار .
_________
(1) تقدم .
(2) أخرجه الترمذي ( 5 / 426 ) وأبو داود ( 1479 ) وابن ماجه ( 3828 ) .
(3) أخرجه الترمذي ( 5 / 425 ).(41/56)
وقوله : « دخل النار » : يعني كحال الكفار ، فيكون خالدا فيها ؛ لأن المسلم إذا وقع في الشرك الأكبر : فإنه يحبط عمله بذلك ، ولو كان أصلح الصالحين ، وقد قال - جل وعلا - لنبيه : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }{ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [الزمر : 65 - 66] فالله عظيم ، والله أكبر ، وخلقه كلهم محتاجون إليه ، وعبيد له - سبحانه - ، بمن فيهم أفضلهم : وهم الأنبياء والمرسلون ، فلو فرض أنْ أشرك نبينا صلى الله عليه وسلم لحبط عمله ، ولكان في الآخرة من الخاسرين ، أفلا يوجب هذا أن يخاف من هو دونه ممن يدعي الصلاح والعلم من الشرك ؟!! بل قد شاع في هذه الأمة أن بعض المنتسبين إلى العلم يدعو إلى الشرك ويحض عليه ويُكَرِّه ويُبَغِّض في التوحيد وحال هؤلاء ، كما قال الله - جل وعلا - عن أسلافهم : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر : 45] .(41/57)
فوجه الاستدلال ظاهر - إذًا - في قوله صلى الله عليه وسلم : « من مات ، وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار » ، وأنه يوجب الخوف ، لأن قصد المسلم ، بل قصد العاقل : أن يكون ناجيا من النار ، ومتعرضا لثواب الله في الجنة .
ولفظ « من دون الله » يكثر وروده في القرآن والسنة ، ويراد به عند علماء التفسير ، وعلماء التحقيق شيئان :
1 - أن تأتي بمعنى ( مع ) ، فيكون معنى : « من دون الله » أي مع الله ، وعبَّر عن المعية بلفظ « من دون الله » ؛ لأن كل من دُعي مع الله ، فهو دون الله - جل وعلا - ، فهم دونه والله - جل وعلا - هو الأكبر ، وهو الأعظم ، وفي هذا دليل على بشاعة عملهم .
2 - أن تأتي بمعنى ( غير ) فيكون معي : « من دون الله » أي : يدعو إلها غير الله ، يعني أنه لم يعبد الله ، وأشرك معه غيره ، بل دعا غيره استقلالا ، فشملت « من دون الله » الحالين : من دعا الله ودعا غيره ، ومن دعا غير الله وتوجه إليه استقلالا .(41/58)
قال : ( رواه البخاري . ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار » ) (1) : تقدم قريبا أن قوله : « لا يشرك به شيئا » فيه نوعان من العموم : عموم في أنواع الشرك ويدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي ؛ لأن لفظة : " يشرك " نكرة ، وعموم - أيضا - في المتوجه إليهم وهو المُشْرَك بهم كما يدل عليه قوله (شيئا) لأنه - أيضا - نكرة في سياق النفي .
فمعنى قوله : « من لقي الله لا يشرك » : نفي لجميع أنواع الشرك .
فمعنى قوله : " به شيئا " أي : لم يتوجه بالعبادة لأي أحد ، لا لملك ، ولا لنبي ، ولا لصالح ، ولا لجني ، ولا لطالح ، ولا لحجر ، ولا لشجر ، ولا غير ذلك .
قوله : « دخل الجنة » : يعني أن الله - جل وعلا - وعده بدخول الجنة برحمته سبحانه وتفضله ، وبوعده الصادق الذي لا يُخلَف .
_________
(1) تقدم .(41/59)
قوله : « ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار » : أي : أن كل مشرك متوعَّدٌ بالنار ، ووجه الدلالة مستقيم مع استدلال الشيخ بالآية ؛ لأن من لقي الله وهو على شيء من الشرك الأكبر ، أو الأصغر ، أو الخفي : فإنه سينال العقوبة والعذاب في النار والعياذ بالله .
قوله : « ومن لقيه يشرك به شيئا » : فيه عموم أيضا كما ذكرنا ؛ لأن ( من ) هنا شرطية ، و ( يشرك ) نكرة ، فتكون عامة لأنواع الشرك ، و ( شيئا ) عامة في المتوجَّه إليهم .
فإن قيل : علام يدل قوله : « من لقيه يشرك به شيئا دخل النار » ؟ هل يدل على أنه دخول أبدي ، أو أمدي ؟ فالجواب : أن ذلك بحسب نوع الشرك ، فإن كان الشرك أكبر ومات عليه فإنه يدخل النار دخولا أبديا ، وإن كان الشرك أصغر ، أو خفيا فإنه يكون متوعدا بالنار أي : سيدخل النار ويخرج منها ؛ لأنه من أهل التوحيد .(41/60)
وهل يدخل الشرك الأصغر في الموازنة أو لا ؟ تقدم الجواب أن الشرك الأصغر يدخل في موازنة الحسنات والسيئات ، وأنه إذا رجحت حسناته فإنه لا يعذب على الشرك الأصغر لكن هذا ليس في حق كل أحد من الخلق ، فإن منهم من يعذب على الشرك الأصغر ؛ لأن الموازنة بين الحسنات والسيئات ليست شاملة لكل الخلق ، وليست شاملة أيضا لكل الذنوب ، بل قد يكون من الذنوب ما يستوجب النار ، ولو رجحت الحسنات على السيئات فإنه يستوجب الجنة . ولكن لا بد من أن يطهر في النار وهذا دليل على وجوب الخوف من الشرك ؛ لأن قوله : « من لقي الله يشرك به شيئا دخل النار » يشمل الشرك الأكبر والأصغر والخفي ، فعلى المرء أن يطلب الهرب من الشرك بجميع أنواعه ، ويسعى إلى ذلك جهده .(41/61)
وعلى المرء - أيضا - أن يستعيذ بالله - جل وعلا - من الشرك الأصغر والخفي ، بقوله : " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه ، وأستغفرك مما لا أعلم " (1) . لأنه إذا علم فأشرك ، فإنه سيترتب الأثر الذي ذكرناه ، وهو : عدم المغفرة ، ففي هذا الدعاء ، الذي علمناه رسولنا - عليه الصلاة والسلام - التفريق بين الشرك الأصغر مع العلم ، والشرك الأصغر مع الجهل ؛ ولذا قال : « أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه » ؛ لأن أمر الشرك الأصغر مع العلم عظيم فيجب أن يستعيذ المرء بالله من أن يشرك به شركا أصغر فما هو أعلى منه من باب أولى ، وهو يعلم .
ثم قال : « وأستغفرك مما لا أعلم » ؛ قد يقع في الشرك الأصغر أو الخفي ، وهو لا يعلم ، ويظهر شيء من ذلك على فلتات لسانه ، وهو لا يقصد ، ولمثل ذلك شرع هذا الدعاء .
_________
(1) أخرجه أحمد ( 19606 ) وابن أبي شيبة 10 / 337 - 338 بنحوه من حديث أبي موسى ، وقال الهيثمي في « المجمع » 10 / 223 : ( رواه أحمد والطبراني في « الكبير » و« الأوسط » ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي ، ووثقه ابن حبان ) .(41/62)
فهذا يدل على أن الشرك أمره عظيم ، فلا يتهاونن أحد بهذا الأمر ؛ لأن من تهاون بالشرك وبالتوحيد ، فإنه يكون ، فإنه يكون متهاونا بأصل دين الإسلام ، بل يكون متهاونا بالذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة سنين عددا ، بل يكون متهاونا بدعوة الأنبياء والمرسلين ؛ فإنهم اجتمعوا على شيء واحد ، وهو العقيدة ، وتوحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات ، وأما الشرائع فشتى .
لهذا وجب عليك الحذر كل الحذر من الشرك بأنواعه ، وأن تتعلم ضده ، وأن تتعلم أيضا أفراد الشرك ، وأفراد التوحيد ، وبذلك يتم العلم ، ويستقيم العمل . وأما تعلم ذلك على وجه الإجمال ، فهذا كما يقال : نحن على الفطرة ، لكن إذا أتت الأفراد فربما رأيت بعض الناس يخوضون في بعض الأقوال أو الأعمال التي هي من جنس الشرك ، وهم لا يشعرون ؛ وذلك لعدم خوفهم وهربهم من الشرك ، نسأل الله جل وعلا العفو والعافية .(41/63)
فاحرص - إذًا - على تعلم هذا الكتاب ومدارسته ، وعلى كثرة مذاكرته ، وفهم ما فيه من الحجج والبينات ؛ لأنه أفضل ما تودعه صدرك ، بعد كتاب الله - جل وعلا - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلعله أن يكون - إن شاء الله - سببا عظيما من أسباب النجاة والفلاح .(41/64)
" باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله "
وقول الله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } [يوسف : 108] الآية .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال : « إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله » وفي رواية : « إلى أن يوحدوا الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك ، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب » أخرجاه . (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه.(41/65)
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : « لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه " فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : " أين علي بن أبي طالب ؟ " ، فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه ، فأُتِيَ به فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، وقال : " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم » . (1) . ( يدوكون : أي يخوضون ) .
فيه مسائل :
الأولى : أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثانية : التنبيه على الإخلاص ، لأن كثيرا من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه .
الثالثة : أن البصيرة من الفرائض .
الرابعة : من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيها لله تعالى عن المسبَّة .
الخامسة : أن من قُبح الشرك كونه مسبَّة لله .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 3701 ) ومسلم ( 2406 ).(41/66)
السادسة : - وهي من أهمها - إبعاد المسلم عن المشركين ؛ لئلا يصير منهم ، ولو لم يشرك .
السابعة : كون التوحيد أول واجب .
الثامنة : أن يُبدأ به قبل كل شيء ، حتى الصلاة .
التاسعة : أن معنى " أن يوحدوا الله " : معنى شهادة أن لا إله إلا الله .
العاشرة : أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها ، أو يعرفها ولا يعمل بها .
الحادية عشرة : التنبيه على التعليم بالتدريج .
الثانية عشرة : البُداءة بالأهم فالأهم .
الثالثة عشرة : مصرف الزكاة .
الرابعة عشرة : كشف العالم الشبهةَ عن المتعلم .
الخامسة عشرة : النهي عن كرائم الأموال .
السادسة عشرة : اتقاء دعوة المظلوم .
السابعة عشرة : الإخبار بأنها لا تُحجب .
الثامنة عشرة : من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء .
التاسعة عشرة قوله : " لأعطين الراية . . . " علَمٌ من أعلام النبوة .
العشرون : تَفْلُه في عينيه عَلَمٌ من أعلامها أيضا .
الحادية والعشرون : فضيلة علي رضي الله عنه .
الثانية والعشرون : فضل الصحابة في دَوْكِهِم تلك الليلة وشُغلهم عن بشارة الفتح .(41/67)
الثالثة والعشرون : الإيمان بالقدر ، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى .
الرابعة والعشرون : الأدب في قوله « على رسْلك » .
الخامسة والعشرون : الدعوة إلى الإسلام قبل القتال .
السادسة والعشرون : أنه مشروع لمن دُعوا قبل ذلك وقوتلوا .
السابعة والعشرون : الدعوة بالحكمة لقوله : « أخبرهم بما يجب عليهم » .
الثامنة والعشرون : المعرفة بحق الله في الإسلام .
التاسعة والعشرون : ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد .
الثلاثون : الحلف على الفتيا .
الشرح :(41/68)
هذا الباب هو " باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله " ، أي : باب الدعوة إلى التوحيد . وقد ذكر في الباب قبله الخوف من الشرك ، وقبله ذَكَرَ فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ، و" باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " . ولما ذكر بعده الخوف من الشرك : اجتمعت معالم حقيقة التوحيد في نفس الموحد ، فهل من اجتمعت حقيقة التوحيد في قلبه : بأن عرف فضله ، وعرف معناه ، وخاف من الشرك ، واستقام على التوحيد ، وهرب من ضده ، هل يبقى مقتصرا بذلك على نفسه ، ويضنّ به على غيره ، وهل تتم حقيقة التوحيد في قلبه إلا بأن يدعو إلى حق الله الأعظم ، ألا وهو إفراده - جل وعلا - بالعبادة وبما يستحقه - سبحانه وتعالى - من نعوت الجلال ، وأوصاف الجمال ؟؟! .(41/69)
بوب الشيخ - رحمه الله - بهذا الباب ؛ ليدل على أن من تمام الخوف من الشرك ، ومن تمام التوحيد : أن يدعو المرءُ غيره إلى التوحيد ؛ فإنه لا يتم في القلب حتى تدعو إليه ، وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله ؛ لأن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله عُلِمَت حيث شهد العبد المسلم لله بالوحدانية بقوله : أشهد أن لا إله إلا الله ، وشهادته معناها : اعتقاده ونطقه وإخباره غيره بما دلت عليه ، فلا بد - إذًا تحقيقًا للشهادة ، وإتمامًا لها - أن يكون المكلَّف الموحِّد داعيا إلى التوحيد ؛ لهذا ناسب أن يذكر هذا الباب بعد الأبواب قبله ، ثم إن له مناسبة أخرى لطيفة ، وهي : أن ما بعد هذا الباب هو تفسير للتوحيد وبيان لأفراده ، وتفسير للشرك وبيان لأفراده ، فتكون الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وإلى التوحيد دعوة إلى تفاصيل ذلك . وهذا من المهمات ، لأن كثيرين من المنتسبين للعلم - من أهل الأمصار - يسلمون بالدعوة إلى التوحيد إجمالا ، ولكن إذا أتى التفصيل في بيان مسائل التوحيد ، أو جاء التفصيل في بيان أفراد الشرك ، فإنهم يخالفون في ذلك ، وتغلبهم نفوسهم في مواجهة الناس بحقائق أفراد التوحيد ، وأفراد الشرك .(41/70)
فالذي تميزت به دعوة الإمام المصلح رحمه الله أن الدعوة فيها إلى شهادة أن لا إله إلا الله دعوة تفصيلية ، ليست إجمالية ، أما الإجمال فيدعو إليه كثيرون ممن يقولون : نهتم بالتوحيد ونبرأ من الشرك ، لكن لا يذكرون تفاصيل ذلك . والذي ذكره الإمام - رحمه الله - في بعض رسائله أنه لما عرض هذا الأمر - يعني الدعوة إلى التوحيد - على علماء الأمصار قال : وافقوني على ما قلت ، وخالفوني في مسألتين : في مسألة التكفير ، وفي مسألة القتال . وهاتان المسألتان سبب مخالفة أولئك العلماء للشيخ ، لأنهما فرعان ومتفرعتان عن البيان والدعوة إلى أفراد التوحيد ، والنهي عن أفراد الشرك .
فالدعاء - إذًا - إلى شهادة لا إله إلا الله هو الدعاء إلى ما دلت عليه من التوحيد ، والدعاء إلى ما دلت عليه من نفي الشريك في العبادة ، وفي الربوبية ، وفي الأسماء والصفات عن الله - جل وعلا - وهذه الدعوة دعوة تفصيلية لا إجمالية ؛ ولهذا فصل الإمام - رحمه الله - في هذا الكتاب أنواع التوحيد ، وأفراد توحيد العبادة ، وفصَّل الشرك الأكبر والأصغر ، فبين أفرادا من ذا وذاك .(41/71)
وسيأتي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله في الباب الذي بعده ؛ لأنه " باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله " .
قال - رحمه الله - : ( وقول الله تعالى { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف : 108] ) :
هذه الآية من آخر سورة يوسف هي في الدعوة إلى الله ، وسورة يوسف - كما هو معلوم - لِمَنْ تَأَمَّلَها هي في الدعوة إلى الله ؛ من أولها إلى آخرها ، فموضوعها - إذا - الدعوة ؛ ولهذا جاء في آخرها قواعد مهمة في بيان حال الدعاة إلى الله ، وحال الرسل الذين دعوا إلى الله ، وما خالف به الأكثرون الرسل ، واستيئاس الرسل من نصرهم ونحو ذلك من أحوال الدعاة إلى الله . وفي آخر تلك السورة قال الله - جل وعلا - لنبيه : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } أي سبيلي ومنهجي : أنني أدعو إلى الله ، فمهمة الرسل هي : الدعوة إلى الله - جل وعلا - .(41/72)
فأحسن الأقوال : قول من دعا إلى الله ، وأحسن الأعمال : عمل من دعا إلى الله - جل وعلا - ؛ ولهذا قال سبحانه : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت : 33] قال الحسن البصري - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ما معناه : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله من خلقه ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، هذا حبيب الله . (1) .
وهذا أمر عظيم ؛ فالداعي إلى الله هو أحسن أهل الأقوال قولا كما دلت عليه الآية السابقة .
وموطن الشاهد من قوله : { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } هو قوله : { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } ، فإنه دعاء إلى الله - جل وعلا - لا إلى غيره ، وفي هذا فائدتان :
الأولى : أن الدعوة إلى الله دعوة إلى توحيده ، ودعوة إلى دينه ، كما سيأتي تفسير هذه الكلمة في الحديثين بعدها : حديث ابن عباس في إرسال معاذ إلى اليمن ، وحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في إعطاء علي الراية .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير 2 / 187.(41/73)
فدل قوله - جل وعلا - : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } على الفائدة الأولى - كما تقدم - وهي أن الدعوة إلى الله فيها دعوة إلى التوحيد .
الثانية : التنبيه على الإخلاص ، وهذا يحتاجه من أراد الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، والدعاء إلى الإسلام ، يعني أن الداعي إلى الإسلام يحتاج أن يكون مخلصا في ذلك ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - في مسائل هذا الباب : في قوله : إِلَى اللَّهِ التنبيه على الإخلاص ؛ لأن كثيرين وإن دعوا إلى الحق فإنما يدعون إلى أنفسهم ، أو نحو ذلك .
وقوله في الآية : عَلَى بَصِيرَةٍ البصيرية : هي العلم ، وهي للقلب كالبصر للعين يبصر بها المعلومات والحقائق ، فكما أنك بالعين تبصر الأجرام والذوات ، فإنك ببصيرة القلب والعقل تدرك المعلومات ، والمعنى : أنه دعا على علم ، وعلى يقين ، وعلى معرفة ، لم يدعُ إلى الله على جهالة .
وقوله تعالى : أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي يعني : أدعو أنا إلى الله وكذلك من اتبعني ممن أجاب دعوتي ، فإنهم يدعون إلى الله أيضا على بصيرة ، وهذا أيضا من مناسبة إيراد الآية تحت هذا الباب ؛ لأن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم يدعون إلى الله .(41/74)
فالمتبعون للرسل - عليهم الصلاة والسلام - والموحدون لله : لا بد لهم من الدعوة إلى الله ، بل هذه صفته صلى الله عليه وسلم وصفتهم التي أمر الله نبيه أن يخبر عنها ، فقال ( قل ) يعني : يا محمد : { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } فهذه إذًا خصلة أتباع الأنبياء الذين لم يخافوا من الشرك فحسب ، ولم يعلموا التوحيد ويعملوا به فحسب ، بل دعوا إلى ذلك ، وهذا أمر حتمي ولازم ؛ لأن من عرف عِظَم حق الله - جل وعلا - فإنه يغار على حق الرب سبحانه وتعالى ، وكيف لا يغار على مولاه ، وعلى حق من أحبه فوق كل محبوب من أن يكون توجه الخلق إلى غيره بنوع من أنواع التوجهات ؟! . فلا بد أن يدعو إلى أصل الدين وأصل الملة الذي اجتمعت عليه الأنبياء والمرسلون ، ألا وهو توحيده - جل وعلا - في عبادته ، وفي ربوبيته ، وفي أسمائه وصفاته - جل وعلا وعز سبحانه - .(41/75)
ثم ساق الإمام - رحمه الله - حديث ابن عباس أنه قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال : « إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله » وفي رواية : « إلى أن يوحدوا الله » : هذا موطن الشاهد ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يكون أول ما يدعو إليه هو : شهادة أن لا إله إلا الله ، وفسَّرتها الرواية الأخرى للبخاري في كتاب التوحيد من صحيحه ، وهي بلفظ : « إلى أن يوحدوا الله » . (1)
فالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله مأمور بها ، وهي : الدعوة إلى التوحيد . فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر معاذا أن يدعو أهل اليمن ، وكانوا من أهل الكتاب ، يعني : من أهل الكتاب المُتَعبدين بالتوراة والإنجيل ، فبعضهم كان من اليهود ، وبعضهم من النصارى ، أما المشركون فيهم فهم قليل ، وأكثرهم كان على إحدى الملتين .
_________
(1) تقدم.(41/76)
قال العلماء : قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ : « إنك تأتي قوما أهل الكتاب » فيه توطين وتوطئة للنفس بأن يهيئ نفسه لمناظرتهم ، وقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه من العلماء بدين الإسلام ، ومن علماء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فقال له عليه الصلاة والسلام ذلك ليهيئ نفسه لمناظرتهم ولدعوتهم ، ثم أمره أن يكون أول ما يدعوهم إليه أن يوحدوا الله - جل وعلا - .
وفي إعراب قوله : « فليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله » وجهان :
الأول برفع قوله : ( أولُ ) على أنه اسم لـ ( يكن ) ، ونصب قوله ( شهادة ) على أنه الخبر . فيكون المعنى على هذا الوجه : أنه أخبره عن الأولية ، فابتدأ بالأولية ثم أخبره بذلك الأول .(41/77)
الثاني : بنصب قوله : ( أولَ ) على أنه خبر لـ ( يكن ) مقدم ، ورفع قوله ( شهادة ) على أنه اسمها مؤخر ، فيكون المعنى على هذا الوجه : الإخبار عن الشهادة بأنها أول ما يُدعى إليه . وهذان الوجهان جائزان . والمشهور هو الوجه الثاني يعني : بجعل ( أول ) منصوبة ؛ وذلك لأن مقام ذكر الشهادة والابتداء بها هو الأعظم ، وهو المقصود ؛ ليلتفت السامع والمتلقي - وهو معاذ - إلى ما يُراد منه أن يُخْبَر به من جهة الشهادة .
فموطن الشاهد من هذا الحديث ، ومناسبة إيراده في الباب : هو ذكر أن التوحيد هو أول ما يدعى إليه ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله .
ثم ساق في الباب أيضا حديث سهل بن سعد الذي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : « لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، فبات الناس يدوكون ليلتهم » . . .
قوله : ( بات ) البيتوتة هي : المكث في الليل سواء أكان نوم أو لم يكن .
ومعنى قوله : " يدوكون ليلتهم " أي : يخوضون في تلك الليلة ، و ( باتوا ) يعني ظلوا ليلا يتحدثون من دون نوم ، لِعِظَمِ هذا الفضل الذي ذكره عليه الصلاة والسلام .(41/78)
قال : . . . « فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال : أين علي بن أبي طالب؟ فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه ، فأُتي به فبصق في عينيه ، ثم دعا له ، فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام » . . . : فقوله : « انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام » (1) . هذا هو موطن الشاهد والمناسبة من إيراد هذا الحديث في الباب .
قال : « ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه » ، فالدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى التوحيد ؛ لأن أعظم أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وضم إليها عليه الصلاة والسلام أيضا أن يدعوهم إلى حق الله فيه ، يعني : إلى ما يجب عليهم من حق الله فيه .
_________
(1) تقدم.(41/79)
فقوله : « وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه » . . . يعني في الإسلام ، من جهة التوحيد ، ومن جهة الفرائض ، واجتناب المحرمات ؛ ولهذا يجب أن تبدأ بالدعوة أولا إلى أصل الإسلام ، وهو : التوحيد ، وبيان معنى الشهادتين ثم بيان المحرمات ، والواجبات ؛ لأن أصل الأصول هو أولى الواجبات بالتقديم .
ومما يلاحظ - هنا - أن آية سورة يوسف فيها بيان أن كل الصحابة كانوا دعاة إلى الله - جل وعلا - وإلى التوحيد ، وحديث معاذ يبين أن معاذا كان من الدعاة إلى الله ، وقد فصل فيه نوع تلك الدعوة إلى الله - جل وعلا - وكذلك حديث سهل بن سعد الذي فيه قصة علي فيه أيضا الدعوة إلى الإسلام ، فيكون هذان الحديثان كالتفصيل لقوله في الآية : { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } فالدعوة على بصيرة هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وهي الدعوة إلى توحيده وإلى الإسلام ، وما يجب على العباد من حق الله فيه .(41/80)
" باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله "
وقول الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } الآية [الإسراء : 57] ، وقوله { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف : 26 - 27] الآية ، وقوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } الآية [التوبة : 31] وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } الآية [البقرة : 165] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يُعبَد من دون الله ، حرم ماله ودمه ، وحسابه على الله - عز وجل » - (1) . وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب .
فيه مسائل :
فيه أكبر المسائل وأهمها : وهي تفسير الشهادة ، وبيَّنها بأمور واضحة . منها : آية الإسراء بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين ؛ ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 23 ).(41/81)
ومنها : آية براءة ، بيَّن فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا ، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه : طاعة العلماء والعباد في المعصية ، لا دعاؤهم إياهم .
ومنها : قول الخليل عليه السلام للكفار : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } . { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } (الزخرف : 26 - 27) فاستثنى من المعبودين ربه ، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة : هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (الزخرف : 28) .
ومنها : آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم : { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } (البقرة : 167) ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ؛ ولم يُدخلهم في الإسلام . فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله ؟(41/82)
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : « من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه ، وحسابه على الله » وهذا من أعظم ما يُبَيِّن معنى " لا إله إلا الله " فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها ، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يُضِيفَ إلى ذلك الكفر بما يُعْبَد من دون الله . فإن شك ؛ أو توقف ؛ لم يحرم ماله ودمه .
فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها ! ويا له من بيان ما أوضحه ! وحجة ما أقطعها للمنازع! .
الشرح :
" باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله " سبق بيان أن التوحيد هو : شهادة أن لا إله إلا الله ؛ ولهذا قال العلماء : إن العطف في قوله : " التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله " من عطف المترادفات . ولكن هذا فيه نظر من جهة أن الترادف غير موجود ، أعني : الترادف الكامل ، لكن الترادف الناقص موجود فيكون هذا - إذًا - من قبيل عطف المترادفات التي يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى .(41/83)
وقوله هنا : " باب تفسير التوحيد " يعني : الكشف والإيضاح عن معنى التوحيد ، وقد تقدم أن التوحيد هو : اعتقاد أن الله - جل وعلا - واحد في ربوبيته لا شريك له ، واحد في إلهيته لا ند له ، واحد في أسمائه وصفاته لا مِثْل له ، سبحانه وتعالى ، قال - جل وعلا - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى : 11] وذلك يشمل أنواع التوحيد جميعا ، فالتوحيد - إذًا - : هو اعتقاد أن الله واحد في هذه الثلاثة أشياء .
قوله : " . . . وشهادة أن لا إله إلا الله " يعني : تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ، فهذه الشهادة هي أعظم كلمة قالها مكلَّف ، ولا شيء أعظم منها ؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات ، وما تعبَّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها .(41/84)
والشهادة تارة تكون شهادة عن حضور وبصر ، وتارة تكون شهادة عن علم ، بمعنى أنه : إما أن يشهد على شيء حضره ورآه ، أو يشهد على شيء علمه ، فهذان معنيان للشهادة . فإذا قال قائل : أشهد ، فيحتمل أنها بمعنى : المشاهدة والرؤية ويحتمل أنها بمعنى العلم . ومعنى الشهادة في قولنا : أشهد أن لا إله إلا الله ، شهادة علمية ؛ ولهذا تضمن قوله : أشهدُ ، العلمَ .
والشهادة في اللغة ، والشرع ، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ ( شهد ) كقوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران : 18] وكقوله { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } تتضمن أشياء :
الأول : الاعتقاد بما سينطق به ، والاعتقاد بما شهده فكونه يشهد أن لا إله إلا الله يستلزم أنه اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة من علم ويقين ؛ لأن الشهادة فيها الاعتقاد ، والاعتقاد لا يسمى اعتقادا إلا إذا كان ثمَّ علم ويقين .
الثاني : التكلم بها ، فالشهادة كما أنها تقتضي اعتقادا ؛ فإنها تقتضي - أيضا - إعلاما ونطقا .(41/85)
والثالث : الإخبار بذلك ، والإعلام به ، فينطق بلسانه ، وهذا من جهة الواجب وأيضا لا يسمى شاهدا حتى يُخبر غيره بما شهد ، وهذا من جهة ( الشهادة ) .
فيكون معنى : أشهد أن لا إله إلا الله : أعتقد وأتكلم ، وأعلم ، وأخبر : بأن لا إله إلا الله . فافترقتْ بذلك عن حال الاعتقاد ، وافترقتْ كذلك عن حال القول ، كما افترقت - أيضا - عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد ، فلا بد لتحققها من حصول الثلاثة مجتمعة ؛ ولهذا نقول في الإيمان إنه : اعتقاد بالجنان ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح والأركان .
فـ ( لا إله إلا الله ) هي : كلمة التوحيد ، وهي مشتملة - من حيث الألفاظ - على أربعة ألفاظ :
1 - ( لا )
2 - ( إله ) .
3 - ( إلا ) .
4 - لفظ الجلالة ( الله ) .
أما ( لا ) هنا فهي : النافية للجنس ، تنفي الألوهية الحقة عن أحد إلا الله - جل وعلا - يعني في هذا السياق . وإذا أتى بعد النفي ( إلا ) - وهي أداة الاستثناء - أفادت معنًى زائدا ، وهو : الحصر ، والقصر ، فيكون المعنى : الإلهية الحقة ، أو الإله الحق هو الله ، بالحصر والقصر ، ليس ثمَّ إله حق إلا هو ، دون ما سواه .(41/86)
وكلمة ( إله ) على وزن ( فعال ) ، وتأتي أحيانا بمعنى ( فاعل ) ، وتأتي أحيانا بمعنى ( مفعول ) ، وهي - لغة - مشتقة من ( ألَه ) بمعنى : عَبَدَ ، وقال بعض اللغويين : إنها من : ألَه يأْلَه إذا تحير ، فـ ( أَلَه ) فلان يأْلَه أو تَأَلَّه : إذا تحير ، وسمي الإله عندهم إلها ؛ لأن الألباب تحيَّرت في كُنه وصفه ، وكُنه حقيقته ، وهذا القول ليس بجيد ، بل الصواب أن كلمة ( إله ) ( فعال ) بمعنى ( مفعول ) وهو المعبود ، ويدل على ذلك : ما جاء في قراءة ابن عباس أنه قرأ في سورة الأعراف : أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ [الأعراف : 127] . كان ابن عباس يقرأها : وَيَذَرَكَ وَإلَاهَتَكَ قال : لأن فرعون كان يُعبَد ولم يكن يَعْبُد ، فصوب القراءة بـ وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ يعني : وعبادتك ، وقراءتنا - وهي قراءة السبعة - { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } يعني : المتقدمين ، فهذا معناه : أن ابن عباس فهم من الإلَهَة ، معنى العبادة ، وقد قال الراجز :
لله در الغانيات المدَّهِ ... سبَّحن واسترجعن من تألهِ(41/87)
يعني : من عبادتي ، فيكون - إِذًا - الإله هو : المعبود ، بمعنى ( لا إله ) : لا معبود إلا الله .
فـ ( لا ) في قوله ( لا معبود ) هي : النافية للجنس وهي - كما تعلمون - تحتاج إلى اسم وخبر ؛ لأنها تعمل عمل ( إن ) كما قال ابن مالك في الألفية :
عمل (إن) اجعل لـ ( لا ) في نكرة ... . . . . . . . . . . . . .(41/88)
فإن قيل : فأين خبر ( لا ) النافية للجنس ؟ فالجواب أنَّ كثيرا من المنتسبين للعلم قدروا الخبر : بـ ( لا إله موجود إلا الله ) ، ووَجْه هذا التقدير ، وسببه : يحتاج إلى مقدمة قبله وهي : أن المتكلمين والأشاعرة والمعتزلة ومن ورثوا علوم اليونان قالوا : إن كلمة ( إله ) هي بمعنى : فاعل ؛ لأن ( فعال ) تأتي بمعنى ( مفعول ) ، أو ( فاعل ) فقالوا : هي بمعنى آلِه ، والآلِه هو : القادر ، ففسروا ( الإله ) بأنه : القادر على الاختراع ؛ وهذا تجده مسطورا في عقائد الأشاعرة ، كما في شرح العقيدة السنوسية ، التي تسمى عندهم بـ ( أم البراهين ) . إذ قال فيها ما نصُّه : ( الإله ) هو المستغني عما سواه ، المفتقر إليه كُلُّ ما عداه ، قال : فمعنى لا إله إلا الله : لا مستغنيا عما سواه ، ولا مفتقرا إليه كلُّ ما عداه إلا الله . ففسروا الألوهية بالربوبية ، وفسروا الإله بالقادر على الاختراع ، أو بالمستغني عما سواه ، المفتقر إليه كل ما عداه ، ولذلك يقدِّرون الخبر : موجود ، فـ ( لا إله ) خَبَرُهَا : موجود ، يعني : لا قادر على الاختراعِ والخلقِ موجودٌ إلا الله ، ولا مستغنيا عما سواه ، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه موجودٌ إلا(41/89)
الله ؛ لأن الخلق جميعا محتاجون إلى غيرهم . وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك على المسلمين ؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو : إفراد الله بالربوبية ، فإذا اعتقد المرء أن القادر على الاختراع هو الله وحده : صار موحدا ، وإذا اعتقد أن المستغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه هو الله وحده صار عندهم موحدا وهذا من أبطل الباطل ؛ لأن مشركي قريش كانوا على الإقرار بالربوبية ، كما دَلَّ القرآن على ذلك ، كقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [العنكبوت : 61] وفي آية أخرى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } [الزخرف : 9] ونحو ذلك من الآيات ، وهي كثيرة ، كقوله : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ }{ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ(41/90)
الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } [يونس : 31 - 32] الآيات من سورة يونس . فَعُلم بذلك أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية . فصارت هذه الكلمة - إذًا - دالة على غير ما أراد أولئك المتكلمون وهو ما ذكرناه آنفا من أن معنى : لا إله ، هو : لا معبود ، وأن تقدير الخبر : ( موجود ) فيكون المعنى : لا معبود موجود إلا الله ، وهذا باطل ؛ لأننا نرى أن المعبودات كثيرة وقد قال - جل وعلا - مخبرا عن قول الكفار : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } [ص : 5] فدل ذلك : أن المعبودات كثيرة . والمعبودات موجودة . فتقدير الخبر بـ ( موجود ) غلط . ومن المعلوم أن المتقرر في علم العربية أن خبر ( لا ) النافية للجنس يكثر حذفه في لغة العرب ، وفي نصوص الكتاب والسنة ؛ ذلك أن خبر ( لا ) النافية للجنس يحذف إذا كان المقام يدل عليه ، وإذا كان السامع يعلم ما المقصود من ذلك ، وقد قال ابن مالك في آخر باب ( لا ) النافية للجنس لما ساق هذه المسألة :
وشاع في ذا الباب (1) . إسقاط الخبر ... إذا المراد مع سقوطه ظهر
_________
(1) يعني باب ( لا ) النافية للجنس.(41/91)
فإذا ظهر المراد مع حذف الخبر ، فإنك تحذف الخبر ؛ لأن الأنسب أن يكون الكلام مختصرا كما في قوله عليه الصلاة والسلام : « لا عدوى ولا طيَرةَ ولا هامةَ ولا صفرَ ولا نوءَ ولا غولَ » (1) . فأين الخبر فيما تقدم ؟ الجواب : أنه في كل ذلك محذوف ؛ لكونه معلوما لدى السامع إذًا : فخبر ( لا إله ) معلوم ، ولا يصح تقديره : بـ ( موجود ) ؛ لأن الآلهة التي عبدت مع الله موجودة ، فالصحيح تقدير الخبر بقولك بِحَقٍّ أو : حَقٌّ يعني : لا إله بحق أو لا معبود بحق أو لا معبود حق إلا الله ، وإن قدرت الظرف فلا بأس ، أو قدرت كلمة مفردة فلا بأس ، فلا معبود حق إلا الله : هذا معنى كلمة التوحيد فيكون كل معبود غير الله - جل وعلا - قد عبد ولكن هل عبد بالحق ، أو عبد بالباطل ، والظلم ، والطغيان ، والتعدي ؟؟! الجواب : أنه قد عبد بالباطل ، والظلم ، الطغيان ، والتعدي ، وهذا يفهمه العربي بمجرد سماعه لكلمة لا إله إلا الله ؛ ولهذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - : بئس قوم أبو جهل أعلم منهم بـ ( لا إله إلا الله ) .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 106 ) ، ( 2220 ).(41/92)
فأبو جهل كان يفهم هذه الكلمة ، وأبى أن يقولها . ولو كان معناها : لا إله موجود ، كما يزعم كثير من أهل هذا العصر وما قبله : لقالوها بسهولة ، ولم يدروا ما تحتها من المعاني . لكنهم كانوا يعلمون أن معناها : لا معبود حق إلا الله ، وأن عبادة غيره إنما هي بالظلم ، فهل يقرون على أنفسهم بالظلم ، والبغي ، والعدوان ؟! وحقيقة معنى ( لا إله إلا الله ) ، هي ما شرحناه ، وبيناه ، وفيها الجمع بين النفي والإثبات ، كما سيأتي بيان ذلك في آية سورة الزخرف ، في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف : 27] .(41/93)
قال الإمام - رحمه الله - : ( وقول الله تعالى { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [الإسراء : 57] ) : هذه الآية تفسير للتوحيد ؛ وذلك أننا عرفننا التوحيد بأنه إفراد الله بالعبادة - وهو توحيد الإلهية - وهذه الآية اشتملت على الثناء على خاصة عباد الله ، بأنهم وحدوا الله في الإلهية . وهذه مناسبة الآية للباب ، فقد وصفهم الله - جل وعلا - بقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } ومعنى : يَدْعُونَ : يعبدون ؛ لأن الدعاء هو العبادة ، والدعاء نوعان كما سيأتي تفصيله : دعاء مسألة ، ودعاء عبادة ، فقوله هنا { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } يعني : يعبدون ، والوسيلة في قوله : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } هي : القصد والحاجة ، والتقرب بالأعمال الصالحة يعني : أن حاجاتهم يبتغونها إلى ربهم ذي الربوبية الذي يملك الإجابة ، وفي مسائل نافع بن الأزرق ، المعروفة لابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سأله عن قوله تعالى في سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا(41/94)
إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة : 35] ما معنى الوسيلة؟ فقال : الوسيلة الحاجة ، فقال له : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، ألم تسمع قول الشاعر ، وهو عنترة يخاطب امرأة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
فقول عنترة : ( لهم إليك وسيلة ) يعني : لهم إليك حاجة ، ووجه الاستدلال من آية المائدة : أنه قال : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } فقدم الجار والمجرور على لفظ ( الوسيلة ) ، وتقديم الجار والمجرور - وحقه التأخير - يفيد الحصر والقصر ، وعند عدد من علماء المعاني : يفيد الاختصاص ، وسواء أكان هذا أم ذاك ، فوجه الاستدلال ظاهر : في أن قوله تعالى في آية الإسراء : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } معناه : أن حاجاتهم إنما يبتغونها عند الله ، وقد اختص الله - جل وعلا - بذلك ، فلا يتوجهون إلى غيره ، وقد حصروا وقصروا التوجه في الله - جل وعلا - .(41/95)
وقد جاء بلفظ الربوبية دون لفظ الألوهية قوله تعالى { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } ولم يقل : يبتغون إلى الله الوسيلة ؛ لأن إجابة الدعاء ، والإثابة ، هي : من مفردات الربوبية ؛ لأن ربوبية الله على خلقه تقتضي أن يجيب دعاءهم وأن يعطيهم سؤلهم .(41/96)
فظهروا من قوله : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } أن فيها تفسير التوحيد ، وهو أن كل حاجة من الحاجات إنما تنزلها بالله - جل وعلا - وكذلك قوله : يَدْعُونَ فيه تفسير التوحيد - أيضا - لأن معنى يَدْعُونَ يعبدون ؛ فهم إنما يطلبون حاجتهم من الله - جل وعلا - فلا يعبدون غير الله بنوع من العبادات ، ولا يتوجهون بها لغير الله ، فإذا نحروا فإنما ينحرون يبتغون إلى ربهم الحاجة ، وإذا صلوا فإنما يصلون يبتغون إلى ربهم القربة ، وإذا استغاثوا فإنما يستغيثون بالله يبتغون إليه رفيع الدرجات دونما سواه ، إلى آخر مفردات توحيد العبادة . فهذه الآية دالة - بظهور - على أن قوله : { يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } أنه هو التوحيد . وقد استشكل بعض أهل العلم إيراد هذه الآية في الباب وقال : ما مناسبة هذه الآية لهذا الباب؟ وبما ذكرت لك تتضح المناسبة جليا .(41/97)
وقوله - جل وعلا - : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [الإسراء : 57] فيه بيان لحال خاصة عباد الله الذين جمعوا بين العبادة ، والخوف ، والرجاء ، فيرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، فهم إنما توجهوا إليه وحده دون ما سواه فأنزلوا الخوف ، والمحبة ، والدعاء ، والرغب ، والرجاء في الله - جل وعلا - وحده دون ما سواه ، وهذا هو تفسير التوحيد .
قال - رحمه الله - : وقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف : 27]
والدليل في هذه الآية هو قوله : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } ، ووجه الاستدلال أن هذه الجملة فيها البراءة ، وفيها الإثبات ، فالبراءة : مما يعبدون ، قال بعض أهل العلم : تبرأ من العبادة ومن المعبودين قبل أن يتبرأ من العابدين ؛ لأنه إذا تبرأ من أولئك : فقد بلغ به الحنق ، والكراهة ، والبغضاء ، والكفر بتلك العبادة مبلغها الأعظم ، وقد جاء تفصيل ذلك في آية الممتحنة كما هو معلوم .(41/98)
فمناسبة هذه الآية للباب : أن قوله : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } اشتملت على نفي وإثبات ، فهي مساوية لكلمة التوحيد بل هي التوحيد ، ففي هذه الآية تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ؛ ولهذا قال - جل وعلا - بعدها : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } فما هذه الكلمة ؟ هي قول : لا إله إلا الله ، كما عليه تفاسير السلف ، فقوله - جلا وعلا - : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } فيه النفي الذي نعلمه من قوله ( لا إله ) ، وقوله { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } فيه الإثبات الذي نفهمه من قولنا ( إلا الله ) فتفسير شهادة أن لا إله إلا الله هو في هذه الآية ؛ لأن : ( لا إله ) معناها : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } و ( إلا الله ) معناها { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } ، ففي آية سورة الزخرف هذه : أن إبراهيم عليه السلام شرح لهم معنى كلمة التوحيد بقوله : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } والبراءة هي : الكفر ، والبغضاء ، والمعاداة . وتبرَّأ من عبادة غير الله ، فهذه البراءة لا بد منها ، ولا يصح إسلام أحد حتى تقوم هذه(41/99)
البراءة في قلبه ؛ لأنه إن لم تقم هذه البراءة في قلبه ، فلا يكون موحدا ، والبراءة هي : أن يكون مبغضا لعبادة غير الله ، كافرا بعبادة غير الله ، معاديا لعبادة غير الله ، كما قال في الآية هنا : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } . أما البراءة من العابدين فإنها من لوازم التوحيد ، وليست من أصل كلمة التوحيد ، بمعنى أنه قد يعادي ، وقد لا يعادي . وهذه لها مقامات منها ما هو مكفر ، ومنها ما هو نوع موالاة ، ولا يصل بصاحبه إلى الكفر .
فتحصل لك - إذًا - : أن البراءة بالتي هي مضمنة في النفي في قول : ( لا إله ) تقتضي البغض لعبادة الله ، والكفر بعبادة غير الله والعداوة لعبادة غير الله ، وهذا القدر لا بد منه ، بل لا يستقيم إسلام أحد حتى يكون في قلبه ذلك .
ثم قال : { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وهذا الاستثناء هو كالاستثناء الذي في كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) ، قال بعض أهل العلم في قوله : { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } ذكر الفطر دون غيره ؛ لأن في ذلك تذكيرا بأنه إنما يستحق العبادة مَن فَطَر ، أما مَن لم يفطِرْ ، ولم يخلق شيئا ، فإنه لا يستحق شيئا من العبادة .(41/100)
فمناسبة هذه الآية للباب ظاهرة ، وكذا : وجه الاستدلال منها .
قال : وقوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة : 31] الأرباب : جمع رب ، والربوبية هنا هي : العبادة ، يعني : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم معبودين مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني : مع الله ؛ وذلك أنهم أطاعوهم في تحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، والطاعة من التوحيد ، وفردٌ من أفراد العبادة ، فإذا أطاع غير الله في التحليل وفي التحريم : فإنه يكون قد عبد ذلك الغير ، فهذه الآية فيها : ذِكْرُ أحد أفراد التوحيد ، وأحد أفراد العبادة ، وهو الطاعة ، وسيأتي إيرادها في باب مستقل - إن شاء الله تعالى - مع بيان ما تشتمل عليه من المعاني .
قال : وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة : 165] .
أخبر الله - جل وعلا - أن المشركين اتخذوا من دون الله أندادا - يعني : مع الله ، أو غيره - دونه وجعلوهم يستحقون شيئا من العبادات ، ووصفهم بأنهم { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } . وقوله هنا { كَحُبِّ اللَّهِ } للمفسرين من السلف فمن بعدهم هنا قولان :(41/101)
1 - منهم من يقول : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } هي كلها في الذين اتخذوا أندادا يعني : يحبون أندادهم كحبهم لله .
2 - وقال آخرون : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } يعني : يحبونهم كحب المؤمنين لله فـ ( الكاف ) هنا بمعنى : مثل ، كقوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فالكاف هنا اسم بمعنى : مثل ؛ لأنه عطف عليها اسما آخر وهو قوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } .(41/102)
فيكون معنى : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أي : أنهم سوَّوا تلك الآلهة بالله تعالى في المحبة ، فهم يحبون الله حبا عظيما ، ولكنهم يحبون تلك الآلهة أيضا حبا عظيما ، وهذه التسوية هي : الشرك ، وهي التي جعلتهم من أهل النار ، كما قال - جل وعلا - في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار ، { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }{ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء : 97 - 98] ومعلوم أنهم ما سووا تلك الآلهة برب العالمين في الخلق ، والرزق ، ومفردات الربوبية ، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والعبادة فيكون معنى قوله - جل وعلا - { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أنهم : يحبونهم محبة مثل محبتهم لله ، وهذا الوجه أرجح من الوجه الآخر الذي تقديره : كحب المؤمنين لله ، والذين آمنوا أشد حبا لله .(41/103)
ووجه الاستدلال من الآية ، ومناسبتها للباب ظاهرة : في أن التشريك في المحبة مناف لكلمة التوحيد ، ومناف للتوحيد من أصله ، بل حَكَمَ اللهُ عليهم بأنهم اتخذوا أندادا من دون الله ، يحبونهم كحب الله ، ووصفهم بذلك ، ولا شك أن المحبة نوع من أنواع العبادة ، والمحبة مُحَرِّكَة ، وهي التي تبعث على التصرفات . فوجه ذكره المحبة هنا : أن المحبة نوع من أنواع العبادة ، فلما لم يفردوا الله بهذه العبادة : صاروا متخذين أندادا من دون الله ، وهذا معنى التوحيد ، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله .(41/104)
ثم قال - رحمه الله - : ( في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يُعبَد من دون الله ، حَرُم ماله ودمه ، وحسابه على الله - عز وجل » - " ) : في هذا الحديث : بيان التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ؛ ذلك أن ثمة فرقا بين قول : لا إله إلا الله ، وبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ، فالتوحيد والشهادة أرفع درجة ، ويختلفان عن مجرد القول ، وهذا الحديث فيه قيد زائد عن مجرد القول ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : « من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله » فتكون ( الواو ) هنا عاطفة ، ويكون ما بعدها غير ما قبلها ؛ لأن الأصل في العطف المغايرة ، فتضمن قوله : " كفر بما يعبد من دون الله " أمرا زائدا على مجرد القول ، فيكون المعنى : أنه قال : لا إله إلا الله ، ومع قوله كفر بما يعبد من دون الله ، يعني : تبرأ مما يعبد من دون الله . هذا قولٌ .(41/105)
والقول الثاني : أن ( الواو ) هنا وإن كانت عاطفة ، فليست لتمام المغايرة ، وإنما هي من باب عطف التفسير ، فيكون ما بعدها بعض ما قبلها ، كقوله - جل وعلا - : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة : 98] فجبريل وميكال بعض الملائكة ، فعطفهم ، وخصهم بالذكر ، وأظهر اسم جبريل وميكال : لبيان أهمية هذين الاسمين ، وأهمية هذين الملكين ؛ لأن أولئك اليهود لهم كلام بالقدح في جبريل وميكال .
فالمقصود : أن العطف - هنا - : عطف خاص بعد عام ، أو عطف تفسير ؛ لأن ما بعدها داخل في ما قبلها ، وهذا تفسير لقوله : لا إله إلا الله ، فتكون : ( لا إله إلا الله ) على هذا القول الثاني : متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله ، وهذا سبق ذكره في تفسير معنى البراءة المذكورة في آية سورة الزخرف ، وهي قوله تعالى : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف : 27] إذ قلنا : إن البراءة تتضمن البغض ، والكفر ، والمعاداة ، والكفر يكون بما يعبد من دون الله ، وهذا تفسير ظاهر لكلمة التوحيد .(41/106)
والوجه الثاني هو الأظهر لسياق الشيخ - رحمه الله تعالى - بل هو الذي يتوافق مع ما قبله من الأدلة .
وقوله : " حرم دمه وماله وحسابه على الله - عز وجل - " ، ذلك لأنه صار مسلما ، فمن قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله ، صار مسلما ، والمسلم لا يحل دمه إلا بإحدى ثلاث ، وكذلك : لا يحل ماله إلا بحق ؛ ولهذا قال هنا : " حرم ماله ودمه " .
فظهر من هذه الترجمة ، وما فيها من الآيات والحديث : أن تفسير التوحيد وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله : يستوجب من المسلم مزيد عناية ، ونظر ، وتأمل ، وتأنٍّ حتى يفهمه بحجته ، وببيان وجه الحجة في ذلك .
بعد ذلك قال الشيخ - رحمه الله - : " ( وتفسير هذه الترجمة ما بعدها من أبواب ) :
فالكتاب كله هو تفسير للتوحيد ، وتفسير لكلمة لا إله إلا الله ، وبيان ما يضاد ذلك ، وبيان ما ينافي أصل التوحيد ، وما ينافي كماله ، وبيان الشرك الأكبر ، والشرك الأصغر ، والشرك الخفي ، وشرك الألفاظ ، وبيان بعض مستلزمات التوحيد - توحيد العبادة - من الإقرار لله بالأسماء والصفات ، وبيان ما يتضمنه توحيد العبادة من الإقرار لله - جل وعلا - بالربوبية .(41/107)
" باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه "
وقول الله تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الآية [الزمر : 38]
عن عمران بن الحصين رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال : " ما هذه ؟ " قال : من الواهنة ، فقال : " انزعها ، فإنها لا تزيدك إلا وهنا ، فإنك لو مت ، وهي عليك ، ما أفلحت أبدا » رواه أحمد بسند لا بأس به . (1) وله عن عقبة بن عامر مرفوعا : « من تعلق تميمة فلا أتَمَّ الله له ، ومن تعلق ودعة فلا وَدَعَ الله له » (2) وفي رواية : « من تعلق تميمة فقد أشرك » (3) ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (4)
فيه مسائل :
الأولى : التغليظ في لُبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك .
الثانية : أن الصحابي لو مات وهي عليه ؛ ما أفلح . فيه شاهد لكلام الصحابة : أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر .
الثالثة : أنه لم يعذر بالجهالة .
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 445 وابن حبان 7 / 628 والحاكم 4 / 216 .
(2) أخرجه أحمد 4 / 154 وأبو يعلى ( 1759 ) والحاكم 4 / 417 .
(3) أخرجه أحمد 4 / 156 والحاكم 4 / 417 .
(4) ذكره ابن كثير في التفسير 4 / 342 .(41/108)
الرابعة : أنها لا تنفع في العاجلة ؛ بل وتضر لقوله « لا تزيدك إلا وهنا » .
الخامسة الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك .
السادسة : التصريح بأن من تعلق شيئا وُكِل إليه .
السابعة : التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك .
الثامنة : أن تعليق الخيط من الحُمَّى من ذلك .
التاسعة : تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر ، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة .
العاشرة : أن تعليق الوَدَع عن العين من ذلك .
الحادية عشرة : الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يُتِمُّ له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له ؛ أي : ترك الله له .
الشرح :
هذا بابٌ شرع به الشيخ - رحمه الله - في تفصيل ما سبق ، وهو بيان التوحيد ببيان ضده . ومن المعلوم أن الشيء يعرف ويتميز بشيئين : بحقيقته ، وبمعرفة ضده .
والتوحيد يتميز بمعرفته في نفسه أي : بمعرفة معناه وأفراده ، وبمعرفة ضده أيضا وقد قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . .
وبضدها تتميز الأشياء ...
وهذا صحيح : فإن التوحيد يُعرف حسْنُه بمعرفة قبح الشرك . وقد بدأ الإمام - رحمه الله - في ذكر ما هو مضاد للتوحيد .(41/109)
وما يضاد التوحيد منه : ما يضاد أصله ، وهو الشرك الأكبر الذي إذا أتى به المكلف فإنه ينقض توحيده ، ويكون مشركا شركا أكبر مخرجا من الملة ، فمثل هذا يقال فيه : أنه قد أتى بما ينافي التوحيد ، أو ينافي أصل التوحيد .
والثاني : ما ينافي كمال التوحيد الواجب ، وهو : ما كان حاصلا من جهة الشرك الأصغر ، فإنه ينافي كماله الواجب ، فإذا أتى بشيء منه ، فقد نافى بذلك كمال التوحيد ؛ لأن كمال التوحيد إنما يكون بالتخلص من أنواع الشرك جميعا ، وكذلك الرياء فإنه من أفراد الشرك الأصغر أعني : يسير الرياء ، وهو ينافي كمال التوحيد . ومنها أشياء يقول العلماء عنها : إنها نوع شرك ، فيعبرون عن بعض المسائل من الشركيات بأنها نوع شرك أو نوع تشريك فصارت ألفاظهم - عندنا - في هذا الباب أربعة :
الأول : الشرك الأكبر .
الثاني : الشرك الأصغر .
الثالث : الشرك الخفي .(41/110)
الرابع : قولهم في بعض المسائل : فيها نوع شرك ، أو نوع تشريك ، وذلك مثل ما سيأتي في قوله - جل وعلا - : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [النحل : 83] ، وفي نحو قوله { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف : 191] وهذا يدخل في باب الطاعة ، كما سيأتي بيانه مفصلا - إن شاء الله - .(41/111)
ابتدأ الشيخ - رحمه الله - في هذا الباب : بتفصيل وبيان صور من الشرك الأصغر ، التي يكثر وقوعها ، وقدّم الأصغر على الأكبر : انتقالا من الأدنى إلى الأعلى ؛ لأن الشبهة في الأدنى ضعيفة بخلاف الشبهة في الأعلى ، فإنها أقوى ، لأن شبهة المتعلّق بالخيط ، وبالتمائم أضعف من شبهة المتعلّق بالأولياء والصالحين ، فإذا علم المتعلّق بالخيط ، والتمائم ، ونحوها خطأه وبطلان تعلّقه ، سَهُلَ - بعد ذلك - إقناعه ببطلان التعلق بغير الله من الأولياء والصالحين ، وبأنه أقبح من الأول - كما هو الحال في الشرك الأكبر - ، أما إذا جاء إلى من هو متلبس بالشرك الأكبر ، كالذي يتعلّق بالأولياء ، ويدعوهم ، ويسألهم ، ويذبح لهم ، فلا يَحْسُنُ فيمن هذه حاله أن يُنْتَقل في إقناعه ببطلان ما هو عليه من الأعلى إلى الأدنى ؛ لقوة الشبهة عنده تجاه من أشرك بهم ، وهي - بزعمه - أن أولئك لهم مقامات عند الله - جل وعلا - فهذه حقيقة حال الذين يتوجهون إلى أولئك المدعوين ، ويشركون بهم الشرك الأكبر المخرج من الملة - والعياذ بالله - فإنهم يقولون : إنما أردنا الوسيلة ، وهؤلاء الذين ندعوهم لهم مقامات عند الله ، وإنما أردنا الوسيلة . فحال هؤلاء كحال(41/112)
المشركين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال الله - جل وعلا - فيهم : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] والمقصود : أن الشيخ - رحمه الله - بدأ أولا بتفصيل الشرك الأصغر انتقالا من الأدنى إلى الأعلى حتى يكون ذلك أقوى في الحجة ، وأمكن في النفوس ، من جهة : ضرورة التعلّق بالله ، وإبطال التعلق بغيره .
قوله - رحمه الله - : (بابٌ من الشرك) : (مِن) هنا تبعيضية ؛ يعني : أن هذه الصورة التي في الباب هي بعض الشرك ، لكن هل هي بعض أفراده أو بعض أنواعه ؟ الجواب : أنها شاملة للأمرين ؛ لأن ما ذُكر - وهو لبس الحلقة أو الخيط - هو أحد أنواع الشرك، وهو : الشرك الأصغر ، وهو أيضا أحد أفراد الشرك بعمومه ؛ لأنها صورة من صور الإشراك .(41/113)
قوله : ( باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما ) : المقصود بقوله : (ونحوهما) ما يكون نحو الحلقة والخيط مثل : الخرز ، والتمائم ، والحديد ، ونحو ذلك مما قد يُلبس ، ومثله أيضا ما يعلّق في البيوت ، أو في السيارات ، أو يعلّق على الصغار ، ونحو ذلك ، مما فيه لبس ، أو تعليق ، فكل ذلك يدخل في هذا الباب ، وأنه من الشرك .
والحلقة : إما أن تكون من صُفر يعني : من نحاس ، وإما أن تكون من حديد ، أو تكون من أي معدن . والخيط : معروف ، والمراد عَقْدُهُ في اليد على وجه الاعتقاد ، وليس المراد خيطا بعينه .(41/114)
وكان للعرب اعتقاد في الحلقة والخيط ، ونحوهما : كالتمائم ، وغيرها ، إذ كانوا يعتقدون أن من تعلّق شيئا من ذلك : أثر فيه ونفع ، إما من جهة دفع البلاء قبل وقوعه ، وإما من جهة رفع البلاء أو المرض بعد وقوعه ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - : (لرفع البلاء أو دفعه) ؛ لأن الحالتين موجودتان ، فمنهم من يعلّق الحلق، والخيوط ، ونحوهما قبل وقوع البلاء لدفعه، ولا شك أن هذا أعظم إثما وذنبا من الذي يعلّق هذه الأشياء لرفع البلاء بعد حصوله ؛ لأنه يعتقد أن هذه الأشياء الخسيسة الوضعية تدفع قدر الله - جل وعلا - ، فالصنف الأول ، هم من ذكرنا ، والصنف الثاني : هم الذين يلبسون تلك الأشياء ، ويعلّقونها لرفع البلاء بعد حصوله ، كمن مرض فلبس خيطا ، ليرفع ذلك المرض ، أو أصابته عين فلبس الخيط ليرفع تلك العين ، وهكذا : في أصناف شتى ، من أحوال الناس في ذلك .(41/115)
ثمّ لِمَ كان لُبس الحلقة أو الخيط من الشرك الأصغر ؟ الجواب : لأنه تعلق قلبه بها ، وجعلها سببا لرفع البلاء ، أو سببا لدفعه ، والقاعدة في هذا الباب : أن إثبات الأسباب المؤثرة وكون الشيء سببا : لا يجوز إلا من جهة الشرع فلا يجوز إثبات سبب إلا أن يكون سببا شرعيا ، أو أن يكون سببا قد ثبت بالتجربة الواقعة أنه يؤثر أثرا ظاهرا لا خفيا فمن لبس حلقة أو خيطا أو نحوهما لرفع البلاء أو دفعه فإنه يكون بذلك قد اتخذ سببا ليس مأذونا به شرعا ، وكذلك من جهة التجربة : لا يحصل له ذلك على وجه الظهور وإنما هو مجرد اعتقاد من الملابس لذلك الشيء فيه ، فقد يوافق القدر ، فيُشفى مِن حِين لُبس أو بعد لبسه ، أو يدفع عنه أشياء يعتقد أنها ستأتيه فيبقى قلبه معلقا بذلك الملبوس ، ويظن بل يعتقد أنه سبب من الأسباب ، وهذا باطل .(41/116)
أما وجه كون لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه شركا أصغر : فإن من لبسها فقد تعلق قلبه بها ، وجعلها تدفع وتنفع ، أو جعلها تؤثر في رفع الضرر عنه ، أو في جلب المنافع له . وهذا إنما يستقل به الله - جل وعلا - وحده ؛ إذ هو وحده النافع الضار ، وهو - سبحانه وتعالى - الذي يفيض بالرحمة ، ويفيض بالخير أو يمسك ذلك . وأما الأسباب التي تكون سببا لمسبباتها فهذه لا بد أن يكون مأذونا بها في الشرع ؛ ولهذا يعبر بعض العلماء عما ذكرت بقوله : من أثبت سببا - يعني : ادّعى أنه يُحدِث المسبَّب ، أو يُحْدِث النتيجة - لم يجعله الله سببا ، لا شرعا ، ولا قدرا : فقد أشرك ، يعني الشرك الأصغر .(41/117)
هذه القاعدة صحيحة - في الجملة - لكن قد يُشْكِل دخول بعض الأمثلة فيها ، لكن المقصود من هذا الباب : إثبات أن الأسباب لا بد أن تكون إما من جهة الشرع، وإما من جهة التجربة الظاهرة ، مثل : دواء الطبيب بالنار ، ومثل : الانتفاع ببعض الأسباب التي فيها الانتفاع ظاهر ، كأن تتدفأ بالنار أو تتبرد بالماء أو نحو ذلك ، فهذه أسباب ظاهرة بَيِّنَةُ الأثر ، فتحصَّل من هذا : أن تعلّق القلب بشيء لرفع البلاء ، أو دفعه لم يجعله الشارع سببا ، ولم يأذن به ، يكون نوع شرك ، وهذا مراد الشيخ بهذا الباب ؛ فإن لبس الخيط والحلقة من الشرك الأصغر .(41/118)
وهنا تنبيه : وهو أن كل أصناف الشرك الأصغر قد تكون شركا أكبر بحسب حال من فعلها : فالأصل : أن لبس الحلقة أو الخيط . وتعليق التمائم ، والحلف بغير الله ، وقول : ما شاء الله وشئت ، ونحو ذلك من الأعمال ، أو الاعتقادات ، أو الأقوال الأصل فيها : أنها من الشرك الأصغر ، لكن قد تكون شركا أكبر بحسب حال صاحبها ، يعني : إن اعتقد في الحلقة والخيط مثلا أنها تؤثر بنفسها : فهذا شرك أكبر ، وإذا اعتقد أنها ليست سببا لكن تؤثر بنفسها وتدفع الضرر بنفسها ، فتدفع المرض بنفسها ، وتدفع العين بنفسها ، أو ترفع المرض بنفسها ، أو ترفع العين بنفسها . فإذا اعتقد أنها ليست أسبابا بل هي مؤثرة بنفسها : فقد وقع في الشرك الأكبر ؛ لأنه جعل التصرف في هذا الكون لأشياء مع الله - جل وعلا - ، ومعلوم أن هذا من أفراد الربوبية ، فيكون ذلك شركا في الربوبية فعماد هذا الباب على تعلّق القلب بهذه الأشياء : كالحلقة ، والخيط ، ونحوهما ؛ لدفع ما يسوؤه ، أو لرفع ما حل به من مصائب .(41/119)
ثم ساق الشيخ - رحمه الله - بعد ذلك قول الله - جل وعلا - : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } [ الزمر : 38 ] . قوله - جل وعلا - في هذه الآية من سورة الزمر : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال بعض أهل العلم : إن (الفاء) إذا جاءت بعد همزة الاستفهام ، فإنها تكون عاطفة على جملة محذوفة يدل عليها السياق ، وهذه الآية أولها { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ } يعني : قل : أتقرون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده ، ومع ذلك تدعون غيره ؛ وتتوجهون لغيره ؟! أتقرون بذلك ، وتفعلون هذه الأشياء؟ أو يكون التقدير : أتقرون بأن الله هو الواحد في ربوبيته ، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وحده؟؟ إذا أقررتم هذه الأشياء التي تتوجهون لها من دون الله ، هل هي قادرة على دفع المضار عنكم؟ أو هل تجلب لكم رحمة من دون الله ؟؟!! فعلى هذا : تكون (الفاء) هنا ترتيبية ؛ رتبت ما بعدها على ما قبلها ، وهذا هو المقصود هنا من هذا الاحتجاج ؛ لأن(41/120)
طريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية ، وهم أقروا بالربوبية ، فرتب على إقرارهم بهذا : أنه يلزمهم أن يبطلوا عبادة غير الله - جل وعلا - ومعنى قوله : تَدْعُونَ أي : تعبدون ، وقد تكون العبادة بدعاء المسألة ، وقد تكون بأنواع العبادة الأخرى ، وقوله : تَدْعُونَ يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ؛ لأنهما حالتان من أحوال أهل الإشراك بالله .
و(ما) في قوله : مَا تَدْعُونَ عامة ؛ لأنها اسم موصول بمعنى الذي ؛ أي : أفرأيتم الذي تدعونه من دون الله . والذي يدعونه من دون الله - الذي شملته هذه الآية - أنواع ، كل ما دعي من دون الله مما جاء بيانه في القرآن ، وقد جاء في القرآن بيان الأصناف التي أُشرِك بها من دون الله - جل وعلا - وتُوُجِّهَ لها بالعبادة ، وهي أنواع :(41/121)
الأول : بعض الأنبياء والرسل والصالحين ، كما قال - جل وعلا - في آخر سورة المائدة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } [ المائدة : 116 ] الآيات ، فهذا فيه بيان هذا النوع من المعبودين .
الثاني : الملائكة ، كما جاء بيان ذلك في آخر سورة سبأ في قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ }{ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41 ] . ونوع آخر من المشركين : يتوجهون للكواكب بالعبادة ، مثل من يعبد الشمس والقمر ، وغيرهما من الكواكب .
ونوع آخر كانوا يتوجهون للأشجار ، والأحجار .
ونوع كانوا يتوجهون للأصنام والأوثان ، فقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يدخل فيه كل من توجه إليه بشيء من أنواع العبادة ، وذلك يفيدنا في معرفة وجه الاستدلال من هذه الآية ، كما سيأتي .(41/122)
قوله : { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } فيه إبطال أن يكون لتلك الآلهة - بأنواعها - إضرار أو نفع ، ومعنى قوله : { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } أي : لا يستطيعون ذلك ، كما أنه إن أرادني الله - جل وعلا - برحمة ، فهل تستطيع هذه الآلهة أن تدفع رحمة الله ؟! الجواب : أنها لا تستطيع أيضا . فَبَطَلَ إذًا أن يكون ثَمَّ تعلّق بتلك الآلهة العظيمة التي يظن أن لها مقامات عند الله - جل وعلا - موجبة لشفاعتها .
إذا تبين ذلك فقد قال بعض أهل العلم : إن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر ، فَلِمَ جعلها الشيخ - رحمه الله - في سرد بيان أصناف من الشرك الأصغر؟؟ والجواب عن ذلك من وجهين :(41/123)
الوجه الأول : أن الآيات الواردة في الشرك الأكبر ، دلت من جهة المعنى على وجوب التعلق بالله ، وبطلان التعلق بغيره ، وهذا المعنى متحقق في الشرك الأصغر - أيضا - ، ولذا فإن من السلف من نزّل الآيات الواردة في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر بجامع أن في كلا الشركين تعلّقا بغير الله - جل وعلا - فإذا بطل التعلق في الأعظم بطل التعلق فيما هو دونه من باب أولى .(41/124)
الوجه الثاني : أن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر ، ولكن المعنى الذي دارت عليه هو تقرير أن كل من يدعى من دون الله لا يستطيع من الأمر شيئا ، فلا يقدر أن يرفع ضرا ولا بلاء ، ولا أن يمنع رحمة وفضلا عمن أراده الله بذلك وهذا المعنى الذي هو التعلق بما يعتقد أنه يضر أو ينفع هو المعنى الذي من أجله تعلّق المشرك -الشرك الأصغر- بالحلقة وبالخيط ؛ لأنه ما علق الخيط ، ولا علق الحلقة ، وغيرهما إلا لأنه يعتقد أن لهما تأثيرا من جهة رفع البلاء أو دفع الضر ، وأنهما يجلبان النفع أو يدفعان الضر ، مع أن هذه الأشياء مهينة وأمور وضيعة ، فإذا نُفِيَ عن الأشياء العظيمة : كالأنبياء ، والمرسلين ، والملائكة ، والصالحين ، أو الأوثان التي لها روحانيات كما يقولون فإن انتفاء النفع والضر عما سواها - مما هو أدنى - لا شك أنه أظهر في البرهان ، وأبين .
وقوله : بِضُرٍّ الوارد في سياق قوله تعالى : { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ } : نكرة في سياق الشرط ، فهو يعمّ جميع أنواع الضرر ، يعني : أن غير الله - جل وعلا - لا يستطيع أن يرفع ضرا - أيّ ضرّ - أنزله الله - جل وعلا - إلا بإذنه سبحانه .(41/125)
ثم ساق - رحمه الله - في الباب عدة أحاديث ؛ فقال : عن عمران بن حصين رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقه من صفر ، فقال : " ما هذه ؟ " قال : من الواهنة ، فقال : انزعها ، فإنها لا تزيدك إلا وهنا ، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » (1) .
مناسبة الحديث للباب ظاهرة ، وهي : أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا في يده حلقة من صفر وكان أهل الجاهلية يعلقونها رجاء النفع أو دفع الضر فقال عليه الصلاة والسلام : " ما هذه؟ " ، فإن قيل : فما نوع الاستفهام في هذا الحديث ؟ الجواب أن من أهل العلم من قال : إنه استفهام إنكار . ولكن المسؤول لم يفهم أنه إنكار ، بل فهم أنه استفصال ، فلذلك أجاب ؛ فقال : من الواهنة .
_________
(1) تقدم .(41/126)
وقال آخرون من أهل العلم : إنه يحتمل أن يكون استفهام استفصال ، أو استفهام إنكار ؛ ولهذا أجاب المسؤول بقوله : من الواهنة . والأظهر : الأول ، يعني : أنه يفيد الإنكار الشديد ، وإنما كان هو الأظهر من حيث دلالة السياق عليه ؛ وليس في السياق ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد بسؤاله الاستفصال عن السبب الذي من أجله لبس الرجل حلقه الصفر ، كأن يكون قد لبسها للتحلي ، أو لأي أمر آخر .
والمقصود أن الاستفهام في قوله : « ما هذه؟ » لا يحتمل أن يكون استفصالا عن وجه اللبس ، هل هو : للاعتقاد ، أو يكون قد لبس لغير ذلك ، بل هو استفهام للإنكار . وإذا احتمل أن يكون الاستفهام للاستفصال ، فإن في قول المسؤول : « من الواهنة » ما يعين سبب اللبس ، فعلى كلا القولين : يكون قد لبسها لأجل تعلقه بها ، لرفع المرض ، أو لدفعه . والواهنة : نوع مرض من الأمراض يهن الجسم ، ويطرحه ، ويضعف قواه .(41/127)
وقوله عليه الصلاة والسلام : « انزعها » : هذا أمر ، وفيه : أن تغيير المنكر يكون باللسان ، إذا كان المأمور يطيع الآمر ؛ ويكتفى بذلك عن تغييره باليد ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام له حق الولاية ، وبإمكانه تغيير هذا المنكر بيده ، لكن لما علم من حال ذلك المأمور أنه يمتثل الأمر قال له : « انزعها » . فلا تعارض بين هذا وبين ما سيأتي من أن حذيفة رضي الله عنه قطع خيطا من يد رجل ؛ فإن ذلك مبني على حال أخرى .
قوله : « فإنها لا تزيدك إلا وهنا » : يعني : أن ضررها أقرب من نفعها ، وهذا شامل لجميع أنواع الشرك ، فإن ما أشرك به ضرره أعظم من نفعه ، لو فُرض أن فيه نفعا ، وقد قال العلماء في قوله هنا : « " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا » يعني : لو كان فيها أثر فإن أثرها الإضرار بدنيا ، وروحيا ، ونفسيا ؛ لأنها تضعف الروح والنفس عن مقابلة الوهن والمرض ، فيكون تعلّقه بذلك الحلقة أو الخيط سببا في حصول الضعف .
قوله : « فإنها لا تزيدك إلا وهنا » : وهذا حال كل من أشرك فإن شركه يجره من ضرر إلى ضرر أكثر منه ، وإن ظن أنه في انتفاع .(41/128)
قوله صلى الله عليه وسلم : « فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » : لأن حال المعلِّق يختلف ، فقد يكون علقها لاعتقاده أنها تؤثر استقلالا ، وقد يكون علّقها من جهة التسبب ، فإذا كان الذي رُئِيَتْ في يده صحابيا ، تعين أن تعليقه لها من جهة التسبب ، لا من جهة اعتقاده تأثيرها استقلالا ، ولكن الفائدة من قوله : « ما أفلحت أبدا » حصول العبرة له ، ولغيره ، وبيان عاقبة ذلك .(41/129)
والفلاح المنفي - في هذا الحديث - يختلف معناه ، باختلاف حال المعلِّق ؛ فيكون المراد : إما نفي الفلاح المطلق ، بمعنى : الحرمان من دخول الجنة ، والخلود في النار . وهذا في حق من اعتقد أن تعليق الحلقة أو الخيط ينفع استقلالا ، فهذا : شرك أكبر ، وإما نفي مطلق الفلاح ، أو نفي نوع منه ، أو درجة من درجاته ، فيكون واقعا في الشرك الأصغر ، وهذا : إن اعتقد أن تعليق الحلقة أو الخيط سبب لحصول النفع ، فهذا : قد اتخذ من الأسباب ما لم يجعله الله - عز وجل - سببا ، لا شرعا ، ولا قدرا ، ومطلق الشيء ، والشيء المطلق : مصطلحان يكثر وردوهما في كتب أهل العلم ، وفي كتاب التوحيد خاصة ، فتجدهم يقولون - مثلا - : التوحيد المطلق ومطلق التوحيد ، والإسلام المطلق ومطلق اللإسلام والإيمان المطلق ومطلق الإيمان ، والشرك المطلق ومطلق الشرك ، والفلاح المطلق ومطلق الفلاح ، والدخول المطلق ومطلق الدخول ، والتحريم المطلق - يعني تحريم دخول الجنة أو تحريم دخول النار - ومطلق التحريم .(41/130)
ومن المهم أن تعلم أن الشيء المطلق هو : الكامل ، فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل ، والإسلام المطلق هو الإسلام الكامل ، والتوحيد المطلق هو التوحيد الكامل ، والفلاح المطلق هو الفلاح الكامل .
وأما مطلق الشيء فهو : أقل درجاته ، أو درجة من درجاته ، فمطلق الإيمان هو أقل درجاته ؛ فنقول مثلا : هذا ينافي الإيمان المطلق ، يعني : ينافي الإيمان ، أو نقول : هذا ينافي مطلق الإيمان ، يعني ينافي أقل درجات الإيمان .
وإذا تقرر هذا : فإنا نقول : الفلاح المنفي يحتمل أن يكون : الفلاح المطلق ، وقد تقدم أن هذا يُعتَبَر بحسب حال المعلِّق ، فإن كان معتقدا فيها ، أنها تنفع استقلالا فهو من أهل النار ، وإن كان يعتقد أنها سبب ، فهو من أهل النار ، لكنه لا يُخلّد فيها ، كعصاة الموحدين .(41/131)
قال - رحمه الله - : ( وله عن عقبة بن عامر مرفوعا : « من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » ) (1) المقصود من هذا الحديث ذكر لفظ (التعلق) . وتعلّق يعني : أنه علّق وتعلق قلبه بما علق ، ولفظ (تعلق) يشمل التعليق ، وتعلق قلبه بما علق ، فهو نوع لبس . والمعنى : أنه تعلق قلبه بما لبس ، سواء كان المعلق في صدره ، أو يده ، أو في أي موضع آخر ، فالمقصود : أن يكون قلبه معلقا بما تعلقه .
والتميمة لها معنى سيأتي شرحه لاحقا - إن شاء الله تعالى - لكن هي : نوع خرزات ، وأشياء توضع على صدور الصغار غالبا ، وقد يضعها الكبار ؛ لأجل دفع العين ، أو دفع الضرر ، أو الحسد ، أو أثر الشياطين ، ونحو ذلك . وقوله : « فلا أتم الله له » : دعاء منه صلى الله عليه وسلم على معلّقها بألا يتم الله له مراده ؛ لأن التميمة أخذت من تمام الأمر ، وسميت تميمة لاعتقاده فيها أنه بها يتم له الأمر الذي أراد فدعا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام بأن لا يتم الله - جل وعلا - له ما أراد .
_________
(1) تقدم .(41/132)
قوله : « ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » : الودعة : نوع من الصدف ، أو الخرز يوضع على صدور الناس ، أو يعلق على العضد ، ونحو ذلك ؛ لأجل دفع أو رفع العين ونحوها من الآفات .
ومعنى قوله : « فلا ودع الله له » دعاء عليه أيضا ومعناه : فلا تركه ذلك ، ولا جعله في دعة ، وسكون وراحة ، وإنما دعا عليه الصلاة والسلام عليه بذلك ، لأن ذاك المعلِّق أشرك بالله - جل وعلا - .
قال : وفي رواية : « من تعلق تميمة فقد أشرك » لأن تعليق التمائم والتعلق بها شرك أصغر ، وقد يكون أكبر بحسب حال المعلق ، كما سيأتي تفصيل الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
قال : " ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] (1) : مناسبة هذا الأثر للباب ظاهرة ، وهي أن حذيفة الصحابي رضي الله عنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه ، واستدل بالآية على أن ذلك من الشرك . و(مِنْ) هنا تعليلية ، يعني : أنه علق الخيط لأجل رفع الحمى ، أو لرفعها .
_________
(1) تقدم .(41/133)
و(مِنْ) لها معان كثيرة ، فتكون تبعيضية وتعليلية ، وغير ذلك ، وقد جمعها ابن أم قاسم في نظمه لبعض حروف المعاني بقوله :
أتتنا (مِنْ) لتبيين وبعـ ... وتعليل وبدء وانتهـ
وزائدة وإبدال وفصـ ... ومعنى على وعن وفي وبـ
فـ (مِنْ) في هذا الأثر : تفيد التعليل ، ومعنى قوله : « من الحمى » أي لأجل دفع الحمى ، أو لرفعها ، فـ (من) تعليل لوضع الخيط في اليد .
قوله : . . . « فقطعه » : يدل على أن هذا منكر عظيم ، يجب إنكاره ، ويجب قطعه .(41/134)
قوله : . . وتلا قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] : قال السلف في معنى هذه الآية { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ } أي : أنهم مع إقرارهم بأن الله هو الرب ، وهو الرزاق ، وهو المحيي ، وهو المميت ، وتوحيدهم إياه في الربوبية { إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } به - جل وعلا - في العبادة . فليس توحيد الربوبية بِمُنْجٍ ، بل لا بد من أن يضم إليه توحيد العبادة ومع أن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر إلا أنه يصح الاستدلال به على الشرك الأصغر ، وإلى هذا أشار المصنف - رحمه الله - بقوله : فيه أن الصحابة يستدلون بما نزل في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر .(41/135)
" باب ما جاء في الرقى والتمائم "
وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري : رضي الله عنه « أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قُطِعَتْ » . (1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الرقى ، والتمائم ، والتولة شرك » رواه أحمد وأبو داود . (2) (التمائم) : شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين ، لكن إذا كان المعلّق من القرآن فقد رخص فيه بعض السلف ، وبعضهم لم يرخص فيه ، وجعله من المنهي عنه ، منهم ابن مسعود رضي الله عنه . و(الرقى) هي التي تسمى العزائم ، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك ، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحُمَة . و (التولة) شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها ، والرجل إلى امرأته .
_________
(1) أخرجه البخاري (3005 ) . ومسلم (2115) .
(2) أخرجه أحمد 1 / 381 وأبو داود (3883) وابن ماجه (3576) وابن حبان 7 / 630 والحاكم 4 / 217 ، 418 .(41/136)
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا : « إن من تعلق شيئا وكل إليه » رواه أحمد والترمذي . (1) وروى أحمد عن رويفع قال : قال لي رسول الله : صلى الله عليه وسلم « يا رويفع ، لعل الحياة تطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته ، أو تقلد وترا ، أو استنجى برجيع دابة ، أو عظم ، فإن محمدا بريء منه » . (2) وعن سعيد بن جبير قال : " من قطع تميمة من إنسان كان كَعِدْل رقبة " (3) رواه وكيع . وله عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ، ومن غير القرآن (4) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الرقى والتمائم .
الثانية : تفسير التولة .
الثالثة : أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء .
الرابعة : أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك .
الخامسة : أن التميمة إذا كانت من القرآن ؛ فقد اختلف العلماء : هل هي من ذلك أو لا ؟
السادسة : أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك .
السابعة : الوعيد الشديد على من تعلق وترا .
الثامنة : فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان .
التاسعة : أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف ، لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 310 و311 والترمذي (2073) والحاكم 4 / 216 .
(2) أخرجه أحمد 4 / 108 و109 .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » (3524) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » (3518) .(41/137)
في الباب السابق قال الإمام - رحمه الله - : " باب من الشرك لبس الحلقة والخيط " وقال هنا : " باب ما جاء في الرقى والتمائم " ولم يقل : باب من الشرك الرقى والتمائم ، وذلك لأن الرقى منها ما هو جائز مشروع ، ومنها ما هو شرك ممنوع ، والتمائم منها ما هو متفق عليه أنه شرك ، ومنها ما قد اختلف الصحابة فيه هل هو من الشرك أو لا ؟ لهذا عبر - رحمه الله - بقوله : " باب ما جاء في الرقى والتمائم " وهذا من أدب التصنيف العالي .
والرقى : جمع رقية ، وهي معروفة ، وقد كانت العرب تستعملها ، وحقيقتها : أنها أدعية وألفاظ تقال أو تتلى ، ثم ينفث فيها ، ومنها ما له أثر عضوي في البدن ، ومنها ما له أثر في الأرواح ، ومنها ما هو جائز مشروع ، ومنها ما هو شرك ممنوع .(41/138)
وثبت أنه عليه الصلاة والسلام رقى نفسه ، ورقى غيره ، بل ثبت أنه رُقِيَ أيضا رقاه جبريل ، (1) ورقته عائشة ، (2) فهذا الباب - باب ما جاء في الرقى والتمائم - معقود لبيان حكم الرقى ، وقد رخّص الشارع في الرقى ما لم تكن شركا ، وهي الرقى التي خلت من الشرك . وقد سأل بعض الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن حكم الرقى فقال : « اعرضوا علي رقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك » (3) وقد قال العلماء : الرقية تجوز بثلاثة شروط مجمع عليها :
الأول : أن تكون بالقرآن ، أو بأسماء الله ، أو بصفاته .
الثاني : أن تكون بالكلام العربي ، أي : بلسان عربي ، معلوم المعنى .
الثالث : أن لا يعتقد أنها تنفع بنفسها ، بل بتقدير الله - عز وجل - ، قال بعض العلماء : يدخل في الشرط الأول أيضا أن تكون بما ثبت في السنة ، وعلى هذا : فيكون الشرط الأول : أن تكون من القرآن ، أو السنة ، أو بأسماء الله وبصفاته ، فلا تكون الرقى جائزة إلا باجتماع هذه الشروط الثلاثة .
_________
(1) أخرجه مسلم (2186) والترمذي (97292) .
(2) أخرجه البخاري (5735) .
(3) أخرجه مسلم (2200).(41/139)
فإذا تخلف الشرط الأول أو الثاني : ففي جواز الرقية خلاف بين أهل العلم ، والشرط الثالث : متفق عليه بينهم ، وأما اشتراط كونها بأسماء الله وصفاته أو بالكتاب والسنة ، أو أن تكون بلسان عربي مفهوم ، فإن هذا مختلف فيه كما تقدم ، وقال بعضهم : يسوغ أن تكون الرقية بما يعلم معناه ، ويصح المعنى بلغة أخرى ، ولا يشترط أن تكون بالعربية ، ولا يشترط أن تكون من القرآن أو السنة ، وهذه مسائل فيها خلاف وبحث ، وأما من جهة تأثير غير القرآن على المرقي وما سبق من الخلاف : ففيه مسائل نرجئ تفصيل الكلام فيها إلى موضع آخر إن شاء الله .
فالمقصود : أن الرقى الجائزة بالإجماع هي ما اجتمعت فيها الشروط الثلاثة ، وأما الرقى الشركية المحرمة فهي : التي فيها استعاذة ، أو استغاثة بغير الله ،أو كان فيها شيء من أسماء الشياطين أو اعتقد المرقي فيها أنها تؤثر بنفسها وهي التي قال عليه الصلاة والسلام فيها : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » (1) كما سيأتي بيانه .
_________
(1) تقدم .(41/140)
والتمائم : جمع تميمة - وقد ذكر تفسيرها مختصرا من قبل - وهي تجمع أنواعا كثيرة فالتمائم تجمع كل ما يعلّق ، أو يتخذ مما يراد منه تتميم أمر الخير للعبد ، أو دفع الضرر عنه ويعتقد فيه أنه سبب . ولم يجعل الله - جل وعلا - ذلك الشيء سببا لا شرعا ، ولا قدرا .
فالتميمة - إذًا - شيء يتخذ من جلد ، أو ورق ، ويكون فيه أذكار وأدعية وتعوذات تعلّق على الصدر ، أو في التعضد ، وقد تتخذ التميمة من خرزات وحبال ونحو ذلك ، يعلق على الصدر ، وقد تكون التميمة باتخاذ شيء يجعل على باب البيت ، أو في السيارة، أو أي مكان ما ، فالحاصل : أن التمائم يجمعها أنها : شيء يراد منه تتميم أمر الخير ، وتتيم أمر دفع الضر وذلك الشيء لم يؤذن به لا شرعا ، ولا قدرا .
فالتميمة - إذًا - ليست خاصة بصورة معينة ، بل تشمل أمورا كثيرة وتعم أصنافا عديدة ، مثل ما نراه على كثير من أهل زماننا ، من تعليقهم أشياء على صدورهم : مثل جلود صغيرة يجعلونها على رقابهم ، أو تكون على العضد ، أو يربطونها على بطونهم لرفع الأمراض الباطنية : كالإسهال ، والقيء ، ونحوهما .(41/141)
ومنهم من يجعل في سيارته رأس دب ، أو أرنب ، أو غيرها من الأشكال ، كحدوة الفرس ، أو يعلق خرزات ، ومسابح خشبية ، ونحو ذلك على المرايا الأمامية للسيارة . ومنهم من يلبس سلسلة فيها شكل عين صغيرة ، وبعضهم قد يعلّق على مدخل الباب رأس ذئب ، أو غزال ، أو يضع على مطرق الباب حدوة فرس ، اعتقادا من أصحابها أنها تدفع العين ، أو تجلب لهم النفع .
فكل هذه أنواع ، وأصناف ، وصور للتمائم ، أحدثها الناس على اختلاف الأزمان .
لكن من الناس من يقول : إنما أعلق هذه الأشياء للزينة ، ولا أستحضر هذه المعاني المحظورة ، فهذا يقوله طائفة قليلة من الناس .
فنقول : إن علق التمائم لدفع الضر ، واعتقد أنها سبب لذلك : فيكون قد أشرك الشرك الأصغر ، وإن علقها للزينة فهو محرم ؛ لأجل مشابهته من يشرك الشرك الأصغر ، فدار الأمر - إذًا - على النهي عن التمائم كلها ، سواء اعتقد فيها أو لم يعتقد ؛ لأن حاله إن اعتقد أنها سبب : فهو شرك أصغر ، وإن لم يعتقد فيكون قد شابه أولئك المشركين ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : « من تشبه بقوم فهو منهم » (1) .
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5114) وابن أبي شيبة في مصنفه (19437) وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (6 / 98) .(41/142)
قوله - رحمه الله - : ( في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه : « أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت » (1) .
وجه الاستدلال بهذا الحديث : أن تعليق القلادة من الوتر على البعير مأمور بقطعه . والأمر بقطعه ؛ لأجل أن العرب تعتقد أنها تدفع العين عن الأبعرة ، والنَّعَم ، فيعلّقون عليها الأوتار على شكل قلائد ، وربما ناطوا بالأوتار أشياء من خرز ، أو من شعر ، أو نحو ذلك لدفع العين ، فهذا نوع من أنواع التمائم . فمناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة ، وهي : أن قوله : « لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت » ظاهر في النهي عن التمائم ، وأن هذا النوع يجب قطعه ، وإنما يجب قطعه؟ لأن في تعليقه اعتقاد أنه يدفع الضر أو أنه يجلب النفع ، وهذا الاعتقاد اعتقاد شركي .
قوله : ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » ) ، فهذا الحديث تضمن تأكيدا ؛ لأن دخول (إن) على الجملة الخبرية بعدها يفيد تأكيد ما تضمنته .
_________
(1) تقدم.(41/143)
وقوله هنا : (الرقى) لما دخلت عليها (الألف واللام) أفادت العموم ، فهذا الحديث أفاد بعمومه أن كل الرقى من الشرك ، وأن كل التمائم من الشرك ، وأن كل التولة من الشرك ، فتكون هذه الأنواع كلها من الشرك .
وهذا العموم خص الدليل منه الرقى وحدها ، وهو قوله : « لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا » (1) وبأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى ورقي - عليه الصلاة والسلام - ، فدل الدليل - إذًا - على أن العموم هاهنا مخصوص ، فليس كل أنواع الرقية شرك ، بل بعض أنواع الرقية ، وهي : التي اشتملت على شرك ، فالعموم هنا مخصوص ، وقد خرج منه ما لم يكن فيه شرك وقد جاء الحديث بلفظ : « لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا » (2) وفي لفظ آخر قال : « لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك » (3) أما التمائم فلم يخص الدليل بالجواز منها نوعا دون نوع ، فتكون التمائم بكل أنواعها شركا لعدم ورود ما يخصص بعضها ؛ إذ لم يستثن الشارع منها شيئا ، والأصل بقاء العام على عمومه ، والتخصيص يكون بالشرع ، ولم يرد هنا ، فيبقى على الأصل .
_________
(1) تقدم .
(2) تقدم .
(3) تقدم .(41/144)
قوله : " والتولة " : التولة كما فسرها الشيخ - رحمه الله - : شيء يصنعونه ، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها ، والرجل إلى زوجه ، وهو نوع من السحر ، ويسمى عند العامة الصرف والعطف ، فهو نوع من السحر يصنع فيجلب شيئا ، ويدفع شيئا - بحسب اعتقادهم - وهي في الحقيقة نوع من أنواع التمائم لأنها تصنع ويكون الساحر هو الذي يرقي فيها الرقية الشركية ، فيجعل المرأة تحب زوجها ، أو يجعل الرجل يحب زوجته ، وهذا نوع من أنواع السحر ، والسحر شرك بالله - جل وعلا - وكفر عام في كل أنواع التولة، فهي شرك كلها .(41/145)
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا : « من تعلق شيئا وُكِلَ إليه » (1) : (شيئا) - هنا - نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الأشياء فكل من علّق شيئا وُكِلَ إليه فمن أخرج صورة من صور التعليق عن هذا العموم كانت الحجة عليه ؛ لأن هذا الدليل عام ، ويفيد أن من تعلق أي شيء من الأشياء فإنه يُوكل إليه ، والعبد إنما يكون عزه ، ويكون فلاحه ، ونجاحه ، وحسن قصده ، وحسن عمله في تعلقه بالله وحده ، فيتعلق بالله وحده في أعماله ، وفي أقواله ، وفي مستقبله ، وفي دفع المضار عنه ، فيكون أنس قلبه بالله ، وسروره بالله ، وتعلقه بالله ، وتفويض أمره إلى الله ، وتوكله على الله جل وعلا فمن كان كذلك وتوكل على الله ، وطرد الخلق من قلبه : فإنه لو كادته السماوات والأرض لجعل الله - جل وعلا - له من بينها مخرجا ؛ لأنه توكل وفوض أمره على العظيم - جل جلاله وتقدست أسماؤه - ، فقال هنا : « من تعلّق شيئا وُكِلَ إليه » فإذا تعلق العبد تميمة وكل إليها ، فما ظنك بمن وكل إلى خرقه ، أو إلى خرز ، أو إلى حدوة حصان ، أو إلى شكل حيوان ، ونحو ذلك ، لا شك أن خسارته أعظم الخسارة .
_________
(1) تقدم .(41/146)
ووجه الاستدلال هنا في قوله : « من تعلق شيئا » أنه ذكر نتيجة التعلق وهو أنه يوكل إلى ذلك الشيء الذي تعلقه ، فمن تعلق شيئا وكل إليه ، وإذا وكل إليه فمعنى ذلك أنه خسر في ذلك الخسران المبين .
والشيخ - رحمه الله - لم يصدِّر الباب بحكم ، فيكون الاستدلال على حكمها مستفاد من هذه الأحاديث .
قوله : ( التمائم شيء يعلّق على الأولاد يتقون به العين ) : (شيء) هنا شاملة لأي شيء يعلّق دون صفة معينة ، وخص بعض العلماء التمائم بما كان متخذا من الخرز ، وبعضهم خصة بما كان مصنوعا من الجلد ونحوه ، وهذا ليس بجيد ، بل التمائم اسم يعم كل ما يعلق لدفع العين واتقاء الضرر ، أو لجلب خير نفسي .(41/147)
ثم قال : ( لكن إذا كان المعلّق من القرآن فرخص فيه بعض السلف ) يعني : إذا كان المعلّق من القرآن بمعنى أنه جعل في منزله مصحفا ؛ ليدفع العين ، أو علّق على صدره شيئا كسورة الإخلاص ، أو آية الكرسي ، ليدفع العين ، أو ليدفع الضرر عنه ، فهذا من حيث التعليق يسمى تميمة ، فهل هذه التميمة جائزة أو غير جائزة ؟ قال الشيخ - رحمه الله - : إن التمائم إذا كانت من القرآن فقد اختلف فيها السلف ، فجوزها ، ورخّص فيها بعض السلف ، ويعني ببعض السلف : بعض كبار الصحابة ، ومال إلى هذا القول بعض أهل العلم الكبار ، وبعضهم لم يرخّص فيها كابن مسعود رضي الله عنه ، وكأصحاب ابن مسعود الكبار ، منهم : إبراهيم النخعي ، وعلقمة ، وعبيدة ، والربيع بن خثيم ، والأسود ، وأصحاب ابن مسعود جميعا ، فالحاصل : أن السلف اختلفوا في ذلك ، ومن المعلوم أن القاعدة : أن السلف إذا اختلفوا في مسألة وجب الرجوع فيها إلى الدليل ، والدليل قد دل على أن كل أنواع التمائم منهي عنها ، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : « من تعلّق شيئا وُكِلَ إليه » ، وقوله : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » فمن تعلّق القرآن أو شيئا منه كان داخلا في النهي ، لكن إذا(41/148)
كان المعلَّق من القرآن فلا يكون مشركا ؛ لأنه علق شيئا من صفات الله - جل وعلا - وهو كلام الله - جل وعلا - فلا يكون قد أشرك مخلوقا ؛ لأن الشرك معناه : أن تشرك مخلوقا مع الله - جل وعلا - والقرآن ليس بمخلوق ؛ بل هو كلام الله الباري - جل وعلا - منه بدأ ، وإليه يعود ، فإذا أخرجت التميمة المتخذة من القرآن عن كونها شركا من عموم قوله : « إن التمائم شرك » فلأجل كون القرآن كلام الله ، ليس بمخلوق . لكن هل هي منهي عنها ، أو غير منهي عنها ؟؟ الجواب : أن قوله عليه الصلاة والسلام : « من تعلق شيئا وكل إليه » ، ونهيه عن التمائم بأنواعها ، دليل على أن تخصيص القرآن بالإذن من بين التمائم ، ومن بين ما يعلق : يحتاج إلى دليل خاص ؛ لأن إبقاء العموم على عمومه هو إبقاء لدلالة ما أراد الشارع الدلالة عليه بالألفاظ اللغوية ، والتخصيص نوع من أنواع التشريع ، فلا بد فيه من دليل واضح ؛ لهذا صارت الحجة مع من يجعل التمائم التي من القرآن مما لا يُرخّص فيه كابن مسعود ، وكغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ، وكذلك هو قول عامة أهل العلم ، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها المحققون من أصحابه ، وعليها المذهب عند المتأخرين .(41/149)
بقي أن نقول : إن تجويز اتخاذ التمائم من القرآن يترتب عليه مفاسد منها : 1- أنه يفضي إلى الاشتباه فقد نرى من عليه التميمة ، فيشتبه علينا الأمر ، هل هذه تميمة شركية ، أو من القرآن ؟ وإذا ورد هذا الاحتمال فإن المنكر على الشركيات يضعف عن الإنكار ؛ لأنه سيقول : يحتمل أن تكون من القرآن ، فإجازة تعليق التمائم من القرآن فيه إبقاء للتمائم الشركية ؛ لأن التمائم تكون مخفية غالبا ، وإما في جلد ، أو في نوع من القماش ونحو ذلك ، فإذا رأينا من علق تميمة : وقلنا يحتمل أن تكون من القرآن ، أو غيره ، فإذا استفصلت منه ، وقلت له : هل هذه تميمة شركية أو من القرآن؟ فمعلوم أن صاحب المنكر سيجيب : بأنها من القرآن حتى ينجو من الإنكار ؛ لأنه يريد أن يسلم له تعليقها ، فمن المفاسد العظيمة أن في : إقرار التمائم من القرآن إبقاء للتمائم الشركية ، وفي النهي عنها سد لذريعة الإشراك بالتمائم الشركية ، ولو لم يكن إلا هذا لكان كافيا .(41/150)
2 - أن الجهلة من الناس إذا علقوا التمائم من القرآن تعلقت قلوبهم بها ، فلا تكون عندهم مجرد أسباب ، بل يعتقدون أن فيها خاصية بنفسها بجلب النفع ، أو دفع الضر ، ولا شك أن هذا فتحا لباب الاعتقادات الفاسدة على الناس يجب وصده ومن المعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع .
3 - ومن المفاسد المتحققة أيضا أنه إذا علق شيئا من القرآن ، فإنه يعرضه للامتهان ، فقد ينام عليه ، أو يدخل به مواضع قذرة ، أو يكون معه في حالات لا يليق أن يكون معه فيها شيء من القرآن فهذا مما ينبغي اجتنابه وتركه .
فتحصل - بالدليل وبالتعليل - : أن تعليق التمائم بكل أنواعها : لا يجوز ، فما كان منها من القرآن فنقول يحرم على الصحيح ولا يجوز ، ويجب إنكاره ، وما كان منها من غير القرآن ، فهذا نقول فيه : إنه من الشرك بالله ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » (1) والتخصيص نوع من العلم فيجب أن يكون فيه دليل خاص .
_________
(1) تقدم .(41/151)
بقي في تتمة الباب : ما رواه أحمد عن رويفع قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا رويفع ، لعل الحياة تطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته ، أو تقلد وترا ، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه » (1) : هذا الحديث وارد في " باب ما جاء في الرقى والتمائم " وفيه ذكر تقلّد الوتر وأن محمدا عليه الصلاة والسلام بريء ممن تقلد وترا ، وقد تقدم في أول الباب حديث أبي بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسولا : « أن لا يبقين في عنق بعير قلادة من وتر ، أو قال قلادة إلا قطعت » ، وهذا الحديث في معناه .
وقوله : في هذا الحديث : « تقلد وترا » فيه تقييد بالوتر ، وهذا له مفهوم ، وهو أن النهي ليس راجعا إلى القلادة من حيث هي بل إلى القلادة التي يُعتقد فيها أنها تدفع العين ، وخص الوتر منها هنا ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يقلدون الأوتار ، وينوطون بها بعض الخرق ، أو بعض الشعر ، أو بعض العظام ، لكي تدفع العين عن الأبعرة ، وأما مجرد التقليد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر هديه وأيضا فتلت له القلائد ، وعلق القلائد لبيان أن ما أرسله إلى مكة هدي .
_________
(1) تقدم .(41/152)
فالتقليد هنا خُص بالوتر ؛ فيقال : القلادة التي تجعل على الحيوان أو على غيره إذا كانت مما يُعتقد فيها ، أو يختص بها أهل الاعتقادات : فإنه يُنهى عنها ولهذا قيدها في حديث أبي بشير الأول بقوله : « لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر » (1) و(مِن) ها هنا بيانية ، وكذلك هنا قال : « أو تقلد وترا » وهذا واضح المعنى في أنه جعل الوتر الذي قُلد تميمة .
_________
(1) تقدم .(41/153)
وقوله في هذا الحديث : « فإن محمدا بريء منه » : هذا من الألفاظ التي تدل على أن هذا الفعل من الكبائر ؛ لأن مما يستدل به على كون الفعل ، أو القول ، من الكبائر : أن يقال عن مرتكبه : الله ورسوله منه بريئان ، أو يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منه ؛ لأن ذلك يدل على عظم المعصية ، وأن الشرك الأصغر من الكبائر كما أن الشرك الأكبر من الكبائر ، والكبائر العملية - التي ليس معها اعتقاد - كالزنا والسرقة ، وشرب الخمر : هي من حيث جنس المحرم والكبيرة أقل مرتبة من الشرك الأصغر فضلا عن الشرك الأكبر ؛ ولهذا نقول : إن جنس الشرك الأصغر كاتخاذ التمائم ، أو نحو ذلك هذا جنسه أعظم من حيث الذنب والكبيرة من جنس الكبائر العملية التي لا يصحب فاعلها حين فِعلها اعتقاد ، كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وما أشبه ذلك . قوله : ( وعن سعيد بن جبير قال : من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " ) (1) : يعني كان كتحرير رقبة ، وهذا فيه فضيلة قطع التمائم وذلك لأنها شرك بالله - جل وعلا - ، والشرك الأصغر مدخل للنار، وفاعله متوعد بالنار ؛ كما في قوله - جل وعلا - { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ، 116 ] ونحو
_________
(1) تقدم .(41/154)
قوله صلى الله عليه وسلم : « من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار » وفي نحو قوله أيضا : « من مات وهو يشرك بالله شيئا دخل النار » فمن قطع تميمة من عنق من علقها : فهو في مقام إعتاق رقبة ذاك الذي قطعت منه التميمة من النار ؛ لأنه استوجب بذلك الفعل الوعيد بالنار ، فإذا قطع التميمة كان جزاؤه من جنس فعله ، فكما أنه أعتق رقبة هذا المسلم من النار أثيب بأن له مثل إعتاق رقبة أي : في الأجر .
وهذا القول من سعيد بن جبير محمول على أنه مما سمعه من الصحابة رضوان الله عليهم ؛ لأن هذا مما لا يقال بالرأي ، وإذا كان كذلك فله حكم المرسل ؛ لأن فيه فضيلة خاصة جعلها سعيد بن جبير لمن قطع تميمة من رقبة إنسان ، فيكون ذلك من قبيل المرسل ، يعني : من قبيل المرفوع ، وسعيد بن جبير تابعي من أصحاب ابن عباس فيكون مرسلا .
وفي حجية المرسل كلام : فالإمام أحمد ، ومالك ، يحتجون بالمرسل ، وكذلك الإمام أبو حنيفة يحتج بالمرسل ، ومنهم من يجعل له شروطا كالشافعي ، ومنهم من يحتج بالمرسل إذا كان المعنى معروفا في الباب كما هاهنا .(41/155)
وقال بعض أهل العلم : قول التابعي في الأشياء التي لا تدرك الاجتهاد ، ولا يناط بها الرأي يكون محمولا على أنه قول صحابي ، يعني : أنه سمعه من الصحابي ، فيكون اجتهاد صحابي ، وهذا ليس بقوي ؛ لأنه إذا كان محمولا على أنه سمعه من الصحابي ، فنقول أيضا : الصحابي لا يقوله من جهة الرأي ، فلا بد أن يكون - إذًا - سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن مثل هذا لا مدخل فيه للاجتهاد ، والقول الأول هو المعروف ، وهو أن هذه الصيغة من قبيل المرسل .
قوله : " وله " : يعني لوكيع .
" عن إبراهيم " : وهو النخعي ، تلميذ ابن مسعود وإبراهيم النخعي عالم أهل الكوفة بعد ابن مسعود .
قوله : " كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن " : قوله : (كانوا) يعني : أصحاب ابن مسعود ، كالأسود ، وعلقمة ، وكالربيع بن خثيم وكعبيدة السلماني ، ونحو هؤلاء .(41/156)
" باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما "
وقول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى }{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى }{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى }{ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى }{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [ النجم : 19 - 23 ] عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها : ذات أنواط ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر !! إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال : إنكم قوم تجهلون ، لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه . (1)
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النجم .
الثانية : معرفة صورة الأمر الذي طلبوا .
الثالثة : كونهم لم يفعلوا .
_________
(1) أخرجه الترمذي (2181) وقال : حديث حسن صحيح .(41/157)
الرابعة : كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك ، لظنهم أنه يحبه .
الخامسة : أنهم جهلوا هذا ؛ فغيرهم أولى بالجهل .
السادسة : أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم .
السابعة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم ؛ بل رد عليهم بقوله : « الله أكبر ، إنها السنن لتتبعن سَنَن من كان قبلكم » فغلّظ الأمر بهذه الثلاث .
الثامنة : الأمر الكبير - وهو المقصود - : أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا } .
التاسعة : أن نفي هذا من معنى " لا إله إلا الله " مع دقته وخفائه على أولئك .
العاشرة : أنه حلف على الفتيا ، وهو لا يحلف إلا لمصلحة .
الحادية عشرة : أن الشرك فيه أكبر وأصغر ، لأنهم لم يرتدوا بهذا .
الثانية عشرة : قولهم « ونحن حدثاء عهد بكفر » فيه : أن غيرهم لا يجهل ذلك .
الثالثة عشرة : التكبير عند التعجب ، خلافا لمن كرهه .
الرابعة عشرة : سد الذرائع .
الخامسة عشرة : النهي عن التشبه بأهل الجاهلية .
السادسة عشرة : الغضب عند التعليم .
السابعة عشرة : القاعدة الكلية لقوله : « إنها السنن » .
الثامنة عشرة : أن هذا عَلَم من أعلام النبوة ، لكونه وقع كما أخبر .(41/158)
التاسعة عشرة : أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا .
العشرون : أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيه التنبيه على مسائل القبر ؛ أما من ربك ؟ فواضح ، وأما من نبيك؟ " فمن إخباره بأنباء الغيب ، وأما " ما دينك؟ " فمن قولهم (اجعل لنا) إلى آخره .
الحادية والعشرون : أن سنة أهل الكتاب مذمومة ، كسنة المشركين .
الثانية والعشرون : أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه ، لا يُؤْمَن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة ، لقولهم : ونحن حدثاء عهد بكفر .
الشرح :
" باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما " يعني : ما حكم هذا الفعل؟
الجواب : هو مشرك يعني : باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما فهو مشرك . وقوله : " من تبرك " : التبرك تفعُّل من البركة ، وهو طلب البركة .
والبركة مأخوذة من حيث الاشتقاق من مادة (بروك) ، أو من كلمة (بركة) ، أما اشتقاقها من البروك : فبروك البعير يدل على ملازمته وثبوته في ذلك المكان ، وأما اشتقاقها من البركة : فالبركة هي : مجتمع الماء ، وهي تدل على كثرة الماء في هذا الموضع ، وعلى لزومه له ، وعلى ثبوته فيه .(41/159)
فيكون معنى البركة - إذًا - : كثرة الشيء الذي فيه الخير ، وثباته ، ولزومه ، فالتبرك هو : طلب الخير الكثير ، وطلب ثباته ، وطلب لزومه ، فتبرّك ، يعني : طلب البركة .
والنصوص في القرآن والسنة دلت على أن البركة من الله - جل وعلا - وأن الله - جل وعلا - هو الذي يبارك ، وأنه لا أحد من الخلق يبارك أحدا ، قال سبحانه { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] يعني : عَظُمَ خير من نزّل الفرقان على عبده ، وكثر ، ودام ، وثبت . وقال : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [ الملك : 1 ] .
وقال سبحانه : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } [ الصافات : 113 ] وقال : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا } [ مريم : 31 ] فالذي يبارك هو الله - جل وعلا - ، فلا يجوز للمخلوق أن يقول : باركت على الشيء ، أو أبارك فعلكم ؛ لأن البركة وكثرة الخير ولزومه ، وثباته ، إنما ذلك من الذي بيده الأمر ، وهو الله - عز وجل - .
وقد دلت النصوص في الكتاب والسنة على أن الأشياء التي أحل الله - جل وعلا - البركة فيها قد تكون أمكنة أو أزمنة ؛ وقد تكون مخلوقات آدمية ، فهذان قسمان :(41/160)
القسم الأول : أن الله - تعالى - بارك بعض الأماكن كبيت الله الحرام ، وحول بيت المقدس ، كما قال سبحانه : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] ومعنى كون الأرض مباركة : أن يكون فيها الخير الكثير اللازم يعني - أبدا - أن يُتَمَسَّح بأرضها ، أو أن يُتَمَسَّح بحيطانها ، لأن بركتها لازمة لا تنتقل بالذات ، يعني : أنك إذا لامست الأرض ، أو دفنت فيها ، أو تبركت بها ، فإن بركتها لا تنتقل إليك بالذات ، وإنما بركتها من جهة المعنى فقط .(41/161)
كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته ، يعني : ليس كما يعتقد البعض أن من تمسح به انتقلت إليه البركة وإنما هو مبارك من جهة المعنى ، يعني : اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البنية ، من جهة : تعلق القلوب بها ، وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها ، وأتاها ، وطاف بها ، وتعبد عندها ، وكذلك الحجر الأسود هو حجر مبارك ، ولكن بركته لأجل العبادة ، يعني أن من استلمه تعبدا مطيعا للنبي صلى الله عليه وسلم في استلامه له ، وفي تقبيله ، فإنه يناله به بركة الاتباع . وقد قال عمر رضي الله عنه لما قبّل الحجر : " إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر " (1) فقوله : لا تنفع ولا تضر ، يعني لا يجلب لمن قبله شيئا من النفع ، ولا يدفع عن أحد شيئا من الضر ، وإنما الحامل على التقبيل مجرد الاتِّساء ، تعبدا لله ، ولذلك قال : " . . ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " فهذا معنى البركة التي جعلت في الأمكنة .
وأما معنى كون الزمان مباركا - مثل شهر رمضان ، أو بعض أيام الله الفاضلة - فيعني : أن من تعبد فيها ، ورام الخير فيها ، فإنه ينال من كثرة الثواب ما لا يناله في غيرها من الأزمنة .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 1597 ) و(1605) و( 1610 ) ومسلم (1270) .(41/162)
والقسم الثاني : البركة المنوطة ببني آدم ، وهي البركة التي جعلها الله - جل وعلا - في المؤمنين من الناس ، وعلى رأسهم : سادة المؤمنين : من الأنبياء والرسل فهؤلاء بركتهم بركة ذاتية ، يعني : أن أجسامهم مباركة ، فالله - جل وعلا - هو الذي جعل جسد آدم مباركا وجعل جسد إبراهيم عليه السلام مباركا ، وجعل جسد نوح مباركا ، وهكذا جسد عيسى ، وموسى ، عليهم جميعا الصلاة والسلام جعل أجسادهم جميعا مباركة ، بمعنى : أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم ، إما بالتمسح بها ، أو بأخذ عرقها ، أو التبرك ببعض أشعارهم ، فهذا جائز ؛ لأن الله جعل أجسادهم مباركة بركة متعدية ، وهكذا نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جسده أيضا جسد مبارك ؛ ولهذا ورد في السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه ، ويتبركون بشعره ، (1) وإذا توضأ اقتتلوا على وضوئه ، (2) إلى آخر ما ورد في ذلك ؛ ذلك أن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية ينتقل أثرها إلى غيرهم ، وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل ، أما غيرهم فلم يرد دليل على أن من أصحاب الأنبياء والرسل مَن بركتهم بركة ذاتية ، حتى أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر ، فقد جاء بالتواتر القطعي : أن الصحابة والتابعين
_________
(1) أخرجه مسلم ( 1305 ) والبخاري (170) و(171) .
(2) أخرجه البخاري ( 2731 ) و( 2732 ) .(41/163)
والمخضرمين لم يكونوا يتبركون بأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، كما كانوا يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بوضوئه ، أو بنخامته ، أو بعرقه أو بملابسه ، ونحو ذلك ، فعلمنا بهذا التواتر القطعي أن بركة أبي بكر وعمر إنما هي بركة عمل ، ليست بركة ذات تنتقل كما هي بركة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن من الشجر لَمَا بركته كبركة المسلم » (1) فدل هذا : على أن في كل مسلم بركة ، وفي البخاري أيضا قول أسيد بن حضير : « ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر » . (2) فهذه البركة التي أضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر ، هي : بركة عمل ، هذه البركة راجعة إلى الإيمان ، وإلى العلم ، والدعوة ، والعمل .
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (5444) .
(2) أخرجه البخاري (334) و(336) و(3672) و(3773) و(4583) و(4607) و(4608) و(5164) و(5250) و(5882) و(6844) و(6845) وقوله : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر . إنما هو قول أسيد بن حضير وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم .(41/164)
فكل مسلم فيه بركة ، وهذه البركة ليست بركة ذات ، وإنما هي بركة عمل ، وبركة ما معه من الإسلام والإيمان ، وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله - جل وعلا - والإجلال له ، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذه البركة التي في العلم ، أو العمل ، أو الصلاح : لا تنتقل من شخص إلى آخر وعليه فيكون معنى التبرك بأهل الصلاح هو الاقتداء بهم في صلاحهم ، والتبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة منه وهكذا ، ولا يجوز أن يُتبرك بهم بمعنى أن يُتمسح بهم ، أو يُتبرك بريقهم ؛ لأن أفضل الخلق من هذه الأمة وهم الصحابة لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وهذا أمر مقطوع به .(41/165)
فمعنى تبرك المشركين : أنهم كانوا يرجون كثرة الخير ، ودوام الخير ، ولزوم الخير وثبات الخير ، بالتوجه إلى الآلهة ، وهذه الآلهة يكون منها : الصنم الذي من الحجارة ، والقبر من التراب ، ويكون منها الوثن والشجر ، ويكون منها البقاع المختلفة ، كالغار أو عين ماء ، أو نحو ذلك ، فهذه التبركات المختلفة جميعها تبركات شركية ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - : " باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما " والشجر : جمع شجرة ، والحجر معروف ، ذلك أن المشركين كانوا يتبركون بالأشجار والأحجار ، حتى في أول الدعوة في هذه البلاد كانت الأشجار والأحجار التي يتبرك بها كثيرة .
قوله : " ونحوهما " : يعني : نحو الشجر والحجر ، مثل : البقاع المختلفة ، أو غار معين ، أو قبر ، أو عين ماء ، أو نحو ذلك من الأشياء التي يعتقد فيها أهل الجهالة .
فما حكم فاعل ذلك ؟ الجواب : أنه مشرك ، كما صرح به الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه " فتح المجيد " لباب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما حيث قال الله : ( أي : فهو مشرك ) .(41/166)
لم يفصح الشرَّاح في هذا الموضع عن نوع شرك المتبرك بالشجر والحجر هل هو شرك أكبر ، أو شرك أصغر؟ وإنما أدار الشيخ سليمان - رحمه الله - المعنى في " التيسير " بعد أن ساق تفسير آية النجم : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [ النجم : 19 ] على الاحتمالين ، فقال في آخره : مناسبة الآية للترجمة : أنه إن كان التبرك شركا أكبر فظاهر ، وإن كان شركا أصغر : فالسلف يستدلون بالآيات التي نزلت في الأكبر على الأصغر .
وتحقيق المقام : أن التبرك بالشجر ، أو بالحجر أو بالقبر ، أو ببقاع مختلفة ، قد يكون شركا أكبر ، وقد يكون شركا أصغر .(41/167)
فيكون شركا أكبر : إذا طلب بركتها ، معتقدا أنه بتمسحه بهذا الشجر ، أو الحجر أو القبر ، أو تمرغه عليه ، أو التصاقه به : يتوسط له عند الله . فإذا اعتقد فيه أنه وسيلة إلى الله فهذا : اتخاذ إله مع الله - جل وعلا - وشرك أكبر ، وهذا هو الذي كان يعتقده أهل الجاهلية في الأشجار والأحجار التي يعبدونها ، وفي القبور التي يتبركون بها ؛ يعتقدون أنهم إذا عكفوا عندها ، وتمسحوا بها ، أو نثروا ترابها على رؤوسهم ، فإن هذه البقعة ، أو صاحب هذه البقعة ، أو الروحانية وهي : الروح التي تخدم هذه البقعة : أنه يتوسط له عند الله - جل وعلا - فهذا الفعل - إذًا - راجع إلى اتخاذ أنداد مع الله - جل وعلا - ، وقد قال سبحانه : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر 3 ] .(41/168)
ويكون التبرك شركا أصغر : إذا كان يتخذ هذا التبرك بنثر التراب عليه ، أو إلصاق الجسم به ، أو التبرك بعين ونحوها ، أسبابا لحصول البركة بدون اعتقاد أنها توصل وتقرب إلى الله ، يعني : أنه جعلها أسبابا فقط ، كما يفعل لابس التميمة ، أو الحلقة ، أو الخيط ؛ فكذلك هذا المتبرك ، يجعل تلك الأشياء أسبابا فإذا أخذ - من هذه حاله - تراب القبر ، ونثره عليه لاعتقاده أن هذا التراب مبارك ، وإذا لامس جسمه فإن جسمه يتبارك به أي : من جهة السببية : فهذا شرك أصغر ؛ لأنه لا يكون عبادة لغير الله - جل وعلا - وإنما اعتقد ما ليس سببا مأذونا به شرعا : سببا .
وأما إذا تمسح بها كما هي الحال الأولى وتمرغ والتصق بها ، لتوصله إلى الله - جل وعلا - ، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة ؛ ولهذا قال الشيخ سليمان كما تقدم : إن كان التبرك شركا أكبر : فظاهر في الاستدلال بالآية وإن كان شركا أصغر : فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على ما يريدون من الاستدلال ، في مسائل الشرك الأصغر .(41/169)
قوله : وقول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى }{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } [ النجم : 19 - 20 ] سبق بيان أن همزة الاستفهام ، إذا أتى بعدها فاء : فإنه يكون بينها وبين الفاء جملة دل عليها السياق ، فمن أول سورة النجم إلى هذا الموضع يدل على المحذوف .
قوله : ( اللات ) : هي صخرة بيضاء منقوشة عليها ، بيت بالطائف ، وما هدمت إلا بعد أن أسلمت ثقيف ، أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة ، فهدمها ، وكسرها ، وحرقها بالنار ، وكان عليها بيت ولها سدنة وخدم ، (1) فالمقصود : أن اللات صخرة وصفت بأنها بيضاء .
وفي قراءة ابن عباس وغيره من السلف : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ ) بتشديد التاء . فعلى هذه القراءة : يكون (اللاتّ) هذا رجلا كان يلت السويق للحاج ، وفي رواية : على صخرة فعظموا تلك الصخرة ، وفي رواية أخرى عن السلف : أنه كان يلت لهم السويق فلما مات عكفوا على قبره ، (2) فتحصل من هذا : أن اللات صخرة ، فإذا قرأت : (اللاتّ) بتشديد التاء : فيكون قبرا ، أو صخرة ، كان يتعبد عندها ، ويتصدق ذاك الذي كان يلت السويق .
_________
(1) السيرة لابن هشام 4 / 138 .
(2) أخرجه البخاري (4859) .(41/170)
والعزى : شجرة كانت بين مكة والطائف ، وهي في الأصل شجرة ثم بني بناء على ثلاث سمرات ، وكانت امرأة كاهنة هي التي تخدم ذلك الموضع ، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أرسل إليها خالد بن الوليد ، فقطع الشجرات الثلاث - السمرات الثلاث - وقتل من قتل فلما رجع وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : « ارجع فإنك لم تصنع شيئا » ، فرجع فرآه السدنة ، ففروا إلى الجبل ، ثم رأى امرأة ناشرة شعرها عريانة ، وهي الكاهنة التي كانت تخدم ذلك الموضع الشركي ، وتحضر الجن لإضلال الناس بذلك ، فعلاها خالد بالسيف حتى قتلها ، فرجع للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « تلك العزى » . (1) المقصود : أن العزى اسم لشجرة كانت في ذلك الموضع ، وكان تعلق الناس في الحقيقة بتلك الشجرة ، وبالمرأة التي كانت تخدم ذلك الشرك ، فلو قطعت الأشجار وبقيت المرأة ، فإن المرأة ستغري الناس مرة أخرى بما ستذكره لهم ، أو ما تحكيه لهم ، أو ما تجيب به مطالبهم عن طريق الجن ، فلا يكون الشرك قد انقطع ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « تلك العزى » يعني : أن حقيقة العزى هي تلك المرأة التي تغري الناس بذلك الشرك ، وإلا فهي شجرة .
_________
(1) سيرة ابن هشام 4 / 1099 .(41/171)
وقوله ، { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } والأخرى : يعني : الوضيعة الحقيرة ، وكانت مناة هذه أيضا صخرة ، وسميت مناة ؛ لكثرة ما يمنى عليها من الدماء تعظيما لها . (1) ووجه مناسبة الآية للترجمة : أن ما كان يفعله المشركون عند هذه الثلاث ، هو عين ما يفعله المشركون في الأزمنة المتأخرة عند الأحجار ، والأشجار ، والغيران ، والقبور ومن قرأ شيئا مما يصنعه المشركون علم غربة الإسلام في هذه البلاد قبل هذه الدعوة ، وأن الناس كانوا على شرك عظيم . وإذا تأملت أحوال ما حولك من البلاد التي ينتشر فيها الشرك وجدت من اتخاذ الأشجار والأحجار آلهة والتبرك بها الشيء الكثير ، وأعظم من ذلك اتخاذ القبور آلهة يتوجه إليها ، ويتعبد عندها .
ثم ساق - رحمه الله - في الباب حديث أبي واقد الليثي ، وهذا الحديث حديث صحيح ، عظيم وفيه : أن المشركين كانت لهم سدرة لهم فيها اعتقاد .
واعتقادهم فيها كان يشمل ثلاثة أشياء :
الأول : أنهم يعظمونها .
الثاني : أنهم يعكفون عندها .
الثالث : أنهم كانوا ينوطون بها الأسلحة رجاء انتقال البركة من الشجرة إلى السلاح ، حتى يكون أمضى ، وحتى يكون خيره لحامله أكثر .
_________
(1) أخرجه البخاري (8 / 613) وانظر تفسير ابن كثير (7 / 432) والبداية والنهاية (2 / 192) ، (4 / 37) .(41/172)
وفعلهم هذا شرك أكبر ؛ لأنهم عظموها وعكفوا عندها ، والعكوف عبادة ؛ وهو : ملازمة الشيء على وجه التعظيم والقربة ؛ ولأنهم طلبوا منها البركة ، فصار شركهم شركا أكبر لأجل هذه الثلاث مجتمعة .
وبعض الصحابة رضوان الله عليهم ممن كانوا حديثي عهد بكفر وهم الذين قالوا : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، ظنوا أن هذا لا يدخل في الشرك ، وأن كلمة التوحيد لا تهدم بهذا الفعل ؛ لهذا قال العلماء : قد يغيب عن بعض الفضلاء بعض مسائل الشرك ؛ لأن الصحابة وهم أعرف الناس باللغة كهؤلاء الذين كان إسلامهم بعد الفتح : خفيت عليهم بعض أفراد توحيد العبادة .(41/173)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الله أكبر !! إنها السنن ، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة » : فشبَّه عليه الصلاة والسلام هذه المقالة بتلك المقالة ، ومعلوم أن أولئك - وهم المذكورون في الآية - عبدوا غير الله ، أي : عبدوا الأصنام ، وأما أولئك فإنما طلبوا بالقول فقط ، فشبّه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك القول بقول قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، لكن أولئك الصحابة لم يفعلوا ما طلبوا ، ولما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم انتهوا ، ولو فعلوا ما طلبوا لكان شركا أكبر ، لكن لما قالوا وطلبوا دون فعل : صار قولهم شركا أصغر ؛ لأنه كان فيه نوع تعلق بغير الله - جل وعلا - .(41/174)
وهم لا يعلمون أن هذا الذي طلبوه غير جائز ، وإلا فلا يُظن بهم أنهم يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويرغبون في معصيته . وأما شركهم فكان في مقالهم ، وأما الفعل : فلم يفعلوا شيئا من الشرك ، وهذا الذي قالوه ، قال العلماء : وهو شرك أصغر ، وليس بشرك أكبر ؛ ولهذا لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامهم ، ويدل على ذلك قوله : « قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى » فشبّه المقالة بالمقالة ، وقد قرر الشيخ - رحمه الله - أنهم لم يكفروا ، وقال في المسائل : ( إن الشرك فيه أكبر وأصغر ؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا ) .
فالظاهر من هذا الحديث : أن الشرك الأكبر الذي كان وقع فيه المشركون لم يكن راجعا إلى التبرك بذات الأنواط فقط ، بتعظيمها ، والعكوف عندها ، والتبرك بتعليق الأشياء عليها ، وقد قلت لك : إن التبرك بالشجر ، والحجر ، ونحو ذلك ، إذا كان فيه اعتقاد أن هذا الشيء يقرب إلى الله ، وأنه يرفع الحاجة إليه ، أو أن تكون حاجاتهم أرجى إجابة وأمورهم أحسن ، إذا تبركوا بهذا الموضع ، فهذا : شرك أكبر ، وهذا هو الذي كان يصنعه أهل الجاهلية ؛ ولهذا ، فإن فعلهم يشمل ثلاثة أشياء - كما سبق - :(41/175)
1 - التعظيم ، أي تعظيم العبادة ، وهذا لا يجوز إلا لله ، فتعظيمهم بهذه الصورة ، واعتقاد أنهم يتوسطون لهم : هو نوع من عبادتهم ، وشرك جلي .
2 - أنهم عكفوا عندها ولازموها ، والعكوف والملازمة نوع عبادة ، فإذا عكف ولازم تقربا ، ورجاء ، ورغبة ، ورهبة ، ومحبة ، فهذا نوع من العبادة .
3 - التبرك .(41/176)
وإذًا فيكون الشرك الأكبر : ما ضم هذه الثلاثة . وإذا تأملت ما يصنعه عباد القبور والخرافيون في الأزمنة المتأخرة وفي زماننا هذا : وجدت أنهم يصنعون مثل ما كان المشركون الأولون يصنعون عند اللات ، وعند العزى ، وعند ذات أنواط ، ويعتقدون في القبر ، بل يعتقدون في الحديد الذي يُسيَّج به القبر ، فترى الناس في البلاد التي يفشو فيها الشرك يعتقدون في الحائط الذي على القبر ، أو في الشباك الحديدي الذي يحيط بالقبر ، فإذا تمسحوا به فكأنهم تمسحوا بالمقبور ، واتصلت روحهم به ، واعتقدوا أنه سيتوسط لهم ؛ لأنهم عظموه ، فهذا شرك أكبر بالله - جل وعلا - ؛ لأن فعلهم هذا : راجع إلى تعلق القلب في جلب النفع ، وفي دفع الضر بغير الله - جل وعلا - وجعْله وسيلة إلى الله - جل وعلا - كفعل الأولين الذين قال الله فيهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } .(41/177)
وأما الحال الأخرى التي نبهتك في أول المقام عليها ، فكمن يجعل بعض التمسحات أسبابا : مثل ما ترى من بعض الجهلة ممن يأتي إلى الحرم ، ويتمسح بأبواب الحرم الخارجية ، أو ببعض الجدران ، أو ببعض الأعمدة ، فهذا إن ظن أن ثَمَّ روحا في هذا العمود ، أو أن هناك أحدا مدفونا بالقرب منه ، أو ثَمَّ من يخدم هذا العمود من الأرواح الطيبة كما يقولون : فتمسح لأجل أن يصل إلى الله - جل وعلا - بذلك الفعل : فهذا شرك أكبر .
وأما إذا تمسح واعتقد أن هذا مكان مبارك ، وأن هذا سبب قد يشفيه فنقول إذا : إذا كان يتمسح بجعله سببا فهذا يكون شركه شركا أصغر ، وإذا كان تعلق قلبه بهذا المتمسح به أو المتبرك به ، وعظمه ، ولازمه ، واعتقد أن ثمت روحا هنا ، أو أنه يتوسل به إلى الله فإن هذا شرك أكبر .(41/178)
" باب ما جاء في الذبح لغير الله من الوعيد وأنه شرك بالله - جل وعلا - "
وقول الله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } وقال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وعن علي رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : « لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثا ، لعن الله من غير منار الأرض » رواه مسلم (1) . وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب " قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا ، فقالوا لأحدهما قرّب ، قال : ليس عندي شيء أقرّب ، قالوا له : قرّب ولو ذبابا ، فقرّب ذبابا ، فخلوا سبيله فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرّب ، فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله - عز وجل - فضربوا عنقه فدخل الجنة » رواه أحمد (2) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } .
_________
(1) أخرجه مسلم (1978) .
(2) أخرجه أحمد في الزهد (22) وأبو نعيم في « الحلية » 1 / 203 موقوفا على سليمان الفارسي .(41/179)
الثانية : تفسير { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } .
الثالثة : البداءة بلعنة من ذبح لغير الله .
الرابعة : لعن من لعن والديه ، ومنه أن تعلن والدي الرجل فيلعن والديك .
الخامسة : لعن من آوى محدثا ، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق لله ، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك .
السادسة : لعن من غير منار الأرض وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك ، فتغيرها بتقديم أو تأخير .
السابعة : الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم .
الثامنة : هذه القصة العظيمة ، وهي قصة الذباب .
التاسعة : كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصا من شرهم .
العاشرة : معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ؛ كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر !
الحادية عشرة : أن الذي دخل النار مسلم ، لأنه لو كان كافرا لم يقل : " دخل النار في ذباب " .
الثانية عشرة : فيه شاهد للحديث الصحيح : « الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك » .
الثالثة عشرة : معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم ، حتى عند عبدة الأوثان .
الشرح :(41/180)
قول الشيخ - رحمه الله - " باب ما جاء في الذبح لغير الله " . الذبح معروف ، وهو : إراقة الدم .
وقوله : " لغير الله " يعني : متقربا به إلى غير الله ، أي : ذبح لأجل غير الله ، والذبح فيه شيئان مهمان ، وهما نكتة هذا الباب ، وعقدته :
الأول : الذبح باسم الله ، أو الذبح بالإهلال باسم ما .
الثاني : أن يذبح متقربا لما يريد أن يتقرب إليه ، فإذًا : ثَمَّ التسمية ، وثَمَّ القصد ، وهما شيئان ، أما التسمية ، فظاهر : أن ما ذُكر عليه اسم الله فإنه جائز كما قال تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 118 ] وأن ما لم يذكر اسم الله عليه ، فهذا مما أهل لغير الله به كما في قوله تعالى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [ البقرة : 173] وقوله : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [ المائدة : 3 ] .(41/181)
فالتسمية على الذبيحة من جهة المعنى : استعانة ، فإذا سمى الله : فإنه استعان في هذا الذبح بالله - جل وعلا - ؛ لأن الباء في قولك : باسم الله ، يعني أذبح متبركا ، ومستعينا بكل اسم لله - جل وعلا - ، أو بالله - جل وعلا - الذي له الأسماء الحسنى ، فجهة التسمية إذًا جهة استعانة .
وأما القصد : فهذه جهة عبودية ومقاصد ، فمن ذبح باسم الله لله كانت الاستعانة بالله والقصد من الذبح أنه لوجه الله تقربا لله - جل وعلا - ، فصارت الأحوال عندنا أربعة :
1 - أن يذبح باسم الله لله ، فهذا هو التوحيد .
2 - أن يذبح باسم الله لغير الله ، وهذا شرك في العبادة .
3 - أن يذبح باسم غير الله لغير الله ، وهذا شرك في الاستعانة ، وشرك في العبادة أيضا .
4 - أن يذبح بغير اسم الله ويجعل الذبيحة لله ، فهذا شرك في الربوبية .
فإذًا الأحوال عندنا أربعة :(41/182)
إما أن يكون هناك تسمية بالله مع القصد لله - جل وعلا - وحده ، وهذا هو التوحيد ، وهو العبادة ، فالواجب أن يذبح لله : قصدا تقربا ، وأن يسمي الله - جل وعلا - على الذبيحة ، فإن لم يسم الله - جل وعلا - وترك التسمية عمدا فإن الذبيحة لا تحل ، وإن لم يقصد بالذبيحة التقرب إلى الله - جل وعلا - ولا التقرب لغيره ، وإنما ذبحها لأجل أضياف عنده أو لأجل أن يأكلها ، يعني : ذبحها لقصد اللحم ، ولم يقصد بها التقرب : فهذا جائز ، وهو من المأذون فيه ؛ لأن الذبح لا يُشترط فيه أن ينوي الذابح التقرب بالذبيحة إلى الله - جل وعلا - .
فالحاصل من الحالة الأولى : أن ذكر اسم الله على الذبيحة واجب ، وأن يكون قصد الذابح بها : التقرب إلى الله - إن كان قد نوى بها تقربا - وهذا مثل ما يذبح من الأضاحي ، أو يذبح من الهدي ذلك مما يذبحه المرء تعظيما لله - جل وعلا - مما أمر به شرعا ، فهذا الذي تذبحه لله : تقصد التقرب به إليه - سبحانه - ، فهذا من العبادات العظيمة التي يحبها الله - جل وعلا - وهي عبادة النحر والذبح .(41/183)
لكن قد يذبح المرء باسم الله ، ولكن يقول : أريدها للأضياف ، أو أريدها للحم ويعني للأكل ، ولم أتقرب بها لغير الله ، وأيضا لم أتقرب بها لله ، فنقول : هذه الحالة جائزة ؛ لأنه سمى وقال باسم الله ، ولم يذبح لغير الله ، فليس داخلا في الوعيد ، ولا في النهي ، بل ذلك من المأذون فيه .(41/184)
الحالة الثانية : أن يذبح باسم الله ، ويقصد بذلك التقرب لغير الله ، فيقول مثلا : باسم الله ، وينحر الدم ، وهو ينوي بإزهاق النفس ، وبإراقة الدم التقرب لهذا العظيم المدفون ، أو لهذا النبي ، أو لهذا الصالح ، فهذا وإن ذكر اسم الله فإن الشرك حاصل من جهة أنه أراق الدم تعظيما للمدفون ، وتعظيما لغير الله ، ويدخل في ذلك أيضا : أن يذكر اسم الله على الذبيحة ، أو على المنحور ، ويكون قصده بالذبح أن يتقرب به للسلطان ، أو للملك ، أو لأمير ما ، كما يحدث عند بعض البادية ، وكذلك بعض الحضر إذا أرادوا أن يعظموا ملكا قادما ، أو أميرا ، أو سلطانا ، أو شيخ قبيلة ، فإنهم يستقبلونه بالجمال ، أو بالبقر ، أو بالشياه ، ويذبحونها في وجهه ، فيسيل الدم عند إقباله ، فهذا الذبح وإن سمى الله عليه ، فإن الذبيحة قصد بها غير الله - جل وعلا - ولذا أفتى العلماء بتحريمها ؛ لأن إراقة دم لغير الله - جل وعلا - فلا يجوز أكلها ومن باب أولى قبل ذلك لا يجوز تعظيم أولئك بمثل هذا التعظيم ؛ لأن إراقة الدم إنما يعظم به الله - جل وعلا - وحده ؛ لأنه سبحانه هو الذي يستحق العبادة والتعظيم بهذه الأشياء وحده ، فهو الذي أجرى الدماء في العروق(41/185)
سبحانه وتعالى .
الحالة الثالثة : أن يذكر غير اسم الله على الذبيحة ، وأن يقصد بها غير الله - جل وعلا - فيقول مثلا : باسم المسيح ، ويحرك يده ، ويقصد بها التقرب للمسيح ، فهذا الذبح جمع شركا في الاستعانة ، وشركا في العبادة ، ومثله : الذين يذبحون باسم البدوي ، أو باسم الحسين ، أو باسم السيدة زينب ، أو باسم العيدروس ، أو باسم الميرغياني ، أو غيرهم من الذين توجه إليهم بعض الخلق بالعبادة ، فيذبح باسمهم ويقصد بذبحه هذا المخلوق ؛ وينوي حين ذبح أن يريق الدم تقربا لهذا المخلوق . فهذا الشرك جاء من جهتين :
الجهة الأولى : جهة الاستعانة .
والجهة الثانية : جهة العبودية والتعظيم ، وإراقة الدم لغير الله - جل وعلا - .
والحالة الرابعة : أن يذبح باسم غير الله ويجعل ذلك لله - جل وعلا - وهذا نادر الوقوع وربما يحصل ، كمن يذبحون لمعظميهم : كالبدوي ، أو العيدروس ، أو الشيخ عبد القادر ، أو غيرهم . فينوون بذلك الذبح التقرب إلى الله - جل وعلا - ، وهذا في الحقيقة راجع إلى الشرك في الاستعانة ، والشرك في العبادة .(41/186)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مَعرِض كلام له في هذه المسائل قال : " ومعلوم أن الشرك بالله - جل وعلا - والصورة المتقدمة في الحالة الثانية وهي : أن يذبح لسلطان ونحوه ، فبعض العلماء لم يطلق القول عليها : بأنها شرك وإنما قال : تحرم ؛ لأجل أنه قد لا يقصد بذلك تعظيم المذبوح له كتعظيم الله - جل وعلا - ، فالمقصود : أن قصد غير الله بالذبح شرك في العبودية ، وذكر غير اسم الله على الذبيحة شرك في الاستعانة ؛ ولهذا قال - جل وعلا - { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] يعني : إن أطعتموهم في الشرك فإنكم مشركون ، كما أنهم مشركون .(41/187)
وأنبه هنا على مسألة مهمة : وهي أن الكلام في مسائل التوحيد تقريرا واستدلالا ، وبيان وجه الاستدلال : من الأمور الدقيقة ، والتعبير عنها يحتاج إلى دقة من جهة المعبر ، وأيضا من جهة المتلقي ، أقول هذا ؛ لأن بعض الناس قد استشكلوا بعض العبارات ومدار الاستشكال : أنهم لم يدققوا ، ولم يقيدوا ما يقال ، فهم إما أن يحذفوا قيدا ، أو يحذفوا كلمة ، أو يأخذوا المعنى الذي دل عليه الكلام ، ويعبروا عنه بطريقتهم ، وهذا غير مناسب ، لهذا ينبغي أن يكون المتلقي لهذا العلم دقيقا فيما يسمع ؛ لأن كل مسألة لها ضوابطها ، ولها قيودها ، وأيضا : فإن بعض المسائل يكون الكلام عليها تارة مجملا، ويكون المتلقي قد سمع أحد أحوال المسألة، وهي تحتمل تفصيلا ، لكن كان الكلام في مقام الإجمال : غير الكلام في مقام التفصيل .(41/188)
قال الإمام : محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - : وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ } [ الأنعام : 162 - 163 ] هذه الآية تدل على أن عبادة الصلاة ، وعبادة النسك - وهو الذبح - هما لله - جل وعلا - وحده . وقوله تعالى : قُلْ إِنَّ و( إِنَّ ) من المؤكدات ، ومجيء التأكيد في الجمل الخبرية يفيد : أن من خوطب بذلك مُنكِر لهذا الأمر ، أو مُنَزَّل مَنْزِلَةَ المُنكِر له ، ولهذا يكون الاستدلال بهذه الآية على التوحيد من جهة أنها خوطب بها من ينكر أن الصلاة لله وحده استحقاقا ، وأن الذبح لله وحده استحقاقا - هم المشركون - فدل على أن هذه الآية في التوحيد وأن الذبح يجب أن يكون لله - جل وعلا - وأن الذبح لغيره مخالف لما يستحقه الرب - جل وعلا - .(41/189)
والنسك في قوله : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } هو : الذبح أو النحر ، يعني : التقرب بالدم ، والتقرب بالدم لله - جل وعلا - : عبادة عظيمة ؛ لأن الذبائح ، أو المنحورات من الإبل أو البقر ، أو الغنم ، أو الضأن ، مما تعظم في نفوس أهلها ، ونحرها تقربا إلى الله - جل وعلا - والصدقة بها عبادة عظيمة ، فيها إراقة الدم لله ، وفيها تعلق القلب بحسن الثواب من الله - جل وعلا - ، وفيها حسن الظن بالله تبارك وتعالى ، وفيها التخلص من الشح ، والرغب فيما عند الله سبحانه ، بإزهاق نفس عزيزة عند أهلها ؛ ولهذا كان النحر ، والذبح عبادة من العبادات العظيمة التي يحبها الله - جل وعلا - .
وقد دلت هذه الآية على أن النحر والصلاة عبادتان ؛ لأنه جعل النسيكة لله ، والله - جل وعلا - له من أعمال خلقه العبادات فدل قوله ( وَنُسُكِي ) على أن النسك عبادة من العبادات ، وأنه مُستحَق لله - جل وعلا - .(41/190)
واللام - هنا - في قوله : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } متعلّقة بمحذوف خبر (إن) في قوله { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } وهي تفيد الاستحقاق ، واللام في اللغة تأتي لمعان ، واستعمالات ؛ فتأتي للملك ، كما في قوله تعالى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } يعني : يملكونها . وتأتي للاختصاص - وهو شبه الملك - وتأتي للاستحقاق ، كما في قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني : أن جميع أنواع المحامد مستحقة لله - جل وعلا - .(41/191)
واللام في قوله سبحانه { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } مع أنها واحدة ، لكن يكون معناها برجوعها للأول غير معناها برجوعها للمحيا والممات ، فإن الله - جل وعلا - قال في هذه الآية من آخر سورة الأنعام : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } والمحيا والممات يعني : الإحياء والإماتة ، وهذه بيد الله - جل وعلا - وملك له ، فهو الذي يملكها سبحانه ؛ لأنها من أفراد ربوبيته - جل وعلا - على خلقه ، فهذه الآية بما اشتملت عليه من هذه الألفاظ الأربع دلت على توحيد الإلهية ، وعلى توحيد الربوبية فقوله : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } يدل على توحيد العبادة ، وقوله { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } يدل على توحيد الربوبية ، واللام في قوله : لِلَّهِ إذا أرجعتها للأوليين وهما : الصلاة ، والنسك ، كان معناها : الاستحقاق ، وإذا أرجعتها للأخير كان معناها الملك ولهذا يقول أهل التفسير هنا : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } لله استحقاقا ، { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } لله ملكا ، وتدبيرا ، وتصرفا .(41/192)
وقوله : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لا شَرِيكَ لَهُ } فيه وجه استدلال ثالث على التوحيد ، حيث قال : { لَا شَرِيكَ لَهُ } يعني : فيما مر ، أي لا شريك له في الصلاة ، والنسك ؛ فلا يتوجه بالصلاة والنسك إلى أحد مع الله - جل وعلا - أو من دونه ، وكذلك لا شريك له في ملكه للمحيا والممات ، بل هو المتفرد سبحانه بأنواع الجلال ، وأنواع الكمال ، وهو المستحق للعبادة ، وهو ذو الملكوت الأعظم .
قال : وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] فأمر بالصلاة ، وأمر بالنحر ، وإذا أمر به فهو داخل في حد العبادة ؛ لأن العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة . فأمره - جل وعلا - بالصلاة دليل على أنها محبوبة لديه ، وأمره سبحانه بالنحر دليل على أنه محبوب له ، ومرضي ، فتكون الصلاة والنحر إذًا عبادة لله - جل وعلا - .
وعلى التعريف الآخر : إن العبادة : هي كل ما يتقرب به العبد إلى الله - جل وعلا - ممتثلا به الأمر والنهي . ويكون النحر عبادة أيضا ؛ لأنه يُعمل تقربا إلى الله - جل وعلا - بامتثال الأمر الوارد فيه .(41/193)
قال سبحانه { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [ الكوثر : 1 ] والكوثر هو : الخير العظيم ، ومنه النهر الذي في الجنة . والفاء في قوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] هي فاء السببية ، والمعنى : أنه بسبب ذلك : اشكر الله - جل وعلا - بتوحيده ، بأن صَلِّ لربك الذي أعطاك الخير الكثير ، وتقرب إليه بالنحر ، وبنَسْك النسائك له سبحانه ؛ لأن الخير الذي حصل لك إنما أسداه - جل وعلا - وحده .
إذن : فوجه الدلالة من هذه الآية على الباب : أن النحر عبادة ، وقد قال - جل وعلا - { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] يعني : وانحر لربك ، فأصبح النحر والذبح لغير الله خارجا عما أمر الله فمن نحر أو ذبح لغير الله : فقد صرف العبادة لغيره - جل وعلا - .
قال - رحمه الله - : وعن علي رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : « لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثا لعن الله من غيّر منار الأرض » رواه مسلم .(41/194)
الشاهد من هذا قوله : « لعن الله من ذبح لغير الله » ، وهذا وعيد يدل على أن الذابح لغير الله ملعون ، واللعن هو : الطرد والإبعاد من رحمة الله - جل وعلا - فإذا كان الله هو الذي لعن فيكون قد طرد وأبعد هذا الملعون من رحمته الخاصة . وأما رحمته العامة فهي تشمل المسلم والكافر ، وجميع أصناف الخلق . وإن كان قوله : « لعن الله من ذبح لغير الله » دعاء عليه باللعن ؛ فكأن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك ؛ داعيا على من ذبح لغير الله - جل وعلا - باللعن وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله - جل وعلا - ، وهذا يدل على أن الذبح لغير الله من الكبائر ومن المعلوم أن اقتران ذنب من الذنوب باللعن يدل على أنه من كبائر الذنوب ، وهذا ظاهر من جهة : أن الذبح لغير الله شرك بالله - جل وعلا - يستحق صاحبه اللعنة والطرد والإبعاد من رحمته - جل وعلا - .
واللام في قوله : « لعن الله من ذبح لغير الله » معناها : أن من فعل ذلك من أجل غير الله تقربا إليه وتعظيما ، فذبح لغير الله تقربا إلى ذلك الغير ، وتعظيما له فهو مستحق للعن ، وهذا وجه مناسبة هذا الحديث لـ " باب ما جاء في الذبح لغير الله " يعني : من الوعيد وأنه شرك وصاحبه ملعون .(41/195)
الحديث الآخر وجه الدلالة منه : أن التقريب للصنم بالذبح كان سببا لدخول النار وذلك أن ظاهر المعنى يدل أن من فعله كان مسلما ، وأنه دخل النار بسبب ما فعل ، وهذا يدل على أن الذبح لغير الله شرك أكبر ؛ لأن ظاهر قوله : « دخل النار » يعني : استوجبها مع من يخلد فيها .
وفيه وجه آخر للدلالة : وهو أنه إذا كان تقريب هذا الذي لا قيمة له - وهو الذباب - سببا في دخول النار ، فإنه يدل على أن من قرب ما هو أبلغ ، وأعظم منفعة عند أهله وأغلى ، أنه سبب أعظم لدخول النار .(41/196)
وقولهم هنا : " قرِّب " : يعني اذبح تقربا ، والملاحَظ هنا في هذا الحديث ، أنه لم يدل على أنهم أكرهوه على هذا الفعل ؛ لأنه قال « مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا » . . فظاهر قوله : « لا يجوزه أحد » يعني أنهم لا يأذنون لأحد بمجاوزته عن ذلك الطريق حتى يقرب ، وهذا ليس إكراها ؛ إذ يمكن أن يقول : سأرجع من حيث أتيت ولا يجوز ذلك الموضع ويتخلص من أذاهم ، فهذا يدل على أن الإكراه بالفعل لم يحصل من أولئك فلا يدخل هذا في قوله : { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } [ النحل : 106 ] لأنه ليس في الحديث دلالة - كما هو ظاهر - على حصول الإكراه ، وإنما قال : « مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا » . . فما صفة عدم السماح بعدم المجاوزة ، هل هي أنه لا يجوزه حتى يقتل أو يقرب؟ أو يجوزه حتى يقرب أو يرجع؟ استظهر بعض العلماء من قتلهم لأحد الرجلين أن المعنى لا يجوزه حتى يقرب ، أو يقتل ، وأن هذا عُلم بالسياق فصار ذلك نوع إكراه ؛ فلهذا استشكلوا كون هذا الحديث دالا على أن من فعل هذا الفعل يدخل النار مع أنه مكره .(41/197)
والجواب عن هذا الإشكال : أن هذا الحديث على هذا القول وما فيه من عدم إعذار المكرَه ولو بالقتل كان في شرع مَن قبلنا . وأما رفع الإكراه ، أو جواز قول كلمة الكفر ، أو عمل الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان فهذا خاص بهذه الأمة ، هذا ما أجاب به بعض أهل العلم .
وعلى القول الأول الذي قدمناه وهو أن السياق ليس فيه ما يُعين أنهم هددوه بالقتل فيكون الحديث مجملا ، فكيف يُحمل الحديث على شيء مجمل لم يعين .
وقوله : « فضربوا عنقه » ليس فيه إشكال ، ولا يَرِدُ على ما قلناه ؛ لأنهم ربما قتلوا الذي لم يقرب شيئا ، لأنه أهان صنمهم بقوله : « ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله - عز وجل - » لهذا استشكل هذا الحديث طائفة من أهل العلم كما سبق وهو بحمد الله ليس بمشكل ؛ لأنه إما أن يحمل على أنه فيمن كان قبلنا فلا وجه إذًا لدخول الإكراه ، أو يحمل على أنهم لم يكرهوه حين أراد المجاوزة ولكن قتلوه لأجل قوله : « لم أكن لأقرب لأحد شيئا دون الله - عز وجل - » .(41/198)
إذن فهذا الباب وهو قوله : " باب ما جاء في الذبح لغير الله " ظاهر في الدلالة على أن التقرب لغير الله - جل وعلا - بالذبح شرك به - سبحانه - في العبادة ؛ فمن ذبح لغير الله ؛ تقربا وتعظيما ؛ فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة .(41/199)
" باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله "
وقوله تعالى : { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } . وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : « نذر رجل أن يذبح إبلا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا : لا ، قال " فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا ، قال : " أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم » رواه أبو داود (1) وإسناده على شرطهما .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير قوله { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } .
الثانية : أن المعصية قد تؤثر في الأرض ، وكذلك الطاعة .
الثالثة : رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ؛ ليزول الإشكال .
الرابعة : استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك .
الخامسة : أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به ؛ إذا خلا من الموانع .
السادسة : المنع منه ؛ إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ، ولو بعد زواله .
_________
(1) أخرجه أبو داود (3313) قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (1 / 436) : إسناده على شرط الصحيحين .(41/200)
السابعة : المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ، ولو بعد زواله .
الثامنة : أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة ؛ لأنه نذر معصية .
التاسعة : الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده .
العاشرة : لا نذر في معصية .
الحادية عشرة : لا نذر لابن آدم فيما لا يملك .
الشرح :
قال الإمام - رحمه الله - : " باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله " . قوله : " لا يذبح لله " هذا على جهة النفي المشتمل على النهي ؛ لأن من أساليب اللغة العربية أنه يُعْدَل عن التصريح بالنهي إلى التصريح بالنفي ؛ ليدل دلالة أبلغ على أن النفي والنهي معا مقصودان ، فكأنه لا يصلح أن يقع أصلا ؛ ولهذا أتى بصيغة النفي فقال : " باب لا يذبح لله " .
وقال بعض أهل العلم : يحتمل أن تكون (لا) للنهي ، فيكون الفعل المضارع بعدها مجزوما ، أي : " باب : لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله " .
وقوله : " لله " يعني : أن تكون النسيكة ، أو أن تكون الذبيحة مرادا بها وجه الله - جل جلاله - .(41/201)
" بمكان يذبح فيه لغير الله " : و(الباء) هنا لها معنى زائد على كلمة (في) ، وهذا المعنى الزائد أنها أفهمت معنى الظرفية ومعنى المجاورة جميعا ؛ لأن (الباء) تكون للمجاورة أيضا كما تقول : مررت بزيد ، يعني ، بمكان قريب من مكان زيد ، أو بمكان مجاور لمكان زيد ، والظرفية بـ (في) نفيد أنه في المكان نفسه ، فاستعمال حرف (الباء) يفيد أنه مجاور لذلك المكان . وهذان المعنيان معا : مقصودان ، وهو أنه : لا يذبح لله بمجاورة المكان الذي يذبح فيه لغير الله ، ولا في نفس المكان الذي يذبح فيه لغير الله ؛ لأنهما بهذا يشتركان مع الذين يذبحون لغير الله - جل وعلا - .(41/202)
وصورة المسألة : أن يوجد مكان يُذبح فيه لغير الله ، كمكان عند قبر ، أو عند مشهد ، أو عند مكان معظم ، واعتاد المشركون التقرب بالذبائح لأصنامهم وأوثانهم في هذا المكان ، فإذا كانوا يتقربون في هذا المكان للقبر أو نحوه ويذبحون لصاحبه يعني : من أجله فإنه لا يحل أن يذبح المسلم الموحد في هذا المكان ولو ذبحه خالصا لله - عز وجل - ؛ لأنه يكون قد شابه أولئك المشركين في تعظيم الأمكنة التي يتعبدون فيها بأنواع العبادات التي يصرفونها لغير الله - جل وعلا - ، فالذبح لله وحده - وإن كان خالصا له - إن كان في المكان الذي يتقرب فيه لغير الله فإنه لا يحل ولا يجوز ، ووسيلة من وسائل الشرك .(41/203)
قال الشيخ - رحمه الله - ورفع درجاته في الجنة : وقول الله تعالى : { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } . . . هذا النهي هو عن القيام في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ، وقد أقاموه إرصادا ، ومحادة لله ورسوله ، وتفريقا بين المؤمنين ، فهو مكان أقيم على الخيانة وعلى مضادة الإسلام وأهله ؛ فلهذا لما كانت هذه هي غاية مَن أقامه فإن مشاركتهم فيه بالصلاة لا تجوز ؛ لأنه إقرار لهم أو تكثير لسوادهم ، وإغراء للناس للصلاة فيه ، فنهى الله - جل وعلا - نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن أن يصلوا فيه .
ومناسبة الآية للباب ظاهرة : وهي أن الله - جل وعلا - نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار ، ومعلوم أن صلاته عليه الصلاة والسلام ، وصلاة المؤمنين معه هي خالصة لله - جل وعلا - دون من سواه ، ومع هذا فقد نهوا عن الصلاة فيه ، مع أنهم مخلصون ؛ ليس عندهم نية الإضرار ولا التفريق ولا الإرصاد ، لكن نهاهم عن الصلاة فيه ؛ لأجل هذه المشاركة والمشابهة التي قد تغري بإتيان ذلك المكان .(41/204)
الصورة متحققة وموجودة فيمن ذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ، فإنه وإن كان مخلصا ، لكنه قد يدعو إلى تعظيم ذلك المكان بفعله ، وإن لم يقصد التعظيم . لكن هنا إيراد : وهو أنه جاء الإذن عن الصحابة بالصلاة في الكنيسة ، وقد صلى عمر رضي الله عنه في كنيسة بيت المقدس (1) ومن الصحابة رضوان الله عليهم من صلى في كنائس بعض البلاد فصلاتهم في الكنائس لله - جل وعلا - أليست مشابهة للصلاة في مسجد الضرار أو للذبح في مكان يذبح فيه لغير الله ؟
_________
(1) انظر صحيح البخاري باب الصلاة في البيعة وفيه أثر عمر وابن عباس وانظر الإنصاف ج1 / 496 والفتاوى 22 / 162 وأحكام أهل الذمة 6 / 123 .(41/205)
الجواب : أن هذا الإيراد ليس بوجيه ؛ ذلك لأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار ، وعن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله إنما هو : لأن صورة العبادة واحدة ؛ فصورة الذبح من الموحد ، ومن المشرك واحدة ، وهي إمرار السكين وهي : آلة الذبح على الموضع من البهيمة المراد ذبحها ، وإهراق دمها في ذلك المكان ، والصورة الحاصلة من الموحد ومن المشرك واحدة ، ولهذا فإنه لا تمييز بين الصورتين - من حيث الظاهر - وإن اختلفت مقاصدهما فكذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في مسجد الضرار فيها مشابهة من حيث الصورة لصلاة المنافقين ، فرجع الاختلاف إلى اختلاف ما في القلب ؛ والنيات ، ومقاصد القلوب مما تخفى على الناس ، ولهذا تقع المفسدة من حيث اشتباه الصورة الظاهرة ، ولا يحصل بذلك الفعل ولو مع خلوص النية مصلحة .
وأما الصلاة في الكنيسة ، فإن صورة الفعل مختلفة ؛ لأن صلاة النصارى ليست على هيئة وصورة المسلمين ، فيعلم من رأى المسلم يصلي أنه لا يصلي صلاة النصارى فليس في فعله إغراء بصلاة النصارى ، ومشاركتهم فيها ، فهذا هو الفرق بين المسألتين ، وهو واضح بأدنى تأمل .(41/206)
قال : وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : « نذر رجل أن يذبح إبلا ببوانة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد " ؟ قالوا : لا ، قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ ، قالوا : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوفِ بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم » . رواه أبو داود .(41/207)
وإسناده على شرطهما : هذا الحديث فيه : أن رجلا نذر أن ينحر إبلا ببوانة ، و (بوانة) : اسم موضع ، فلما نذر أن ينحر في هذا الموضع : استفصله النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المقام يقتضي الاستفصال ، إذ يتبادر إلى الذهن سؤال عن تخصيص هذا الرجل بوانة بأن ينحر فيها الإبل ، فقد تكون لأن فيها عيدا من أعيادهم ، أو لأن فيها وثنا من أوثان الجاهلية كان يعبد في ذلك الموضع فهذا هو المتبادر من التخصيص ؛ لأنه في الغالب يكون لغرض العبادة ؛ ولهذا استفصله النبي عليه الصلاة والسلام فقال : « هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا » : فهذا السؤال يدل على أنه لو وجد هذا الوصف وهو أنه كان ثَمَّ وثن من أوثان الجاهلية يعبد لم يجز النحر في ذلك الموضع ، وهو المراد من إيراد هذا الحديث في الباب ، وهو وجه الاستدلال .(41/208)
قوله : « فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ » : العيد هو : المكان أو الزمان الذي يعود ، أو يُعاد إليه ، فالعيد قد يكون مكانيا ؛ لأنه اسم للمكان الذي يعتاد المجيء إليه في وقت معتاد ؛ ومثال ما يراد له المكاني قوله عليه الصلاة والسلام : « لا تجعلوا قبري عيدا » (1) يعني : لا تجعلوا هذا المكان مكانا تعتادون المجيء إليه .
وكذلك الأزمنة تكون أعيادا ؛ لأنها تعود في وقت معين .
فقوله : « هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ » يعني : عيدا مكانيا ؛ لأنه قال : « هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ » ويحتمل أيضا أن يكون عيدا زمانيا .
ومن المعلوم : أن أعياد المشركين الزمانية والمكانية مرتبطة بأديانهم الشركية ، فيكون المعنى إذًا : أنهم يتعبدون في تلك الأعياد بعباداتهم الشركية ، ومن أعظم ما يفعلونه في هذه الأعياد ، التقرب إلى معبوداتهم بالذبح ، وإراقة الدماء .
فدل ذلك على أن مشاركة المشركين في المكان الذي يتقربون فيه لغير الله بصورة مشابهة لفعلهم ولو ظاهرا : لا يجوز ؛ لأنه مشاركة لهم في الفعل الظاهر ولو كان الفاعل مخلصا لا يذبح إلا لله ، أو لا يصلي إلا لله - جل وعلا - .
_________
(1) أخرجه أبو داود (2024) .(41/209)
قال العلماء : قوله صلى الله عليه وسلم : « أوفِ بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله » فيه : ترتيب ما بعد (الفاء) على ما قبلها بالفاء وهذا يدل على أن سبب الإذن بالوفاء بالنذر : أن ما قبله ليس بمعصية ، ويدل الاستفصال ، على أن الذبح لله في مكان فيه وثن يعبد ، أو فيه عيد من أعياد المشركين : معصية لله - عز وجل - ، وبهذا يستقيم ما أراده الشيخ - رحمه الله - من الاستدلال والاستشهاد بهذا الحديث تحت ذلك الباب .(41/210)
" باب من الشرك النذر لغير الله تعالى "
وقول الله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [ الإنسان : 7 ] وقوله : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ البقرة : 270 ] .
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : وجوب الوفاء بالنذر .
الثانية : إذا ثبت كونه عبادة لله ، فصرفه إلى غيره شرك .
الثالثة : أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به .
الشرح :
قوله : " باب من الشرك النذر لغير الله تعالى " (مِن) هاهنا تبعيضية . قوله : " من الشرك النذر " : مبتدأ مؤخر ، والخبر قبله ، وأصل الجملة : النذر لغير الله كائن من الشرك . والشرك هنا : المقصود : به الشرك الأكبر .
ولا شك أن النذر لغير الله شرك أكبر بالله - جل وعلا - ، ووجه كونه شركا بالله - جل وعلا - : أن النذر هو : إلزام المكلف نفسه بعبادة لله - جل وعلا - إما مطلقا ، وإما بقيد ، فهذه حقيقة النذر .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 6696 ) و( 6700 ) .(41/211)
ومما يدل أيضا على أن النذر عبادة : أن الله - جل وعلا - مدح الذين يوفون بالنذر فقال : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [ الإنسان : 7 ] ومدحه لهم يدل على أن الوفاء بالنذر أمر محبوب لله - عز وجل - ، ولا يكون محبوبا إلا وهو مشروع ، وذلك يقتضي أنه عبادة من العبادات ، بل إن الوفاء بالنذر واجب ؛ لأنه إلزام بطاعة ، وقد قال : صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » .
ومما يدل أيضا على كون النذر عبادة قوله : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [ البقرة : 270 ] ووجه الدلالة : محبة الله - جل وعلا - لذلك الذي حصل منهم تعظيما له - سبحانه وتعالى - بالنذر .
وإذا كان كذلك : فإنه عبادة من العبادات ، فمن صرفه لغير الله - جل وعلا - كان مشركا بالله - جل وعلا - .
وها هنا سؤال معروف قد يَرِدُ في هذا المقام ، وهو أن النذر مكروه قد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم ، وسئل عنه فقال : « إنه لا يأتي بخير » (1) فكيف يكون عبادة وقد كرهه عليه الصلاة والسلام ؟؟!
_________
(1) أخرجه البخاري (6693) ومسلم (1639) (4) .(41/212)
والجواب : أن النذر قسمان : نذر مطلق ، ونذر مقيد ، والنذر المطلق هو : أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله - جل وعلا - ، هكذا بلا قيد ، كأن يقول مثلا : لله علي نذر أن أصلي ركعتين ، وليس هذا النذر في مقابلة شيء يحدث له في المستقبل ، أو شيء حدث له ، فيلزم نفسه بعبادة : كصلاة ، أو صيام ، أو نحو ذلك ، فهذا هو النذر المطلق وهو : إلزام العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - أو بعبادة وليس هذا النذر هو الذي كرهه عليه الصلاة والسلام ، بل النذر المكروه هو القسم الثاني : وهو النذر المقيد ، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : « إنما يُستخرج به من البخيل » (1) . وحقيقته : أن يلزم العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - مقابل شيء يحدثه الله - جل وعلا - له ، ويقدره ، ويقضيه له ، كأن يقول مثلا : إن شفى الله مريضي فلله علي نذر : أن أتصدق بكذا وكذا ، أو إن نجحت فسأصلي ليلة ، أو إن عُيِّنت في هذه الوظيفة فسأصوم أسبوعا ، ونحو ذلك ، فهذا كأنه يشترط بهذا النذر على الله - جل وعلا - فيقول : يا رب إن أعطيتني كذا وكذا : صمتُ لك ، وإن أنجحتني صليتُ ، أو تصدقتُ ، وإن شفيتَ مريضي فعلتُ كذا وكذا ، يعني : مقابلةً للفعل بالفعل .
_________
(1) أخرجه مسلم (1639) (2) .(41/213)
وهذا هو الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : « إنما يُستخرج به من البخيل » لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يقاضى عليها ، فصار بما أعطاه الله من النعمة أو بما دفع عنه من النقمة كأنه في حِس ذلك الناذر قد أعطي الأجر ، وأعطى ثمن تلك العبادة .
وهذا المعنى الخاطئ يستحضره كثير من العوام الذين يستعملون النذور ، فإنهم يظنون أن حاجتهم لا تحصل إلا بالنذر ، وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - وغيره من أهل العلم : إن من ظن أنه لا تحصل حاجاته إلا بالنذر ، فإن اعتقاده هذا مُحرَّم ؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل ، وهذا سوء ظن بالله - جل وعلا - وسوء اعتقاد فيه - سبحانه وتعالى - ، بل هو المتفضل المنعم على خلقه .
فإذا تبين لك ذلك فاعلم أن النذر المطلق لا يدخل في الكراهة ، لكن إذا أطلقنا القول بأن : النذر عبادة ، فهل يدخل في هذا الإطلاق النذر المقيد؟ والجواب : أن النذر المقيد له جهتان : الأولى : وفاؤه بالنذر الذي ألزم نفسه به فإنه يكون بذلك قد تعبد الله عبادة من هذه الجهة فيما يظهر .(41/214)
الجهة الثانية : جهة الكراهة المتعلقة بهذا النذر المقيد ، وهي إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة ، فإنه في النذر المقيد إذا قال : إن كان كذا وكذا فلله علي نذر كذا وكذا ، كانت الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد ، لا إلى أصل النذر ، دل على ذلك : التعليل ؛ حيث قال : " فإنما يُستخرج به من البخيل " .
فلا إشكال إذًا . فالنذر عبادة من العبادات العظيمة .
وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن الاستدلال نوعان :
النوع الأول : استدلال عام ، يعني : أن كل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد الله بالعبادة : يكون دليلا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله ، فيكون الاستدلال بهذا النوع من الأدلة ، على تحريم النذر لغير الله ، وأنه شرك كالآتي : دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده ، وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله - جل وعلا - وأن من صرفها لغير الله - جل وعلا - فقد أشرك ، والنذر عبادة من العبادات ، فمن نذر لغير الله : فقد أشرك .(41/215)
والنوع الثاني من الاستدلال : هو أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة وردت فيها ، كأن تستدل على تحريم الذبح لغير الله بأدلة خاصة وردت في ذلك ، وكأن تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه بأدلة خاصة وردت بذلك ، وكذا في الاستعاذة ونحو ذلك .
فالدليل على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلا وإجمالا ، وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر ، يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال : استدلال عام بكل آية أو حديث فيهما الأمر بإفراد الله بالعبادة ، والنهي عن الشرك فتدخل هذه الصورة فيها ؛ لأنها عبادة ، بجامع تعريف العبادة .(41/216)
والثاني : أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - هنا : " باب من الشرك النذر لغير الله " واستدل على ذلك بخصوص أدلة وردت في النذر . وأما الآيات التي قدمها في أول الكتاب ، كقوله - جل وعلا : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] وكقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وكقوله : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ الأنعام : 151 ] وكقوله : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } فهذه أدلة تصلح لأن يستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك ؛ فتقول : النذر لغير الله عبادة ، والله - جل وعلا - نهى أن تصرف العبادة لغيره ، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك ، فتقول : النذر عبادة ؛ لأنه داخل في حد العبادة ؛ لأن الله - جل وعلا - يرضاه ، ومدح الموفين به .(41/217)
فالدليل الخاص إذًا هو : أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر ؛ ولهذا أورد الشيخ هنا الدليل التفصيلي ، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة ، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف . ومن الفقه في الأدلة الشرعية : أن المستدل على مسائل التوحيد ينبغي له أن يراعي التنويع ؛ لأن تنويع الاستدلال ، وإيراد الأدلة من عدة وجوه من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله وللشرك به - جل وعلا - ، فإذا أوردت على الخصم مرة دليلا خاصا ، وتارة دليلا عاما ، ونوعت في ذلك ، فإن هذا مما يضيق به المخاصم ، ويقطع حجته ، أما إذ لم تورد إلا دليلا واحدا فربما أوله لك ، أو ناقشك فيه ، فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة ، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم ، وحفظ الأدلة : فإنه يقوى على مجادلة الخصوم ، والله - جل وعلا - وعد عباده بالنصر وكما في قوله : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ الزمر : 51 ] وقد قال الشيخ - رحمه الله - في " كشف الشبهات " : والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين ،(41/218)
وهذا صحيح ؛ فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد ، وأخذوها عن أهلها ، عندهم من الحجج ، ووضوح البينات في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين .
وقول الله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [ الإنسان : 7 ] وجه الاستدلال به على كون النذر عبادة ظاهر : وهو أن الله - جل وعلا - مدح الموفين بالنذر ، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن الوفاء بالنذر محبوب له - جل وعلا - ، وأنه مشروع ، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات ، فيكون صرفه لغير الله - جل وعلا - شركا أكبر .
وكذلك قوله { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [ البقرة : 270 ] فإن الله عظم النذر بقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } وعظم أهله ، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله - جل وعلا - .(41/219)
قوله : وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » : وجه الدلالة من هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الوفاء بالنذر فقال : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » وهذا فيه إيجاب الوفاء بالنذر المطلق الذي يكون طاعة ، كأن يقول : لله على أن أصلي كذا وكذا ، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره ، وكذا إن كان النذر مقيدا ، كأن يقول : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بمائة ريال ، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره لله - جل وعلا - ، وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة ؛ لأن الواجب من أنواع العبادات ، وأن ما كان وسيلة إليه فإنه أيضا عبادة ؛ لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هي النذر ، فلولا النذر لم يأت الوفاء ، فأُوجب الوفاء ؛ لأجل أن المكلف هو الذي ألزم نفسه بهذه العبادة .(41/220)
وأما المنع من الوفاء بنذر المعصية ، الذي دل عليه قوله : . . « ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » ؛ فلأن إيجاب المكلف على نفسه معصية الله - جل وعلا - فيه معارضة لنهي الله - جل وعلا - عن العصيان ، وإذا نذر العبد العصيان ، فإن النذر - كما هو معلوم في الفقه - قد انعقد ، ويجب عليه ألا يفي بفعل تلك المعصية ، لكن يجب عليه أن يكفر عن ذلك كفارة يمين ، ومحل ذلك باب النذر في كتب الفقه .
فالمقصود من هذا : أن استدلال الشيخ - رحمه الله - بالشق الأول ، وهو قوله : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » ظاهر في الدلالة على أن النذر عبادة ، وكذلك في قوله : « ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » حيث أوجب عليه كفارة يمين ، فهذا يدل على أن أصله منعقد ، انعقد لكونه عبادة ، وإذا كان عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر به - جل وعلا - .
فالنذر لله - جل وعلا - عبادة عظيمة - كما ذكرنا - والنذر لغير الله - جل وعلا - أيضا عبادة ، فإذا توجه الناذر لغير الله بالنذر فقد عبده ، وإذا توجه الناذر لله - جل وعلا - بالنذر فقد عبد الله - جل وعلا - .(41/221)
فالنذر - على أية حال كان - لله ، أو لغير الله ، هو عبادة ، ثم إن كان لله فهو عبادة لله - جل وعلا - وإن كان لغير الله فهو عبادة لذلك الغير ، والله أعلم .(41/222)
" باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى "
وقول الله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 6 ] .
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك » رواه مسلم (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الجن .
الثانية : كونه من الشرك .
الثالثة الاستدلال على ذلك بالحديث ؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة ؛ قالوا : لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك .
الرابعة : فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره .
الخامسة : أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية ؛ من كف شر ؛ أو جلب نفع ؛ لا يدل على أنه ليس من الشرك .
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (2708) .(41/223)
هذا الباب عنونه الإمام - رحمه الله - بقوله " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى " وهذا الباب مع الذي قبله والأبواب التي سلفت أيضا : كلها في بيان المقصد من هذا الكتاب ، وبيان الغرض من تأليفه ، وأن التوحيد إنما يُعرف بضده ، فمن طلب التوحيد فليطلب ضده لأنه - أعني التوحيد - يجمع بين الإثبات والنفي ، فيجمع بين الإيمان بالله ، وبين الكفر بالطاغوت ، فمن جمع بين هذين الأمرين فإنه يكون قد عرف التوحيد ؛ ولهذا فصل الشيخ - رحمه الله - أفراد توحيد العبادة ، وفصل أفراد الشرك ؛ فبين أصناف الشرك الأصغر : القولي والعملي ، وبين أصناف الشرك الأكبر : العملي والاعتقادي ، فذكر الذبح لغير الله ، وذكر النذر لغير الله ، والذبح والنذر : عبادتان عظيمتان .(41/224)
فعبادة الذبح فعلية عملية ، وعبادة النذر عبادة قولية إنشاءً ، وعملية وفاءً ، فالشرك الأكبر الذي يكون من جهة العمل ، أنواع ، وقد ذكر منها - على سبيل التمثيل - الذبح لغير الله ، كما أنه ذكر النذر لغير الله ، مثالا على أنواع الشرك الأكبر الحاصل من جهة القول ، وكل من الذبح والنذر يصاحبهما اعتقاد تعظيم المخلوق ، كتعظيم الله - عز وجل - وهذا شرك ، قال تعالى : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] وقال : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }{ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ثم عطف على ذلك : " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله " لأن الاستعانة بغير الله تكون بالقول الذي معه اعتقاد ؛ ولذلك ناسبت أن تكون بعد " باب من الشرك النذر لغير الله " .(41/225)
وقوله - رحمه الله - : " من الشرك " : (من) هاهنا تبعيضية كما ذكرنا فيما سبق من الأبواب ، والشرك المقصود هنا هو : الشرك الأكبر ، أي من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله ؛ لأن (الألف واللام) أو (اللام وحدها) الداخلة على قوله : " الشرك " هي : للعهد ؛ فتكون عائدة إلى الشرك المعهود ، وهو الأكبر ، يعني : باب من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله .
والاستعاذة : طلب العياذ ، يقال استعاذ : إذا طلب العياذ ، والعياذ : ما يؤمِّن من الشر ، كالفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمِّن منه ، أو إلى من يؤمِّن منه ، ويقابلها اللياذ ، وهو : الفرار إلى طلب الخير ، والتوجه إليه ، والاعتصام به ، والإقبال عليه ، لطلب الخير .(41/226)
والاستعاذة : استفعال ، ومادة (استفعل) موضوعة في الغالب للطلب ، فغالب مجيء (الألف والسين والتاء) للطلب ؛ فمعنى : استعاذ ، واستعان ، واستغاث ، واستسقى : طلب تلك الأمور ، وتأتي أحيانا للدلالة على كثرة الوصف في الفعل ، كما في قوله - جل وعلا - : { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } [ التغابن : 6 ] ؛ فـ (استغنى) ليس معناها طلب الغنى ، وإنما جاء بالسين والتاء هنا : للدلالة على عظم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل ، وهو : الغني . فـ (استعاذ) و(استغاث) و(استعان) ، وأشباه ذلك فيها طلب ، والطلب من أنواع التوجه والدعاء ، لأن الطلب يدل على أن هناك من يُطلب منه والمطلوب منه لما كان أرفع درجة من الطالب : كان الفعل المتوجه إليه يسمى دعاء ؛ ولهذا فإن حقيقة الاستعاذة لغة ، ودلالتها شرعا هي : طلب العوذ ، أو طلب العياذ ؛ وهو الدعاء المشتمل على ذلك ، والاستغاثة هي : طلب الغوث وهو دعاء مشتمل على ذلك ، وهكذا في كل ما فيه طلب نقول : إنه دعاء ، وإذا كان دعاء فإنه يكون عبادة ، والعبادة حق لله وحده دون من سواه ، كما قام الإجماع على هذا ، ودلت النصوص عليه ، كقوله سبحانه : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا(41/227)
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] وكقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] كقوله : أيضا : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ النساء : 36 ] إذًا : فكل فعل من الأفعال ، أو قول من الأقوال فيه طلب : يكون عبادة ؛ لأنه دعاء ؛ وكل طلب : فهو دعاء . والطلب يختلف نوعه ومسماه باختلاف المطلوب منه : فإذا كان الطلب من مقارن : فيسمى التماسا ، وإذا كان ممن هو دونك : فيسمى أمرا ، وإذا كان ممن هو أعلى منك : فيسمى دعاء . والمستعيذ والمستغيث ، لا شك أنه طالب ممن هو أعلى منه ؛ لحاجته إليه ؛ فلهذا يصح أن يكون كل دليل فيه ذكر إفراد الله - جل وعلا - بالدعاء أو بالعبادة ، دليلا على خصوص هذه المسألة ، وهي : أن الاستعاذة من العبادات العظيمة ، وإذ كانت كذلك ، فإن إفراد الله بها واجب .(41/228)
وقوله هنا : " من الشرك الاستعاذة بغير الله " : هذا الغير شامل لكل من يتوجه إليهم بالعبادة ، ويشركونهم مع الله ، ويدخل في ذلك - بالأولية - ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليهم بالعبادة : من الجن ، والملائكة ، والرسل ، والأنبياء ، والصالحين ، والأشجار ، والأحجار ، وغير ذلك من معبوداتهم .
لكن هل مقصوده بقوله : " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله " شمول هذا الحكم على فاعله بالشرك ، لكل أنواع الاستعاذة ، ولو كان فيما يقدر عليه المخلوق ؟ والجواب : أن هذا فيه تفصيل ، فمن العلماء من يقول : الاستعاذة توجه القلب ، واعتصامه ، والتجاؤه ، ورغبه ، وهذه المعاني جميعا لا تصلح إلا لله - جل وعلا - .
وقال آخرون : قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يقدر عليه ؛ لأن حقيقة الاستعاذة : طلب انكفاف الشر ، وطلب العياذ ، وهو : أن يستعيذ من شر أحدق به ، وإذا كان كذلك : فقد يملك المخلوق شيئا من ذلك ، وعلى هذا فتكون الاستعاذة بغير الله شركا أكبر ، إذا كان ذلك المخلوق لا يقدر على أن يعيذ ، أو طلبت منه الإعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله .(41/229)
والذي يظهر أن المقام كما سبق فيه تفصيل ، وهو : أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر ، وفيها عمل باطن ، فالعمل الظاهر : أن يطلب العوذ ، وأن يطلب العياذ ، وهو أن يُعصم من هذا الشر ، أو أن ينجو من هذا الشر ، وفيها أيضا عمل باطن وهو : توجه القلب وسكينته ، واضطراره ، وحاجته إلى هذا المستعاذ به ، واعتصامه بهذا المستعاذ به ، وتفويض أمر نجاته إليه .
فإذا كانت الاستعاذة تجمع هذين النوعين فيصح أن يقال : إن الاستعاذة لا تصلح إلا بالله ، لأن منها ما هو عمل قلبي كما تقدم وهو بالإجماع لا يصلح التوجه به إلا لله . وإذا قصد بالاستعاذة العمل الظاهر فقط وهو طلب العياذ والملجأ ، فيجوز أن يتوجه بها إلى المخلوق ، وعلى هذا يحمل الدليل الوارد في جوازها .(41/230)
فحقيقة الاستعاذة إذًا تجمع بين الطلب الظاهر ، والمعنى الباطن ؛ ولهذا اختلف أهل العلم في جواز طلبها من المخلوق ، فالذي ينبغي أن يكون منك دائما على ذكر : أن توجُّه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء ، أو الجن ، أو الصالحين ، أو غيرهم ، أنهم جمعوا بين القول باللسان ، وأعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله - جل وعلا - ، وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون من : أن الاستعاذة بهم إنما هي فيما يقدرون عليه ، وأن الله أقدرهم على ذلك ؛ فيكون إبطال مقالهم راجعا إلى جهتين :
الجهة الأولى : أن يُبطل قولهم بأن يقال : إن هذا المَيْت ، أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر الذي طلب منه ، فإذا لم يقتطع بذلك ، أو حصل عنده اشتباه ما ، انتقل الجني إلى الجهة الثانية من الإبطال : وهو إثبات أن الاستعاذة فيها توجه بالقلب إلى المستعاذ به واضطرار إليه ، واعتصام به ، وافتقار إليه ؛ وهذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي قد قامت هذه المعاني بقلبه ، ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك إلا لله وحده - عز وجل - .(41/231)
فنقول إذًا : الاستعاذة بغير الله شرك أكبر ؛ لأنها صرف عبادة لغير الله - جل جلاله - . لكن إن كان الاستعاذة في الظاهر فقط مع طمأنينة القلب بالله وتوجهه إلى الله ، وحسن ظنه بالله ، وأن هذا العبد إنما هو سبب ، وأن القلب مطمئن لما عند الله فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر ، وأما القلب : فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة . وإذا كان كذلك : كان هذا جائزا .
قال - رحمه الله - : ( وقول الله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 6 ] .(41/232)
قوله : ( وَأَنَّهُ ) هذه معطوفة على أول السورة ، وهو ما أوحى الله - جل وعلا - إلى نبيه بقوله : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } [ الجن : 1 ] ثم قال بعد آيات : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 6 ] ومعنى { رَهَقًا } أي : خوفا ، واضطرابا في القلب ؛ أوجب لهم الإرهاق ، والرهق : في الأبدان وفي الأرواح ، فلما كان كذلك تعاظمت الجن ، وزاد شرها ، وقد كان المشركون يعتقدون أن لكل مكان مخوف جنيا أو سيدا من الجن يخدم ذلك المكان ، هو له ويسيطر عليه ، فكانوا إذا نزلوا واديا ، أو مكانا قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يعنون الجن ، فعاذوا بالجني لأجل أن يكف عنهم الشر مدة مقامهم ؛ لهذا قال جل وعلا : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } يعني : زاد الجن الإنس خوفا ، واضطرابا ، وتعبا في الأنفس ، وفي الأرواح ، وإذا كان كذلك : كان هذا عقوبة لهم . والعقوبة إنما تكون على ذنب ، فدلت الآية على ذم أولئك ، وإنما ذموا ؛ لأنهم صرفوا تلك(41/233)
العبادة لغير الله - جل وعلا - والله سبحانه أمر أن يستعاذ به دون ما سواه فقال سبحانه { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [ الفلق : 1 ] وقال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } [ الناس : 1 ] وقال { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ }{ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 97 ] والآيات في ذلك كثيرة ، كقوله : { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [ الأعراف : 200 ] ، فَعُلِمَ من التنصيص على المستعاذ به وهو الله - جل وعلا - أن الاستعاذة حصلت بالله ، وبغيره وأن الله أمر نبيه أن تكون استعاذته به وحده دون ما سواه . وقد ذكرت لكم أصل الدليل في ذلك ، وأن الاستعاذة عبادة ، وإذا كانت عبادة فتدخل فيما دلت عليه الآيات من إفراد العبادة بالله وحده .
وقال قتادة وبعض السلف : إن معنى قوله : { رَهَقًا } إثما ، (1) أي : فزادوهم إثما ، وهذا أيضا ظاهر من جهة الاستدلال ، لأن الاستعاذة إذا كانت موجبة للإثم ، فهي إذًا عبادة شركية إذا صرفت لغير الله ، وعبادة مطلوبة إذا صرفت لله - جل جلاله - وهذا يستقيم مع الترجمة من أن الاستعاذة بغير الله شرك .
_________
(1) تفسير ابن كثير (8 / 226) .(41/234)
قوله : ( وعن خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك » رواه مسلم .
وجه الدلالة من هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل الاستعاذة بكلمات الله فقال : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق » وجعل المستعاذ منه : المخلوقات الشريرة والمستعاذ به هو : كلمات الله وقد استدل أهل العلم لما ناظروا المعتزلة ، وردوا عليهم بهذا الحديث ، على أن كلمات الله ليست بمخلوقة ، قالوا : لأن المخلوق لا يستعاذ به ، والاستعاذة به شرك ، كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة . فوجه الدلالة من الحديث : إجماع أهل السنة على الاستدلال به على أن الاستعاذة بالمخلوق شرك ، وأنه ما أمر بالاستعاذة بكلمات الله إلا لأن كلمات الله - جل وعلا - ليست بمخلوقة .(41/235)
قال : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق » : المقصود بـ " كلمات الله التامات " هنا الكلمات الكونية التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وهي المقصودة بقوله جل وعلا : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } [الكهف : 109 ] وبقوله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [ لقمان : 27 ] وقوله { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [ الأنعام : 115 ] وفي القراءة الأخرى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [ الأنعام : 115 ] فهذه الآية في الكلمات الشرعية ، وكذلك في الكلمات الكونية .
إذًا : فقوله : « أعوذ بكلمات الله التامات » يعني : الكلمات الكونية .(41/236)
قوله : " مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ " : يعني : من شر الذي خلقه الله - جل وعلا - ، وهذا العموم المقصود منه : من شر المخلوقات التي فيها شر ، إذ ليست كل المخلوقات فيها شر ، بل ثَمَّ مخلوقات طيبة ليس فيها شر : كالجنة ، والملائكة ، والرسل ، والأنبياء ، والأولياء ، وهناك مخلوقات خلقت وفيها شر ، فاستُعيذ بكلمات الله - جل وعلا - من شر الأنفس الشريرة ، والمخلوقات التي فيها شر .(41/237)
" باب من الشرك أن يستغيث بغير الله ، أو يدعو غيره "
وقول الله تعالى : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 106 ، 107 ] وقول الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 17 ] .
وقول الله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ }{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 - 6 ] .(41/238)
وقول الله تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } [ النمل : 62 ] .
وروى الطبراني بإسناده : أنه « كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه لا يُستغاث بي إنما يُستغاث بالله » . (1) .
فيه مسائل :
الأولى : أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص .
الثانية : تفسير قوله : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ } .
الثالثة : أن هذا هو الشرك الأكبر .
الرابعة : أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره ؛ صار من الظالمين .
الخامسة : تفسير الآية التي بعدها .
السادسة : كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا .
السابعة : تفسير الآية الثالثة .
الثامنة : أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله كما أن الجنة لا تطلب إلا منه .
التاسعة : تفسير الآية الرابعة .
العاشرة : أنه لا أضل ممن دعا غير الله .
الحادية عشرة : أنه غافل عن دعاء الداعي ، لا يدري عنه .
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وقال الهيثمي في « مجمع الزوائد » 10 / 159 : ورجاله رجال الصحيح ، غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث «.(41/239)
الثانية عشرة : أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له .
الثالثة عشرة : تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو .
الرابعة عشرة : كفر المدعو بتلك العبادة .
الخامسة عشرة : هي سبب كونه أضل الناس .
السادسة عشرة : تفسير الآية الخامسة .
السابعة عشرة : الأمر العجيب ، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله ، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين .
الثامنة عشرة : حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حِمَى التوحيد ، والتأدب مع الله .
الشرح :
قوله : " باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره " الشرك : المراد به كما ذكرنا فيما سبق : الشرك الأكبر .(41/240)
قوله : " أن يستغيث " : يعني الاستغاثة ؛ لأن (أن) مع الفعل تؤول بمصدر ، يعني : ( باب من الشرك الاستغاثة بغير الله ) ، أو ( استغاثة بغير الله ) ، وكذلك قوله : " يدعو " يؤول بمصدر ، يعني : من الشرك ، ( دعوة غيره ) ، أو ( دعاء غيره ) . والاستغاثة - كما ذكرنا - : طلب ؛ والطلب نوع من أنواع الدعاء ؛ ولهذا قال العلماء : إن في قوله : " أو يدعو غيره " بعد قوله : " أن يستغيث بغير الله " عطفا للعام على الخاص ، ومن المعلوم : أن الخاص قد يعطف على العام ، وأن العام قد يعطف على الخاص .
وقوله : " أن يستغيث بغير الله " : هذا أحد أفراد الدعاء - كما ذكرنا - لأن الاستغاثة طلب ، والطلب دعاء .
وقوله : " أو يدعو غيره " : هذا لفظ عام يشمل الاستغاثة ، والاستعاذة ، ويشمل أصنافا من أنواع الدعاء .(41/241)
قوله : " أن يستغيث " : الاستغاثة : هي طلب الغوث ، والغوث يحصل لمن وقع في شدة وكرب يخشى معه المضرة الشديدة ، أو الهلاك ؛ فيقال : أغاثه : إذا فزع إليه ، وأعانه على كشف ما به ، وخلصه منه ؛ كما قال - جل وعلا - في قصة موسى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [ القصص : 15 ] فقوله : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ } [ القصص : 15 ] يعني : أن مَن كان مِن شيعة موسى طلب الغوث من موسى على من كان عدوا لهما جميعا ، فأغاثه موسى عليه السلام .
فالاستغاثة : طلب الغوث ؛ وطلب الغوث لا يصلح إلا من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله - جل جلاله - ؛ لأن الاستغاثة يمكن أن تُطلب من المخلوق فيما يقدر عليه .
لكن متى تكون الاستغاثة بغير الله شركا أكبر ؟ ضبطه بعض أهل العلم بقولهم : تكون شركا أكبر ، إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق .(41/242)
وقال آخرون : تكون شركا أكبر ، إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وهاتان العبارتان مختلفتان . والأصح منهما الأخيرة ؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ؛ وهو يعلم أن هذا لا يقدر عليه إلا الله : فهذا شرك أكبر بالله - جل وعلا - لأن حقيقة الأمر : أنه لا يقدر عليه إلا الله .(41/243)
أما قول من قال من أهل العلم : إن الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ، فإن هذا يَرِد عليه : أن ثمت أشياء قد يكون المخلوق في ظاهر الأمر قادرا عليها ، ولكنه في الحقيقة لا يقدر عليها ، لكن هذا الضابط غير منضبط ؛ لأن من وقع في شدة - كغرق مثلا - وتوجه لرجل يراه بأن يغيثه فقال مخاطبا إياه : أستغيث بك ، أستغيث بك ، أستغيث بك وذاك لا يحسن السباحة ولا يحسن الإنجاء من الغرق ، فهذا يكون قد استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق ، فهل يكون شركا أكبر ؟ لا يكون منه ؟ لأن الإغاثة من الغرق ونحوه ، يصلح - في الغالب - أن يكون المخلوق قادرا عليها فيكون الضابط الثاني هو الصحيح ، وهو أن يقال : الاستغاثة بغير الله شرك أكبر إذا كان قد استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، أما إذا استغاث به فيما يقدر عليه غير الله من المخلوقين ، لكن هذا المخلوق المعين لم يقدر على هذا الشيء المعيّن : فإنه لا يكون شركا ؛ لأنه ما اعتقد في المخلوق شيئا لا يصلح إلا لله - جل جلاله - .(41/244)
فالاستغاثة بغير الله إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهي : شرك أكبر ، وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق ، فهي جائزة ؛ كما حصل من صاحب موسى ، إذ استغاث بموسى عليه السلام .
قوله : (أو يدعو غيره) : الدعاء - كما ذكرت لك - هو العبادة ، والدعاء نوعان :
دعاء مسألة ، ودعاء عبادة ، ونعني بدعاء المسألة : ما كان فيه طلب وسؤال ؛ كأن يرفع يديه لله - جل وعلا - ويدعوه ، فهذا يسمى دعاء مسألة .
وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الدعاء ، فإذا قيل : دعا فلان ؛ يعني سأل ربه - جل وعلا - .
والنوع الثاني : دعاء العبادة كما قال جل وعلا : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] يعني : لا تعبدوا مع الله أحدا ، أو لا تسألوا مع الله أحدا ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الدعاء هو العبادة » . ودعاء المسألة ، غير دعاء العبادة ، فدعاء العبادة يتناول كل صنف من أصناف العبادة ؛ فمن صلى ، أو زكى ، أو صام ، ونحو ذلك فيقال : إنه دعا ، لكن دعاء عبادة .(41/245)
قال العلماء : دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ، يعني : أن من سأل الله - جل وعلا - شيئا : فهو داع دعاء مسألة ، وهذا متضمن لعبادة الله ؛ لأن الدعاء أعني : دعاء المسألة : أحد أنواع العبادة ، فدعاء المسألة متضمن للعبادة ؛ لأن الله - جل وعلا - يحب من عباده أن يسألوه .
وقولنا : إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ، يعني : أن من صلى ، فيلزم من إنشائه الصلاة أن يسأل الله القبول ، ويسأل الله الثواب . فيكون دعاء المسألة متضمنا لدعاء العبادة ، ودعاء العبادة مستلزما لدعاء المسألة .
إذا تقرر ذلك : فاعلم أن هذا التفصيل أو هذا التقسيم : مهم جدا في فهم حجج القرآن ، وفي فهم الحجج التي يوردها أهل العلم ؛ لأنه قد حصل من الخرافيين والداعين إلى الشرك : أنهم يؤولون الآية التي فيها دعاء العبادة ، بدعاء المسألة ، أو الآية التي في دعاء المسألة ، بدعاء العبادة ، وإذا تبين ذلك عُلم أنه لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، فهذا هو ذاك : إما بالتضمن أو باللزوم . ومعلوم أن دلالات التضمن واللزوم دلالات لغوية واضحة جاءت في القرآن ، وجاءت في السنة .(41/246)
ثم ساق الشيخ - رحمه الله - بعض الأدلة على أن الدعاء والاستغاثة إنما يتوجه بهما إلى الله وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله .
قال : ( وقول الله تعالى : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ }{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 106 - 107 ] .(41/247)
قال في أول الآية : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ } فقوله : { وَلَا تَدْعُ } هذا نهي ، والنهي هنا قد توجه إلى الفعل ( تدع ) وإذا كان كذلك : فإنه يعم أنواع الدعاء ، وسبق القول بأن الدعاء منه : دعاء مسألة ، ومنه دعاء عبادة ؛ والقاعدة : أن النكرة إذا جاءت في سياق النهي ، أو في سياق النفي ، أو في سياق الشرط : فإنها تعم ؛ و( تدع ) نكرة ؛ لأنه فعل مشتمل على مصدر ؛ والمصدر حَدَثٌ نكرة ؛ فهو يعم نوعي الدعاء . وهذا مراد الشيخ - أو أحد مراداته - من الاستدلال بهذه الآية ، فقد نهى الله - جل وعلا - أن يُتوجه لغير الله بدعاء المسألة ، أو بدعاء العبادة ، أو بأي نوع من أنواع العبادات ؛ فلا يصلح طلب ما يقدر عليه إلا الله : إلا منه جل وعلا ، ويدخل في ذلك الاستعاذة ، والاستغاثة التي هي : طلب الغوث ، وكذلك دعاء العبادة بأنواعه : كالصلاة ، والزكاة ، والتسبيح ، والتهليل ، والسجود ، وتلاوة القرآن ، والذبح ، والنذر ، وكذلك : أعمال القلوب ، كالتوكل ، والمحبة التي هي عبادة والرجاء الذي هو عبادة وخوف السر . فهذه العبادات كلها لا تصلح إلا لله . وهي من أنواع دعاء العبادة .(41/248)
فهذه الآية دلت على النهي عن أن يتوجه أحد إلى غير الله - جل وعلا - بدعاء مسألة ، أو بدعاء عبادة وقد نُهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أعظم النهي ، ووجه إليه الخطاب بذلك ، مع أنه إمام المتقين ، وإمام الموحدين .
وقوله : { مِنْ دُونِ اللَّهِ } يعني : مع الله ، أو : من دون الله استقلالا .
وقوله : { مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ } يعني : الذي لا ينفعك ولا يضرك ، و(ما) تشمل العقلاء ، فالعقلاء : كالملائكة ، والأنبياء ، والرسل ، والصالحين . وغير العقلاء : كالأصنام ، والأحجار ، والأشجار ، هذا من جهة الدلالة اللغوية لـ (ما) .
وقوله تعالى لنبيه : { فَإِنْ فَعَلْتَ } يعني : إن دعوت من دون الله أحدا ؛ وذلك الأحد موصوف بأنه : لا ينفعك ، ولا يضرك { فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } ، وهذا إذا كان في حق النبي عليه الصلاة والسلام الذي كمل الله له التوحيد أنه إذا حصل منه الشرك : فإنه يصبح ظالما ، ويصبح مشركا وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك : فهو تخويف عظيم لمن هو دونه ممن لم يُعصم ، ولم يُعط العصمة من ذلك ، من باب أولى .(41/249)
فقوله : { فَإِنْ فَعَلْتَ } يعني : إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك : { فَإِنَّكَ إِذًا } يعني : بسبب الدعوة { مِنَ الظَّالِمِينَ } . والظالمون جمع تصحيح للظالم ، والظالم : اسم فاعل الظلم ، والظلم : المراد به هنا : الشرك كما قال جل وعلا : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
ثم قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } اعلم أن غرض من يلجأ إلى غير الله ، أو يستغيث ، أو يستعيذ بغيره : إنما هو طلب كشف الضر . وقد أبطل الله تعالى هذا التعلق الشرعي بقاعدة عامة تقطع عروق الشرك من القلب ؛ حيث قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } يعني : إذا مسك الله بضر فمن يكشف الضر؟؟ الجواب : يكشفه من قدره ، ومن قضاه عليك ، وهكذا كل أنواع التوجه لغير الله - جل وعلا - ، أيا كانت . ولكن ما دام أنه أذن بالتوجه إلى المخلوق فيما يقدر عليه ، كالتوجه إليه بطلب الغوث ، أو نحو ذلك : فإنه يكون مما رخص فيه ، والحمد لله .(41/250)
وقوله في هذه الآية : { بِضُرٍّ } : نكرة جاءت في سياق الشرط فتعم جميع أنواع الضر : سواء أكان ضرا في الدين ، أم كان ضرا في الدنيا ، يعني : كان ضرا في الدنيا من جهة الأبدان ، أو من جهة الأموال ، أو من جهة الأولاد ، أو من جهة الأعراض ، ونحو ذلك إذًا : فمعنى قوله : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } أي بأي نوع من أنواع الضر : { فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } أي : الذي يكشف الضر في الحقيقة : هو الله - جل وعلا - ، لا يكشف البلوى إلا هو سبحانه وتعالى ، وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف : فإنما هو من جهة أنه سبب ، فالله هو الذي جعله سببا يقدر على أن يكشف بإذن الله - جل وعلا - ، وإلا فالكاشف حقيقة هو الله - جل وعلا - ، والمخلوق ولو كان يقدر فإنما قدر بإقدار الله له ؛ إذ هو سبب من الأسباب ، فالحاصل : أن الكاشف على الحقيقة هو الله وحده ، وإذا تبين ذلك : ظهر لك وجه استدلال المصنف بهذه الآية ومناسبة الآية للترجمة ، من عدة جهات كما ذكرنا .
ثم أورد الشيخ - رحمه الله - قوله تعالى : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت : 17 ] .(41/251)
ليبين أن الاستغاثة والدعاء هما من أعظم أسباب الحياة ؛ فمن لم يكن عنده رزق فإنه يوشك على الهلاك ؛ ولهذا ذكر الإمام هذه الآية التي فيها النص على توحيد جهة طلب الرزق ؛ لأن معظم حال المستغيثين إنما هي لطلب الرزق .
والرزق اسم عام يشمل كل ما يصلح أن يُرزق ، يعني : أن يُمنح ويُعطى ؛ فيدخل في ذلك الصحة ، والعافية ، والمال ، والطعام ، والمنزل ، والدواب ، وكل ما يحتاجه المرء .
وقوله في الآية : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } : أصل تركيب الكلام فيها : فابتغوا الرزق عند الله ، و( ابْتَغُوا ) فعل أمر ، و( الرزق ) مفعول ، و( عند الله ) الأصل أن يتأخر على المفعول ، أي فابتغوا الرزق عند الله . قال علماء المعاني - من علوم البلاغة - : إن تقديم ما حقه التأخير : يفيد الاختصاص ، والأصل : فابتغوا عند الله الرزق واجعلوا ذلك الابتغاء مختصا بالله - جل وعلا - ، هكذا يفهم العربي معنى الآية ، أي : فليكن ابتغاؤكم الرزق من عند الله وحده ، فلا تستغيثوا بغيره في طلب رزق ، ولا تستنجدوا بغيره في طلب رزق ، وإنما ذلك لله - جل وعلا - .(41/252)
ثم قال : { وَاعْبُدُوهُ } ؛ ليجمع أصناف السؤال بما يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة .
ثم قال : ( وقوله { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } [ الأحقاف : 5 ] ) :
دلالة الآية ظاهرة في أنها واردة في سياق الدعاء ؛ لأن الله تعالى قال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ } فهي ظاهرة في أن ثَمَّ داعيا ، وثم مدعوا ، وذاك المدعو : غير الله - جل وعلا - .
ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى وصف كل من يدعو من دون الله بأنه في غاية الضلال ، ومنتهى الغواية ، وأنه لا أحد أضل منه ، والدليل على أنه أراد الأموات ولم يرد الأصنام والأحجار والأشجار أنه قال { مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فجعل غاية المنع من الإجابة إلى يوم القيامة ، وهذه في الأموات ؛ لأن الميت إذا كان يوم القيامة : نشر وصار يسمع وربما أجاب طلب من طلبه لأنه يكون في ذلك المقام حيا وربما كان قادرا .(41/253)
وأما المَيْت - الذي هو في البرزخ - فهو الذي يصْدُق عليه وصف الله - جل وعلا - بقوله : { مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } والأصل في اللغة : أن لفظ ( مَنْ ) تُستعمل للعقلاء - كما يقول النحاة - والأصح : أن يقال : لفظ (مَنْ) الأصل فيها لغة : أنها تطلق على من يعلم ، لورود بعض الآيات في القرآن أطلق فيها هذا اللفظ في حق الله - عز وجل - هذا الأحسن من حيث استعمال هذا اللفظ ، وإن كان الذي جرى عليه القول عند علماء النحو : استعمال (مَنْ) للعاقل ، و (ما) لغير العاقل . فتلخص مما سبق : أن الأصح في استعمال (مَن) أنها : لمن يعلم ، وهؤلاء المذكورون في الآية : كانوا بشرا يخاطِبون ويخاطَبون ، ويعلمون ويُعلَم منهم .
وقوله : { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } : هذا الوصف ليس مقصودا به الأصنام ، وإنما هو في الأموات .(41/254)
ثم قال تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] ولذلك قال جل وعلا في سورة النحل { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ النحل : 21 - 22 ] .
قال : ( وقوله : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [ النمل : 62 ] ) هذه الآية من سورة ( النمل ) فيها : أن دعاء المضطر إنما هي لله - جل وعلا - وحده ، فقوله : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } هذا في دعاء المسألة ، وكشف السوء في قوله . { وَيَكْشِفُ السُّوءَ } تارة يكون بالاستغاثة ، وتارة بغير ذلك ؛ ولهذا يكون هذا القدر من الآية صالحا لما ترجم به المؤلف - رحمه الله - من اللفظين : لفظ ( الاستغاثة ) ، ولفظ ( الدعاء ) .(41/255)
ثم قال بعدها : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [ النمل : 62 ] ، وهذا الاستفهام إنكاري ، ينكر عليهم أن يتخذوا إلها مع الله ، وينكر عليهم أن يدعوا غير الله ، أو يتوجهوا في كشف السوء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهذا معنى الإنكار في قوله : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } .
قال : ( وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم . . . . . . ) المراد بالبعض هنا : أبو بكر الصديق ، كما جاء في بعض الروايات .
ثم قال في الحديث : . . . . . « قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله » واستغاثة الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت جائزة ؛ لأنهم طلبوا الإغاثة من النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا في هذا المقام على إغاثتهم ، إما بالأمر بقتل المنافق ، أو الأمر بسجنه ، أو بتهديده ، أو معاقبته بتعزير ، أو بغيره ؛ لأنه كان يؤذي المؤمنين .(41/256)
فاستغاثتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم : " قوموا بنا نستغيث برسول الله " استغاثة به يقدر عليه ، لكن النبي - عليه الصلاة والسلام - علمهم الأدب في ذلك ، وعلمهم الأكمل في ذلك ؛ حيث قال : « إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله » .
وحقيقة الاستغاثة على وجه الكمال ، إنما هي بالله جل وعلا لا بنبيه صلى الله عليه وسلم ، فكأنه حصل منهم نوع التفات للنبي عليه الصلاة والسلام فيما يقدر عليه ، فبين لهم : أن الواجب عليهم أن يستغيثوا بالله - جل وعلا - أولا ؛ فقال : " إنه لا يستغاث بي " ، وهذا نفي فيه معنى النهي ، يعني : لا تستغيثوا بي ، بل استغيثوا بالله في هذا الأمر ، وإذا أغاثهم الله جل وعلا كف شر ذلك المنافق عنهم .(41/257)
وقد أعل بعض العلماء هذا الحديث بأن في إسناده ابن لهيعة ، وحاله معروف . لكن إيراد أئمة الحديث للأحاديث التي قد يكون في إسنادها بعض مقال في مثل هذا المقام : لا بأس به ، بل فعلهم هذا صواب إذا كان ما في الحديث من المعنى قد عضدته الأدلة من القرآن ومن السنة ، كما في هذا الحديث ؛ فإن قوله عليه الصلاة والسلام : « إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله » قد دلت عليه الآيات التي سلفت ، وهذا الذي درج عليه صنيع الراسخين في العلم من أهل الحديث ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له في ( الفتاوى ) ؛ قال : أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول ، بل إما في تأييده يعني : في تأييد ذلك الأصل أو في فرع من الفروع .
وهذا هو صنيع الشيخ - رحمه الله - أيضا في هذا الكتاب ؛ فإنه يستدل بأحاديث هي من جهة المعنى الذي اشتملت عليه صحيحة - كما سبق إيضاحه - وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث مستدلا به في رده على البكري المعروف بـ ( الاستغاثة ) أعني : كتاب ( الاستغاثة الكبرى ) ، أو (الرد على البكري ) ، وقال إن هذا الحديث هو معنى ما جاء في النصوص .(41/258)
فقوله عليه الصلاة والسلام : " إنه لا يستغاث بي " يعني : لا تستغيثوا بي ، وإنما استغيثوا بالله ؛ لأن لفظ (يستغاث) تقدمه نفي ، والمراد منه : النهي .
وهذا الباب ظاهر المناسبة لما قبله ولما بعده أيضا في أن الاستغاثة بغير الله نوع من أنواع الدعاء ، وأن الدعاء عبادة ، وأن الاستغاثة عبادة ، وصرف العبادة لغير الله جل وعلا : كفر وشرك .(41/259)
ومما يدل على أن الدعاء عبادة قول الله جل وعلا : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } [ البقرة : 186 ] ، وقوله : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } يدل على أن إجابة الدعوة تكون برفع المكروه ، أو بمنع وقوعه ، وتكون أيضا بالعطاء ، والإثابة فيما إذا عبد ، فيجيب الدعوة بإعطاء السائل سؤله ، ويجيب أيضا الدعاء بإثابة الداعي العابد على عبادته ؛ ولهذا يفسر السلف الآيات التي فيها إجابة الدعاء ونحو ذلك : بأن فيها إعطاء سؤل السائل ، وإثابة العابد ؛ لأن الصحابة والسلف : يعلمون أن الدعاء يشمل هذا وهذا . وقوله : { إِذَا دَعَانِ } يعني : إذا سألني ، أو عبدني ، مع أنها في السؤال ظاهرة ، وفي الدعاء بينة .(41/260)
والآيات في مثل ذلك كقوله - جل وعلا - في سورة إبراهيم ، فيما ذكره عن نبيه عليه السلام { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } قال الله - جل وعلا - بعدها { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ مريم 48 - 49 ] ، فإبراهيم عليه السلام قال : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } ، وقال الله : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ } : فدل على أن الدعاء هو العبادة ، والعبادة هي الدعاء . والدعاء يفسر تارة بدعاء المسألة ، وتارة بدعاء العبادة ، وهذا حاصل من أولئك ولأصنامهم وأوثانهم .(41/261)
باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } ، وقول الله تعالى : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ }{ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 13 - 14 ] .(41/262)
وفي الصحيح (1) عن أنس - رضي الله عنه - قال : « شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته ، فقال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }» [ آل عمران : 128 ] ، وفيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه « سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر : " اللهم العن فلانا وفلانا " بعدما يقول : " سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " فأنزل الله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }» (2) . وفي رواية " يدعو على صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (3) " ، وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } فقال : " يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، ويا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا » . (4)
فيه مسائل :
_________
(1) علقه البخاري ، ووصله أحمد في «المسند» 3 / 99 و 178 و 206 والترمذي (2005) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(2) أخرجه البخاري (4009) و (4070) و (4559) و (7346).
(3) أخرجه البخاري (4070) معلقا ، ووصله الترمذي (3007) وأحمد 2 / 93 وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
(4) أخرجه البخاري (2753) و (3527) و (4771) .(41/263)
الأولى : تفسير الآيتين .
الثانية : قصة أحد .
الثالثة : قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء ، يؤمنون في الصلاة .
الرابعة : المدعو عليهم كفار .
الخامسة : أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار ؛ منها : شجهم نبيهم وحرصهم على قتله . ومنها : التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم .
السادسة : أنزل الله عليه في ذلك { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } .
السابعة : قوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } فتاب عليهم فآمنوا .
الثامنة : القنوت في النوازل .
التاسعة : تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم .
العاشرة : لعن المعين في القنوت .
الحادية عشرة : قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } .
الثانية عشرة : جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون ، وكذلك لو يفعله مسلم الآن .(41/264)
الثالثة عشرة : قوله للأبعد والأقرب : « لا أغني عنكم من الله شيئا » ، حتى قال : « يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا » ؛ فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين ، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم ، تبين له التوحيد وغربة الدين .
الشرح :
هذا الباب هو باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }{ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } . . . . . . . . [ 191 - 192 ] . وَإِيرَادُ هَذَا الْبَابِ بعد الأبواب المتقدمة هو من أحسن الإيراد ، ومن أعظمها فقها ورسوخا في العلم ؛ ذلك أن برهان وجوب توحيد الله - جل وعلا - في إلهيته هو : ما ركز في الفطر من أنه - جل وعلا - واحد في ربوبيته ، وقد أقر بهذا ، وسلم به المشركون ، بل كل أحد على الإقرار بهذا ، والاعتراف به ؛ فهي البرهان على أن المستحق للعبادة هو : من توحد في الربوبية ، فهذا الباب ، والباب الذي بعده أيضا : برهان لاستحقاق الله العبادة وحده دون ما سواه بدليل فطري ، ودليل واقعي ، ودليل عقلي .(41/265)
ومن المعلوم أن الأدلة العقلية عندنا - أهل السنة والجماعة - تؤخذ من الكتاب والسنة ؛ لأن في الكتاب والسنة من الأدلة العقلية ما يغني عن تكلف أدلة عقلية أخرى كما هو ظاهر لمن تأمل نصوص الوحيين .
فهذا الباب فيه بيان أن الذي يخلق هو الله وحده ، والذي يرزق هو الله وحده ، والذي يملك هو الله وحده ، وأن غير الله - جل وعلا - ليس له نصيب من الخلق ، وليس له نصيب من الرزق ، وليس له نصيب من الإحياء ، وليس له نصيب من الإماتة ، وليس له نصيب من الأمر ، وليس له ملك حقيقي في أمر من الأمور حتى أعلى الخلق مقاما ، وهو النبي - عليه الصلاة والسلام - قال له الله جل وعلا : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] يعني : لست مالكا لشيء من الأمر ، وليس من الأمر شيء تملكه ، فـ ( اللام ) هنا لام الملك . فمن الذي يملك إذا ؟ ! الذي يملك هو : الله جل وعلا . فإذا كان النبي - عليه الصلاة والسلام - ينفى عنه ذلك الأمر فإنه منفي عمن هو دونه من باب أولى .(41/266)
والمتوجهون إلى أصحاب القبور أو إلى الصالحين والأولياء والأنبياء يعتقدون بأن هؤلاء المتوجه إليهم يملكون شيئا من الرزق ، أو التوسط أو الشفاعة بدون إذن الله - جل وعلا - ومشيئته . فهذا الباب - إذا - هو أحد الأبواب التي فيها البرهان على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه .(41/267)
والقرآن فيه كثير من الأدلة والبراهين على أن المستحق للعبادة هو الله - جل وعلا - وحده دون ما سواه ؛ فمن تلك الأدلة والبراهين : ما في القرآن من أدلة فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية ، فكل ذلك النوع من الأدلة : فيه دليل على أن المستحق للعبادة هو من أقررتم له بالربوبية . ومن الأدلة والبراهين على ذلك - أيضا - ما جاء في القرآن : من نصر الله - عز وجل - رسله وأولياءه على أعدائهم ، من طوائف الشرك ، وكيف أنهم ذلوا وخضعوا وغلبوا أمام طوائف أهل الإيمان وجند الله - جل وعلا - من الرسل والأنبياء وأتباعهم ، فهذا نوع آخر من الأدلة ، وهو أنه ما من طائفة موحدة بعث الله - جل وعلا - إمامها ورسولها بقتال المشركين إلا نصرها ، وأظفرها ، حتى صارت العاقبة لهم . وأدلة هذا في القرآن كثيرة ، نقرؤها في : قصص الأنبياء ، وقصص القرى ، وما جاء في بيان عاقبة الأمم والقرى المخالفين لرسلهم ، فهذا دليل على أن التوحيد هو الحق وأن الشرك باطل . ومن الأدلة والبراهين على تقرير استحقاق الله تعالى للعبادة دون من سواه : ما تضمنه القرآن من بيان ضعف المخلوق ، الذي يعلم هذا ، ويلمسه بنفسه ؛ وكيف أنه جاء إلى الحياة بغير اختياره ،(41/268)
بل الله - جل وعلا - الذي أتى به إلى هذه الحياة وسيخرجه منها بغير اختياره أيضا . مما يدل على أنه مقهور ، وهو يعلم - قطعا - أن الذي قهره وأذله وجعله على هذه الحالة ليست هي تلك الآلهة ، وإنما هو الله - جل وعلا - وحده هو الذي يحيي ويميت ، وهذا إقرار عام ، يعلمه كل أحد من فطرته .
ومن الأدلة والبراهين أيضا : أن الله - جل وعلا - له الأسماء الحسنى ، وله الصفات العلى ، وأنه ذو النعوت الكاملة ، وذو النعوت الجليلة ، فنعوت الجلال ، والجمال والكمال له سبحانه ، وهو سبحانه له الكمال المطلق في كل اسم له ، وفي كل نعت ووصف له ، فله الكمال المطلق ، الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه .(41/269)
فهذا الباب ذكر فيه الشيخ - رحمه الله - أحد أنواع أدلة الربوبية ، أو براهين التوحيد ، وأنه - جل وعلا - هو الواحد في ربوبيته ، والباب الذي يلي هو باب قول الله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] ، وفيه دليل على عظمة الله - جل وعلا - في صفاته ، ففي هذا الكتاب تنويع براهين توحيد العبادة بأدلة متنوعة من القرآن - كما سيأتي - إن شاء الله تعالى .
باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }{ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } [ الأعراف : 191- 192 ] .
وقوله : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } . [ فاطر : 13 ] .(41/270)
ذكرنا أن هذا الباب مع الباب الذي يليه من كتاب التوحيد هما برهان للتوحيد ، وبرهان لاستحقاق الله - جل وعلا - العبادة وحده ، وحجة دامغة على بطلان عبادة ما سواه ، وهذا البرهان هو : تقرير أن الله - جل وعلا - واحد في ربوبيته ، ودليل ذلك : الفطرة ، والعقل ، والنص من الكتاب والسنة ، فلا أحد ينكر أن الله - جل وعلا - هو مالك الملك ، وهو الذي بيده تصريف الأمر كما يشاء إلا شرذمة قليلة من الناس - كما قال الشهرستاني وغيره : لا يصح أن تنسب لهم مقالة .
فالناس مفطورون على الإقرار بالرب ، وعلى الإقرار بأنهم مخلوقون ، وإذا كان كذلك : فإن الحجة عليهم قائمة بوجوب إقرارهم بتوحيد الإلهية ؛ لما جعل الله في فطرهم من الإقرار بتوحيد الله في ربوبيته ؛ ولهذا : لم يكن المشركون ينكرون توحيد الربوبية ، بل كانوا يعترفون أنه تعالى : الرزاق وحده ، وأنه الخلاق وحده ، وأنه - جل وعلا - هو الذي يحيي ويميت ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، وهو الذي ينبت النبات ، وهو الذي ينزل الماء ، إلى آخر إفراد تدبيره - جل وعلا - للأمر ، وإفراد توحيد الربوبية .(41/271)
فالبرهان على أن الله هو المستحق للعبادة وحده : أنه - جل وعلا - هو مالك الملك وحده ، وهو المتفرد بتدبير هذا الملكوت ، وهو الذي خلق العباد ، والعباد صائرون إليه ، أما الآلهة التي توجه إليها العباد بالعبادة من الأنبياء ، أو الأولياء ، أو الملائكة ، فإنما هم : مخلوقون مربوبون ، لا يخلقون شيئا ، وهم يخلقون ، وأيضا : لا يستطيعون نصرا لمن سألهم ، وإنما ذلك كله لله - جل وعلا - فإذا كان أولئك المدعوون ليس لهم من الأمر شيء ، وليس لهم من الملك شيء ، وليس لهم من الخلق شيء ، وليس لهم من تدبير الأمر شيء ، وإنما تدبير أمر السماوات ، وتدبير أمر الأرض بيد الله وحده دون ما سواه ، فإن الذي يستحق العبادة وحده ، هو الذي يفعل تلك الأفعال ، وهو الذي يتصف بتلك الصفات ، وهو الذي وحده العباد في ربوبيته ؛ فإذا كان كذلك : فيجب أن يوحدوه بأفعالهم ؛ وألا يتوجهوا بالعبادة إلا إليه وحده .(41/272)
وهذا النوع من الحجاج والاستدلال كثير في القرآن جدا ؛ فإنك تجد في القرآن أن أعظم الأدلة والبراهين على المشركين في تقريره إبطال عبادتهم لغير الله ، وفي إحقاق عبادة الله وحده دون ما سواه : أنهم يقرون بتوحيد الربوبية ، والإقرار بتوحيد الربوبية : برهان توحيد الإلهية . فالله - جل وعلا - احتج في القرآن على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية ، على ما أنكروه من توحيد الإلهية ؛ ولهذا قال جل وعلا : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [ يونس : 31 ] يعني : أتقرون بذلك ، فلا تتقون الشرك ؟ وقد ذكرت أن ( الفاء ) إذا أتت بعد الهمزة فهي تعطف ما بعدها على جملة محذوفة قبلها دل عليها السياق ، فقوله : { أَفَلَا تَتَّقُونَ } يعني : أتقرون بأن الله واحد في ربوبيته ، فلا تتقون الشرك به ؟ !! { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } باعترافكم وبإيقانكم { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا(41/273)
الضَّلَالُ } [ يونس : 32 ] ، فهذا النوع من الاحتجاج وهو الاحتجاج عليهم بما أقروا به - وهو توحيد الربوبية - على ما أنكروه - وهو توحيد الإلهية - في القرآن كثير ، كالآيات العظيمة في سورة النمل في قوله تعالى : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ }{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ }{ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 59- 60 ] ، فقوله تعالى : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } هنا : إنكار عليهم ، بسبب أنهم فيما سبق يقرون له بخلق السماوات والأرض ، وغيرها من الأمور الوارد ذكرها في الآيات ، فإذا كانوا يقرون بأن الذي خلقها هو الله ، فكيف - إذا - يتخذون إلها مع الله ؟ ! فهذا سبب الإنكار عليهم ؛ لأن الذي أنزل لهم من السماء ماء فأنبت لهم به حدائق ذات بهجة هو الله ، فكيف يتخذون إلها معه ؟ ولهذا قال جل وعلا : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } فهذا إنكار عليهم . وقوله { بَلْ هُمْ قَوْمٌ(41/274)
يَعْدِلُونَ } ، يعني : يعدلون بالله غيره ، أو يعدلون غير الله - جل وعلا - به ، يعني : يساوون هذا بهذا ، أو يعدلون ، يعني : يصرفون عن الحق ، وينصرفون عنه إلى غيره ، فكيف يعدلون عن الحق إلى غيره ؟ أو كيف يعدلون بالله غيره من الآلهة ؟ !! وهكذا الآية التي بعدها وهي قوله : { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } وجواب المشركين على هذا السؤال في قوله : { أَمَّنْ } هو : الله ؛ فقد كانوا مقرين بأنه المتفرد بهذه الأمور ، قال جل وعلا { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ثم قال جل وعلا { أَمَّنْ }{ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } وهذا رجوع من الآيات التي في الآفاق ، وفيما حولهم إلى الشيء الذي يعلمونه علم اليقين وهو أن فاعل تلك الأشياء المتقدم ذكرها في الآيات ، وما سيأتي - أيضا : هو الله تعالى ، ثم قال سبحانه : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } ثم قال جل وعلا : {(41/275)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }{ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل : 63 - 64 ] ، وفي الحقيقة : أنه لا برهان لهم ؛ قال - جل وعلا - في سورة المؤمنون : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } ، ومعنى قوله : { لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } أي : أن كل إله متخذ من دون الله فإنه لا حجة قائمة على أنه إله ، وإنما اتخذه البشر بالطغيان وبالظلم ؛ ولهذا قال متوعدا إياهم ، ومبينا فداحة خسارتهم : { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ المؤمنون : 117 ] ، فهذا الباب قائم على هذه الحجة ؛ ولهذا فإن من أعظم الحجة على المشركين الذين توجهوا إلى الأموات ، والمقبورين بطلب تفريج الكربات ، وطلب إغاثة اللهفان ، وطلب إنجاح الحاجات ،(41/276)
وسؤال ما يحتاجه الناس ، إن من أعظم الحجة عليهم أن تحتج عليهم بتوحيد الربوبية على ما ينكرونه من توحيد الإلهية ، وقد زاد شرك المشركين في هذه الأزمنة ، على شرك مشركي الجاهلية - كما قال الشيخ - رحمه الله - في القواعد الأربعة فنسبوا إليهم شيئا من الربوبية ، فهم لم يجعلوا توحيد الربوبية - أيضا - خالصا .
وهذا نوع من البراهين عظيم ، ينبغي أن تتوسع في دلائله ، وأن تعلم حجته من القرآن ؛ لأن القرآن كثيرا ما يحتج بهذا البرهان - وهو توحيد الربوبية - على ما ينكره المشركون من توحيد الإلهية .
ومن ذلك ما ساقه الشيخ - رحمه الله - في هذا الباب وهو قوله : " باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } فهذا إنكار وتوبيخ لهم ، كيف يشركون الذي لا يخلق شيئا وهم يخلقون ؟ مع أن خالقهم هو الله - عز وجل ، بل هو الذي خلق من عبد ، وهو الذي خلق العابد أيضا ، فالذي يستحق العبادة وحده دون وما سواه إنما هو الله ذو الجلال والإكرام .(41/277)
ثم بين حقيقة هذه الآلهة وعجزها فقال : { وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } [ الأعراف : 191 - 192 ] : لأن النصر في الحقيقة ، إنما هو من عند الله - جل وعلا ، ولو أراد الله أن يمنع نصر الناصر لمنعه .
وقوله : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ }{ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } [ فاطر : 13 - 14 ] الآيات ، وموطن الشاهد من هذه الآيات قوله : { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } فحتى هذا القطمير وهو غلاف النواة أو الحبل الواصل من أعلى النواة إلى ظاهر الثمرة لا يملكونه .(41/278)
فغيره مما هو أعلى منه من باب أولى وأولى ، وإذا كانوا لا يملكون هذا الشيء الحقير ، وهو مما لا يحتاجه الناس ، ولا يطلبونه ، فكيف إذا يطلبون منهم أشياء لا يملكونها وقوله - جل وعلا - هنا : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } ( الذين ) هذا اسم موصول ، يعم كل من دعي من دون الله من الملائكة ، أو الأنبياء والرسل ، أو الصالحين من الأموات أو الطالحين ، أو الجن أو الأصنام ، أو الأشجار ، أو الأحجار ، فكل من دعي وما دعي فإنه لا يملك ولو قطميرا ، فإذا كانوا لا يملكون هذا الشيء مع حقارته ، فلم يسألون ؟ ! فالواجب أن يتوجه بالسؤال لمن يملك ذلك .
ثم ذكر الشيخ - رحمه الله - بعد ذلك عدة أحاديث في هذا الباب ، وهذه الأحاديث مدارها على بيان قول الله - جل وعلا : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ، وإيراد هذه الآية هنا : أن النفي توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم .(41/279)
فقوله : { لَيْسَ لَكَ } أي : يا محمد { مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } . واللام في قوله : ( لك) هي لام الاستحقاق ، أو لام الملك ، يعني : لا تستحق شيئا ، أو لا تملك شيئا ، يعني : لا تستحقه بذاتك ، وإنما بما أمر الله - جل وعلا - وبما أذن به ، فتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته فرع عن محبة الله ، وتعظيمه جل وعلا ، فليس له صلى الله عليه وسلم وراء ذلك شيء إلا ما أذن به ؛ كما قال تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } ، ولو كان له عليه الصلاة والسلام من الأمر شيء لنصر نفسه وأصحابه يوم أحد ، ولكن حصل في يوم أحد ما حصل ، فأنزل الله قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } .
وكذلك الحديث الآخر : لما لعن النبي صلى الله عليه وسلم في قُنُوتُ الْفَجْرِ فُلَانا وَفُلَانًا مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ آذُوا الْمُؤمنين أنزل الله قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (1) ، يعني : لست تملك شيئا من الأمر . وهكذا الحديث الذي بعده .
_________
(1) تقدم .(41/280)
وهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئا من ملكوت الله . وهو عليه الصلاة والسلام قد بلغ ذلك وبينه ، فمن هم دونه عليه الصلاة والسلام منفي عنه هذا الأمر من باب أولى ، فالملائكة ، والأنبياء والصالحون من أتباع الرسل وأتباعه عليه الصلاة والسلام : أولى بأن ينفى عنهم ذلك ، فإذا كان كذلك بطلت كل التوجهات إلى غير الله - جل وعلا - ووجب أن يتوجه بالعبادات ، وأنواع التوجهات من : دعاء ، واستغاثة ، واستعاذة ، وذبح ، ونذر ، وغير ذلك : إلى الحق -جل وعلا - وحده دون ما سواه .(41/281)
ثم ذكر الحديث الأخير في الباب ، وهو : أنه لما نزلت { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا » ، وهذا ظاهر في أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن ينفع أحدا من أقربائه إلا بما جعله الله له من الرسالة ، وأداء الأمانة ، وأما أنه يغني عنهم من الله شيئا ، ويدفع عنهم العذاب ؛ أو النكال ، أو العقوبة : فالله - جل وعلا - لم يجعل لأحد من خلقه من ملكوته شيئا ، وإنما هو سبحانه المتفرد بالملكوت والجبروت ، والمتفرد بالكمال والجمال والجلال .(41/282)
" باب قول الله تعالى { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] .
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك . حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع . ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض . وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه . فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن ؛ فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؛ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء » .(41/283)
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي ؛ أخذت السماوات منه رجفة . أو قال رعدة . شديدة خوفا من الله عز وجل . فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجدا . فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة ، كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير ، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل . فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل » .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآية .
الثانية : ما فيها من الحجة على إبطال الشرك ، خصوصا ما تعلق على الصالحين ، وهي الآية التي قيل : إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب .
الثالثة : تفسير قوله { قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .
الرابعة : سبب سؤالهم عن ذلك .
الخامسة : أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله : " قال كذا وكذا " .
السادسة : ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل .
السابعة : أنه يقول لأهل السماوات كلهم ، لأنهم يسألونه .
الثامنة : أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم .(41/284)
التاسعة : ارتجاف السماوات بكلام الله .
العاشرة : أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله .
الحادية عشرة : ذكر استراق الشياطين .
الثانية عشرة : صفة ركوب بعضهم بعضا .
الثالثة عشرة : إرسال الشهاب .
الرابعة عشرة : أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه .
الخامسة عشرة : كون الكاهن يصدق بعض الأحيان .
السادسة عشرة : كونه يكذب معها مائة كذبة .
السابعة عشرة : أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء .
الثامنة عشرة : قبول النفوس للباطل ، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة ؟
التاسعة عشرة : كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ، ويحفظونها ويستدلون بها .
العشرون : إثبات الصفات ، خلافا للأشعرية المعطلة .
الحادية والعشرون : أن تلك الرجفة والغشي خوف من الله عز وجل .
الثانية : والعشرون : أنهم يخرون لله سجدا .
الشرح :
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد - كما ذكرنا سابقا - : أن فيه برهانا على أن المستحق للعبادة هو الله جل جلاله ؛ لأنه هو المتصف بصفات الكمال والجلال .(41/285)
وهذا الباب فيه ذكر لصفات الجلال لله - جل وعلا ؛ إذ كل من في السماوات والأرض خائف منه ، ووجل ؛ لأنه - سبحانه - الجليل ؛ ولذلك كان أعرف عمار السماء به هم الملائكة الذين قال الله تعالى في وصفهم : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وقال - جل وعلا - في وصفهم أيضا { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } ، فصفات الجلال ، والكمال ، والجمال : له سبحانه ، وهذه كلها دلائل على أنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه لأنه المتصف بالعظمة الكاملة ، وهو الذي ينبغي أن يهاب وأن يخاف منه على الحقيقة ، فكل ما في السماوات والأرض جار على وفق أمره سبحانه وتعالى .(41/286)
فهو سبحانه وتعالى : ذو الأسماء الحسنى ، وذو الصفات العلى ؛ ولهذا قال - جل وعلا - في آية سبأ : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ، و ( فزع ) : يعني أزيل الفزع عن قلوب الملائكة ؛ فالملائكة مع أنهم مقربون إلا أنهم شديدوا المعرفة بالله جل وعلا ، وشديدوا العلم به ، فعلمهم بربهم سبحانه عظيم ، ومما يعلمونه عن الله - جل وعلا - أنه هو الجبار ، وأنه هو الجليل سبحانه ، وأنه ذو الملكوت ، فلهذا اشتد فزعهم منه سبحانه ؛ لأنه لا غنى بهم عنه - جل وعلا - طرفة عين .
والصفات التي اشتملت على هذا النوع من البرهان ، على استحقاقه تعالى للعبادة : هي صفات الجلال لله - جل وعلا - وهي : الصفات التي تورث الخوف في القلب ؛ لأن الصفات تنقسم إلى أقسام متنوعة باعتبارات ، ومن ذلك : أنها تنقسم إلى صفات جلال ، وصفات جمال .
فالصفات التي تحدث في القلب الخوف ، والهلع ، والرهبة من الرب جل وعلا ، تسمى صفات الجلال ، والذي يتصف بصفات الجلال على الحقيقة هو الله جل وعلا ؛ لأنه هو الكامل في صفاته سبحانه .(41/287)
فإذا كان كذلك : فإن الكامل في صفاته هو المستحق للعبادة ، وأما البشر المخلوقون فإنهم ناقصون في صفاتهم ، ويعلمون أن حياتهم ليست حياة كاملة ، فحيث عرض لها عرض من موت ، أو مرض ، أو غيرهما ، فإنها تضعف بذلك ، وتعجز عن أن تعمل شيئا ، وربما تهلك ، فحقيقة الأمر : أن البشر ضعاف فقراء ، محتاجون ، ليست لهم صفات الكمال ، وهذا دليل عجزهم ، ونقصهم ، وأنهم مربوبون ، مقهورون .
ولهذا يجب على العباد أن يتوجهوا بالعبادة إلى من له صفات الكمال ، ونعوت الجمال ، والجلال : وهو الله جل وعلا وحده سبحانه وتعالى . فهذا المراد بهذا الباب وهو ظاهر بحمد الله تعالى .(41/288)
" باب الشفاعة "
وقول الله تعالى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 51 ] .
وقوله : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ الزمر : 44 ] ، وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] .
وقوله : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] .
وقوله : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ }{ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22 -23 ] .(41/289)
قال أبو العباس - رحمه الله : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عونا لله ، ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] ، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ، « وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له : ارفع رأسك وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع » . (1) ، « وقال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك قال صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه » (2) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله تعالى ولا تكون لمن أشرك بالله ، وحقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود .
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص . انتهى كلامه .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآيات .
_________
(1) أخرجه البخاري (3340) ومسلم (194) .
(2) أخرجه البخاري (6570) .(41/290)
الثانية : صفة الشفاعة المنفية .
الثالثة : صفة الشفاعة المثبتة .
الرابعة : ذكر الشفاعة الكبرى ، وهي المقام المحمود .
الخامسة : صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة ، بل يسجد ، فإذا أذن له شفع .
السادسة : من أسعد الناس بها ؟
السابعة : أنها لا تكون لمن أشرك بالله .
الثامنة بيان حقيقتها .
الشرح :
هذا الباب هو باب الشفاعة ، وإيراد هذا الباب بعد البابين قبله مناسب جدا ؛ ذلك أن الذين يسألون النبي عليه الصلاة والسلام ويستغيثون به ويطلبون منه ، أو يسألون غيره من الأولياء أو الأنبياء إذا أقيمت عليهم الحجة بما ذكر من توحيد الربوبية ، قالوا : نحن نعتقد ذلك ، ولكن هؤلاء الشفعاء مقربون عند الله معظمون ، قد رفعهم الله - جل وعلا - عنده ، ولهم الجاه عند الرب جل وعلا ، وإذا كانوا كذلك فهم يشفعون عند الله ، فمن توجه إليهم أرضوه بالشفاعة ؛ لأنهم ممن رفعهم الله ، ولهذا يقبل شفاعاتهم .
فكأن الشيخ - رحمه الله - رأى حال المشركين والخرافيين واستحضر حججهم . وهو كذلك ؛ إذ هو أخبر أهل هذه العصور المتأخرة بحجج المشركين .(41/291)
فلما استحضر ذلك عقد باب الشفاعة ليحاججهم ، فهذا باب الشفاعة . والشفاعة في الأصل : مأخوذة من ( الشفع ) ، والشفع هو : الزوج ؛ لأن الشافع طالب ؛ فصار مع صاحب الطلب الأصلي شفعا ، فإذا أراد أحد من آخر شيئا ، فجاءه ليشفع له : فقد صار - بذلك - شفعا له : فسميت شفاعة ؛ لأن صاحب الطلب أصبح شفعا ، بعد أن كان فردا .(41/292)
والشفاعة هي : الدعاء . وطلب الشفاعة هو : طلب الدعاء ، فإذا قال قائل : أستشفع برسول الله ، فكأنه قال : أطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لي عند الله . فالشفاعة طلب ؛ فمن استشفع فقد طلب الشفاعة ، والخلاصة : أن الشفاعة دعاء ، وهي : طلب الدعاء أيضا ، وقد سبق أن قررنا أن كل دليل ورد في الشرع على إبطال أن يدعي مع الله - جل وعلا - إله آخر ، فإنه يصلح أن يكون دليلا على إبطال الاستشفاع بالموتى الذين غابوا عن دار التكليف ؛ لأن حقيقة الشافع - كما تقدم آنفا - أنه طالب ولأن حقيقة المستشفع أنه طالب أيضا ، فالشافع في ظن المستشفع يدعو ، والمستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة ، يعني : إذا أتى آت إلى قبر نبي ، أو قبر ولي أو نحو ذلك ، فقال : أستشفع بك ، أو أسأل الشفاعة ، فمعناه أنه طالب منه ، ودعا أن يدعو له ؛ فلهذا كان صرفها ، أو التوجه بها إلى غير الله - جل وعلا - شركا أكبر ؛ لأنها في الحقيقة دعوة لغير الله ، وسؤال من هذا الميت ، وتوجه بالطلب والدعاء منه . فإذا عرفت معنى الشفاعة ، وحكم طلبها من الأموات ، وأن ذلك شرك أكبر : فاعلم أن الأحياء الذين هم في دار التكليف يجوز طلب الشفاعة منهم ؛ بمعنى : أن(41/293)
يطلب منهم الدعاء ، لكن قد يجاب دعاؤهم ، وقد لا يجاب ، وهذا كما حاصل في شفاعة الناس بعضهم لبعض ، بالشفاعة الحسنة ، أو بالشفاعة السيئة ، كما قال تعالى : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } [ النساء : 85 ] ، وقال : { وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً } [ النساء : 85 ] ، فهذا يحصل لكن من الأحياء ؛ لأنهم في دار تكليف ويقدرون على الإجابة ، وقد أذن الله في طلب الشفاعة منهم ؛ ولهذا كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ربما أتى بعضهم النبي عليه الصلاة والسلام وطلب أن يشفع له ، يعني : أن يدعو له .(41/294)
فمسألة الشفاعة من المسائل التي تخفي على كثيرين بما في ذلك بعض أهل العلم ؛ ولذا وقع بعضهم في أغلاط ، في مسألة طلب الشفاعة من النبي - عليه الصلاة والسلام - كما فعل النووي وابن قدامة في المغني وغيرهما . وهذا لا يعد خلافا في المسألة ؛ لأن هذا الخلاف راجع إلى عدم فهم حقيقة هذا الأمر ، ومسألة الشفاعة مسألة فيها خفاء ؛ ولهذا يقول بعض أهل العلم من أئمة الدعوة رحمهم الله : إقامة الحجة في مسائل التوحيد تختلف بحسب قوة الشبهة ، فأقل الشبهات ورودا ، وأيسر الحجج قدوما على المخالف هو فيما يتعلق بأصل دعوة غير الله معه ، وبالاستغاثة بغير الله ، والذبح لغيره ، ونحو ذلك . ومن أكثرها اشتباها - إلا على المحقق من أهل العلم - مسألة الشفاعة ؛ ولهذا فإن الشيخ - رحمه الله - أتى بهذا الباب ، وقال : " باب الشفاعة " وبين لك - بما ساق من الأدلة من الكتاب والسنة - أن الشفاعة التي تنفع لا تصح إلا بشروط ، وكذلك فإن هناك شفاعة منفية ، فليست كل الشفاعة مقبولة ، بل منها ما يقبل ، ومنها مالا يقبل ؛ فالمقبول منها : له شروط وضوابط ، والمردود منها : فلقيام أوصاف توجب ردها .(41/295)
فالحاصل : أن الشفاعة الواردة في القرآن والسنة : قسمان : شفاعة منفية ، وشفاعة مثبتة . فالشفاعة المنفية : هي التي نفاها الله - جل وعلا - عن أهل الإشراك ، وأول الأدلة التي ساقها الشيخ - رحمه الله - في بيان هذه المسألة :
قوله عز وجل : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] والشفاعة الواردة هنا هي : الشفاعة المنفية ، وقد نفاها الله عن جميع الخلق ، بما في ذلك الذين يخافون وهم أهل التوحيد ، كما نفاها عن غيرهم . أما عن أهل التوحيد فهي منفية عنهم إلا بشروط ، وهي : إذن الله للشافع أن يشفع ، ورضاه - جل وعلا - عن الشافع وعن المشفوع له .(41/296)
فقوله هنا : { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } يعني : أن الشفيع في الحقيقة هو الله - جل جلاله - دون ما سواه ؛ ولهذا عقبها بالآية الأخرى ، فقال : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ الزمر : 44 ] فالشفاعة جميعا ملك لله ، وأهل الإيمان وغيرهم - في الحقيقة - ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع ، فليس من أحد يشفع لهم من دون الله - جل وعلا - بل لا بد أن تكون الشفاعة بالله ؛ يعني : بإذنه وبرضاه .
فإذا تقرر ذلك وأن الشفاعة منفية عن أحد سوى الله - تعالى - لأنه هو الذي يملك الشفاعة وحده ، بطل تعلق قلوب المشركين الذين يسألون الموتى الشفاعة ، بمسألة الشفاعة ؛ لأن الشفاعة ملك لله ، وهذا المدعو لا يملكها .(41/297)
لكن هل تنفع الشفاعة مطلقا أم لا بد لها أيضا من قيود ؟ ! نعم : الشفاعة تنفع لكن لا بد لها من شروط ؛ ولهذا أورد الآيتين بعدها وهما قوله جل وعلا : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] ، ووجه الاستدلال من الآية الأولى : أنه قيد الإذن فيها ؛ فليس لأحد أن يشفع إلا بشرط أن يأذن الله له ، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه ، فلا الملائكة ، ولا الأنبياء ، ولا المقربون ، يملكون شيئا من الشفاعات ، وإنما الله - جل وعلا - هو الذي يملك الشفاعة . فإذا كان كذلك وأنه لا بد من إذنه - جل وعلا - فمن الذين يأذن الله - جل وعلا - لهم ؟ ليعلم أولا : أن لا أحد يبتدئ بالشفاعة دون أن يأذن الله له بها ، فإذا كان ذلك كذلك رجع الأمر إلى أن الله هو الذي يوفق للشفاعة ، وهو الذي يأذن بها فلا أحد يبتدئ بها .(41/298)
وكذلك قال في الآية الأخرى : { إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ } يعني : من الشافعين { وَيَرْضَى } أي : يرضى قول الشافع ، ويرضى - أيضا - عن المشفوع له .
ففائدة هذه الشروط وهي الفائدة المراد تقريرها في هذا الباب : أن لا يتعلق أحد بمن يظن أو يعتقد أن له عند الله مقاما وأنه يشفع له عند الله ، كما يعتقد ذلك أهل الشرك في آلهتهم ، حيث يزعمون أن من توجهوا إليهم بالشفاعة يملكون ذلك ، جزما ، فمتى توجه إليهم الطالب ، وتذلل لهم ، وتقرب إليهم بالعبادات ثم طلب منهم الشفاعة عند الله فإنهم يشفعون جزما ، وأن الله - عز وجل - لا يرد شفاعتهم .(41/299)
فهذه الآيات فيها : إبطال لدعوى أولئك المشركين ، واعتقادهم أن أحدا يملك الشفاعة بدون إذن الله ، وبدون رضاه عن المشفوع وإذا ثبت أنه لا أحد يملكها ، وأن من يشفع إنما يشفع بإكرام الله له ، وبإذنه - جل وعلا - له فكيف يتعلق المتعلق بهذا المخلوق ، بل الواجب أن يتعلق بالذي يملك الشفاعة ؛ وإذا كان من المتقرر شرعا أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم حاصلة يوم القيامة ، فهل يصح طلبها منه ؟ الجواب : أن طلبها إنما هو من الله - تعالى - فتقول في ذلك : اللهم شفع فينا نبيك ؛ لأنه - تعالى - هو الذي يفتح ، ويلهم النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يشفع في فلان وفي فلان ، فيمن سألوا الله أن يشفع لهم النبي عليه الصلاة والسلام ؛ ولهذا أعقبها الشيخ - رحمه الله - بآية سبأ فقال : وقوله : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } [ سبأ : 22 ] ، فهذه الآية اشتملت على أربع حالات :(41/300)
الحالة الأولى : أن يدعوا الذين زعموهم من دون الله ، وأن ينظروا هل يملكون مثقال ذرة في السماوات أو في الأرض ؟ ! والجواب : كما قال جل وعلا : { لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } فانتفى عنهم الملك الاستقلالي ، وهذه هي الحالة الأولى .(41/301)
والثانية : في قوله : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } إذ نفى - هنا - أيضا : أن يكونوا شركاء لله في الملك ، وفي تدبير السماوات والأرض ، أو في ملك شيء منهما ، فنفى أولا أن يملكوا استقلالا ، ونفى ثانيا أن يملكوا شركة ، ثم قال - عز وجل - بعدها : { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } والظهير : هو المعاون والمؤازر ، والوزير ، وقوله تعالى : { وَمَا لَهُ } أي : الله تعالى ، و : { مِنْهُمْ } يعني : من تلك الآلهة ، ما له من وزير ولا معاون ؛ لأنه قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن ثمت من يعين الله على تدبير الأمور وتصريف الشؤون ، كالملائكة أو الأنبياء ؛ فيظن أنه إذا توجه إلى أولئك بالدعاء وبالطلب ، كان قد توجه إلى من يعين الله ، فيعتقد أنه إذا طلب من الله فإن الله لن يرده ؛ لأنه ممن يعين الله ! وقد بنوا هذا الاعتقاد الفاسد على تشبيه الخالق - تعالى - بما يحصل من المخلوقين بعضهم لبعض ؛ فإن الملك في هذه الدنيا ، أو الحاكم ، أو الأمير إذا كان له من يعينه ، ومن يظاهره ، وشفع هذا المعين لأحد فإنه لا يرد شفاعته ؛ لأنه يحتاجه ؛ فلأجل هذه الحاجة لا يرد الأمير ، أو الملك ، شفاعة من كان له ظهيرا ، فلما ظن(41/302)
هؤلاء المشركون أن بعض تلك الآلهة معاونة لله - جل وعلا - نفى الله هذا الاعتقاد الجاهلي ، وهذه هي الحالة الثالثة . ثم نفى أخيرا آخر اعتقاد ، وهو : أن تلك الآلهة تملك الشفاعة ، فقال جل وعلا : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] فنفى - آخر ما نفى - الشفاعة ، وأثبتها بشرط فقال : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ، وهذه هي الحالة الرابعة .
إذن : فالآيات التي سبقت من أول الباب إلى هنا رتبها الإمام - رحمه الله - ترتيبا موضوعيا ؛ ووجه الاستدلال في الآية الأولى والثانية : أن الشفاعة ملك لله ، وليس لأحد شيء من الشفاعة . فإذا كان لا يملك فمن يشفع إذا ؟ وكيف يشفع ؟ الجواب : يشفع بأن يعطى الشفاعة ، ويؤذن له بها ، ويكرم بها .
وسؤال آخر وهو : هل يشفع الشافع استقلالا ؟ وجوابه : أن الله تعالى نفى شفاعة الاستقلال ، وأثبت الشفاعة بشرط ، وهو شرط الإذن والرضا .(41/303)
إذا كان كذلك فمن الذي يؤذن له ؟ ومن الذي يرضى له أن يشفع ؟ ومن الذي يرضى عنه أن يشفع فيه ، هذه ثلاثة أسئلة جوابها في كلام شيخ الإسلام حيث قال المصنف - رحمه الله :
قال أبو العباس : " نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عونا لله ، ولم يبق إلا الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] ، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفها القرآن . . . . . " ومعنى قول أبي العباس : " منتفية يوم القيامة " : يعني عن جميع الخلق ، إلا لمن أثبت الله - جل وعلا - له الاستحقاق ، أو أن يكون نائلا تلك الشفاعة ، يعني : الأصل أن لا شفاعة إلا لمن رضي الله قوله أو أذن له جل وعلا .(41/304)
ثم قال أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله : " كما نفاها القرآن ، « وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ، ويحمده » : قول الشيخ - رحمه الله - ، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة ، كما نفاها القرآن " يعني : منتفية بدون شروط ؛ لأن المشركين يعتقدون أنها تحصل بدون إذن من الله ولا رضا ؛ لأن الشافع عندهم يملك الشفاعة ، ولكن حقيقتها : أنها لا تحصل إلا بالشرط المذكور في الكتاب والسنة .
ثم قال أبو العباس - رحمه الله : " . . . . . . يأتي فيسجد لربه ويحمده - لا يبدأ بالشفاعة أولا - ثم يقال له : ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع " .(41/305)
« وقال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : " من قال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه » (1) ، فالدليل الأول وهو من السنة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم - لا يشفع حتى يؤذن له كما في قوله : « يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع » (2) ، فهذا في دليل الإذن . لكن من الذي يؤذن له ؟ الجواب : يؤذن للنبي عليه الصلاة والسلام ، ويؤذن للرسل فلا يبتدئون بالشفاعة من أنفسهم ، وإنما يستأذنون في الشفاعة فيؤذن لهم ؛ لأنهم لا يملكونها ، وإنما الذي يملكها إنما هو الله سبحانه وتعالى .
فإذا قيل : فمن الذي يؤذن في الشفاعة فيه ؟ ومن الذي يرضى عنه في الشفاعة ؟ فالجواب جاء في الحديث الآخر ؛ حيث « قال أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : " من قال : لا إله إلا الله ، خالصا من قلبه » (3) فهذا الذي يرضى عنه ، فيشفع فيه ، بعد إذن الله - جل وعلا - فالمخصوصون بنيل الشفاعة هم : أصحاب الإخلاص من أهل التوحيد ، فتبين أن تلك الشفاعة منتفية عن أهل الشرك .
_________
(1) أخرجه مسلم (194) مطولا .
(2) أخرجه البخاري (99) .
(3) تقدم .(41/306)
ثم قال أبو العباس ابن تيمية : " فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله " : ومعنى هذا : أن من توجه إلى الموتى ، أيا كانوا : رسلا ، أم أنبياء ، أو صالحين أو كالصالحين لطلب الشفاعة منهم فإنه مشرك ؛ لأنه توجه بالدعاء لغير الله ، وأولئك لا يملكون الشفاعة ، وإنما يشفعون بعد الإذن والرضا ، والرضا يكون عن أهل التوحيد ، وأهل التوحيد هم الذين لا يسألون الشفاعة أحدا من الموتى .
فكل من سأل ميتا الشفاعة : فقد حرم نفسه الشفاعة ؛ لأنه أشرك بالله - جل وعلا - والشفاعة المثبتة ، إنما هي لأهل الإخلاص ، ليس لأهل الشرك فيها نصيب .
" وحقيقته " : يعني حقيقة الشفاعة .(41/307)
ثم قال ابن تيمية - رحمه الله - موضحا حقيقة الشفاعة : " وحقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص ، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه ، وينال المقام المحمود " ، فهذا الكلام في مقام بيان حقيقة الشفاعة ، فإننا قد ذكرنا أن الله نفى أن يملك أحد الشفاعة ، وأنها خاصة به - عز وجل - كما قال سبحانه : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ الزمر : 44 ] ، واللام في قوله : { لِلَّهِ } لام الملك ، يعني : الذي يملك الشفاعة هو الله جل وعلا ، وقال { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ }{ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] فإن الشفاعة إنما هي لله تبارك وتعالى ، وجاءت الأدلة بنفي الشفاعة عن المشركين ، وأن الشفاعة النافعة : إنما هي لأهل الإخلاص ، بشرطين : الإذن ، والرضا .(41/308)
إذا تقرر ذلك : فما حقيقة الشفاعة ؟ يعني : ما حقيقة حصولها ، وكيف تحصل ؟ الجواب في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله : " حقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص " يعني أن الذين شفع لهم ، إنما ذلك بتفضل الله - جل وعلا - عليهم ، وهم أهل الإخلاص ؛ حيث جاء في حديث أبي هريرة قوله عليه الصلاة والسلام : « أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه » أو قال : « خالصا من قلبه ونفسه » ، فأهل الإخلاص هم الذين يكرمهم الله بالشفاعة ، فالمتفضل بالشفاعة هو الله جل وعلا ، فإذا ثبت ذلك : انقطع القلب من التعلق بغير الله في طلب الشفاعة ؛ لأن الذين توجهوا إلى المعبودات المختلفة كالأولياء ، والصالحين ، والملائكة ، وغيرهم : إنما توجهوا إليهم رجاء الشفاعة ، كما قال - جل وعلا - عنهم : { وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، فإذ بطل أن تكون لهم الشفاعة وثبت أن المتفضل بالشفاعة هو الله جل وعلا ، فإن الله - جل جلاله - إنما يتفضل بها على أهل الإخلاص ، فيغفر لهم أي : بواسطة من دعا ، بواسطة دعاء الذي أذن له أن يشفع .(41/309)
وهاهنا سؤال : لم لم يتفضل الله عليهم بأن يغفر لهم بدون واسطة الشفاعة ؟ والجواب عن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله : " ليكرمه " ، أي : إظهارا لفضل الشافع ، وإكرام الله - تعالى - له في ذلك المقام ، فإن من المعلوم : أن الشافع - الذي قبلت شفاعته - ليس في المقام مثل المشفوع له ؛ فالله - جل وعلا - يظهر إكرامه لمن أذن له أن يشفع ، ويظهر رحمته بالشافع ؛ فقد تكون للشافع قرابة ، أو أحباب يريد أن يشفع لهم ، ولذلك : فإن الشفاعة يوم القيامة لأهل الكبائر : ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بل يشفع - أيضا - الأنبياء ، والملائكة ، والصالحون . فهذه شفاعات مختلفة في أهل الكبائر جعلها الله إكراما للشافع ، ورحمة به ، وأيضا : رحمة بالمشفوع له ، وإظهارا لفضل الله - جل وعلا - على الشافع ، والمشفوع له .(41/310)
فالحاصل : أن حقيقة الشفاعة تكون بتفضيل الله - تعالى - على المأذون له بالشفاعة ليشفع وإكرامه بذلك ، ثم تفضله على المشفوع له ورحمته بقبول الشفاعة فيه . وهذا كله دال - لمن كان له قلب - على عظم الله - جل وعلا - وتفرده بالملك ، وتفرده بتدبير الأمر وأنه - سبحانه - الذي يجير ولا يجار عليه ، وهو الذي له الشفاعة كلها ، وهو الذي له ملك الأمر كله ؛ ليس لأحد منه شيء ، وإنما يظهر - سبحانه - فضله ، وإحسانه ، ورحمته ، وكرمه ؛ لتتعلق به القلوب ، فبطل - إذا - أن يكون ثم تعلق للقلب بغير الله - جل وعلا - لأجل الشفاعة ، وبطل - أيضا - صنيع الذي تعلقوا بالأولياء ، أو تعلقوا بالصالحين ، أو بالأنبياء ، أو بالملائكة لأجل الشفاعة ، فإذا تبين حد الشفاعة ، وحقيقتها ، وأنها محض فضل من الله سبحانه وتعالى وإكرام ، أوجب ذلك تعلق القلوب به سبحانه في طلب الشفاعة ، ورجائها ؛ فالله تعالى هو المتفضل بها على الحقيقة ، والعباد مكرمون بها ، لا يبتدئون بالقول ، ولا يسبقون بالقول ، وإنما يجلون ، ويخافون ، ويثنون على الله ، ويحمدون ، حتى يؤذن لهم بالشفاعة .(41/311)
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك " أي : مثل ما في قوله جل وعلا : { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] فهذه شفاعة منفية ، وهي الشفاعة التي فيها شرك ، وكذلك : فإن المشركين لا يشفعون ؛ فالشفاعة في حقهم منفية ؛ لأنهم لم يرض عنهم . فالشفاعة التي فيها شرك من جهة الطلب ، أو من جهة من سئلت له ، بأن كان مشركا ، فإنها منفية عن هؤلاء ، بل لا تنفعهم . فثبت بذلك أن المستحقين للشفاعة هم الذين أنعم الله عليهم بالإخلاص ، ووفقهم لتعظيمه ، وتعلقت قلوبهم به وحده دون ما سواه ؛ بخلاف الذين حرموها من المشركين بالله الشرك الأكبر ، فلا نصيب لهم منها ؛ لأن الشفاعة فضل من الله لأهل الإخلاص .(41/312)
وأما الشفاعة المثبتة فهي التي أثبتت بشرط الإذن ، والرضا . قال شيخ الإسلام بعد ذلك : " ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع " . وهذه هي الشفاعة المثبتة " أثبتها بإذنه في مواضع " : أي بشرط الإذن ، والإذن : إما إذن كوني ، وإما إذن شرعي ؛ فالمأذون له بالشفاعة لا يمكن أن تحصل منه الشفاعة ، إلا أن يأذن الله له كونا بأن يشفع ، فإذا منعه الله كونا أن يشفع لم تحصل منه الشفاعة ولا تحركت بها لسانه .
ومعنى الإذن في باب الشفاعة : بأن تكون خالصة وخالية من الشرك ، وأن يكون المشفوع له ليس من أهل الشرك . ويخص من ذلك أبو طالب ، حيث يشفع له النبي عليه الصلاة والسلام في تخفيف العذاب عنه ، فهي شفاعة ليست في الانتفاع بالإخراج من النار ، إنما هي في تخفيف العذاب ، خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام بما أوحى الله - جل وعلا - إليه ، وأذن له بذلك .(41/313)
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في آخر كلامه : " وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص " ، وهذه هي الشفاعة المثبتة بشرط الرضا . فتبين بهذا الباب أن الشفاعة التي تعلقت بها قلوب أولئك الخرافيين المشركين باطلة ؛ وأن قولهم : { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] قول باطل ؛ إذ الشفاعة التي تنفع إنما هي لأهل الإخلاص ثم إن طلبها وسؤالها من غير الله تعالى مؤذن بحرمانهم إياها ، ما داموا طلبوها من غير الله ، ووقعوا في الشرك الصريح .
وخلاصة الباب : أن تعلق أولئك بالشفاعة عاد عليهم بعكس ما أرادوا ، فإنهم لما تعلقوا بالشفاعة حرموها ؛ لأنهم تعلقوا بشيء لم يأذن الله - جل وعلا - به شرعا ؛ حيث استخدموا الشفاعات الشركية ، وتوجهوا إلى غير الله ، وتعلقت قلوبهم بهذا الغير .(41/314)
" باب قول الله تعالى :
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ]
وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا عم ، قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا ، فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ، ما لم أنه عنك " ، فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ] . وأنزل الله - تبارك وتعالى - في أبي طالب : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }» [ القصص : 56 ] (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .
_________
(1) أخرجه البخاري (1360) و (3884) و (4675) و (4772) و (6681 ) ، ومسلم (24) .(41/315)
الثانية تفسير قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } .
الثالثة : وهي المسألة الكبرى تفسير قوله : « قل لا إله إلا الله » ، بخلاف ما عليه من يدعي العلم .
الرابعة : أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال للرجل : « قل لا إله إلا الله » ؛ فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام .
الخامسة : جده صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه .
السادسة : الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه .
السابعة : كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له ، بل نهي عن ذلك .
الثامنة : مضرة أصحاب السوء على الإنسان .
التاسعة : مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر .
العاشرة : استدلال الجاهلية بذلك .
الحادية عشرة : الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم ؛ لأنه لو قالها لنفعته .
الثانية عشرة : التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين ؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها ؛ مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره . فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها .(41/316)
الشرح :
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد :(41/317)
أن الهداية من أعز المطالب ، وأعظم ما تعلق به المتعلقون بغير الله ؛ أن يحصل لهم النفع الدنيوي والأخروي من الذين توجهوا إليهم ، واستشفعوا بهم . ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق ، وسيد ولد آدم قد نفى الله عنه أن يملك الهداية - وهي نوع من أنواع المنافع - دل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام ، ليس له من الأمر شيء ، كما جاء فيما سبق في باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ الأنعام : 191 ] في سبب نزول قول الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، فإذا كان النبي - عليه الصلاة والسلام - ليس له من الأمر شيء ، ولا يستطيع أن ينفع قرابته ، كما جاء في قوله : " يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئا " (1) أقول : إذا كان هذا في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يغني من الله - جل وعلا - عن أحبابه شيئا ، وعن أقاربه شيئا ولا يملك شيئا من الأمر ، وليست بيده هداية التوفيق ، فإنه أن ينتفي ذلك ، وما دونه ، عن غير النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى .
_________
(1) أخرجه البخاري (4770) ومسلم (208) .(41/318)
فبطل - إذا - كل تعلق للمشركين - من هذه الأمة - بغير الله جل وعلا ؛ لأن كل من تعلقوا به هو دون النبي عليه الصلاة والسلام بالإجماع ، فإذا كانت هذه حال النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد نفى الله عنه ملك هذه الأمور ، فإن نفي ذلك عن غيره من باب أولى .
قال هنا : " باب قول الله تعالى { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } : (لا) هنا نافية ، وقوله " تهدي " الهداية المنفية هنا : هي هداية التوفيق ، والإلهام الخاص ، والإعانة الخاصة ، وهي التي يسميها العلماء : هداية التوفيق والإلهام ، ومعناها : أن الله - جل وعلا - يجعل في قلب العبد من الإعانة الخاصة على قبول الهدى ، ما لا يجعله لغيره . فالتوفيق إعانة خاصة لمن أراد الله توفيقه ؛ بحيث يقبل الهدى ويسعى فيه . فجعل هذا في القلوب ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، حتى إن أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع - عليه الصلاة والسلام - أن يجعله مسلما مهتديا ، وقد كان أبو طالب من أنفع قرابة النبي صلى الله عليه وسلم له ، ومع ذلك لم يستطع أن يهديه هداية توفيق . فالمنفي هنا في قوله : [ تهدي ] هي هداية التوفيق .(41/319)
والنوع الثاني من الهداية المتعلقة بالمكلف هي : هداية الدلالة والإرشاد ، وهذه ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه ، ولكل داع إلى الله ، ولكل نبي ورسول ، قال جل وعلا : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، وقال - جل وعلا - في نبيه عليه الصلاة والسلام : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }{ صِرَاطِ اللَّهِ } [ الشورى : 52 - 53 ] ، ومعنى [ لتهدي ] أي : لتدل وترشد إلى صراط مستقيم بأبلغ أنواع الدلالة ، وأبلغ أنواع الإرشاد ، المؤيدين بالمعجزات والبراهين الدالة على صدق ذلك الهادي ، وصدق ذلك المرشد .
فالهداية المنتفية - إذا - هي : هداية التوفيق ، وهذا يعني : أن النفع ، وطلب النفع في هذه المطالب المهمة يجب أن يكون من الله جل وعلا ، ومحمد - عليه الصلاة والسلام - مع عظم شأنه عند ربه ، وعظم مقامه عند ربه ، وأنه سيد ولد آدم ، وأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام ، وأشرف الأنبياء والمرسلين : إلا أنه لا يملك من الأمر شيئا عليه الصلاة والسلام .(41/320)
فبطل - إذا - تعلق القلوب في المطالب المهمة - كالهداية ، والمغفرة ، وطلب الرضوان ، وطلب دفع الشرور ، وفي جلب الخيرات - إلا بالله - جل وعلا - فإنه هو الذي يجب أن تتعلق القلوب به - جل وعلا - خضوعا ، وإنابة ، ورغبا ، ورهبا ، وإقبالا عليه ، وإعراضا عما سواه سبحانه وتعالى .
قوله : " في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال : « لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله " ، فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا ، فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله » .(41/321)
في هذا القدر من الحديث فائدة ، وهي : أن هذه الكلمة ( لا إله إلا الله ) ليست كلمة مجردة عن المعنى ، تنفع من قالها ، ولو لم يقر بمعناها . والعرب كانوا لصلابتهم ، وعزتهم ، ورجولتهم ، ومعرفتهم بما يقولون إذا تكلموا ، أو خوطبوا بكلام ، يعون كل حرف ، وكل كلمة خوطبوا بها ، أو نطقوا بها ؛ ولذلك لما قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله مع أنها كلمة يسيرة أبوا ؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة معناها : إبطال إلهية من سوى الله - جل وعلا - ولهذا قال جل وعلا : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }{ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ }{ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } الآيات [ الصافات : 35 - 37 ] ، وكذلك قول الله - جل وعلا - مخبرا عن قولهم في أول سورة ( ص ) : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } [ ص : 5 ] استنكروا قول : ( لا إله إلا الله ) . وهذا هو الذي حصل مع أبي طالب لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله » . فلو كانت كلمة مجردة من المعنى عندهم ، أو يمكن أن(41/322)
يقولها المرء دون اعتقاد ما فيها ، ورضى بما فيها ويقين وانتفاء الريب : لقالها ، ولكن ليس هذا هو المقصود من قول (لا إله إلا الله ) ، بل المقصود هو قولها مع تمام اليقين بها ، وانتفاء الريب ، والعلم ، والمحبة ، إلى آخر الشروط المعروفة .
وقوله في الحديث : فقالا له : " أترغب عن ملة عبد المطلب " : هذا فيه - والعياذ بالله - ضرر جليس السوء على المجالس له .
وقوله : « فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ، ما لم أنه عنك » : وهذا موطن الشاهد من هذا الحديث . ومناسبة هذا الحديث ، لهذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لأستغفرن لك » واللام في قوله : " لأستغفرن " هي التي تقع في جواب القسم ؛ فثم قسم مقدر ، تقديره : والله لأستغفرن لك . فالاستغفار حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لعمه ، ولكن : هل نفع استغفار النبي صلى الله عليه وسلم له ؟ ؟ لم ينفعه ذلك .(41/323)
وطلب الشفاعة والاستشفاع هو : من جنس طلب المغفرة ، فالاستغفار طلب المغفرة ، والشفاعة قد يكون منها طلب المغفرة ، ولكن لم يقبل الله تعالى من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته لعمه ؛ لأن المطلوب له كان مشركا ، والاستغفار والشفاعة لا تنفعان أهل الشرك ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يملك أن ينفع مشركا بالشفاعة له بمغفرة ذنوبه ، أو أن ينفع أحدا ممن توجه إليه بدعوة ؛ أو استغاثة ، أو استعانة لإزالة ما به من كربات . أو جلب الخيرات له ؛ لهذا قال : « لأستغفرن لك ما لم أنه عنك » فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ التوبة : 113 ] ، وهذا ظاهر في المقام : أن الله - جل وعلا - نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمشركين .
فائدة : كلمة ( ما كان ) في الكتاب والسنة تأتي على استعمالين :
الاستعمال الأول : النهي .
والاستعمال الثاني : النفي .(41/324)
فالنهي : مثل هذه الآية ، وهي قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة 122 ] ، فهذا نهي عن الاستغفار لهم ، وكذلك قوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } ، والنفي كقوله : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
فإذا عرفنا أن كلمة ( ما كان ) تأتي في القرآن على هذين المعنيين ، فالمراد بها - هنا - النهي ، أي : النهي عن الاستغفار لأحد من المشركين . فإذا كان الله عز وجل نهى الرسل ، والأنبياء ، والأولياء ، وغيرهم من أهل الصلاح - في حال حياتهم - عن الاستغفار لهؤلاء المشركين ، فهذا يدل : أنه لو فرض أنهم يقدرون على الاستغفار في حال حياتهم البرزخية : فإنهم لن يستغفروا للمشركين ، ولن يسألوا الله لمن توجه إليهم - حال موتهم - لطلب الاستشفاع ، أو لطلب الإغاثة ، أو غيرها من العبادات ، وأنواع التوجهات . والله أعلم .
قال : وأنزل الله في أبي طالب : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ] .(41/325)
" باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين "
وقول الله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } [ النساء 171 ] .
وفي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : في قول الله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] .
قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت . (1) .
وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد ، فعبدوهم . (2) .
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » أخرجاه . (3)
_________
(1) أخرجه البخاري (4920) .
(2) إغاثة اللهفان . ط دار ابن زيدون 552 - 223 .
(3) أخرجه البخاري (3445) (6830) ومسلم (1691) .(41/326)
وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو » (1) ، ولمسلم : عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هلك المتنطعون " . قالها ثلاثا » . (2) .
فيه مسائل :
الأولى : أن من فهم هذا الباب وبابين بعده ؛ تبين له غربة الإسلام ، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب .
الثانية : معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين .
الثالثة : أول شيء غير به دين الأنبياء ، وما سبب ذلك ، مع معرفة أن الله أرسلهم .
الرابعة : قبول البدع ، مع كون الشرائع والفطر تردها .
الخامسة : أن سبب ذلك كله : مزج الحق بالباطل ، فالأول محبة الصالحين . والثاني : فعل أناس من أهل العلم شيئا ، أرادوا به خيرا ، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره .
السادسة : تفسير الآية التي في سورة نوح .
السابعة : جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد .
الثامنة : فيه شاهد لما نقل عن السلف ، أن البدع سبب الكفر .
التاسعة : معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ، ولو حسن قصد الفاعل .
العاشرة : معرفة القاعدة الكلية ، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه .
_________
(1) أخرجه أحمد 1 / 215 ، 347 وابن ماجه (3064) .
(2) أخرجه مسلم (2670) .(41/327)
الحادية عشرة : مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح .
الثانية عشرة : معرفة النهي عن التماثيل ، والحكمة في إزالتها .
الثالثة عشرة : معرفة شأن هذه القصة ، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها .
الرابعة عشرة : وهي أعجب وأعجب : قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ، ومعرفتهم بمعنى الكلام ، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم ، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات ؛ فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه ، فهو الكفر المبيح للدم والمال .
الخامسة عشرة : التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة .
السادسة عشرة : ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور ، أرادوا ذلك .
السابعة عشرة : البيان العظيم في قوله : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم » فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين .
الثامنة عشرة : نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين .
التاسعة عشرة : التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم ؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده ، ومضرة فقده .
العشرون : أن سبب فقد العلم : موت العلماء .
الشرح :(41/328)
بين الشيخ - رحمه الله - فيما سبق من الأبواب أصولا عظيمة ، وأقام البراهين على التوحيد ، وبين ما يتعلق به المشركون ، وأبطل أصول اعتقادهم بالشريك ، أو الظهير ، أو الشفيع ، ونحو ذلك .(41/329)
فإذا كان التوحيد ظاهرا ، والأدلة عليه من النصوص بينة ، فكيف - إذا - دخل الشرك ؟ وكيف وقع الناس فيه ؛ والأدلة على انتفائه ، وبطلانه ، وعدم جوازه ظاهرة ؟ مع أن الرسل جميعا بعثوا ، ليعبد الله وحده دون ما سواه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } [ النحل : 36 ] ، فما سبب الغواية ؟ وما سبب الشرك ؟ فإذا كانت قضية التوحيد من أوضح الواضحات ، والأبواب السالفة دالة بظهور ووضوح على وجوب إحقاق عبادة الله وحده ، وعلى إبطال عبادة كل من سوى الله - جل جلاله وتقدست أسماؤه - فما سبب وقوع الشرك إذا ؟ وكيف وقعت فيه الأمم ؟ وللأجوبة على هذه الأسئلة أورد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب وما بعده ؛ ليبين أن سبب الشرك ، وسبب الكفر هو : الغلو الذي نهى الله - جل وعلا - عنه ، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، سواء في هذه الأمة أو في الأمم السابقة ، فأحد أسباب وقوع الكفر والشرك هو : الغلو في الصالحين ، بل هو سببهما الأعظم .(41/330)
قال هنا : " باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " هذا ذكر للأسباب ، بعد ذكر الأصول والعقائد .
" هو الغلو في الصالحين " : الغلو : مأخوذ من غلا الشيء : يغلو ، غلوا : إذا جاوز به حده ، وقد جاء في الحديث « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرات بحصيات ، قال : " بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو » (1) يعني : لا تجاوزوا الحد حتى في حجم تلك الحصاة ، ومقدارها ؛ ولذلك أرشدهم إلى الحجم الذي ينبغي أن تكون عليه بقوله : « بمثل هذه فارموا » فإذا جاوز في المثلية ، بأن رمى بكبيرة : فإنه قد غلا ، يعني : جاوز الحد الذي حد له في ذلك ، فالغلو - إذا - هو : مجاوزة الحد .
والمقصود بـ " الغلو في الصالحين " الذي هو سبب كفر بني آدم ، وتركهم ، دينهم الذي أمروا به : أنهم تجاوزوا الحد الواجب في تعظيمهم حتى آل بهم الأمر إلى الشرك .
وقوله : " الصالحون " : يشمل كل من قام به هذا الوصف ، من الأنبياء ، والرسل ، والأولياء ، من أي أمة كانوا .
_________
(1) رواه أحمد في المسند (1 / 215 - 347) والنسائي (5 / 268) ابن ماجه (3064) وصححه الذهبي والنووي وابن تيمية في الاقتضاء ص106 .(41/331)
وأصل كلمة ( الصالحين ) أنها جمع ( الصالح ) . والصالح : هو اسم من قام به الصلاح ، والصلاح في الكتاب والسنة تارة يكون بمعنى نفي الفساد أي : ما يقابل الفساد ، وتارة يكون بمعنى ما يقابل السيئات ، فيقال صالح بمعنى ليس بذي فساد ، ويقال أيضا صالح بمعنى : ليس بسيئ .
والصالحون هنا المراد بهم . : أهل الصلاح يعني : أهل الطاعة والإخلاص لله - جل وعلا - الذين اجتنبوا الفساد واجتنبوا السيئات ، وهم الذين اشتركوا في فعل الطاعات وترك المحرمات ، أو كانوا من السابقين بالخيرات ، فاسم الصالح يقع شرعا على المقتصد ، وعلى السابق بالخيرات ؛ فالمقتصد صالح ، والسابق بالخيرات ، صالح وكل درجات عند اله جل وعلا .(41/332)
" والغلو في الصالحين " يعني : مجاوزة الحد فيهم ، لكن ما الحد الذي أذن به الشرع في حق الصالحين ، حتى نعلم متى يكون تعظيمهم مجاوزة للحد المعلوم ؟ الجواب : أنهم إذا كانوا من الرسل : فبالأخذ بشرائعهم ، واتباعهم ، والاقتداء بهم ، مع المحبة ، والاحترام ، والموالاة ، والنصرة ، وغير ذلك من المعاني الداخلة في الحد المأذون به في حقهم . أما الغلو فيهم مجاوزة ذلك الحد ، وهو بحر لا ساحل له ، فمما حصل من الغلو فيهم أنهم جعلت فيهم خصائص الإلهية كما ادعاه في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يعلم سر اللوح والقلم ، وأنه من جوده الدنيا وضرتها كما قاله البوصيري في قصيدته المشهورة ، المسماة بـ (البردة) :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ومن المعلوم : أن هذا لا يليق إلا بالله ، فهذا من الغلو المنهي عنه ، وكذلك قوله في النبي عليه الصلاة والسلام ، غاليا فيه أعظم الغلو :
لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم(41/333)
يقول : إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعط آية تناسب قدره ، قال الشراح : حتى القرآن لا يناسب قدر النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله . يقولون : والقرآن المتلو بخلاف غير المتلو عند الأشاعرة ؛ لأنهم يفرقون بين هذا وهذا .
فهذا البوصيري يغلو ويقول : لو ناسبت قدره - يعني النبي عليه الصلاة والسلام - آياته عظما - يعني في العظمة - أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم ، فالذي يناسب قدره ، عند البوصيري أنه إذا ذكر اسمه على ميت قد درس ، وذهب رميمه في الأرض ، وذهبت عظامه أن تتجمع هذه العظام وتحيى ، لأجل ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، وهذا من أنواع الغلو الذي يحصل من الذين يعبدون غير الله - جل وعلا - ويتوجهون إلى الأنبياء والرسل ، ويجعلون في حقهم من خصائص الألوهية ما لا إذن لهم به ، بل هو من الشرك الأكبر بالله جل وعلا ، ومن سوء الظن بالله ، ومن تشبيه المخلوق بالخالق ، وهذا كفر والعياذ بالله .(41/334)
فالحد المأذون به شرعا في حقهم مطلوب ، وهذه هي الحالة الأولى . والغلو مذموم شرعا ، ومنهي عنه ، وهذه هي الحالة الثانية ، ويقابلها : الجفاء ، في حقهم وهي الحالة الثالثة . وهذا الجفاء له صور منها : عدم موالاتهم ، وبخسهم حقهم ، وترك محبتهم ، فالحاصل : أن كل تقصير في حقهم يعد جفاء ، وكل زيادة فيه يعد غلو .
قوله : " وقول الله عز وجل : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } . . . . . . مناسبته للباب ظاهرة ، وهي : أنه تعالى نهى أهل الكتاب عن الغلو ، فقال : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } . . . . . . . . . [ النساء : 171 ] ، ووجه الاستدلال من الآية أنه قال : { لَا تَغْلُوا } . و ( تغلو) فعل جاء في سياق النهي فهو يعم جميع أنواع الغو في الدين ، أي : لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين ، أي لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين ؛ فنهوا عن أي نوع من أنواع الغلو . فيدخل في هذا عموم الغلو في الصالحين وغيرهم .(41/335)
والمتأمل لحال أهل الكتاب ، ولما قص الله - جل وعلا - من أخبارهم : يجد أنهم قد غلوا في صالحيهم ، كغلو النصارى - مثلا - في عيسى - عليه السلام - وفي أمه وفي حوارييه ، وكغلو اليهود - أيضا - في عزير ، وفي أصحاب موسى ، وفي أحبارهم ، وفي رهبانهم وهكذا . فحصل الغلو في أهل الكتاب بأن جعلوا للرسل والأنبياء خصائص الألوهية من جهة التوجه لهم ، وقد قال الله جل وعلا : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } [ المائدة : 72 - 73 ] ، وفي آخر سورة المائدة أيضا قال الله جل وعلا : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } يعني : تنزيها وتعظيما لك أن أقول لهم ذلك ؛ لأن ذلك من الشرك ، فكيف(41/336)
أقول لهم ذلك ؟ ! { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ }{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } [ المائدة : 116 - 117 ] ، وهذا كله في التوحيد . فالحاصل : أن الغلو وقع من أتباع الرسل ، وأتباع الأنبياء في الأنبياء والرسل ، وغلوا - أيضا - في الصالحين من أتباعهم ، وجعلوا لهم بعض خصائص الإلهية ، وجعلوا لهم الشفاعة ، وزعموا أن لهم نصيبا من الملك ، أو أنهم يدبرون الأمور ، أو أنهم يصرفون شيئا من الملكوت ، وهذا كما يعتقده بعض الصوفية : أن للكون أقطابا أربعة يدبرون أمر هذا العالم ، وربما قالوا : الربع الفلاني ، المسؤول عنه : القطب الفلاني ، والربع الفلاني ، المسؤول عنه : القطب الفلاني ، وهكذا . فجعل هؤلاء المتصوفة لأقطابهم المزعومين نصيبا من الملك والربوبية ،وجعلوا لهم - أيضا - نصيبا من الإلهية ؛ فتقربوا إليهم بأنواع القربات : من الذبح ، والاستغاثة ، والتذلل ، والخضوع ، والمحبة ،(41/337)
والتوكل ، والرغب ، والرهب ، وخوف السر ، وغيرها من أنواع العبادات القلبية والعملية .
قوله : " وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قول الله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }{ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } [ نوح 23 - 24 ] .
قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم . . . . " : هذه القصة ، أو هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - محمول على الرفع ؛ لأن هذا خبر غيبي لا يستقى إلا من مشكاة النبوة . و ( ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا ) هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح .
ونوح - عليه السلام - هو أول رسول بعثه الله بعبادة الله وحده دون من سواه ، وبالدعوة إلى التوحيد ، لما وقع في قومه . لكن كيف دخل الشرك في قوم نوح ؟ الجواب : أن القرآن ذكر أصلين في الحالين ، من أصول الشرك وذكر غيرهما أيضا : الأصل الأول : شرك قوم نوح ، والأصل الثاني : شرك قوم إبراهيم .(41/338)
وأما شرك قوم نوح فكان بالغلو في الصالحين ، وأرواحهم ؛ فجاءهم الشيطان من جهة روح ذلك العبد الصالح ، وأثر تلك الروح ، وأن من تعلق به فإنه يشفع له ، ثم ساقهم من ذلك التعظيم إلى أن صوروا لهم صورا ، ونصبوا لهم أنصابا ، وأوثانا ، وأصناما حتى إذا طال عليهم الأمد عبدوهم .
الأصل الثاني : شرك قوم إبراهيم ، وذلك شرك في التأثير ، يعني : من جهة النظر في الكواكب ومن يؤثر ويحرك ، فهذا شرك في الربوبية ، وما تبعه من الشرك في الألوهية ؛ لأنهم جعلوا لتلك الكواكب أصناما ، وجعلوا لها صورا ، وجعلوها أوثانا ، فعبدوها من دون الله - جل وعلا - وتوجهوا إليها . فسبب وقوع الشرك في قوم نوح هو الغلو في الصالحين ، كما قال ابن عباس هنا في بيان أصل وقوع هذا الشرك : " فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ، ونسي العلم عبدت .(41/339)
وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف : " لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم " : الشاهد من هذا : أن أولئك توجهوا إلى الصور - صور الصالحين - وكانوا أهل علم يعلمون أنهم إذا اتخذوا هذه الصور فإنهم لن يعبدوها . لكن كانت تلك الصور للصالحين والمعظمين وسيلة وطريقا وسببا لأن عبدت في المستقبل ، لما نسي العلم . ومن حرص الشيطان المريد على إضلال العبيد : أنه ربما أتى إلى الصورة المتعلق بها ، فأوهم الناظر إليها ، أو المخاطب لها . أنها تتحدث وتتكلم ، أو يسمع منها كلاما ، أو نحو ذلك من الأشياء ، وأصناف التصرفات التي تجعل القلوب تتعلق بتلك الروحانيات كما يقال ، أو تلك الأرواح فيغري أولئك بهم ، وهذا هو الحاصل عند عباد القبور ، والعاكفين عليها ؛ يأتي أحدهم ، ويقول : ذهبت إلى القبر الفلاني ، فكلمني أبي ، ويكون ذلك شيطانا نطق على لسان أبيه ، وربما تصور بصورة أبيه فخرج له في ظلام ونحوه ، فيحدثه أبوه بصوته الذي يعرفه ، أو يحدثه العالم ، أو الوالي بصوته الذي يعرفه منه ، فتقع الفتنة ، وهذا من قبيل الشيطان ؛ ولهذا قال ابن عباس هنا كلمة تبين السبب في ذلك ؛ فقال : " أوحى(41/340)
الشيطان إلى قومهم " والوحي : إلقاء في خفاء ، والشيطان لا يتحدث علنا ، ولكن يوحي ، يعني : يلقي في خفاء ، فالوحي هو إلقاء الخبر في خفاء ، فألقى الشيطان في روعهم وأنفسهم ذلك الأمر : فكان سببا للشرك بالله - جل وعلا - ولم يكونوا في أول الأمر يعبدونها ، لكنهم لما صوروا صور أولئك الصالحين ، ونصبوا لهم الأنصاب : كان ذلك سببا ووسيلة إلى عبادتهم ، لكن أولئك الذين جعلوها وسائل ، كان عندهم من العلم ما حجزهم عن عبادة الصالحين ، لكن لما نسي العلم عبدت .
وهذا الفعل الذي فعلوه بإيحاء الشيطان هو من الغلو في أولئك الصالحين . وهذا وجه الشاهد ، وهو أنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، أو صوروا صورهم ، أو نصبوا الأنصاب في أماكنهم ليتذكروهم ، وليكون ذلك أنشط لهم في العبادة أو العلم ، ولكن هذه الأفعال التي فعلوها ، كانت سببا من أسباب عبادة أولئك الصالحين ، الذين غلوا في حبهم . وهذا هو مراد الشيخ - رحمه الله - من إيراد هذا الأثر .(41/341)
" وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله » (1) : هذا الحديث فيه : النهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام ، والإطراء هو : مجاوزة الحد - أيضا - في المدح ، أما الغلو فهو يعم أمور كثيرة ؛ فقد يكون في المدح ، وقد يكون في الذم ، وقد يكون في الفهم ، وقد يكون في العلم ، وقد يكون في العمل ، أما الإطراء فهو : الغلو في المدح ، والثناء والوصف . والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إطرائه كإطراء النصارى ابن مريم ، فقال : « إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » .
وقد ظن بعض الناس أن ( الكاف ) في قوله « كما أطرت النصارى ابن مريم » أنها كاف المثلية ؛ يعني : لا تطروني بمثل ما أطرت النصارى ابن مريم ، ويقول هذا الظان : إن النصارى أطرت ابن مريم في شيء وحد ، وهو أن قالوا : هو ابن الله جل وعلا ، فيكون النهي عن أن تجعل له صلى الله عليه وسلم رتبة النبوة فقط ، فإذا كان كذلك فما عداه جائز . وهذا هو فهم الخرافيين لهذا النهي ؛ كما قال قائلهم البوصيري في هذا المقام :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت فيه واحتكم
_________
(1) أخرجه البخاري (3445) والدارمي (2787)وأحمد (3029) وتقدم الحديث .(41/342)
أو كما قال ، يعني : لا تقل : إنه ولد لله ، أو إنه ابن لله ، فهذا هو القدر المنهي عنه فقط ، ولك أن تقول فيه بعد ذلك ما شئت غير ملوم وغير مثرب عليك .
الوجه الثاني وهو الفهم الصحيح ، وهو الذي يدل عليه السياق : أن ( الكاف ) هنا هي كاف القياس ، والمعنى : لا تطروني إطراء ، كما أطرت النصارى ابن مريم .
وكاف القياس هي كاف التمثيل الناقص ، وحقيقتها : أن يكون هناك شبه بين ما بعدها وما قبلها في أصل الفعل ، فنهى صلى الله عليه وسلم في قوله : « لا تطروني كما أطرت » عن أن يطري عليه الصلاة والسلام كما حصل أن النصارى أطرت ابن مريم فهو تمثيل للحدث بالحدث ، لا تمثيل أو نهي عن نوع الإطراء ، فمعنى قوله : « لا تطروني كما أطرت » هو نهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام ؛ لأجل أن النصارى أطرت ابن مريم ، فقادهم ذلك إلى الكفر ، والشرك بالله ، وادعاء أنه ولد لله جل وعلا ولهذا قال : « إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » .(41/343)
فالكاف هنا ليست كاف التمثيل الكامل ؛ بأن يكون ما بعدها مماثلا لما قبلها من كل وجه ، وإنما هي كاف التمثيل الذي يكون ما بعده مشتركا مع ما قبله في المعنى ، وهي القياسية التي تجمعها العلة ؛ ولهذا قال العلماء كما هو معلوم : هذا كهذا ، فيقولون مثلا : نبيذ غير التمر والعنب ، كنبيذ التمر والعنب ، مساواة بين هذا وهذا ، لوجود أصل المعنى بينهما ، وهنا نهي عن الإطراء ، لأجل وجود أصل الإطراء ، في الاشتراك بين إطراء النصارى وما سببه من الشرك ، وإطراء ما لو أطري النبي صلى الله عليه وسلم وما سيسببه من الشرك .
وكثير من طوائف هذه الأمة خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إطرائه حتى جاوزوا الحد في ذلك ، فزعم زاعمهم أن له من الملك نصيبا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . مع أنه صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأمر بقوله : « إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » وهذا هو الكمال في حقه عليه الصلاة والسلام : أن يكون عبدا رسولا ، فهذا أشرف مقاماته عليه الصلاة والسلام .(41/344)
قوله : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو » : هذا نهي عن الغلو بأنواعه ، وأن من قبلنا إنما أهلكهم الغلو ؛ أهلكهم من جهة الدين ، وأهلكهم - أيضا - من جهة الدنيا ، فالغلو سبب لكل شر ، والاقتصاد سبب في كل فلاح وخير ، والغلو منهي عنه بجميع صوره ، في الأقوال والأعمال يعني : في جميع أقوال القلب وأعماله ، وكذلك أقوال اللسان وأعمال الجوارح ، فالغلو سبب لهلاك العبد في دينه ودنياه .(41/345)
قوله : " ولمسلم : عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هلك المتنطعون » يعني : هلك الذين تنطعوا فيما يأتون به في أفعالهم ، أو أقوالهم ، وهم الذين جاوزوا الحد في ذلك ، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا ، لم يأذن به الله ؛ فزادوا عما أذن لهم ، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا ، لم يأذن به الله ؛ فزادوا عما أذن لهم ، فأتوا بأشياء ، لم يؤذن لهم فيها . والتنطع ، والإطراء ، والغلو ، متقاربة المعنى يجمعها مجاوزة الحد المشروع ، والغلو يشمل الإطراء ، ويشمل التنطع ؛ فكل تنطع ، وكل إطراء : غلو ، والغلو اسم جامع لهذه جميعا ، فالشيخ - رحمه الله - - في هذا الباب - بين أن سبب كفر بني آدم ، وسبب تركهم دينهم : هو الغلو في الصالحين ، بأن جاوزوا الحد فيهم ، كما جاوز قوم نوح الحد في صالحيهم ، فعكفوا على قبورهم ، وألهوها ، فصارت آلهة ، والنصارى غلت في رسولهم عيسى عليه السلام ، وفي الحواريين ، وفي البطارقة ، حتى جعلوهم آلهة مع الله - جل وعلا - يستغيثون بهم ، ويؤلهونهم ، ويسألونهم ويعبدونهم ، وكذلك وقع الغلو في هذه الأمة من الذين جعلوا للنبي عليه الصلاة والسلام نصيبا من خصائص الألوهية ، وهذا هو(41/346)
عين ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله : « لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » .(41/347)
" باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح ، فكيف إذا عبده ؟ "
وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - « أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور ، فقال : " أولئك شرار الخلق عند الله ، أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله » (1) .
فهؤلاء جمعوا بين فتنتين : فتنة القبور ، وفتنة التماثيل .
ولهما عنها قالت : « لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها ، فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا » أخرجاه (2) .
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : « إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك » (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري (427) و (434) و ( 1341 ) و(3878) ، ومسلم (528) .
(2) أخرجه البخاري (435) و (1330) و (1390) و (3453) و (4443) و (5815) ومسلم (531) .
(3) أخرجه مسلم (532) .(41/348)
فقد نهى عنه في آخر حياته ، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله .
والصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يبن مسجد ، وهو في معنى قولها : خشي أن يتخذ مسجدا ، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا ، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » (1) ، ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا : « إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد » . رواه أبو حاتم في صحيحه (2) .
فيه مسائل :
الأولى : ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح ، ولو صحت نية الفاعل .
الثانية النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك .
الثالثة : العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك كيف بين لهم هذا أولا ، ثم قبل موته بخمس ، قال ما قال ؛ ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم .
الرابعة : نهيه عن فعله عند قبره أن يوجد القبر .
الخامسة : أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم .
السادسة : لعنه إياهم على ذلك .
السابعة : أن مراده تحذيره إيانا عن قبره .
الثامنة : العلة في عدم إبراز قبره .
_________
(1) أخرجه البخاري (335) و (438) و (3122) ومسلم (521) .
(2) أخرجه أحمد (5316) وابن خزيمة (879).(41/349)
التاسعة : في معنى اتخاذها مسجدا .
العاشرة : أنه قرن بين من اتخذها ، وبين من تقوم عليه الساعة ، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته .
الحادية عشرة : ذكره في خطبته قبل موته بخمس : الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع ، بل أخرجهم بعض أهل العلم الاثنتين والسبعين فرقة ، وهم : الرافضة والجهمية . وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور ، وهم أول من بنى عليها المساجد .
الثانية عشرة : ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع .
الثالثة عشرة : ما أكرم به من الخلة .
الرابعة عشرة : التصريح بأنها أعلى من المحبة .
الخامسة عشرة : التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة .
السادسة عشرة : الإشارة إلى خلافته .
الشرح :
في هذا الباب مع الأبواب بعده بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هذه الأمة ، وأنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما ، ومن تمام حرصه على الأمة أن حذرهم كل وسيلة تصل بهم إلى الشرك ، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى ذلك ، وغلظ في ذلك ، وشدد فيه ، وأبدى وأعاد ، حتى إنه بين ذلك ؛ خشية أن يفوت تأكيده ، وهو يعاني سكرات الموت عليه الصلاة والسلام .(41/350)
فهذه الأبواب في بيان وسائل الشرك الأكبر ، وما ينبغي سده ومنعه من الذرائع الموصلة إليه ؛ رعاية وحماية للتوحيد ؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - غلظ على من يفعلون شيئا من تلك الوسائل ، أو الذرائع الموصلة إلى الشرك .
وهذا الباب في بيان أحد الوسائل الموصلة إلى الشرك ، والذرائع التي يجب منعها .
قوله - رحمه الله : " باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح " . صورة ذلك : أن يأتي آت إلى قبر رجل صالح ، يعلم صلاحه - كأن يكون من الأنبياء والمرسلين ، أو أن يكون من صالحي هذه الأمة ، أو صالحي أمة غير هذه الأمة - فيتحرى ذلك المكان ؛ كي يعبد الله وحده دون ما سواه ؛ رجاء بركة هذه البقعة .(41/351)
وقد راج هذا الأمر عند الكثيرين من الناس ، والدهماء ، حيث اعتقدوا أن ما حول قبور الأنبياء والصالحين من الأمكنة والبقاع مبارك ، وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غيرها . والنبي عليه الصلاة والسلام غلظ في ذلك ونهى عنه ، مع أن المغلظ عليه لم يعبد إلا الله جل وعلا ، ولم يعبد صاحب القبر ، لكنه اتخذ ذلك المكان رجاء بركته ، ورجاء تنزل الرحمات - كما يقولون - ورجاء تنزل النسمات ، والفضل من الله عليه ، فاختاره لأجل بركته ، ولكنه لم يعبد إلا الله - جل وعلا - ومع ذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصنف الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد .
قوله : " فيمن عبد الله " يعني : أنه لم يشرك بالله ، بل عبد الله وحده ؛ بأن صلى لله مخلصا ، أو دعا لله مخلصا ، أو تضرع واستغاث واستعاذ بالله - جل وعلا - مخلصا .
لكنه تحرى إيقاع هذه العبادات عند قبر رجل صالح لأجل البركة .(41/352)
والرجل الصالح - كما سبق أن ذكرنا - هو المقتصد : الذي أتى بالواجبات ، وابتعد عن المحرمات . ، أو السابق بالخيرات ؛ وهو أعلى درجة ، فالصالحون من الرجال والنساء : مقامات : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ } [ آل عمران : 163 ] وَبَعْض أهل العلم يعبر في تعريف الرجل الصالح بقوله : الصالح من عباد الله ، هو : القائم بحقوق الله ؛ القائم بحقوق عباده ، وهذا تعبير صحيح ؛ ولأن المقتصد قائم بحقوق الله ، قائم بحقوق عباده ، أتى بالواجبات ، وانتهى عن المحرمات ، وأعظم منه درجة : السابق بالخيرات . فأهل السبق بالخيرات من العباد ، لا يجوز أن تعظم قبورهم ، وأن يغلي فيها بظن أن البقعة التي حول قبورهم بقعة مباركة ، فإن هذا الفعل قد جاء فيه الوعيد الذي سيأتي في هذا الباب ، وغلظ - عليه الصلاة والسلام - فيه على فاعله .(41/353)
وقوله : " فكيف إذا عبده ؟ " : يعني إذا كان هذا التغليظ واللعن قد جاء في حق من اتخذ قبور الأنبياء مساجد ، ومن أسرج على القبور ، أو عظمها ، وعظم من فيها ، وعبد الله وحده عندها : إذا كان هذا قد جاءت النصوص بلعن فاعله ، وأنه من شرار الخلق عند الله : فكيف إذا توجه ذلك العابد إلى صاحب القبر يدعوه ، ويرجوه ، أو يخافه ، أو يأمل منه ، أو يستغيث به ، أو يصلي له ، أو يذبح له ، أو يستشفع به ؟ !! لا شك أن هذا أعظم وأعظم في التغليظ من عبادة الله وحده عند قبر رجل صالح ؛ كما قال الشيخ - رحمه الله : " فكيف إذا عبده ؟ " يعني أن التغليظ يكون أشد وأشد ، إذا عبد صاحب ذلك القبر ، وهذا مقتضى كلام الشيخ في هذه التبويب . وهذا واضح ؛ لأن تحري العبادة والدعاء أو تعظيم ذلك المكان ، وسيلة وذريعة إلى الشرك ، المقبورين ، فإذا كان من فعل وسائل الشرك الأكبر ملعونا ، وموصوفا بأنه ومن شرار الخلق عند الله ، فكيف بمن فعل الشرك الأكبر بعينه وتوجه إلى قبور الصالحين ، واتخذها أوثانا مع الله جل وعلا ؟ !! لا شك أن هذا أبلغ وأبلغ في التغليظ ، وذلك لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام ، إذا فعله مسلم .(41/354)
ومعنى قوله : " فكيف إذا عبده " أي : عبد القبر ، أو عبد الرجل الصالح صاحب القبر ؛ لأن عبادة القبوريين تارة تكون بالتوجه إلى القبر ، وتارة بالتوجه إلى صاحب القبر ، بل وتارة التوجه إلى ما حول القبر ، كالأبنية المحاطة بالقبور ، وصارت مشاهد ، فمنها ما يكون مسورا بالحديد ، فترى من هؤلاء من يعمد إلى تلك الستور والجدران والأبنية ، فيتمسح بها رجاء بركتها ، ويتخذها وسيلة إلى الله ، فتراهم - أيضا - يعكفون عند قبور معظميهم ، ويتخذون مشاهدهم أوثانا يعبدونها ، ويرجونها ، ويخافونها ، وإذا ضم أحدهم إلى صدره تلك المشاهد ، أو الحديد ، أو الستور ، ونحو ذلك ، فكأنه صار مقربا عند الله ، وقبلت وسيلته تلك . ولا شك أن هذا نوع من أنواع اتخاذ المشاهد أوثانا ، ومن اتخاذ القبور أوثانا ، أو اتخاذ الرجل الصالح - الذي هو متبرئ من أولئك ومن عبادتهم له - إلها مع الله ، وقد علمنا أن العبادة معناها واسع ، وأنها قد تكون بالصلاة له ، أو بدعوته ، أو بسؤاله كشف المدلهمات ، أو جلب الخيرات ، أو الذبح لصاحب القبر ، أو وضع النذور له ، ونحو ذلك من أنواع العبادات ، كما هو الواقع من أولئك الذين يعبدون الأوثان ، وقبور الصالحين .(41/355)
قوله : في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - « أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور ، فقال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله » . في هذا الحديث : أن أم سلمة - رضي الله عنها - لما كانت في الحبشة رأت كنيسة ، ورأت في تلك الكنيسة صور الصالحين ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح » فقد يكون الرجل الصالح نبيا من أنبيائهم ، أو عبدا من عباد الله الصالحين فيهم ، فماذا كانوا يفعلون معه ؟ جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : « بنوا على قبره مسجدا » ، أي : يجعلون قبره مسجدا ، والمسجد في اللغة ؛ هو : مكان العبادة ، فيدخل في هذا المعنى : الكنائس . والمسجد أيضا : مكان السجود . والسجود هو الخضوع والتذلل لله جل وعلا . فالمسجد يطلق على : كل مكان يتخذ لعبادة الله - جل وعلا - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » ، فمكان العبادة يقال له : مسجد . ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام - في شأن الكنيسة(41/356)
: « بنوا على قبره مسجدا » ، يعني : مكانا للعبادة فالكنائس - إذا - بنيت على قبور أولئك الصالحين ، وصوروا فيها الصور ، أي : جعلوا صور الصالحين على قبورهم ، أو على حوائط القبور ؛ لكي يدلوا الناس على عبادة الله بتعظيم ذلك الرجل الصالح ، وتعظيم قبره ، فاتخذوا البناء على القبور ، الذي هو وسيلة من وسائل الشرك الأكبر ، ومن البدع التي يحدثها الخلوف بعد الأنبياء ، اتخاذ الصور فوق القبور ، والتعبد بها ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم : « أولئك شرار الخلق عند الله جل وعلا » .(41/357)
وقوله : « أولئك » : الخطاب فيه لأم سلمة رضي الله عنها ، والخطاب إذا توجه إلى مؤنث تكسر فيه كاف الخطاب . وقوله : « أولئك شرار الخلق عند الله » أي : المعظمون الصالحين ببناء المساجد على قبورهم . وليس في هذا الحديث أنهم توجهوا إليهم بالعبادة ، بل عظموا قبورهم ، وجعلوا لهم صورا ، فجمعوا بين فتنتين : فتنة القبور ، وفتنة الصور ، وفتنة الصور وسيلة من وسائل حدوث الشرك الأكبر ، وكذلك فتنة القبور : بالبناء عليها ، وبتعظيمها ، وبإرشاد الناس إليها ، وسيلة إلى أن يعتقد في صاحب القبر أن له شيئا من خصائص الإلهية ، أو أنه يتوسط عند الله - جل وعلا - في قضاء الحاجات ، كما حصل ذلك منهم فعلا .
والمفهوم من وصفه صلى الله عليه وسلم لأولئك الأقوام بأنهم شرار الخلق عند الله : تحذير هذه الأمة أن يبنوا على قبر أحد مسجدا ؛ لأن من فعل ذلك ودل الخلق على تعظيم ذلك القبر ، فهو من شرار الخلق عند الله ؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام : « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع » .(41/358)
فوجه الدلال من هذا الحديث : قوله : « أولئك شرار الخلق عند الله » وما فيه من التغليظ فيمن عبد الله في الكنيسة ، التي فيها القبور والصور ، لأن القبور والصور من وسائل الشرك بالله جل وعلا .
وقوله : ولهما عنها - يعني عن عائشة - قالت : « لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم يعني نزل به الموت - طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها ، فقال ، وهو كذلك : " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » : هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي فيها بالتغليظ والنهي عن وسائل الشرك ، وبناء المساجد على القبور ، واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد .
ووجه ذلك : أنه عليه الصلاة والسلام مع أنه في ذلك الغم ، وتلك الشدة ، ونزول سكرات الموت به لم يغفل - وهو في تلك الحال - تحذير الأمة من وسيلة من وسائل الشرك ، وتوجيه اللعن والدعاء على اليهود والنصارى بلعنة الله ؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .(41/359)
وسبب ذلك : أنه عليه الصلاة والسلام وهو في تلك الحال خشي أن يتخذ قبره مسجدا ، كما اتخذ شرار الخلق عند الله من اليهود والنصارى قبور أنبيائهم مساجد ، فلعنهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : « لعنة الله على اليهود والنصارى » واللعنة هي : الطرد والإبعاد من رحمة الله ، وذلك يدل على أنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب ، لأن البناء على القبور ، واتخاذ قبور الأنبياء مساجد ، هو من وسائل الشرك ، وكبيرة من الكبائر .
وقوله : « اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » فيه بيان السبب الذي لأجله استحقوا اللعن ، وهو : أنهم اتخذوا قبور الأنبياء مساجد . وفي تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد ، ولعن فاعله وهو في السياق : ما يقوم مقام آخر وصية أوصى بها . ومع ذلك : خالف كثير من هذه الأمة وصيته عليه الصلاة والسلام . واتخاذ القبور مساجد يكون على إحدى صور ثلاث :(41/360)
الصورة الأولى : أن يسجد على القبر ، يعني : أن يجعل القبر مكان سجوده ، فقوله : « اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يعني : جعلوا القبر مكان السجود . وهذه الصورة في الواقع لم تحصل بانتشار ؛ لأن قبور الأنبياء لم تكن مباشرة للناس ، بحيث يمكنهم الصلاة عليها ، أو السجود عليها بل كانوا يعظمون قبور أنبيائهم فلا يصلون عليها مباشرة . لكن أبلغ صور الاتخاذ المفهوم من قوله : « اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » هو : أن يتخذ القبر نفسه مسجدا ، يعني : يصلي عليه مباشرة ، وهذه أفظع تلك الأنواع وأشدها ، وأعظمها ، وسيلة إلى الشرك والغلو بالقبر .(41/361)
الصورة الثانية : أن يصلي إلى القبر ، ومعنى اتخذه مسجدا في هذه الحالة : أن يكون أمامه القبر ، يصلي إليه بحيث يجعله قبلة ، فإنه يكون بذلك قد اتخذ القبر وما حوله له حكمه : مكانا للتذلل والخضوع . والمسجد لا يعني به مكان السجود ، الذي هو وضع الجبهة على الأرض فقط ، وإنما يعني به مكان التذلل والخضوع ، فاتخاذ قبورهم مساجد ، يعني : جعلوها قبلة لهم ؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي إلى القبر ؛ لأجل أن الصلاة إليه وسيلة من وسائل التعظيم ، وهذا يوافق قول الشيخ - رحمه الله - في الباب " باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح " ، فالمفهوم من قوله : " عند قبر رجل صالح " هذه الصورة المتقدمة ، وهي : أن يكون القبر أمامه ، فيجعل القبر بينه وبين القبلة تعظيما للقبر .
الصورة الثالثة : أن يتخذ القبر مسجدا ، بأن يجعل القبر في داخل بناء ، وذلك البناء هو المسجد ، فإذا دفن النبي قام أولئك بالبناء عليه ، فجعلوا حول قبره مسجدا واتخذوا ذلك المكان للتعبد وللصلاة فيه ، هذه هي الصورة الثالثة ، وهي أيضا موافقة لقول الشيخ - رحمه الله - " عند قبر رجل صالح " .(41/362)
وهذا يبين لك بعض المناسبة في إيراد هذا الحديث في هذا الباب .
وقول عائشة رضي الله عنها " يحذر ما صنعوا " فيه إشارة إلى السبب الذي لأجله لعن النبي - عليه الصلاة والسلام - اليهود والنصارى ، وهو يعالج ويعاني سكرات الموت ؛ وهو أنه أراد تحذير الصحابة من أن يحذوا في ذلك الأمر حذو أهل الكتاب . وقد قبل الصحابة رضوان الله عليهم تحذيره ، وعملوا بوصيته . ومعنى قولها - رضي الله عنها : " ولولا ذلك أبرز قبره " . يعني : لأظهر ، وجعل قبره مع سائر القبور في البقيع أو غير ذلك ، ولكن كان من العلل التي جعلتهم لا ينقلونه عليه الصلاة والسلام من مكانه الذي توفي فيه إلى المقبرة : قوله عليه الصلاة والسلام : « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » قالت : يحذر ما صنعوا ، ولولا ذلك أبرز قبره ، فهذه إحدى العلتين .
والعلة الثانية : قول أبي بكر - رضي الله عنه - إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الأنبياء يقبرون حيث يقبضون » (1) .
وقولها : " غير أنه خشي " بفتح الخاء ، أو خشي بضمها ، وهما وجهان جائزان .
_________
(1) سيرة ابن هشام « 4 / 1303.(41/363)
فإذا كان بفتح الخاء فالمقصود به : النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان بضم الخاء فالمقصود : هم الصحابة - رضي الله عنهم - وهذا تنبيه على إحدى العلتين .
وقد قبل الصحابة - رضوان الله عليهم - وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعملوا بها ، فدفنوه في مكانه الذي قبض فيه ، في حجرة عائشة ، وكانت - رضي الله عنها - قد أقامت جدارا بينها وبين القبور ، فكانت غرفة عائشة فيها قسمان قسم فيه القبر ، وقسم هي فيه .
وكذلك لما توفي أبو بكر رضي الله عنه ، ودفن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الشمال ، كانت أيضا في ذلك الجزء من الحجرة ، ولما دفن عمر - رضي الله عنه - تركت الحجرة رضي الله عنها ، ثم أغلقت الحجرة ، فلم يكن ثم باب فيها يدخل منه إليها ، وإنما كانت فيها نافذة صغيرة ، ولم تكن الغرفة كما هو معلوم مبنية من حجر ، ولا من بناء مجصص ، وإنما كانت من البناء الذي كان في عهده عليه الصلاة والسلام ؛ من خشب ونحو ذلك .(41/364)
ولما زيد في بناء المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبد الملك ، وكان أمير المدينة يوم ذاك ، عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - وأخذوا بعضا من حجر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام : بقيت حجرة النبي عليه الصلاة والسلام كذلك ، فأخذوا من الروضة جزءا ، وبنوا عليه جدارا آخر غير الجدار الأول ، بنوه من ثلاث جهات ، وجعلوا جهة الشمال مسنمة أي : مثلثة ، فصار عندنا الآن جداران : الجدار الأول : مغلق تماما ، وهو جدار حجرة عائشة ، والجدار الثاني : الذي عمل في إمرة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - زمن الوليد بن عبد الملك وقد جعلوا من جهة الشمال - وهي عكس القبلة - مسنما ؛ لأنه في تلك الجهة جاءت التوسعة ، فخشوا أن يكون ذلك الجدار مربعا ، يعني : مسامتا للمستقبل ، فيكون إذا استقبله أحد فقد استقبل القبر ، فجعلوه مثلثا ، يبعد كثيرا عن الجدار الأول ، وهو : جدار حجرة عائشة ؛ لأجل أن لا يمكن لأحد أن يستقبل القبر ؛ لبعد المسافة ؛ ولأجل أن الجدر صار مثلثا .(41/365)
ثم بعد ذلك بأزمان جاء جدار ثالث أيضا وبني حول ذينك الجدارين ، وهو الذي قال فيه ابن القيم - رحمه الله - في النونية في وصف دعاء النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » (1) قال :
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاءه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان
_________
(1) أخرجه مالك في « الموطأ كتاب الصلاة (261) .(41/366)
فأصبح قبر النبي عليه الصلاة والسلام محاطا بثلاثة جدران ، وكل جدار ليس فيه باب ، فلا يمكن لأحد أن يدخل ويقف على القبر بنفسه ؛ لأنه صار ثم جداران ، وكل جدار ليس له باب ، ثم بعد ذلك وضع الجدار الثالث ، وهذا الجدار أيضا ليس له باب ، وهو كبير مرتفع ، وهو الذي وضعت عليه القبة فيما بعد ، فلا يستطيع أحد الآن أن يدخل إلى القبر ، أو أن يتمسح به ، أو أن يرى مجرد القبر ، ثم بعد ذلك : وضع السور الحديدي بينه وبين الجدار الثالث نحو متر ونصف في بعض المناطق ، ونحو متر في بعضها ، وفي بعضها نحو متر وثمانين إلى مترين ، يضيق ويزداد ، لكن من مشى : فإنه يمشي بين ذلك الجدار الحديدي وبين الجدار الثالث . فالحاصل : أن المسلمين عملوا بوصيته عليه الصلاة والسلام ، وأبعد قبره ، بحيث لا يمكن لأحد أن يصل إليه ؛ ولهذا لما جاء الخرافيون في عهد الدولة العثمانية فتحوا في التوسعة التي هي من جهة الشرق ممرا ؛ لكي يمكن من يريد أن يطوف بالقبر ، أو أن يصلي في تلك الجهة ، أن يطوف ، أو يصلي !! وذلك الممر الشرقي - الذي هو قدر مترين أو يزيد قليلا - قد منعت الصلاة فيه في عهد الدولة السعودية الأولى ، وما بعدها ، فكأنه أخرج من كونه(41/367)
مسجدا ؛ لأنه إذا كان من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام : فلا يجوز أن يمنعوا أحدا من الصلاة فيه ، فلما منعوا الصلاة فيه جعلوا له حكم المقبرة ، ولم يجعلوا له حكم المسجد ، فلا يمكن لأحد أن يصلي فيه ، بل يغلقونه وقت الصلاة ، أما وقت السلام أو وقت الزيارة فإنهم يفتحونه للمرور .(41/368)
فتبين بذلك أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام لم يتخذ مسجدا ، وإنما أدخلت الغرف بالتوسعة في عهد التابعين في المسجد ، ولكن جهته الشرقية خارجة عن المسجد ، فصارت كالشيء الذي دخل في المسجد ، ولكن الحيطان المتعددة - وهي الجدران الأربعة التي تفصل بين القبر والمسجد - تمنع أن يكون القبر في داخل المسجد ، يعني مكان الدفن . ومما يدل على أخذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم بوصية النبي عليه الصلاة والسلام هذه ، وسد الطرق الموصلة إلى الشرك به عليه الصلاة والسلام ، وعدم اتخاذ قبره مسجدا ، أنهم أخذوا من الروضة الشريفة التي هي روضة من رياض الجنة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة » (1) قدر ثلاثة أمتار ، لكي يبنوا الجدار الثاني ، ثم الجدار الثالث وأخذوا أكثر من ثلاثة أمتار لإقامة السور الحديدي ، فهذا من أعظم التطبيق والعمل بوصيته عليه الصلاة والسلام ؛ حيث إنهم أخذوا من الروضة ، وأجازوا أن يأخذوا من المسجد ؛ لأجل أن يحمى قبر النبي - عليه الصلاة والسلام - من أن يتخذ مسجدا ، وهذا - ولا شك - يدل على عظيم فقه من قاموا بذلك العمل ، ففصل القبر عن المسجد بهذه الكيفية التي وصفت ، هو
_________
(1) أخرجه البخاري (1196) و (1188) و (6588) و (7335) .(41/369)
من رحمة الله - جل وعلا - بهذه الأمة ، ومن إجابة دعوة النبي - عليه الصلاة والسلام - لما دعا بقوله فيما سيأتي بعد هذا الباب : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » .
إذن فقوله عليه الصلاة والسلام : « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا » ، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتخذ قبره مسجدا .
والموجود اليوم في المسجد النبوي قد تكون صورته عند من لم يحسن التأمل ، وعند غير الفقيه صورة قبر في داخل مسجد ، وليست الحقيقة كذلك ؛ لوجود الجدارين المختلفة التي تفصل بين المسجد وبين القبر ؛ ولأن الجهة الشرقية منه ليست من المسجد ؛ ولهذا لما جاءت التوسعة الأخيرة ، كان مبتدؤها من جهة الشمال بعد نهاية الحجرة بكثير ، حتى لا تكون الحجرة في وسط المسجد ؛ فيكون ذلك من اتخاذ قبره مسجدا عليه الصلاة والسلام .
فالمقصود من هذا البيان : أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام ما اتخذ مسجدا ، وأن وصيته عليه الصلاة والسلام في التحذير قد أخذ بها في مسجده وفي قبره ، ولكن خالفتها بعض الأمة في قبور بعض الصالحين من هذه الأمة ، فاتخذوا قبور بعض آل البيت مساجد وعظموها ، كما تعظم الأوثان .(41/370)
" ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال : « سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ، وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا » : سبب ذلك : أن الخلة هي أعظم درجات المحبة ، وهي التي تتخلل الروح ، وتتخلل القلب ، وشغاف الصدر ، بحيث لا يكون ثم مكان لغير ذلك الخليل ؛ ولهذا فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - ليس له من أصحابه خليل ؛ ولهذا قال : « ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا » .
ووجه الشاهد من هذا الحديث قوله بعد ذلك : « ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك » : وجاء في رواية أخرى أيضا : « كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » ، وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة ، ولا شك أنه وسيلة من وسائل الشرك .(41/371)
ومناسبة الحديث للباب ظاهرة وهي : أنه حرم اتخاذ قبور والأنبياء والصالحين مساجد ، مع أنه قد يكون العابد لا يعبد إلا الله ؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك الأكبر ، والوسائل تفضي إلى ما بعدها ، وقد تقرر في القواعد الشرعية ، وأجمع عليه المحققون : أن سد الذرائع الموصلة إلى الشرك ، وإلى المحرمات ، أمر واجب ، لأن الشريعة جاءت بسد أصول المحرمات ، وسد الذرائع إليها ، فيجب أن يغلق كل باب من أبواب الشرك بالله ، ومن ذلك : اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ؛ ولهذا لا تصح الصلاة في مسجد بني على قبر ؛ لأن ذلك مناف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم ، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى ، وهؤلاء فعلوا ، والنهي توجه إلى بقعة الصلاة فبطلت الصلاة ؛ فالذي يصلي في مسجد أقيم على قبر فصلاته باطلة لا تصح ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : « ألا فلا تتخذوا القبور مساجد » يعني : بالبناء عليها وبالصلاة حولها : « فإني أنهاكم عن ذلك » .(41/372)
قوله : " فقد نهى عنه في آخر حياته ، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله ، والصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يبن مسجد ، وهو معنى قولها : " خشي أن يتخذ مسجدا " : يعني أن الصلاة عند القبور لا تجوز سواء صلى إليها ، أو صلى عندها رجاء بركة ذلك المكان ، أو لم يرج بركة ذلك المكان ، وإنما صلى صلاة نافلة - غير صلاة الجنازة عندها - كل هذا لا يجوز ؛ سواء كان ثم بناء على القبر : كمسجد ، أو كان قبر ، أو قبران في غير بناء عليهما ، فإن الصلاة لا تجوز ؛ ولهذا جاء في الصحيح أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : « اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا » (1) ، وفي البخاري أيضا معلقا من كلام عمر - رضي الله عنه - أنه رأى أنسا يصلي عند قبر ، فقال له : " القبر ، القبر " (2) يعني : احذر القبر ، وهذا يدل على أن الصلاة عند القبور لا تجوز ؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك ، وأعظم من ذلك أن يكون ثم بنيان ، واتخاذ لما حول القبر من الأبنية مسجدا للصلاة ، والدعاء ، والقراءة ، ونحو ذلك .
_________
(1) أخرجه البخاري (432) و (1187) .
(2) أخرجه البخاري معلقا إثر حديث (426) .(41/373)
وهو معنى قولها : " خشي أن يتخذ مسجدا " ، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا ، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » : وهذا ظاهر .
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود -رضي الله عنه - مرفوعا « إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد » ورواه أبو حاتم (1) في صحيحه .
ووجه الشاهد من هذا الحديث : أنه قال : « والذين يتخذون القبور مساجد » يعني : أنهم من شرار الناس ، فالذين يتخذون القبور مساجد هم من شرار الناس ؛ وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد - كما ذكرنا - وسيلة من وسائل الشرك بالله جل وعلا .
وقوله : « والذين يتخذون القبور مساجد » هذا يعم كل اتخاذ للقبر مسجدا ، سواء اتخذه بالصلاة عليه ، أو بالصلاة إليه أو بالصلاة عنده ، فذلك القصد للصلاة عند القبر يجعل القاصد من شرار الناس كما وصفهم النبي - عليه الصلاة والسلام - بذلك .
_________
(1) يعني ابن حبان . وأخرجه أحمد (5316) وابن خزيمة (879) والطبراني في « الكبير » كما في « مجمع الزوائد » 2 / 27 وقال : إسناده حسن .(41/374)
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة فإنه ذكر أن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد ، والقصد من اتخاذ القبر مسجدا : أن يعبد الله عند قبر ذلك الرجل الصالح ، فكيف حال الذي توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام بالعبادة ؟ ؟ !! والحال أن القبر لا يخلص إليه ، ولكن الاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وتأليهه قد يقعان بحسب الاعتقادات ، وبحسب المناداة ، كما حصل من الجاهليين مناداة الملائكة ، واتخاذ الملائكة آلهة مع الله جل جلاله . وكذلك المتخذون الأولياء معبودين ، هم من أشر الناس الذين وصفهم النبي - عليه الصلاة والسلام - بقوله « إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد » ، فإن الذي اتخذ القبر مسجدا ملعون بلعنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وإن كان لم يعبد إلا الله جل وعلا ، فكيف حال الذي عبد صاحب ذلك القبر ؟ !! نسأل الله العافية والسلامة من كل وسائل الشرك .(41/375)
وتأمل هذا مع ما فشا في بلاد المسلمين من بناء القباب والمشاهد على القبور ، وتعظيم هذا الفعل المنكر ، وتحسينه ، وتوجيه الناس إليه ، وإلى التعلق بالمقبورين ، وذكر الحكايات الطويلة في مناقب أولئك الأولياء ، وفي إجابتهم للدعوات ، وإغاثتهم للهفات ، ونحو ذلك يتبين لك غربة الإسلام أشد غربة في هذه الأزمنة وما قبلها ، فكيف إذا قالوا : إن ذلك جائز ، وذلك توحيد ؟ ! بل كيف إذا اتهموا من نهاهم عن ذلك بعدم المعرفة ، وعدم الفهم ، وهو يدعوهم إلى الله - جل وعلا - وهم يدعونه إلى النار . ؟ نسأل الله السلامة والعافية .(41/376)
" باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله تبارك وتعالى "
روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (1) ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [ النجم : 19 ] قال : كان يلت لهم السويق فمات ، فعكفوا على قبره (2) . وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : كان يلت السويق للحاج (3) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسراج » . رواه أهل السنن . (4)
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الأوثان .
الثانية تفسير العبادة .
الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه .
الرابعة : قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد .
الخامسة : ذكر شدة الغضب من الله .
السادسة : وهي من أهمها - صفة معرفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان .
السابعة : معرفة أنه قبر رجل صالح .
الثامنة : أنه اسم صاحب القبر ، وذكر معنى التسمية .
التاسعة : لعنه زوارات القبور .
العاشرة : لعنه من أسرجها .
_________
(1) أخرجه مالك في « الموطأ » (261) .
(2) ابن جرير في « التفسير » 27 / 58.
(3) ابن جرير في « التفسير » .
(4) أبو داود (3236) والترمذي و(320) ، وقال : حديث حسن .(41/377)
الشرح :
" باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله " . الغلو في قبور الصالحين : وسيلة من وسائل الشرك ، بل قد يصل الغلو إلى أن يكون شركا بالله - جل وعلا - وأن يصير ذلك القبر وثنا يعبد ؛ فالغلو درجات ، وقد تقدم في الأبواب قبله ذكر بعض صور هذا الغلو في القبور ، وهنا بين أن الغلو يصل إلى أن تصير تلك القبور أوثانا تعبد من دون الله . وإذا قلنا : إن الغلو هو : مجاوزة الحد . فمعناه هنا في هذا الباب : هو مجاوزة الحد في الصفة التي ينبغي أن يكون عليها القبر ؛ إذ صفتها في الشرع واحدة ، ولم يأت عن الشارع دليل في تمييز قبور الصالحين عن غيرهم ، بل الوارد وجوب أن تتساوى من حيث الصفة ، فلا يفرق بين قبر صالح أو طالح ؛ فالقبر إما أن يكون في ظاهر مسنما ، وإما أن يكون مربعا ، وهذه الصورة من حيث الظاهر واحدة .
فنهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن الكتابة على القبر ، أو تجصيصه ، أو رفعه في أنواع من السنن التي جاءت في أحكام القبور ، إنما لأجل سد الطرق التي توصل إلى الغلو في قبور الصالحين .(41/378)
فمجاوزة الحد في قبور الصالحين هي مجاوزة لما أمر الشارع أن تكون عليه القبور ؛ لأن قبور الصالحين لا تختلف عن قبور غير الصالحين . فالغلو فيها يكون بالكتابة عليها ، أو برفعها ، أو بالبناء عليها ، أو باتخاذها مساجد ، وكل هذا من الوسائل المؤدية إلى الشرك الأكبر . ومن صور الغلو في قبور الصالحين ، أن تجعل وسيلة من الوسائل التي تقرب إلى الله جل وعلا ، أو أن يتخذ القبر أو من في القبر شفيعا لهم عند الله جل وعلا ، أو ينذر للقبر ، أو يذبح له ، أو يستشفع بترابه ؛ اعتقادا أنه وسيلة عند الله جل وعلا ، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله تبارك وتعالى .
فالغلو في قبور الصالحين يكون بمجاوزة ما أذن فيها ، ومن المجاوزة ما هو من وسائل الشرك ، ومنها ما هو شرك صريح كاتخاذ القبور أوثانا تعبد من دون الله جل وعلا ؛ ولهذا قال - رحمه الله - : " باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا " ، وقوله : " يصيرها " يعني : يجعلها ؛ فقد يكون جعل الوسائل للغايات ، يعني : أن الغلو صار وسيلة لاتخاذها أوثانا ، وقد يكون الغلو جعلها وثنا يعبد من دون الله جل وعلا .(41/379)
وهذا هو الواقع والمشاهد في كثير من بلاد الإسلام : في أن القبور صارت أوثانا تعبد من دون الله ، لما أقيمت عليها المشاهد والقباب ، ودعي الناس إليها ، وذبح لها ، وقبلت النذور لها ، وصار يطاف حولها ، ويعكف عندها ، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله .
قوله : " روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » .(41/380)
قوله « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » هذا دعاء ، ورغب منه صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى ألا يقع ذلك بقبره . ولو كان ذلك لا يقع أصلا ، ولا يمكن أن يقع ، لما دعا النبي عليه الصلاة والسلام بذلك الدعاء العظيم ، وهو أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ، كما جعلت قبور غيره من الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - فإن عددا من قبور الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - اتخذت أوثانا تعبد من دون الله ، وفي قوله : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » دليل على أن القبر يمكن أن يكون وثنا يعبد . فالغاية أن يكون القبر وثنا يعبد ؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » دعاء منه بأن لا تتحقق هذه الغاية التي من وسائلها ما جاء في قوله بعد ذلك : « اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . وهذا هو غلو الوسائل ، فاتخاذ قبور الأنبياء مساجد غلو من غلو الوسائل ، يصير تلك القبور أوثانا . فالنبي عليه الصلاة والسلام جمع في هذا الحديث بين ذكر الوسيلة ، والتنفير منها ، وبيان اشتداد غضب الله على من فعلها ، وذكر نهاية ما تصل إليه تلك الوسيلة بأصحابها ، وهي : أن تكون القبور(41/381)
أوثانا تعبد من دون الله جل وعلا .(41/382)
فهذا الحديث صريح في أن القبر يمكن أن يكون وثنا ، والخرافيون يقولون : إن القبور لا يمكن أن تكون أوثانا ، والأوثان هي أوثان الجاهلية وأصنام الجاهلية فقط . فنقول في الرد عليهم : إن الجاهليين إذا كانوا قد تعلقوا بأصنام ، وبأحجار ، وبأشجار ، وبغير ذلك من الأشياء ، واعتقدوا فيها ، ووصل بهم ذلك الاعتقاد إلى حد الشرك الأكبر ؛ مع أن المسوغ العقلي والنفسي لعبادتها غير قوي ، ولا ظاهر فيها : فإن اتخاذ قبور الصالحين ، والأنبياء ، والمرسلين أوثانا ، أو أن يتوجه إلى أصحابها بالعبادة وارد من باب أولى ؛ لأن تعلق القلوب بالصالحين أولى من تعلقها بالأحجار ، وتعلقها بالأنبياء والمرسلين أولى من تعلقها بالجن ، أو بالأشجار ، أو بالأحجار ، أو نحو ذلك ، فوسائل الشرك بالقبور ، أظهر منها في الأصنام ونحوها ، وأوضح ؛ وهما يشتركان في أن كلا منهما يعتقد تأثير الصنم أو الوثن في حصول ما يرجوه من الشفاعة عند الله ؛ فأولئك المشركون يقولون في آلهتهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] ، ويقولون : { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، وأهل العصور التي فشا(41/383)
فيها الشرك ، إذا سألتهم يقولون : هذا توسل ، وهذا استشفاع ، والحال واحدة ، والسبيل الذي جعل تلك القبور أوثانا هو اتخاذها مساجد ، والبناء عليها ، والحث على مجيئها ، والتبرك بها ، وذكر الكرامات التي تحصل عندها من إجابة الدعوات ، وتفريج الكربات !! ، إلى غير ذلك مما يفعله المشركون بقبور معظميهم .
" ولابن جرير بسنده عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال في قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [ النجم : 19 ] . قال : كان يلت لهم السويق ، فمات ، فعكفوا على قبره ، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : كان يلت السويق للحاج " . الشاهد قول مجاهد : " مات فعكفوا على قبره " ، فهذا العكوف ؛ لأجل أنه رجل كان ينفعهم ، يلت السويق لهم ، وهذا على قراءة { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } .
ووجه المناسبة ظاهر : من أن صلاح ذلك الرجل جعلهم يغلون في قبره كما قال : " فعكفوا على قبره " . والعكوف على القبور يصيرها أوثانا ، والعكوف معناه : لزوم القبر بتعظيمه ، واعتقاد البركة ، والثواب ، والنفع ، ودفع الضر ، في لزومه ، فهذا معنى العكوف .(41/384)
" وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج » . رواه أهل السنن " : وجه الدلالة من الحديث ظاهرة : وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتخذين على القبور المساجد والسرج . أما اتخاذ المساجد على القبور فقد سبق الكلام عليه ، وأما لعن المتخذين السراج على القبور : فلأنها وسيلة لتعظيم تلك القبور ، ونوع من أنواع الغلو فيها ، وقد كانت القبور المعظمة تسرج قديما ، وتجعل عليها القناديل ، أما في هذه الأعصار ، فيجعلون عليها الأنوار العظيمة التي تبين أن هذا المكان مقصود ، وأنه مطلوب الراغبين ، ويجعلون لها من وسائل الإضاءة العصرية الحديثة ما يسطع الأبصار ، ويغري الناس بتعظيمها وعبادتها . ولا شك أن هؤلاء ملعونون بلعنة رسول الله . فلا يجوز أن تتخذ السرج على القبور ؛ لأن اتخاذ السرج على القبور من أنواع الغلو فيها ؛ ولأنه يدعو إلى تعظيمها ، وقد يؤول الأمر بعد ذلك إلى أن تتخذ آلهة وأوثانا تعبد مع الله جل وعلا .(41/385)
" باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد ، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك "
وقول الله عز وجل : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [ التوبة : 128 - 129 ] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، ولا تجعلوا قبري عيدا ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » . رواه أبو داود بإسناد حسن ، ورواته ثقات . (1) .
« وعن علي بن الحسين رضي الله عنه : أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه ، وقال : ألا أحدثك حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم » رواه في المختارة (2) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية براءة .
الثانية : إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد .
_________
(1) أخرجه أبو داود ( 2042 ) .
(2) أخرجه الضياء المقدسي في « المختارة » (428) .(41/386)
الثالثة : ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته .
الرابعة : نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص ، مع أن زيارته من أفضل الأعمال .
الخامسة : نهيه عن الإكثار من الزيارة .
السادسة : حثه على النافلة في البيت .
السابعة : أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة .
الثامنة : تعليله ذلك : بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد ، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب .
التاسعة : كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه .
الشرح :
هذا الباب من جنس الأبواب قبله الواردة في حماية النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد ، وفي سده كل طريق يوصل إلى الشرك . وأتى الشيخ - رحمه الله - هنا بآية براءة ، وهي قول الله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] فقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } يعني : عزيز عليه عنتكم ؛ يعني : أن تكونوا في عنت ومشقة ، فهذا عزيز عليه ولا يرغب فيه عليه الصلاة والسلام .(41/387)
قوله : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } لأنه عليه الصلاة والسلام عزيز عليه عنت أمته ، فهو لهذا يأمرهم بكل خير ، وينهاهم عن كل شر ، ويحمي حمى ما أمرهم به ، وما نهاهم عنه ؛ لأن الناس إذا أقدموا على ما نهوا عنه : فإنهم أقدموا على مهلكتهم ، وأقدموا على ما فيه عنتهم في الدنيا وفي الأخرى ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - عزيز عليه عنت أمته أي : أن يقعوا في ما يعود عليهم بالوبال وبالمشقة ؛ لهذا قال بعدها : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } ، لأن عزة مشقتهم عليه ، وحرصه عليهم متلازمان ، فمن حرصه علينا عليه الصلاة والسلام ، ومن كونه يعز عليه عنتنا ، أن حمى حمى التوحيد ، وحمى جناب التوحيد ، وسد كل طريق قد نصل بها إلى الشرك ، عليه الصلاة والسلام ، وهذا وجه الاستدلال من الآية على الباب .(41/388)
وأما حديث أبي هريرة فوجه الشاهد منه قوله : « ولا تجعلوا قبري عيدا » ، والعيد يكون عيدا مكانيا كما جاء هنا ، ويكون عيدا زمانيا ، فقوله : « لا تجعلوا قبري عيدا » يعني : لا تصيروا قبري مكانا تعودون إليه ؛ أو : تعتادون المجيء إليه في أوقات معلومة ؛ فإن هذا قد يوصل إلى أن يعظم النبي - عليه الصلاة والسلام - كتعظيم الله جل وعلا . فاتخاذ القبور عيدا من وسائل الشرك ؛ ولهذا قال : « وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » .
وكذلك حديث علي بن الحسين هو بمعنى الحديث السابق . ولفظ حديث علي بن الحسين أنه قال : « ألا أحدثك حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : " لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا بيوتكم قبورا » قاله للرجل الذي كان يعتاد المجيء إلى فرجة كانت عند القبر ؛ لأن اعتياده الدعاء عند القبر نوع من الغلو ، ووسيلة إلى تعظيم القبر ، واتخاذه عيدا . وهذا من وسائل الشرك .(41/389)
فحمى النبي عليه الصلاة والسلام حمى التوحيد وحرس جنابة ، وسد كل طريق توصل إلى الشرك ، حتى في قبره عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان قد نهى عن اتخاذ قبره مسجدا ، أو عيدا ، فمن باب أولى قبور غيره من الأنبياء والمرسلين ، والصالحين ، فإنهم أولى بذلك ؛ لأنه أفضل خلق الله عليه الصلاة والسلام . فالحاصل : أن بعض هذه الأمة خالف ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به من حماية جناب التوحيد ، فاتخذوا القبور مساجد ، وأعيادا ، وبنوا عليها المشاهد ، وأسرجوها ، وقدموا لها الذبائح والنذور ، وطافوا حولها ، وجعلوها كالكعبة ، وجعلوا الأمكنة حولها مقدسة أعظم من تقديس بقاع الله المباركة ، بل إن عباد القبور تجد عندهم من الذل ، والخضوع ، والإنابة ، والرغب ، والرهب - حين يأتون إلى قبر النبي أو قبر الرجل الصالح أو قبر الولي - ما ليس في قلوبهم إذا كانوا في خلوة مع الله - جل جلاله - وهذا عين المحادة لله - جل وعلا - ولرسوله صلى الله عليه وسلم .(41/390)
" باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان "
وقول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } [ النساء : 51 ] .
وقوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [ المائدة : 60 ] .
وقوله تعالى : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ الكهف : 21 ] .(41/391)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن ؟ » أخرجاه (1) . ولمسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنزين : الأحمر ، والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة ، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا » (2) رواه البرقاني في صحيحه وزاد : « وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين ، ولا نبي
_________
(1) أخرجه البخاري (3456) ، ومسلم (2669) بنحوه .
(2) أخرجه مسلم (2889) .(41/392)
بعدي ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم وحتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى » .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النساء .
الثانية : تفسير آية المائدة .
الثالثة : تفسير آية الكهف .
الرابعة : وهي أهمها ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت ؟ وهل هو اعتقاد قلب ؟ أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها ؟
الخامسة : قولهم : إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين .
السادسة : - وهي المقصود بالترجمة - أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة ، كما تقرر في حديث أبي سعيد .
السابعة : التصريح بوقوعها ، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة .
الثامنة : - العجب العجاب - خروج من يدعي النبوة ، مثل المختار ، مع تكلمه بالشهادتين ، وتصريحه بأنه من هذه الأمة . وأن الرسول حق وأن القرآن حق . وفيه أن محمدا خاتم النبيين ، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح . وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثيرة .
التاسعة : البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية ، كما زال فيما مضى ، بل لا تزال عليه طائفة .
العاشرة : الآية العظمى : أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم .(41/393)
الحادية عشرة : أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة .
الثانية عشرة : ما فيهن من الآيات العظيمة .
منها : إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب ، وأخبر بمعنى ذلك ، فوقع كما أخبر ، بخلاف الجنوب والشمال .
وإخباره بأنه أعطي الكنزين .
وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين .
وإخباره بأنه منع الثالثة .
وإخباره بوقوع السيف وأنه لا يرفع إذا وقع .
وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة .
وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة .
وكل هذا وقع كما أخبر ، مع أن كل واحدة منها من أبعد ما يكون في العقول .
الثالثة عشرة : حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين .
الرابعة عشرة : التنبيه على معنى عبادة الأوثان .
الشرح :(41/394)
هذا " باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان " ، وكتاب التوحيد من أوله إلى هذا الموضع ، ذكر فيه الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - مسائل كثيرة من التوحيد ، كبيان وجوب معرفة التوحيد ، والعلم به ، والخوف من الشرك ، وبيان بعض أفراد التوحيد ، وبعض أفراد الشرك ، الأكبر والأصغر ، ثم بين شيئا مما يتعلق بوسائل ذلك ، وما يتعلق بالصور المختلفة التي وقعت من هذا الشرك في الأمم قبلنا وعند الجاهليين ، يعني : في الأميين وفي أهل الكتاب ، وكذلك مما وقع في هذه الأمة . ثم ذكر الوسائل والطرق الموصلة إلى الشرك ، يعني : وسائل الشرك التي توصل إليه ، وطرق الشرك الموصلة إليه .
وقد يحتج بعض المشركين والخرافيين بأن هذه الأمة حماها الله - جل وعلا - من أن تعود إلى عبادة الأوثان ، وعصمت من الوقوع في الشرك الأكبر بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام : « إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم » (1) ، فلما قال عليه الصلاة والسلام : « إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب » (2) علمنا أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة ، وأن الشرك الأكبر لا يكون ، هكذا يدعي القبوريون .
_________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .(41/395)
والجواب : أن هذا الاحتجاج في غير موضعه ، وفهم ذلك الدليل ، وذلك الحديث ، ليس على ذلك النحو ، وجواب ما قالوا من أن قوله عليه الصلاة والسلام : « إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب » هو أن نقول : إن الشيطان لا يعلم الغيب ، وهو حريص على إغواء بني آدم ، كما قال تعالى : { لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا } [ الإسراء : 62 ] هو أيس ولكن لم يأيسه الله - جل وعلا - فالشيطان أيس بنفسه لما رأى عز الإسلام ، ولما رأى ظهور التوحيد على الكفر في جزيرة العرب ، فأيس لما رأى ذلك ولكنه لم يأيسه الله - جل وعلا - من أن يعبد في جزيرة العرب .
ثم إن في قوله : " أيس أن يعبده المصلون " إشارة إلى أن أهل الصلاة ، هم الذين لا تتأتى منهم عبادة الشيطان ، لأن المصلين لا شك أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر ؛ لأن المصلي هو الذي أقام الصلاة ، ومن أقام الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأعظم المنكر الذي سينكره المصلي ، هو : الشرك بالله -جل وعلا- فيكون الشيطان بذلك قد يأس أن يعبده من أقام الصلاة على حقيقتها كما أراد الله -جل وعلا- .(41/396)
فليس في هذا الحديث - إذًا - أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة ، بل فيه : أن الشيطان أيس لما رأى عز الإسلام ولكنه لم يُأيَّس ؛ ولهذا فإن طائفة من العرب ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل ، ولا شك أن ذلك الارتداد كان من عبادة الشيطان ؛ لأن عبادة الشيطان تكون - أيضا - بطاعته ؛ كما قال - جل وعلا - : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [ يس : 60 ] وعبادة الشيطان كما في تفسير الآية : بطاعته في الأمر والنهي ، وطاعته في الشرك ، وطاعته في ترك الإيمان وترك لوازمه .(41/397)
وقد كان إمام الدعوة -رحمه الله- مستحضرا لهذا الدليل الذي يحتج به المشركون من هذه الأمة ، من أهل عصره وغيرهم على نفي عبادة هذه الأمة للأوثان ، وعدم وقوع الشرك منهم ، فأراد -رحمه الله- التنبيه على بطلان الاستدلال بذلك الدليل على ما ادعوه ، بل هو لا يدل على قولهم ، إذ قد عرفنا معناه وتفسيره فيما تقدم . والأدلة جاءت مصرحة أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ، وهذا مما يصحح معنى ما أشرنا إليه من كون الشيطان قد يأس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب .
وقول الإمام -رحمه الله- : " باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان " معناه : أن عبادة الأوثان واقعة في هذه الأمة بنص قول النبي صلى الله عليه وسلم ، كما وقعت في الأمم السالفة ، فهذه الأمة فيها عبادة غير الله سبحانه وتعالى -أيضا- .
وقوله : " باب ما جاء" يعني : من النصوص في الكتاب وفي السنة .(41/398)
وقوله : " أن بعض هذه الأمة" نص على وقوع ذلك من بعضهم ، لا من كلهم ؛ لأن عبادة الأوثان لم تكن من الأمة كلها ، وإنما كانت من بعض هذه الأمة ، وإلا فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق كما قال -عليه الصلاة والسلام- . « ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى قيام الساعة » .
والمقصود ب " بعض هذه الأمة" : ذلك البعض المرذول ، فنفهم من هذا أن هناك من الأمة من يقوم بالاستمساك بالأمر الأول الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عليه صحابته ، في أمر التوحيد ، وأمر العبادة والسنن .
لكن هل المقصود بقوله . " هذه الأمة" . أمة الدعوة أو أمة الإجابة؟
إذا قلنا : أمة الدعوة . فلا شك أن هناك من أمة الدعوة- وهم جميع الجن والإنس- من عبد الأوثان ، واستمر على عبادتها ، بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرض ببعثته ، ولم يقبل ذلك .(41/399)
وإذا قلنا : إن المراد بالأمة أمة الإجابة ، يعني : أن من أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ، تتقادم بهم العهود ، حتى يرتدوا على أدبارهم ، ويتركوا دينهم ، كما جاء في بابٍ سلف في أن سبب كفر بني آدم ، وتركهم دينهم الغلو في الصالحين ، لكن الظاهر هنا أن قوله : " بعض هذه الأمة يعبد الأوثان " يعني به أمة الإجابة في أنهم يتركون دينهم ، ويتوجهون إلى الأوثان ويعبدونها .
و " الأوثان " : جمع وثن ، والوثن هو : كل شيء توجه إليه الناس بالعبادة ، إما بأن يدعوه مع الله- جل وعلا- أو أن يستغيثوا به ، أو أن يعتقدوا فيه أنه ينفع ويضر بدون إذن الله- جل وعلا- أو أنه يرجى رجاء العبادة ، ويخاف منه كخوف الله- جل وعلا- أي : خوف السر ، ونحو ذلك من التوجهات ، والعبادات ، فمن اعتقد فيه شيء من ذلك فهو وثن من الأوثان ، وقد يكون راضيا بتلك العبادة ، وقد لا يكون راضيا .(41/400)
والوثن ليس هو المصور على شكل صورة ، بل الصنم هو ما كان على شكل صورة- كما سبق أن ذكرنا- فالفرق بين الأوثان والأصنام . أن الأصنام هي : الآلهة التي صورت على شكل صور ، كأن يجعل لنبي من الأنبياء صورة ويعبدها ، أو يجعل لرجل من الرجال- كبوذا ونحوه- صورة ويسجد لها ، ويعبدها ، فهذه تسمى أصناما . أما الأوثان فهي الأشياء المعبودة أيا كانت ؛ فقد تكون جدارا ، أو قبرا ، أو رجلا ميتا ، أو صفة من الصفات يتخذها معبودة من دون الله . فكل ما توجه إليه العباد بنوع من أنواع العبادة : فهو وثن من الأوثان .
قوله : " وقول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [ النساء : 51] الجبت : اسم عام لكل ما فيه مخالفة لأمر الله- جل وعلا- وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد ، فقد يكون الجبت سحرا- وهذا هو الذي فسر به كثير من السلف الجبت ، وقد يكون الجبت الكاهن ، وقد يكون الجبت الشيء المرذول الذي يضر صاحبه .
ومعنى قوله : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } يعني : يؤمنون بالسحر ، ويؤمنون بالباطل ، وبعبادة غير الله- جل وعلا- .(41/401)
ويؤمنون ب (الطاغوت) والطاغوت : مشتق من الطغيان ، وهو : مجاوزة الحد ، فالطاغية هو الذي تجاوز الحد في أمر الدين ، بأن جعل ما لله له ؛ ولهذا يعرف ابن القيم -رحمه الله- الطاغوت بأنه : " كل ما تجاوز به العبد حده من معبود ، أو متبوع ، أو مطاع " .
ومعنى مجاوزة العبد به حده : أنه تعدى حد ذلك الشيء الذي توجه إليه ، وهو الحد الذي لم يأذن به الشرع مجاوزته له ، فتوجهه إليه بالعبادة ، أو اعتقاده فيه بعض خصائص الإلهية من أنه : يغيثه كيف ما شاء ، ومن أنه يملك غوثه ، ويملك الشفاعة له ، أو أن يغفر له ، وأن يعطيه ، ويملك أن يقربه إلى الله- جل وعلا- ، ونحو ذلك مما لا يملكه المعبودون ، فإن كل ذلك مجاوزته بذلك المتخذ عن الحد الذي جعل له في الشرع .(41/402)
فهذا معنى مجاوزة الحد في المعبودين ، والمقصود بقوله : " أو متبوع " مثل العلماء ، والقادة في أمر الدين ، ومعنى مجاوزة الحد فيهم : أنهم صاروا يتبعونهم في كل ما قالوا ، وإن أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال ، أو جعلوا لهم السنة بدعة ، والبدعة سنة ، وهم يعلمون أصل الدين ، ولكنهم خالفوا لأجل ما قال فلان ، فإن هذا قد تُجُوِّز به حده ، فإن حد المتبوع في الدين : أن يكون آمرا بما أمر به الشرع ، ناهيا عما نهى عنه الشرع . فإذا أحل الحرام ، أو حرم الحلال فإنه يعتبر طاغوتا ، ومن اتبعه فإنه يكون قد تجاوز به حده ، وقد أقر بأنه طاغوت ، واتخذه كذلك .
وقوله : " أو مطاع " يشمل الأمراء ، والملوك ، والحكام ، والرؤساء ، الذين يأمرون بالحرام فيطاعون ، ويأمرون بتحريم الحلال فيطاعون في ذلك مع علم المطيع بما أمر الله- جل وعلا- به فهؤلاء اتخذوهم طواغيت ؛ لأنهم جاوزوا بهم حدهم . فهذا الشرح لمعنى ما ذكره الإمام ابن القيم -رحمه الله- من تعريف الطاغوت .
وقوله في الآية المتقدمة . ( الطاغوت ) يدخل فيه كل هذه الأنواع ، أي الذين عبدوا ، والذين اتبعوا ، والذي أطيعوا .(41/403)
ووجه مناسبة هذه الآية للباب ، أن الإيمان بالجبت والطاغوت ، حصل ووقع من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، من اليهود والنصارى ، وإذا كان قد وقع منهم ، فسيقع في هذه الأمة ؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن ما وقع في الأمم قبلنا سيقع في هذه الأمة ، كما قال في حديث أبي سعيد الآتي : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » فمثل بشيء صغير ، وهو دخول جحر الضب- الذي لا يمكن أن يفعل- تنبيها على أن ما هو أعلى من ذلك سيقع من هذه الأمة ، كما وقع من الأمم قبلنا . وقد حصل- كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فإن من هذه الأمة من آمن بالسحر ، ومنهم من آمن بعبادة غير الله ، ومنهم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، فكانوا بذلك متبعين سنن من كان قبلهم ، وحصل منهم إيمان بالجبت والطاغوت كما حصل من الأمم قبلهم .(41/404)
" وقوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [ المائدة : 60 ] على هذه القراءة (عبد الطاغوت) يكون الطاغوت مفعول (عبد) ، و (عبد) فعلا معطوفا على قوله : (لعن) ، كأنه قال بتقديم وتأخير : من لعنه الله ومن عبد الطاغوت . ووجه الاستشهاد من الآية أن عبادة الطاغوت وقعت في أولئك الملعونين ، وبما أن ما وقع في الأمم السالفة بخبر النبي صلى الله عليه وسلم سيقع في هذه الأمة ، فإننا نعلم أن في هذه الأمة من سيعبد الطاغوت كما عبدها أولئك ، وعبادة الطاغوت عامة- كما ذكرنا- يدخل فيها عبادة الأوثان من عبادة القبور ، وتأليه أصحابها ، والتوسل بهم إلى الله- جل وعلا- ، والاستشفاع بهم إلى الله- جل وعلا- ، أو طلب الشفاعة منهم ، ونحو ذلك من الوسائل الشركية ، أو ما هو من الشرك الأكبر ، فحصلت عبادة الأوثان من القبور ، ومن المشاهد ، ومن الأشجار ومن الأحجار ، ونحو ذلك مما اعتقد فيه الجهلة الذين تركوا دين محمد -عليه الصلاة والسلام- . " وقوله تعالى : { قَالَ الَّذِينَ(41/405)
غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ الكهف : 21] : قصة أصحاب الكهف معروفة ، وهذه الجملة بعض آية من قصة أصحاب الكهف ، جعلهم الله- جل وعلا- آية ، كما قال تعالى : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } [ الكهف : 21] واطلع الناس على أنهم مكثوا أحياء هذه المدة الطويلة ، فاعتقدوا فيهم ، ولما ماتوا تنازعوا في أمرهم .
فمنهم من قال : { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا } .
ومنهم من قال : اجعلوا لهم فناء ودارا ، وعظموا مكانهم ، واختلف الناس فيهم في ذلك الزمان ، قال الله- جل وعلا- : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ الكهف : 21] . فمن الذين غلبوا على الأمر؟ اختلف المفسرون في ذلك :(41/406)
فقال قائلون : هم المسلمون- مسلمو ذلك الزمان- حصل منهم تعظيم لأصحاب الكهف ، فقالوا : { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا } [ الكهف : 21 ] وقالوا : { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } تعظيما لهم ودلالة للناس عليهم ، فإذا كان هذا القول راجحا فإنه من وسائل الشرك بالله ويؤدي إلى عبادة تلك القبور والاعتقاد في أصحاب الكهف ، وهذا القدر حصل في هذه الأمة .(41/407)
والقول الثاني : أن الذين غلبوا على أمرهم هم المشركون ، يعني : أتباع ذلك الدين لاعتقادهم الجاهلي ، ولما في قلوبهم من الشرك والبدع التي خالفوا بها أنبياءهم ، قالوا { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } . والقول الثالث : - وهو الذي رجحه ابن كثير -رحمه الله- ورجحه عدد أيضا من أهل العلم- أن الذين غلبوا على أمرهم هم الكبراء ، والأمراء ، وأصحاب النفوذ فيهم ، لأن الذي له الغلبة في الأمر هو من يملك الأمر والنهي في المنكر وهم الكبراء ، وأصحاب النفوذ ، وملوك ذلك الزمان ، وأمراؤه ، عظموا هؤلاء الصالحين وقالوا { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } ، وقد حصل هذا في تلك الأمة ، وما دام أنه حصل فإنه سيحصل في هذه الأمة ؛ لأنه ما من خصلة من الشرك حصلت في الأمم قبلنا إلا وحصلت في هذه الأمة حتى ادعى بعض هذه الأمة أنه الله- جل وعلا- وأن الله يحل فيه ونحو ذلك ، بل قد ادعوا أن روح الإله تتناسخ في أناس معنيين كما هو اعتقاد طوائف من الباطنيين ونحو ذلك ، وهذا كما قال -عليه الصلاة والسلام- : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة » .(41/408)
قوله : (سنن) يروى بضم السين وفتح النون ، وهو : جمع سنة ، وهي . الطريقة ، يعني كأنه قال : لتتبعن طرائق من كان قبلكم يعني في الدين . ويروى بفتح السين والنون معا ، وهو على هذه الرواية مفرد ، ومعناه : السبيل والطريق ، يعني : لتتبعن سبيل من كان قبلكم .
واللام في قوله : " لتتبعن " هي الواقعة في جواب القسم ، فيفهم من ذلك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أقسم على ذلك ، فقال مؤكدا : والله لتتبعن سنن من كان قبلكم .(41/409)
وإنما أقسم -عليه الصلاة والسلام- ليؤكد هذا الأمر تأكيدا عظيما ، وأن هذه الأمة ستتبع- لا محالة- طريق وسبيل من كان قبلها من الأمم ، وهذا تحذير لأن الأمم السالفة إما أن يكونوا من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، وهؤلاء قد وصفهم الله- جل وعلا- بأنهم مغضوب عليهم وضالون ، فإذا اتبعت هذه الأمة سبيلهم ، فمعنى ذلك أنها تعرضت للغضب واللعنة ، وقد وجد في هذه الأمة من سلك سبيل اليهود ، ومن سلك سبيل النصارى ؛ ولهذا قال بعض السلف : من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى ؛ لأن اليهود خالفوا على علم ، والنصارى خالفت على ضلالة وقد قال- جل وعلا- : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة : 7 ] والمغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم "(41/410)
قوله : " حذو القذة بالقذة " أي : مثلا بمثل ، وهو مثل للشيئين يستويان ، ولا يتفاوتان ، مأخوذ من قذة السهم ، وهي أذنه ؛ لأن كل قذة تقر على صاحبتها ، ثم تقطع على قياسها ، فلا يكون بينها تفاوت . وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فحصل في هذه الأمة مثل ما حصل في الأمم قبلنا في أبواب الربوبية ، وفي أبواب الإلهية ، وفي الأسماء والصفات ، وكذلك في العمل ، وفي السلوك ، وكذلك القول في أفعال الله- جل وعلا- فكل شيء كان فيمن قبلنا جاء ووقع في هذه الأمة ، نسأل الله- جل وعلا- السلامة والعافية .(41/411)
قوله : « حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال : " فمن؟ » أخرجاه (1) " : وجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة ، بل عماد هذا الباب على هذا الحديث من أن كل كفر وشرك وقع في الأمم السالفة فسيقع في هذه الأمة ، فإن الأمم السالفة عبدت الأوثان وكفرت بالله- جل وعلا- وسيقع في هذه الأمة من يعبد الأوثان ومن يكفر بالله- جل وعلا- في الربوبية وفي الإلهية وفي الأسماء والصفات وفي أفعال الله- جل وعلا- وفي الحكم والتحاكم ، وهكذا في أنواع كثيرة مما حصل فيمن قبلنا حتى في أمور السلوك والبدع ، بل حتى في أمور الأخلاق والعادات التي تتصل بالدين فإنه سلكت هذه الأمة مسلك الأمم قبلها مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم .
ووجه الاستشهاد من حديث ثوبان -وهو حديث طويل- قوله -عليه الصلاة والسلام- : « وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين » والأئمة المضلون هم الذين اتخذهم الناس أئمة ، إما من جهة الدين ، وإما من جهة ولاية الحكم .
_________
(1) يعني البخاري ومسلم .(41/412)
والأئمة المضلون يملكون زمام الناس ، فيضلون الناس بالبدع وبالشركيات ، ويحسنونها لهم حتى تغدو في أعينهم حقا ، وكذلك أصحاب النفوذ وأصحاب الحكم فإنهم إذا كانوا مضلين فإن بيدهم الأمر الذي يجعلهم يفرضون على الناس أمورا ويلزمونهم بأشياء مضادة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم من أمور العقيدة والتوحيد ، ومن أمور السلوك والعمل ، ومن أمور الحكم والتحاكم ، وهكذا وقع في هذه الأمة ما خاف منه -عليه الصلاة والسلام- ، فكثر الأئمة المضلون في الأمة : الأئمة المضلون من جهة الاتباع ، والأئمة المضلون من جهة الطاعة .
قوله : « وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان » : هذا نص صحيح من رواية البرقاني في صحيحه . فهل المراد من قوله : « حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين » أن هذا الحي يترك بلاد المسلمين ، ويذهب إلى أرض المشركين؟ أو أنه يلحق بالمشركين في الصفات والخصال؟ يحتمل هذا وهذا .(41/413)
قوله : « وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان » الفئام ، هي الجماعات الكبيرة ، وهذا ظاهر المناسبة لقول الشيخ -رحمه الله- في الباب " باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان " .
قوله -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث . « ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى » هذه الطائفة المنصورة هي التي قال فيها -عليه الصلاة والسلام- في حديث آخر .
« ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق » ، وهي التي قال فيها -عليه الصلاة والسلام- : « وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة » فالطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية وهي الجماعة بجمع أحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- . وسميت منصورة ؛ لأن الله- جل وعلا- نصرها على من ناوأها بالحجة والبيان ، ونصرها الذي وعدت به ليس نصرا بالسنان ، ولكنه نصر بالحجة والبيان ، فهم وإن هزموا في بعض المعارك أو أديلت دولتهم في بعض الأحيان فهم الظاهرون على من سواهم بالحجة والبيان ، وهم المنصورون بما أعطاهم الله- جل وعلا- من الحجة والنصوص والصواب والحق على من سواهم . فهم على الحق وسواهم على الباطل .(41/414)
وهذان اللفظان- فرقة ناجية ، وطائفة منصورة- اسمان لشيء واحد ، وإنما هو من باب تنوع الصفات فقال عنها الطائفة المنصورة هنا « لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة » ؛ لأنها موعودة بالنصر كما قال- جل وعلا- : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر 51 ] وكما قال أيضا : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ }{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ }{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات : 171-173 ] ، فقولهم هو المنصور وهو الظاهر وحجتهم هي الظاهرة ، وقد يكون أيضا لهم من النصر والتمكين في أرض الله ما أعطاهم الله- جل وعلا- من ذلك .
وهم أيضا الفرقة الناجية التي جاءت في حديث الافتراق ، لأنها موعودة بالنجاة من النار ، فهم موصوفون بالنصر ، وموصوفون بالنجاة من النار ، وموصوفون بالنصر على عدوهم بالحجة والبيان ، وقد يكون مع ذلك نصر بالسيف والسنان ونحو ذلك .(41/415)
"باب ما جاء في السحر"
وقول الله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } [البقرة : 102] وقوله { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء : 51] .
قال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان . وقال جابر : الطواغيت : كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اجتنبوا السبع الموبقات " ، قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » (1) .
وعن جندب مرفوعا : « حد الساحر ضربه بالسيف » رواه الترمذي (2) وقال : الصحيح أنه موقوف . وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال : كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال : فقتلنا ثلاث سواحر (3) .
وصح عن حفصة -رضي الله عنها- أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت (4) ، وكذلك صح عن جندب ، قال أحمد : عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فيه مسائل : الأولى : تفسير آية البقرة .
_________
(1) أخرجه البخاري (2766) و (5764) و (6857) ومسلم (89) .
(2) أخرجه الترمذي (1460) .
(3) أخرجه البخاري (3156) .
(4) أخرجه مالك في « الموطأ » (46) بلاغا ، ووصله عبد الرزاق 15 / 180 .(41/416)
الثانية : تفسير آية النساء .
الثالثة : تفسير الجبت والطاغوت ، والفرق بينهما .
الرابعة : أن الطاغوت قد يكون من الجن ، وقد يكون من الإنس .
الخامسة : معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي .
السادسة : أن الساحر يكفر .
السابعة : أنه يقتل ولا يستتاب .
الثامنة : وجود هذا في المسلمين على عهد عمر فكيف بعده !
الشرح :
هذا " باب ما جاء في السحر " ومناسبة ذكر السحر لكتاب التوحيد . أن السحر نوع من الشرك ، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- : « من سحر فقد أشرك » ، فالسحر أحد أنواع الشرك الأكبر بالله- جل وعلا- فمناسبته ظاهرة ، لأنه مضاد لأصل التوحيد .
والسحر في اللغة هو : عبارة عما خفي ولطف سببه ، ومعنى خفي : صار سبب ذلك الشيء خفيا لا يقع بظهور ، وإنما يقع على وجه الخفاء ؛ ولهذا سمي آخر الليل سحرا لذلك ، وكذلك قيل في أكلة آخر الليل سحور وذلك لأنها تقع على وجه الخفاء وعدم الاشتهار والظهور من الناس .(41/417)
فهذه اللفظة (سحر) وما اشتقت منه تدل على خفاء في الشيء ؛ ولهذا فإنه في اللغة يطلق السحر على أشياء كثيرة ، منها ما يكون من جهة المقال ، ومنها ما يكون من جهة الفعل ، ومنها ما يكون من جهة الاعتقاد ، وسيأتي في هذا الباب وفي الباب الذي بعده " باب بيان شيء من أنواع السحر" ما يتصل بذلك .
وأما السحر الذي هو كفر وشرك أكبر بالله - جل وعلا - فهو استخدام الشياطين والاستعانة بها لحصول أمر بواسطة التقرب لذلك الشيطان بشيء من أنواع العبادة .
والسحر عرفه الفقهاء بقولهم : رقى وعزائم وعقد ينفث فيها فيكون سحرا يضر حقيقة ، ويمرض حقيقة ، ويقتل حقيقة . فحقيقة السحر إذا : أنه استخدام للشياطين في التأثير ، ولا يمكن للساحر أن يصل إلى إنفاذ سحره حتى يكون متقربا إلى الشياطين ، فإذا تقرب إليها خدمته شياطين الجن بأن أثرت في بدن المسحور ، فلكل ساحر خادم من الشياطين يخدمه ، ولكل ساحر مستعان به من الشياطين ، فلا يمكن للساحر أن يكون ساحرا على الحقيقة إلا إذا تقرب إلى الشياطين ؛ ولهذا فإن السحر شرك بالله- جل وعلا- .(41/418)
وهناك شيء قد يكون في الظاهر أنه سحر ، ولكنه في الباطن ليس بسحر ، وهذا ليس الكلام فيه ، وإنما الكلام فيما كان من السحر بالاستعانة بالشياطين ، وباستخدام الرقى والتعويذات والعقد والنفث فيها ، وقد قال - جل وعلا- : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [الفلق : 4] والنفاثات : هن السواحر اللاتي يعقدن العقد وينفثن فيها ، خصت الإناث بالاستعاذة منهن ؛ لأن الغالب في السحر أن الذي يستخدمه النساء ، فجرى ذلك لمجرى الغالب ، والنفاثات : جمع نفاثة ، صيغة مبالغة من النفث ؛ لأنها تكثر النفث في العقدة برقى وتعازيم وتعويذات ، تستخدم فيها الجن لتخدم هذه العقدة التي فيها شيء من بدن المسحور ، أو فيها شيء يتعلق بالمسحور حتى يكون ذلك مؤثرا فيه . وقد سحر يهودي النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة ، يعني : في أشياء من شعره -عليه الصلاة والسلام- حتى يخيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الشيء ولا يفعله من جهة نسائه -عليه الصلاة والسلام- ، فقد كان سحر ذلك اليهودي مؤثرا في بدنه -عليه الصلاة والسلام- ، لكنه لم يكن مؤثرا في علمه ، ولا في عقله ، ولا في روحه -عليه الصلاة والسلام- ، وإنما في بدنه يخيل إليه(41/419)
أنه قد واقع نساءه وهو لم يواقع ونحو ذلك .
وهذا السحر الذي فيه استخدام الشياطين شرك وكفر بالله- جل وعلا- ، كما قال سبحانه : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [البقرة : 102] والذي تلته الشياطين على ملك سليمان هو ما قرؤوه في كتاب السحر وما يتصل بذلك من عمل السحر ، قال- جل وعلا- . { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [البقرة : 102] فعلل كفر الشياطين بقوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [البقرة : 102] قال- سبحانه- : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } .(41/420)
وتعلم السحر وفهم كيف يكون ، وكيف يعمل السحر ، كل هذا لا يمكن أن يكون إلا بالكفر والشرك ، لكن هناك مراتب : إحداها : أن يتعلم ذلك نظريا ولا يعمله ، والثانية : أن يتعلمه ويعمله ولو مرة ، وهناك مرتبة الساحر الذي يتعلم ويعمل به دائما فما حكم هذه المراتب؟ قال- جل وعلا- : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } [البقرة : 102] ، فدل على أن تعلمه بمجرده كفر ، ولهذا نقول : الصحيح أن تعلم السحر- ولو بدون عمل- شرك وكفر بالله- جل وعلا- بنص الآية ، لأنه لا يمكن أن يتعلم السحر إلا بتعلم الشرك بالله- جل وعلا- وكيف يشرك ، وإذا تعلم الشرك فهو مشرك بالله- جل وعلا- .
وبعض العلماء يقول : السحر قسمان : - كقول الشافعي وغيره- منه ما يكون بالاستعانة بالشياطين فهذا كفر وشرك أكبر ، ومنه ما يكون بالأدوية والتدخينات فهذا فسق ومحرم ولا يكفر فاعله إلا إذا استحله .(41/421)
وهذا التقسيم من الشافعي ومن تبعه ، هو من جهة الواقع ، يعني : نظروا في الذين يمارسون ذلك ، فمنهم من يقول إنه ساحر وليس كذلك من حيث النظر الشرعي يعني : أنه ليس السحر الذي وصف في الشرع ، فيقول : هو ساحر ، وهو يستخدم أدوية وتعويذات ، وفي الحقيقة هو مشعوذ ، ولا يصدق عليه اسم الساحر ، وهذا فيما يفعل يؤثر عن طريق الأدوية .
وأما الصرف والعطف ، يعني : جلب محبة امرأه لزوجها ، أو صرف محبة المرأة لزوجها ، أو العكس ، فهذا من القسم الأول ؛ لأنه من نواقض الإسلام ، فالسحر من نواقض الإسلام ؛ لأنه شرك بالله ومنه الصرف والعطف ؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى روح وقلب من يراد صرفه أو العطف إليه إلا بالشرك ؛ لأن الشيطان هو الذي يؤثر على النفس ولن يخدم الشيطان الإنسي الساحر إلا بعد أن يشرك بالله- جل وعلا- .(41/422)
فتحصل أن السحر بجميع أنواعه فيه استخدام للشياطين واستعانة بها ، والشياطين لا تخدم إلا من تقرب إليها بالذبح ، أو بالاستغاثة ، أو بالاستعاذة ، ونحو ذلك . يعني أن يصرف إليها شيئا من أنواع العبادة ، بل قد نظرت في بعض كتب السحر ، فوجدت أن الساحر- بحسب ما وصف ذلك الكاتب- لا يصل إلى حقيقة السحر ، وتخدمه الجن كما ينبغي ، حتى يهين القرآن ، ويهين المصحف ، وحتى يكفر به ، ويسب الله- جل وعلا- ونبيه صلى الله عليه وسلم ، وهذا قد ذكره بعض من اطلع على حقيقة الحال .
فالسحر إذًا شرك بالله تعالى ، وكل ساحر مشرك . وقتل الساحر- فيما سيأتي- على الصحيح أنه قتل ردة ، لا قتل تعزير ، فالشيخ -رحمه الله- عقد هذا الباب " باب ما جاء في السحر" لبيان تلك المسألة .(41/423)
" وقول الله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } [البقرة : 102] " . وجه الاستدلال بهذه الآية قوله : { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } يعني : ما له في الآخرة من نصيب ، والخلاق هو : النصيب . وقوله : { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } يعني : اشترى السحر ، والاشتراء : أن يأخذ شيئا ويدفع عوضه ، فحقيقة الشراء أن تشتري سلعة مثلا وتدفع ثمنها ، فتأخذ مثمنا وتدفع ثمنه . والساحر ومن تعلم السحر اشترى السحر . أي : أخذ السحر ، وبذل توحيده عوضا ، فالثمن هو التوحيد ، والإيمان بالله وحده ، والمثمن هو السحر ؛ ولهذا قال- جل وعلا- هنا : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ } يعني : من دفع دينه عوضا عن ذلك الشيء الذي أخذه وهو السحر { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } يعني : من نصيب ، وهكذا المشرك ليس له في الآخرة من نصيب ، فوجه الاستدلال ظاهر في أن الساحر قد جعل دينه عوضا عن ذلك الذي اشتراه وتعلمه وعمل به .(41/424)
" وقوله : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء : 51] قال عمر : الجبت السحر " وهذا في ذم أهل الكتاب ، فإن أهل الكتاب لما آمنوا بالسحر ذمهم الله- جل وعلا- ولعنهم وغضب عليهم ، لأنه يكثر السحر واستعماله فيهم ؛ فذمهم الله- جل وعلا- بسبب ذلك ، وإذا كان الله ذمهم ولعنهم وغضب عليهم لأجل ذلك ، فهذا يفيد أنه من المحرمات ومن الكبائر ، وإذا كان فيه إشراك بالله- جل وعلا- فظاهر أنه شرك بالله- جل وعلا- .
قوله : " والطاغوت : الشيطان " يعني : أن الجبت اسم عام يشمل أشياء كثيرة- كما تقدم- ومن أبرزها وأظهرها عند اليهود السحر ، فيؤمنون بالجبت يعني بالسحر ؛ لأنه هو أظهر الأشياء عندهم ، ويؤمنون بالطاغوت يعني بالشيطان ، وهو كل ما توجهوا إليه بالطاعة ، وبعد عن الحق ، وعن الصواب .
" قال : جابر (1) : الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد " : وهذا يأتي بيانه في " باب ما جاء في الكهان " .
_________
(1) يعني ابن عبد الله.(41/425)
" وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اجتنبوا السبع الموبقات" ، قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر » وجه الاستدلال من ذلك : أن السحر من الموبقات ، والموبقات : هي التي توبق صاحبها ، وتجعله في هلاك وخسار في الدنيا وفي الآخرة ، وهذه السبع أكبر الكبائر ، وعطف السحر على الشرك بالله ليس عطفا بين متغايرين في الحقيقة ، وإنما هو عطف بين خاص وعام ، فالشرك بالله يكون بالسحر ويكون بغيره ، فعطف السحر على الشرك للتنصيص عليه ، والسحر- كما ذكرنا- أحد أفراد الشرك بالله- جل وعلا- وعطف الخاص على العام أمثلته كثيرة منها قوله- جل وعلا- : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } فعطف جبريل وميكال على الملائكة ، وهما منهم ، من باب عطف الخاص على العام .(41/426)
قوله : " وعن جندب مرفوعا : « حد الساحر ضربه بالسيف » رواه الترمذي ، وقال : الصحيح أنه موقوف " روي هكذا" ضربه " وهو الأصح ، وروي " ضربة" فحد الساحر قتله بالسيف ، وعلى رواية" ضربة" لا يكون لها مفهوم ، يعني : إن مات بضربة أو يضرب ضربتين أو ثلاثا حتى يموت لأن العدد لا مفهوم له .(41/427)
قوله . " حد الساحر" هنا لم يفرق بين ساحر وساحر ، ولم يأت في أدلة الكتاب والسنة التفصيل في اسم الساحر الذي يحد ، أو الذي وصف بالكفر بين نوع ونوع من التأثير ، فالأنواع التي يستخدمها السحرة مما يصدق عليها أنها سحر في التأثير ، وفي الإمراض ، وفي التفريق ، وفي التأثير على العقول وعلى القلوب ، ونحو ذلك من أنواع التأثير الخفي الذي يكون باستخدام الشياطين أو بأمور خفية ، فهذا كله لا يفرق فيه بين فاعل وفاعل ، والأدلة ما فرقت ؛ فلهذا قال العلماء : الصحيح أن الساحر من أي نوع حده أن يقتل ، وهل حده حد كفر وردة ، أو حد لأجل أنه قتل ، فيكون حد لأجل القتل ، أو حد تعزير؟ اختلف العلماء في ذلك . والصحيح من هذه أنه في الجميع حد ردة ؛ لأن حقيقة السحر أنه لا بد أن يكون فيه إشراك بالله- جل وعلا- فمن أشرك بالله- جل وعلا- فقد ارتد وحل دمه وماله .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل يقول فيه ما مقتضاه : إن الساحر قد لا تدرك حقيقة سحره فيترك أمره في قتله إلى الإمام ، إذا رأى المصلحة في قتله قتله ، وإن لم ير المصلحة في قتله لم يقتله ، ويعني بالمصلحة المصلحة الشرعية ، فتحصل من ذلك أن الأقوال في حد الساحر هي :(41/428)
الأول : أنه يقتل مطلقا ردة ؛ لأنه لا يكون السحر إلا بشرك .
والقول الثاني : أنه يقتل ردة إذا كان سحره بشرك ، ويقتل حدا إذا كان سحره أدى إلى قتل غيره بغير ما فيه إشراك ، من مثل الأدوية ، والتعويذات ، ونحو ذلك مما ذكرنا .
والثالث : القول الذي عزي إلى شيخ الإسلام : من أنه كالزنديق يترك أمره إلى الإمام بحسب ما يراه ، إن رأى المصلحة الشرعية في قتله قتله ، وإلا عاقبه بما دون القتل .
قوله : " وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبده قال : كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال : فقتلنا ثلاث سواحر" هذا ظاهر في الأمر بقتل الساحر والساحرة بدون تفصيل ؛ ولأن حقيقة السحر لا تكون إلا بشرك بالله- جل وعلا- وذلك ردة .
قوله : "وصح عن حفصة -رضي الله عنها - أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ، فقتلت ، وكذلك صح عن جندب ، قال أحمد : عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " .(41/429)
يعني أن الساحر يجب أن يقتل وهذا حده سواء قلنا : إنه يقتل لحد الردة ، أو يقتل لحد القتل ، أو يقتل تعزيرا ، فالصحابة -رضوان الله عليهم- أفتوا بقتله ، وأمروا بقتله ، وذلك بدون تفريق ، وهذا هو الواجب ألا يفرق بين نوع ونوع ، والواجب على المسلمين أن يحذروا السحر بأنواعه ، وأن يتعاونوا في الإبلاغ عن كل من يعلمون عنده شعوذة ، أو استخداما لشيء من الخرافات ، أو السحر ، ونحو ذلك ، إبراء للذمة ، وإنكارا للمنكر ؛ لأنه كما قال الأئمة : ما دخل السحرة إلى بلد إلا فشا فيها الفساد ، والظلم ، والاعتداء ، والطغيان ؛ ذلك لأنهم يستخدمون الشياطين ، فتطيع الشياطين السحرة ، أعاذنا الله منهم ، ومن أقوالهم ، وأعمالهم وتأثيراتهم .(41/430)
" باب بيان شيء من أنواع السحر "
قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عوف بن مالك قال : حدثنا قطن بن قبيصة ، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن العيافة ، والطرق ، والطيرة من الجبت » .
قال عوف : العيافة زجر الطير . والطرق : الخط يخط بالأرض ، والجبت : قال الحسن : رنة الشيطان . إسناده جيد . (1) ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه (2) وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » . رواه أبو داود ، وإسناده صحيح (3) .
وللنسائي من حديث أبي هريرة : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه " (4) وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا هل أنبئكم ما العَضْه؟ هي النميمة القالة بين الناس » رواه مسلم (5) .
ولهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن من البيان لسحرا » (6) .
فيه مسائل : الأولى : أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت .
الثانية : تفسير العيافة والطرق .
الثالثة : أن علم النجوم نوع من السحر .
_________
(1) أخرجه أحمد 3 / 477 و 5 / 60 .
(2) أخرجه أبو داود (3907) وابن حبان 7 / 646 وحسنه النووي .
(3) أخرجه أبو داود (3905) .
(4) أخرجه النسائي 7 / 112 .
(5) أخرجه مسلم (2606) .
(6) أخرجه البخاري (5146) و (5767) وأحمد 2 / 16 و 59 و 63 و 94 .(41/431)
الرابعة : العقد مع النفث من ذلك .
الخامسة : أن النميمة من ذلك .
السادسة : أن من ذلك بعض الفصاحة .
الشرح :
هذا " باب بيان شيء من أنواع السحر " . لما ذكر الإمام -رحمه الله تعالى- ما جاء في السحر ، وما اتصل بذلك من حكمه وتفصيل الكلام فيه ، ذكر أن السحر قد يأتي في النصوص ، ولا يراد منه السحر الذي يكون بالشرك بالله- جل وعلا- ، فإن اسم السحر عام في اللغة ، يدخل فيه ذلك الاسم الخاص الذي فيه استعانة بالشياطين والتقرب إليها وعبادتها لتخدم الساحر ، ويدخل فيها أمور أخرى يطلق عليها الشارع أنها سحر ، وليست كالسحر الأول في الحقيقة ولا في الحكم ، وهو درجات .
فمما يسمى سحرا : البيان ، كما جاء في آخر الباب " إن من البيان لسحرا" والبيان ليس سحرا فيه استعانة بالشياطين ، ولكنه داخل في حقيقة السحر اللغوية ؛ لأن له تأثيرا خفيا على القلوب ، فإن الرجل البليغ البيان ، وذا الإيضاح ، وذا اللسان الفصيح يؤثر في القلوب حتى يسبيها ، وربما قلب الحق باطلا والباطل حقا ببيانه ، فسمي سحرا لخفاء وصوله إلى القلوب وقلب الرأي وفهم المخاطب من شيء إلى آخر .(41/432)
وكذلك ما ذكر من أن الطيرة من السحر ، فالطيرة نوع اعتقاد ، وكذلك العيافة وهي شبيهة بها أو بعض أنواعها ، كذلك الخط في الرمل ، ونحو ذلك ، من الأشياء التي ربما أطلق عليها أنها سحر وهي ليست كالسحر الأول في الحد والحقيقة ولا في الحكم .
ولهذا عقد الإمام -رحمه الله- هذا الباب ، لبيان شيء من أنواع السحر ؛ لأن من أنواع السحر ما هو شرك أكبر بالله- جل وعلا- ، وهو المراد إذا أطلق السحر ، وهذه هي الحقيقة العرفية ، ومنه ما ليس شركا أكبر .
وفي ألفاظ الشرع أمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة اللغوية ، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة العرفية ، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية . ومن ذلك هذا الباب ، فإن فيه ما يطلق عليه- لغة- أنه سحر ، وفيه ما يطلق عليه- عرفا- أنه سحر ، وما يطلق عليه شرعا- أنه سحر .
والتفريق بين هذه الأنواع مهم ؛ ولهذا ذكر الإمام هذا الباب حتى تفرق بين نوع وآخر ، فالحد الذي فيه " حد الساحر ضربه بالسيف " لا ينطبق على كل هذه الأنواع التي ستذكر ؛ لأنها سحر لغة وليست بسحر شرعا .
قوله في الحديث الأول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن العيافة ، والطرق ، والطيرة من الجبت » .(41/433)
العيافة : مأخوذة من عياف الشيء ، وهو تركه ، عاف الشيء يعافه ، إذا تركه ، فلم تبغه نفسه ، وهي كما فسرها عوف : زجر الطير- وهذا أحد تفسيرات العيافة- وزجر الطير : أن يحرك طيرا حتى ينظر إلى أين تتحرك ، ثم يفهم من ذلك الزجر أن هذا الأمر الذي سيقدم عليه أمر محمود أو أمر مذموم ، أو يطلع بحقيقة زجر الطير على مستقبل الحال ، فهذا نوع من الجبت ، وهو السحر ؛ لأن من معاني (الجبت)- كما تقدم- الشيء المرذول المطرح الذي يصرف الواحد عن الحق . والسحر : شيء خفي يؤثر في النفوس ، والعيافة من التأثر بالطير وبزجرها وبانتقالها من هنا إلى هنا أو بحركتها شيء خفي دخل في النفس فأثر فيها من جهة الإقدام أو الكف ، فكانت نوعا من السحر لأجل ذلك ، وهي- أيضا- جبت ؛ لأنها شيء مرذول أدى إلى الإقبال أو الامتناع . والطيرة أعم من العيافة ؛ لأن العيافة- على تفسير عوف وهو أحد تفسيراتها- متعلقة بالطير وحده ، وأما الطيرة فهي : اسم عام لما فيه تشاؤم أو تفاؤل بشيء من الأشياء ، وسيأتي باب مستقل لذكر أحكام الطيرة ، وصورتها ، وما يقي منها ، - إن شاء الله تعالى- .(41/434)
وحقيقة الطيرة : أنه يرى شيئا من الطير ، تحرك يمينا أو يسارا ، فإن رآه تحرك يمينا ، تفاءل به ، واعتقد أنه سينجح في هذا العمل أو في هذا السفر ، وإن رآه تحرك شمالا قال : هذا معناه أني سأتضرر في هذا السفر ، أو سيصيبني مكروه فرجع . وقد قال -عليه الصلاة والسلام- . " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " (1) .
وقد يتشاءم بحركة شيء ، أو بكلمة يسمعها ، أو بشيء في الجو ، أو بتصادم سيارة أمامه ، أو بسواد في الجو حصل أمامه أو في ذلك اليوم الذي سينتقل فيه ، أو يتشاءم بشيء حصل له في أول زواجه ، ونحو ذلك من أنواع التشاؤم ، كالتشاؤم بالأشهر ، أو بالأيام ، هذا كله من أنواع الطيرة .
ولا يكون طيرة إلا إذا رده عن حاجته ، أو جعله يقبل إلى حاجته ، فإذا تشاءم ، وحمله ذلك التشاؤم على أن يقدم أو يحجم فإنه يكون متطيرا .
وكذلك في باب التفاؤل إذا رأى شيئا ، فجعله ذلك الشيء يقدم ، ولولا ذلك الشيء الذي رآه ما أقدم ، فإن ذلك أيضا من الطيرة وهي نوع من أنواع التأثيرات الخفية على القلوب ، وذلك ضرب من السحر .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 220 .(41/435)
وأما الطرق : فهو مأخوذ من وضع طرق في الأرض ، وهي الخطوط ، فيأتي بخطوط متنوعة يخطها في الأرض ، ليس لها عدد ، ثم يبدأ الكاهن الذي يستخدم الخطوط فيمسح خطا خطا أو يمسح خطين خطين بسرعة ، ثم ينظر ما بقي ، فيقول : هذا الذي بقي يدل على كذا وكذا ، وأنك ستغتني ، أو يدل على أنه سيصيبك كذا وكذا ، ونحو ذلك ، وهو نوع من أنوع الكهانة ، والكهانة ضرب من السحر .
قال هنا : " والطرق : الخط يخط بالأرض ، والجبت : قال الحسن : رنة الشيطان " . وهو من أنواع السحر ؛ لأن الشيطان يدعو إلى ذلك بصوته وبعويله .
قوله : وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » (1) .
رواه أبو داود بإسناد صحيح . في هذا الحديث بيان أن تعلم النجوم تعلم للسحر ، ويأتي في باب خاص " باب ما جاء في التنجيم " أنواع تعلم النجوم وما جعل الله- جل وعلا- النجوم له .
_________
(1) أخرجه أبو داود (3905) بلفظ «من اقتبس علما . . . » الحديث والإمام أحمد في المسند (2000) وابن ماجه (3726) .(41/436)
قوله : " من اقتبس شعبة" : يعني من تعلم بعضا من علم النجوم ؛ لأن الشعبة هي : الطائفة من الشيء ، أو جزء من أجزائه ، فكل جزء من أجزاء علم النجوم الذي هو علم التأثير نوع من أنواع السحر ، قال . " فقد اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد" يعني : كلما زاد في تعلم علم النجوم زاد في تعلم السحر ، حتى يصل إلى آخر حقيقة علم التأثير كما يسمونه ، فيصبح سحرا وكهانة على الحقيقة ، ويأتي أن التنجيم منه علم التأثير وهو جعل الكواكب والنجوم في حركتها والتقائها وافتراقها وطلوعها وغروبها مؤثرة في الحوادث الأرضية ، أو دالة على ما سيحدث في الأرض ، فيجعلونها دالة على علم الغيب ، ومنبئة على المغيبات ، وهذا القدر من السحر ؛ لأنه يشترك معه في حقيقته وهو أنه تأثير بأمر خفي .
قوله : " وللنسائي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - : « من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه » (1) .
_________
(1) أخرجه النسائي في السنن برقم (4084) .(41/437)
قوله : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر" يعني : أن عقد العقد والنفث فيها من أنواع السحر . والنفث المقصود به هنا : النفث الذي فيه استعاذة واستعانة بالشياطين ، فليس كل نفث في عقدة يعقد السحر ، بل لا بد أن يكون النفث بأدعية معينة ورقى شركية وتعويذات وكلام تحضر الجن عند تلاوته وتخدم هذه العقدة السحرية ، وهو ما كان يتعاطاه الناس المردة في زمان النبي -عليه الصلاة والسلام- من النفث في العقد ، كما قال- جل وعلا- : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } وهن السواحر .
قوله : " فقد سحر" أي يخدم هذا السحر بالنفث في العقدة ، وفائدة العقدة عند السحرة أنه لا ينحل السحر ما دامت معقودة ، فينعقد الأمر الذي أراده الساحر بشيئين : بالعقدة ، وبالنفث بالعقدة ، أي عقدة حبل أو خيط أو نحو ذلك ، وبالنفث فيها بالأدعية الشركية والاستعانة بالشياطين ، ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم في هذا الباب : أن العقد تارة تكون مرئية واضحة ، وتارة تكون صغيرة جدا .(41/438)
قوله : " ومن سحر فقد أشرك " هذا عام ؛ لأنه جعل الإشراك جزاء السحر ، بأسلوب الشرط والجزاء ، فكأنه قال : كل من سحر فقد أشرك ، يعني : سحر بذلك النحو الذي ذكر ، وهو أن يعقد عقدة ثم ينفث فيها ، و"من سحر فقد أشرك " وهذا دليل لما ذكرناه في الباب قبله ، من أن كل سحر يعد من أنواع الشرك ؛ لأنه لا يمكن أن يحدث السحر إلا بالنفث في العقد ، أو باستحضار الجني ، وبعبادة الجن ، ونحو ذلك ، وهذا شرك بالله .
قوله : " ومن تعلق شيئا وكل إليه " تقدم نظير هذا ، ومعنى هذا الحديث : أن القلب إذا تعلق بشيء- بمعنى أحبه- ورضيه وتعلق به ، فإنه يوكل إليه ، ويجعل هو السبب الذي من أجله يجيء نفعه أو يجيء ضره . ومعلوم أن كل الأسباب الشركية تعود على فاعلها أو على الراضي بها بالضرر لا بالنفع ، والعبد إذا تخلى عن الله- جل وعلا- ووكل إلى نفسه أو وكل إلى غير الله- جل وعلا- فقد خاب وخسر وضر أعظم الضرر ، فسعادة العبد وعظم صلاح قلبه ، وعظم صلاح روحه ، بأن يكون تعلقه بالله- جل وعلا- وحده .(41/439)
وقوله هنا : "ومن تعلق شيئا وكل إليه " دليل على أن من تعلق بالله فإن الله كافيه ، ومن تعلق قلبه بالله إنزالا لحوائجه بالله ، ورغبا فيما عند الله ، ورهبا مما يخافه ويؤذيه- يعني يؤذي العبد- فإن الله- جل وعلا- كافيه ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ، وإذا تعلق العبد بغير الله فإنه يوكل إلى ذلك الغير ، والعباد فقراء إلى الله ، والله- جل وعلا- هو ولي النعمة وولي الفضل ، قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } فمن أنزل حاجته بالله أفلح ، ومن تعلق قلبه بالله أفلح ، وأما من تعلق بالخرافات ، أو تعلق بالأمور الشركية كالسحر، وكالذهاب إلى الأولياء ، وطلب المدد منهم ، أو طلب الإغاثة منهم ، فإنه يوكل إلى المخلوق ، ومن يوكل إلى المخلوق فإنه يضره ذلك أعظم الضرر ، كما قال- جل وعلا- : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } [ الحج : 13] .
قوله : " وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا هل أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة القالة بين الناس » رواه مسلم (1) .
_________
(1) صحيح مسلم (2606) .(41/440)
قوله : العضه هكذا تروى في كتب الحديث (العَضْهُ) ، وفي كتب غريب الحديث واللغة تنطق هكذا (العِضَه) لأشباهها في وزنها ، وهي كما فسرها النبي -عليه الصلاة والسلام- : النميمة القالة بين الناس .
وأصل العضه في اللغة يطلق على أشياء ، منها السحر ، والنميمة والقالة بين الناس نوع من أنواع السحر ، وهي كبيرة من الكبائر ، ومحرم من المحرمات . ووجه الشبه بين النميمة وبين السحر : أن تأثير السحر في التفريق بين المتحابين ، أو في جمع المتفرقين ، تأثيره على القلوب خفي ، وهكذا عمل النمام ، فإنه يفرق بين الأحباب لأجل كلام يسوقه لهذا وكلام يسوقه لذاك ، فيفرق بين القلوب ويجعل العداوة والبغضاء بين قلب هذا وهذا ، كما قال - جل وعلا- عن السحر : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } [البقرة : 102] ، والنميمة هي القالة بين الناس ، وهي من أنواع السحر ، وكبيرة من الكبائر ، والكبائر من أعظم الذنوب العملية .
" ولهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن من البيان لسحرا » (1) .
_________
(1) رواه البخاري (5146) ومسلم (2009) .(41/441)
المقصود بالبيان هنا : التبيين عما في النفس بالألفاظ الفصيحة البينة التي تأخذ المسامع والقلوب ، فتسحر القلوب ، فربما قلبت الحق باطلا ، والباطل حقا ، حتى يغدو قول ذلك الذي يعد من أهل البيان والفصاحة هو الحق ، وأن ما لم يقله أو رده هو الباطل- في الظاهر ، وفي ظن سامعيه- ، وهذا ضرب من السحر ؛ لأنه تأثير في النفوس بالألفاظ ، وقلب الحق باطلا ، والباطل حقا ، فتأثيره خفي كتأثير السحر في الخفاء ؛ ولهذا قال . " إن من البيان لسحرا" .
والصحيح من أقوال أهل العلم : أن هذا ذم للبيان وليس مدحا له ، قال . "إن من البيان لسحرا" على جهة الذم ، وبعض أهل العلم يقول : إن ذاك على جهة المدح ؛ لأنه يصل في التأثير إلى أن يؤثر تأثيرا بالغا كتأثير السحر في النفوس ، والتأثير البالغ إذا كان من جهة البيان فإنه جائز ، وهذا من جهة المدح له ، وبيان عظم تأثيره . وهذا فيه نظر ، لأنه لما جعل البيان سحرا علمنا أنه أراد ذمه ؛ ولهذا أورده الشيخ -رحمه الله- في هذا الباب الذي اشتمل على أنواع من المحرمات .(41/442)
فالذي يستغل ما آتاه الله- جل وعلا- من اللسان والبيان والفصاحة في قلب الباطل حقا وفي قلب الحق باطلا ، هذا لا شك أنه من أهل الوعيد ومذموم على فعله ؛ لأن البيان : يقصد به نصرة الحق لا أن يجعل ما أبطله الله- جل وعلا- حقا في أنفس الناس وفي قلوبهم .(41/443)
" باب ما جاء في الكهان ونحوهم "
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال . « من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما » (1) . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال . « من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » رواه أبو داود (2) . وللأربعة والحاكم - وقال : صحيح على شرطهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » (3) . ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا .
(4) وعن عمران بن حصين مرفوعا . « ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » رواه البزار بإسناد جيد (5) .
ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله : " ومن أتى . . " إلى آخره (6) . ، قال البغوي : العراف : الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك .
_________
(1) أخرجه مسلم (2230) دون قوله « فصدقه بما يقول » .
(2) أخرجه أبو داود (3904) .
(3) أخرجه أحمد 2 / 429 والبيهقي 8 / 135 والحاكم 1 وصححه ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه أبو يعلى (8- 54) .
(5) أخرجه البزار (3044) .
(6) أخرجه الطبراني كما في « مجمع الزوائد » 5 / 117 وقال المنذري : إسناده حسن.(41/444)
وقيل : هو الكاهن ، والكاهن : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل ، وقيل : الذي يخبر عما في الضمير .
وقال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- : العراف اسم للكاهن ، والمنجم ، والرمال ، ونحوهم ، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - في قوم يكتبون "أبا جاد" وينظرون في النجوم : ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق .
فيه مسائل :
الأولى : لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن .
الثانية : التصريح بأنه كفر .
الثالثة : ذكر من تكهن له .
الرابعة : ذكر من تطير له .
الخامسة : ذكر من سحر له .
السادسة : ذكر من تعلم أبا جاد .
السابعة : ذكر الفرق بين الكاهن والعراف .
الشرح :
" باب ما جاء في الكهان ونحوهم " هذا الباب أتى بعد أبواب السحر " لأن حقيقة عمل الكاهن أنه يستخدم الجن لإخباره بالأمور المغيبة في الماضي ، أو الأمور المغيبة في المستقبل التي لا يعلمها إلا الله- جل جلاله- ، فالكاهن يجتمع مع الساحر في أن كلا منهما يستخدم الجن لغرضه ويستمتع بالجن لغرضه .(41/445)
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد : أن الكهانة استخدام للجن ، واستخدام الجن كفر وشرك أكبر بالله- جل وعلا- ؛ لأن استخدام الجن في مثل هذه الأشياء لا يكون إلا بأن يتقرب إلى الجن بشيء من العبادات ، فالكهان لا بد - لكي يُخدَموا بذكر الأمور المغيبة لهم- أن يتقربوا إلى الجني ببعض العبادات ، إما بالذبح ، أو الاستغاثة ، أو بالكفر بالله- جل وعلا- بإهانة المصحف ، أو بسب الله ، أو نحو ذلك من الأعمال الشركية الكفرية .
فالكهانة صنعة مضادة لأصل التوحيد ، والكاهن مشرك بالله- جل وعلا- ؛ لأنه يستخدم الجن ولا يمكن أن تخبره الجن بالمغيبات إلا إذا تقرب إليها بأنواع العبادات .
وكانت الكهانة منتشرة في بلاد العرب في الجزيرة وفي غيرها ، والكهان أناس يدعى فيهم الولاية والصلاح ، وأن عندهم علم ما مضى ، أو عندهم علم المغيبات التي ستحدث للناس ، أو تحدث في الأرض ؛ ولهذا كانت العرب تعظم الكهان وتخاف منهم ، وكانت العرب تعطي الكاهن أجرا عظيما لأجل ما يخبر عنه .(41/446)
والكاهن- كما ذكرنا- لا يصل إلى حقيقة عمله بأن يخبر عن الأمور المغيبة إلا باستخدام الجن ، والتقرب إليهم التقربات الشركية ، فتستمتع الجن به من جهة ما صرف لها من العبادة ، ويستمتع هو بالجني من جهة ما يخبره به من الأمور المغيبة .
والجن تصل إلى الأمور المغيبة التي تصدق فيها عن طريق استراق السمع ، فإن بعضهم يركب بعضا حتى يسمعوا الوحي الذي يوحيه الله- جل وعلا- في السماء ، فربما أدرك الشهابُ الجنيَّ قبل أن يلقي الكلمة لمن تحته ، وربما أدركه بعد أن يلقي الكلمة ، فتأتي هذه الكلمة للجن فيعطونها الكهان ، فيكذب معها الكاهن ، أو تكذب معها الجن مائة كذبة ، حتى يعظم شأن الكهان ، وحتى تعظم عبادة الإنس للجن .
وقبل بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- كان استراق السمع كثيرا جدا ، وبعد بعثته -عليه الصلاة والسلام- حرست السماء من أن تسترق الجن السمع ، لأجل تنزل القرآن والوحي ، حتى لا يقع الاشتباه في أصل الوحي والنبوة ، وبعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- رجع الاستراق ولكنه قليل بالنسبة لما كان عليه قبل البعثة ، فصارت عندنا أحوال استراق السمع ثلاثة .
1 - قبل البعثة : كثير جدا .(41/447)
2 - وبعد بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- : لم يحصل استراق من الجن ، وإن حصل فهو نادر في غير وحي الله- جل وعلا- بكتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم .
3 - بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- : رجع استراق السمع أيضا ، ولكنه ليس بالكثرة التي كانت قبل ذلك ؛ لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، والله- جل وعلا- بين ذلك في القرآن في آيات كثيرة من أن النجوم والشهب ترمي الجن كما قال- جل وعلا- : { إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } [الحجر : 118] ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الشهب مرصدة للجن .
إذا ظهر ذلك فالكاهن قد يطلق عليه العراف ، والكاهن والعراف اسمان متداخلان ، فقد يطلق أحدهما على الآخر ، وعند بعض الناس يطلق الكاهن على من يخبر بما يحصل في المستقبل ، ويطلق العراف على من يخبر عن الغائب عن الأعين مما حصل في الماضي من مثل مكان المسروق ، أو السارق من هو؟ ونحو ذلك مما هو غائب عن الأنظار وإنما يعلمه العراف بواسطة الجن .(41/448)
والصحيح في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية : من أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلمون في معرفة الأمور بتلك الطرق . فكل من تكلم في معرفة الأمور المغيبة الماضية أو المستقبلة بتلك الطرق طريق التنجيم ، أو الخط في الرمل ، بطريق الطرق ، أو بالودع ، ونحو ذلك من الأساليب ، أو بالخشبة المكتوب عليها أباجاد ، ونحو ذلك من قراءة الفنجان ، أو قراءة الكف ، كل من يخبر عن الأمور المغيبة بشيء يجعله وسيلة لمعرفة الأمور المغيبة يسمى كاهنا ، ويسمى عرافا ، لأنه لا يحصل له أمره إلا بنوع من أنواع الكهانة ، وسيأتي ذلك- إن شاء الله- .
قوله : " باب ما جاء في الكهان ونحوهم " و (نحوهم) . يعني من العرافين ، والمنجمين ، والذين يخطون في الرمل ، والذين يكتبون على الخشب ، ونحو ذلك .
قوله : " روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال . « من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لا تقبل له صلاة أربعين يوما » .(41/449)
هكذا ذكر المؤلف -رحمه الله- حديث الباب بهذا اللفظ وعزاه لمسلم ، وقد نبه الشراح على أن لفظه في مسلم : « من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما » بدون لفظة" فصدقه " أما لفظة" فصدقه " فقد رواها الإمام أحمد في مسنده . وعلى هذا فالمؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر هذا اللفظ ، وعزاه لمسلم على طريقة أهل العلم في عزو الحديث لأحد صاحبي الصحيح إذا كان أصله فيهما لاتحاد الطريق أو نحو ذلك .
قوله : « من أتى عرافا فسأله عن شيء لا تقبل له صلاة أربعين يوما » هذا الحديث فيه جزاء الذي يأتي العراف ويسأله ، فمن أتى عرافا فسأله عن شيء- ولو لم يصدقه- فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوما .
والمقصود من قوله : « لم تقبل له صلاة أربعين يوما » أنها تقع مجزئة لا يجب عليه قضاؤها ، ولكن لا ثواب له فيها ؛ لأن الذنب والإثم الذي اقترفه حين أتى العراف فسأله عن شيء ، يقابل ثواب الصلاة أربعين يوما ، فأسقط هذا هذا ، ويدل ذلك على عظم ذنب الذي يأتي العراف فيسأله عن شيء ولو لم يصدقه ، وهذا عند أهل العلم على حالتين :(41/450)
الحالة الأولى : من أتى العراف فسأله عن شيء رغبة في الاطلاع ، أما من أتى العراف فسأله للإنكار عليه وحتى يتحقق أنه عراف فلا يدخل في ذلك ؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد .
الحالة الثانية : أن يأتي العراف أو الكاهن فيسأله عن شيء ، فإذا أخبره الكاهن أو العراف صدقه بما يقول ، فالحديث الأول الذي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه . « لم تقبل له صلاة أربعين يوما » ، والحديث الثاني فيه أنه . « كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » فيتضح بالحديث أن الحالة الثانية- وهي من أتى العراف أو الكاهن فسأله عن شيء فصدقه- أنه يكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا تقبل له صلاة أربعين يوما .(41/451)
وهذه الحالة تدل على أن الذي أتى الكاهن أو العراف فصدقه ، أنه لم يخرج عن الملة ؛ لأنه حد -عليه الصلاة والسلام- عدم قبول صلاته بأربعين يوما ، والذي أتى الكاهن إذا حكم عليه بأنه كافر كفرا أكبر ومرتد وخارج من الملة فإن صلاته لا تقبل بتاتا حتى يرجع إلى الإسلام ، وقد قال طائفة من أهل العلم . دل قوله : « فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما » على أن قوله : « كفر بما أنزل على محمد » أنه كفر أصغر وليس بالكفر المخرج من الملة ، وهذا القول هو القول الأول ، وهو الصحيح ، وهو الذي يتعين جمعا بين النصوص ، فإن قول النبي -عليه الصلاة والسلام- . « من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما » يدل على أنه لم يخرج من الإسلام ، والحديث الآخر وهو قوله : « من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد » (1) . يدل على كفره ، فعلمنا بذلك أن كفره كفر أصغر ، وليس كفرا مخرجا من الملة ، هذا أحد الأقوال في مسألة كفر من أتى الكاهن فصدقه بما يقول .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 408-476 والبيهقي 8 / 135 والحاكم 1 / 8.(41/452)
والقول الثاني . أنه يتوقف فيه ، فلا يقال يكفر كفرا أكبر ، ولا يقال أصغر ، وإنما يقال : إتيان الكهان وتصديقهم كفر بالله- جل وعلا- ، ويسكت عن ذلك ، ويطلق القول كما جاء في الأحاديث ، وهذا لأجل التهديد والتخويف حتى لا يتجاسر الناس على هذا الأمر ، وهذا هو مذهب الإمام أحمد في المنصوص عنه .
والقول الثالث من أقوال أهل العلم : أن الذي يصدق الكاهن كافر كفرا أكبر مخرج من الملة وهذا القول فيه نظر من جهتين :
الجهة الأولى : ما ذكرنا من الدليل من أن قوله -عليه الصلاة والسلام- . « لم تقبل له صلاة أربعين يوما » يدل على أنه لم يكفر الكفر الأكبر ، ولو كان كفر الكفر الأكبر لم يحد عدم قبول صلاته بتلك المدة من الأيام .(41/453)
والجهة الثانية : أن تصديق الكاهن فيه شبهة ، وادعاء علم الغيب أو تصديق أحد ممن يدعي علم الغيب كفر بالله- جل وعلا- كفرا أكبر ، لكن هذا الكاهن الذي ادعى علم الغيب يخبر بالأمور المغيبة فيما صدق فيه عن طريق استراق الجن للسمع ، فيكون إذا هو نقل ذلك الخبر عن الجني ، والجن نقلوه عما سمعوه في السماء ، وهذه شبهة . فقد يأتي الآتي إلى الكاهن ويقول : أنا أصدقه فيما أخبر من الغيب ؛ لأنه قد جاءه علم ذلك الغيب من السماء عن طريق الجن ، وهذه الشبهة تمنع من تكفير من صدق الكاهن الكفر الأكبر .
فالقول الأظهر : أن كفره كفر أصغر وليس بأكبر ؛ لدلالة الأحاديث ؛ ولظهور التعليل في ذلك .
قوله . « فقد كفر بما أنزل على محمد » يعني القرآن ؛ لأنه قد جاء في القرآن وما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من السنة أن الكاهن ، والساحر ، والعراف لا يفلحون ، وأنهم يكذبون ولا يصدقون .
قوله : وعن عمران بن حصين مرفوعا : « ليس منا من تطير أو تطير له » يأتي في باب ما جاء في التطير .(41/454)
قوله : " ليس منا" يدل على أن الفعل محرم ، ويقول بعض أهل العلم . إن قوله -عليه الصلاة والسلام- . " ليس منا" يدل على أنه من الكبائر ، قوله : " أو تكهن " يعني ادعى علم الغيب وادعى أنه كاهن ، أو أخبر بأمور من المغيبة يخدع من رآه بأنه كاهن . قوله : " أو تكهن له " يعني : من رضي أن يتكهن له فأتى فسأل عن شيء . قوله : " أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " (1) .
وهذا كله لأجل أن تصديق الكاهن فيه إعانة له على الشرك الأكبر بالله- جل وعلا- ، هذا حكم الذي يأتي الكاهن .
أما الكاهن فذكرنا حكمه ، وهو أنه مشرك بالله الشرك الأكبر ؛ لأنه لا يمكن له أن يخبر بالأمور المغيبة إلا بأن يشرك .
قوله : " قال البغوي : العراف : الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ، ومكان الضالة ، ونحو ذلك .
هذا الذي ذكرنا من أن العراف عند بعض أهل العلم من يخبر بأمور سبقت لكنها خفية غيبية عن الناس ، لكنها من حيث الوجود وقعت في ملكوت الله .
قوله : " وقيل : هو الكاهن " يعني أن العراف والكاهن اسمان لشيء واحد .
_________
(1) أخرجه البزار في المسند (3044) .(41/455)
" والكاهن" : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل ، وقيل : الذي يخبر عما في الضمير ، وقال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- : العراف اسم للكاهن ، والمنجم ، والرمال ، ونحوهم " . المنجم : هو الذي يستخدم علم التنجيم والتأثير يقول : إذا ظهر نجم كذا والتقى بنجم كذا فمعناه أنه سيحدث كذا وكذا ، أو إذا ولد لفلان ولد في برج كذا فإنه سيحصل كذا وكذا له من الغنى ، والفقر ، أو السعادة ، أو الشقاوة ، ونحو ذلك ، فيستدلون بحركة النجوم على حال الأرض وحال الناس فيها وسيأتي تفصيله- إن شاء الله- .
" والرمال " : هو صاحب الطرق ، أو الذي يخط في الرمل ، أو يستخدم الحصى على الرمل .
" ونحوهم " : يعني من مثل الذين يقرؤون الكف ، ويقرؤون الفنجان ، أو في هذا العصر الذي يكتبون في الصحف والجرائد والمجلات البروج ، وما يحصل في ذلك البرج ، وأنت إذا ولدت في هذا البرج فمعناه أنه سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا ، هذه كلها من أنواع الكهانة كما سيأتي .
" وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم : ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق " (1) .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11 / 26 وابن أبي شيبة في المصنف 8 / 602 والبيهقي في السنن 8 / 139.(41/456)
وذلك لأن كتابة (أبا جاد) والنظر في النجوم- يعني للتأثير- نوع من أنواع الكهانة ، والكهانة محرمة وكفر بالله- جل وعلا- .(41/457)
واعلم أن أصناف الكهانة كثيرة جدا وجامعها الذي يجمعها : أنه يستخدم الكاهن وسيلة ظاهرة عنده ليقنع السائل بأنه وصل إليه العلم عن طريق أمور ظاهرة كالنجوم ، أو عن طريق الخط ، أو عن طريق الطرق ، أو عن طريق الفنجان ، أو عن طريق الكف ، أو عن طريق النظر في الحصى ، أو عن طريق الخشب ونحو ذلك ، هذه كلها وسائل يغر بها الكاهن من يأتيه ، وهي في الحقيقة وسائل لا تحصل ذاك العلم ، ولكن العلم جاءه عن طريق الجن وهذه الوسيلة إنما هي وسيلة لخداع الناس ، ولكي يظن الظان أنها تؤدي إلى العلم وأن هؤلاء أصحاب علم وفن بهذه الأمور ، وفي الواقع هو لا يتحصل على العلم الغيبي عن طريق خط ، أو عن طريق فنجان ، أو عن طريق النظر في البروج ، أو نحو ذلك ، وإنما يأتيه العلم عن طريق الجن ، وهو يظهر هذه الأشياء حتى يحصل على المقصود كي يصدق الناس أنه لا يستخدم الجن ، وأنه ولي من الأولياء ، وإلا فكيف يستنتج المغيبات من هذه الأمور الظاهرة؟! ويوجد في بعض البلاد : كغرب أفريقيا وبعض شمالها وفي الشرق من يتعاطى هذه الأشياء ، ويزعم أنه من الأولياء ، ويقول : إن الملائكة تخبره بكذا ، فهو لا يفعل الفعل إلا بإرشاد من الملائكة ، فالذي يفعل(41/458)
هذه الأفعال من الأمور السحرية أو الكهانة يعتبر في تلك البلاد من الأولياء ؛ ولهذا ترى بعض الشراح يذكر في مقدمة هذه الأبواب أن أولياء الله تعالى لا يتعاطون الشرك ، ولا يتعاطون مثل هذه الأمور ، فأولياء الله مقيدون بالشرع ، وليسوا من أولياء الجن .(41/459)
" باب ما جاء في النشرة "
وعن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال : " هي من عمل الشيطان » رواه أحمد بسند جيد ، وأبو داود (1) وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله .
وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب : رجل به طب ، أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه . انتهى ، وروي عن الحسن أنه قال : لا يحل السحر إلا ساحر . قال ابن القيم : النشرة : حل السحر عن المسحور وهي نوعان : حل سحر بمثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ، وعليه يحمل قول الحسن فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب ، فيبطل عمله عن المسحور . والثاني : النشرة بالرقية ، والتعوذات ، والأدوية ، والدعوات المباحة، فهذا جائز .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن النشرة .
الثانية : الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه ، مما يزيل الإشكال .
الشرح :
" باب ما جاء في النشرة " النشرة متعلقة بالسحر ، وأصلها من النشر وهو : قيام المريض صحيحا ، وهي : اسم لعلاج المسحور سميت نشرة ؛ لأنه ينتشر بها أي يقوم ويرجع إلى حالته المعتادة .
_________
(1) أخرجه أحمد 3 / 294 وأبو راود (3868) وحسنه الحافظ في « الفتح » 1 / 233 .(41/460)
وقول المؤلف -رحمه الله- هنا " باب ما جاء في النشرة " ، يعني : من التفصيل ، وهل النشرة جميعا- وهي حل السحر- مذمومة؟ أو أن منها ما هو مذموم ، ومنها ما هو مأذون به؟؟ .
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة : وهي أنه كما أن السحر شرك بالله- جل وعلا- يقدح في أصل التوحيد ، وأن الساحر مشرك الشرك الأكبر بالله ، فالنشرة التي هي حل السحر قد تكون من ساحر ، وقد تكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها ، أو الأدعية ونحو ذلك ، فإذا كان من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد ، ومنافية لأصله ، فالمناسبة ظاهرة في الصلة بين هذا الباب وباب ما جاء في السحر ، وكذلك مناسبتها لكتاب التوحيد ؛ لأن كثيرين ممن يستعملون النشرة يشركون بالله- جل وعلا- . والنشرة قسمان : نشرة جائزة ، ونشرة ممنوعة .(41/461)
فالنشرة الجائزة : هي ما كانت بالقرآن ، أو بالأدعية المعروفة ، أو بالأدوية عند الأطباء ، ونحو ذلك ، فإن السحر يكون عن طريق الجن ، - كما تقدم- ويحصل منه- حقيقة- إمراض في البدن ، وتغيير في العقل والفهم ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإنه تعالج بالمضادات التي تزيل ذلك السحر ، فمما يزيله : القرآن الكريم ، والقرآن الكريم هو أعظم ما ينفع في إزالة السحر ، وكذلك الأدعية ، والأوراد ، ونحو ذلك ، مما هو معروف من الرقى الشرعية .
ونوع من السحر يكون في البدن ، أي : من جهة عضوية ، فهذا أحيانا يعالج بالرقى والأدعية والقرآن ، وأحيانا يعالج عن طريق الأطباء العضويين ، وذلك لأن السحر- كما سبق- يمرض حقيقة ، فإذا أزيل المرض أو سبب المرض فإنه يبطل السحر ؛ ولهذا قال ابن القيم في آخر الكلام : " والثاني : النشرة بالرقية ، والتعوذات ، والأدوية ، والدعوات المباحة فهذا جائز " ؛ لأنه يحصل منه المرض ، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يعالج بما أذن به شرعا من الرقى والأدوية المباحة .(41/462)
والقسم الثاني من النشرة : وهي التي من أنواع الشرك : أن ينشر عنه بغير الطريق الأول بطريق السحر ، فيحل السحر الأول بسحر آخر ، وذكرنا أن السحر لا ينعقد أصلا إلا بأن يتقرب الساحر للجني ، أو أن يكون الجني يخدم الساحر الذي يشرك بالله دائما .
كذلك حل السحر لا بد فيه من إزالة سببه وهو خدمة شياطين الجن للساحر . وهذا لا يمكن إلا للجن ، فإن الساحر الثاني الذي ينشر السحر ويرفع السحر لا بد أن يستغيث أو أن يتوجه إلى بعض جنه في أن يرفع أولئك الجن الذين عقدوا هذا السحر أن يرفعوا أثره فعلى هذا لا يكون السحر من حيث العقد والابتداء إلا بالشرك بالله ، ومن حيث الرفع والنشر لا يكون إلا بالشرك بالله- جل وعلا- ؛ ولهذا قال الحسن : " لا يحل السحر إلا ساحر " (1) ، يعني : لا يحل السحر بغير الطريق الشرعية المعروفة إلا ساحر ، فإذا جاء أحد وقال : أنا أحل السحر ، قيل له : تستخدم القراءة والتلاوة والأدعية؟ فإذا قال :
_________
(1) أخرجه ابن جرير في (التهذيب) كما في (فتح الباري) 10 / 233 .(41/463)
لا . قيل : هل أنت طبيب تطب ذلك المسحور؟ فإن قال : لا . فهو إذا ساحر ؛ لأنه إذا لم يستخدم الطريقة الثانية فإنه لا يمكن أن يحل السحر إلا ساحر ؛ لأنه فك أثر الجن في ذلك السحر ، ولا يمكن إلا عن طريق شياطين الجن الذين يؤثرون في ذاك .
" عن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال : " هي من عمل الشيطان » (1) هذا سؤال عما كان معهودا معروفا عندهم في هذا الاسم وهو اسم النشرة ، والذي كان معروفا معهودا هو أن النشرة إنما هي من جهة الساحر ، لأنها- عند العرب- حل السحر بمثله ؛ لهذا « لما سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن النشرة قال . " هي من عمل الشيطان » قال العلماء : (ال) أو لام التعريف في قوله " النشرة " هذه للعهد ، يعني : النشرة المعهود استعمالها ، وهي حل السحر بمثله ، فقال -عليه الصلاة والسلام- . « هي من عمل الشيطان » ؛ لأن رفع السحر لا يكون إلا بعمل شيطان جني ؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : " هي " يعني : الرفع والنشر " من عمل الشيطان" لأن العقد أصلا من عمل الشيطان ، والرفع والنشر من عمل الشيطان ، فإذا هو سؤال عن النشرة التي كانت تستخدم في الجاهلية .
_________
(1) أحمد في المسند 3 / 294 وأبو داود (3868) والبيهقي في السنن 9 / 301 .(41/464)
" رواه أحمد بسند جيد ، وأبو داود ، وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله " (1) وقوله : " يكره هذا كله " يعني : أن تكون النشرة عن طريق التمائم التي فيها القرآن ؛ لأنه مر بنا أن ابن مسعود كان يكره جميع أنواع التمائم حتى من القرآن ، كما قال إبراهيم النخعي -رحمه الله- . كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن . يعني : أصحاب ابن مسعود ، فابن مسعود كان يكره التمائم من القرآن ، وهو أن يعلق شيئا من القرآن لأي غرض ، لدفع العين ، أو لإزالة السحر ، ورفع الضرر ؛ لهذا قال الإمام أحمد لما سئل عن النشرة التي تكون بالتمائم من القرآن ، قال : ابن مسعود يكره هذا كله .
أما النشرة باستخدام النفث ، والرقية من غير تعليق ، فلا يمكن للإمام أحمد ولا لابن مسعود أن يكرها ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم ذلك ، وأذن به عملا في نفسه ، وكذلك في غيره -عليه الصلاة والسلام- .
_________
(1) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 77 .(41/465)
" وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب : رجل به طب ، أو يؤخذ عن امرأته ، أيحل عنه أو ينشر؟ قال : لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه " (1) : يريد ابن المسيب بذلك ما ينفع من النشرة بالتعوذات ، والأدعية ، والقرآن ، والدواء المباح ، ونحو ذلك ، أما النشرة التي هي بالسحر ، فابن المسيب أرفع من أن يقول إنها جائزة ، ولم ينه عنها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « هي من عمل الشيطان » ؛ لهذا قال " لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه " يعني : من الأدوية المباحة ، ومن الرقى ، والتعوذات الشرعية ، وقراءة القرآن ، ونحو ذلك ، فهذا لم ينه عنه ، بل أذن فيه .
" وروي عن الحسن أنه قال : لا يحل السحر إلا ساحر " (2) وهذا بينا معناه .
" قال ابن القيم : النشرة : حل السحر عن المسحور وهي نوعان : حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ، وعليه يحمل قول الحسن ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب " . كما ذكرنا لكم سلفا .
" فيبطل عمله عن المسحور " ، وهذه حقيقة النشرة الشركية .
_________
(1) رواه البخاري 10 / 323 .
(2) تقدم .(41/466)
إذا تبين ذلك ، فإنما حكم حل السحر بمثله أنه لا يجوز ومحرم ، بل هو شرك بالله- جل وعلا- ؛ لأنه لا يحل السحر إلا ساحر . وبعض العلماء من أتباع المذاهب يرى جواز حل السحر بمثله إذا كان للضرورة ، كما قال فقهاء مذهب الإمام أحمد في بعض كتبهم : ويجوز حل سحر بمثله ضرورة ، وهذا القول ليس بصواب ، بل هو غلط ؛ لأن الضرورة لا تكون جائزة ببذل الدين والتوحيد عوضا عنها ، ومعروف أن الضروريات الخمس التي جاءت بها الشرائع أولها : حفظ الدين ، وغيره أنى منه مرتبة- ولا شك- ، فلا يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى ، وضرورة الحفاظ على النفس وإن كانت من الضروريات الخمس ، لكنها دون حفظ الدين مرتبة ؛ ولهذا لا يقدم ما هو أدنى على ما هو أعلى ، أو أن يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى من الضروريات الخمس ، والأنفس لا يجوز حفظها بالشرك ، ولأن يموت المرء وهو على التوحيد خير له من أن يعافى وقد أشرك بالله- جل وعلا- ، لأن السحر لا يكون إلا بشرك ، والذي يأتي الساحر ويطلب منه حل السحر ، فقد رضي قوله وعمله ، ورضي أن يعمل به ذاك ، ورضي أن يشرك ذاك بالله لأجل منفعته ، وهذا غير جائز .(41/467)
فتحصل من هذا أن السحر- نشرا ووقوعا- لا يكون إلا بالشرك الأكبر بالله - جل وعلا- ، وعليه فلا يجوز أن يحل لا من جهة الضرورة ، ولا من جهة غير الضرورة من باب أولى بسحر مثله ، بل يحل وينشر بالرقى الشرعية .(41/468)
" باب ما جاء في التطير "
وقول الله تعالى : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 131] .
وقوله : { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } . [يس : 19] .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا عدوى ، ولا طيرة ، ولا هامة ، ولا صفر » أخرجاه (1) ، وزاد مسلم : « ولا نوء ، ولا غول » (2) ولهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا عدوى ، ولا طيرة ويعجبني الفأل " قالوا : وما الفأل؟ قال : "الكلمة الطيبة » (3) ، ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال : « ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل ، ولا ترد مسلما ، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأت بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك » (4) .
_________
(1) أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2220) .
(2) أخرجه مسلم (2222) .
(3) أخرجه البخاري (5776) ومسلم (2224) .
(4) أخرجه أبو داود (3719) وصححه النووي .(41/469)
وله من حديث ابن مسعود مرفوعا : « الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » رواه أبو داود ، والترمذي ، وصححه (1) وجعل آخره من قول ابن مسعود . ولأحمد من حديث ابن عمرو : « من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " قالوا : وما كفارة ذلك؟ قال : "أن تقولوا : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك » (2) وله من حديث الفضل بن العباس : « إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك » (3) .
فيه مسائل :
الأولى : التنبيه على قوله : (ألا إنما طائرهم عند الله) مع قوله : (طائركم معكم) .
الثانية : نفي العدوى .
الثالثة : نفي الطيرة .
الرابعة : نفي الهامة .
الخامسة : نفي الصفر .
السادسة : أن الفأل ليس من ذلك ، بل مستحب .
السابعة : تفسير الفأل .
الثامنة : أن الواقع في القلوب من ذلك- مع كراهته- لا يضر ، بل يذهبه الله بالتوكل .
التاسعة : ذكر ما يقول من وجده .
العاشرة : التصريح بأن الطيرة شرك .
الحادية عشرة : تفسير الطيرة المذمومة .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أبو داود (3910) والترمذي (1614) .
(2) أخرجه أحمد 2 / 220 .
(3) أخرجه أحمد (2131) .(41/470)
هذا " باب ما جاء في التطير " سبق بيان أن الطيرة من أنواع السحر ، ولهذا جاء المؤلف -رحمه الله- بهذا الباب بعد الأبواب المتعلقة بالسحر ؛ لأنها من أنواعه بنص الحديث .
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد : أن التطير نوع من الشرك بالله- جل وعلا- بشرطه ، والشرك الذي يكون من جهة التطير مناف لكمال التوحيد الواجب ؛ لأنه شرك أصغر .(41/471)
وحقيقة التطير : أنه التشاؤم أو التفاؤل بحركة الطير من السوانح والبوارح ، أو النطيح والقعيد ، أو بغير الطير مما يحدث . فكانوا في الجاهلية إذا أراد أحد أن يذهب إلى مكان ، أو يمضي في سفر ، أو أن يعقد له خيارا ، استدل بما يحدث له من أنواع حركات الطيور ، أو بما يحدث له من الحوادث على أن هذا السفر سفر سعيد فيمضي فيه ، أو أنه سفر سيئ وعليه فيه وبال فيرجع عنه . وعلى هذا فضابط الطيرة الشركية التي من قامت في قلبه وحصل له شرطها وضابطها فهو مشرك الشرك الأصغر ، هو ما جاء في آخر الباب من قوله عليه الصلاة والسلام : « إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك » ، (1) فالطيرة شرك ، وهي التي تقع في القلب ، ويبني عليها المرء مضاء في الفعل ، أو نكوصا عنه . فإذا خرج مثلا من بيته وهو ينوي سفرا ، أو رحلة ، أو ينوي القيام بصفقة تجارة ، أو نحو ذلك ، فحصل أمامه حادث ، فهذا الحادث الذي حصل أمامه من تصادم سيارة ، أو اعتداء من واحد على آخر ، أو نحو ذلك ، إن أوقع في قلبه شؤما ، واستدل بهذا الحادث على أنه سيفشل في سفره أو في تجارته أو أنه سيصيبه مكروه في سفره ، ورجع ولم يمض فقد حصل له التطير الشركي ، أما إذا حصل ذلك في قلبه وحصل له
_________
(1) أخرجه أحمد 1 / 213 .(41/472)
نوع تشاؤم ، ولكنه مضى وتوكل على الله ، فهذا لا يكاد يسلم منه أحد ، كما جاء في حديث ابن مسعود « وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » (1) كما سيأتي .
فهذه حقيقة التطير الشركي وضابطه ، وتبين أن التطير عام ليس خاصا بالطير وحركاتها ، وقد تقدم في " باب ما جاء في شيء من أنواع السحر " أن العيافة متعلقة بالطير كما فسرها عوف الأعرابي بقوله : العيافة زجر الطير ، فهي متعلقة بالطير من حيث إنه يحرك الطير ويزجره حتى ينظر أين يتحرك ، وأما الطيرة فهي أن يتشاءم أو يتفاءل ويمضي أو يرجع بحركة تحصل أمامه ولو لم يزجر أو يفعل ، أو بشيء يحصل أمامه ، إما من الطير أو من غيره .
قوله " باب ما جاء في التطير" ، يعني : من أنه شرك بالله- جل وعلا- إذا أمضى أو رجع ، وكفارة التطير إذا وقع في القلب ، ونحو ذلك من الأحكام .
_________
(1) أخرجه أحمد 1 / 389 ، 438 ، 440 وأبو داود (3910) والترمذي (1614) .(41/473)
" وقول الله تعالى : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 131] . هذا مقطع من آية في سورة الأعراف أولها : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } يعني إذا أتاهم خصب وسعة وزيادة في الأرزاق { قَالُوا لَنَا هَذِهِ } يعني : نحن المستحقون لها { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يعني : أصابهم جدب ، أو نقص في الأرزاق ، أو بلاء ، قالوا : هذا بسبب شؤم موسى ومن معه ، فهم الذين بسببهم وبسبب أقوالهم وأعمالهم حصل لنا هذا السوء وهذه الويلات ، فتطيروا بهم ، يعني : جعلوهم سببا لما حصل لهم ، قال- جل وعلا- : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } طائرهم ، يعني : ما يطير عنهم من عمل صالح أو طالح ، وأنهم يستحقون الحسنات أو يستحقون السيئات ، كل هذا عند الله- جل وعلا- ، أو أن معنى قوله { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } يعني : أن سبب ما يأتيهم من الحسنات أو ما يأتيهم من(41/474)
السيئات ، أن ذلك من جهة القضاء والقدر ، فهو عند الله- جل وعلا- .
ومناسبة هذه الآية لهذا الباب : أن هذا التطير من صفات أعداء الرسل ، ومن خصال المشركين ، وإذا كان كذلك فهو مذموم ، ومن خصال المشركين الشركية ، وليست من خصال أتباع الرسل ، وأما أتباع الرسل فإنهم يعلقون ذلك بما عند الله من القضاء والقدر ، أو بما جعله الله -جل وعلا- لهم من ثواب أعمالهم أو العقاب على أعمالهم كما قال تعالى : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } .(41/475)
قوله تعالى : { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } الآية ، وهي من سورة يس ، والذين تطيروا بأولئك هم المشركون أصحاب تلك القرية حيث قالوا : { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال أتباع الرسل : { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ } يعني : سبب وقوع السيئات عليكم ، أو سبب قدوم الحسنات عليكم هو من عند أنفسكم ، فالسوء الذي سينالكم والعقاب الذي سينزل بكم ملازم لكم ملازمة ما تتطيرون به من عمل سوء ، ومن معاداة للرسل ، وتكذيب للرسل ، هذا ملازم لكم وستتطيرون به { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } لأنه من جهة أنهم فعلوا السيئات وكذبوا الرسل وهذا سيقع عليهم وباله .
ومناسبة هذه الآية للباب كمناسبة الآية قبلها من أن هذه هي قالة المشركين ، وأعداء الرسل .
" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا عدوى ، ولا طيرة ، ولا هامة ، ولا صفر » أخرجاه (1) زاد مسلم : « ولا نوء ، ولا غول » (2) .
_________
(1) أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2220) .
(2) من رواية جابر (2222) .(41/476)
موطن الشاهد قوله : « ولا طيرة » . ومن المعلوم أن المنفي هنا ليس هو وجود الطيرة ؛ لأن الطيرة موجودة من جهة اعتقاد الناس ، ومن جهة استعمالها ، وكذلك العدوى موجودة من جهة الوقوع ؛ ولهذا قال العلماء : النفي هنا راجع إلى ما تعتقده العرب ويعتقده أهل الجاهلية ؛ لأن ( لا)- هنا- نافية للجنس واسمها مذكور ، وخبرها محذوف ، لأجل العلم به ، فإن الجاهليين يؤمنون بوجود هذه الأشياء ، ويؤمنون أيضا بتأثيرها ، فالمنفي ليس هو وجودها وإنما هو تأثيرها فيكون التقدير هنا : لا عدوى مؤثرة بطبعها ونفسها وإنما تنتقل العدوى بإذن الله- جل وعلا- ، وكان أهل الجاهلية يعتقدون أن العدوى تنتقل بنفسها ، فأبطل الله ذلك الاعتقاد- فقال -عليه الصلاة والسلام- . " لا عدوى " يعني : مؤثرة بنفسها .
" ولا طيرة " أي : مؤثرة أيضا ، فإن الطيرة شيء وهمي يكون في القلب ، لا أثر له في قضاء الله وقدره ، فحركة السانح ، أو البارح ، أو النطيح ، أو القعيد ، لا أثر لها في حكم الله وفي ملكوته ، وفي قضائه وقدره ، فخبر (لا) النافية للجنس تقديره (مؤثرة) أي : لا طيرة مؤثر ، بل الطيرة شيء وهمي .
وكذلك قوله : « ولا هامة ولا صفر » . . إلخ الحديث .(41/477)
وقد سبق بيان أن خبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيرا في لغة العرب إذا كان معلوما ، كما قال ابن مالك في آخر باب (لا) النافية للجنس في الألفية :
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر ... إذا المراد مع سقوطه ظهر
" ولهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا عدوى » . يعني لا عدوى مؤثرة بنفسها ، بل بإذن الله - جل وعلا- .
" ولا طيرة " : مؤثرة أصلا ، وإنما ذلك راجع إلى قضاء الله وقدره .
قوله : « ويعجبني الفأل " قالوا : وما الفأل؟ قال : " الكلمة الطيبة » (1) : كان -عليه الصلاة والسلام- يحب الفأل وفسره بأنه الكلمة الطيبة ؛ لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها فتفاءل بها ، وأنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات ، يكون من باب حسن الظن بالله- جل وعلا- ، فالفأل حسن ظن بالله ، والتشاؤم سوء ظن بالله- جل وعلا- ؛ ولهذا كان الفأل ممدوحا ومحمودا ، والشؤم مذموما .
ومعلوم أن العبد مأمور بأن يحسن الظن بالرب- جل وعلا- ولهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يتفاءل ، وكل ذلك من تعظيم الله - جل وعلا- وحسن الظن به وتعلق القلب به ، وأنه لا يفعل للعبد إلا ما هو أصلح له .
_________
(1) أخرجه البخاري في (5776) ومسلم (2224) .(41/478)
" ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال : « ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل » . الطيرة : يعني التأثر بالكلمة ؛ لأننا ذكرنا أن الطيرة عامة تشمل الأقوال والأعمال التي تحصل أمام العبد ، فإذا كان ثم تطير فإن أحسنه الفأل ، يعني : أن يقع في قلبه أنه سيحصل له كذا وكذا من جراء كلمة سمعها ، أو من جراء فعل حصل له . وأحسن ذلك الفأل وغيره مذموم ، وإنما كان الفأل محمودا وممدوحا ومأذونا به ؛ لما ذكرنا من أنه إذا تطير متفائلا فإنه محسن الظن بالله- جل وعلا- لأن التفاؤل يشرح الصدر ، ويؤنس العبد ، ويذهب الضيق الذي يوحيه الشيطان ويسببه في قلب العبد ، والشيطان يأتي للعبد فيجعله يتوهم أشياء تضره وتحزنه فإذا فتح العبد على قلبه باب التفاؤل أبعد عن قلبه باب تأثير الشيطان في النفس .(41/479)
قوله : « ولا ترد مسلما » هذا خبر في معنى النهي ، وقد بينا أن النهي قد يعدل عنه للخبر ، كما أن الأمر قد يعدل عنه إلى الخبر لتأكيد النهي ولتأكيد الأمر ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ } [النحل : 49] فهذا خبر مثبت لكنه كالأمر المؤكد ، وقوله : " لا ترد مسلما " هذا خبر منفي لكن فيه النهي أن ترد الطيرة مسلما عن حاجته ، فإذا ردته عن حاجته ، فقد حصل له الشرك بالتطير .
قوله : « فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك » (1) : هذا دعاء عظيم في دفع ما يأتي للقلب من أنواع التشاؤم وأنواع الطيرة .
" وعن ابن مسعود مرفوعا : « الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، الطيرة شرك » (2) . يعني : أنها شرك أصغر بالله- جل وعلا- .
وقوله : « وما منا إلا » يعني : إلا وقد يقع في قلبه بعض التطير ؛ لأن هذا من الشيطان ، والشيطان يأتي القلوب فيغريها بما يفسدها " وما منا إلا " يعني : ويعرض له ذلك .
_________
(1) رواه أبو داود (3719) .
(2) تقدم .(41/480)
قوله : « ولكن الله يذهبه بالتوكل » لأن حسنة التوكل وإتيان العبد بواجب التوكل يذهب عنه كيد الشيطان بالتطير ، فالواجب على العبد إذا عرض له شيء من التشاؤم ألا يرجع عما أراد عمله ، بل يعظم التوكل على الله- جل وعلا- ؛ لأن هذه الأشياء التي تحصل لا تدل على الأمور المغيبة ؛ لأنها أمور طرأت ووقعت هكذا أمام العبد ، وليس لها أثر فيما يحصل مستقبلا .
ولأحمد من حديث ابن عمرو : « من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك » هذا هو ضابط الطيرة التي تكون شركا ، وهو أن ترد المتطير عن حاجته ، فإذا لم ترده عن حاجته ، ولم يستجب لها ، فلا حرج عليه وبذلك إلا أن عظمت في قلبه ، فربما دخلت في أنوع محرمات القلوب ، الذي يذهب ذلك كله هو التوكل على الله ، وتعظيم الرغب فيما عنده وحسن الظن بالله - جل وعلا- .
« قالوا : فما كفارة ذلك؟ قال : "أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك » (1) " : لا طير إلا طيرك يعني : لن يحصل إلا قضاؤك الذي قضيته ، أو لن يحصل ويقضى إلا ما قدرته على العبد . فعلم المغيبات إنما هو عند الله- جل وعلا- .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 220 .(41/481)
" باب ما جاء في التنجيم "
قال البخاري في صحيحه : قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به (1) . انتهى . وكره قتادة تعلم منازل القمر ولم يرخص ابن عيينة فيه ، ذكره حرب عنهما . ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق .
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر » . رواه أحمد وابن حبان في صحيحه (2) .
فيه مسائل :
الأولى : الحكمة في خلق النجوم .
الثانية : الرد على من زعم غير ذلك .
الثالثة : ذكر الخلاف في تعلم المنازل .
الرابعة : الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل .
الشرح :
" باب ما جاء في التنجيم " . يعني في حكم التنجيم ، وأنه منقسم إلى جائز ومحرم ، والمحرم منه نوع من أنواع السحر ، وهو كفر وشرك بالله- جل وعلا- ، فادعاء معرفة المغيبات عن طريق النجوم ، هو التنجيم المذموم المحرم الذي هو من أنواع الكهانة والسحر .
والتنجيم الذي يتعاطاه الناس ثلاثة أنواع :
_________
(1) أخرجه البخاري 6 / 295 معلقا ، ووصله ابن جرير في « التفسير 1 / 91 .
(2) أخرجه أحمد 4 / 399 وابن حبان 7 / 366 .(41/482)
الأول : التنجيم الذي هو اعتقاد أن النجوم فاعلة مؤثرة بنفسها ، وأن الحوادث الأرضية منفعلة ناتجة عن النجوم وعن إرادات النجوم ، وهذا تأليه للنجوم ، وهو الذي كان يصنعه الصابئة ويجعلون لكل نجم وكوكب صورة وتمثالا ، تحل فيها أرواح الشياطين ، فتأمر أولئك بعبادة تلك الأصنام والأوثان ، وهذا بالإجماع كفر أكبر وشرك كشرك قوم إبراهيم.
والنوع الثاني من التنجيم : هو ما يسمى علم التأثير ، وهو الاستدلال بحركة النجوم والتقائها وافتراقها ، وطلوعها وغروبها ، على ما سيحصل في الأرض ، فيجعلون حركة النجوم دالة على ما سيقع مستقبلا في الأرض ، والذي يفعل هذه الأشياء ويستدل بها يقال له : المنجم ، وهو من أنواع الكهان ؛ لأنه يخبر بالأمور المغيبة عن طريق الاستدلال بحركات الأفلاك وتحرك النجوم ، وهذا النوع محرم وكبيرة من الكبائر ، وهو نوع من الكهانة وكفر بالله- جل وعلا- ؛ لأن النجوم ما خلقت لذلك وهؤلاء تأتيهم الشياطين ، فتوحي إليهم بما يريدون وبما سيحصل في المستقبل ويجعلون حركة النجوم دليلا على ذلك .
وقد أبطل قول المنجمين في أشياء كثيرة من الواقع ونحو ذلك كما في فتح عمورية في قصيدة أبي تمام المشهورة :(41/483)
السيف أصدق أنباء من الكتب ...
. . . . وغيرها .(41/484)
النوع الثالث مما يدخل في اسم التنجيم : ما يسمى بعلم التسيير ، وهو أن يتعلم منازل النجوم وحركاتها ، لأجل أن يعلم القبلة ، والأوقات ، وما يصلح من الأوقات للزرع وما لا يصلح ، والاستدلال بذلك على وقت هبوب الرياح ، وعلى الوقت الذي جرت سنة الله ألا ينزل فيه من المطر كذا ، ونحو ذلك . فهذا يسمى علم التسيير ، وقد رخص فيه بعض العلماء ، وسبب الترخيص فيه : أنه يجعل النجوم وحركتها والتقاءها وافتراقها ، وطلوعها أو غروبها ، يجعل ذلك وقتا وزمنا ، لا يجعله سببا ، فيجعل هذه النجوم علامة على زمن يصلح فيه كذا وكذا ، والله -جل وعلا- جعل النجوم علامات كما قال تعالى : { وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } فهي علامة على أمور كثيرة ، كأن يعلم- مثلا- أنه بطلوع النجم الفلاني يدخل وقت الشتاء ، فدخول الوقت ليس بسبب طلوع النجم ، ولكن حين طلع استدللنا بطلوعه على دخول الوقت ، وإلا فهو ليس بسبب لحصول البرد ، وليس بسبب لحصول الحر ، وليس بسبب للمطر ، وليس بسبب لمناسبة غرس النخل أو زرع المزروعات ونحو ذلك ، ولكنه وقت ، فإذا كان على ذلك فلا بأس به قولا أو تعلما ؛ لأنه يجعل النجوم وظهورها وغروبها أزمنة وذلك مأذون(41/485)
به .
" قال البخاري في صحيحه : قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء " . كما قال- جل وعلا- { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا } [ فصلت : 12] .
" ورجوما للشياطين " . والآيات على ذلك كثيرة .
" وعلامات يهتدى بها " كما قال- جل وعلا- : { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [ النمل : 63] وقال -جل وعلا- : { وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16] ونحو ذلك من الآيات ، فهي علامات يهتدى بها ، إلى معرفة الجهات . كجهة القبلة ، وجهة الشمال ، وجهة الغرب ، وجهة الشرق ، ويهتدى بها أيضا إلى معرفة أماكن البلاد والقرى حيث يعرف أن البلدة الفلانية باتجاه النجم الفلاني ، فإذا أراد السائر ليلا في البر أو في البحر أن يتجه إلى بلد معين ، استدل واهتدى بالنجوم إليه ، ونحو ذلك مما أجرى الله سنته به .(41/486)
قوله : " فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به " (1) وهذا صحيح ؛ لأن النجوم خلق من خلق الله ولا نفهم سرها إلا بما أخبر الله- جل وعلا- به ، فما أخبرنا به أخذناه ، وما لم نخبر به فلا يجوز أن نتكلف فيه ؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- . « إذا ذكر القدر فأمسكوا ، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا ، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا » (2) والمراد هنا بذكر النجوم ، يعني : في غير ما جاء به الدليل ، إذا ذكر القدر في غير ما جاءت به الأدلة فأمسكوا ، وإذا ذكر أصحابي في غير ما جاء به من فضلهم وحسن صحبتهم وسابقتهم ونحو ذلك من الدليل فأمسكوا ، وكذلك إذا ذكرت النجوم وما فيها بغير ما جاء فيه الدليل فأمسكوا ؛ لأن ذلك ذريعة لأمور محرمة .
قوله : " وكره قتادة تعلم منازل القمر ، ولم يرخص ابن عيينة فيه ، ذكره حرب عنهما . ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق "
_________
(1) أخرجه البخاري 6 / 295 .
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (1427- 10448) .(41/487)
جعل الله -عز وجل- القمر منازل كما قال : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [يس : 39] فله ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل يوم منزلة منها ، فما حكم تعلم هذه المنازل؟ فيها قولان لأهل العلم : فقد كرهه بعضهم ، ورخص فيه طائفة وهو الصحيح ؛ لأنه -جل وعلا- امتن على عباده بذلك فقال { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [يونس : 5] وظاهر الآية أن حصول المنة به في تعلمه ، وذلك دليل الجواز .
" وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن الخمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر » (1) ووجه الاستدلال من هذا الحديث قوله : « ومصدق بالسحر » ، وقد تقدم أن من التنجيم ما هو من أنواع السحر ، كما قال -عليه الصلاة والسلام- . « من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » (2) وإذا صدق بالنجوم ، فإنه مصدق بالسحر ، والمصدق بالسحر لا يدخل الجنة .
قال هنا . « ثلاثة لا يدخلون الجنة . مدمن الخمر » وإدمان الخمر من الكبائر .
« وقاطع الرحم » : وهي من الكبائر .
« ومصدق بالسحر » : وهو أيضا من الكبائر .
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 399 وابن حبان 7 / 366 .
(2) تقدم .(41/488)
ومما يدخل في التنجيم في هذا العصر بوضوح -مع غفلة الناس عنه- ما يكثر في المجلات مما يسمونه البروج ، فيخصصون صفحة أو أقل منها في الجرائد ، ويجعلون عليها رسم بروج السنة برج الأسد ، والعقرب ، والثور ، إلى آخره ، ويجعلون أمام كل برج ما سيحصل فيه ، فإذا كان الرجل أو المرأة مولودا في ذلك البرج يقول : سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا وكذا ، وهذا هو التنجيم الذي هو التأثير ، والاستدلال بالنجوم والبروج على التأثير في الأرض وعلى ما سيحصل في الأرض ، وهو نوع من الكهانة ، ووجوده في المجلات والجرائد على ذلك النحو وجود للكهانة فيها ، فهذا يجب إنكاره إنكارا للشركيات ولدِّعَاء معرفة الغيب وللسحر وللتنجيم ؛ لأن التنجيم من السحر كما ذكرنا ، ويجب إنكاره على كل صعيد ، ويجب أيضا على كل مسلم أن لا يدخله بيته ، وأن لا يقرأه ، ولا يطلع عليه ؛ لأن الاطلاع على تلك البروج وما فيها- ولو لمجرد المعرفة- يدخل في النهي من جهة أنه أتى الكاهن غير منكر عليه .(41/489)
وإذا قرأ هذه الصفحة وهو يعلم برجه الذي ولد فيه ، أو يعلم البرج الذي يناسبه ، وقرأ ما فيه ، فكأنه سأل كاهنا ، فلا تقبل له صلاة أربعين يوما ، فإن صدق بما في تلك البروج فقد كفر بما أنزل على محمد ، وهذا يدلك على غربة التوحيد بين أهله ، وغربة فهم حقيقة هذا الكتاب- كتاب التوحيد- حتى عند أهل الفطرة وأهل هذه الدعوة ، فإنه يجب إنكار ذلك على كل صعيد وأن لا يؤثم المرء نفسه ، ولا من في بيته بإدخال شيء من الجرائد التي فيها ذلك في البيوت ؛ لأن هذا معناه إدخال للكهنة إلى البيوت ، وهذا- والعياذ بالله- من الكبائر ، فواجب إنكار ذلك وتمزيقه والسعي فيه بكل سبيل حتى يدحر أولئك ؛ لأن أهل التنجيم وأهل البروج هم من الكهنة ، والتنجيم له معاهد معمورة في لبنان وفي غيرها ، يتعلم فيها الناس حركة النجوم ، وما سيحصل بحسابات معروفة ، وجداول معينة ، ويخبرون بأنه من كان من أهل البرج الفلاني فإنه سيحصل له كذا وكذا ، عن طريق تعلم وهمي يغرهم به رؤوسهم وكهانهم ، فالواجب على طلبة العلم أن يسعوا في تبصير الناس بحقيقة ذلك في كلماتهم ، وبعد الصلوات ، وفي خطب الجمعة ؛ لأن هذا مما كثر البلاء به ، والإنكار فيه قليل ، والتنبيه(41/490)
عليه ضعيف ، والله المستعان .(41/491)
" باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء "
وقول الله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة : 82] .
وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ، وقال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب » رواه مسلم (1) .
ولهما عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال : « صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » . (2) .
ولهما من حديث ابن عباس بمعناه ، وفيه : قال بعضهم : " لقد صدق نوء كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآية { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } إلى قوله { تُكَذِّبُونَ } (3) .
فيه مسائل :
_________
(1) أخرجه مسلم (934) .
(2) أخرجه البخاري (846) و (1038) و (4147) و (7503) ومسلم (71) .
(3) أخرجه مسلم (73) .(41/492)
الأولى : تفسير آية الواقعة .
الثانية : ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية .
الثالثة : ذكر الكفر في بعضها .
الرابعة : أن من الكفر ما لا يخرج من الملة .
الخامسة : قوله " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" بسبب نزول النعمة .
السادسة : التفطن للإيمان في هذا الموضع .
السابعة : التفطن للكفر في هذا الموضع .
الثامنة : التفطن لقوله "لقد صدق نوء كذا وكذا " .
التاسعة : إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها . لقوله : " أتدرون ماذا قال ربكم؟ " .
العاشرة : وعيد النائحة .
الشرح :
هذا " باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء " ، والاستسقاء بالأنواء هو نسبة السقيا إلى الأنواء ، والأنواء هي " النجوم ، يقال للنجم . نوء .
والعرب والجاهليون كانوا يعتقدون أن النجوم والأنواء سبب في نزول المطر ، فيجعلونها أسبابا ، ومنهم- وهم طائفة قليلة- من يجعل النوء والنجم هو الذي يأتي بالمطر كما سبق في حال الطائفة الأولى من المنجمين الذي يجعلون المفعولات منفعلة عن النجوم وعن حركتها .(41/493)
فقوله -رحمه الله- : " باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء " يعني : باب ما جاء في نسبة السقيا إلى النوء ، وعبر بلفظ الاستسقاء ؛ لأنه جاء في الحديث "والاستسقاء بالنجوم " .
ومناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب : أن الاستسقاء بالأنواء نوع من التنجيم . لأنه نسبة السقيا إلى النجم وذلك أيضا من السحر ؛ لأن التنجيم من السحر بمعناه العام .
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد : أن الذي ينسب السقيا والنعمة والفضل الذي يؤتاه حين نزول المطر إلى النوء أو النجم . يكون قلبه ملتفتا عن الله- جل وعلا- إلى غيره ، ومتعلقا بغيره ، وناسبا النعم إلى غير الله- جل وعلا- ومعتقدا أن النجوم أسباب لهذه المسببات من نزول المطر ونحوه ، وهذا مناف لكمال التوحيد ، فإن كمال التوحيد الواجب يوجب على العبد أن ينسب النعم جميعا إلى الله وحده ، وأن لا ينسب شيئا منها إلى غير الله ولو كان ذلك الغير سببا ، فينسب النعمة إلى مسديها ولو كان من أجرى الله على يديه تلك النعم سببا من الأسباب ، فإنه لا ينسبها إلى غير الله- جل وعلا- كيف وأن النجوم ليست بسبب أصلا . ففي ذلك نوعان من التعدي :
1 - أنها ليست بأسباب أصلا .(41/494)
2 - أن تجعل أسبابا لم يجعلها الله- جل وعلا- أسبابا ، وتنسب النعم والفضل والسقيا إليها ، وهذا مناف لكمال التوحيد وكفر أصغر بالله- جل وعلا- .
" وقول الله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال علماء التفسير : معنى هذه الآية : وتجعلون شكر رزقكم ، أي شكر ما رزقكم الله من النعم ومن المطر أنكم تكذبون بأن ا لنعمة من عند الله بنسبتها لغير الله- جل وعلا- وإضافتها إلى الأنواء ، والواجب- شكرا لنعم الله جل وعلا ، وشكرا لله جل وعلا ، على ما رزق وأنعم وتفضل- ، أن تنسب النعم جميعا إلى الله ، وأن ينسب الفضل إلى الرب وحده ، دون ما سواه .(41/495)
" وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن » قوله : " من أمر الجاهلية " هذا دليل على ذمها وأنها من شعب الجاهلية ، ومن المعلوم أن شعب الجاهلية جميعا يجب الابتعاد عنها ؛ لأن خصال أهل الجاهلية مذمومة ، كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال : « أبغض الرجال إلى الله ثلاثة : ملحد في الحرم ، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه ، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية » (1) فكل شعبة من شعب أهل الجاهلية إذا ظهر من يعيدها إلى أهل الإسلام بعد أن أنقذهم الله من ذلك ببعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- وظهور القرآن والسنة وبيان الأحكام فإنه مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ، وهو من أبغض الرجال إلى الله- جل وعلا- . فقوله : " من أمر الجاهلية " هذا دليل الذم ، وليس الإخبار بأنها باقية دليل الإباحة .
قوله : "- لا يتركونهن : الفخر بالأحساب " يعني على وجه التكبر والرفعة .
_________
(1) أخرجه البخاري (6882) .(41/496)
" والطعن في الأنساب " أي : النيل ، والقدح في أنساب الناس من غير دليل شرعي ، ومن غير حاجة شرعية ، فإن القاعدة التي ذكرها الإمام مالك وغيره من أهل العلم : أن الناس مؤتمنون على أنسابهم ، فإذا كان لا يترتب على ذكر النسب أثر شرعي ، من إعطاء حق لغير أهله ، أو بميراث ، أو بعقد نسبة ، أو بزواج ، ونحو ذلك ، فإن الناس مؤتمنون على أنسابهم أما إذا كان له أثر فلا بد من الإثبات ، لا سيما إذا كان مخالفا لما هو شائع متواتر عند الناس ، فالطعن في الأنساب من أمور الجاهلية .
" والاستسقاء بالنجوم " : وهو نسبة السقيا إلى النجوم ، ويشمل ما هو أعظم من ذلك وهو أن تطلب السقيا من النجم ، كحال الذين يعتقدون أن الحوادث الأرضية تحصل بالنجوم نفسها ، وأن النجوم هي التي تحدث المقدرات الأرضية ، والمنفعلات الأرضية .
قوله : " والنياحة ، ثم قال : « النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب » رواه مسلم (1) .
النياحة من الكبائر وهي رفع الصوت عند المصيبة ، وشق الجيب ونحو ذلك ، وهي منافية للصبر الواجب ، ومن خصال الجاهلية .
_________
(1) تقدم .(41/497)
ولهما عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال : « صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال . " هل تدرون : ماذا قال ربكم؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » (1) .
قوله : " على إثر سماء كانت من الليل " يعني مطر ، والمطر يطلق عليه سماء ؛ لأنه يأتي من جهة العلو ، كما قال الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
يعني : إذا نزل المطر .
" فلما انصرف " : يعني من صلاة الصبح .
« أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم » . هذه من الكلمات التي تقال في حياته -عليه الصلاة والسلام- ، وأما بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- فإذا سئل المرء عما لا يعلم فليقل : لا أدري ، أو فليقل : الله أعلم ، ولا يقل الله ورسوله أعلم ؛ لأن ذكر علم النبي -عليه الصلاة والسلام- مقيد بحياته الشريفة -عليه الصلاة والسلام- .
_________
(1) تقدم .(41/498)
" قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" هنا قسم العباد إلى قسمين : مؤمن بالله- جل وعلا- وهو الذي نسب هذه النعمة وأضافها إلى الله - جل وعلا- وشكر الله عليها ، وعرف أنها من عند الله ، وحمد الله وأثنى عليه بها ، والصنف الثاني : "وكافر" ، ولفظ كافر اسم فاعل الكفر ، أو اسم من قام به الكفر ، وهذا يصدق على الكفر الأصغر والكفر الأكبر ، فهم انقسموا إلى مؤمنين ، وإلى كافرين ، والكافرون منهم نوعان : النوع الأول : من كفر كفرا أصغر ، كمن يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا ، يعتقد أن النوء والنجم والكوكب سبب في المطر ، فهذا كفره كفر أصغر ؛ لأنه لم يعتقد التشريك والاستقلال ، ولكنه جعل ما ليس سببا سببا ، ونسب النعمة إلى غير الله ، فقوله من أقوال أهل الكفر ، وهو كفر أصغر بالله- جل وعلا- كما قال العلماء . والنوع الثاني : كافر الكفر الأكبر ، وهو الذي اعتقد أن المطر أثر من آثار الكواكب والنجوم ، وأنها هي التي تفضلت بالمطر ، وهي التي تحركت بحركة لما توجه إليها عابدوها أنزلت المطر إجابة لدعوة عابديها ، وهذا كفر أكبر بالإجماع ؛ لأنه اعتقاد ربوبية وإلهية لغير الله- جل وعلا- .(41/499)
" فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب " : لأنه نسب النعمة لله وحده ، ونسبة النعمة لله وحده دلت على إيمانه .
ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه : قال بعضهم : " لقد صدق نوء كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآية : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } إلى قوله : { تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 75-82] (1) : وهذا ظاهر .
وهنا تنبيه في هذه المسألة : وهو ما يحصل أحيانا من بعض الناس من أنهم يقولون في الوسمي مثلا إذا طلع يأتي المطر ، ونجم سهيل إذا طلع فسيحصل كذا ، ونحو ذلك ، فهذا القول كما علمت له حالان .
الحال الأولى : أن يقول ذلك معتقدا أن النجم أو البرج الذي أتى هو زمن جعل الله سنته فيه أنه يأتي فيه المطر ، وإن شاء الله سيأتي مطر ونحو ذلك ، فهذا جعل للوسم زمنا ، وهذا جائز .
الحال الثاني : أن يقول : الوسم جاء وسيأتي المطر ، أو طلع النجم الفلاني وسيأتينا كذا وكذا ، معتقدا أن هذا الفصل أو ذلك البرج أو ذلك النجم سببا ، فهذا كفر ونسبة للنعمة لغير الله ، واعتقاد تأثير أشياء لا تأثير لها .
_________
(1) أخرجه مسلم (73) .(41/500)
فينبغي أن يفرق بين ما يستعمله العوام من جعل تلك المواسم ، والنجوم أزمانا وأوقاتا للمطر أو للبرد ، أو الحر ، وبين نسبة أهل الشرك والضلال الأفعال للنجوم ، إما استقلالا ، وإما على وجه التسبب .(42/1)
باب قول الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165] .
وقوله : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24] .
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » أخرجاه (1) .
ولهما عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار » (2) وفي رواية : « لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى . . . » (3) إلى آخره .
_________
(1) أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) .
(2) أخرجه البخاري (16) و (21) و (6941) ومسلم (43) .
(3) أخرجه البخاري (6041) .(42/2)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : " من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه ، حتى يكون كذلك ، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " رواه ابن جرير . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } قال : المودة .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية البقرة .
الثانية : تفسير آية براءة .
الثالثة : وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال .
الرابعة : نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام .
الخامسة : أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها .
السادسة : أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها .
السابعة : فهم الصحابي للواقع : أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا .
الثامنة : تفسير { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } .
التاسعة : أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا .
العاشرة : الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه .(42/3)
الحادية عشرة : أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله ، فهو الشرك الأكبر .
الشرح :
هذا الباب والأبواب التي بعده شروع من الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- في ذكر العبادات القلبية ، وما يجب أن تكون عليه تلك العبادات من الإخلاص لله- جل وعلا- ، فهذا في ذكر واجبات التوحيد ومكملاته ، وبعض العبادات القلبية ، وكيف يكون إفراد الله- جل وعلا- بها . وابتدأها بباب المحبة ، وأن العبد يجب أن يكون الله- جل وعلا- أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه ، وهذه المحبة المراد منها محبة العبادة ، وهي المحبة التي فيها تعلق بالمحبوب ، بما يكون معه امتثال للأمر رغبا إلى المحبوب واختيارا ، واجتناب النهي رغبة واختيارا .(42/4)
فمحبة العبادة هي : المحبة التي تكون في القلب ، يكون معها الرغب والرهب ، والطاعة والسعي في مراض المحبوب والبعد عما لا يحب المحبوب . والموحد لم يوحد الله إلا بسبب ما وقر في قلبه من محبة الله- جل وعلا- لأنه استدل بربوبية الله- جل وعلا- وأنه الخالق وحده ، وأنه ذو الملكوت وحده ، وأنه ذو الفضل والنعمة على عباده وحده ، وأنه محبوب ، وأنه يجب أن يحب ، وإذا أحب العبد ربه فإنه يجب عليه أن يوحده بأفعال العبد حتى يكون محبا له على الحقيقة ؛ لذلك نقول : المحبة التي هي من العبادة هي المحبة التي يكون فيها اتباع للأمر ، واجتناب للنهي ، ورغب ورهب ؛ ولهذا قال طائفة من أهل العلم : المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أنواع :
1 - محبة الله على النحو الذي وصفنا ، وهذا نوع من العبادات الجليلة ويجب إفراد الله- جل وعلا- بها .
2 - محبة في الله ، وهو أن يحب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ، وأن يحب الصالحين في الله ، وأن يحب في الله ، وأن يبغض في الله .(42/5)
3 - محبة مع الله ، وهذه محبة المشركين لآلهتهم ؛ فإنهم يحبونها مع الله- جل وعلا- فيتقربون إلى الله رغبا ورهبا نتيجة محبة الله ، ويتقربون إلى الآلهة رغبا ورهبا نتيجة لمحبتهم لتلك الآلهة ، ويتضح المقام بتأمل حال المشركين ، وعبدة الأوثان ، وعبدة القبور في مثل هذه الأزمنة ، فإنك تجد المتوجه لقبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب ، وفي خوف وطمع ، وفي إجلال حين يعبد ذلك الولي ، أو يتوجه إليه بأنواع العبادة لأجل تحصيل مطلوبه ، فهذه هي محبة العبادة التي صرفها لغير الله- جل وعلا- شرك أكبر به ، بل هي عماد الدين ، بل هي عماد صلاح القلب ؛ فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون محبا لله - جل وعلا- وأن تكون محبته لله- جل وعلا- أعظم من كل شيء ، فالمحبة التي هي محبة الله وحده - يعني محبة العبادة- هذه من أعظم أنواع العبادات ، وإفراد الإله بها واجب ، والمحبة مع الله محبة العبادة هذه شركية ، فمن أحب غير الله- جل وعلا- محبة العبادة فإنه مشرك الشرك الأكبر بالله- جل وعلا- .(42/6)
هذه الأنواع الثلاثة هي المحبة المتعلقة بالله ، أما النوع الثاني من أنوع المحبة وهي المحبة المتعلقة بغير الله من جهة المحبة الطبيعية ، فقد أذن بها الشرع وأجازها ؛ لأن المحبة فيها ليس محبة العبادة والرغب والرهب الذي هو من العبادة ، وإنما هي محبة للدنيا وذلك كمحبة الوالد لولده ، والولد لوالده ، والرجل لزوجته ، والأقارب لأقربائهم ، والتلميذ لشيخه ، والمعلم لأبنائه ، ونحو ذلك من الأحوال ، هذه محبة طبيعية لا بأس بها ، بل جعلها الله- جل وعلا- غريزة في الإنسان .
قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا } [ البقرة : 165] أندادا ، يعني : أشباها ونظراء وأكفاء ، يعني : يساوونه في المحبة ؛ لهذا قال { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } ، وأحد وجهي التفسير في قوله يحبونهم كحب الله ، يعني : أن المشركين يحبون الأنداد كحبهم لله .
والوجه الثاني من التفسير : أن المشركين يحبون الأنداد كحب المؤمنين لله .(42/7)
والوجه الأول أظهر ، والكاف فيه هنا في قوله { كَحُبِّ اللَّهِ } بمعنى : مثل ، أي : يحبونهم مثل حب الله ، وهي كاف المساواة ومثلية المساواة ، ولهذا قال - جل وعلا- في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار . { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }{ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97-98] قال العلماء : سووهم برب العالمين في المحبة بدليل هذه الآية ولم يسووهم برب العالمين في الخلق والرزق وأفراد الربوبية .(42/8)
وقوله : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24] هذا يدل على أن محبة الله- جل وعلا- واجبة ، وأن محبة الله يجب أن تكون فوق كل محبوب ، وأن محبة الله أعظم من محبته لأي شيء ، قال- جل وعلا- : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } إلى أن قال : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وهذا وعيد فيدل على أن تقديم محبة غير الله على محبة الله كبيرة من الكبائر ، ومحرم من المحرمات ؛ لأن الله توعد عليه وحكم على فاعله بالفسق والضلال ، فالواجب لتكميل التوحيد أن يحب العبد الله ورسوله فوق كل محبوب ، ومحبة النبي -عليه الصلاة والسلام- هي في الله ليست محبة مع الله ، لأن الله هو الذي أمرنا بحب النبي -عليه الصلاة والسلام- ، فإن من أحب الله- جل(42/9)
وعلا- أحب رسله .
" عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » (1) قوله : " لا يؤمن أحدكم " يعني : الإيمان الكامل وقوله : "حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " يعني : أن يكون محابي مقدمة على محاب غيري ، فحتى أكون أحب إليه وأعظم في نفسه من ولده ووالده والناس أجمعين ، وفي حديث عمر المعروف « أنه قال للنبي -عليه الصلاة والسلام- : إلا من نفسي فقال : " يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال عمر : أنت الآن أحب إلي من نفسي ، قال : " فالآن يا عمر » يعني كملت الإيمان .
_________
(1) أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) .(42/10)
فقوله : « لا يؤمن أحدكم » يعني الإيمان الكامل حتى يقدم محبة النبي -عليه الصلاة والسلام- على محبة الولد والوالد والناس أجمعين ، ويظهر هذا بالعمل ، فإذا كان يقدم محاب هؤلاء على ما فيه مرضاة الله- جل وعلا- وعلى ما أمر به -عليه الصلاة والسلام- ؛ فإن محبته -عليه الصلاة والسلام- تكون ناقصة ؛ لأن المحبة محركة كما قال شيخ الإسلام في كتابه " قاعدة في المحبة" : المحبة هي التي تحرك فالذي يحب الدنيا يتحرك إلى الدنيا ، والذي يحب العلم يتحرك للعلم ، والذي يحب الله- جل وعلا- محبة عبادة ورغب ورهب يتحرك طالبا لمرضاته ويتحرك مبعدا عما فيه مساخط الرب- جل وعلا- .
كذلك الذي يحب النبي -عليه الصلاة والسلام- على الحقيقة ، فإنه يسعى في اتباع سنته ، وفي امتثال أمره ، وفي اجتناب نهيه ، والاهتداء بهديه ، والاقتداء بسنته -عليه الصلاة والسلام- .(42/11)
" ولهما عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار » (1) : والاستدلال به ظاهر على أن محبة الله ورسوله يجب أن تكون مقدمة على محبة ما سواهما ، وأنها من كمال الإيمان ، وأن العبد لن يجد كمال الإيمان إلا بذلك .
" وفي رواية : « لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى . . » إلى آخره " (2) : المقصود بالحلاوة هنا الحلاوة الناتجة عن تحصيل كماله ؛ لأن الإيمان له حلاوة توجد في الروح ، وكلما سعى العبد في تكميل إيمانه اشتد وجده لهذه الحلاوة ، واشتد شعوره بتلك الحلاوة واللذة التي تكون في القلب .
" وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : " من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك " :
هذه محبة في الله راجعة إلى الأمر والنهي وهي من أقسام المحبة .
قوله : " أحب في الله " . يعني : كانت محبته لذلك المحبوب لأجل أمر الله .
" أبغض في الله " . يعني : كان بغضه لذلك المبغض لأجل أمر الله .
_________
(1) تقدم .
(2) تقدم .(42/12)
" ووالى في الله " : كانت موالاته للعقد الذي بينه وبين ذاك في الله- جل وعلا- من أخوة إيمانية .
" وعادى في الله " . يعني : لما حصل بينه وبين ذاك الذي خالف أمر الله إما بكفر أو بما دونه .
" فإنما تنال ولاية الله بذلك " . يعني : إنما يكون العبد وليا من أولياء الله بهذا الفعل ، وهو أن يوالي في الله ويعادي في الله- جل وعلا- .
والولاية- بالفتح- هي : المحبة والنصرة . يقال : والى ولاية يعني : أحب محبة ، ونصر نصرة ، وأما الولاية- بالكسر- فهي : الملك والإمارة قال- جل وعلا- : { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } [ الكهف : 44] يعني : أن المحبة والنصرة إنما هي لله -جل وعلا- وليست لغيره ، فقوله : " فإنما تنال ولاية الله بذلك " يعني : تنال محبة الله ونصرته بذلك ، بأن يأتي بالمحبة في الله والبغض في الله .(42/13)
" ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه ، حتى يكون كذلك ، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " (1) : المؤاخاة والمحبة في الدنيا هذه تراد للدنيا ، والدنيا قصيرة زائلة ، وإنما يغتر بها أهل الغرور . وأما أهل المعرفة بالله ، والعلم بالله ، وأهل كمال توحيده ، وأهل كمال الإيمان ، وتحقيق التوحيد فإنما تكون محابهم ومشاعرهم القلبية وأنواع العلوم والمعارف التي تكون في القلب وأنواع العبادات والمقامات والأحوال التي تكون في القلب يكون ذلك كله تبعا لأمر الله ونهيه ورغبة في الآخرة ، أما الدنيا فلها أهلون ، وهي مرتحلة عنهم ، وهم مقبلون على أمر آخرتهم ؛ ولذلك لن تجدي المحبة في الدنيا على أهلها شيئا ، إنما الذي يجدي هو الحب في الله والرغب في الآخرة .
_________
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (353) وأبو نعيم في الحلية 1 / 312 والطبراني في الكبير (13537) .(42/14)
" وقال ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } قال : المودة " (1) ؛ لأن المشركين كانوا يشركون بآلهتهم ، ويحبونها ، ويظنون أنها ستشفع لهم يوم القيامة لأجل مودتهم لها ، ومحبتهم لها ، وستتقطع تلك الأسباب وتلك الحبال المدعاة الموهومة يوم القيامة ، ولن يجدوا نصيرا ، كما قال الله -جل جلاله- : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } يعني : كل ما ظنوه سببا نافعا عند الله فإنه سينقطع يوم القيامة : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } [ البقرة : 166] .
_________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (2423) والحاكم في المستدرك 2 / 272 .(42/15)
" باب قول الله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 115] .
وقوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ التوبة : 18] . وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10] .
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعا : « إن من ضعف اليقين أن ترض الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره » (1) وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » (2) رواه ابن حبان في صحيحه .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية آل عمران .
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في « الحلية» 5 / 106 و 10 / 41 والبيهقي في « شعب الإيمان » (203) وإسناده ضعيف .
(2) أخرجه ابن حبان 1 / 247 .(42/16)
الثانية : تفسير آية براءة .
الثالثة : تفسير آية العنكبوت .
الرابعة : أن اليقين يضعف ويقوى .
الخامسة : علامة ضعفه ومن ذلك هذه الثلاث .
السادسة : أن إخلاص الخوف لله من الفرائض .
السابعة : ذكر ثواب من فعله .
الثامنة : ذكر عقاب من تركه .
الشرح :
" باب قول الله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175] : هذا الباب في بيان عبادة الخوف ، ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة . وهي أن خوف العبد من الله - جل وعلا- عبادة من العبادات التي أوجبها الله- جل وعلا- ، فالخوف والمحبة والرجاء عبادات قلبية واجبة ، وتكميلها تكميل للتوحيد ، والنقص فيها نقص لكمال التوحيد .
والخوف من غير الله- جل وعلا- ينقسم إلى ما هو شرك ، وإلى ما هو محرم ، وإلى ما هو مباح ، فهذه ثلاثة أقسام .(42/17)
القسم الأول : الخوف الشركي ، وهو خوف السر ، يعني : أن يخاف في داخله من هذا المخوف منه ، وخوفه لأجل ما عند هذا المخوف منه مما يرجوه أو يخافه من أن يمسه سرا بشيء ، أو أنه يملك له في آخرته ضرا أو نفعا ، فالخوف الشركي متعلق في الدنيا بخوف السر ، بأن يخاف أن يصيبه ذلك الإله بشر وذلك شرك .
والخوف المتعلق بالآخرة ، معناه أن يخاف العبد غير الله ويتعلق خوفه بغير الله من أن لا ينفعه ذلك الإله في الآخرة ، فلأجل رغبه في أن ينفعه ذلك الإله في الآخرة وأن يشفع له ، وأن يقربه منه في الآخرة ، وأن يبعد عنه العذاب في الآخرة ، خاف منه فأنزل خوفه به .
فالخوف من العبادات العظيمة التي يجب أن يفرد الله- جل وعلا- بها ، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك .(42/18)
والقسم الثاني . الخوف المحرم وهو أن يخاف من مخلوق في امتثال واجب ، أو البعد عن المحرم ، مما أوجبه الله أو حرمه ، كأن يخاف من مخلوق في أداء فرض من فرائض الله ، وفي أداء واجب من الواجبات ، فلا يصلي خوفا من مخلوق ، ولا يحضر الجماعة خوفا من ذم المخلوق له أو استنقاصه له ، فهذا محرم ، قال بعض العلماء : وهو نوع من أنواع الشرك ، لأن ترك الأمر والنهي الواجب بشرطه خوفا من ذم الناس ، أو من ترك مدحهم له ، أو من وصمهم له بأشياء ، فيه تقديم لخوف الناس على خوف الله تعالى ، وهذا محرم ؛ لأن الوسيلة إلى المحرم محرمة .
القسم الثالث : الخوف الطبيعي المأذون به ، وهذا أمر طبيعي كخوف من عدو ، أو من سبع ، أو من نار ، أو من مؤذ ومهلك ، ونحو ذلك .
" باب قول الله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175] .
وجه الاستدلال من هذه الآية : أنه قال : { فَلَا تَخَافُوهُمْ } وهذا نهي عن إنزال عبادة الخوف بغيره ، فهذا يدل على أنه نهي عن أحد أفراد الشرك .(42/19)
قوله : { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أمر بالخوف منه جل وعلا ، فدل على أن الخوف عبادة من العبادات ، وتوحيد الله بهذه العبادة توحيد ، وإشراك غير الله معه في هذه العبادة شرك ؛ والخوف من الخلق- كما ذكرنا- في ترك فريضة الجهاد ، إنما يكون من جراء الشيطان ، فالشيطان هو الذي يخوف المؤمنين من أوليائه ، ويخوف أهل التوحيد وأهل الإيمان من أعداء الله- جل وعلا- لكي يتركوا الفريضة ؛ فلهذا كان ذلك الخوف محرما ، يعني : الخوف من الأعداء الذي يترتب عليه ترك فريضة من فرائض الله من الجهاد وغيره ، والواجب ألا يخاف العبد إلا ربه- جل وعلا- وأن ينزل خوفه به ، وألا يخاف أولياء الشيطان .(42/20)
وقوله -جل وعلا- هنا : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } : معناها على الصحيح من التفسير أو على الراجح : يخوفكم أولياءه ، يعني : يخوف أهل الإيمان أولياء الشيطان ، ففاعل يخوف ضمير يعود على الشيطان ، والمفعول الأول محذوف دل عليه السياق ، والتقدير : يخوف الشيطان الناس أولياءه ، يعني : يجعل الشيطان أهل التوحيد في خوف من أعدائهم ؛ لهذا قال السلف في تفسيرها . { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } يعني : يخوفكم أولياءه ، وهذا ظاهر من الآيات قبلها كقوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173] .(42/21)
" وقوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } [ التوبة : 18] : وجه الدلالة من الآية قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } وهذا نفي واستثناء ، وتقدم أن مجيء أداة الاستثناء بعد النفي يدل على الحصر والقصر ، فالآية دالة بظهور على أن الخشية يجب أن تكون من الله ، وأن الله أثنى على أولئك لأنهم جعلوا خشيتهم لله وحده دون ما سواه ، والخشية أخص من الخوف .
وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10] : قوله : { جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } بأن خاف منها ، وترك ما أوجب الله عليه ، أو أقدم على ما حرم الله عليه ، خشية من كلام الناس .(42/22)
" وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعا : « إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤت الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره » (1) وجه الاستدلال من هذا الحديث قوله : " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله " .
" من ضعف اليقين " : يعني من أسباب ضعف الإيمان ، والذي يضعف الإيمان ارتكاب المحرمات ؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، فدل على أن إرضاء الناس بسخط الله معصية وذنب ومحرم لأن هذا الذي أرضى الناس بسخط الله خافهم أو رجاهم ، وهذا مناسبة إيراد الحديث في الباب .
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 5 / 106 والبيهقي في شعب الإيمان (203) .(42/23)
" وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » رواه ابن حبان في صحيحه (1) ، هذا جزاء الذي أفرد الله بعبادة الخوف وجزاء الذي لم يكمل التوحيد في عبادة الخوف ، فالذي التمس رضا الله بسخط الناس عظم الله وخافه ، ولم يجعل فتنة الناس كعذاب الله ؛ بل جعل عذاب الله- جل وعلا- أعظم فخاف الله وخشيه وطمع فيما عنده ، فلم يلتفت إلى الناس ، ولم يرفع بهم رأسا ، فكان جزاؤه أن رضي الله عنه ، وجعل الناس يرضون عنه .
« ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » : لأنه ارتكب ذنبا بأن خاف الناس ، وجعل خوفه من الناس سببا لعمل المحرم ، أو ترك فريضة من فرائض الله ؛ لهذا قال " من التمس رضا الناس بسخط الله " فكان جزاؤه أن سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس .
_________
(1) أخرجه ابن حبان في الصحيح 1 / 247 وابن أبي شيبة في المصنف 13 / 436-573 .(42/24)
" باب قول الله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } " [ المائدة : 23] .
وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2] وقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64] وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3] .
وعن ابن عباس قال : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } [ آل عمران : 173] . رواه البخاري والنسائي (1) .
فيه مسائل :
الأولى : أن التوكل من الفرائض .
الثانية : أنه من شروط الإيمان .
الثالثة : تفسير آية الأنفال .
الرابعة : تفسير الآية في آخرها .
_________
(1) أخرجه البخاري (4563) و (4564) .(42/25)
الخامسة : تفسير آية الطلاق . السادسة : عظم شأن هذه الكلمة ؛ أنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد .
الشرح :
مناسبة الباب لكتاب التوحيد أن التوكل على الله فريضة من الفرائض ، وواجب من الواجبات ، وأن إفراد الله - جل وعلا- به توحيد ، وأن التوكل على غير الله شرك مخرج من الملة ، والتوكل على الله شرط في صحة الإسلام ، وشرط في صحة الإيمان فالتوكل عبادة عظيمة ، فعقد المؤلف -رحمه الله- هذا الباب لبيان هذه العبادة .(42/26)
وحقيقة التوكل على الله - جل جلاله- : أن يعلم العبد أن هذا الملكوت إنما هو بيد الله- جل وعلا- يصرفه كيف يشاء ، فيفوض الأمر إليه ، ويلتجئ بقلبه في تحقيق مطلوبه وفي الهرب مما يسوءه ، يلتجئ في ذلك ويعتصم بالله - جل جلاله- وحده ، فينزل حاجته بالله ويفوض أمره إلى الله ، ثم يعمل السبب الذي أمر الله به " فحقيقة التوكل في الشرع تجمع تفويض الأمر إلى الله- جل وعلا- ، وفعل الأسباب ، بل إن نفس الإيمان سبب من الأسباب التي يفعلها المتوكلون على الله ، بل إن نفس التوكل على الله- جل وعلا- سبب من الأسباب ، فالتوكل حقيقته في الشرع تجمع عبادة قلبية عظيمة ، وهي تفويض الأمر إليه ، والالتجاء إليه ، والعلم بأنه لا أمر إلا أمره ، ولا شيء إلا بما قدره وأذن به كونا ، ثم فعل السبب الذي أوجب الله- جل وعلا- فعله أو أمر بفعله ، فترك فعل الأسباب ينافي حقيقة التوكل الشرعية ، كما أن الاعتماد على السبب وترك تفويض الأمر إلى الله- جل وعلا- ينافي حقيقة التوكل الشرعية ، فالمتوكل في الشرع هو من عمل السبب ، وفوض الأمر إلى الله- جل وعلا- في الانتفاع بالسبب ، وفي حدوث المسبب من ذلك السبب ، وفي توفيق الله وإعانته فإنه لا حول ولا(42/27)
قوة إلا به- جل وعلا- .
والتوكل- كما قال الإمام أحمد - : عمل القلب ، فالتوكل عبادة قلبية محضة ؛ ولهذا كان إفراد الله- جل وعلا- بها واجبا ، وكان صرفها لغير الله - جل وعلا- شركا .
والتوكل على غير الله- جل وعلا- له حالان .
الحال الأولى : أن يكون شركا أكبر ، وهو أن يتوكل على أحد من الخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله - جل جلاله- ، كأن يتوكل على المخلوق في مغفرة الذنب ، وأن يتوكل على المخلوق في تحصيل الخيرات الأخروية ، أو يتوكل على المخلوق في تحصيل ولد له ، أو في تحصيل وظيفة له ، فيتوكل عليه بقلبه ، وهو لا يقدر على ذلك الشيء ، وهذا يكثر عند عباد القبور وعباد الأولياء ، فإنهم يتوجهون إلى الموتى بقلوبهم يتوكلون عليهم ، ويفوضون أمر صلاحهم فيما يريدون في الدنيا والآخرة إلى أولئك الموتى وإلى تلك الآلهة والأوثان التي لا تقدر من ذلك على شيء ، فهذه عبادة صرفت لغير الله - جل وعلا- وهو شرك أكبر بالله - جل وعلا- مناف لأصل التوحيد .(42/28)
والنوع الثاني : أن يتوكل على المخلوق فيما أقدره الله- جل وعلا- عليه ، وهذا نوع شرك ، بل هو شرك خفي ، وشرك أصغر ؛ ولهذا قال طائفة من أهل العلم . إذا قال : توكلت على الله وعليك فإن هذا شرك أصغر ؛ ولهذا قالوا :
لا يجوز أن يقول : توكلت على الله ثم عليك ؛ لأن المخلوق ليس له نصيب من التوكل ، فإن التوكل إنما هو تفويض الأمر والالتجاء بالقلب إلى من بيده الأمر وهو الله- جل وعلا- ، والمخلوق لا يستحق شيئا من ذلك .
فالتوكل على المخلوق فيما يقدر عليه شرك خفي ونوع شرك أصغر ، والتوكل على المخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق ، وهذا يكثر عند عباد القبور والمتوجهين إلى الأولياء والموتى ، هو شرك يخرج من الملة .(42/29)
وحقيقة التوكل الذي ذكرناه لا يصلح إلا لله- جل وعلا- ؛ لأنه تفويض الأمر إلى من بيده الأمر والمخلوق ليس بيده الأمر ، فالتجاء القلب ورغب القلب وطمع القلب في تحصيل المطلوب إنما يكون ذلك ممن يملكه وهو الله - جل وعلا- ، أما المخلوق فلا يقدر على شيء استقلالا وإنما هو سبب ، فإذا كان سببا فإنه لا يجوز التوكل عليه ؛ لأن التوكل عمل القلب وإنما يجعله سببا بأن يجعله شفيعا ، أو واسطة ، ونحو ذلك ، فهذا لا يعني أنه متوكل عليه ، فيجعل المخلوق سببا فيما أقدره الله عليه ولكن يفوض أمر النفع بهذا السبب إلى الله- جل وعلا- ، فيتوكل على الله ويأتي بالسبب الذي هو الانتفاع من هذا المخلوق بما جعل الله- جل وعلا- له من الانتفاع أو من القدرة ونحو ذلك .(42/30)
" باب قول الله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23] : هذه الآية فيها الأمر بالتوكل على الله وحده ، ولما أمر به علمنا أنه من العبادة ، ولما قدم الجار والمجرور في قوله : { وَعَلَى اللَّهِ } على ما يتعلق به وهو الفعل { فَتَوَكَّلُوا } دل على وجوب إفراد الله - جل وعلا- بالتوكل وأن التوكل عبادة يجب أن تحصر وتقصر في الله - جل وعلا- ، هذا وجه الدلالة من الآية .
ودليل آخر في هذه الآية ، وهو قوله وتعالى : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } حيث جعل الإيمان لا يصح إلا بالتوكل ، وأن التوكل شرط الإيمان ، فقال : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وهذا هو الشرط ، وجوابه محذوف ، وتقديره : فأفردوا الله بالتوكل ، فجزاء الشرط هو إفراد الله بالتوكل ، فصارت دلالة الآية من جهتين .(42/31)
وكذلك قوله -جل وعلا- في آية سورة يونس : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [يونس : 84] فقوله { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا } أمر بإفراده بالتوكل -جل وعلا- وقدم الجار والمجرور ، لإفادة الحصر والقصر والاختصاص بالله -جل وعلا- ، ثم جعل إفراده بالتوكل -جل وعلا- شرطا في صحة الإسلام فقال : { إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } فهاتان الآيتان دلتا على أن التوكل عبادة ، وأن إفراد الله به -جل وعلا- واجب ، وأنه شرط في صحة الإسلام ، وشرط في صحة الإيمان ، وهذا كله يدل على أن انتفاءه مذهب لأصل التوحيد ومناف لأصله إذا توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل جلاله- .(42/32)
" وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2] : وجه الدلالة من الآية : أنه وصف المؤمنين بهذه الصفات الخمس وآخرها قوله : { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وظاهر من دلالة الآية حيث قدم الجار والمجرور على أنهم أفردوا الله بالتوكل ، فدل على أن هذه العبادات الخمس هي أعظم مقامات أهل الإيمان ، وهذا ينبغي التنبه له ، إذ كل أمور الدين والعبادات والفروع العملية التي يعملها العبد ، إنما هي فرع عن تحقيق هذه الخمس التي جاءت في هذه الآية { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وهذه الصفة تجمع الكلمات الشرعية وتجمع الدين جميعا ؛ لأن ذكر الله فيه القرآن وفيه السنة .(42/33)
" وقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64] يعني : كافيك الله وكافي من اتبعك من المؤمنين ؛ لأن الحسب هو الكافي ، والكلمة المشابهة لها (حسب) تقول : هذا بحسب كذا ، يعني : بناء على كذا ، وأما الكافي فهو (الحسب) بسكون السين .
ووجه مناسبة الآية لهذا الباب : أن الله حسب من توكل عليه ، قال- جل وعلا- : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3] فالله حسب من توكل عليه ، فدل على أن الله -جل وعلا- أمر عباده بالتوكل عليه حتى يكون كافيهم من أعدائهم وحتى يكون -جل وعلا- كافي المؤمنين من المشركين ، قال -جل وعلا- : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ } يعني : كافيك الله ، ولهذا أعقبها المؤلف بالآية الأخرى وهي قوله -جل وعلا- : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } والتوكل على الله - جل وعلا - كما سبق ، يرجع إلى فهم توحيد الربوبية ، وإلى عظم الإيمان بتوحيد الربوبية ، فإن بعض المشركين قد يكون عنده من التوكل على الله الشيء العظيم .(42/34)
والتوكل على الله من العبادات العظيمة التي تطلب من المؤمن ؛ لهذا نقول : إن إحداث التوكل في القلب يرجع إلى التأمل في آثار الربوبية ، فكلما كان العبد أكثر تأملا في ملكوت الله : في السماوات والأرض ، والأنفس ، والآفاق ، كان علمه بأن الله هو ذو الملكوت وأنه هو المتصرف ، وأن نصره لعبده شيء يسير جدا بالنسبة إلى ما يجريه الله - جل وعلا - في ملكوته ، فيعظم المؤمن بهذا التدبر الله - جل وعلا - ، ويعظم التوكل عليه ، ويعظم أمره ونهيه ، ويعتقد أن الله - جل جلاله - لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، سبحانه وتعالى .
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } : رتّب الحسب - وهو الكفاية - على التوكل عليه ، وهذا فضيلة التوكل ، وفضيلة المتوكلين عليه .(42/35)
" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } " (1) وهذا يبين عظم هذه الكلمة وهي قول المؤمن : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فإذا حقق العبد التوكل على الله وحققه في القلب فقد حقق هذا النوع من توحيد التوكل في النفس ، فإن العبد إذا أعظم رجاءه في الله ، وأكمل توكله على الله ، فإنه وإن كادته السماوات والأرض ومن فيهن فإن الله سيجعل له من أمره يسرا ، وسيجعل له من بينها مخرجا .
قوله : " حسبنا الله " يعني : كافينا الله .
" ونعم الوكيل " يعني : ونعم الوكيل ربنا ، هذه كلمة عظيمة قالها إبراهيم عليه السلام في الكرب ، وقالها أيضا النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في الكرب لما قال لهم الناس : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } [ آل عمران : 173 ] وذلك لعظم توكلهم على الرب - جل وعلا - .
_________
(1) تقدم .(42/36)
" باب قول الله تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 99 ] .
وقوله : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [ الحجر : 56 ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله » (1) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله " رواه عبد الرزاق (2) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الأعراف .
الثانية : تفسير آية الحجر .
الثالثة : شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله .
الرابعة : شدة الوعيد في القنوط .
الشرح :
هذا باب قول الله تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 99 ] ، وقوله : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [ الحجر : 56 ] . هذا الباب عقده المؤلف للآيتين جميعا لاتصالهما .
_________
(1) أخرجه البزار (106) ، وابن أبي حاتم في « التفسير » ، كما في « الدر المنثور » 2 / 147 وقال : إسناده حسن .
(2) أخرجه عبد الرزاق في « المصنف » 10 / 459 .(42/37)
والمراد بهذا الباب بيان أن الجمع بها الخوف والرجاء واجب من واجبات الإيمان ، ولا يتم التوحيد إلا بذلك ، فعدم الجمع بين الخوف والرجاء مناف لكمال التوحيد ، فالواجب على العبد أن يجعل خوفه مع الرجاء ، وأن يجعل رجاءه مع الخوف ، وأن لا يأمن المكر كما لا يقنط من رحمة الله - جل وعلا - .
فالآية الأولى وهي قول الله تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } : فيها بيان أن المشركين من صفاتهم أنهم أمنوا عقاب الله فلم يخافوا ، والواجب بالمقابل أن تكون قلوبهم خائفة وجلة من الله - جل وعلا - قال سبحانه : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } يعني : أيعلمون تلك المثلات ، وفعل الله - جل وعلا - بالأمم السالفة ، التي قصها الله في سورة الأعراف فأمنوا مكر الله ؟!! فإذا كان كذلك ، وحصل منهم الأمن ، مع وجود النذر فيما حولهم ، وأن الله قص عليهم القصص والأنباء ، فإن ذلك من صفات الخاسرين كما قال تعالى : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .(42/38)
والأمن من مكر الله ناتج عن عدم الخوف ، وترك عبادة الخوف ، وعبادة الخوف قلبية ، والمراد هنا هو خوف العبادة . وهذا الخوف إذا كان في القلب ، فإن العبد سيسعى في مراضي الله ويبتعد عن مناهيه ، وسيعظم الله - جل وعلا - ويتقرب إليه بالخوف ؛ لأن الخوف عبادة ، ويكون عبادة من وجوه ، منها : أن يتقرب إلى الله - جل وعلا - بالخوف ، وأن يتقرب إلى الله - جل وعلا - بعدم الأمن من مكره ، وذلك أن الله هو ذو الجبروت ، فعدم الأمن من مكر الله راجع إلى عدم فهم صفات الله - جل وعلا - وأسمائه التي منها : القهار ، والجبار ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، ونحو ذلك من صفات الربوبية .
ومكر الله - جل وعلا - من صفاته التي تطلق مقيدة ، فالله - جل وعلا - يمكر بمن مكر بأوليائه وأنبيائه ، وبمن مكر بدينه ؛ لأنها في الأصل صفة نقص ، ولكن تكون صفة كمال إذا كانت بالمقابلة ؛ لأنها حينئذ فيها معنى إظهار العزة ، والقدرة والقهر والجبروت وسائر صفات الجلال ، فمكر الله - جل وعلا - من صفاته التي يتصف بها ، على وجه التقييد ، فنقول : يمكر بأعداء رسله ، يمكر بأعدائه ، يمكر بمن مكر به ، ونحو ذلك .(42/39)
وحقيقة مكر الله - جل وعلا - ومعنى هذه الصفة : أنه - جل وعلا - يستدرج العبد ويملي له ، حتى إذا أخذه لم يفلته ، فييسر له الأمور حتى يظن أنه في غاية المأمن ، فيكون ذلك استدراجا في حقه ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : « إذا رأيتم الله يعطي العبد ، وهو مقيم على معاصيه ، فاعلموا أن ذلك استدراج » (1) وهذا ظاهر من معنى المكر ؛ لأن في معنى المكر والكيد وأمثالهما معنى الاستدراج .
ولا ترادف في اللغة ، بل هناك فروق بين المكر والاستدراج ، والكيد ، ونحو ذلك ، لكن نقول هذا من جهة التقرير ، فالمكر فيه استدراج وفيه زيادة أيضا على الاستدراج بحيث يكون قلب ذلك المستدرج آمنا من كل جهة .
" وقوله : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } : هذا فيه أن من صفة الضالين أنهم يقنطون من رحمة الله - جل وعلا - ، ومعنى ذلك بالمفهوم أن صفة المتقين المهتدين أنهم لا يقنطون من رحمة الله ، بل يرجون رحمة الله - جل وعلا - ، والجمع بين الخوف والرجاء واجب شرعا ، فإن الخوف عبادة ، والرجاء عبادة ، واجتماعهما في القلب واجب ، فلا بد أن يكون هذا ، وهذا جميعا في القلب حتى تصح العبادة .
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 145 .(42/40)
ومن هنا اختلف العلماء في أيهما يغلب : الخوف أم الرجاء ؟ هل يغلب العبد جانب الرجاء أو يغلب جانب الخوف ؟ والتحقيق : أن ذلك على حالين : الأولى : إذا كان العبد في حال الصحة والسلامة فإنه إما أن يكون مسددا مسارعا في الخيرات ، فهذا ينبغي أن يتساوى في قلبه الخوف والرجاء ، فيخاف ويرجو ؛ لأنه من المسارعين في الخيرات . وإذا كان في حال الصحة والسلامة وكان من أهل العصيان ، فالواجب عليه أن يغلب جانب الخوف حتى ينكف عن المعصية . الحال الثانية : إذا كان في حال المرض المخوف فإنه يجب عليه أن يعظم جانب الرجاء على الخوف ، فيقوم في قلبه الرجاء والخوف ولكن يكون رجاؤه أعظم من خوفه ، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام : « لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه تعالى » (1) ، وذلك من جهة رجائه في الله - جل جلاله - .
ومن هنا اختلفت كلمات أهل العلم ، فتجد بعضهم يقول : يجب أن يتساوى الخوف والرجاء ، وبعض السلف قال : يغلب جانب الخوف على جانب الرجاء ، وبعض السلف قال : يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف ، وهي أقوال متباينة ظاهرًا ، ولكنها متفقة في الحقيقة ؛ لأن كل قول منها يرجع إلى حالة مما ذكرنا .
_________
(1) أخرجه مسلم (7229) .(42/41)
فمن قال : يغلب جانب الخوف على الرجاء فهو في حق الصحيح العاصي . ومن قال : يغلب جانب الرجاء على الخوف فهو في حق المريض الذي يخاف الهلاك أو من يخاف الموت . ومن قال : يساوي بين الخوف والرجاء فنظر إلى حال المسددين المسارعين في الخيرات ، الذين وصفهم الله - جل وعلا - بقوله { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] ، وقوله - جل وعلا - في سورة الإسراء : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 57 ] وهذا ظاهر .
فالشيخ - رحمه الله - عقد هذا الباب لبيان وجوب أن يجتمع الخوف والرجاء في القلب ، وقد مر بنا أن هذه أبواب متتالية لبيان حالات القلب والعبادات القلبية وأحكام ذلك .(42/42)
" عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر ، فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله » (1) : وجه الشاهد من ذلك : أنه جعل اليأس من روح الله ، وهو ذهاب الرجاء من القلب ، وترك الإتيان بعبادة الرجاء ، جعله من الكبائر ، وجعل الأمن من مكر الله ، وهو ذهاب الخوف من الله - جل وعلا - من القلب جعله من الكبائر ، فعدم الرجاء في الله من الكبائر ، وعدم الخوف من الله - جل وعلا - من الكبائر ، وهي كبائر من جهة أعمال القلوب ، واجتماع الكبيرتين معا بأن لا يكون عنده رجاء ولا خوف ، أعظم من كبيرة ترك الخوف وحده من الله ، أو ترك الرجاء وحده من الله - جل وعلا - ؛ ولهذا قرن بينهما في هذا الحديث حيث قال : « سئل عن الكبائر فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله » وبهذا يتبين لك الفرق بين اليأس من روح الله أو القنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله ، ؛ لأن اليأس راجع إلى ترك عبادة الرجاء ، والأمن من مكر الله راجع إلى ترك عبادة الخوف ، واجتماعهما واجب من الواجبات ، وذهابهما أو الانتقاص منهما نقص في كمال توحيد من قام ذلك بقلبه .
_________
(1) أخرجه البزار في المسند (106 - كشف الأستار ) .(42/43)
" وعن ابن مسعود قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله " (1) : : في هذا الأثر ما في الحديث قبله ، لكن هنا فصل في القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، فجعل القنوط من رحمة الله شيئا ، وجعل اليأس من روح الله شيئا آخر ، وهذا باعتبار بعض الصفات لا باعتبار أصل المعنى ، وإلا فإن القنوط من الرحمة واليأس من الروح بمعنى واحد ، لكن يختلفان من حديث ما يتناوله هذا ويتناوله هذا ، فالقنوط من رحمة الله عام ؛ لأن الرحمة أعم من الروح ، والرحمة تشمل جلب النعم ودفع النقم ، وروح الله - جل وعلا - يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب ، فقوله : القنوط من رحمة الله هذا أعم ؛ ولهذا قدمه فيكون ما بعده من عطف الخاص على العام ، أو أن يكون هناك ترادف في أصل المعنى ، واختلاف في الصفات ، أو بعض ما يتعلق باللفظ .
فهذا الحديث مع الحديث قبله والآيتين : دلالتهما على ما أراد المؤلف من عقد هذا الباب واحدة ، ودلالة الجميع : أن الخوف والرجاء واجب اجتماعهما في القلب وإفراد الله - جل وعلا - بهما ، والمقصود خوف العبادة ، ورجاء العبادة .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 10 / 459 ، والطبراني في « الكبير» (8783) .(42/44)
" باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله "
وقول الله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] ، قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم (1) ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت » (2) ، ولهما عن ابن مسعود مرفوعا : « ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية » (3) . وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة » (4) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط » (5) . حسنه الترمذي .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية التغابن .
الثانية : أن هذا من الإيمان بالله .
الثالثة : الطعن في النسب .
الرابعة : شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 28 / 123 .
(2) أخرجه مسلم (67) .
(3) أخرجه البخاري (1294) ، و (1297) ، و (3519) ، ومسلم (103) .
(4) أخرجه الترمذي (2398) ، والحاكم 1 / 340 .
(5) أخرجه الترمذي (2398) وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه .(42/45)
الخامسة : علامة إرادة الله بعبده الخير .
السادسة : إرادة الله به الشر .
السابعة : علامة حب الله للعبد .
الثامنة : تحريم السخط .
التاسعة : ثواب الرضا بالبلاء .
الشرح :
" باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله " : الصبر من المقامات العظيمة ، والعبادات الجليلة التي تكون في القلب وفي اللسان وفي الجوارح ، وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر ؛ لأن العبادة أمر شرعي ، أو نهي شرعي ، أو ابتلاء ، بأن يصيب الله العبد بمصيبة قدرية فيصبر عليها .
فحقيقة العبادة : أن يمتثل الأمر الشرعي ، وأن يجتنب النهي الشرعي ، وأن يصبر على المصائب القدرية التي ابتلى الله - جل وعلا - العباد بها . فالابتلاء حاصل بالدين وحاصل بالأقدار ، فبالدين كما قال - جل وعلا - لنبيه صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : إنما بعثتك لأبتليك ، وأبتلي بك » (1) . فحقيقة بعثة النبي عليه الصلاة والسلام الابتلاء ، والابتلاء يجب معه الصبر ، والابتلاء الحاصل ببعثته بالأوامر والنواهي .
_________
(1) أخرجه مسلم (2865) ، وأحمد 4 / 162 .(42/46)
فالواجبات تحتاج إلى صبر ، والمنهيات تحتاج إلى صبر ، والأقدار الكونية تحتاج إلى صبر ؛ ولهذا قال طائفة من أهل العلم : إن الصبر ثلاثة أقسام : صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر على أقدار الله المؤلمة .
ولما كان الصبر على المصائب قليلا أفرد له الشيخ - رحمه الله - هذا الباب لبيان أنه من كمال التوحيد ، ومن الواجب على العبد أن يصبر على أقدار الله ؛ لأن تسخط العباد وعدم صبرهم ، كثيرا ما يظهر في حال الابتلاء بالمصائب ، فعقد هذا الباب لبيان أن الصبر واجب على أقدار الله المؤلمة ، ونبه بذلك على أن الصبر على الطاعة واجب ، وأن الصبر عن المعصية واجب .
وحقيقة الصبر في اللغة : الحبس ، ومنه قولهم : قتل فلان صبرا ، إذا حبس أو ربط فقتل من دون مبارزة ولا قتال . ويقال للصبر الشرعي إنه صبر ؛ لأن فيه حبس اللسان عن التشكي ، وحبس القلب عن السخط ، وحبس الجوارح عن إظهار السخط من لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك ، فحبس هذه الأشياء هو حقيقة الصبر ، فالصبر إذًا في الشرع هو : حبس اللسان عن التشكي ، وحبس القلب عن التسخط ، وحبس الجوارح عن إظهار السخط بشق أو نحو ذلك .(42/47)
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : ذكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعا ، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ؛ لأن من لا صبر له على الطاعة ، ولا صبر له عن المعصية ، ولا صبر له على أقدار الله المؤلمة ، فإنه يفوته أكثر الإيمان .
وقوله : " باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله " يعني : أن من خصال الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ، والإيمان له شعب ، كما أن الكفر له شعب ، فنبه بقوله : « من الإيمان بالله الصبر » على أن من شعب الإيمان الصبر ، ونبه في الحديث الذي رواه مسلم على أن النياحة من شعب الكفر ، فيقابل كل شعبة من شعب الكفر شعبة من شعب الإيمان ، فالنياحة على الميت شعبة من شعب الكفر ، يقابلها في شعب الإيمان الصبر على أقدار الله المؤلمة .(42/48)
" وقول الله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم " (1) . هذا تفسير من علقمة - أحد التابعين - لهذه الآية ، وهو تفسير ظاهر الصحة والصواب ؛ وذلك أن قوله : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } إنما ورد في سياق ذكر ابتلاء الله بالمصائب ، فـ { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ } يعني : يعظم الله - جل وعلا - ويمتثل أمره ويتجنب نهيه { يَهْدِ قَلْبَهُ } للصبر ، و { يَهْدِ قَلْبَهُ } لعدم السخط ، و { يَهْدِ قَلْبَهُ } للعبادات ؛ ولهذا قال : " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله " وهذا هو الإيمان بالله " فيرضى ويسلم "
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 28 / 123 ، وأخرجه عبد الرزاق في التفسير 3 / 95 .(42/49)
والمصائب من القدر ، والقدر راجع إلى حكمة الله - جل وعلا - ، وحكمة الله - جل وعلا - هي وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها ، فالحكمة بعامة مرتبطة بالغايات المحمودة من وضع الأمر في موضعه ، فمن وضع الأمر في غير موضعه فقد ظلم ، ومن وضع الأمر في موضعه عدل ، وقد يكون غير حكيم ، أي قد يكون عادلا ولكن غير حكيم ، فإذا وضع الأمر في موضعه الموافق للغاية المحمودة منه فذاك هو الحكيم ، والله - جل وعلا - منفي عنه الظلم ومثبت له كمال العدل سبحانه حيث يضع الأمور في مواضعها ، ومثبت له - جل وعلا - كمال الحكمة حيث إن وضعه الأمور في مواضعها موافق للغايات المحمودة منها ، فنعلم بذلك أن المصيبة إذا أصابت العبد فإن الخير له فيها ، إما أن يصبر فيؤجر ، وإما أن يتسخط فيؤزر على ذلك ، وهذا في حق الخاسرين ، فالله - جل وعلا - له الحكمة من الابتلاء بالمصائب ؛ لهذا يجب على العبد أن يعلم أن ما جاء من عند الله هو قدر الله - جل وعلا - وقضاؤه الموافق لحكمته فيجب الصبر على ذلك .
قوله : " يعلم أنها من عند الله " : يعني : أن الله هو الذي أتى بها ، وهو الذي أذن بها قدرا وكونا .(42/50)
" فيرضى ويسلم " : الرضا بالمصيبة مستحب وليس بواجب ؛ ولهذا يختلط على كثيرين الفرق بين الرضا والصبر ، وتحرير المقام في ذلك : أن الصبر على المصائب واجب من الواجبات ؛ لأن فيه ترك السخط على قضاء الله وقدره ، والرضا له جهتان : الجهة الأولى : راجعة إلى فعل الله - جل وعلا - ، فيرضى بقدر الله الذي هو فعله ، ويرضى بفعل الله ، ويرضى بحكمة الله ، ويرضى بما قسم الله - جل وعلا - ، وهذا الرضا بفعل الله - جل وعلا - واجب من الواجبات ، وتركه محرم ومناف لكمال التوحيد .
والجهة الثانية : الرضا بالمقضي ، أي بالمصيبة في نفسها ، فهذا مستحب ، ليس واجبا على العباد أن يرضوا بالمرض ، وأن يرضوا بفقد الولد ، وأن يرضوا بفقد المال ، لكن هذا مستحب وهو رتبة الخاصة من عباد الله ، لكن الرضا بفعل الله - جل وعلا - بمعنى الرضا بقضاء الله من حيث هو واجب ، أما الرضا بالمقضي فإنه مستحب ؛ ولهذا قال علقمة هنا : " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى " يعني : على قضاء الله " ويسلم " لعلمه أنها من عند الله - جل جلاله - ، وهذا من خصال الإيمان .
"(42/51)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اثنتان الناس هما بهم كفر » : يعني . خصلتان من شعب الكفر قائمتان في الناس ، وستبقيان في الناس : « الطعن في النسب ، والنياحة على الميت » (1) .
وجه الشاهد من هذا الحديث : قوله : " والنياحة على الميت " لأن النياحة مخالفة للصبر ، والصبر الواجب فيه : حبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك ، وحبس اللسان عن التشكي والعويل وهذا هو النياحة ، فالنياحة من شعب الكفر ؛ لأنها منافية للصبر .
_________
(1) أخرجه مسلم (67) ، وأحمد في المسند 2 / 377 -441 .(42/52)
وكونها من شعب الكفر لا يدل على أن من قامت به فهو كافرٌ الكفر المطلق المخرج من الملة ، بل يدل على أن من قامت به قامت به خصلة من خصال الكفار ، وشعبة من شعب الكفر ؛ ولهذا قال هنا : « اثنتان في الناس هما بهم كفر » فنكر كلمة " كفر " ، والقاعدة في فهم ألفاظ الكفر التي تأتي في الكتاب والسنة : أن الكفر إذا أتى معرفا بالألف واللام فإن المراد به الكفر الأكبر ، وإذا أتى منكرا - أي بدون الألف واللام - فإنه يدل على أن الخصلة تلك من شعب الكفر ، ومن خصال أهل الكفر ، وأن ذلك كفر أصغر كما قال عليه الصلاة والسلام : « لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض » (1) لأن ذلك من خصال الكفار ، ونحو ذلك قوله : « سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » (2) هذا في الكفر الأصغر .
وأما الكفر المعرف بالألف واللام فالقاعدة التي حررها الأئمة كشيخ الإسلام وغيره : أنه إذا أتى فيراد به الكفر الأكبر ، كقوله عليه الصلاة والسلام : « بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة » (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري (121) و (4405) و (6869) و (7080) ، ومسلم (118) .
(2) أخرجه مسلم (221) .
(3) أخرجه مسلم (134) .(42/53)
" ولهما عن ابن مسعود مرفوعا : « ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية » (1) دل هذا الحديث على أن من فعل هذه الأفعال فهو ليس من أهل الإيمان ، وقد سبق بيان أن كلمة " ليس منا " تدل على أن الفعل من الكبائر ؛ ولهذا فإن ترك الصبر وإظهار التسخط كبيرة من الكبائر ، والمعاصي تنقص الإيمان ؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ونقص الإيمان قد ينقص كمال التوحيد ، بل إن ترك الصبر مناف لكمال التوحيد الواجب .
_________
(1) أخرجه البخاري (1294) و (1297) ، ومسلم (103) ، وأحمد 1 / 386 .(42/54)
" وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة » (1) : هذا فيه بيان حكمة الله - جل وعلا - التي إذا استحضرها المصاب ، فإنه يعظم عنده الصبر ، ويتحلى بهذه العبادة القلبية العظيمة وهي ترك التسخط ، والرضا بفعل الله - جل وعلا - وقضائه ؛ لأن العبد إذا أريد به الخير فإن العقوبة تعجل له في هذه الدنيا ؛ لأن رفع أثر العقوبة عن العبد يكون بعشرة أشياء ، منها : أن تعجل له العقوبة في الدنيا ، يعني : أن يعاقب في الدنيا بمرض ، أو بفقد مال ، أو بمصيبة ؛ لأن مخالفة أمر الله في ملكوته لا بد أن تقع لها عقوبة ، إن لم يغفر الله - جل وعلا - ويتجاوز ، فإذا كانت العقوبة في الدنيا فإنها أهون من أن تكون في البرزخ ، أو أن تكون يوم القيامة ؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه البخاري وغيره قال عليه الصلاة والسلام : « من يرد الله به خيرا يصب منه » (2) ؛ ولهذا كان بعض السلف يتهم نفسه إذا رأى أنه لم يصب ببلاء أو لم يمرض ونحو ذلك ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحمى مثلا : « لا تسبوا الحمى
_________
(1) أخرجه الترمذي (2398) ، والحاكم 1 / 340 ، وابن حبان 1 / 278 .
(2) أخرجه البخاري (5645) .(42/55)
فوالذي نفسي بيده إنها لتنفي الذنوب عن العبد كما ينفي الكير خبث الحديد » (1) ففي المصائب نعم على العبد ، والله - جل وعلا - له الحكمة البالغة فيما يصلح عبده المؤمن .
" وقال صلى الله عليه وسلم : « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط » (2) : دل قوله : " من رضي فله الرضا " على أن الرضا عبادة ؛ لأن رضا الله عن العبد إذا رضي عنه دال على أن ذلك الفعل محبوب له ، وذلك دليل أنه من العبادات ، وكذلك الجملة الثانية دليل على أن السخط محرم ، . قال : " ومن سخط فله السخط " يعني : من الله - جل وعلا - .
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (3469 ) .
(2) أخرجه الترمذي (2396) .(42/56)
وحقيقة السخط على الله - جل وعلا - : أن يقوم في قلبه عدم محبة ذلك الشيء ، وكراهته ، وعدم الرضا به ، واتهام الحكمة فيه ، فمن قامت به هذه الأشياء مجتمعة فقد سخط ، ويظهر أثر السخط على اللسان أو على الجوارح ، أو في القلب من جهة عدم الرضا بالأوامر ، وعدم الرضا بالنواهي ، وعدم الرضا بالشرع ، فيتسخط الأمر ، ويتسخط النهي ، ويتسخط الشرع ، فهذا كبيرة من الكبائر ، ولو امتثل ذلك فإن تسخطه وعدم الرضا بذلك قلبا دليل على انتفاء كمال التوحيد في قلبه ، وقد يصل بالبعض إلى انتفاء التوحيد من أصله إذا لم يرض بأصل الشرع وسخطه بقلبه واتهم الشرع أو اتهم الله - جل وعلا - في حكمه الشرعي(42/57)
" باب ما جاء في الرياء "
وقول الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] .
وعن أبي هريرة مرفوعا « قال الله تعالى : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه » (1) . رواه مسلم . وعن أبي سعيد مرفوعا : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل » رواه أحمد (2) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الكهف .
الثانية : الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله .
الثالثة : ذكر السبب الموجب لذلك ، وهو كمال الغنى .
الرابعة : أن من الأسباب : أنه تعالى خير الشركاء .
الخامسة : خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء .
السادسة : أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله ، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (2985 .
(2) أخرجه أحمد 3 / 30 ، وابن ماجه (4204) ، وقال البوصيري : هذا إسناد حسن .(42/58)
هذا " باب ما جاء في الرياء " يعني : من الوعيد ، وأنه شرك بالله - جل وعلا - .
والرياء حقيقته من الرؤية البصرية ، وذلك بأن يعمل عمل العبادة لكي يرى أنه يعمل العمل الذي هو من العبادة ، إما صلاة ، أو تلاوة ، أو ذكر ، أو صدقة ، أو حج ، أو جهاد ، أو امتثال أمر ، أو اجتناب نهي ، ونحو ذلك ، لا لطلب ما عند الله ، ولكن لأجل أن يراه الناس على ذلك ، فيثنوا عليه به . هذا هو الرياء ، وقد يكون الرياء في أصل الإسلام كرياء المنافقين ، فالرياء على درجتين :
الدرجة الأولى : رياء المنافقين ، بأن يظهر الإسلام ويبطن الكفر لأجل رؤية الخلق ، وهذا مناف للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله - جل جلاله - ؛ ولهذا وصف الله المنافقين بقوله : { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [ النساء : 142 ] . فقوله : { يُرَاءُونَ النَّاسَ } . يعني : الرياء الأكبر الذي هو إظهار أصل الإسلام وشعب الإسلام ، وإبطان الكفر وشعب الكفر .(42/59)
والنوع الثاني من الرياء : أن يكون الرجل مسلما أو المرأة مسلمة ، ولكن يرائي بعمله أو ببعض عمله ، فهذا شرك خفي وذلك الشرك مناف لكمال التوحيد ، والله - جل وعلا - . قال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 و 116 ] على قول من قال : إن قوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } يدخل فيه الشرك الخفي والأصغر .(42/60)
" باب ما جاء في الرياء ، وقول الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، قوله . { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } هذا نهي عن الإشراك ، والنهي هنا عام لجميع أنواع الشرك ومنها شرك الرياء ، ؛ ولهذا يستدل السلف بهذه الآية على مسائل الرياء ، كما أوردها الإمام - رحمه الله تعالى - هنا ؛ لأنه . قال : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . يعني : بما يشمل ترك المراءاة ، فإن الرياء شرك ، وقوله : { وَلَا يُشْرِكْ } هذا عموم يعم أنواع الشرك جميعا ؛ لأن { يُشْرِكْ } نكرة جاءت في سياق النهي ، فعمت أنواع الشرك .(42/61)
وقوله : { أَحَدًا } يعم جميع الخلق بمراءاة أو بتسميع أو بغير ذلك ، فدلالة الآية على الباب ظاهرة ، وأن المراءاة نوع من الشرك الأصغر ، وضرب من الشرك الخفي ، ؛ لأننا نقول : الرياء شرك أصغر باعتبار أنه ليس بأكبر ، ولا مخرج من الملة ، وتارة نقول : الرياء شرك خفي ؛ لأنه ليس بظاهر وإنما هو باطن خفي في قلب العبد ؛ ولهذا تجد أن كثيرين من أهل العلم يعبرون عن الشرك الأصغر بيسير الرياء ، وتارة يعبرون عن الشرك الخفي بالرياء ؛ ذلك لأن الشرك يختلف من حيث الإطلاق - كما سبق - من عالم إلى آخر ، فتارة يقسمون الشرك إلى أكبر وأصغر ، ومنهم من يقسمه إلى أكبر وأصغر وخفي ، وكل له اصطلاحه ، وكل الأقوال صواب .
" عن أبي هريرة مرفوعا ، « قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه » (1) : هذا الحديث يدل على أن الرياء مردود على صاحبه ، وأن الله - جل وعلا - لا يقبل العمل الذي خالطه الرياء ، والعلماء فصلوا في ذلك فقالوا : الرياء - إذا عرض للعبادة - له أحوال :
_________
(1) أخرجه مسلم (2985) .(42/62)
الحالة الأولى : أن يعرض للعبادة من أولها ، فإذا عرض للعبادة من أولها فإن العبادة كلها باطلة ، كأن ينشئ الصلاة لنظر فلان ، فهو لم يرد أن يصلي ، لكن لما رأى فلانا ينظر إليه صلى ، فهذا عمله حابط ، يعني أن الصلاة التي صلاها حابطة وهو مأزور على مراءاته ومرتكب الشرك الخفي ، الشرك الأصغر .
والحال الثانية : أن يكون أصل العبادة لله ، ولكن خلط ذلك العابد عمله رياء ، كمن أطال الركوع وأكثر التسبيح وأطال القراءة والقيام لأجل من يراه ، فأصل العبادة - والتي كانت لله - له ، وما عدا ذلك فهو حابط ؛ لأنه راءى في الزيادة على الواجب فيحبط ذلك الزائد وهو إثم عليه ، لا يؤجر عليه ولا ينتفع منه ، ويؤزر على إشراكه وعلى مراءاته في العبادات البدنية . أما العبادات المالية فيختلف الحال عن ذلك .(42/63)
قوله : « من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » : يعني بجميع أنواع المشركين وبجميع أنواع الأعمال ؛ لأن ( عملا ) في قوله : " من عمل عملا " نكرة جاءت في سياق الشرط ، فعمت جميع الأعمال : . الأعمال البدنية ، والأعمال المالية ، والأعمال التي اشتملت على مال وبدن ، فالبدنية : كالصلاة والصيام ، والمالية : كالزكاة والصدقة ، والمشتملة على بدن ومال : كالحج والجهاد ونحو ذلك ، والمقصود من قوله : " من عمل عملا " أنه أنشأه " أشرك فيه معي غيري " جعله لله ولغير الله جميعا ، فإن الله - جل وعلا - أغنى الشركاء عن الشرك ، لا يقبل إلا ما كان له وحده سبحانه وتعالى .(42/64)
" وعن أبي سعيد مرفوعا : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي ، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل » (1) : هذا فيه بيان أن هذا النوع من الشرك هو أخوف على هذه الأمة عند النبي صلى الله عليه وسلم من المسيح الدجال ؛ ذلك أن أمر المسيح أمر ظاهر بين ، والنبي عليه الصلاة والسلام بين ما في شأنه ، وبين صفته ، وحذر الأمة منه ، وأمرهم بأن يدعوا آخر كل صلاة ، وأن يستعيذوا من شر المسيح الدجال ، ومن فتنة المسيح الدجال ، أما الرياء فإنه يعرض للقلب كثيرا ، والشيطان يأتي إلى القلوب ، وهذا الشرك يقود العبد إلى أن يتخلى شيئا فشيئا عن مراقبة الله - جل وعلا - ويتجه إلى مراقبة المخلوقين ؛ لذلك صار أخوف عند النبي صلى الله عليه وسلم علينا من المسيح الدجال ، ثم فسره بقوله : « الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل »
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3 / 30 ، وابن ماجه (4204) .(42/65)
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا "
وقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ }{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 - 16 ] .
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة .
الثانية : تفسير آية هود .
الثالثة : تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة .
الرابعة : تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط .
الخامسة : قوله : " تعس وانتكس "
السادسة : قوله : " وإذا شيك فلا انتقش .
_________
(1) أخرجه البخاري (2886) و (2887) و (6435) .(42/66)
السابعة : الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات .
الشرح :
هذا الباب باب عظيم من أبواب هذا الكتاب ترجمه الإمام - رحمه الله - بقوله : " باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا "
" من الشرك " يعني : من الشرك الأصغر أن يريد الإنسان بأعماله التي يعملها من الطاعات الدنيا ولا يريد بها الآخرة ، وإرادة الإنسان الدنيا ، . يعني : ثواب الدنيا ، فهو أعم من حال الرياء ، فالرياء حالة واحدة من أحوال إرادة الإنسان الدنيا ، فهو يصلي أو يزيد ويزين صلاته لأجل الرؤية ولأجل المدح ، لكن هناك أحوال أخر لإرادة الناس بأعمالهم الدنيا ، فلهذا عطف الشيخ - رحمه الله - هذا الباب على الذي قبله ليبين أن إرادة الإنسان الدنيا تأتي في أحوال كثيرة أعم من حال الرياء بخاصة ، لكن الرياء جاء فيه الحديث وخافه النبي عليه الصلاة والسلام على أمته ، فهو في وقوعه كثير والخوف منه جلل .
وهذا الباب اشتمل على الحكم بأن إرادة الإنسان بعمله الدنيا من الشرك .
وقوله : " إرادة الإنسان " يعني : أن يعمل العمل وفي إرادة ، أي الذي بعثه على العمل ثواب الدنيا ، فهذا من الشرك بالله - جل جلاله - وسيأتي تفصيل أحوال ذلك .(42/67)
" وقول الله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ }{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 - 16 ] . هذه الآية من سورة هود مخصوصة بقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ الإسراء : 18 ] . فهي مخصوصة بمن شاء الله - جل وعلا - ، فقوله هنا : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } . يعني : ممن أراد الله - جل وعلا - له ذلك وممن شاءه الله ، فهذا العموم الذي هنا مخصوص بآية الإسراء .(42/68)
والذين يريدون الحياة الدنيا أصلا وقصدا وتحركا هم الكفار ؛ ولهذا نزلت هذه الآية في الكفار ، لكن لفظها يشمل كل من أراد الحياة الدنيا بعمله الصالح ؛ ولهذا جمع الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في رسالة له أحوال الناس فيما قاله السلف تفسيرا لهذه الآية ، وجعل كلام السلف يتناول أربعة أنواع من الناس كلهم يدخل في هذا الوعيد :
النوع الأول ممن ركبوا هذا الشرك الأصغر وأرادوا بعملهم الحياة الدنيا : أنه يعمل العمل الصالح وهو فيه مخلص لله - جل وعلا - ، ولكن يريد به ثواب الدنيا ولا يريد به ثواب الآخرة ، كأن : يتعبد الله - جل وعلا - بالصلاة وهو فيها مخلص لله ، أداها على طواعية واختيار وامتثال لأمر الله ، لكن يريد منها أن يصح بدنه ، أو وصل رحمه وهو يريد منه أن يحصل له في الدنيا الذكر الطيب والصلة ونحو ذلك ، أو عمل أعمالا من التجارة والصدقات وهو يريد بذلك تجارة لكي يكون عنده مال فيتصدق وهو يريد بذلك ثواب الدنيا .(42/69)
فهذا النوع عمل العبادة امتثالا للأمر ، ومخلصا فيها الله ، ولكنه طامع في ثواب الدنيا ، وليس له همة في الآخرة ولم يعمل هربا من النار وطمعا في الجنة ، فهذا داخل في هذا النوع وداخل في قوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ] .
والأعمال التي يعملها العبد ويستحضر فيها ثواب الدنيا على قسمين :
القسم الأول : أن يكون العمل الذي عمله ، واستحضر فيه ثواب الدنيا وأراده ، ولم يرد ثواب الآخرة ، لم يرغب الشرع فيه بذكر ثواب الدنيا ، مثل : الصلاة والصيام ونحو ذلك من الأعمال والطاعات ، فهذا لا يجوز له أن يريد به الدنيا ، ولو أراد به الدنيا ، فإنه مشرك ذلك الشرك .(42/70)
والقسم الثاني : أعمال رتب الشارع عليها ثوابا في الدنيا ، ورغب فيها بذكر ثواب لها في الدنيا ، مثل : صلة الرحم ، وبر الوالدين ، ونحو ذلك ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : « من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه » (1) ، فهذا النوع إذا استحضر في عمله حين يعمل ذلك العمل ، استحضر ذلك الثواب الدنيوي ، وأخلص لله في العمل ولم يستحضر الثواب الأخروي ، فإنه داخل في الوعيد ، فهو من أنواع هذا الشرك ، لكن إن استحضر الثواب الدنيوي والثواب الأخروي معا ، له رغبة فيما عند الله في الآخرة ويطمع في الجنة ، ويهرب من النار ، واستحضر ثواب هذا العمل في الدنيا ، فإنه لا بأس بذلك ؛ لأن الشرع ما رغب فيه بذكر الثواب في الدنيا إلا للحض عليه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « من قتل قتيلا فله سلبه » (2) ، فمن قتل حربيا في الجهاد لكي يحصل على السلب ، ولكن قصده من الجهاد الرغبة فيما عند الله - جل وعلا - مخلصا فيه لوجه الله ، لكن أتى هذا من زيادة الترغيب له ولم يقتصر على هذه الدنيا بل قلبه معلق أيضا بالآخرة ، فهذا النوع لا بأس به ولا يدخل في النوع الأول مما ذكره السلف في هذه الآية .
_________
(1) أخرجه أحمد 3 / 156 بنحوه ، من حديث أبي سعيد الخدري ، وأصله متفق عليه من حديث أنس .
(2) أخرجه أحمد 5 / 306 من حديث أبي قتادة .(42/71)
النوع الثاني مما ذكره السلف مما يدخل تحت هذه الآية : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } : [هود : 15 ] أنه يعمل العمل الصالح لأجل المال ، فهو يعمل العمل لأجل ما يحصله من المال ، مثل : أن يدرس ويتعلم العلم الشرعي لأجل الوظيفة فقط وليس في همه رفع الجهالة عن نفسه ومعرفة العبد بأمر ربه ونهيه والرغب في الجنة وما يقرب منها والهرب من النار وما يبعد عنها ، فهذا داخل في ذلك ، أو حفظ القرآن ليكون إماما في المسجد ، ويكون له الرزق الذي يأتي من بيت المال ، فغرضه من هذا العمل إنما هو المال ، فهذا لم يعمل العمل صالحا وإنما عمل العمل الذي في ظاهره أنه صالح ولكن في باطنه قد أراد به الدنيا .
النوع الثالث : أهل الرياء الذين يعملون الأعمال لأجل الرياء .
النوع الرابع : الذين يعملون الأعمال الصالحة ومعهم ناقض من نواقض الإسلام ، كمن يصلي ويزكي ويتصدق ويقرأ القرآن ويتلوه ، ولكن هو مشرك الشرك الأكبر ، فهذا وإن قال إنه مؤمن فليس بصادق في ذلك ؛ لأنه لو كان صادقا لوحد الله - جل وعلا - .(42/72)
فهذه بعض الأنواع التي ذكرت في تفسير هذه الآية وكلها داخلة تحت قوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } فهؤلاء جميعا أرادوا الحياة الدنيا وزينتها ولم يكن لهم هم في رضا الله - جل وعلا - وطلب الآخرة بذلك العمل الذي عملوه .
وهنا إشكال أورده بعض أهل العلم : وهو أن الله - جل وعلا - قال في الآية التي تليها { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 16 ] ، وأن هذه في الكفار الأصليين أو فيمن قام به مكفر ، أما المسلم الذي قامت به إرادة الدنيا فإنه لا يدخل في هذه الآية .(42/73)
والجواب : أنه يدخل ؛ لأن السلف أدخلوا أصنافا من المسلمين في هذه الآية ، والوعيد بقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ } ، فمن كانت إرادته الحياة الدنيا فلم يتقرب إلى الله - جل وعلا - بشيء { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ] فهؤلاء أرادوا الدنيا بكل عمل ، وليس معهم من الإيمان والإسلام مصحح لأصل أعمالهم ، فهؤلاء مخلدون في النار ، أما الذي معه أصل الإيمان وأصل الإسلام الذي يصح به عمله ، فهذا قد يحبط العمل بل يحبط عمله الذي أشرك فيه وأراد به الدنيا ، وما عداه لا يحبط ؛ لأن معه أصل الإيمان الذي يصحح العمل الذي لم يخالطه شرك .
فهذه الآية فيها وعيد شديد ، وهذا الوعيد يشمل كما ذكرنا أربعة أصناف ، وكما قال أهل العلم : إن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي وإن كانت في الكفار ، لكن لفظها يشمل من أراد الحياة الدنيا من غير الكفار .(42/74)
" في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة » . . إلخ " (1) . وجه الشاهد من ذلك : أنه دعا على عبد الدينار ، وعلى عبد الدرهم ، وعلى عبد الخميصة . وعبد الدينار والدرهم هو الذي يعمل العمل لأجل الدينار ، ولولا الدينار لما تحركت همته في العمل ، لولا هذه الخميصة لما تحركت همته في العمل ، فهو إنما عمل لأجل هذا الدينار ، لأجل هذه الدنيا ، وما فيها من الدرهم ، والجاه والمكانة ونحو ذلك ، وقد سماه النبي عليه الصلاة والسلام عابدا للدينار ، فدل ذلك على أنه من الشرك ؛ لأن العبودية درجات ، منها : عبودية الشرك الأصغر ، ومنها عبودية الشرك الأكبر ، فالذي يشرك بغير الله - جل وعلا - الشرك الأكبر هو عابد له ، كأهل الأوثان ، وعبدة الأصنام ، وعبدة الصليب ، وكذلك من يعمل الشرك الأصغر ، ويتعلق قلبه بشيء من الدنيا فهو عابد ، لذلك يقال : عبد هذا الشيء ؛ لأنه هو الذي حرك همته ، ومعلوم أن العبد مطيع لسيده ، أينما وجهه توجه ، فهذا الذي حركته همته للدنيا وللدينار وللدرهم عبد لها ؛ لأن همته معلقة بتلك الأشياء ، وإذا
_________
(1) تقدم.(42/75)
وجد لها سبيلا تحرك إليها بدون النظر هل يوافق أمر الله - جل وعلا - أم لا يوافق أمر الله - جل وعلا - وشرعه ؟ ! .(42/76)
" باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرمه ، فقد اتخذهم أربابا من دون الله "
وقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر (1) .
وقال أحمد بن حنبل : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك (2) .
وعن عدي بن حاتم : « أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، فقلت له : إنا لسنا نعبدهم، قال : " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ ! " فقلت بلى ، قال : " فتلك عبادتهم » (3) . رواه أحمد والترمذي وحسنه .
فيه مسائل :
_________
(1) أخرجه أحمد (3121) .
(2) أخرجه ابن بطة في « الإبانة الكبرى» (97) .
(3) أخرجه الترمذي (3094) ، وأحمد 4 / 257 و 378 .(42/77)
الأولى : تفسير آية النور .
الثانية : تفسير آية براءة .
الثالثة : التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي .
الرابعة : تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر ، وتمثيل أحمد بسفيان .
الخامسة : تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية . وعبادة الأحبار هي العلم والفقه . ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين . وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين .
الشرح :
هذا الباب والأبواب بعده في بيان مقتضيات التوحيد ، ولوازم تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي وتستلزم أن يكون العبد مطيعا لله - جل وعلا - فيما أحل وما حرم ، محلا للحلال محرما للحرام ، لا يتحاكم إلا إليه - جل وعلا - ولا يحكم في الدين إلا شرع الله - جل وعلا .(42/78)
والعلماء وظيفتهم تبيين معاني ما أنزل الله - جل وعلا - على رسوله صلى الله عليه وسلم وليست وظيفتهم التي أذن لهم بها في الشرع أن يحللوا ما يشاءون ، أو يحرموا ما يشاءون ، بل وظيفتهم الاجتهاد في فقه النصوص ، وأن يبينوا ما أحل الله وما حرم - جل وعلا - ، فهم أدوات ووسائل لفهم نصوص الكتاب والسنة ، ولذلك كانت طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله ، يطاعون فيما فيه طاعة لله - جل وعلا - ولرسوله ، وما كان من الأمور الاجتهادية فيطاعون ، ؛ لأنهم هم أفقه بالنصوص من غيرهم ، فتكون طاعة العلماء والأمراء من جهة الطاعة التبعية لله ولرسوله ، أما الطاعة الاستقلالية فليست إلا لله - جل وعلا - حتى طاعة النبي عليه الصلاة والسلام إنما هي تبع لطاعة الله - جل وعلا - فإن الله هو الذي أذن بطاعته وهو الذي أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى الشهادة له بأنه رسول الله ، قال - جل وعلا - { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، وقال - جل وعلا : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [ النساء : 64 ] .(42/79)
فالطاعة الاستقلالية نوع من أنواع العبادة ، فيجب إفراد الله - جل وعلا - بها ، وغير الله - جل وعلا - إنما يطاع لأن الله - جل وعلا - أذن بطاعته ، ويطاع فيما أذن الله به في طاعته ، فالمخلوق لا يطاع في معصية الله ؛ لأن الله لم يأذن أن يطاع مخلوق في معصية الخالق - جل وعلا - وإنما يطاع فيما أطاع الله - جل وعلا - فيه على النحو الذي يأتي .
فهذا الباب عقده الشيخ - رحمه الله - ليبين أن الطاعة من أنواع العبادة ، بل إن الطاعة في التحليل وفي التحريم هي معنى اتخاذ الأرباب ، كما قال الله - جل وعلا - : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } [ التوبة : 31 ] ، وما سيأتي من بيان حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه .(42/80)
قوله : " باب من أطاع العلماء والأمراء " : العلماء والأمراء هم أولو الأمر في قوله - جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] قال العلماء : أولو الأمر يشمل من له الأمر في حياة الناس في دينهم - وهم العلماء - وفي دنياهم - وهم الأمراء - ، وقد قال - جل وعلا - : { وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ولم يكرر فعل الطاعة ، قال ابن القيم وغيره : دل هذا على أن طاعة أولي الأمر ليست استقلالا وإنما يطاعون في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أمروا بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
والأمور الاجتهادية التي ليس فيها نص من الكتاب والسنة فإنهم يطاعون في ذلك ؛ لأن الله أذن به ، ولما في ذلك من المصالح المرعية في الشرع .(42/81)
قوله : " في تحريم ما أحل الله " : يعني في تحريم الأمر الذي أحله الله ، بحيث هناك حلال في الشرع فيحرمونه : أي يحرمه العالم ، أو يحرمه الأمير ، فيطيعه الناس ، وهم يعلمون أنه حلال ، لكن يطيعونه في التحريم ، ومثاله : أن الله أحل أكل الخبز فيقولون : الخبز حرام عليكم دينا ، فلا تأكلوه تدينا ، ويحرمونه لأجل ذلك ، فإن أطاعوهم كان ذلك طاعة لهم في تحريم ما أحل الله .
قوله : " أو تحليل ما حرم الله " : يعني أحلوا ما يعلم أن الله حرمه ، مثاله : حرم الله الخمر فأحله العلماء أو أحله الأمراء ، فمن أطاع عالما أو أميرا في اعتقاد أن الخمر حلال ، وهو يعلم أنها حرام ، وأن الله حرمها ، فقد اتخذه ربا من دون الله - جل وعلا - .
ففي هذا الباب حكم وشرط ، فالحكم قوله في آخره : " فقد اتخذهم أربابا " وهو جزاء الشرط ، والشرط قوله : " من أطاع العلماء والأمراء " ، وضابط هذا الشرط ما بينهما وهو قوله : "في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه " ، وهذا يستفاد منه - يعني من اللفظ - أنهم عالمون بما أحل الله ، فحرموه طاعة لأولئك ، عالمون بما حرم ، فأحلوه طاعة لهم .(42/82)
قوله في آخره : " فقد اتخذهم أربابا " ؛ ذلك لأجل آية سورة براءة : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، وحديث عدي بن حاتم في ذلك .(42/83)
والأرباب جمع الرب ، والرب والإله لفظان يفترقان إذا اجتمعا ، ويجتمعان إذا افترقا ، ؛ لأن الرب هو : السيد الملك المتصرف في الأمر ، والإله هو : المعبود ، وقد سئل المصنف الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عن الفرق بينهما الإله والرب في مثل هذه السياقات في نحو قوله : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 80 ] ، وفي نحو قوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا }{ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ما معنى الربوبية هنا ؟ قال : الربوبية هنا بمعنى الألوهية ؛ ، بمعنى المعبود ؛ لأن من أطاع على ذلك النحو فقد عبد ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي حين . قال : " إنا لسنا نعبدهم " فعدي فهم من كلمة " أربابا " العبادة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مقررا لذلك : " أليس يحرمون " إلخ ، فهو إقرار منه عليه الصلاة والسلام بأن معنى الربوبية هنا العبودية .(42/84)
فلهذا قال الشيخ - رحمه الله - حينما سئل : الألوهية والربوبية أو كلمة الرب والإله من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت ، وإذا افترقت اجتمعت ، . يعني : كلفظ الفقير والمسكين ، والإسلام والإيمان ، ونحوهما ؛ لأن الإله يطلق على المعبود ، وجاء في نصوص كثيرة إطلاق الرب على المعبود كما ذكرنا في الآيات وفي الحديث ، وكقوله عليه الصلاة والسلام في مسائل القبر : " . « فيأتيه ملكان فيسألانه من ربك ؟ » يعني : من معبودك ؛ لأن الابتلاء لم يقع في الرب الذي هو الخالق الرازق المحيي المميت .(42/85)
إذا لفظ ( الرب ) و ( الإلهية ) من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت ، فقد يطلق على الأرباب آلهة وعلى الآلهة أرباب ، وهل هذا الإطلاق لأجل اللغة ؟ يعني أن أصله في اللغة يدخل هذا في هذا وهذا في ذاك ، أو أنه لأجل اللزوم والتضمن ؟ الظاهر - عندي - الأخير ، وهو أنه لأجل اللزوم والتضمن ، فإن الربوبية مستلزمة للألوهية ، والألوهية متضمنة للربوبية فإذا ذكر الإله فقد تضمن ذلك ذكر الرب ، وإذا ذكر الرب استلزم ذلك ذكر الإله ، ولهذا قال - جل وعلا - هنا : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ }{ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } [ آل عمران : 80 ] يعني : آلهة ؛ لاستلزام لفظ الربوبية للإلهية ، وكذلك قوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا } يعني : آلهة معبودين كما أتى تفصيله في الحديث .(42/86)
" وقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر " (1) : هذا الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح وإسناده : . عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، أو نحو ذلك ، وقد ذكر إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع في الفتاوى بنصه ، فذكر الإسناد والمتن ، وغالب الذين خرجوا كتاب التوحيد قالوا : إن هذا الأثر لا أصل له بهذا اللفظ ، وهذه جراءة منهم حيث إنهم ظنوا أن كل كتب الحديث بين أيديهم ، ولو تتبعوا كتب أهل العلم لوجدوا أن إسناده والحكم عليه موجود في كتبهم .
_________
(1) أخرجه أحمد (3121) .(42/87)
ووجه الاستشهاد ما اشتمل عليه هذا الأثر ، وهو قوله : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر " ؛ لأن الواجب على المسلم إذا سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم فقهه ، أو بينه له أهل العلم ألا يترك ذلك الحديث وفقهه لقول أحد كائنا من كان ، إذا كان الحديث ظاهرا في الدلالة على ذلك ، وكان القول الآخر لا دليل عليه ، أما إذا كانت المسألة اجتهادية في الحديث من جهة الفهم فهذا مجاله واسع ، وابن عباس رضي الله عنهما يحمل كلامه هذا على أن هؤلاء الذين قالوا له تلك المقالة ، قالوا له : قال أبو بكر وعمر ، عارضوا قوله في المتعة بقول أبي بكر وعمر الذي هو مناقض لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يذهبان إلى أن إفراد الحج أفضل من التمتع وابن عباس كان يوجب أفضلية التمتع ويسوق الأدلة في ذلك ، وقول أبي بكر وعمر أخذ به طائفة من أهل العلم كمالك وغيره ، بل قال طائفة : إن إفراده الحج وسفره مرة أخرى للعمرة خير له من أن يجمع بين حج وعمرة في سفرة واحدة ، كما هو اختيار شيخ الإسلام ، واختيار غيره من(42/88)
المحققين .
والمقصود من ذلك أن كلام ابن عباس هذا ليس في المسألة الفقهية ، يعني : أن المؤلف رحمه الله لم يسق قول ابن عباس لخصوص مسألة التمتع والإفراد ، ولكن في مسألة عموم لفظه ، وهو أنه لا يعارض قول النبي عليه الصلاة والسلام الظاهر معناه بقول أحد لا دليل له على قوله ، ولو كان ذلك القائل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، فكيف بمن دونهما من التابعين أو من الصحابة ، فكيف بأئمة أهل المذاهب وأصحاب أهل المذاهب - رحمهم الله تعالى - ؟؟!! واحترام العلماء وأهل المذاهب واجب ، لكن أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يتركها لقول أحد كائنا من كان .
" وقال أحمد بن حنبل : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان " : وسفيان هو : ابن سعيد بن مسروق الثوري أحد العلماء المعروفين ، وكان له مذهب وله أتباع .(42/89)
قوله : " يذهبون إلى رأي سفيان " يدل على أن سفيان لم يكن له مستند على ما ذهب إليه ، وهو عالم من العلماء ، وأحد الزهاد الصالحين المشهورين ، ولكن قد تخفاه السنة فيكون قد حكم برأيه أو بتقعيد عنده ، لكن السنة جاءت بخلاف ذلك ، فلا يسوغ أن يجعل رأي سفيان في مقابل الحديث النبوي .(42/90)
" والله تعالى يقول : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . [ النور : 63 ] أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" : إذا رد بعض قول النبي عليه الصلاة والسلام لقول أحد يخشى عليه أن يعاقب فيقع في قلبه زيغ ، قال الله - جل وعلا - عن اليهود : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } . فهم زاغوا بمحض إرادتهم واختيارهم مع بيان الحجج وظهور الدلائل والبراهين ، لكن لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم عقوبة منه لهم على ذلك ، وهذا معنى قوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } . أي : نوع شرك ، وقد يصل ذلك إلى الشرك الأكبر بالله - جل وعلا - إذا كان في تحليل الحرام مع العلم بأنه حرام ، وتحريم الحلال مع العلم بأنه حلال .(42/91)
" عن عدي بن حاتم : « أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فقلت له : إنا لسنا نعبدهم » : فيه أنه فهم من قوله : { أَرْبَابًا } أنهم المعبودون .
" قال عليه الصلاة والسلام : « أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟! فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم » رواه أحمد والترمذي وحسنه (1) . هذا الحديث فيه بيان أن طاعة الأحبار والرهبان قد تصل إلى الشرك الأكبر ، واتخاذ أولئك أربابا ومعبودين ، والأحبار هم : العلماء . والرهبان هم : العباد .
وطاعة الأحبار في التحليل والتحريم على درجتين :
_________
(1) أخرجه الترمذي (3094) .(42/92)
الدرجة الأولى : أن يطيع العلماء أو الأمراء في تبديل الدين ، يعني : في جعل الحرام حلالا وفي جعل الحلال حراما ، فيطيعهم في تبديل الدين ، وهو يعلم أن الحرام قد حرمه الله ، ولكن أطاعهم تعظيما لهم ، فحلل ما أحلوه طاعة لهم وتعظيما وهو يعلم أنه حرام ، يعني : اعتقد أنه حلال وهو حرام في نفسه ، أو حرم حلالا تبعا لتحريمهم ، وهو يعلم أن ما حرموه حلال ولكنه حرم تبعا لتحريمهم ، هذا يكون قد أطاع العلماء أو الأمراء في تبديل أصل الدين ، فهذا هو الذي اتخذهم أربابا ، وهو الكفر الأكبر والشرك الأكبر بالله - جل وعلا - ، وهذا هو الذي صرف عبادة الطاعة إلى غير الله ؛ ولهذا قال الشيخ سليمان - رحمه الله - في شرحه لكتاب التوحيد : " الطاعة هنا في هذا الباب المراد بها طاعة خاصة ، وهي الطاعة في تحليل الحرام أو تحريم الحلال " وهذا ظاهر .(42/93)
الدرجة الثانية : أن يطيع الحبر ، أو يطيع الأمير ، أو يطيع الرهبان ، في تحريم الحلال أو في تحليل الحرام من جهة العمل ، أطاع وهو يعلم أنه عاص بذلك ومعترف بالمعصية لكن اتبعهم عملا وقلبه لم يجعل الحلال حراما متعينا أو سائغا ، ولكن أطاعهم حبا له في المعصية ، أو حبا له في مجاراتهم ، ولكن في داخله يعتقد أن الحلال هو الحلال ، والحرام هو الحرام ، فما بدل الدين ، قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : هذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب ، وهاتان الدرجتان هما من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الآية ، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب والعصيان ؛ لأنه ما حرم الحلال ولا أحل الحرام ، وإنما فعل الحرام من جهة العصيان ، وجعل الحلال حراما من جهة العصيان ، لا من جهة تبديل أصل الدين . ويريد الشيخ - رحمه الله - بذكر الرهبان وبإيراده للآية : التنبيه على أن الطاعة في تحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، جاءت أيضا من جهة الرهبان العباد ، وهذا موجود عند المتصوفة وأهل الغلو في التصوف ، والغلاة في تعظيم رؤساء الصوفية ، فإنهم أطاعوا مشايخهم والأولياء الذين زعموا أنهم أولياء ، أطاعوهم في تغيير الملة ، فهم يعلمون أن السنة هي كذا(42/94)
وكذا ، وأن خلافها بدعة ، ومع ذلك أطاعوهم تعظيما للشيخ ، وتقديسا للولي ، أو يعلمون أن هذا شرك والدلائل عليه من القرآن والسنة ظاهرة ، لكن تركوه وأباحوا ذلك الشرك وأحلوه ؛ لأن شيخهم ومقدمهم ورئيس طريقتهم أحله ، وهذا كان في نجد كثيرا إبان ظهور الشيخ بدعوته ، وهو موجود في كثير من الأمصار ، وهو نوع من اتخاذ أولئك العباد أربابا من دون الله - جل وعلا ، وهذا المقام أيضا فيه تفصيل على نحو الدرجتين اللتين ذكرتهما عن شيخ الإسلام - رحمه الله - .(42/95)
باب قول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } [ النساء : 60 - 62 ] .
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } . [ البقرة : 11 ] ، وقوله : { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] ، وقوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ] .(42/96)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » (1) قال النووي : حديث صحيح رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح .
وقال الشعبي : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ، وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود ؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه فنزلت { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } . الآية (2) .
وقيل : نزلت في رجلين اختصما ، فقال أحدهما : نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر إلى كعب بن الأشرف ، ثم ترافعا إلى عمر ، فذكر له أحدهما القصة ، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم : أكذلك ؟ قال : نعم ، فضربه بالسيف فقتله (3) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على معرفة فهم الطاغوت .
الثانية : تفسير آية البقرة : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } . الآية .
_________
(1) أخرجه ابن أبي عاصم في « السنة» (15) والحديث ضعيف .
(2) أخرجه ابن جرير في « التفسير (9891) و (9892) و (9893) .
(3) أخرجه الثعلبي كما في « الدر المنثور» عن ابن عباس ، وأخرجه الطبري في « التفسير » من طريق مجاهد (1 -99) بإسناد صحيح . وانظر« فتح الباري » 5 / 37 .(42/97)
الثالثة : تفسير آية الأعراف : { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } .
الرابعة : تفسير { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } .
الخامسة : ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى .
السادسة : تفسير الإيمان الصادق والكاذب .
السابعة : قصة عمر مع المنافق .
الثامنة : كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
الشرح :(42/98)
هذا الباب من الأبواب العظيمة المهمة في هذا الكتاب ، وذلك لأن إفراد الله - جل وعلا - بالوحدانية في ربوبيته وفي إلهيته يتضمن ويقتضي ويستلزم - جميعا - أن يفرد في الحكم ، فكما أنه - جل وعلا - لا حكم إلا حكمه في ملكوته ، فكذلك يجب أن يكون لا حكم إلا حكمه فيما يتخاصم فيه الناس وفي الفصل بينهم ، فالله - جل وعلا - هو الحكم ، وإليه الحكم سبحانه ، قال - جل وعلا - : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [ غافر : 12 ] ، . وقال - جل وعلا - { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } [ الأنعام : 57 ] فتوحيد الله - جل وعلا - في الطاعة وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يكون إلا بأن يكون العباد محكمين لما أنزل الله - جل وعلا - على رسوله . فترك تحكيم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بحكم الجاهلية ، أو بحكم القوانين ، أو بحكم سواليف البادية ، أو بكل حكم مخالف لحكم الله - جل وعلا - هذا من الكفر الأكبر بالله - جل جلاله - ومما يناقض كلمة التوحيد : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .(42/99)
وقد عقد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب ليبين أن الحكم بما أنزل الله فرض ، وأن ترك الحكم بما أنزل الله وتحكيم غير ما أنزل الله في شؤون المتخاصمين وتنزيل ذلك منزلة القرآن أن ذلك شرك أكبر بالله - جل وعلا - ، وكفر مخرج من ملة الإسلام .
قال الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في أول رسالته " تحكيم القوانين " : إن من الكفر الأكبر المستبين ، تنزيل القانون اللعين ، منزلة ما نزل به الروح الأمين ، على قلب سيد المرسلين ، ؛ ليكون حكما بين العالمين ، مناقضة ومحادة لما نزل من رب العالمين . انتهى كلامه بمعناه .(42/100)
فلا شك أن إفراد الله بالطاعة ، وإفراده بالحكم ، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، كل ذلك يقتضي ألا يحكم إلا بشرعه ؛ فلهذا كان الحكم بالقوانين الوضعية ، أو الحكم بسواليف البادية ، من الكفر الأكبر بالله - جل وعلا - ، ؛ لقوله تعالى - هنا في هذه الآية - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } [ النساء : 60 ] فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة جلية ، وهي : أن التحاكم إلى غير شرع الله قدح في أصل التوحيد ، وأن الحكم بشرع الله واجب ، وأن تحكيم القوانين ، أو سواليف البادية أو أمور الجاهلية ، مناف لشهادة . أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ؛ فإن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله أن يطاع فيما أمر ، وأن يصدق فيما أخبر ، وأن يجتنب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .(42/101)
فالحكم بين المتخاصمين لا بد أن يرجع فيه إلى حكم من خلق المتخاصمين ، ومن خلق الأرض والسماوات ، فالحكم الكوني القدري لله - جل وعلا - وكذلك الحكم الشرعي لله - جل وعلا - فيجب ألا يكون بين العباد إلا تحكيم أمر الله - جل وعلا - فإن ذلك هو حقيقة التوحيد في طاعة الله - جل وعلا - في مسائل التخاصم بين الخلق .(42/102)
" باب قول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } [ النساء : 60 ] " : قوله { يَزْعُمُونَ } يدل على أنهم كذبة ، فلا يجتمع الإيمان مع إرادة الحكم والتحاكم إلى الطاغوت ، قوله : ( يريدون ) هذا ضابط مهم ، وشرط في نفي أصل الإيمان عمن تحاكم إلى الطاغوت ، فإن من تحاكم إلى الطاغوت قد يكون بإرادته - وهي الطواعية والاختيار والرغبة في ذلك وعدم الكراهة - ، وقد يكون بغير إرادته ، بأن يكون مجبرا على ذلك ، وليس له في ذلك اختيار ، وهو كاره لذلك ، فالأول هو الذي ينتفي عنه الإيمان ، إذ لا يجتمع الإيمان بالله وبما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت ، فالإرادة شرط ؛ لأن الله - جل وعلا - جعلها في ذلك مساق الشرط ، فقال : { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } و { أَنْ يَتَحَاكَمُوا } هذا مصدر ، . يعني : يريدون التحاكم إلى الطاغوت ، والطاغوت . اسم لكل ما تجاوز به العبد حده من متبوع ، أو معبود ، أو مطاع - كما تقدم بيانه - .(42/103)
قوله : { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } : يعني أن يكفروا بالطاغوت ، وأن يكفروا بكل تحاكم إلى غير شرع الله - جل وعلا - ، فالأمر بالكفر بالتحاكم إلى الطاغوت أمر واجب ، ومن إفراد التوحيد ، ومن إفراد تعظيم الله - جل وعلا - في ربوبيته ، فمن تحاكم إلى الطاغوت بإرادته ، فقد انتفى عنه الإيمان أصلا ، كما دلت عليه الآية .
قوله : { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } دل ذلك على أن هذا من وحي الشيطان ، ومن تسويله .
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] الإفساد في الأرض : الإشراك بالله ، وبتحكيم غير شرع الله ، فالأرض إصلاحها بالشريعة والتوحيد ، وإفسادها بالشرك بأنواعه الذي منه الشرك في الطاعة ؛ ولهذا ساق الشيخ هذه الآية تحت هذا الباب ، لأجل أن يبين لك أن صلاح الأرض بالتوحيد الذي منه إفراد الله - جل وعلا - بالطاعة وأن لا يحاكم إلا إلى شرعه ، وأن إفساد الأرض بالشرك ، الذي منه أن يجعل حكم غير الله - جل وعلا - جائز التحاكم إليه .(42/104)
وهذه الآية ظاهرة في أن من خصال المنافقين أنهم يسعون في الشرك وفي وسائله وأفراده ويقولون : إنما نحن مصلحون وفي الحقيقة أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ؛ لأنهم إذا أرادوا الشرك ورغبوا فيه وحاكموا وتحاكموا إلى غير شرع الله فإن ذلك هو الفساد والسعي فيه سعي في الإفساد .(42/105)
وقوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ] وحكم الجاهلية هو : أن يحكم بعضهم على بعض ، بأن يسن البشر شريعة فيجعلونها حكما ، والله - جل وعلا - هو الذي خلق العباد ، وهو أعلم بما يصلحهم ، وما فيه العدل في الفصل بين الناس في أقضيتهم وخصوماتهم ، فمن حاكم إلى شرائع الجاهلية فقد حكم البشر ، ومعنى ذلك أنه اتخذه مطاعا من دون الله ، أو جعله شريكا لله - جل وعلا - في عبادة الطاعة ، والواجب أن يجعل العبد حكمه وتحاكمه إلى الله - جل وعلا - دون ما سواه ، وأن يعتقد أن حكم الله - جل وعلا - هو أحسن الأحكام ، { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } [ الأنعام : 114 ] وقال هنا : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فدل على أن حكم غيره إنما هو - كما قال طائفة - زبالة أذهان ونحاتة أفكار لا تساوي شيئا عند من عقل تصرف الله - جل وعلا - في ملكه وملكوته وأن ليس ثم حكم إلا حكم الرب - جل وعلا - .(42/106)
وهذه المسألة - أعني مسألة التحاكم إلى غير شرع الله - من المسائل التي يقع فيها خلط كثير ، خاصة عند الشباب في هذه البلاد وفي غيرها ، وهي من أسباب تفرق المسلمين ؛ لأن نظر الناس فيها لم يكن واحدا ، والواجب أن يتحرى طالب العلم ما دلت عليه الأدلة وما بين العلماء من معاني تلك الأدلة وما فقهوه من أصول الشرع والتوحيد وما بينوه في تلك المسائل .
ومن أوجه الخلط في ذلك : أنهم جعلوا المسألة - مسألة الحكم والتحاكم - واحدة ، . يعني : جعلوها صورة واحدة ، وهي متعددة الصور ، فمن صورها : أن يكون هناك تشريع لتقنين مستقل ، يضاهى به حكم الله - جل وعلا - . هذا التقنين من حيث وضعه كفر ، والواضع له ، والمشرع والسان لذلك ، وجاعل هذا التشريع منسوبا إليه وهو الذي حكم بهذه الأحكام ، هذا المشرع كافر ، وكفره ظاهر ؛ لأنه جعل نفسه طاغوتا ، فدعا الناس إلى عبادته ، عبادة الطاعة وهو راض ، وهناك من يحكم بهذا التقنين - وهذه الحالة الثانية - فالمشرع حالة ، ومن يحكم بذلك التشريع حالة ، ومن يتحاكم إليه حالة ، ومن يجعله في بلده من جهة الدول هذه حالة رابعة .(42/107)
فصارت عندنا الأحوال أربعا : المشرع ، ومن أطاعه في جعل الحلال حراما والحرام حلالا ومناقضة شرع الله ؛ هذا كافر . ومن أطاعه في ذلك فقد اتخذه ربا من دون الله . والحاكم بذلك التشريع فيه تفصيل : فإن حكم مرة أو مرتين أو أكثر من ذلك ولم يكن ذلك ديدنا له وهو يعلم أنه عاص بتحكيم بغير شرع الله ، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب ، ولا يكفر حتى يستحل ؛ ولهذا تجد أن بعض أهل العلم يقول : الحاكم بغير شرع الله لا يكفر إلا إذا استحل ، وهذا صحيح ، ولكن لا تنزل هذه الحالة على حالة التقنين والتشريع ، كما قال ابن عباس : ليس الكفر الذي تذهبون إليه ، هو كفر دون كفر . . يعني : أن من حكم في مسألة أو في مسألتين بهواه بغير شرع الله وهو يعلم أنه عاص ولم يستحل ، هذا كفر دون كفر .
أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتا ويحكم دائما ويلزم الناس بغير شرع الله ، فهذا من أهل العلم من قال : يكفر مطلقا ككفر الذي سن القانون ؛ لأن الله - جل وعلا - قال : { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } فجعل الذي يحكم بغير شرع الله مطلقا طاغوتا وقال : { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } .(42/108)
ومن أهل العلم من . قال : حتى هذا النوع لا يكفر حتى يستحل ؛ لأنه قد يعمل ذلك ويحكم وهو يعتقد في نفسه أنه عاص ، فله حكم أمثاله من المدمنين على المعصية الذين لم يتوبوا منها . والقول الأول - وهو أن الذي يحكم دائما بغير شرع الله ويلزم الناس بغير شرع الله أنه كافر - هو الصحيح - عندي - وهو قول الجد الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في رسالته تحكيم القوانين " ؛ لأنه لا يصدر في الواقع من قلب قد كفر بالطاغوت ، بل لا يصدر إلا ممن عظم القانون ، وعظم الحكم بالقانون .
الحال الثالثة : حال المتحاكمين ، يعني : الذي يذهب هو وخصمه ويتحاكمون إلى قانون ، فهذا فيه تفصيل - أيضا - ، وهو : إن كان يريد التحاكم إلى الطاغوت ، وله رغبة في ذلك ، ويرى أن الحكم بذلك سائغ ولا يكرهه ، فهذا كافر أيضا : ؛ لأنه داخل في هذا الآية ، ولا تجتمع - كما قال العلماء - إرادة التحاكم إلى الطاغوت مع الإيمان بالله ، بل هذا ينفي هذا ، والله - جل وعلا - قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } .(42/109)
وأما إن كان لا يريد التحاكم ولا يرضاه ، وإنما أجبر على ذلك ، كما يحصل في البلاد الأخرى ، من إلزامه بالحضور مع خصمه إلى قانوني أو إلى قاض يحكم بالقانون ، أو أنه علم أن الحق له في الشرع فرفع الأمر إلى القاضي في القانون لعلمه أنه يوافق حكم الشرع ، فهذا الذي رفع أمره في الدعوى على خصمه إلى قاض قانوني لعلمه أن الشرع يعطيه حقه وأن القانون وافق الشرع في ذلك ، فهذا الأصح أيضا - عندي - أنه جائز .
وبعض أهل العلم يقول : يتركه ولو كان الحق له ، والله - جل وعلا - وصف المنافقين بقوله : { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } [ النور : 49 ] فالذي يرى أن الحق ثبت له في الشرع وما أجاز لنفسه أن يترافع إلى غير الشرع إلا لأنه يأتيه ما جعله الله - جل وعلا - له مشروعا ، فهذا لا يدخل في إرادة التحاكم إلى الطاغوت فهو كاره ولكنه حاكم إلى الشرع ، فعلم أن الشرع يحكم له فجعل الحكم الذي عند القانوني وسيلة للوصول إلى الحق الذي ثبت له شرعا .(42/110)
الحال الرابعة : حال الدولة التي تحكم بغير الشرع ، تحكم بالقانون ، فالدول التي تحكم بالقانون - أيضا - فقد فصل الشيخ محمد بن إبراهيم الكلام في هذه المسألة في فتاويه ، وخلاصة قوله : أن الكفر بالقانون فرض ، وأن تحكيم القانون في الدول إن كان خفيا نادرا فالأرض أرض إسلام ، . يعني : أن الدولة دولة إسلام ، فيكون له حكم أمثاله من الشركيات التي تكون في الأرض ، قال : وإن كان ظاهرا فاشيا ، فالدار . دار كفر ، . يعني : الدولة دولة كفر ، فيصبح الحكم على الدولة راجع إلى هذا التفصيل :(42/111)
إن كان تحكيم القانون قليلا وخفيا ، فهذه لها حكم أمثالها من الدول الظالمة ، أو التي لها ذنوب وعصيان ووجود بعض الشركيات في دولتها . وإن كان ظاهرا فاشيا - والظهور يضاده الخفاء ، والفشو يضاده القلة - قال : فالدار دار كفر ، وهذا التفصيل هو الصحيح ؛ لأننا نعلم أنه صار في دول الإسلام تشريعات غير موافقة لشرع الله - جل وعلا - والعلماء في الأزمنة الأولى ما حكموا على الدار بأنها دار كفر ولا على تلك الدول بأنها دول كفرية إلا لأن الشرك له أثر في الدار ، وإذا قلنا : الدار فنعني الدولة ، فمتى كان التحاكم إلى الطاغوت ظاهرا فاشيا فالدولة دولة كفر ، ومتى كان قليلا خفيا أو كان قليلا ظاهرا وينكر ، فالأرض أرض إسلام ، والدار دار إسلام ، والدولة دولة إسلام .
فهذا التفصيل يتضح به هذا المقام وبه تجمع بين كلام العلماء ولا تجد مضادة بين قول عالم وعالم ولا تشتبه المسألة - إن شاء الله تعالى - .(42/112)
" باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات "
وقول الله تعالى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .
وفي صحيح البخاري قال علي : " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟! " (1) .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك ، فقال : ما فرق هؤلاء ، يجدون رقة عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه ؟ " (2) . انتهى .
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك ، فأنزل الله فيهم : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } (3) .
فيه مسائل :
الأولى : عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات .
الثانية : تفسير آية الرعد .
الثالثة : ترك التحديث بما لا يفهم السامع .
الرابعة : ذكر العلة : أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ، ولو لم يتعمد المنكر .
الخامسة : كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك ، وأنه أهلكه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه البخاري (127) .
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20895) .
(3) أخرجه ابن جرير في التفسير (20397) .(42/113)
هذا الباب ترجم له إمام هذه الدعوة بقوله : " باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات " يعني : وما يلحقه من الذم ، وأن جحد شيء من الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد ومن خصال الكفار والمشركين .(42/114)
وقد ذكرنا فيما سبق أن توحيد الإلهية عليه براهين ، ومن براهينه توحيد المعرفة والإثبات وهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، فمن أدلة توحيد الإلهية توحيد الربوبية كما سبق في " باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ الأعراف : 191 ] " ، وكذلك توحيد الأسماء والصفات برهان على توحيد الإلهية ، ومن حصل عنده ضلال في توحيد الأسماء والصفات فإن ذلك سيتبعه ضلال في توحيد الإلهية ؛ ؛ ولهذا تجد المبتدعة الذين ألحدوا في أسماء الله وفي صفاته من هذه الأمة : من الجهمية ، والمعتزلة ، والرافضة ، والأشاعرة ، والماتريدية ، ونحو هؤلاء ، تجد أنهم لما انحرفوا في باب توحيد الأسماء والصفات لم يعلموا حقيقة معنى توحيد الإلهية ففسروا ( الإله ) بغير معناه وفسروا : ( لا إله إلا الله ) بغير معناها الذي دلت عليه اللغة ودل عليه الشرع ، وكذلك لم يعلموا متعلقات الأسماء والصفات وآثارها في ملك الله - جل وعلا - وسلطانه ؛ لهذا عقد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب لأجل أن يبين أن تعظيم الأسماء والصفات من كمال التوحيد وأن جحد الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد ، فالذي يجحد اسما سمى(42/115)
الله به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك عنه وتيقنه فإنه يكون كافرا بالله - جل وعلا - كما قال سبحانه عن المشركين : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] .
والواجب على العباد من أهل هذه الملة ، أن يوحدوا الله - جل وعلا - في أسمائه وصفاته ، ومعنى توحيد الله في أسمائه وصفاته : أن يتيقن ويؤمن بأن الله - جل وعلا - ليس له مثيل في أسمائه ولا في صفاته كما قال ـ جل وعلا ـ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] فنفى وأثبت ، نفى أن يماثل الله شيء - جل وعلا - وأثبت له صفتي السمع والبصر .
قال العلماء : قدم النفي قبل الإثبات على القاعدة العربية المعروفة أن التخلية تسبق التحلية ، فيجب أن يخلو القلب من كل براثن التمثيل ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخلقه ، أو تشبيه خلق الله به ، فإذا خلا القلب من كل ذلك ، وبرئ من التشبيه والتمثيل ، أثبت ما يستحقه الله - جلا وعلا - من الصفات ، فأثبت هنا صفتين وهما السمع والبصر .(42/116)
وسبب ذكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات دون غيرهما من الصفات ، أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء ؛ لأن صفتي السمع والبصر مشتركة بين أكثر المخلوقات الحية ، فجل المخلوقات الحية التي حياتها بالروح والنفس لا بالنماء فإن السمع والبصر موجود فيها جميعا ، فالإنسان له سمع وبصر وسائر أصناف الحيوانات لها سمع وبصر ، فالذباب له سمع وبصر يناسبه ، والبعير له سمع وبصر يناسبه ، وكذلك الطيور ، والأسماك ، والدواب الصغيرة ، والحشرات كل له سمع وبصر يناسبه .(42/117)
ومن المتقرر عند كل عاقل أن سمع هذه الحيوانات ليس متماثلا ، وأن بصرها ليس متماثلا وأن سمع الحيوان ليس مماثلا لسمع الإنسان ، فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من الحيوانات وكذلك البصر ، فإذا كان كذلك كان اشتراك المخلوقات التي لها سمع وبصر في السمع والبصر اشتراكا في أصل المعنى ، ولكل سمع وبصر بما قدر له وما يناسب ذاته ، فإذا كان كذلك ولم يكن وجود السمع والبصر في الحيوان وفي الإنسان مقتضيا لتشبيه الحيوان بالإنسان ، فكذلك إثبات السمع والبصر للملك الحي القيوم ليس على وجه المماثلة للسمع والبصر في الإنسان أو في المخلوقات ، فلله - جل وعلا - سمع وبصر يليق به ، كما أن للمخلوق سمعا وبصرا يليق بذاته الحقيرة الوضيعة ، فسمع الله كامل مطلق من جميع الوجوه لا يعتريه نقص وبصره كذلك .(42/118)
واسم الله ( السميع ) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة السمع ، وكذلك اسم الله ( البصير ) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر ، فدل ذلك على أن النفي مقدم على الإثبات ، وأن النفي يكون مجملا والإثبات يكون مفصلا ، فالواجب على العباد أن يعلموا أن الله - جل جلاله - متصف بالأسماء الحسنى وبالصفات العلى وأن لا يجحدوا شيئا من أسمائه وصفاته ، فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته فهو كافر ؛ لأن ذلك صنيع الكفار والمشركين .
والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله ، وهو سبب لمعرفة الله ، والعلم به ، بل إن العلم بالله ومعرفة الله - جل وعلا - تكون بمعرفة أسمائه وصفاته ، وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله - جل وعلا - ، وهذا باب عظيم ربما يأتي له زيادة إيضاح عند " باب قول الله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] .
فتلخص من هذا أن لقوله : " باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات " صلة وطيدة بكتاب التوحيد من جهتين :
الجهة الأولى : أن من براهين توحيد العبادة توحيد الأسماء والصفات .(42/119)
الثانية : أن جحد شيء من الأسماء والصفات شرك وكفر مخرج من الملة ، وأن من ثبت عنده الاسم ، أو ثبتت الصفة ، وعلم أن الله - جل وعلا - أثبتها لنفسه ، وأثبتها له سوله صلى الله عليه وسلم ثم جحدها ونفاها أصلا ، فإن هذا كفر ؛ لأنه تكذيب بالكتاب وبالسنة .(42/120)
" وقول الله تعالى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] . الآية " ، الرحمن : من أسماء الله - جل وعلا - والمشركون والكفار في مكة كانوا يقولون : لا نعلم الرحمن إلا رحمن اليمامة ، فكفروا باسم الله ( الرحمن ) ، وهذا كفر بنفسه ؛ ولهذا قال - جل وعلا - : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } يعني : باسم الله ( الرحمن ) ، وهذا اسم من أسماء الله الحسنى ، وهو مشتمل على صفة الرحمة ؛ لأن ( الرحمن ) فيه صفة الرحمة ومبني على وجه المبالغة ، فالرحمن أبلغ في اشتماله على صفة الرحمة من اسم ( الرحيم ) ؛ ولهذا لم يتسم به على الحقيقة إلا الله - جل وعلا - فهو من أسماء الله العظيمة التي لا يشركه فيها أحد ، أما ( الرحيم ) فقد أطلق الله - جلا وعلا - على بعض عباده بأنهم رحماء ، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم ، رحيم كما قال : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . [ التوبة : 128 . ] .(42/121)
والاسم والصفة بينهما ارتباط من جهة أن كل اسم لله - جل وعلا - مشتمل على صفة ، فأسماء الله ليست جامدة ، بل كل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة ، فالاسم من أسماء الله يدل على مجموع شيئين بالمطابقة . وهما : الذات ، والصفة التي اشتمل عليها الاسم ، ويدل على أحدهما - الذات أو الصفة - بالتضمن ؛ ولهذا نقول : كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة من صفات الله ودال بالمطابقة على كل من الذات والصفة ، أي الذات المتصفة بالصفة حتى لفظ الجلالة ( الله ) الذي هو علم على المعبود بحق - جل وعلا - مشتق ، على الصحيح من قولي أهل العلم ؛ لأن أصله ( الإله ) حذفت همزته تخفيفا لكثرة دعائه وندائه بذلك في أصل العربية ، فهو مأخوذ من ( الإلهة ) وهي العبادة ، فلفظ الجلالة ( الله ) ليس اسما جامدا ، بل هو مشتق من ذلك .(42/122)
وجميع الصفات التي تتضمنها الأسماء كلها دالة على كمال الله - جل وعلا - وعلى عظمته ، فالعبد المؤمن إذا أراد أن يكمل توحيده فليعظم العناية بالأسماء والصفات ؛ لأن معرفة الاسم والصفة يجعل العبد يراقب الله - جل وعلا - وتؤثر هذه الأسماء والصفات في توحيده وقلبه وعلمه بالله ومعرفته ، كما سيأتي في تقاسيم الأسماء والصفات .(42/123)
" وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه : " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ " (1) هذا فيه دليل على أن بعض العلم لا يصلح لكل أحد ؛ فإن من العلم ما هو خاص ، ولو كان نافعا في نفسه ومن أمور التوحيد ، لكن ربما لا يعرفه كثير من الناس ، وهذا من مثل بعض أفراد توحيد الأسماء والصفات كبعض مباحث الأسماء والصفات ، وذكر بعض الصفات لله - جل وعلا - فإنها لا تناسب كل أحد حتى إن بعض المتجهين إلى العلم قد لا تطرح عليه بعض المسائل الدقيقة في الأسماء والصفات ، ولكن يؤمرون بالإيمان بذلك إجمالا ، والإيمان بالمعروف والمعلوم المشتهر في الكتاب والسنة ، أما دقائق البحث في الأسماء والصفات فإنما هي للخاصة ، ولا تناسب العامة والمبتدئين في طلب العلم ؛ لأن منها ما يشكل ، ومنها ما قد يؤول بقائله إلى أن يكذب الله ورسوله ، كما قال هنا علي رضي الله عنه : " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟! "
_________
(1) أخرجه البخاري (127) .(42/124)
فمناسبة هذا الأثر لهذا الباب : أن من أسباب جحد الأسماء والصفات أن يحدث المرء الناس بما لا يعقلونه من الأسماء والصفات ؛ لأن عامة الناس عندهم إيمان إجمالي بالأسماء والصفات يصح معه توحيدهم وإيمانهم وإسلامهم ، فالدخول في تفاصيل ذلك غير مناسب إلا إذا كان المخاطب يعقل ذلك ويعيه ، وليس أكثر الناس كذلك ؛ ولهذا نهى الإمام مالك - رحمه الله - لما حدث عنده بحديث الصورة نهى المتحدث بذلك ؛ لأن العامة لا يحسنون فهم مثل هذه المباحث ، وهكذا في بعض المسائل في الأسماء والصفات لا تناسب العامة ، فقد يكون سبب الجحد تحديث الرجل ببحث لا يعقله ، فيؤول به ذلك إلى أن يجحد شيئا من العلم بالله - جل وعلا - ، أو يجحد شيئا من الأسماء والصفات .(42/125)
فالواجب على المسلم وبخاصة طالب العلم أن لا يجعل الناس يكذبون شيئا مما قاله الله - جل وعلا - أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ووسيلة ذلك التكذيب أن يحدث الناس بما لا يعرفون ، وبما لا تبلغه عقولهم ، كما جاء في الحديث الآخر : " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " (1) ، وقد بوب على ذلك البخاري في الصحيح في كتاب العلم بقوله : " باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه " ، وهذا من الأمر المهم الذي ينبغي للمعلم والمتحدث والواعظ والخطيب أن يعيه ، وأن يحدث الناس بما يعرفون وأن يجعل تقوية التوحيد وإكمال توحيدهم والزيادة في إيمانهم بما يعرفون لا بما ينكرون .
_________
(1) أخرجه مسلم (14) .(42/126)
" وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك ، فقال : ما فرق هؤلاء ؟!! يجدون رقة عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه ؟ " (1) : هذا الرجل لما لم يعرف هذه الصفة انتفض ؛ لأنه فهم من هذه الصفة المماثلة أو التشبيه ، فخاف من تلك الصفة ، والواجب على المسلم أنه إذا سمع صفة من صفات الله في كتاب الله أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجريها مجرى جميع الصفات ، وهو أن إثبات الصفات لله - جل وعلا - إثبات بلا تكييف ، وبلا تمثيل ، فإثباتنا للصفات على وجه تنزيه الله - جل وعلا - عن المثيل والنظير في صفاته وأسمائه ، فله من كل اسم وصفة أعلى وأعظم ما يشتمل عليه من المعنى ؛ ولهذا قال ابن عباس هنا : " ما فرق هؤلاء ؟ " يعني : ما سبب خوف هؤلاء ؟ لماذا فرقوا ؟ خافوا من هذه الصفة ومن إثباتها .
قوله : " يجدون رقة عند محكمه " يعني : إذا خوطبوا بالمحكم الذي يعرفون ، وجدوا في قلوبهم رقة لذلك ، والمحكم : هو ما يعلم ، أي الذي يعلمه سامعه هذا هو المحكم .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20895) ، وابن أبي عاصم في السنة (485) .(42/127)
قوله : " ويهلكون عند متشابهه " فإذا سمعوا في الكتاب أو السنة شيئا لا تعقله عقولهم هلكوا عنده ، وخافوا ، وفرقوا ، وأولوا ، ونفوا أو جحدوا ، وهذا من أسباب الضلال .
والمتشابه : الذي يشتبه علمه على سامعه .
والقرآن والعلم والشريعة كلها محكمة ، وكلها متشابهة ، ومنها محكم ، ومنها متشابه ، فهذه ثلاثة أقسام :
فالأول : المحكم كما قال - جل وعلا - : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }{ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } [ هود : 1-2 ] فالقرآن كله محكم ، بمعنى : أن معناه واضح ، وأن الله - جل وعلا - أحكمه ، فلا اختلاف فيه ولا تباين ، وإنما يصدق بعضه بعضا كما قال - جل وعلا - : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [ النساء : 82 ] .(42/128)
والقرآن والشريعة أيضا متشابهة كلها ، بمعنى : أن بعضها يشبه بعضا ، فهذا الحكم يشبه غيره ، وهذه المسألة تشبه تلك ؛ لأنها تجري معها في قاعدة واحدة ، فنصوص الشريعة يصدق بعضها بعضا ويؤول بعضها إلى بعض وقد قال - جل وعلا - : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [ الزمر : 23 ] فقال : { كِتَابًا مُتَشَابِهًا } فالقرآن متشابه ، يعني : أن بعضه يشبه بعضا ، فهذا خبر في الجنة ، وهذا خبر في الجنة ، وبعض الأخبار يفصل بعضا ، وهذه قصة وهذه قصة ، وكل تصدق الأخرى وتزيدها تفصيلا ، وهكذا كل ما في القرآن .(42/129)
والقرآن أيضا والشريعة والعلم منه محكم ومنه متشابه باعتبار آخر ، كما جاء في آية آل عمران : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، فمنه محكم : وهو الذي اتضح لك علمه ، ومنه متشابه : وهو الذي اشتبه عليك علمه . وبهذا نعلم أنه ليس عند أهل السنة والجماعة - أتباع السلف الصالح - شيء من المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد ، بمعنى أنه لا توجد مسألة من مسائل التوحيد ، أو من مسائل العمل يشتبه علمها على كل الأمة هذا لا يوجد ، بل ربما اشتبه على بعض الناس وبعضهم يعلم المعنى كما قال - جل وعلا - : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] على أحد وجهي الوقف ، فهذا المتشابه الموجود الذي هو قسيم للمحكم قد يشتبه على بعض الناس ، فإذا اشتبه عليك علم شيء من التوحيد أو من الشريعة فإن الواجب ألا تفرق عنده وألا تخاف وألا تتهم الشرع وإلا وقع في قلبك شيء من الزيغ ؛ لأن الذين يتبعون المتشابه بمعنى : لا يؤمنون به ، فإن هؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ ، وهذا هو الذي عناه(42/130)
ابن عباس رضي الله عنهما حين قال : " يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه " يريد به هذا الوجه من أن الذين يهلكون عند المتشابه هم أهل الزيغ الذين قال الله - جل وعلا - فيهم : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [ آل عمران : 7 ] .(42/131)
فأهل الزيغ يتبعون المتشابه ابتغاء أحد أمرين : إما أن يبتغوا بالمتشابه الفتنة ، وإما أن يبتغوا به التأويل ، والواجب أن يرد المتشابه إلى المحكم ، فنعلم أن الشريعة يصدق بعضها بعضا ، وأن التوحيد بعضه يدل على بعض ، وكالقاعدة المعروفة في الصفات التي ذكرها عدد من الأئمة كالخطابي وشيخ الإسلام في التدمرية : " أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض " و " أن القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه وينهج على منواله " " ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] " (1) ، فإنكار الصفة أو إنكار الاسم بمعنى عدم التصديق بذلك هذا جحد ، وهذا يختلف عن التأويل ، فالتأويل والإلحاد له مراتب يأتي بيانها إن شاء الله تعالى .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير (20397) .(42/132)
" باب قول الله تعالى : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } [ النحل : 83 ] .
قال مجاهد ما معناه : هو قول الرجل : هذا مالي ورثته عن آبائي . وقال عون بن عبد الله : يقولون : لولا فلان لم يكن كذا . وقال ابن قتيبة : يقولون : هذا بشفاعة آلهتنا .
وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه « وإن الله تعالى قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . . » الحديث ، وقد تقدم - : وهذا كثير في الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به .
قال بعض السلف : هو كقولهم : كانت الريح طيبة والملاح حاذقا ، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير معرفة النعمة وإنكارها .
الثانية : معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير .
الثالثة : تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة .
الرابعة : اجتماع الضدين في القلب .
الشرح :(42/133)
هذا الباب من الأبواب العظيمة في هذا الكتاب وبخاصة في هذا الزمن ، لشدة الحاجة إليه ، وترجمه المصنف - رفع الله مقامه في الجنة - بقوله : " باب قول الله تعالى : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } فوصف الكفار في سورة النحل التي تسمى سورة النعم ، وصفهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وإنكار النعمة أن تنسب إلى غير الله ، وأن يجعل المتفضل بالنعمة غير الذي أسداها وهو الله جل جلاله .
فالواجب على العبد أن يعلم أن كل النعم من الله - جل وعلا - وأن كمال التوحيد لا يكون إلا بإضافة كل نعمة إلى الله - جل وعلا - وأن إضافة النعم إلى غير الله نقص في كمال التوحيد ، ونوع شرك بالله جل وعلا ؛ ولهذا تكون مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد : أن ثمة ألفاظا يستعملها كثير من الناس في مقابلة النعم أو في مقابلة اندفاع النقم وتكون تلك الألفاظ نوع شرك بالله - جل وعلا - بل هي شرك أصغر بالله - جل وعلا - فنبه الشيخ - رحمه الله - بهذا الباب على ما ينافي كمال التوحيد من الألفاظ ، وأن نسبة النعم إلى الله - جل وعلا - واجبة .(42/134)
قوله : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } : أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أن لفظ ( المعرفة ) يستعمل في القرآن وفي السنة غالبا فيما يذم من أخذ المعلومات كقوله - جل وعلا - : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] ، وكقوله في هذه الآية : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] . وهذا على جهة الأكثرية ، وإلا فقد وردت المعرفة بمعنى العلم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : " إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعرفوا الله ، فإن هم عرفوا الله . . » (1) فهذا يدل على أن بعض من روى الحديث من التابعين جعل المعرفة بمعنى العلم ، وهم حجة في هذا المقام فيدل على أن استعمال المعرفة بمعنى العلم لا بأس به .
_________
(1) تقدم.(42/135)
وهذا الباب معقود لألفاظ يكون استعمالها من الشرك الأصغر ، ذلك أن فيها إضافة النعمة إلى غير الله ، والله - جل وعلا - قال : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] وهذا نص صريح في العموم ؛ لأن مجيء النكرة في سياق النفي يدل على العموم ظهورا ، فإن سبقت النكرة بـ ( من ) دلت على العموم نصا ، والتنصيص في العموم معناه أنه لا يخرج شيء من أفراده ، فدلت الآية على أنه لا يخرج شيء من النعم أيا كان ذلك الشيء ، صغيرا كان أو كبيرا ، عظيما أو حقيرا ، لا يكون إلا من الله جل وعلا ، فكل النعم صغرت أو عظمت هي من الله - جل جلاله - وحده ، وأما العباد فإنما هم أسباب تأتي النعم على أيديهم ، وأسباب في إيصال النعمة إليك ، فمن كان سببا في معالجتك ، أو سببا في تعيينك ، أو سببا في نجاحك ، أو نحو ذلك لا يدل على أنه هو ولي النعمة ، أو هو الذي أنعم ، فإن ولي النعمة هو الرب جل وعلا ، وهذا من كمال التوحيد فإن القلب الموحد يعلم أنه ما ثم شيء في هذا الملكوت إلا والله - جل وعلا - هو الذي يرسله ، وهو الذي يمسك ما يشاء كما قال سبحانه : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا(42/136)
وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] فكل النعم من الله - جل وعلا - والعباد أسباب في ذلك ، فالواجب إذا أن تنسب النعمة إلى المسدي لا إلى السبب ؛ لأن السبب لو أراد الله - جل وعلا - لأبطل كونه سببا ، وهذا السبب إذا كان آدميا فقلبه بين إصبعين من أصابع الله - جل وعلا - لو شاء لصده عن أن يكون سببا ، أو أن ينفعك بشيء ، فالله - جل وعلا - هو ولي النعمة ، قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - : ما من أحد تعلق بمخلوق إلا وخذل ، وما من أحد تعلق بمخلوق في حصول نفع له أو اندفاع مكروه عنه إلا خذل ، وهذا في غالب المسلمين ؛ وذلك لأن الواجب على المسلم أن يعلق قلبه بالله ، وأن يعلم أن النعم إنما هي من عند الله ، والعباد أسباب يسخرهم الله - جل جلاله - وهذا هو حقيقة التوحيد ومعرفة تصرف الله - جل وعلا - في ملكوته .(42/137)
" قال مجاهد ما معناه : هو قول الرجل : هذا مالي ورثته عن آبائي " (1) : يعني أن قول الرجل " مالي ورثته عن آبائي " مناف لكمال التوحيد ونوع شرك ؛ لأنه نسب هذا المال إليه ونسبه إلى آبائه ، وفي الواقع أن هذا المال أنعم الله به على آبائه ثم أنعم الله به على هذا المؤمن ؛ إذ جعل الله - جل وعلا - قسمة الميراث تصل إليه ، وهذا كله من فضل الله - جل وعلا - ومن نعمته ، والوالد سبب في إيصال المال إليك ، ولهذا لا يجوز للوالد أو لصاحب المال أن يقسم الميراث على ما يريد هو ؛ لأن المال في الحقيقة ليس مالا له كما قال - جل وعلا - : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [ النور : 33 ] ، فهو مال الله - جل وعلا - يقسمه كيف يشاء « إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم » (2) فالواجب على العبد أن يعلم أن ما وصله من المال ، أو وصله من النعمة عن طريق آبائه هو من فضل الله - جل وعلا - ونعمته ، والده أو والدته أو قريبه سبب من الأسباب ، فيحمد الله - جل وعلا - على هذه النعمة ، ويقابل ذلك السبب بجزائه إما بدعاء وإما بغيره .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 14 / 157 .
(2) أخرجه أحمد 1 / 387 .(42/138)
" وقال عون بن عبد الله : يقولون : لولا فلان لم يكن كذا " (1) : كقول القائل : لولا الطيار لذهبنا في هلكة ، ولولا أن سائق السيارة كان ماهرا لذهبنا في كذا وكذا ، أو يقول : لولا أن الشيخ كان معلما وأفهمنا هذه المسألة لما فهمناها أبدا ، أو يقول : لولا المدير الفلاني لفصلت ، ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها تعليق حصول الأمر بهذه الواسطة . والأمر إنما حصل بقضاء الله وبقدره ، وبفضل الله وبنعمته من حصول النعم ، أو اندفاع المكروه والنقم ؛ ولهذا يجب على العبد أن يوحد فيقول : لولا الله ثم فلان ، فيجعل مرتبة السبب ثانية ولا يجعلها هي الأولى الوحيدة ؛ لأن الله - جل وعلا - هو المسدي للنعم المفضل بها .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 14 / 157 .(42/139)
قوله : " لولا فلان لم يكن كذا " إنما قال هنا : " فلان " من جهة كثرة الاستعمال ، أما في الواقع فإن الناس يستعملونها فيما يتعلقون به من جمادات ، كبيت ، أو سيارة ، أو طيارة ، أو بقعة ، أو مطر ، أو ماء ، أو سحاب ، أو هواء ، ونحو ذلك ، فنسبة النعمة إلى إنسان ، أو إلى بقعة ، أو إلى فعل فاعل ، أو إلى صنعة ، أو إلى مخلوق ، كل ذلك من نسبة النعم إلى غير الله ، وهو نوع من أنواع الشرك في اللفظ وهو من الشرك الأصغر بالله - جل وعلا - كما سيأتي في الباب بعده إن شاء الله .
وقال ابن قتيبة : يقولون : هذا بشفاعة آلهتنا " يعني : إذا حصلت لهم نعمة ، أو جاءتهم أمطار ، أو مال ، أو نجحوا في تجارتهم ، إذا حصل لهم ذلك توجهوا للأولياء ، أو توجهوا للأنبياء ، أو توجهوا للأصنام ، أو للأوثان ، فصرفوا لها شيئا من العبادة فقالوا : الآلهة شفعت لنا فلذلك جاءنا هذا الخير ، فيتذكرون آلهتهم وينسون أن المتفضل بذلك هو الله - جل وعلا - وأن الله سبحانه لا يقبل شفاعة شركية من تلك الشفاعات التي يذكرونها .(42/140)
" وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه : « وإن الله تعالى قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . . . » الحديث ، وقد تقدم : وهذا كثير في الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ، ويشرك به . قال بعض السلف : هو كقولهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقا ، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير : وهذا باب ينبغي الاهتمام به وتنبيه الناس عليه ؛ لأن نعم الله على أهل الإيمان في كل مكان كثيرة لا حصر لها ؛ . ولهذا يجب أن تنسب النعم إلى الله - جل وعلا - وأن يذكر بها وأن يشكر ؛ لأن من درجات شكر النعمة أن تضاف إلى من أسداها كما قال تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] ، فأول درجات الشكر التحديث بالنعمة كأن تقول : هذا من فضل الله ، وهذه نعمة الله ، فإذا التفت القلب إلى مخلوق فإنه يكون قد أشرك هذا النوع من الشرك المنافي لكمال التوحيد .(42/141)
" باب قول الله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " [ البقرة : 22 ] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية : الأنداد : هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل ، على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت . وقول الرجل : لولا الله وفلان ، لا تجعل فيها فلانا ، هذا كله شرك . رواه ابن أبي حاتم (1) .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » (2) . رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم .
وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا (3) .
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان » . رواه أبو داود بسند صحيح (4) ، وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول : أعوذ بالله وبك (5) ، ويجوز أن يقول : بالله ثم بكم ، قال : ويقولون : لولا الله ثم فلان ولا تقولوا : لولا الله وفلان .
فيه مسائل :
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (230) .
(2) أخرجه الترمذي (1535) والحاكم 1 / 18 و 4 / 297 وصححه ووافقه الذهبي .
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 8 / 469 ، والطبراني في الكبير« (8902) .
(4) أخرجه أبو داود (4980) ، وصححه النووي .
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (347) .(42/142)
الأولى : تفسير آية البقرة في الأنداد .
الثانية : أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر .
الثالثة : أن الحلف بغير الله شرك .
الرابعة : أنه إذا حلف بغير الله صادقا ، فهو أكبر من اليمين الغموس .
الخامسة : الفرق بين الواو و( ثم ) في اللفظ .
الشرح :
هذا " باب قول الله تعالى { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] " ، وفيه بيان أن هناك ألفاظا فيها التنديد ، والتنديد معناه : أن تجعل غير الله ندا له ، فيكون التنديد في نسبة النعم إلى غير الله ، ويكون في الحلف بغير الله ، ويكون في قول : ما شاء الله وشاء فلان ، وغير ذلك من الألفاظ .
فهذا الباب فيه بيان أن التنديد يكون في الألفاظ ، والتنديد هنا المراد به : التنديد الأصغر الذي هو شرك أصغر في الألفاظ وليس التنديد الكامل الذي هو الشرك الأكبر .(42/143)
" قوله - جل وعلا - : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] : هذا عام يشمل اتخاذ الأنداد بالشرك الأكبر ويشمل أيضا اتخاذ الأنداد بأنواع الإشراك التي دون الشرك الأكبر ؛ لأن قوله : ( أندادا )نكرة في سياق ، النهي فتعم جميع أنواع التنديد ، والتنديد منه ما هو مخرج من الملة ، ومنه ما لا يخرج من الملة ؛ ولهذا ساق عن ابن عباس أنه قال : " الأنداد : هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل " فجعل مما يدخل في هذه الآية الشرك الخفي أو شرك الألفاظ التي تخفى على كثير من الناس .
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة : من أن حقيقة التوحيد ألا يكون في الملة إلا الله - جل وعلا - وألا يتلفظ بشيء فيه جعل غير الله - جل وعلا - شريكا أو ندا له كمن حلف بغير الله أو كمن قال : ما شاء الله وشاء فلان ، أو لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ونحو هذه الألفاظ .(42/144)
قوله " لا تجعل فيها فلانا ، هذا كله به شرك " يعني لا تقل : لولا الله وفلان ، بل قل : لولا الله لحصل كذا ، هذا هو الأكمل ، فالذي ينبغي في استعمال هذه الألفاظ أن تنسب إلى الله ، فظهر لنا هنا أن ثمة : درجتين كاملة ، جائزة ، وغير ذلك لا يجوز :
فالدرجة الأولى - وهي الكاملة - : أن يقول : لولا الله لما حصل كذا .
والدرجة الثانية وهي الجائزة - : أن يقول : لولا الله ثم فلان لما حصل كذا ، فهذه جائزة وهي توحيد ، ؛ لجعله مرتبة فلان نازلة عن مرتبة إنعام الله ، ولكن هذا ليس هو الكمال ؛ ولهذا قال ابن عباس هنا : " لا تجعل فيها فلانا " ؛ لأن الكمال أن تقول : لولا الله لأتانا اللصوص ، ولولا نعمة الله لما حصل كذا ، ولولا فضل الله لما حصل كذا ، هذه هي المرتبة الكاملة ، والجواز أن تقول : لولا الله ثم فلان .(42/145)
وأما الذي لا يجوز والذي قال فيه ابن عباس : " كله به شرك " فهو أن يقول : لولا الله وفلان ، بالواو ؛ لأن ( الواو ) تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه دون تراخ في المرتبة ، أما ( ثم ) فتفيد التراخي في المرتبة ، أو التراخي في الزمن ، على ما هو معلوم في هذا المبحث في حروف المعاني من النحو ؛ فلهذا كان قول القائل : لولا الله وفلان شرك ، أو ما شاء الله وشاء فلان شرك أصغر . والواجب أن يقول : لولا الله ، أو أن يقول : ما شاء الله وحده ، كما سيأتي في باب بعد ذلك .
فاتضح من هذا أن الكمال أن ينسب ذلك إلى الله - جل وعلا - وحده ، وأن الجائز أن يقول : لولا الله ثم فلان .
" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم " قوله : « من حلف بغير الله » يعني : عقد اليمين بغير الله - جل وعلا - « فقد كفر أو أشرك »(42/146)
واليمين هي : تأكيد الكلام بمعظم به بين المتكلم والمخاطب ، بأحد حروف القسم الثلاثة : الواو ، أو الباء ، أو التاء ، والواجب ألا يؤكد الكلام إلا بالله - جل وعلا - ؛ لأن المعظم على الحقيقة هو الله - جل وعلا - ، وأما البشر فليسوا بمعظمين بحيث يحلف بهم ، نعم ربما عظموا بشيء يناسب ذاتهم التعظيم البشري اللائق بهم ، أما التعظيم الذي يصل إلى حد أن يحلف به فهذا إنما هو لله - جل وعلا - .
فالواجب إذا ألا يؤكد الكلام إلا بالله - جل وعلا - إذا أراد الحلف ، فمن كان حالفا فليحلف بالله ، وليؤكد الكلام بالله - جل وعلا - باستخدام أحد الأحرف الثلاثة : الواو ، أو الباء ، أو التاء .(42/147)
وأما إذا استخدم غير هذه الأحرف كلفظ ( في ) ونحو ذلك فإنه لا يعد حلفا إلا إن كان في قلبه أنه يمين ولكنه أخطأ التعبير ، فالعبرة بما في النفس من المعاني ، أما ما في اللفظ فإنه في هذا المقام يؤول إلى ما في القلب ؛ لهذا قال هنا : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » ، وإنما كفر أو أشرك ؛ لأنه عظم هذا المخلوق كتعظيم الله - جل وعلا - في الحلف به وكفره وشركه شرك أصغر ، وقد يصل إلى أن يشرك بالحلف شركا أكبر إذا عظم المحلوف به تعظيم الله - جل وعلا - في العبادة .
فالحلف بغير الله تعالى تعظيم لذلك المحلوف به في الحلف ، فإن انضاف إلى ذلك تعظيم المحلوف به تعظيم عبادة صار شركا أكبر ، كحلف الذين يعبدون الأوثان بأوثانهم فإنه شرك أكبر ؛ لأنه يعظم ذلك الوثن ، أو ذلك القبر ، أو تلك البقعة ، أو ذلك المشهد ، أو ذلك الولي ، يعظمه كتعظيم الله في العبادة فيكون حلفه حلفا بمعظم به في العبادة ، ويكون شركا أصغر بمجرد الحلف بغير الله ، فكل من حلف بغير الله فهو مشرك الشرك الأصغر ، قد يصل في بعض الأحوال إلى أن يكون مشركا الشرك الأكبر إذا كان يعبد هذا الذي حلف به .(42/148)
وهناك يمين بغير الله في اللفظ فهذه أيضا شرك ، ولو لم يعقد القلب اليمين ، كمن يكون دائما على لسانه استعمال الحلف بالنبي ، أو بالكعبة ، أو بالأمانة ، أو بولي ، ونحو ذلك وهو لا يريد حقيقة اليمين ، وإنما يجري على لسانه مجرى اللغو ، فهذا أيضا شرك ؛ لأنه تعظيم لغير الله - جل وعلا - .
" وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا " : هذا لأجل عظم الحلف بغير الله - جل وعلا - وأن الحلف بغير الله شرك ، وأما الكذب فإنه كبيرة والشرك الأصغر هذا أعظم من الكبائر ؛ فلهذا استحب أن يكذب مع التوحيد وألا يصدق مع الشرك ؛ لأن حسنة التوحيد أعظم من سيئة الكذب ؛ ولأن سيئة الشرك أشنع من سيئة الكذب .(42/149)
" وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان » رواه أبو داود بسند صحيح " : : هذا من جهة الإرشاد إلى ما ينبغي أن يقال ، فلا تجعل مشيئة العبد مقارنة مشتركة مع مشيئة الله ، بل الواجب أن ينزه العبد لفظه حتى يعظم الله - جل وعلا - ، والقلب المعظم لله - جل وعلا - لا يمكن أن يستعمل لفظا فيه جعل لمخلوق في مرتبة الله - جل وعلا - في المشيئة ، أو في الحلف ، أو في الصفات ونحو ذلك ؛ لهذا قال : « لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان » وهذا النهي للتحريم ؛ لأن هذا التشريك في المشيئة ، شرك أصغر بالله - جل وعلا - .
قوله : « ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان » : لأن ( ثم ) تفيد التراخي في المشيئة ، وهذا لأن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله - جل وعلا - قال تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 29 ] فمشيئة العبد ناقصة ومشيئة الله كاملة .(42/150)
" وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول : أعوذ بالله وبك ) : لأن ( الواو ) تقتضي التشريك في الاستعاذة ، والاستعاذة كما ذكرنا لها جهتان : جهة ظاهرة ، وجهة باطنة ، أما الجهة الباطنة وهي : الالتجاء ، والاعتصام ، والرغب ، والرهب ، وإقبال القلب على المستعاذ به ، فهذه لا تصلح إلا لله .
والاعتماد في الاستعاذة على المخلوق فيما أقدره الله عليه جائز ، ؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق ظاهرا فيما أقدره الله عليه جائزة ؛ لهذا " كان يكره أن يقول : أعوذ بالله وبك " والكراهة في استعمال السلف يراد منها غالبا المحرم ، وقد ترد لغير المحرم ولكن يستعملونها فيما لا نص فيه .
ومجيء الكراهة بمعنى التحريم في القرآن في قوله تعالى لما ذكر الكبائر في سورة الإسراء : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [ الإسراء : 38 ] ، وفي القراءة الأخرى : كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها أي : محرما التحريم الشديد .
" ويجوز أن يقول : بالله ثم بك" : لما فيها من التراخي " قال : ويقولون : لولا الله ثم فلان ، ولا تقولوا : لولا الله وفلان "(42/151)
" باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله"
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحلفوا بآبائكم ، من حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله » . رواه ابن ماجه بسند حسن ) . (1) .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الحلف بالآباء .
الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى .
الثالثة : وعيد من لم يرض .
الشرح :
" باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله " ، قوله : " لم يقنع " استفاد منه كثير من الشراح أن المراد بهذا الباب ما يكون عند توجه اليمين على أحد المتخاصمين ، فإنه إذا كانت الخصومة ، وتوجهت اليمين في الدعوى فإن الواجب على الآخر أن يقنع بما حلف عليه الآخر بالله - جل وعلا - فخصوا ما جاء من الدليل ، وخصوا هذا الباب بمسألة الدعاوى ، يعني : اليمين عند القاضي .
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (2101) ، وحسنه الحافظ في « فتح الباري » 11 / 535 .(42/152)
وقال بعض أهل العلم : إن الحديث عام ، والحديث حسنه طائفة من أهل العلم ، كما ذكر الشيخ - رحمه الله - فقوله : « من حلف له بالله فليرض » هذا عام في كل حلف ، سواء كان عند القاضي أو لم يكن عند القاضي ، وهذا القول أوجه وأصوب ظاهرا ؛ لأن سبب الرضا بما حلف عليه بالله هو التعظيم لله - جل وعلا - ؛ فإن تعظيم الله في قلب العبد يجعله يصدق من حلف له بالله ، ولو كان كاذبا ، لكن له ألا يبني عليه لكن يصدقه ولا يظهر تكذيبا له لتعظيم الله - جل وعلا - « من حلف له بالله فليرض » فليجعل توحيده وتعظيمه لله - جل وعلا - له وكذب ذاك في الحلف بالله عليه .
وقال طائفة من أهل العلم - وهذا قول ثالث - : إن هذا راجع إلى من عرف صدقه في اليمين ، أما من كان فاجرا فاسقا لا يبالي إذا حلف أن يحلف كاذبا فإنه لا يجب تصديقه ؛ لأن تصديقه - والحالة هذه - مع قيام اليقين أو القرائن العامة بكذبه ليس بداخل في الحديث ؛ لقوله في أول الحديث : « من حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض » فتعلق قوله : « من حلف له بالله » بما قبله ، وهو قوله : « من حلف بالله فليصدق » ، يعني من حلف له من كان صادقا ، فليرض .(42/153)
قوله : « ومن لم يرض » أي : من لم يرض باليمين بالله « فليس من الله » ، فيدل على أن فعله من الكبائر ؛ لأن قوله : « ليس من الله » هذا ملحق لفعله بالكبائر .
وهذا الباب فيه نوع تردد عند الشراح ، والظاهر في المراد منه أن الإمام المصنف - رحمه الله - ذكره تعظيما لله - جل وعلا - ، وقد ذكر في الباب قبله من حلف بغير الله ، وأن حكمه أنه مشرك ، فهذا فيه أن الحلف بالله يجب تعظيمه ، وأن لا يحلف المرء بالله إلا صادقا ، وأن لا يحلف بآبائه ، وأن لا يحلف بغير الله ، ومن حلف له بالله فواجب عليه الرضا تعظيما لاسم الله ، وتعظيما لحق الله - جل وعلا - ، حتى لا يقع في قلبه استهانة باسم الله الأعظم ، وعدم اكتراث به أو بالكلام المؤكد به .
فتلخص من هذا أن كثيرا من أهل العلم جعلوا قول المصنف : " باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله " خاصا بما إذا توجهت اليمين على أحد المتخاصمين عند القاضي ، وأن طائفة من أهل العلم قالوا في قوله : « ومن حلف له بالله فليرض » : إن هذا عام في كل من حلف له بالله ، فإنه يجب عليه الرضا ، وآخرون قالوا : يفرق بين من ظاهره الصدق ، ومن ظاهره الكذب ، والله أعلم(42/154)
" باب قول : ما شاء الله وشئت"
عن قتيلة : « أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم تشركون تقولون : ما شاء الله وشئت ، وتقولون : والكعبة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت » . رواه النسائي وصححه (1) .
وله أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، فقال : " أجعلتني لله ندا ؟ بلى ما شاء الله وحده » (2) .
_________
(1) أخرجه النسائي 7 / 6 ، وفي عمل اليوم والليلة (986) ، وصححه الحافظ في الإصابة 4 / 389 .
(2) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (988) .(42/155)
ولابن ماجه عن الطفيل - أخي عائشة لأمها - قال : « رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : عزير ابن الله قالوا : وإنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله قالوا : وإنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال : هل أخبرت بها أحدا قلت : نعم ، قال : فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : معرفة اليهود بالشرك الأصغر .
الثاني : فهم الإنسان إذا كان له هوى .
الثالثة : قوله صلى الله عليه وسلم : « أجعلتني لله ندا » فكيف بمن قال : " مالي من ألوذ به سواك " والبيتين بعده ؟ .
الرابعة : أن هذا ليس من الشرك الأكبر ، لقوله : يمنعني كذا وكذا "
_________
(1) أخرجه . ابن ماجه (2118) ، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة 2 / 151 .(42/156)
الخامسة : أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي .
السادسة : أنها قد تكون سببا لشرع لبعض الأحكام .
الشرح :
هذا الباب ترجمه بقوله : " باب قول : ما شاء الله وشئت " ، وهذه المسألة تقدم الكلام عليها في " باب قول الله تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] " وأن قول القائل : ما شاء الله وشئت ، شرك في اللفظ ، وتشريك في المشيئة ، وهذا من الشرك الأصغر .
والباب واضح من حيث ما اشتمل عليه ، لكن فيه فوائد ، منها :(42/157)
أن قوله في حديث قتيلة : « أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم تشركون تقولون : ما شاء الله وشئت . وتقولون : والكعبة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت » . رواه النسائي وصححه " : فيه من الفوائد ما ذكره الشيخ - رحمه الله - في مسائل الباب حيث قال : فيه فهم الإنسان إذا كان له هوى . فهؤلاء اليهود هم أهل الشرك يقولون : عزير ابن الله ، ويشركون بالله - جل وعلا - لكنهم مع كونهم مشركين نقموا على أهل الإسلام أنهم يشركون ، وهذا لأجل الطعن فيهم ، فالهوى وطلب تنقص أهل الإسلام والنقد عليهم ومخاطبتهم بما يسوؤهم ، كل هذا كان قصدا لهم ؛ ولهذا فهموا من أين يدخلون ، فأهل الإسلام أهل التوحيد قالوا لهم : إنكم تشركون ، وهم أهل الشرك ، فردوا عليهم بما قالوا ، مما يستفاد منه أن صاحب الهوى قد يفهم الصواب ، فإذا فهم الصواب فإن الواجب أن يقبل منه ؛ لأن المسلم يجب عليه أن يقبل الحق ممن جاء به ، ولو كان يهوديا أو نصرانيا ، فهذا اليهودي والنصراني توجها إلى المؤمنين بالقدح فيهم بالشرك ، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من(42/158)
قبول الحق الذي قالوه أنهم يهود ، بل قبل ما جاء به ذلك اليهودي فأوصاهم أن يتركوا ذلك التنديد ، ؛ لأن الحق هو ضالة المؤمن أين وجده أخذه ، فلا يمنعه من قبول الحق أن قاله مشرك ، أو قاله كافر ، أو قاله فاسق ، أو قاله مبتدع ، أو قاله ضال ، إذا كان الكلام في نفسه حقا ؛ لأنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : « الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها » (1) .
والحديث الذي بعده واضح .
_________
(1) وأخرجه ابن ماجه (4169) .(42/159)
" ولابن ماجه عن الطفيل - أخي عائشة لأمها - قال : « رأيت : كأني أتيت على نفر من اليهود قلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : عزير ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد » : هذا فيه أن صاحب الهوى أو صاحب الملة الباطلة قد يرد على صاحب الحق بأن عنده باطلا كما أن عند ذاك باطلا ، فإذا واجهه بذلك فالواجب عليه أن يتجرد للحق وأن لا يرد الحق لأجل أن من أتى به صاحب باطل ، فالقاعدة عند أهل السنة والإيمان أن البدعة لا ترد ببدعة والباطل لا يرد بباطل ، وقد حصل كثير من البدع في تاريخ الإسلام ، وحصلت الشبهات ، وقويت بعض الضلالات بسبب أن من وجه بحق لم يتقبله ورده ؛ لأن الذي واجهه بذلك الحق صاحب باطل ، فلما لم يقبل الحق صار يوجه الأدلة ويؤولها ؛ من أجل إبطال ذلك الحق ، وهذا كما فعله طائفة من أهل البدع ، والواجب أيضا ألا ترد البدعة ببدعة ، وإنما ترد البدعة بحق ، وإذا جهل المرء كيف يرد البدعة بحق ، فليصبر حتى يتعلم ، أو يسأل أهل العلم ، وليس من الواجب عليك أن ترد مباشرة ، بل إذا ووجهت بحق ولو كان من أضل الضلال فاقبل ، فإبليس - الشيطان - قبل منه بعض الحق الذي(42/160)
جاء به ، وأرشد إليه أبا هريرة ، وهؤلاء اليهود والنصارى في هذين الحديثين قبلنا منهما حقا أرشدونا إليه في أعظم المسائل وأجل المطالب ، وهو توحيد الله - جل جلاله - .
وهذه المسائل ليست من الشرك الأكبر ، بل من الأصغر ، كما دل عليه قوله في آخره : « قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها » والنهي عن الشرك في الألفاظ أتى بالتدريج في تاريخ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وتبليغه أمته بالأوامر والنواهي ، فكان الحلف بالآباء جائزا ، ثم فهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك . وكذلك قول : ما شاء الله وشئت ، ثم نهاهم عن ذلك ؛ ولهذا قال المصنف في مسائل كتاب التوحيد : فيه أن الشرك فيه أكبر وأصغر ؛ لقوله : « كان يمنعني كذا وكذا » ، " وأما الشوك الأكبر فلا يجوز أن يؤخر إنكاره أو أن يمنع عنه مانع ، أما شرك الألفاظ فقد تكون المصلحة والفقه - فقه الدعوة وفقه ترتيب الأهم والمهم وتقديم الأهم على المهم - أن يؤخر بعضه لتتم المصلحة العظمى ، أما الشرك الأكبر فلا مصلحة تبقى مع وجوده .(42/161)
" باب من سب الدهر فقد آذى الله "
وقوله الله تعالى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [ الجاثية : 24 ] . في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ، « قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار » . (1) " ، وفي رواية : « لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر » (2) .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الدهر .
الثانية : تسميته أذى لله .
الثالثة : التأمل في قوله : " فإن الله هو الدهر"
الرابعة : أنه قد يكون سابا ، ولو لم يقصده بقلبه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه البخاري (4826) و (6181 ) و (7491) ، ومسلم (2246) .
(2) أخرجه مسلم (2246) .(42/162)
الدهر هو : الزمان ، كاليوم والليلة ، والأسابيع ، والأشهر ، والسنين ، والعقود ، هذا هو الدهر ، وهذه الأزمنة مفعولة لا فاعلة ، فهي لا تفعل شيئا ، وإنما هي مسخرة يسخرها الله - جل جلاله - ، وكل يعلم أن السنين لا تأتي بشيء ، وإنما الذي يفعل هو الله - جل وعلا - في هذه الأزمنة ؛ ولهذا كان سب هذه السنين سبا لمن تصرف فيها ، وهو الله جل جلاله - ؛ لهذا عقد المؤلف هذا الباب ليبين أن سب الدهر ينافي كمال التوحيد ، وأن سب الدهر يعود على الله - جل وعلا - بالإيذاء ؛ لأنه سب لمن تصرف في هذا الدهر .
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة : وهو أن سب الدهر من الألفاظ التي لا تجوز ، والتخلص منها واجب واستعمالها مناف لكمال التوحيد ، وهذا يحصل من الجهلة كثيرا ، فإنهم إذا حصل لهم في زمان شيء لا يسرهم سبوا ذلك الزمان ، ولعنوا ذلك اليوم ، أو لعنوا تلك السنة ، أو لعنوا ذلك الشهر ، ونحو ذلك من الألفاظ الوبيلة ، أو شتموا الزمان ، وهذا لا شك لا يتوجه إلى الزمن ؛ لأن الزمن شيء لا يفعل وإنما يفعل فيه ، وهو أذية لله - جل وعلا - .(42/163)
قوله : " باب من سب الدهر " : السب في أصله : التنقص ، أو الشتم ، فيكون بتنقص الدهر ، أو يكون بلعنه ، أو بشتمه ، أو بنسبة النقائص إليه ، أو بنسبة الشر إليه ، ونحو ذلك ، وهذا كله من أنواع سبه . والله - جل وعلا - هو الذي يقلب الليل والنهار .
قوله : " فقد آذى الله " : كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : « يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار » ففيه رعاية للفظ الحديث .(42/164)
وسب الدهر - كما ذكرنا - محرم ، وهو درجات وأعلاها لعن الدهر ؛ لأن توجه اللعن إلى الدهر أعظم أنواع المسبة وأشد أنواع الإيذاء ، وليس من مسبة الدهر وصف السنين بالشدة ، ولا وصف اليوم بالسواد ، ولا وصف الأشهر بالنحس ، ونحو ذلك ؛ لأن هذا مقيد ، وهذا جاء في القرآن في نحو قوله - جل وعلا - { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ } [ فصلت : 16 ] . فوصف الله - جل وعلا - الأيام بأنها نحسات ، والمقصود : في أيام نحسات عليهم ، فوصف الأيام بالنحس ؛ لأنه جرى عليهم فيها ما فيه نحس عليهم ، ونحو ذلك قوله - جل وعلا - في سورة القمر : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } [ القمر : 19 ] ، فهذا ليس من سب الدهر ؛ لأن المقصود بهذا أن الوصف ما حصل فيها كان من صفته كذا وكذا على هذا المتكلم ، وأما سبه أن ينسب الفعل إليه فيسب الدهر لأجل أنه فعل به ما يسوؤه ، فهذا هو الذي يكون أذية لله - جل وعلا - .(42/165)
" وقول الله تعالى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } [ الجاثية : 24 ] " هذه الآية ظاهرة في أن نسبة الأشياء إلى الدهر من خصال المشركين أعداء التوحيد ، فنفهم منه أن خصلة الموحدين أن ينسبوا الأشياء إلى الله - جل وعلا - ولا ينسبوا الإهلاك إلى الدهر ، بل الله - جل وعلا - هو الذي يحيي ويميت .
" في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر » : . قوله : « وأنا الدهر » لا يعني أن الدهر من أسماء الله - جل وعلا - ، ولكنه رتبه على ما قبله ، وهو قوله : « يسب الدهر وأنا الدهر » ؛ لأن حقيقة الأمر أن الدهر لا يملك شيئا ولا يفعل شيئا ، فسب الدهر سب لله ؛ لأن الدهر يفعل الله - جل وعلا - فيه ، فهو ظرف للأفعال وليس مستقلا ؛ فلهذا لا يفعل ، ولا يحرم ، ولا يعطي ، ولا يكرم ، ولا يهلك ، وإنما الذي يفعل هذه الأشياء مالك الملك المتفرد بالملكوت وتدبير الأمر الذي يجير ولا يجار عليه .(42/166)
فقوله - إذا - : « وأنا الدهر » فيه نفي نسبة الأشياء إلى الدهر ، وأن هذه الأشياء تنسب إلى الله - جل وعلا - فيرجع مسبة الدهر إلى مسبة الله - جل وعلا - ؛ لأن الدهر لا ملك له ، والله هو الفاعل .
« أقلب الليل والنهار » : والليل والنهار هما الدهر ، فالله - جل وعلا - هو الذي يقلبهما ، فليس لهما من الأمر شيء .(42/167)
" باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه "
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا مالك إلا الله » (1) قال سفيان : مثل شاهان شاه . وفي رواية : « أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه » (2) ، وقوله " أخنع " يعني : أوضع .
فيه مسائل :
الأولى : النهي . عن التسمي بملك الأملاك .
الثانية : أن ما في معناه مثله ، كما قال سفيان .
الثالثة : التفطن للتغليظ في هذا ، ونحوه ، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه .
الرابعة : التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه .
الشرح :
التوحيد يقتضي من الموحد المؤمن بالله - جل وعلا - أن يعظمه وألا يجعل مخلوقا في منزلة الله - جل وعلا - فيما يختص به ، ؛ لأنه قد يجعل المخلوق في منزلة الله لشبهة وصف قام به ، ككون القاضي هو رئيس القضاة أو أعلم ، فيجعل في اللفظ والتسمية قاضيا للقضاة ؛ فلهذا نبه الشيخ - رحمه الله - على أن التسمي بالأسماء التي معناها إنما هو لله - جل جلاله : لا يجوز ، والتوحيد يقتضي ألا يوصف بها إلا الله وألا يسمى بها إلا الله - جل وعلا - .
_________
(1) أخرجه البخاري (6206) ، ومسلم (2143) .
(2) أخرجه مسلم (2143) ، وأحمد في المسند 2 / 315 .(42/168)
فتسمية غير الله بتلك الأسماء التي ستأتي لا تجوز ومحرم ، بل هي أخنع الأسماء وأوضع تلك الأسماء وأبغض الأسماء إلى الله - جل جلاله - .
قوله : " باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه " : " التسمي " يشمل ما إذا سمى نفسه ، أو سماه غيره به فرضي ، أما إذا سماه غيره به فلم يرض ، فإنه لا يدخل في الذم ؛ لعدم الرضا ، فيلحق الوعيد المسمي ، ومن رضي بذلك الاسم .
قوله : " بقاضي القضاة ونحوه " : ونحو قاضي القضاة مثل : ملك الأملاك ، وشاهان شاه ، ونحو ذلك ، وقاضي القضاة : هو الذي يقضي بين القضاة ، تقول : قاضي المسلمين ، يعني : الذي يقضي بين المسلمين ، وقاضي الرياض ، يعني : الذي يقضي في الخصومات التي بين أهل الرياض ، . فقاضي القضاة لفظ حقيقة معناه : الذي يقضي بين القضاة ، وهذا إنما هو لله - جل جلاله - فهو الذي يقضي بين العباد ، وبين القضاة وبين العبيد ، فهو قاضي القضاة على الحقيقة سبحانه وتعالى فيخبر عنه بذلك ، ؛ لأن " قاضي القضاة " ليست من أسماء البشر ، فالذي يقضي بين القضاة هو الله - جل جلاله .(42/169)
والذي أطلقوا هذه التسمية على كبير القضاة ، أو على كبير العلماء ، لا يعنون بها أن ذاك يقضي بين القضاة ، وإنما يعنون بها أنه وصل إلى مرتبة في القضاء أو في العلم أعلى من درجة القاضي ، فصار قاضي القضاة ، كما شاع في الزمن المتأخر في الدولة العثمانية أنهم يسمون المفتي : شيخ الإسلام ، ووكيل المفتي : وكيل شيخ الإسلام ، وهي تسمية خاصة .
وقد انتشر في بلاد المسلمين التسمية بقاضي القضاة ونحوه ، منذ القرن الرابع الهجري إلى أوقات متأخرة قريبة من هذا الزمان ، والواجب على العبد ألا يجعل هذه التسمية جارية على لسانه ، ولا أن يرضى بها .
وكذلك مالك الأملاك ، أو شاهان شاه ، يعني : ملك الأملاك ، ؛ لأن فيه تسمية البشر بما يختص بالله ، فإن ملك الأملاك هو الله - جل وعلا - ، والأملاك واسعة ، والإنسان إنما يطلق عليه أنه مالك للشيء المعين ، وليس مالكا لكل شيء ، فالذي يملك كل شيء هو الله وحده ، والبشر يملكون بالإضافة بعض الأشياء .(42/170)
وكذلك الملك - بالضم - وهو : نفاذ الأمر والسيطرة ، فإنه يكون في بعض الأرض وليس في كل الأرض ، فالذي يملك يقال له : مالك إذا كان يملك ملكا ، أو ملك إذا كان يملك ملكا ، بمعنى : نفاذ الأمر ، ويضاف إلى بقعته فيقال : ملك المملكة العربية السعودية ، وملك الأردن ، ونحو ذلك .
وأما الإطلاق العام ملك الأملاك ، أو شاهان شاه ، فإن الأملاك منها ما هو على الأرض ومنها غير ذلك وهذا إنما هو لله - جل وعلا - ، فالتوحيد يوجب ألا يتسمى بذلك أحد ، وألا يرضى بتسمية أحد بذلك ، حتى لو وجد في بعض الكتب لا ينقل كما هو ، وقد يغلط بعض الباحثين وبعض طلبة العلم فينقل قولا عن بعض أهل العلم المتقدمين ، ممن يتجوزون في مثل هذه الألفاظ وفيه : " وقال : قاضي القضاة كذا " ، " وكان قاضي القضاة كذا " ، ولا يغيره ، والواجب أن يغيره تعظيما لله - جل وعلا - ، وأمانة النقل التي يدعون هي في مرتبة دون توحيد الله - جل وعلا - بكثير كثير ، فالواجب تغيير . ذلك ، وهذا من توحيد الله وتغيير اشتراك الخلق مع الله - جل وعلا - في حقه فيما يزعمه بعض الخلق .(42/171)
" في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك » : " أخنع " يعني : أوضع ، وأحقر ، وأبعد الأسماء عند الله ، رجل تسمى ملك الأملاك .
قوله : « لا مالك إلا الله » وهذا من أساليب الحصر ، يعني : أن الملك إنما هو لله وحده ، وهناك فرق بين مالك وملك ، فمالك : اسم فاعل من الملك ، يقال : ملك الشيء ، يعني : اقتناه وصار مختصا به من الملك ، وهذا راجع إلى التصرف بالأعيان .
وأما الملك - بالضم - فالاسم منه الملك ، وهو : الذي ينفذ أمره ونهيه . فالملك راجع إلى الأعيان ، والملك راجع إلى المعاني ، هذا في قول عدد من محققي أهل اللغة .
" قال سفيان : مثل شاهان شاه ، وفي رواية : « أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه » وسبب كونه أغيظ رجل وأخبث رجل أنه جعل نفسه مماثلا لله - جل وعلا - في الحق بهذه التسمية .(42/172)
" باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك "
عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم " فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين ، فقال : " ما أحسن هذا! فما لك من الولد ؟ " قال : شريح ، ومسلم ، وعبد الله قال : " فمن أكبرهم ؟ " قلت : شريح ، قال : " فأنت أبو شريح » (1) . رواه أبو داود وغيره .
فيه مسائل :
الأولى : احترام أسماء الله وصفاته ، ولو لم يقصد معناه .
الثانية : تغيير الاسم لأجل ذلك .
الثالثة : اختيار أكبر الأبناء للكنية .
الشرح :
هذا الباب فيه الإرشاد إلى الأدب الذي يجب أن يصدر من قلب الموحد ومن لسانه ، فإن الموحد متأدب مع الله- جل جلاله- ، ومتأدب مع أسمائه ، وصفاته ، ومع دينه ، فلا يهزل- مثلا- بشيء فيه ذكر الله ، ولا يلقي الكلمة عن الله- جل وعلا- دون أن يتدبر ما فيها ، وكذلك لا يسمي أحدا بأسماء الله- جل وعلا- ويغير الاسم لأجل هذا ، فأسماء الله- جل وعلا- يجب احترامها ، وتعظيمها ، ومن احترامها أن يجعل ما لا يصلح إلا لله منها لله وحده ، وألا يسمى به البشر .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4955).(42/173)
قوله : " باب احترام أسماء الله تعالى " : هذا الاحترام قد يكون مستحبا من جهة الأدب ، وقد يكون واجبا ، فأسماء الله تعالى يجب احترامها ، بمعنى يجب ألا تمتهن ، ويستحب احترامها أيضا فيما كان من الأدب ألا يوصف به غير الرب جل وعلا .
وهذا راجع إلى تعظيم شعائر الله- جل جلاله- قال سبحانه : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج : 32] ، وقال- جل وعلا- : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [الحج : 30] : قال أهل العلم : الشعائر : جمع شعيرة ، وهي : كل ما أشعر الله بتعظيمه ، يعني : أعلم بتعظيمه فهو شعيرة ، ومما أشعر الله بتعظيمه أسماؤه الحسنى- جل وعلا- فيجب احترامها وتعظيمها ولهذا يستدل أهل العلم على وجوب ألا تمتهن أسماء الموجودة في الجرائد ، أو في الأوراق ، أو أن ترمى ، أو أن توضع في أمكنة قذرة ، وعلى وجوب احترام كل ما فيه اسم من أسماء الله بهاتين الآيتين ، وبالقاعدة العامة في ذلك .(42/174)
قوله : " وتغيير الاسم لأجل ذلك " ساق فيه حديث أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم ، و " يكنى " بالتخفيف هي الفصيحة ، أما يكنى بالتشديد فهي لغة ضعيفة ، تقول : فلان يُكْنَى بكذا ، أما يُكَنَّى فليست بجيدة لأن يُكْنَى هي التي كان عليها غالب الاستعمال فيما ذكره أهل اللغة .
والحكم من أسماء الله- جل وعلا- ، والله- جل وعلا- لم يلد ولم يولد ، فتكنية المخلوق بأبي الحكم غير لائقة لأن الحكم من أسماء الله ، والله - جل وعلا- لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فإن الحكم ، وهو : بلوغ الغاية في الحكم ، والفصل بين المتخاصمين ، راجع إلى من له الحكم وهو الله- جل جلاله- ، وأما البشر فإنهم لا يصلحون أن يكونوا حكاما أو أن يكون الواحد منهم حكما على وجه الاستقلال ولكن يكون حكما على وجه التبع ؛ ولهذا أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على أبي شريح هذه التكنية فقال له : « إن الله هو الحكم » ودخول (هو) بين لفظ الجلال وبين اسمه (الحكم) يدل على اختصاصه بذلك كما هو مقرر في علم المعاني لأن (هو) ضمير عماد أو ضمير فصل لا محل له من الإعراب ، وفائدته أن يجعل الثاني مختصا بالأول .(42/175)
« وإليه الحكم » : يعني أن الحكم إليه لا إلى غيره فاسم (الحكم) الذي يفيد استغراق صفات الحكم ليس إلا إلى الله جل وعلا .
ذاك الرجل علل فقال : « إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين ، فقال : " ما أحسن هذا » ، " ما أحسن هذا " راجع إلى الحكم ، وعائد إلى الإصلاح ، وهو أنه يصلح ويحكم بينهم ، فيرضى كلا الفريقين ، وهل حكم بينهم بالشرع ، أو حكم بينهم بما عنده ، يعني : بما يراه ؟ الجواب : أنه حكم بينهم بما يراه ، ولو كان الحكم بينهم بالشرع لجاز إطلاق الحكم على من يحكم بين المتخاصمين بالشرع ، أما إطلاقه على الفاصل بين المتخاصمين بغير الشريعة فإن هذا مخالف للأدب .(42/176)
فالواجب ألا يسمى أحد بالحكم أو الحاكم أو نحو ذلك إلا إذا كان منفذا لأحكام الله- جل جلاله- ؛ لهذا قال سبحانه : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } [النساء : 35] ، فسمى المبعوث من هذا وهذا حكما لأنهما يحكمان بالشرع ، فالذي يحكم بما حكم به الله الذي هو الحكم يقال له : حكم لأنه حكم يحكم من له الحكم وهو الله- جل جلاله- فيسوغ إطلاق ذلك ولا بأس به ؛ لأن الله- جل وعلا- وصف من يحكمون بشرعه بأنهم حكام وهم القضاة ، فقال- جل وعلا- في سورة البقرة : { وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 188] فقوله : { الْحُكَّامِ } : هو جمع الحاكم ، وساغ إطلاق ذلك عليه ؛ لأنه يحكم بالشرع .(42/177)
والمقصود أن من الأدب ألا يسمى أحد بشيء يختص الله- جل وعلا- به ولذلك أورد المؤلف هذا الباب إثر الباب الذي قبله ، لأجل هذه المناسبة ، فتسمية " ملك الأملاك " مشابهة لتكنيه " أبي الحكم " من جهة أن في كل منهما اشتراكا في التسمية ، لكن فيها اختلاف من جهة أن " أبا الحكم " راجع إلى شيء يفعله هو ، وهو أنه يحكم فيرضون بحكمه وذاك " ملك الأملاك " ادعاء ليس له شيء ؛ ولهذا كان أخنع اسم عند الله جل جلاله .(42/178)
" باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول "
وقول الله تعالى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } [التوبة : 65] .(42/179)
وعن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم ، وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض : « أنه قال رجل في غزوة تبوك : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء ، يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء فقال له عوف بن مالك : كذبت ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركبان ، نقطع به عناء الطريق ، قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }{ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ما يلتفت إليه وما يزيده عليه » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : - وهي العظيمة- أن من هزل بهذا فإنه كافر .
الثانية : أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنًا من كان .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في « التفسير » (16911) و (16912) و (16914) و (16915) و (16916).(42/180)
الثالثة : الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله .
الرابعة : الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله .
الخامسة : أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل .
الشرح :
هذا " باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول " .
التوحيد الخالص في القلب ، بل أصل التوحيد لا يجامع الاستهزاء بالله- جل وعلا- وبرسوله وبالقرآن لأن الاستهزاء معارضة ، والتوحيد موافقة ولهذا قال بعض أهل العلم : الكفار نوعان : معرضون كمن قال الله فيهم : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنبياء : 24] ، ومعارضون ، وهم المجادلون ، أو الذين يعارضون بأنواع المعارضات لأجل إطفاء نور الله ، ومن ذلك الاستهزاء ونحوه .
فالتوحيد استسلام وانقياد وقبول وتعظيم ، والهزء والاستهزاء بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول معارضة لأنه مناف للتعظيم ، ولهذا كان كفرا أكبر بالله- جل وعلا- ، إذ لا يصدر الاستهزاء بالله ، أو برسوله صلى الله عليه وسلم ، أو بالقرآن ، من قلب موحد أصلا ، بل لا بد أن يكون إما منافقا ، أو كافرا مشركا .(42/181)
قوله : " باب من هزل " الهزل خلاف الجد ، وصفته : أن يتكلم بكلام فيه الهزل والاستهزاء والعيب إما بالله أو بالقرآن أو بالرسول صلى الله عليه وسلم .
وقول الشيخ- رحمه الله- هنا : " باب من هزل بشيء " الباء هذه ، هل هي التي يذكر بعدها وسيلة الهزل ، أو الباء التي يذكر بعدها المهزول به ؟ ؟ الظاهر هو الثاني ، فعلى الأول يكون المعنى : أنه ذكر الله بشيء فيه هزل ، وذكر الرسول بشيء فيه هزل ، يعني : هزل ، وهو يذكر هذه الأشياء .
وعلى الثاني يكون معنى : " من هزل بشيء فيه ذكر الله " أن المستهزئ به أو المهزول به هو ذكر الله ، أو القرآن ، أو الرسول ، ومعلوم أن المعنى المراد هو الثاني لأن الشيخ يريد أن المستهزئ به هو الله ، أو الرسول ، أو القرآن ، اتباعا لنص الآية .(42/182)
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة : وهو أن الهزل والاستهزاء بالله أو بالرسول أو بالقرآن مناف لأصل التوحيد ، وكفر مخرج من الملة ، لكن بضابطه الذي ذكرناه ، وهو : أن الاستهزاء- وهو الاستنقاص واللعب والسخرية- يكون بالله- جل جلاله- أو يكون بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يكون بالقرآن ، وهذا هو الذي جاء فيه النص قال- جل وعلا- : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }{ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة : 65- 66] ، فمن استنقص الله- جل وعلا- ، أو هزل بذكره لله- جل وعلا- ، يعني : حينما ذكر الله- جل وعلا- استهزأ وهزل ولم يظهر التعظيم في ذلك ، فتنقص الله- جل وعلا- كما يفعله بعض الفسقة ، والذين يقولون الكلمة لا يلقون لها بالا تهوي ببعضهم في النار سبعين خريفا ، أو هزل بالقرآن أو استهزأ بالقران أو بالسنة ، يعني : بالنبي عليه الصلاة والسلام ، فإنه كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة هذا ضابط هذا الباب .(42/183)
ويخرج عن ذلك ما لو استهزأ بالدين فإن الاستهزاء بالدين فيه تفصيل ، فإن المستهزئ بالدين ، أو الساب له ، أو اللاعن له ، قد يريد دين المستهزأ به ، ولا يريد دين الإسلام أصلا ، فلا يرجع استهزاؤه إلى واحد من الثلاثة ؛ فلهذا نقول : الكفر يكون أكبر إذا كان الاستهزاء بأحد الثلاثة التي ذكرنا ونصت عليها الآية ، أو كان راجعا إلى أحد الثلاثة .
أما إذا كان الاستهزاء بشيء خارج عن ذلك ، فإنه يكون فيه تفصيل : فإن هزل بالدين ، فينظر هل يريد دين الإسلام ، أو يريد تدين فلان ؟ ومثال ذلك أن يأتي واحد من المسلمين ويستهزئ- مثلا- بهيئة أحد الناس وهيئته يكون فيها التزام بالسنة ، فهل يكون هذا مستهزئا الاستهزاء الذي يخرجه من الملة ؟ الجواب : لا ؛ لأن هذا الاستهزاء راجع إلى تدين هذا المرء ، وليس راجعا إلى الدين أصلا ، فيعرف بأن هذا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا علم أنه سنة ، وأقر بذلك ، وأن النبي فعله ثم استهزأ ، بمعنى : استنقص أو هزأ بالذي اتبع السنة مع علمه بأنها سنة وإقراره بصحة كونها سنه فهذا رجع إلى الاستهزاء بالرسول .(42/184)
وكذلك الاستهزاء بكلمات قد يكون مرجعها إلى القرآن ، وقد لا يكون مرجعها إلى القرآن فيكون فيه تفصيل ، فالخلاصة - إذا - أن الاستهزاء إذا كان بالله ، أو بصفاته ، أو بأسمائه ، أو بالرسول عليه الصلاة والسلام ، أو بالقرآن فإن هذا كفر ، وإن كان الاستهزاء غير ذلك فينظر : إن كان راجعا إلى أحد الثلاثة فهو كفر أكبر ، وإن كان غير ذلك فإنه يكون محرما ولا يكون كفرا أكبر " وقول الله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }{ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة : 65- 66] : هذه الآية نص في أن المستهزئ بالله ، وبالرسول ، وبآيات الله- جل وعلا- والمقصود بها آيات الله- جل وعلا- الشرعية ، يعني : القران ، أن هذا المستهزئ كافر ، وأنه لا ينفعه اعتذاره بأنه كان في هزل ولعب بل هو كافر لأن تعظيم الله- جل وعلا- وتوحيده يوجب عليه أن لا يستهزئ .(42/185)
وهذه الآية نزلت في المنافقين ، وبعض أهل العلم قال : ليست في المنافقين ، وهذا غلط وليس بصواب ، لأسباب ، منها : أن هذه السورة التي منها هذه الآية هي في حال المنافقين ؛ ولأن سياق الآية- سابقها ولاحقها- يدل على أن الضمائر ترجع إلى المنافقين . قال- جل وعلا- قبل هذه الآية في سورة براءة : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ }{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ التوبة : 64 - 65 ] فالآية السابقة لآية الباب هي في المنافقين نصا ، فالضمير- إذا- في قوله : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } يعود على من ذكر قبل هذه الآية ، وهم المنافقون المنصوص عليهم بقوله : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ } ، وكذلك ما بعدها من الآيات في المنافقين في قوله- جل وعلا- { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } [التوبة : 67] والأدلة على ذلك كثيرة .(42/186)
فالصواب في ذلك أن المراد بالآية هم المنافقون ، وأما أهل التوحيد فإنه لا يصدر منهم استهزاء أصلا ، ولو استهزءوا لعلمنا أنهم غير معظمين لله ، وأن توحيدهم ذهب أصلا لأن الاستهزاء يطرد التعظيم .
فالواجب على المسلمين- جميعا- وعلى طلبة العلم- بخاصة- أن يحذروا من مزالق الكلام لأن كثيرين يتكلمون بكلام لا يلقون له بالا ، ربما استهزءوا ، أو ربما تكلموا بكلام فيه شيء من الهزل ، وفيه شيء من الضحك ، وكان في أثناء هذا الكلام ذكر الله ، أو فيه قراءة القرآن ، أو فيه ذكر بعض العلم ، وهذا مما لا يجوز وقد يدخل أحدهم في قول النبي عليه الصلاة والسلام : « وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي بها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا » (1) . نسأل الله- جل وعلا- السلامة والعافية .
_________
(1) أخرجه الترمذي (2314).(42/187)
فالواجب على العبد أن يعظم الله ، وأن لا يتلفظ إلا بكلام عقله قبل أن يقوله لأن اللسان هو مورد الهلكة ، قال معاذ للنبي عليه الصلاة والسلام : « أومؤاخذون يا رسول الله بما نقول ؟ قال : " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو قال على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم » . (1) . فالله الله في اللسان فإنه أعظم الجوارح خطرا ، ومما يتساهل فيه أكثر الناس ، فاحذر الخوض فيما لا يعنيك ، وبخاصة فيما يتعلق بالدين ، أو بالعلم ، أو بأولياء الله ، أو بالعلماء ، أو بصحابة النبي عليه الصلاة والسلام ، أو بالتابعين ، فإن هذا مورده خطير والله المستعان ، فقد عظمت الفتنة ، والناجي من سلمه الله جل وعلا .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5 / 231-236-237 والترمذي (2649).(42/188)
" باب قول الله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [فصلت : 50]
قال مجاهد : هذا بعملي ، وأنا محقوق به (1) . وقال ابن عباس : يريد من عندي ، (2) . وقوله : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص : 78] قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب (3) . وقال آخرون : على علم من الله أني له أهل ، (4) . وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف (5) .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 25 / 3.
(2) أخرجه ابن جرير في التفسير 25 / 3.
(3) أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور 6 / 440.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 6 / 440.
(5) رواه ابن جرير في التفسير 24 / 12.(42/189)
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن ثلاثة من بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال : فمسحه فذهب عنه قذره ، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو البقر - شك إسحاق- فأعطي ناقة عشراء ، وقال : بارك الله لك فيها . قال فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : شعر حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا ، فقال : أي المال أحب إليك ؟ قال : البقر أو الإبل ، فأعطي بقرة حاملا ، قال : بارك الله لك فيها . فأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إلي بصري ، فأبصر به الناس ، فمسحه فرد الله إليه بصر قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال الغنم ، فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان ، وولد هذا ، فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم .(42/190)
قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين ، قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بكم ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ، والمال بعيرا أتبلغ به في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة ، فقال له : : كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيرا فأعطاك الله- عز وجل- المال ؟ !! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأقرع في صورته . فقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا ، فقال له : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال : وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين ، وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ، ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله ، فقال : أمسك مالك فإنما ابتليتم ، فقد رضي الله عنك ، وسخط على صاحبيك » أخرجاه (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآية .
الثانية : ما معنى : { لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } .
_________
(1) أخرجه البخاري (3464) و (6653) ومسلم (2964).(42/191)
الثالثة : ما معنى قوله : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } .
الرابعة : ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة .
الشرح :
هذا الباب كالأبواب التي قبله في بيان وجوب تعظيم الله- جل وعلا- في الألفاظ وأن النعم يجب أن تنسب إليه ، وأن يشكر عليها فتعزى إليه ، ويقول العبد : هذا أنعم الله علي به ، والكذب في هذه المسائل ، أو أن يتكلم المرء بكلام ليس موافقا للحقيقة ، أو هو مخالف لما يعلمه من أن الله- جل وعلا- قد أنعم عليه بذلك فهذا قد يؤديه إلى المهالك ، وقد يسلب الله- جل وعلا- عنه النعمة بسبب لفظه .
فالواجب على العبد أن يتحرز في ألفاظه وبخاصة فيما يتصل بالله- جل وعلا- ، أو بأسمائه وصفاته ، أو بأفعاله وإنعامه ، أو بعدله وحكمته ، والتحرز في ذلك من كمال التوحيد ؛ لأنه لا يصدر التحرز إلا عن قلب معظم لله ، مجل لله ، مخبت لله ، يعلم أن الله- جل جلاله- مطلع عليه ، وأنه سبحانه هو ولي الفضل ، وهو ولي الإنعام ، وهو الذي يستحق أن يجل فوق كل جليل ، وأن يحب فوق كل محبوب ، وأن يعظم فوق كل معظم .(42/192)
فالله- جل جلاله- يجب توقيره وتعظيمه في الألفاظ ، ومن ذلك ما عقد له الشيخ هذا الباب حيث قال : " باب ما جاء في قول الله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } [فصلت : 50] قال مجاهد في تفسيرها : " هذا بعملي ، وأنا محقوق به . " يعني أنه نسب النعمة إلى نفسه ، وأنه جدير وحقيق بها ، وأن الله- جل وعلا- تفضل عليه لأنه مستحق لهذا الإنعام ، والمال ، والجاه ، ولرفعة القدر عند الناس ، فصار إليه ذلك الشيء من المال والرفعة والسمعة الطيبة لأنه مستحق لذلك الشيء بفعله وبجهده ونحو ذلك مما قد يطرأ على قلوب ضعفاء الإيمان وضعفاء التوحيد .
والواجب أن يعلم العبد أنه فقير غير مستحق لشيء على الله- جل وعلا- وأن الله هو الرب المستحق على العبد أن يشكره ، وأن يذكره ، وأن ينسب النعم إليه ، أما العبد فليس مستحقا في الدنيا بحق واجب على الله- جل وعلا - إلا ما أوجبه الله -جل وعلا- على نفسه .(42/193)
ومثل قول القائل : هذا بعملي ، وأنا محقوق به ، - بعد أن أتته رحمة من بعد ضراء- مثل هذا القول يكثر في ألفاظ الناس ، كقول الطبيب مثلا : هذا الذي حصل من شفاء المريض بسببي ، أو نجاحي ، ونيلي لهذا الأمر إنما بسبب جهدي ، وبسبب تعبي ، ونحو ذلك مما يجعل إنعام الله -جل وعلا- على العبد بذلك بسبب استحقاقه ، أو أن ينسى الله -جل وعلا- وينسب الأشياء إلى نفسه ؛ ولهذا قال : " قال ابن عباس : يريد من عندي " : أي أنا الذي أتيت بهذا المال أو بهذه النعمة وهذا من عندي ، ولم يتفضل علي به .
فيدخل في هذا الوصف الذي جاء في الآية نوعان من الناس : من ينسب الشيء إلى نفسه ، ولا ينسبه إلى الله -جل وعلا- أصلا ، والثاني : أن ينسبه إلى الله تعالى ، لكن يرى نفسه مستحقا لذلك الشيء على الله -جل وعلا- كما يحصل من بعض المغرورين أنه إذا أطاع الله واتقاه ، وحصلت له نعمة قال : حصلت لي هذه النعمة من جراء استحقاقي لها ، فأنا العابد لله -جل وعلا- ولا يستحضر أن الله- جل وعلا- يرحم عباده ولو حاسبه على عمله لم تقم عباداته وعمله بنعمة من النعم التي أسداها الله -جل وعلا- له .(42/194)
فالواجب -إذًا- على العبد أن ينسب النعم جميعا لله ، وأن يشعر بأنه لا يستحق شيئا على الله ، وإنما الله هو المستحق للعبودية ، وهو المستحق للشكر ، وهو المستحق للإجلال ، والعبد فقير مذنب مهما بلغ . وانظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه كيف علمه النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول في ، آخر صلاته : « اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي » (1) . إذا كان أبو بكر علمه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو بهذا الدعاء ، فكيف بحال المساكين أمثالنا ، وأمثال أكثر هذه الأمة ؟ وكيف يظنون في أنفسهم أنهم يستحقون على الله شيئا ؟ !
فتمام التوحيد -إذًا- أن يجل العبد ربه تبارك وتعالى ويعظمه ، وأن لا يعتقد أنه مستحق للنعم ، أو أنه أوتيها بجهده ، وجهاده ، وعمله ، وذهابه ومجيئه ، بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ؛ لأن فعل العبد سبب وهذا السبب قد يتخلف ، وقد يكون مؤثرا ، ثم إنه إذا أثر فلا يكون مؤثرا إلا بإذن الله -جل وعلا- فرجع الأمر إلى أنه فضل الله يؤتيه من يشاء .
_________
(1) أخرجه البخاري (8387) و (7388) ومسلم (2705).(42/195)
" وقوله { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص : 78] قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب " ، هذه الآية في قصة قارون ، قال -جل وعلا- : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } [القصص : 76- 78] إلى أن قال : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } قال قتادة : " على علم مني بوجوه المكاسب " وهذا يحصل من كثير ممن أغناهم الله -جل وعلا - وأعطاهم أموالا كثيرة ، فتجد أحدهم ينسب الشيء إلى نفسه ، فيقول : أنا خبير بإدارة الأموال ، وأنا أفهم في التجارة ، وأنا عندي علم بوجوه المكاسب ، ونحو ذلك ، وينسى أن الله -جل وعلا- هو الذي تفضل ، ولو منع الله السبب الذي فعله من التأثير لم يصر شيئا ، فالله -جل وعلا- هو الذي تفضل عليه ، وهو الذي وفقه وهو الذي هداه للفكرة ، وهو الذي جعل السبب مؤثرا ، فالله هو المنعم ابتداء وهو المنعم ختاما ، فالواجب إذًا أن يتخلص العبد من رؤية نفسه وأن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، ويكثر من قولها ، فإنها كنز من كنوز الجنة .(42/196)
فهذا الباب معقود كما ذكرنا لتخليص القلب واللسان من ألفاظ واعتقادات باطلة ، يظن المرء فيها أنه مستحق أشياء على الله -جل وعلا- والتوحيد هو أن يكون العبد ذليلا خاضعا بين يدي الله ، يعلم أنه لا يستحق شيئا على الله -جل وعلا- وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء .
" وقال آخرون : على علم من الله أني له أهل " : وهذا يشمل أحد النوعين اللذين ذكرتهما . " وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف " .
ثم ساق حديث أبي هريرة الطويل ، والدلالة منه ظاهرة : وأن الله- جل وعلا- عافى هؤلاء الثلاثة في أبدانهم ، ورزقهم من فضله ، ثم نسب اثنان منهم النعمة إلى أنفسهم ، وثالث نسبها إلى الله ، فجزى الله الأخير خيرا ، وأدام عليه النعمة ، ورضي عنه ، وعاقب الآخرين ، وسخط عليهما ، وهذا فضل الله ينعم ثم يثبت النعمة فيمن يشاء ، ويصرفها عمن يشاء ، ومن أسباب ثبات النعمة أن يعظم العبد ربه ، وأن يعلم أن الفضل بيد الله ، وأن النعمة هي نعمة الله .(42/197)
وفي ختام هذه الأبواب أوصي المسلم بأن يكون حذرا من آفات اللسان ، متثبتا فيما يتكلم به ، وأن يعلم أن كل خير إنما هو من الله ، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو سلبه الله العناية منه طرفة عين لهلك ، ولكان من الخاسرين ، فإن العبد أحوج ما يكون إلى الاعتراف بذنبه ، والعلم بأسماء الله وبصفاته ، وبآثار ذلك في ملكوته ، وبربوبيته- جل وعلا- على خلقه ، وبعبادته حق عبادته .(42/198)
باب قوله تعالى :
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأعراف : 190] .
قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمر وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب .
وعن ابن عباس في الآية قال : لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس ، فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة ، لتطيعانني ، أو لأجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنه فيشقه ولأفعلن ، ولأفعلن ، يخوفهما ، سمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت ، فأتاهما ، فقال مثل قوله ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت ، فأتاهما ، فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله : { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } رواه ابن أبي حاتم . (1) .
وله بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ، ولم يكن في عبادته (2) . وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا } قال : أشفقا أن لا يكون إنسانا (3) . ، وذكر معناه عن الحسن ، وسعيد ، وغيرهما " .
فيه مسائل :
الأولى : تحريم كل اسم معبد لغير الله .
الثانية : تفسير الآية .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في « التفسير » (15517).
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في « التفسير » (15521).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير كما في الدر المنثور 3 / 624.(42/199)
الثالثة : أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها .
الرابعة : أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم .
الخامسة : ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة ، والشرك في العبادة .
الشرح :
مناسبة هذا الباب للأبواب قبله : أن جميع الأبواب في معنى واحد ، وهو أن شكر النعمة لله- جل وعلا- فيما أنعم به ، يقتضي أن تنسب إليه- جل وعلا- وأن يحمد عليها ، ويثنى عليه بها ، وأن تستعمل في مراضيه- جل وعلا- وأن يتحدث بها ، فالذي ينسب النعم إلى نفسه لم يحقق التوحيد ؛ فإنه جمع بين ترك تعظيم الله- جل وعلا- وبين ادعاء شيء ليس له ، وقد يعتقد في غيره أنه هو المنعم عليه ، كقول القائل : لولا فلان لم يكن كذا ، أو نحو تلك العبارات التي تدخل في قوله تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] وفي قوله : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] فهذه الألفاظ وأمثالها راجعة إلى عدم شكر النعمة .(42/200)
ومن شكر النعم أن الله- جل وعلا- إذا أنعم على عبد بولد ، وجعله سليما معافى ، ورزقه بتلك النعمة -التي هي نعمة الولد- أن يشكر الله عليها ، ومن عدم شكر النعمة تلك ، ونسبتها إلى غير الله : أن يعبد الولد لغير الله- جل وعلا- فإن هذا مضاد للاعتراف بأن المنعم بذلك الولد هو الله -جل جلاله- وقد يصل ذلك إلى حد الشرك الأكبر ، إذا عبد الولد لولي أو لعبد صالح ، وهو يعني حقيقة العبودية التي هي أن هذا عبد لذاك ؛ لأن ذاك إله . كمن يعبد لبعض المشايخ ، فيقول : عبد السيد ويعنون به : السيد البدوي ، ويقولون : عبد زينب ، وعبد علي ، وعبد عمرو ، ونحو ذلك من الأسماء التي فيها اعتقادات .
فمن عبد ولدا لغير الله -جل وعلا- فقد نافى شكر النعمة ؛ ولهذا أتبع الشيخ- رحمه الله- هذا الباب الأبواب قبله لما كان يشترك معها في هذا المعنى ، وأن الواجب على العبد أن يحقق التوحيد ، وأن لا ينسب النعم لغير الله -جل وعلا- فإن وقع منه ذلك فواجب عليه أن يبادر بالتوبة ، وألا يقيم على ذلك .
" باب قول الله تعالى :(42/201)
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأعراف : 190] :
قوله : { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا } الضمير هنا يرجع إلى آدم وحواء ، والذي عليه عامة السلف أن القصة في آدم وحواء حتى قال الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- : إن نسبة ذلك إلى غير آدم وحواء هو من التفاسير المبتدعة . وسياق الآية لا يقتضي غير ذلك إلا بأوجه من التكلف ؛ ولهذا اعتمد الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- التفسير الذي عليه عامة السلف ، ففسر هذه الآية بأن المراد بها آدم وحواء ، فقوله : { فَلَمَّا آتَاهُمَا } يعني : آتى الله آدم وحواء صالحا . وقوله : { صَالِحًا } يعني : من جهة الخلقة ؛ لأنه كان يأتيهما ولد فيموت ، أو يكون معيبا فيموت ، فالله -جل وعلا- رزقهما هذا الولد الصالح السليم في خلقته ، المعافى في بنيته ، وكذلك هو صالح لهما من جهة نفعهما .(42/202)
{ جَعَلَا } يعني : آدم وحواء { لَهُ } يعني : لله- جل وعلا- { شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } وكلمة شركاء جمع الشريك ، والشريك في اللغة هو المقصود بهذه الآية ، ومعنى الشركة في اللغة : اشتراك اثنين في شيء ، فجعلا لله -جل وعلا- شركاء فيما آتاهما ، حيث سميا ذلك الولد عبد الحارث . والحارث هو إبليس ، وهو الذي قال : إن لم تسمياه عبد الحارث لأفعلن ولأفعلن ، ولأجعلن له قرني أيل -وهو ذكر الوعل- وفي هذا تهديد بأن يشق بطن الأم ، فتموت ويموت أيضا الولد .(42/203)
فلما رأت حواء ذلك ، وأنها قد مات لها عدة بطون ، أطاعت الشيطان في ذلك ، فصارت الشركة شركة في الطاعة ، وآدم وحواء عليهما السلام قد أطاعا الشيطان من قبل ، حيث أمرهما بأن يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله -جل وعلا- عنها ، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خدعهما مرتين » (1) . ، وهذا هو المعروف عند السلف ، فيكون إذًا قوله : { شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } من جهة التشريك في الطاعة ، ومعلوم أن كل عاص مطيع للشيطان ، وكل معصية لا تصدر من العبد إلا وثم نوع تشريك حصل في الطاعة ؛ لأنه إما أن يطيع هواه ، وإما أن يطيع الشيطان ؛ ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره من المحققين : إنه ما من معصية يعصي بها العبد ربه إلا وسببها طاعة الشيطان أو طاعة الهوى ، وذلك نوع تشريك ، وهذا هو الذي حصل من آدم وحواء عليهما السلام ، وهو لا يقتضي نقصا في مقامهما ، ولا يقتضي شركا بالله -جل وعلا- وإنما هو نوع تشريك في الطاعة . والمعاصي الصغار جائزة على الأنبياء ، كما هو معلوم عند أهل العلم ، فإن آدم نبي مكلم ، وصغار الذنوب جائزة على الأنبياء ، ولا تقدح في كمالهم ؛ لأنهم لا يستقيمون عليها ، بل يسرعون وينيبون إلى الله
_________
(1) انظر : تفسير القرطبي 7 / 338.(42/204)
-جل وعلا- ويكون حالهم بعد ما وقع منهم ذاك أعظم من حالهم قبل أن يقع منهم ذلك ؛ لأنه يكون لهم مقامات إيمانية واعتراف بالعبودية أعظم ، وذل وخضوع أكبر بين يدي الله -جل وعلا- ، ومعرفة أكمل بتحقيق ما يجب لله -جل وعلا- وما يستحب .(42/205)
فهذه القصة -كما ذكرنا- صحيحة ، وآثار السلف الكثيرة تدل عليها ، وسياق الآيات في آخر سورة الأعراف يدل عليها ، والإشكال الذي أورده بعض أهل التفسير من المتأخرين ، وهو أن آدم وحواء جعلا لله شركاء ، وهذا نص الآية لا يمنع ؛ لأن التشريك هنا تشريك فيما يدل عليه المعنى اللغوي ، وليس شركا أصغر ، ولا شركا أعظم ، وحاشاهما من ذلك ، وإنما هو تشريك في الطاعة ، كما قال -جل وعلا- { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } [ الفرقان : 43 ] وكما قال أيضا في الآية الأخرى { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [ الجاثية : 23] فكل من جعل هواه متبعا فقد جعله مطاعا ، وهذا نوع تأليه ، لكن لا يقال : عبد غير الله ، أو أله غير الله ، أو أشرك بالله -جل وعلا- لكن هو نوع تشريك ، فكل طاعة للشيطان أو للهوى فيها هذا النوع من التشريك ، إذ الواجب على العبد أن يعظم الله -جل وعلا- وأن لا يطيع إلا أمره -جل وعلا- وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم .(42/206)
فظهر بهذا التقرير أن هذه القصة لا تقتضي نقصا في مقام آدم عليه السلام ولا في مقام حواء ، بل هو ذنب من الذنوب ، تابا منه ، كما حصل لهما أول مرة في الأكل من الشجرة ، بل إن أكلهما من الشجرة ومخالفة أمر الله -جل وعلا- أعظم من هذا الذي حصل منهما هنا ، وهو تسمية الولد عبد الحارث ، وذلك أن الخطاب الأول كان من الله -جل وعلا- لآدم مباشرة ، خاطبه الله -جل وعلا- ونهاه عن أكل هذه الشجرة ، وهذا خطاب متوجه إلى آدم بنفسه ، وأما هذه التسمية فإنه لم ينه عنها مباشرة ، وإنما يفهم النهي عنها من وجوب حق الله -جل وعلا- ، فذاك المقام زاد على هذا المقام من جهة خطاب الله -جل وعلا- المباشر لآدم ، وهذا أمر معروف عند أهل العلم ؛ ولهذا فسر قتادة كلمة شركاء بقوله كما نقل الشيخ حيث قال : " له بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ، ولم يكن في عبادته " وهذا هو الصحيح في تفسير الآية .(42/207)
" قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ، كعبد عمر وعبد الكعبة وما أشبه ذلك ، حاشا عبد المطلب " (1) . : قول ابن حزم : " اتفقوا " يعني : أجمعوا ، أي : أجمع أهل العلم فيما علمه هو أن التعبيد لغير الله محرم ؛ لأن فيه إضافة النعم لغير الله ، وفيه أيضا إساءة أدب مع الربوبية والإلهية ، فإن تعبيد الناس لغير الله -جل وعلا- غلط من جهة المعنى ، وأيضا فيه نوع هضم لمقام الربوبية ، فلذلك حرم في شريعة الإسلام هذه التسمية ، بل وفي شرائع الأنبياء جميعا ، فاتفق أهل العلم على ذلك ، وأن كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو ، وعبد الكعبة ، وعبد علي ، وغير ذلك من الأسماء ، فإن هذا وما أشبهه محرم ولا يجوز .
_________
(1) أخرجه ابن حزم « مراتب الإجماع » (154).(42/208)
قوله : " حاشا عبد المطلب " : يعني : لم يجمعوا عليه ؛ فإن من أهل العلم من قال : تكره التسمية بعبد المطلب ولا تحرم ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في غزوة حنين : « أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب » (1) . قالوا : وجاء في أسماء الصحابة من اسمه عبد المطلب ؛ ولهذا قالوا : لا يحرم ، وهذا القول ليس بصحيح في أن عبد المطلب لا تكره التسمية به ولا تحرم ، وما استدلوا به ليس بوجيه ، وذلك أن قول النبي عليه الصلاة والسلام : " أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " كان من جهة الإخبار ، والإخبار ليس فيه تعبيد مباشر بإضافة ذلك المخلوق إلى غير خالقه ، وإنما هو إخبار ، وباب الإخبار أوسع من باب الابتداء كما هو معلوم .
وأما تسمية بعض الصحابة بعبد المطلب ، فالمحققون من الرواة يقولون : إن من سمي بعبد المطلب ، فالصحيح أن اسمه المطلب بدون التعبيد ، ولكن نقل بعبد المطلب ، لأنه شاعت التسمية بعبد المطلب دون المطلب ، فوقع خطأ في ذلك ، وبحث هذه المسائل يطول ، ومحله كتب الحديث وكتب الرجال .
_________
(1) أخرجه البخاري (2864) و (2874) ومسلم (1776).(42/209)
" وعن ابن عباس في معنى الآية قال : لما تغشاها آدم حملت ، فأتاهما إبليس ، فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعانني أو لأجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنه فيشقه ، ولأفعلن ولأفعلن ، يخوفهما ، سمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ثم حملت فأتاهما فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } رواه ابن أبي حاتم . وله بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته " : وهذا دليل على التفريق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة ، فالشرك في العبادة كفر أكبر مخرج من الملة ، أما الشرك في الطاعة فله درجات يبدأ من المعصية والمحرم وينتهي بالشرك الأكبر ، فالشرك في الطاعة درجاته كثيرة ، وليس درجة واحدة ، فقد يحصل شرك في الطاعة فيكون معصية ، ويحصل شرك في الطاعة فيكون كبيرة ، ويحصل شرك في الطاعة ويكون كفرا أكبر ، ونحو ذلك ، أما الشرك في العبادة فهو كفر أكبر بالله -جل جلاله- ؛ ولهذا فرق أهل العلم بين شرك الطاعة وشرك العبادة ، مع أن العبادة مستلزمة للطاعة ،(42/210)
والطاعة مستلزمة أيضا للعبادة ، لكن ليس في كل درجاتها .
" وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } قال : أشفقا أن لا يكون إنسانا " : يعني : خافا أن يكون له -كما قال الشيطان- له قرنا أيل ، أو خلقته مختلفة ، أو يخرج حيوانا ، أو قردا ، أو نحو ذلك ، فقالا : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا } يعني : ولدا صالحا سليما من الآفات ، سليما من الخلقة المشينة ، فوعدا بأن يكونا من الشاكرين { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا } عبدا ذلك للحارث ، خوفا من أن يتسلط الشيطان عليه بالموت أو الإهلاك ، فأخذتهما شفقة الوالد على الولد فكان ذلك خلاف شكر تلك النعمة ؛ لأن من شكر نعمة الولد أن يعبد الولد لله الذي أنعم به وأعطاه وتفضل به .(42/211)
باب قول الله تعالى :
{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } [الأعراف : 180] .
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } يشركون ، (1) . وعنه : سمو اللات من الإله ، والعزى من العزيز . وعن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها " .
فيه مسائل :
الأولى : إثبات الأسماء .
الثانية : كونها حسنى .
الثالثة : الأمر بدعائه بها .
الرابعة : ترك من عارض من الجاهلين الملحدين .
الخامسة : تفسير الإلحاد فيها .
السادسة : وعيد من ألحد .
الشرح :
هذا الباب في وجوب تعظيم أسماء الله الحسنى ، وأن من تعظيمها أن لا يلحد فيها ، وأن يدعى الله -جل وعلا- بها ، والأسماء الحسنى هي :
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير كما في الدر المنثور (613).(42/212)
الأسماء البالغة في الحسن نهايته ، فالخلق يتسمون بأسماء ، لكن قد لا تكون حسنة ، أو قد تكون حسنة ، ولكن ليست بالغة في الحسن نهايته ؛ لأن الحسن في الأسماء يكون راجعا إلى أن الصفة التي اشتمل عليها ذلك الاسم تكون حقا ، موجودة فيمن تسمى بها ، والإنسان وإن تسمى باسم فيه معنى فقد لا يكون فيه من ذلك المعنى شيء ، فيسمى صالحا وقد لا يكون صالحا ، ويسمى خالدا وقد لا يكون خالدا ، ويسمى محمدا وقد لا يكون كثير خصال الحمد وهكذا ، فإن الإنسان قد يسمى بأسماء لكن لا تكون في حقه حسنى ، والله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى البالغة في الحسن نهايته ، وهي الأسماء المشتملة على صفات الكمال ، والجلال ، والجمال ، والقدرة ، والعزة ، والجبروت وغير ذلك ، وله من كل اسم مشتمل على صفة أعلى وأعظم وأسمى المعاني التي اشتملت عليها الصفة .(42/213)
وأهل العلم إذا فسروا الأسماء الحسنى فإنما هو تقريب ، ليدلوا الناس على أصل المعنى ، أما المعنى بكماله فإنه لا يعلمه أحد إلا الله -جل جلاله- ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في دعائه : « لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك » (1) . فالناس حين يفسرون أسماء الله- جل وعلا- فإنهم يفسرون ذلك بما يقرب إلى الأفهام المعنى ، أما حقيقة المعنى على كماله فإنهم لا يعونه ؛ لأن ذلك من الغيب ، وكذلك الكيفية فإنهم لا يعلمونها ؛ لأن ذلك من الغيب ، فالله- جل وعلا- له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى .
_________
(1) أخرجه الترمذي (3566) ، وابن ماجه (1179) .(42/214)
ومن الأسماء ما لا يكون حسنا إلا بقيد مثل : الصانع ، والمتكلم ، والمريد ، والفعال أو الفاعل ، ونحو ذلك ، فهذه الأسماء لا تكون كمالا إلا بقيد ، وهو أن يكون متكلما بما شاء إذا شاء بما تقتضيه الحكمة وتمام العدل ، فهذا يكون محمودا ؛ ولهذا ليس من أسماء الله المتكلم ، وكذلك الصانع قد يصنع خيرا ، وقد يصنع غير ذلك ، والله- جل وعلا- ليس من أسمائه الحسنى الصانع ؛ لاشتماله على هذا وهذا ، فإذا أطلق من جهة الخبر فيعنى به ما يقيد بالمعنى الذي فيه كمال ، وكذلك فاعل أو فعال فإن الفعال قد يفعل أشياء لا توافق الحكمة ، وقد يفعل أشياء لا يريدها بل مجبر عليها ، والكمال أن يفعل ما يريد ولا يكون مجبرا لكمال عزته وقهره ؛ ولهذا قال الله- جل وعلا- عن نفسه : { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ]- لأن تقييد كونه فعالا بما يريد ، يدل على الكمال في أشياء كثيرة ، وهي معروفة في مباحث الأسماء والصفات .(42/215)
وأسماء الله الحسنى تنقسم باعتبارات من جهة المعنى ، قال طائفة من أهل العلم : إن منها أسماء الجمال ، وأسماء الجمال لله- جل جلاله- هي الأسماء المشتملة على حسن في الذات ، أو حسن في المعنى وبر بالعباد والمخلوقين ، فيكون من أسماء الجمال صفات الذات ، واسم الله الجميل ، ويكون من أسماء الجمال : البر ، والرحيم ، والودود ، والمحسن ، وما أشبه ذلك . ومن أسماء الله ما هو من الجلال فيقال : هذه أسماء الجلال ، وأسماء الجلال لله هي التي فيها ما يدل العباد على جلال الله ، وعظمته وعزته- جل وعلا- وجلاله حتى يجل ، من مثل : القهار ، والجبار ، والقدير ، والعزيز ، ونحو ذلك ، فهذه أسماء الجلال ، وهناك أسماء في تقسيمات مختلفة ، تطلب من كلام ابن القيم - رحمه الله- أو من كلام الشراح ، فإن المقصود هو أن العبد المؤمن الموحد ينبغي أن يتعرف إلى الله- جل وعلا- بأسمائه وصفاته ، ولا تتم حقيقة التوحيد في قلب العبد حتى يعلم أسماء الله- جل وعلا- ويعلم صفات الله- جل وعلا- فإن العلم بها تتم به حقيقة التوحيد .(42/216)
والعلم بها على مراتب ، منها : أن يعلمها إثباتا ، يعني : أن يثبت ما أثبت الله لنفسه ، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيؤمن أن هذا الاسم من أسماء الله ، وأن هذه الصفة من صفات الله جل وعلا .
والثاني : أن يسأل الله- جل وعلا- بأسمائه وصفاته بما يوافق مطلوبه ؛ لأن الأسماء والصفات نتعبد لله- جل وعلا- بها ، بأن ندعوه بها كما جاء في هذه الآية ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
والثالث من الإيمان بالأسماء والصفات : أن ينظر إلى آثار أسماء الله وصفاته في الملكوت ، فإذا نظر إلى آثار الأسماء والصفات في الملكوت وتأمل ذلك علم أن كل شيء ما خلا الله باطل ، وأن الحقيقة أن الحق الثابت اللازم هو الله- جل وعلا- وأما ما سوى الله فهو باطل ، وزائل ، وآيل إلى الهلاك { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص : 88] .
قوله : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } : اللام في قوله { وَلِلَّهِ } هي لام الاستحقاق ، يعني : الأسماء الحسنى البالغة في الحسن نهايته مستحقة لله- جل وعلا- والله مستحق ذلك .(42/217)
{ فَادْعُوهُ بِهَا } : يعني : إذا علمتم أن الله هو المستحق لذلك ، وآمنتم به ، فادعوه بها ، وهذا أمر ، والدعاء هنا فسر بالثناء والعبادة ، وفسر بالسؤال والطلب ، وكلاهما صحيح ؛ فإننا ندعو الله بها ، أي : نحمده ، ونثني عليه بها ، فنعبده متوسلين إليه بالأسماء الحسنى ، وما اشتملت عليه من الصفات العلى ، وكذلك أن نسأله بها ، يعني : إذا كان لنا مطلوب نتوجه إلى الله ، فنسأله بتلك الأسماء بما يوافق المطلوب ، فإذا سألنا الله المغفرة نأتي بصفات الجمال ، وإذا سألنا الله- جل وعلا- النصرة نأتي بصفات الجلال ، وهكذا فيما يناسب ، وهناك تفصيلات أيضا لهذا الأمر .
والمقصود أن قوله- جل وعلا- { فَادْعُوهُ بِهَا } : يعني : اسألوه بها ، أو اعبدوه ، واثنوا عليه بها- جل وعلا- ، فيشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة .
والباء في قوله { بِهَا } هي باء الوسيلة ، أي : ادعوه متوسلين بها .(42/218)
قوله : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : { ذَرْوًا } يعني : اتركوا ، وهذا يوجب على المسلم أن يبتعد عن حال الذين يلحدون في أسماء الله- جل وعلا- . والإلحاد في أسماء الله هو : الميل والعدول بها عن حقائقها إلى ما لا يليق بالله -جل وعلا- .
وهذا الإلحاد في أسماء الله وصفاته مراتب منها : أن يسمي البشر المعبودين بأسماء الله ، كما سموا اللات من الإله ، والعزى من العزيز ، ونحو ذلك .
ومن الإلحاد في أسماء الله : أن يجعل لله- جل وعلا- ولد ، وأن يضاف المخلوق إليه إضافة الولد إلى والده ، كحال النصارى .
ومن الإلحاد : إنكار الأسماء والصفات ، أو إنكار بعض ذلك ، كما فعلت الجهمية الغلاة ، فإنهم لا يؤمنون باسم من أسماء الله ، ولا بصفة من صفات الله إلا الوجود والموجود ، لأن هذه الصفة هي التي يستقيم معها برهانهم بحلول الأعراض في الأجسام ، ودليل ذلك على الوحدانية كما هو معروف في موضعه .(42/219)
ومن الإلحاد أيضا والميل بها عن الحق الثابت الذي يجب لله- جل وعلا- فيها : أن تؤول وتصرف عن ظاهرها إلى معان لا يجوز أن تصرف إليها ، فيكون ذلك من التأويل ، والواجب الإيمان بالأسماء والصفات وإثباتها ، واعتقاد ما دلت عليه ، وترك التعرض لها بتأويل ونحوه ، وهذه هي قاعدة السلف فنؤمن بها ولا نصرفها عن حقائقها بتأويل أو بمجاز أو نحو ذلك ، كما فعل المعتزلة ، وفعلته الأشاعرة ، والماتريدية وطوائف ، كل هذا نوع من أنواع الإلحاد .
وإذا تقرر ذلك علم أن الإلحاد منه ما هو كفر ، ومنه ما هو بدعة بحسب ما ذكرنا ، فالحال الأخيرة -وهي التأويل ، وادعاء المجاز في الأسماء والصفات- بدعة وإلحاد لا يصل بأصحابه إلى الكفر ، أما نفي وإنكار وجحد الأسماء والصفات ، فهذا كفر ، كحال الجهمية ، والنصارى ، ومشركي العرب .
" ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : يشركون " : يعني يجعلون اللات من الإله ، فينادون اللات ، وعندهم أنهم نادوا الإله ، فصار شركا .(42/220)
" وعنه : سمو اللات من الإله ، والعزى من العزيز وعن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها " : وهذه مرتبة من مراتب الإلحاد في أسمائه ؛ لأن الله- جل وعلا- له الأسماء الحسنى ، فمن أدخل اسما لم يثبت في الكتاب والسنة أنه من أسماء الله فقد ألحد ؛ لأنه مال وعدل عن الحق الذي يجب في الأسماء والصفات إلى غيره ، والحق هو أن تثبت لله ما أثبته لنفسه ، إذ لا أحد أعلم بالله من الله- جل جلاله وتعاظم شانه- وكذلك لا أحد أعلم من الخلق بالله- جل وعلا- من رسوله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم . فمن أدخل فيها ما ليس منها فقد ألحد ، كمن قال : إن من أسماء الله : الماكر ، والمستهزئ ، والصانع ، وجعل ذلك من الأسماء الحسنى ، فإن هذا لا يجوز ، ومنها ما يجوز بتقييد في باب الإخبار ، ومباحث هذا الباب طويلة لاتصالها بالأسماء والصفات وهي معروفة في مبحث توحيد الأسماء والصفات .(42/221)
" باب لا يقال السلام على الله "
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا : السلام على الله من عباده السلام على فلان وفلان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقولوا : السلام على الله فإن الله هو السلام » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير السلام .
الثانية : أنه تحية .
الثالثة : أنها لا تصلح لله .
الرابعة : العلة في ذلك .
الخامسة : تعليمهم التحية التي تصلح لله .
الشرح :
مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله : أن ترك قول : السلام على الله ، هو من تعظيم الأسماء الحسنى ، ومن العلم بها ، ذلك أن السلام هو الله- جل جلاله- ، والسلام من أسمائه سبحانه وتعالى ، فهو المتصف بالسلامة الكاملة من كل نقص وعيب ، وهو المنزه والمبعد عن كل آفة ونقص وعيب ، فله الكمال المطلق في ذاته ، وصفاته الذاتية ، وصفاته الفعلية- جل وعلا- ، والسلام في أسماء الله معناه أيضا : الذي يعطي السلامة ويرزقها ، وأثر هذا الاسم في ملكوت الله أن كل سلامة في ملكوت الله من كل شر يؤذي الخلق ، فإنها من آثار هذا الاسم ، فإنه لكون الله- جل وعلا- هو السلام فإنه يفيض السلامة على العباد .
_________
(1) أخرجه البخاري (835) ومسلم (402).(42/222)
إذا كان كذلك فالله- جل جلاله- هو الذي يفيض السلام ، وليس العباد هم الذين يعطون الله السلامة ، فإن الله- جل وعلا- هو الغني عن خلقه بالذات ، والعباد فقراء بالذات ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ فاطر : 15] ، فالعبد هو الذي يعطى السلامة ، والله- جل وعلا- هو الذي يسلم ؛ ولهذا كان من الأدب الواجب في جناب الربوبية وأسماء الله وصفاته أن لا يقال : السلام على الله ، بل أن يقال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على فلان وفلان ، السلام عليك يا فلان ، ونحو ذلك ، فتدعو له بأن يبارك باسم الله (السلام) أو أن تحل عليه السلامة .
فظهر بهذا أن وجه مناسبة هذا الباب للذي قبله ظاهرة . وأما مناسبته لكتاب التوحيد : فهي أن الأدب مع أسماء الله- جل وعلا- وصفاته ألا يخاطب بهذا الخطاب ، وأن لا يقال : السلام على الله ، لأن في هذا نقصا في تحقيق التوحيد ، فتحقيق التوحيد الواجب ألا تقال هذه الكلمة ؛ لأن الله غني عن عباده ، والفقراء هم الذين يحتاجون إلى السلام .(42/223)
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا : السلام على الله من عباده السلام على فلان وفلان » ، وإنما كانوا يقولون هذا مع كونهم موحدين عالمين بحق الله- جل وعلا- ظنا أنها تحية لا تحوي ذلك المعنى ، فجعلوها من باب التحية ، والتحية في هذه الشريعة مرتبطة بالمعنى ، فالسلام على الله من عباده كأنهم قالوا : تحية لله من عباده ، وهذا المعنى- وإن كان صحيحا من حيث القصد- لكنه ليس بصحيح من حيث اللفظ ، لأن هذا اللفظ لا يجوز من جهة أن الله - جل وعلا- هو السلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام . والعباد مسلمون ، أي : يسلمهم الله- جل وعلا- ويفيض عليهم السلامة وهم الفقراء المحتاجون ، فليسوا هم الذي يعطون الله السلام ، فمعنى : السلام على الله ، يعني : السلامة تكون على الله من عباده ، وهذا لا شك أنه باطل وإساءة في الأدب مع ما يجب لله- جل وعلا- في ربوبيته وأسمائه وصفاته .(42/224)
لهذا قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام « لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام » ، وهذا النهي للتحريم ، فلا يجوز لأحد أن يقول : السلام على الله ؛ لأن السلام على الله مقتض لانتقاص جناب الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات .
إذا كان كذلك ، فما معنى قولك حين تسلم على أحد : السلام عليك يا فلان ، أو السلام عليكم ورحمة الله ؟ وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } [الأحزاب : 44] . قال بعض أهل العلم : إن معناها : كل اسم لله- جل وعلا- عليكم ، يعني : اسم السلام عليكم ، فيكون ذلك تبركا بأسماء الله- جل وعلا- وبصفاته ، فاسم السلام عليكم ، يعني : اسم الله عليكم ، فيكون ذلك تبركا بكل الأسماء ومنها اسم الله- جل وعلا- السلام ، وهذا أحد المعنيين .(42/225)
والثاني : ما قاله آخرون من أهل العلم : أن قول القائل : السلام عليكم ورحمة الله ، يعني : السلامة التي اشتمل عليها اسم (السلام) عليكم ، نسأل الله أن يفيضها عليكم ، أو أن يكون المعنى : كل سلامة عليكم مني ، فإنك لن تجد مني إلا السلامة ، وهذا يصدق حين تنكر فتقول : سلام عليكم ورحمه الله وبركاته ، يعني : كل سلامة مني ستأتيك ، فلن أخفرك في عرضك ، ولن أخفرك في مالك ، ولن أخفرك في نفسك ، وكثير من المسلمين يقول هذه الكلمة وهو لا يعي معناها ، لأنه حين قال لمن أتاه : السلام عليكم ، كأنه عاهده بأنه لن يأتيه منه إلا السلامة ، ثم هو يخفر هذه الذمة ، وربما أضره ، أو تناول عرضه ، أو تناول ماله ، أو نحو ذلك .
فهذا فيه التنبيه على فائدة مهمة ، وهي أنه ينبغي لكل طالب العلم ، بل كل عاقل بعامة إذا نطق بكلام أن يتبين ما معنى هذا الكلام ، فكونه يستعمل كلاما لا يعي معناه ، هذا من العيب ، إذ ليس من أخلاق الرجال أصلا أن يتكلموا بكلام لا يعون معناه ، فيأتي بكلام ثم ينقضه في فعله أو في قوله ، هذا ليس من أفعال الذين يعقلون ، فضلا أن يكون من أفعال أهل العلم ، أو طلبة العلم الذين يعون عن الله- جل وعلا- شرعه ودينه .(42/226)
والصواب أن قول القائل : السلام عليكم ، يشمل المعنيين الأول والثاني ، فهو تبرك بكل اسم من أسماء الله ، وتبرك باسم الله (السلام) الذي من آثاره السلامة عليك في دينك ودنياك ، فهو دعاء لك بالسلامة في الدين ، وفي الدنيا ، وفي الأعضاء ، والصفات ، والجوارح ، إلى آخر ذلك .(42/227)
" باب قوله : اللهم اغفر لي إن شئت "
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة ؛ فإن الله لا مكره له » (1) .
ولمسلم : « وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه » (2) .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الاستثناء في الدعاء .
الثانية : بيان العلة في ذلك .
الثالثة : قوله : ليعزم المسألة .
الرابعة : إعظام الرغبة .
الخامسة : التعليل لهذا الأمر .
الشرح :
_________
(1) أخرجه البخاري (6339) ومسلم (2679).
(2) أخرجه مسلم (2679).(42/228)
حقيقة التوحيد أن يوحد العبد ربه- جل وعلا- بتمام الذل والخضوع والمحبة ، وأن يتضرع إلى الله- جل وعلا- ويتذلل إليه بإظهار فقره التام إليه ، وأن الله- جل وعلا- هو الغني عما سواه ، وقول القائل : « اللهم اغفر لي إن شئت » يفهم منه أنه مستغن عن أن يغفر له ، كما يأتي العزيز أو المتكبر من الناس فيقول لآخر لا يريد أن يتذلل له : افعل هذا إن شئت ، يعني : إن فعلت ذلك فحسن ، وإن لم تفعل فلست بملح عليك ، ولست بذي إكرام ، فهذا القول مناف لحاجة الذي قالها إلى الآخر ولهذا كان فيه عدم تحقيق للتوحيد ، ومنافاة لما يجب على العبد في جناب ربويية الله- جل وعلا- من أن يظهر فاقته وحاجته لربه ، وأنه لا غنى به عن مغفرة الله ، وعن غنى الله ، وعن عفوه ، وكرمه وإفضاله ، ونعمه طرفة عين ، فقول القائل : « اللهم اغفر لي إن شئت » كأنه يقول : لست محتاجا ، إن شئت فاغفر ، وإن لم تشأ فلست بمحتاج ، وهذا فعل أهل التكبر ، وأهل الإعراض عن الله- جل وعلا- ، ولهذا حرم هذا اللفظ ، وهو أن يقول أحد : « اللهم اغفر لي إن شئت » ؛ للحديث الذي ساقه المؤلف ، فقال : " في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقل أحدكم(42/229)
: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له » . ولمسلم : « وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه » .
قوله : « ليعزم المسألة » : يعني : ليسأل سؤال عازم ، سؤال محتاج ، سؤال متذلل ، لا سؤال مستغن مستكبر ، فليعزم المسألة ، وليسأل سؤال جاد محتاج متذلل فقير يحتاج إلى أن يعطى ذلك ، والذي سأل سأل أعظم المسائل ، وهي المغفرة والرحمة من الله- جل وعلا- فيجب عليه أن يعظم هذه المسألة ، ويعظم الرغبة وأن يعزم المسألة .
قوله : « فإن الله لا مكره له » أي : لا أحد يكرهه لتمام غناه ، وتمام عزته وقهره وجبروته ، وتمام كونه مقيتا سبحانه وتعالى ، وهذا من آثار الأسماء والصفات .(42/230)
ولهذا لا يجوز قي الدعاء أن يواجه العبد ربه بهذا القول : « اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت » ، وهذا واضح ظاهر في الدعاء الذي فيه المخاطبة ، ولهذا قال بعض أهل العلم : إن هذا يتقيد بالدعاء الذي فيه خطاب ، أما الدعاء الذي ليس فيه خطاب فيكون التعليق بالمشيئة ليس تعليقا ؛ لأجل عدم الحاجة ، أو منبئا عن عدم الحاجة كهذا الدعاء ، بل هو للتبرك كمن يقول : رحمه الله إن شاء الله ، أو غفر الله له إن شاء الله ، أو الله يعطيه من المال كذا وكذا إن شاء الله ، ونحو ذلك ، فهذا قالوا : لا يدخل في هذا النوع ، لأنه ليس على وجه الخطاب ، وليس على وجه الاستغناء ، ولكن الأدب يقتضي ألا يستعمل هذه العبارة في الدعاء مطلقا ؛ لأنها وإن كانت ليست بمواجهة فإنها داخلة في تعليق الدعاء بالمشيئة ، والله- جل وعلا- لا مكره له ، فعموم المعنى المستفاد من قوله : « فإن الله لا مكره له » عموم هذا التعليل يشمل هذا وهذا ، فلا شك أن قول « اللهم اغفر لي إن شئت » أعظم ولكن القول الآخر داخل أيضا في علة النهي ومعنى النهي ؛ ولهذا لا يسوغ استعماله .(42/231)
وقول النبي عليه الصلاة والسلام لمن عاده وقد أصابته الحمى- كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما- : « طهور إن شاء الله » قال : بل هي حمى تفور . . إلخ كلامه (1) ، هذا ليس فيه دعاء ، وإنما هو من جهة الخبر ، قال : يكون طهورا إن شاء الله ، فهو ليس بدعاء ، وإنما هو خبر ، فافترق عن أصل المسألة .
وقال طائفة من أهل العلم من شراح البخاري : وقد يكون قوله : « طهور إن شاء الله » للبركة ، فيكون ذلك من جهة التبرك ، كقوله- جل وعلا- مخبرا عن قول يوسف : { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } وهم قد دخلوا مصر ، وكقوله- جل وعلا- : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } [الفتح : 27] .
_________
(1) أخرجه البخاري (3616) ، ولم يروه مسلم رحمه الله .(42/232)
" باب لا يقول عبدي وأمتي "
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقل أحدكم : أطعم ربك ، وضئ ربك ، وليقل : سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن قول : عبدي وأمتي .
الثانية : لا يقول العبد : ربي ، ولا يقال له : أطعم ربك .
الثالثة : تعليم الأول قول : فتاي ، وفتاتي ، وغلامي .
الرابعة : تعليم الثاني قول : سيدي ومولاي .
الخامسة : التنبيه للمراد ، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ .
الشرح :
هذا الباب مع الأبواب قبله وما بعده كلها في تعظيم ربوبية الله- جل وعلا- ، وتعظيم أسماء الله- جل وعلا- وصفاته ؛ لأن تعظيم ذلك من كمال التوحيد ، وتحقيق التوحيد لا يكون إلا بأن يعظم الله- جل وعلا- في ربوبيته ، وفي إلهيته ، وفي أسمائه وصفاته .
فتحقيق التوحيد لا يكون إلا بالاحتراس من الألفاظ التي يكون فيها إساءة أدب مع ربوبية الله- جل وعلا- ، أو مع أسماء الله- جل وعلا- وصفاته ، ولهذا عقد المؤلف هذا الباب فقال : " باب لا يقول عبدي وأمتي " .
_________
(1) أخرجه البخاري (2552) ومسلم (2249) .(42/233)
عبودية البشر لله- جل وعلا- عبودية حقيقة ، وإذا قيل : هذا عبد الله ، فهو عبد لله- جل وعلا- إما قهرا أو اختيارا ، فكل من في السماوات والأرض عبد لله- جل وعلا- كما قال- جل وعلا- { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا }{ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا }{ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 93- 95] ، فعبودية الخلق لله- جل وعلا- ظاهرة ؛ لأنه هو الرب ، وهو المتصرف ، وهو خالق الخلق ، وهو المدبر لشئونهم ، فالله- جل وعلا- هو المتفرد بذلك سبحانه ، فإذا قال الرجل لرقيقه : هذا عبدي ، وهذه أمتي ، كان فيه نسبة عبودية أولئك له ، وهذا فيه منافاة لكمال الأدب الواجب مع الله- جل وعلا- ؛ ولهذا كان هذا اللفظ غير جائز عند كثير من أهل العلم ، ومكروه عند طوائف آخرين .
وسبب النهي عن لفظ : « عبدي وأمتي » ما ذكرنا من وجوب تعظيم الربوبية ، وعدم انتقاص عبودية الخلق لله جل وعلا .(42/234)
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقل أحدكم أطعم ربك ، وضئ ربك ، وليقل : سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي » : هذا النهي في هذا الحديث اختلف فيه أهل العلم على قولين :
الأول : أنه للتحريم ، لأن النهي الأصل فيه للتحريم إلا إذا صرفه عن ذلك الأصل صارف .
وقال آخرون : النهي هنا للكراهة ، وذلك لأنه من جهة الأدب ، ولأنه جاء في القرآن قول يوسف عليه السلام : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42] ولأن الربويية هنا المقصود بها ما يناسب البشر ، فرب الدار ، ورب العبد هو الذي يملك أمره في هذه الدنيا ؛ فلهذا قالوا : النهي للكراهة وليس للتحريم ، مع ما جاء في بعض الأحاديث من تجويز إطلاق بعض تلك الألفاظ .
قوله : « وليقل : سيدي ومولاي » السيادة مع كون الله- جل وعلا- هو السيد ، لكن السيادة بالإضافة لا بأس بها ؛ لأن للبشر سيادة تناسبه .(42/235)
« ومولاي » : المولى يأتي على معان كثيرة ، ومخاطبة البشر بقول : " مولاي " أجازه طائفة من أهل العلم ، بناء على هذا الحديث ، وقد جاء في صحيح مسلم النهي عن أن يقول : مولاي ، فقال : « لا تقولوا مولاي إنما مولاكم الله » أو نحو ذلك ، وهذا الحديث أعله بعض أهل العلم بأنه نقل بالمعني ، فهو شاذ من جهة اللفظ ، ومعارض لهذا الحديث الذي هو نص في إجازة ذلك ، فالصحيح جواز إطلاق لفظ " مولاي " و " سيدي " ، ونحو ذلك ؛ لأن المراد بالسيادة هنا سيادة تناسب البشر ، وكذلك قول : مولاي مراد به ما يناسب البشر من ذلك ، فليس اللفظان في مقام الربوبية المطلقة ؛ لأنها أعظم درجة ، ولأن العبودية لا تكون إلا لله- جل وعلا- وإطلاق ذلك على البشر لا يجوز .
فتحصل من ذلك : أن هذه الألفاظ- كما ذكرنا- يجب أن يحترز فيها ، وأن يتجنب ما ينافي الأدب مع مقام ربوبية الله- جل وعلا- وأسمائه سبحانه وتعالى ، وعليه فلا يكون جائزا أن يقول : عبدي وأمتي ، أو أن يقول : أطعم ربك ، وضئ ربك ، ونحو ذلك .(42/236)
هذا كله مختص بالتعبيد أو الربوبية للمكلفين ، أما إضافة الربوبية إلى غير المكلف فلا بأس بها ؛ لأن حقيقة العبودية لا تتصور فيها ، كأن تقول : رب الدار ، ورب المنزل ، ورب المال ، ونحو ذلك ، فإن الدار ، والمنزل ، والمال ، ليست بأشياء مكلفة بالأمر والنهي فلهذا لا تنصرف الأذهان أو يذهب القلب إلى أن ثمت نوعا من عبودية هذه الأشياء لمن أضيفت إليه ، بل إن ذلك معروف أنه إضافة ملك ؛ لأنها ليست مخاطبة بالأمر والنهي وليس يحصل منها خضوع أو تذلل .(42/237)
" باب لا يرد من سأل بالله "
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سأل بالله فأعطوا ومن استعاذ بالله فأعيذوا ومن دعاكم فأجيبوا ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه » (1) . رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح .
فيه مسائل :
الأولى : إعاذة من استعاذ بالله .
الثانية : إعطاء من سأل بالله .
الثالثة : إجابة الدعوة .
الرابعة : المكافأة على الصنيعة .
الخامسة : أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه .
السادسة : قوله : حتى تروا أنكم قد كافأتموه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أبو داود (1672) والنسائي 5 / 82 وصححه النووي في « رياض الصالحين » (653).(42/238)
هذا الباب مع الباب الذي قبله ومع ما سبقه- كما ذكرنا- كلها في تعظيم الله- جل وعلا- وربوبيته وأسمائه وصفاته ؛ لأن تعظيم ذلك من إكمال التوحيد ومن تحقيق التوحيد ، ومن سأل بالله- جل جلاله- فقد سأل بعظيم ، ومن استعاذ بالله فقد استعاذ بعظيم ، بل استعاذ بمن له هذا الملكوت ، وله تدبير الأمر - جل وعلا- فكيف يرد من جعل مالك كل شيء وسيلة ؟ ولهذا كان من تعظيم الله التعظيم الواجب ألا يرد أحد سأل بالله- جل وعلا - فإذا سأل سؤالا وجعل الله- جل وعلا- هو الوسيلة فإنه لا يجوز أن يرد تعظيما لله- جل وعلا- والذي في قلبه تعظيم الله- جل وعلا- ينتفض إذا ذكر الله كما قال سبحانه : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] بمجرد ذكر الله تجل القلوب لعلمهم بالله- جل وعلا- وما يستحق ، وعلمهم بتدبيره وملكوته وعظمة صفاته وأسمائه- جل وعلا- فإذا سأل أحد بالله فإن قلب الموحد لا يكون رادا له ؛ لأنه معظم لله مجل لله- جل وعلا- فلا يرد أحدا جعل وسيلته إليه رب العزة سبحانه وتعالى .(42/239)
ومن أهل العلم من قال : إن السائل بالله قد تجب إجابته ويحرم رده ، وقد لا يجب ذلك ، وهذا القول هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار عدد من المحققين بعده ، وهو القول الثالث في المسألة .
وأما القول الأول : فهو أن من سأل بالله حرم أن يرد مطلقا .
والقول الثاني : أن من سأل بالله استحب إجابته ، وكره رده .
ومراد شيخ الإسلام رحمه الله بحالة الوجوب : أن يتوجه السؤال لمعين في أمر معين ، يعني : ألا يكون السائل سأل عددا من الناس بالله ، ليحصل على شيء ؛ فلهذا لم يدخل فيه السائل الفقير الذي يأتي فيسأل هذا ويسأل هذا ، كما لم يدخل فيه من يكون كاذبا في سؤاله ، أما إذا لم يتوجه لمعين في أمر معين ، فإنه لا يجب عليه أن يؤتيه مطلبه ، ويجوز له أن يرد سؤاله ، وعلى هذا التفصيل يكون للمسألة ثلاثة أحوال :
حال يحرم فيها رد السائل ، وحال يكره فيها رد السائل ، وحال يباح فيها رد السائل بالله .
فيحرم رد السائل بالله : إذا توجه لمعين في أمر معين ، كما إذا خصك بهذا التوجه ، وسألك بالله أن تعينه وأنت قادر على أن تؤتيه مطلوبه .(42/240)
ويستحب : إذا كان التوجه ليس لمعين ، كأن يسأل أشخاصا كثيرين ، ويباح : إذا كان من سأل بالله يعرف منه الكذب .
قوله : " باب لا يرد من سأل بالله " فيه عموم لأجل الحديث الوارد .
" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سأل بالله فأعطوه » : وإنما وجب إعطاؤه تعظيما لله- جل وعلا- . قوله : « ومن استعاذ بالله فأعيذوه » من استعاذ منك بالله فيجب أن تعيذه ، فمن قال : أعوذ بالله منك ، تعظيما لله- جل جلاله- تجيبه إلى ذلك وتتركه ؛ لأن من استعاذ بالله فقد استعاذ بأعظم مستعاذ به ؛ وفي قصة الجونية التي دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام واقترب منها ، قالت له : أعوذ بالله منك ، فابتعد عنها عليه الصلاة والسلام وقال : « لقد استعذت بمعاذ ، الحقي بأهلك » (1) . فلما استعاذت بالله منه تركها عليه الصلاة والسلام .
قوله : « ومن دعاكم فأجيبوه » عامة أهل العلم على أن هذا مخصوص بدعوة العرس ، وأما سائر الدعوات فهي على الاستحباب .
_________
(1) أخرجه البخاري (5254).(42/241)
قوله : « ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه » من صنع إليك معروفا فكافئه ، ولتكن مكافأته من جنس معروفه ، إن كان معروفه من جهة المال فكافئه من جهة المال ، وإن كان معروفه من جهة الجاه فكافئه من جهة الجاه ، وهكذا .
وعلاقة هذا بالتوحيد كما قال المحققون : أن الذي صنع له معروف يكون في قلبه ميل ونوع تذلل وخضوع في قلبه واسترواح لهذا الذي صنع إليه المعروف ، ومعلوم أن تحقيق التوحيد لا يتم إلا بأن يكون القلب خاليا من كل ما سوى الله- جل جلاله- وأن يكون ذله وخضوعه وعرفانه بالجميل هو لله - جل وعلا- وتخليص القلب من ذلك يكون بالمكافأة على المعروف ، وأنه إذا أدى إليك معروفا فخلص القلب من رؤية ذلك المعروف بأن ترد إليه معروفه ؛ ولهذا قال : « فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه » ، لأجل أن يتخلص القلب من أثر ذلك المعروف ، فترى أنك دعوت له بقدر ترجو معه أنك قد كافأته ، وهذا لتخليص القلب مما سوى الله- جل وعلا- وهذه مقامات لا يدركها إلا أرباب الإخلاص ، وتحقيق التوحيد جعلنا الله وإياكم منهم .(42/242)
" باب (1) لا يسأل بوجه الله إلا الجنة "
عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يسأل بوجه الله إلا الجنة » (2) . رواه أبو داود .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب .
الثانية : إثبات صفة الوجه .
الشرح :
هذا باب : « لا يسأل بوجه الله إلا الجنة » ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة : في أن تعظيم صفات الله- جل وعلا- الذاتية والفعلية من تحقيق التوحيد ، ومن كمال الأدب والتعظيم لله- جل وعلا- ، فإن تعظيم الله- جل جلاله- وتعظيم أسمائه وصفاته يكون بأمور كثيرة ، منها : ألا يسأل بوجه الله أو بصفات الله- جل جلاله- إلا المطالب العظيمة التي أعلاها الجنة .
قوله : « لا يسأل » هذا نفي مضمن النهي المؤكد ، كأنه قال : لا يسأل أحد بوجه الله إلا الجنة ، أو لا تسأل بوجه الله إلا الجنة ، فعدل عن النهي إلى النفي لكي يتضمن أن هذا منهي عنه وأنه لا يسوغ وقوعه أصلا لما يجب من تعظيم الله- جل جلاله- وتعظيم توحيده ، وتعظيم أسماء الله- جل وعلا- وصفاته .
_________
(1) الشيخ- رحمه الله- صنع هذا كصنيع البخاري في صحيحه ، والبخاري في صحيحه على ثلاثة أصناف : تارة يضيف فيقول : باب كذا ، وتارة يقول : باب فتقول : باب وتكمل ، أو تقول : باب وتسكت ثم تكمل الكلام ، فهذه ثلاثة أصناف في البخاري جارية في هذا الكتاب .
(2) أخرجه أبو داود (1671) وله شاهد من حديث أبي موسى أخرجه الطبراني في « الدعاء » (2112) بإسناد حسن.(42/243)
قوله : « بوجه الله » وجه الله- جل جلاله- صفة ذات من صفاته سبحانه ، وهو غير الذات . والوجه في اللغة : ما يواجه به ، وهو مجمع أكثر الصفات في اللغة ، فالله- جل وعلا- متصف بالوجه على ما يليق بجلاله وعظمته ، نثبت ذلك إثباتا نعلم أصل المعنى ، ولكن كمال المعنى أو الكيفية فإننا نكل ذلك إلى عالمه وإلى المتصف به- جل جلاله- ولكن نثبت على أصل عدم التمثيل والتعطيل ، كما قال- جل وعلا- : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى : 11] .(42/244)
قوله : « إلا الجنة » الجنة : هي دار الكرامة التي أعدها الله- جل وعلا- للمكلفين من عباده الذين أجابوا رسله ، ووحدوه ، وعملوا صالحا ، وهي أعظم مطلوب لأن الحصول عليها حصول على أعظم ما يسر به العبد ؛ . فلهذا كان من غير السائغ واللائق بل كان من غير الجائز أن يسأل الله- جل وعلا- بنفسه أو بوجهه أو بصفة من صفاته أو باسم من أسمائه الحسنى إلا أعظم مطلوب ، فإن الله- جل جلاله- لا يسأل بصفاته الأشياء الحقيرة الوضيعة ؛ بل يسأل بها أعظم المطلوب ، وذلك لكي يتناسب السؤال مع وسيلة السؤال ، وهذا معنى هذا الباب ، وهو أن من تعظيم صفات الله- جل وعلا- أن لا تدعو الله بها إلا في الأمور الجليلة ، فلا تسأل الله- جل وعلا- بوجهه أو باسمه الأعظم أو نحو ذلك في أمور حقيرة وضيعة لا تناسب تعظيم ذلك الاسم .(42/245)
" عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يسأل بوجه الله إلا الجنة » رواه أبو داود ودلالة الحديث على ما بوب له الإمام المصنف - رحمه الله تعالى- ظاهرة جلية ، وقد قال العلماء هنا : إن وجه الله- جل جلاله- يسأل به الجنة ، ولا يجوز أن يسأل به غيرها إلا ما كان وسيلة إلى الجنة ، أو كان من الأمور العظيمة التي هي من جنس السؤال بالجنة ، أو من لوازم السؤال بالجنة كالنجاة من النار ، وكالتثبيت عند السؤال ، ونحو ذلك .
فالأمر المطلوب الجنة أو ما قرب إليها من قول أو عمل ، والنجاة من النار أو ما قرب إليها من قول وعمل ، فهذا يجوز أن تسأل الله- جل وعلا- إياه متوسلا بوجهه العظيم سبحانه وتعالى .
وأما غير الوجه من الصفات أو من الأسماء فالأدب أن لا يسأل به إلا المطالب العظيمة ، أما المطالب الوضيعة أو غيرها مما ليس بعظيم ، فلا يتوسل إليها بصفات الله الجليلة العظيمة ، بل يقال : اللهم أعطني كذا ، اللهم أسألك كذا ، والله أعلم .(42/246)
" باب ما جاء في اللو "
وقول الله تعالى : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [آل عمران : 154] . وقوله : { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آل عمران : 168] .
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجزن ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآيتين في آل عمران .
الثانية : النهي الصريح عن قول : " لو " إذا أصابك شيء .
الثالثة : تعليل المسألة ؛ بأن ذلك يفتح عمل الشيطان .
الرابعة : الإرشاد إلى الكلام الحسن .
الخامسة : الأمر بالحرص على ما ينفع ، مع الاستعانة بالله .
السادسة : النهي عن ضد ذلك وهو العجز .
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (2664).(42/247)
قلب الموحد المؤمن ، لا يكون محققا مكملا للتوحيد حتى يعلم أن كل شيء بقضاء الله- جل وعلا- وبقدره ، وأن ما فعله سببا من الأسباب والله- جل وعلا- ماض قدره في خلقه ، وأنه مهما فعل فإنه لن يحجز قدر الله- جل وعلا- ، فإذا كان كذلك كان القلب معظما لله- جل وعلا- في تصرفه في ملكوته ، وكان القلب لا يخالطه تمني أن يكون شيء فات على غير ما كان ، وأنه لو فعل كذا لتغير ذلك السابق ، بل الواجب أن يعلم أن قضاء الله نافذ ، وأن قدره ماض ، وأن ما سبق من الفعل قد قدره الله- جل وعلا- وقدر نتائجه ، فالعبد لا يمكنه أن يرجع إلى الماضي فيغير . وإذا استعمل لفظ (لو) أو لفظ (ليت) وما أشبهها من الألفاظ التي تدل على الندم ، وعلى التحسر على ما فات ، فإن ذلك يضعف القلب ، ويجعله متعلقا بالأسباب ، منصرفا عن الإيقان بتصريف الله- جل وعلا- في ملكوته ، وكمال التوحيد إنما يكون بعدم الالتفات إلى الماضي فإن الماضي الذي حصل إما أن يكون مصيبة أصيب بها العبد فلا يجوز له أن يقول : لو فعلت كذا لما حصل كذا ، بل الواجب عليه أن يصبر على المصيبة ، وأن يرضى بفعل الله- جل وعلا- ويستحب له الرضى بالمصيبة .(42/248)
وإذا كان ما أصابه في الماضي معصية فإن عليه أن يسارع في التوبة والإنابة وأن لا يقول : لو كان كذا لم يكن كذا بل يجب عليه أن يسارع في التوبة والإنابة حتى يمحو أثر المعصية .
فتبين أن ما مضى من المقدر للعبد معه حالان : إما أن يكون ذلك الذي مضى مصايب ، فحالها كما ذكرنا ، وإما أن يكون معايب ومعاصي فالواجب عليه أن ينيب وأن يستغفر وأن يقبل على الله . - جل جلاله- وقد قال سبحانه : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [طه : 82] .
والشيطان يدخل على القلب ، فيجعله يسيء الظن بربه- جل وعلا- وبقضائه وبقدره ، وإذا دخلت إساءة الظن بالله ضعف التوحيد ولم يحقق العبد ما يجب عليه من الإيمان بالقدر والإيمان بأفعال الله- جل جلاله- ؛ ولهذا عقد المصنف هذا الباب ؛ لأن كثيرين يعترضون على القدر من جهة أفعالهم ، ويظنون أنهم لو فعلوا أشياء لتغير الحال والله- جل وعلا- قد قدر الفعل وقدر نتيجته ، فالكل موافق لحكمته سبحانه وتعالى .(42/249)
" وقول الله تعالى : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [آل عمران : 154] وقوله : { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آل عمران : 168] " : تقدم أن قول (لو) في الماضي لا يجوز وأنه محرم ودليل ذلك واضح من الآيتين . ومناسبة الآيتين للباب ظاهرة : وهو أن التحسر على الماضي بالإتيان بلفظ (لو) إنما هو من خصال المنافقين قال- جل وعلا- عن المنافقين : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وقال : { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } وهذا في قصة غزوة أحد كما هو معروف ، فهذا من كلام المنافقين ، فيكون استعمال (لو) من خصال النفاق ، وهذا يدل على حرمتها .(42/250)
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجزن ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن (لو) ، تفتح عمل الشيطان » : وجه مناسبة هذا الحديث : قوله : « وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا » و(لو) هنا كانت على الماضي ، وقوله : (فلا تقل) نهي ، والنهي للتحريم ؛ وهذا لأنه سوء ظن ؛ ولأنه فتح عمل الشيطان ، فالشيطان يأتي المصاب فيغريه بـ(لو) حتى إذا استعملها ضعف قلبه وعجز ، وظن أنه سيغير من قدر الله شيئا ، وهو لا يستطيع أن يغير من قدر الله شيئا ، بل قدر الله ماض ؛ ولهذا أرشده عليه الصلاة والسلام أن يقول : « قدر الله وما شاء فعل » ؛ لأن ذلك راجع إلى قدره وإلى مشيئته ، هذا كله من النهي والتحريم راجع إلى ما كان من استعمال (لو) أو (ليت) وما شابههما من الألفاظ في التحسر على الماضي ، وتمني أن لو فعل كذا حتى لا يحصل له ما سبق ، كل ذلك فيما يتصل بالماضي .(42/251)
أما المستقبل كأن يقول : لو يحصل لي كذا وكذا في المستقبل ، فإنه لا يدخل في النهي ؛ لأنها حينئذ تكون للتعليق في المستقبل ، وترادف (إن) .(42/252)
فاستعمال (لو) في المستقبل الأصل فيه الجواز ، إلا إن اقترن بذلك اعتقاد أن فعله سيكون حاكما على القدر كاعتقاد بعض الجاهليين ، أنه إن حصل لي كذا فعلت كذا ، تكبرا وأنفة واستعظاما لفعلهم وقدرتهم ، فإن هذا يكون من المنهي ؛ لأن فيه تجبرا وتعاظما ، والواجب على العبد أن يكون ذليلا ؛ لأن القضاء والقدر ماض ، وقد يحصل له الفعل ولكن ينقلب على عقبيه كحال الذي قال الله- جل وعلا- فيه : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ }{ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [التوبة : 75- 77] فإنهم قالوا : لئن كان لنا كذا وكذا لنفعلن كذا وكذا ، فلما أعطاهم الله- جل وعلا- المال بخلوا به وتولوا وهم معرضون ، فهذا فيه نوع تحكم على القدر وتعاظم ، فاستعمال (لو) في المستقبل إذا كانت في الخير مع رجاء ما عند الله بالإعانة على أسباب الخير فهذا جائز ، أما إذا كان على وجه(42/253)
التجبر والاستعظام ، فإنه لا يجوز ؛ لأن فيه نوع تحكم على القدر .(42/254)
" باب النهي عن سب الريح "
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم أنا نسألك من خير هذه الريح ، وخير ما فيها ، وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح ، وشر ما فيها ، وشر ما أمرت به » (1) . " صححه الترمذي .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الريح .
الثانية : الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره .
الثالثة : الإرشاد إلى أنها مأمورة .
الرابعة : أنها قد تؤمر بخير ، وقد تؤمر بشر .
الشرح :
الريح مخلوق من مخلوقات الله مسخر ، وهي واحدة الرياح ، يجريها الله- جل وعلا- كما يشاء ، وهي-كالدهر- لا تملك شيئا ، ولا تدبر أمرا ، فسب الريح كسب الدهر يرجع في الحقيقة إلى أذية الله- جل وعلا- ؛ لأن الله هو الذي يصرف الريح كيف يشاء ، فيجعل الريح تأتي بأمر مكروه ؛ ليذكر العباد بالتوبة والإنابة ؛ ويذكر بمعرفة قدرته عليهم ، وأنه لا غنى لهم عنه- جل وعلا- طرفة عين . وهو الذي يجعل الرياح بشرا ، فيسخرها- جل وعلا- لما فيه مصلحة العباد .
_________
(1) أخرجه الترمذي (2252) وقال : حديث حسن صحيح.(42/255)
فهذا الباب عقده لبيان تحريم سب الريح ، كما عقد ما قبله لبيان أن سبب الدهر لا يجوز ومحرم ؛ لأنه أذية لله- جل وعلا- وهذا الباب من جنس ذاك ، لكن هذا يكثر وقوعه ، فأفرده لكثرة وقوعه ، وللحاجة إلى التنبيه عليه .
قوله " باب النهي عن سب الريح " النهي للتحريم ، وسب الريح يكون بشتمها أو بلعنها ، وكما ذكرنا في باب الدهر ، فإنه ليس من سبها أن توصف بالشدة ، كقول الله- جل وعلا- : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [الحاقة : 6- 7] فهذا وصف للريح بالشدة ، ومثل ذلك وصفها بالأوصاف التي يكون فيها شر على من أتت عليه كقوله : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات : 42] فمثل هذا ليس من المنهي عنه .(42/256)
" عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح ، وخير ما فيها وخير ما أمرت به » هذا يدل على أن الريح يكون فيها خير ، وتؤمر وتنهى ، والله- جل وعلا- يرسل الرياح كيف يشاء ، ويصرفها أيضا- جل وعلا- عمن يشاء ، فهي مسخرة بأمره- جل وعلا- والملائكة هي التي تصرف الريح بأمره- جل وعلا- فللريح ملائكة تصرفها كيف شاء ربنا - جل وعلا وتقدس وتعاظم- فيكون فيها خير أو يكون فيها عذاب ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « إذا رأيت ما تكرهون فقولوا . . ، » فأرشدهم " إلى القول الآتي .(42/257)
« وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى شيئا في السماء أقبل وأدبر ، ودخل وخرج ، ورئي ذلك في وجهه ، حتى تمطر السماء ، فيسرى عنه ، ويسر عليه الصلاة والسلام ، قالت له عائشة : يا رسول الله لم ذاك ؟ قال : " ألم تسمعي لقول أولئك- أو كما قال عليه الصلاة والسلام- : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا }» [الأحقاف : 24- 25] " (1) .
فالخوف من الله- جل جلاله- إذا ظهرت هذه الحوادث أو التغيرات في السماء أو في الأرض واجب ، والله- جل وعلا- يتعرف إلى عباده بالرخاء ، كما أنه يتعرف إليهم بالشدة ، حتى يعرفوا ويعلموا ربوبيته وقهره وجبروته ، ويعلموا حلمه وتودده ورحمته أيضا لعباده .
فعلى العبد إذا رأى ما يكره أن يتضرع إلى الله ، ويستغيث به ، . وأن يسأله بقوله : « اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به » صححه الترمذي .
_________
(1) أخرجه البخاري (3206) ومسلم (899).(42/258)
أسأل الله- جل وعلا- أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وأن يجعل وسيلتنا التوحيد وأن يجعل وسيلتنا إليه الإخلاص ، فإنا مذنبون ، ولولا رحمة الله لهلكنا ، اللهم فاغفر جما وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .(42/259)
" باب قول الله تعالى : { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [ آل عمران : 154 ]
وقوله تعالى : { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [الفتح : 6] . ، قال ابن القيم في الآية : فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته ، ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يظهره الله على الدين كله ، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح ، وإنما كان هذا ظن السوء ؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه ، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق ، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره ، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد ، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة ، فذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار .(42/260)
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله ، وأسماءه وصفاته ، وموجب حكمته وحمده ، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا ، وليتب إلى الله ، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء ، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك : هل أنت سالم ؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية آل عمران .
الثانية : تفسير آية الفتح .
الثالثة : الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر .
الرابعة : أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات ، وعرف نفسه .
الشرح :(42/261)
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد : أن الله - جل وعلا - موصوف بصفات الكمال ، وله - جل وعلا - أفعال الحكمة ، وأفعال العدل ، وأفعال الرحمة والبر ، فهو سبحانه كامل في أسمائه ، كامل في صفاته ، كامل في ربوبيته ، ومن كماله في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته أنه لا يفعل الشيء إلا لحكمة بالغة ، والحكمة هي : أنه - جل وعلا - يضع الأمور في مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها ، وهذا دليل الكمال . فالله - جل وعلا - له صفات الكمال ، وله نعوت الجلال والجمال ، فلهذا وجب لكماله - جل وعلا - أن يظن به ظن الحق ، وأن لا يظن به ظن السوء ، وأن يعتقد فيه ما يجب لجلاله - جل وعلا - من تمام الحكمة ، وكمال العدل ، وكمال الرحمة ، وكمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ، فالذي يظن به - جل وعلا - أنه يفعل الأشياء لا عن حكمة فإنه قد ظن به ظن النقص ، وهو ظن السوء الذي ظنه أهل الجاهلية ، فظن غير الحق بالله تعالى مناف للتوحيد ، وقد يكون منافيا لكمال التوحيد ، فمنه ما يكون صاحبه خارجا عن ملة الإسلام أصلا ، كظن غير الحق بالله تعالى في بعض مسائل القدر - كما سيأتي . ومنه ما هو مناف لكمال التوحيد ، كعدم الإيمان بالحكمة ، أو بأفعال(42/262)
الله - جل وعلا - المنوطة بالعلل التي هي منوطة بحكمته سبحانه البالغة ؛ ولهذا قال - جل وعلا - : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 149 ] في الرد على القدرية المشركة ، وقد قال أيضا - جل وعلا - : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [ القمر : 5 ] ، فالله - جل وعلا - موصوف بكمال الحكمة ، وكمال الحمد على أفعاله ؛ لأن أفعال الله - جل وعلا - قسمان : أفعال ترجع إلى الحكمة والعدل ، وأفعال ترجع إلى الفضل والنعمة والرحمة والبر بالخلق ، فالله - جل وعلا - يفعل هذا وهذا ، وحتى أفعاله التي هي أفعال بر وإحسان هي منوطة بالحكم العظيمة ، وكذلك الأفعال التي قد يظهر للبشر أنها ليست في صالحهم أو ليست موافقة للحكمة ، فإن ظن الحق بالله - جل وعلا - أن يظن به ، وأن يعتقد أنه ليس ثم شيء من أفعاله إلا وهو موافق لحكمته - جل وعلا - العظيمة ، إذ هو العزيز القهار ، الفعال لما يريد .(42/263)
فالواجب - تحقيقا للتوحيد - أن يظن العبد بالله - جل وعلا - ظن الحق . وأما ظن السوء فهو ظن الجاهلية ، الذي هو مناف لأصل التوحيد في بعض أحواله ، أو مناف لكمال التوحيد ، فترجم المؤلف - رحمه الله - بهذا الباب ليبين أن ظن السوء بالله - جل وعلا - من خصال أهل الجاهلية ، وهو مناف لأصل التوحيد ، أو مناف لكماله بحسب الحال .(42/264)
" باب قول الله تعالى : { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } [ آل عمران : 154 ] . الظن يطلق ويراد به الاعتقاد ، وقد يراد به ما يسبق إلى الوهم ، يعني : ما يسبق إلى الذهن ، فهم يعتقدون ، أو يسبق إلى أذهانهم - بما معهم من الشرك - أن الله - جل وعلا - ليست أفعاله أفعال حق ، والله سبحانه هو الحق ، وأفعاله كلها أفعال الحق ، وذلك الظن هو ظن الجاهلية ، فكل من ظن بالله غير الحق ، فقد ظنَّ ظنَّ الجاهلية ، بمعنى أنه ظن بالله - جل وعلا - غير الكمال ، فهذا هو ظن الجاهلية . وأما ظن أهل التوحيد والإسلام فإنهم يظنون ، يعني : يعتقدون ويعلمون ويسبق إلى أذهانهم في أي فعل يحصل لهم أن الله - جل وعلا - موصوف بالكمال وبالحكمة البالغة ، فسر ذلك - جل وعلا - بقوله : { يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ } ، وهذا فيه إنكار للحكمة ، أو إنكار للقدر ، { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ، وهذا في الرد على هؤلاء المنافقين أو المشركين .(42/265)
" وقوله : { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [ الفتح : 6 ] : يؤخذ من كلام ابن القيم الذي أورده المصنف أن السلف فسروا هذا الظن السوء بأحد ثلاثة أشياء ، وكلها صحيح : الأول : إنكار القدر .
الثاني : إنكار الحكمة .
الثالث : إنكار نصر الله - جل وعلا - لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أو لدينه أو لعباده الصالحين ، فهذه ثلاثة أشياء ، ووجه كون إنكار القدر ظنا بالله ظن السوء : أن تقدير الأمور قبل وقوعها من آثار عزة الله - جل وعلا - وقدرته ؛ فإن العاجز هو الذي تقع معه الأمور استئنافا عن غير تقدير سابق ، وأما الذي لا يحصل معه أمر حتى يقدره قبل أن يوقعه ، فيقع على وفق ما قدر ، فهو ذو الكمال ، وهو ذو العزة ، وهو الذي لا يغالب في ملكوته ؛ ولهذا قال الشاعر في وصف رجل كامل :
لأنت تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
الخلق هنا بمعنى التقدير ، يعني : لأنت تقطع ما قدرت ، وبعض القوم - وهم الناقصون إما لعدم قدرتهم ، أو لعدم عزتهم ، أو لجهلهم - يخلق ، يعني : يقدر الأشياء ، ثم لا يفري ، أي : لا يستطيع أن يقطعها على وفق ما يريد .(42/266)
فإنكار القدر ظن بالله - جل وعلا - ظن السوء ؛ لأن فيه نسبة النقص لله - جل وعلا - ، والله - جل وعلا - هو الكامل في أسمائه ، الكامل في صفاته - جل وعلا - ، الذي يجير ولا يجار عليه ، والذي إليه الأمر كله ، كما قال هنا : { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ؛ فلهذا كان كل ما يحصل من الرب - جل وعلا - في بريته موافقا لقدره السابق الذي هو دليل كمال حكمته ، وعلمه ، وخلقه ، وعموم مشيئته .(42/267)
أما التفسير الثاني : فهو إنكار الحكمة ، وحكمة الله - جل وعلا - ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع السلف ، واسم الله ( الحكيم ) مشتمل على صفة الحكمة ، فإنه - جل وعلا - حكيم ، بمعنى : حاكم ، وحكيم ، بمعنى : محكم للأمور ، وحكيم ، بمعنى : أنه ذو الحكمة البالغة ، فهذه ثلاثة تفسيرات لاسم الله ( الحكيم ) . وكلها صحيحة ، وكلها يستحقها الله - جل وعلا - ، فإنه - جل وعلا - حكيم بمعنى حاكم ، وحكيم بمعنى محكم ، كما قال : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] ، وقال : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } [ الملك : 3 ] ؛ لأجل إحكامه ، وقال سبحانه وتعالى - أيضا : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ يونس : 101 ] ، ونحو ذلك من دليل إحكامه - جل وعلا - لما خلق ، والثالث : أنه ذو الحكمة ، والحكمة في صفة الله - جل وعلا - تفسر كما تقدم - بأنها وضع الأمور في مواضعها ، الموافقة للغايات المحمودة منها ؛ ولهذا قال أهل السنة والجماعة ، أهل الأثر الفقهاء بالكتاب والسنة : إن أفعال الله - جل وعلا - معللة ، وكل فعل يفعله الله - جل وعلا - فله علة من أجلها فعل ، وهذه العلة هي حكمته(42/268)
سبحانه وتعالى ، فإن أفعال الله - جل وعلا - منوطة بالعلل ، وهذا أنكره المعتزلة ؛ لأنهم قدرية ، وأنكره الأشاعرة ؛ لأنهم جبرية ، فقالوا : إن أفعال الله - جل وعلا - ليست مرتبطة بالحكم ، وهو يفعل لا عن حكمة ، وهذا سوء ظن بالله - جل وعلا - ؛ ولهذا أورد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب ليبين أن تحقيق التوحيد ، وتحقيق كمال التوحيد أن توقن بالحكمة البالغة لله - جل وعلا - ، ومن نفى الحكمة في أفعال الله فهو مبتدع ، توحيده قد انتفى عنه كماله ؛ لأن بدعته شنيعة ، وكل البدع تنفي كمال التوحيد ، ومنها ما ينفي أصل التوحيد .(42/269)
والتفسير الثالث - في ظن أهل الجاهلية وأهل النفاق ظن السوء بالله - جل وعلا - : أن الله - جل وعلا - لا ينصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الله - جل وعلا - لا ينصر كتابه ، أو أنه يجعل رسوله أو دينه في اضمحلال حتى يذهب ذلك الدين ، هذا ظن سوء بالله - جل وعلا - . ولهذا كان من براهين النبوات عند أهل السنة : أنه لم يدع أحد النبوة وهو كاذب في دعواه ، إلا ويخذل ويضمحل أمره ، ومن براهينها : أن كل نبي قال إنه مرسل من عند الله - جل وعلا - أيد بالآيات والبينات ، ونصر على عدوه ، وجعل دينه وأهل دينه في عزة على من سواهم ، كما قال - جل وعلا - : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] ، وقال - جل وعلا - : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ }{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ }{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، فظن أهل الجاهلية أن الخير أو الدين سيضمحل ، وأنهم إذا بذلوا إطفاء ذلك الأمر وحاربوه بكل ما أوتوا من وسيلة وقاوموهم فإنه سينتهي ، وهذا مع كونه عملا محرما(42/270)
لما يشتمل عليه من الظلم ، فإنه أيضا سوء ظن بالله - جل وعلا - وغرور بالقوة وبالنفس ، والله - جل وعلا - ناصر رسله ، والله - جل وعلا - ناصر عباده المؤمنين ، ولكن قد يبتلي الله - جل وعلا - المؤمنين بعدم النصرة والظهور زمنا طويلا قد يبلغ مئات السنين ، كما حصل في قصة نوح عليه السلام : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [ العنكبوت : 14 ] ، ثم بعد ذلك نصره الله - جل وعلا - وهذا الظن السيئ يحصل - كما ذكر ابن القيم - من كثير من أهل الصلاح ، بل من كثير من الناس ، بل قد يحصل من بعض المنتسبين إلى العلم ، وسبب حدوث ذلك الظن السيئ في القلوب عدم العلم بما يستحقه الله - جل وعلا - وما أوجبه - جل وعلا - من الصبر والأناة ، ونحو ذلك من الواجبات .
فالمسألة متصل بعضها ببعض ، فالذي يخالف ما أمر الله - جل وعلا - به شرعا فيما يتصل بنصرة الدين ، فإنه قد يقع في سوء ظن بالله - جل جلاله - وهذا مما ينافي كمال التوحيد الواجب .(42/271)
ولهذا يجب على المؤمن أن يتحرز كثيرا ، وأن يحترس من سوء الظن بالله - جل وعلا - فإن بعض الناس قد ينال الشيء فيرى أنه يستحق أكثر منه ، وقد يحصل له الشيء بقضاء الله وبقدره فيظن أنه لا يستحق ذلك الشيء ، أو أن الذي ينبغي أن يصاب به هو غيره ، فينظر إلى فعل الله - جل وعلا - وقضائه وقدره على وجه الاتهام ، وقل من يسلم باطنا وظاهرا من ذلك ، فكثيرون قد يسلمون ظاهرا ، ولكن في الباطن يقوم بقلوبهم ظن الجاهلية ، واعتقاد السوء ؛ ولهذا قال - جل وعلا - في الآية التي في صدر الباب : { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } ، والظن محله القلب ؛ فلهذا يجب على المؤمن أن يخلص قلبه من كل ظن بالله غير الحق ، وأن يتعلم أسماء الله - جل وعلا - وصفاته ، وأن يتعلم ، آثار ذلك في ملكوت الله ، حتى لا يقوم بقلبه إلا أن الله جل جلاله - هو الحق ، وأن فعله حق ، حتى ولو كان في أعظم خطب ، ولو أصيب بأكبر مصيبة ،أو أهين بأعظم إهانة ، فإنه يعتقد أن فيما أصابه حكمة ، لتمام ملك الله - جل وعلا - وحكمته ، وأنه يتصرف في خلقه كيف يشاء ، وأن العباد مهما بلغوا فإنهم يظلمون أنفسهم ، والله - جل وعلا - يستحق الإجلال والتعظيم ، فخلص قلبك -(42/272)
أيها المسلم ، وخاصة طالب العلم - من كل ظن سوء بالله - جل وعلا - ، فلا تظنن في أمر قدر الله وجوده أن غيره أفضل منه ، وأن عدم حصوله أصلح ، ولا في أمر قدر الله عدم كونه أن وجوده أولى ، فإن كل ذلك سوء ظن بالله - جل وعلا - ؛ ولهذا قال العلماء في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم : « إياكم والحسد ، فإنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب » (1) سبب ذلك أن الحاسد ظن أن من أعطاه الله - جل وعلا - هذه النعمة فإنه لا يستحقها ، فحسده وتمنى زوالها عنه ، فصار في ظن سوء بالله - جل وعلا - ولهذا أكل ظنه حسناته ، كما أكلت النار الحطب ، نسأل الله - جل وعلا - السلامة والعافية من أن نظن بالله - جل وعلا - غير الحق ، ونسأله أن يجعلنا من المعظمين له ، ومن المجلين لأمره ونهيه ، المعظمين لحكمته سبحانه وتعالى .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4903) .(42/273)
" باب ما جاء في منكري القدر "
وقال ابن عمر : والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ، ثم استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : « الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره » (1) .
_________
(1) أخرجه مسلم (8).(42/274)
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة » . يا بني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من مات على غير هذا فليس مني » (1) ، وفي رواية لأحمد : « إن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة » (2) ، وفي رواية لابن وهب : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار » (3) وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال : أتيت أبي بن كعب فقلت : في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي ، فقال : لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار ، قال : فأتيت عبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن ثابت ، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه
_________
(1) أخرجه أبو داود (4700) .
(2) أخرجه أحمد 5 / 317 والترمذي (2156) و (3316) .
(3) أخرجه ابن وهب في « القدر » ( 26 ) ، وابن أبي عاصم في « السنة » (111) .(42/275)
وسلم (1) . حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه .
فيه مسائل :
الأولى : بيان فرض الإيمان بالقدر .
الثانية : بيان كيفية الإيمان به .
الثالثة : إحباط عمل من لم يؤمن به .
الرابعة : الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به .
الخامسة : ذكر أول ما خلق الله .
السادسة : أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة .
السابعة : براءته - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يؤمن به .
الثامنة : عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء .
التاسعة : أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته ؛ وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط .
الشرح :
هذا " باب ما جاء في منكري القدر " . ومناسبة هذا الباب للذي قبله : أن إنكار القدر سوء ظن بالله - جل وعلا - ويكون هذا الباب كالتفصيل لما اشتمل عليه الباب الذي قبله .
_________
(1) أخرجه أحمد 5 / 182 و 185 و 189 ، وأبو داود (4699 ) ، وابن ماجه ( 77 ) .(42/276)
ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة : وهي أن الإيمان بالقدر واجب ، ولا يتم توحيد العبد حتى يؤمن بالقدر ، وإنكار القدر كفر بالله - جل وعلا - ينافي أصل التوحيد ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : القدر نظام التوحيد ، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده . يعني : أن الإيمان بالقدر هو النظام ، أي : السلك الذي تجتمع وتنظم فيه مسائل التوحيد حتى يقوم عقدها في القلب ، فمن كذب بالقدر يكون قد قطع السلك ، فنقض ذلك التكذيب أمور التوحيد ، وهذا ظاهر ؛ فإن أصل الإيمان أن يؤمن بالأركان الستة التي منها الإيمان بالقدر ، كما ذكر ذلك الشيخ في حديث ابن عمر .(42/277)
والقدر في اللغة : هو التقدير كما هو معروف ، وهو وضع الشيء على نحو ما بما يريده واضعه ، يقال : قدر الشيء تقديرا ، وقدره قدرا وقدرا ، وفي العقيدة عرفه بعض أهل العلم بقوله : إن القدر هو علم الله السابق بالأشياء ، وكتابته لها في اللوح المحفوظ ، وعموم مشيئته - جل وعلا - وخلقه للأعيان والصفات القائمة بها ، وهذا التعريف صحيح ؛ لأنه يشمل مراتب القدر الأربع . وهذه المراتب على درجتين : الدرجة الأولى : ما يسبق وقوع المقدر ، وذلك مرتبتان : الأولى : الإيمان بالعلم السابق ، والثانية : الإيمان بكتابة الله - جل وعلا - لعموم الأشياء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » ، فقوله : « قدر مقادير الخلق » يعني : كتبها .(42/278)
والدرجة الثانية : ما يقارن وقوع المقدر ، فهذا له مرتبتان : الأولى منهما : هي مرتبة عموم المشيئة ، فإن الله - جل وعلا - ما شاءه كان ، وما لم يشأ لم يكن ، والعبد لا يشاء شيئا إلا إذا كان الله - جل وعلا - قد شاءه ، كما قال تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ الإنسان : 30 ] ، وقال : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 29 ] ، فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله - جل وعلا - والمرتبة الثانية : وهي الإيمان بأن الله - جل وعلا - خالق لكل شيء ، للأعيان ، وللصفات التي تقوم بالأعيان ، أما الأعيان والذوات فإن الله - جل وعلا - خالقها باتفاق أهل الإسلام ، يعني : الله - جل وعلا - هو الخالق للإنسان ، وللحيوان ، وللسماء وللأرض . وكذلك الإيمان بأن الصفات التي تقوم بتلك الأعيان الله - جل وعلا - هو الخالق لها ، ومن ذلك أفعال العباد ، ففعل العبد داخل في عموم خلقه - جل وعلا - قال تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] ، وكلمة ( شيء ) تعرف بأنها ما يصح أن يعلم ، فكل ما يصح أن يعلم يقال عنه شيء(42/279)
؟ فلهذا يدخل في عموم قوله : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } العباد ، وأفعال العباد ، فهذه أربع مراتب . وإنكار القدر الذي بوب عليه الشيخ - رحمه الله - يصدق على إنكار أي مرتبة من هذه المراتب ، ولا يقال عن أحد : إنه مؤمن بالقدر إلا إذا سلم بها جميعا ، وآمن بها جميعا ؛ لدلالة النصوص على ذلك .
فمن منكري القدر : القدرية الغلاة ، وهم نفاة القدر الذين أنكروا العلم السابق ، فهؤلاء كفار ، ينافي فعلهم أصل التوحيد ، فمن أنكر العلم السابق ، فقد أنكر القدر إنكارا انتفى معه أصل التوحيد ، وكذلك من ينكر الكتابة ، فإن إنكار الكتابة السابقة - مع العلم بالنصوص الدالة عليها - مناف لأصل التوحيد ، ولا يستقيم معه الإيمان .
وأما إنكار المرتبتين الأخيرتين : عموم المشيئة ، وعموم الخلق ، كإنكار عموم خلق الله للأفعال كما هو مذهب المعتزلة ونحوهم ، فإنه ينافي كمال التوحيد ، ولا يحكم عليهم بالكفر والخروج من الإسلام بذلك ، وإن بدعوا ، وضللوا بسببه .
فإنكار القدر منه ما هو كفر مخرج من التوحيد مخرج من الملة ، ومنه ما هو دون ذلك ، ويكون منافيا لكمال التوحيد ، وبهذا يظهر صلة هذا الباب بكتاب التوحيد .(42/280)
" وقال ابن عمر : والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر " ، وإنما كان كذلك لأن الله - جل وعلا - لا يقبل من مسلم - إذ الإسلام شرط في صحة قبول الأعمال - ومن أنكر القدر ، ولم يؤمن بالقدر ، فإنه لا يكون مسلما ، فلا يقبل منه عمل - إذا - ، ولو أنفق مثل أحد ذهبا ، حتى يؤمن بالقدر .(42/281)
" ثم استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : « الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره » ، وفي قوله : « تؤمن بالقدر خيره وشره » دليل على أن القدر منه ما هو خير ، ومنه ما هو شر ، أي : خير بالنسبة لابن آدم ، وشر بالنسبة لابن آدم ، فالمكلف قد يكون عليه قدر هو بالإضافة إليه خير ، وقد يكون عليه القدر بالإضافة إليه شر ، وأما بالنسبة لفعل الله - جل وعلا - فالله - جل وعلا - أفعاله كلها خير ؛ لأنها موافقة لحكمته العظيمة ؛ فلهذا جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ثنائه على ربه : « والشر ليس إليك » (1) . فالله - جل وعلا - ليس في فعله شر ، فالشر بما يضاف للعبد ، فإذا أصيب العبد بمصيبة فهي شر بالنسبة إليه ، أما بالنسبة لفعل الله فهي خير ، لأنها موافقة لحكمة الله - جل وعلا - البالغة ، والله - سبحانه وتعالى - له الأمر كله .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 771 ) .(42/282)
" وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك " (1) ، وهذا لأن القضاء والقدر قد فرغ منه ، يعني : تقدير الأمور قد فرغ منه ، والله - جل وعلا - قد قدر الأشياء وقدر أسبابها ، فالسبب الذي سيفعله المختار من عباد الله مقدر ، كما أن نتيجته مقدرة ، ومن الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله - جل وعلا - جعلك مختارا ، وأنك لست مجبورا ، فالقول بالجبر لا يستقيم مع الإيمان بالقدر ؛ لأن الإيمان بالقدر إيمان معه الإيمان بأن العبد مختار وليس بمجبر ؛ لأن التكليف وقع بذلك .
والجبرية طائفتان : طائفة غلاة ، وهم الجهمية ، وغلاة الصوفية الذين يقولون إن العبد كالريشة في مهب الريح ، وحركاته حركات اضطرارية ، ومنهم طائفة ليست بالغلاة ، وهم الأشاعرة ونحوهم الذين يقولون بالجبر في الباطن ، وبالاختيار في الظاهر ، ويقولون : إن العبد له كسب ، وهذا الكسب هو أن يكون العبد في الفعل الذي فعله محلا لفعل الله - جل وعلا - فيفعل به ، فيكون هو محلا للفعل ، ويضاف الفعل إليه على جهة الكسب ، على ما هو معروف في موضعه من التفاصيل في كتب العقيدة المطولة .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4700) .(42/283)
" سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة » (1) : هذا فيه دليل على مرتبة الكتابة ، وقوله : « إن أول ما خلق الله القلم » معناه - على الصحيح عند المحققين - إنه حين خلق الله القلم ، فـ ( أول ) هنا ظرف بمعنى : حين و ( إن ) اسمها ضمير الشان محذوف : إنه أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، يعني : حين خلق الله القلم قال له : اكتب ، فيكون قول اكتب هذا من جهة الظرفية ، يعني : حين خلق الله القلم قال له : اكتب .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4700) .(42/284)
وأما أول المخلوقات فالعرش سابق في الخلق على القلم ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الذي في الصحيح : « قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء » (1) ، فقوله - صلى الله عليه وسلم : « إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب » يدل على أنه حين خلق الله القلم قال له : اكتب ، والكتابة كانت بعد الخلق مباشرة ، ودل الحديث الثاني على أن العرش كان سابقا ، والماء كان سابقا أيضا ؛ ولهذا فالقول الصحيح : أن العرش مخلوق قبل القلم ، كما قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية :
والناس مختلفون في القلم الذي ... كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو بعده ... قولان عند أبي العلى الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه ... عند الكتابة كان ذا أركان
إلى آخر ما في هذا الباب من مباحث في الإيمان بالقدر .
_________
(1) أخرجه مسلم (2653) .(42/285)
" باب ما جاء في المصورين "
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » أخرجاه (1) .
ولهما عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله » (2) ، ولهما عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم » (3) ، ولهما عنه مرفوعا : « من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ » (4) . ولمسلم عن أبي الهياج قال : قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته » (5) .
فيه مسائل :
الأولى : التغليظ الشديد في المصورين .
الثانية : التنبيه على العلة ؛ وهو ترك الأدب مع الله ؛ لقوله : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " .
الثالثة : التنبيه على قدرته وعجزهم ؛ لقوله : " فيخلقوا ذرة أو حبة ، أو شعيرة " .
الرابعة : التصريح بأنهم أشد الناس عذابا .
_________
(1) أخرجه البخاري (5953) و (7559) ومسلم (2111) .
(2) أخرجه البخاري (5954) ومسلم (2106) .
(3) أخرجه البخاري (2225) و(5963) و (7042) ومسلم (2110) .
(4) أخرجه البخاري (5963) ومسلم (2110) .
(5) أخرجه مسلم (969) .(42/286)
الخامسة : أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور جهنم .
السادسة : أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح .
السابعة : الأمر بطمسها إذا وجدت .
الشرح :
هذا " باب ما جاء في المصورين " ، والمصورون جمع تصحيح للمصور ، والمصور : هو الذي يقوم بالتصوير ، والتصوير معناه : التشكيل ، تشكيل الشيء حتى يكون على هيئة صورة لآدمي أو لغير آدمي من حيوان ، أو نبات ، أو جماد ، أو سماء ، أو أرض ، فكل هذا يقال له : مصور ، إذا كان يشكل بيده شيئا على هيئة صورة معروفة ، هذا من حيث المعنى ، أما من حيث الحكم فسيأتي بيانه إن شاء الله .
وقوله : " باب ما جاء في المصورين " يعني : من الوعيد ، ومن الأحاديث التي فيها أنهم جعلوا أنفسهم أندادا لله - جل وعلا - .(42/287)
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد : أن التوحيد هو ألا يجعل لله ند فيما يستحقه - جل وعلا - . والتصوير تنديد من جهة أن المصور جعل فعله ندا لفعل الله - جل وعلا - ؛ ولهذا يدخل الرضى بصنيع المصور في قول الله - جل وعلا : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] ؛ إذ ذلك حقيقته أنه جعل هذا المصور شريكا لله - جل وعلا - في هذه الصفة ، مع أن تصويره ناقص وتصوير الله - جل وعلا - على جهة الكمال ، لكن من جهة الاعتقاد لما جعل هذا المخلوق مصورا ، والله - جل وعلا - هو الذي ينفرد بتصوير المخلوقات كما يشاء ، كان من كمال التوحيد أن لا يرضى بالتصوير ، وأن لا يفعل أحد هذا الشيء ؛ لأن ذلك لله - جل وعلا - ، فالتصوير من حيث الفعل مناف لكمال التوحيد ، وهذا هو مناسبة إيراد هذا الباب في هذا الكتاب .
والمناسبة الثانية له : أن التصوير وسيلة من وسائل الشرك بالله - جل وعلا - والشرك ووسائله يجب وصدها وغلق الباب ؛ لأنها تفضي بالناس إلى الإشراك ، فمناسبة الباب لكتاب التوحيد من جهتين : الجهة الأولى : جهة المضاهاة بخلق الله ، والتمثل بخلق الله - جل وعلا - وبصفته واسمه .(42/288)
والثانية : أنه وسيلة للإشراك ، نعم قد لا يشرك بالصورة المعينة التي عملت ، ولكن الصورة من حيث الجنس هي وسيلة - ولا شك - من وسائل الإشراك ؛ فإن شرك كثير من المشركين كان من جهة الصور ، فكان من تحقيق التوحيد ألا تقر الصور لأجل أن الصورة وسيلة من وسائل المشركين في عباداتهم .
" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » أخرجاه : هذا الحديث فيه معنى وفيه تمثيل ، أما المعنى هو قوله : « ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي » ، فسبب الظلم أن العبد اعتدى ، فأراد أن يخلق كخلق الله - جل وعلا - والمقصود بذلك أن يصور كتصوير الله - جل وعلا - لخلقه .(42/289)
ثم قال معجزا : « فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » معلوم أن الذرة - وهي واحدة الذر ، صغار النمل - من أصغر المخلوقات . وحبة الحنطة ، أو حبة البر ، أو حبة الرز ، يمكن أن تصنع ، ولكن لا يمكن أن تكون كخلق الله - جل وعلا - وكذلك الشعيرة يمكن أن تصنع شكلا وأن تصور شكلا ، لكن يعجز أن يجعل فيها الحياة ، فمثلا حب البر ، أو الشعير ، أو الرز ، أو نحو ذلك مما صنعه الله ينبت إذا وضع في الأرض ، أما ما صنعه المخلوق فإنه لا تكون فيه حياة ، فالرز الصناعي الذي يأكل ، لو رمي في الأرض لما خرج منه ساق ، ولما خرج له جذر ، ولما كانت منه حياة ، وأما الذي يكون من خلق الله - جل وعلا - فهو الذي أودع فيه سر حياة ذلك الجنس من المخلوقات ؛ ولهذا قال بعض أهل العلم : إن هذا على وجه التعجيز ، فالذي يخلق كخلق الله - جل وعلا - هذا من جهة ظنه ، أما من جهة الحقيقة فإنه لا أحد يخلق كخلق الله ؛ ولهذا صار ذلك مشبها نفسه بالله - جل وعلا - فصار أظلم الخلق .(42/290)
استدل مجاهد وغيره من السلف بقوله : « أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » على أن تصوير ما لا حياة فيه أو ما لا روح فيه محرم ؛ لأنه ذكر الحبة والشعيرة ، قالوا : فتصوير الأشجار وتصوير الحب ونحو ذلك لا يجوز .
وجمهور العلماء على خلاف ذلك ، وأن الأمر في ذلك للتعجيز ، وليس لجهة التعليل ؛ ولهذا قال في الحديث الذي بعده : « من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ » ، فلما قال : « كلف أن ينفخ فيها الروح » علمنا أن النهي في التصوير كان منصبا على ما فيه روح ، يعني : على ما حياته بحلول الروح فيه ، أما ما حياته بالنماء كالمزروعات والأشجار ونحوها ، فليس داخلا في ذلك .
" ولهما عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله » : هذا فيه تنبيه على العلة ، وهذه العلة هي المضاهاة بخلق الله - جل وعلا - وهي إحدى العلتين اللتين من أجلهما حرم التصوير ، فالتصوير حرم ، وصار صاحبه من أشد الناس عذابا لأجل أنه يضاهي بخلق الله - جل وعلا - ولأن الصورة وسيلة للشرك .(42/291)
والمضاهاة بخلق الله - جل وعلا - التي رتب عليها أن يكون فاعلها أشد الناس عذابا يوم القيامة ، عند كثير من العلماء : محمولة على المضاهاة التي تكون كفرا ؛ لأن المضاهاة في التصوير يكون كفرا في حالتين : الحالة الأولى : أن يصور صنما ليعبد ، أو يصور إلها ليعبد ، كأن يصور لأهل البوذية صورة بوذا ، أو يصور للنصارى المسيح ، أو يصور أم المسيح ونحو ذلك ، فتصوير ما يعبد من دون الله - جل وعلا - مع العلم بأنه يعبد هذا كفر بالله - جل وعلا - ؛ لأنه صور وثنا ليعبد ، وهو يعلم أنه يعبد ، فيكون شركا أكبر ، وكفرا بالله - جل وعلا - .(42/292)
والحالة الثانية : أن يصور الصورة ويزعم أنها أحسن من خلق الله - جل وعلا - فيقول : هذه أحسن من خلق الله ، أو أنا فقت في خلقي وتصويري ما فعل الله - جل وعلا - فهذا كفر أكبر ، وشرك أكبر بالله - جل جلاله - وهذا هو الذي حمل عليه هذا الحديث ، وهو قوله : « أشد الناس عذابا يوم القيامة الذي يضاهئون بخلق الله » ، وأما المضاهاة بالتصوير عامة بما لا يخرجه من الملة ، كالذي يرسم بيده ، أو ينحت التمثال ، أو ينحت الصورة مما لا يدخل في الحالتين السابقتين فهو كبيرة من الكبائر ، وصاحبها ملعون ومتوعد بالنار .
" ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم » : قوله : " نفس " أفاد أن ذلك التصوير وقع لشيء تحله النفس ، وهو الحيوانات أو الآدمي ؛ ولهذا كان الوعيد منصبا على ذلك .
« كل مصور في النار » : هذا يفيد أن التصوير كبيرة من الكبائر .
" ولهما عنه مرفوعا : « من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ » ؛ لأن الروح إنما هي من أمر الله - جل وعلا .(42/293)
" ولمسلم عن أبي الهياج قال : قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته » . في هذا الحديث التنبيه على العلة الثانية من علتي تحريم التصوير ، وهي أنه وسيلة من وسائل الشرك ، ووجه الاستدلال من هذا الحديث : أنه قرن بين الصورة والقبر المشرف في وجوب إزالتهما ، وبقاء القبر المشرف وسيلة من وسائل الشرك ، وكذلك لاقتران بقاء الصورة أيضا وسيلة من وسائل الشرك ، « فالنبي - عليه الصلاة والسلام - بعث عليا أن لا يدع صورة إلا طمسها » ؛ لأن الصور من وسائل الشرك ، وأن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ؛ لأن بقاء القبور مشرفة يدعو إلى تعظيمها وذلك من وسائل الشرك .
وهناك خلاف في بعض مسائل التصوير محله كتب الفقه والفتوى من جهة التصوير الحديث الذي يكون بالآلات كالتصوير بالكاميرات المختلفة أو بالفيديو أو التليفزيون أو نحو ذلك .(42/294)
" باب ما جاء في كثرة الحلف "
وقول الله تعالى : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للكسب » أخرجاه (1) ، وعن سلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه » (2) . رواه الطبراني بسند صحيح . وفي الصحيح عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم » ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا ؟ « ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن » (3) ، وفيه عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته » .
وقال إبراهيم : كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار (4) .
_________
(1) أخرجه البخاري (2087) ومسلم (1606) .
(2) أخرجه الطبراني في « الكبير » (6111) و« الصغير » (821) .
(3) أخرجه مسلم (2535) .
(4) أخرجه مسلم (2533) .(42/295)
فيه مسائل :
الأولى : الوصية بحفظ الإيمان .
الثانية : الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة .
الثالثة : الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه .
الرابعة : التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي .
الخامسة : ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون .
السادسة : ثناؤه - صلى الله عليه وسلم - على القرون الثلاثة أو الأربعة ، وذكر ما يحدث بعدهم .
السابعة : ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون .
الثامنة : كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد .
الشرح :(42/296)
هذا " باب ما جاء في كثرة الحلف " ، ومن الظاهر والبين أن القلب المعظم لله - جل جلاله - الذي إن ذكر الله وجل قلبه أنه لا يكثر الحلف ، لأن كثرة الحلف لا تجامع كمال التوحيد ، فإن من كمل التوحيد في قلبه ، أو قارب الكمال لا يجعل الله - جل وعلا - عرضة لأيمانه ، فالذي إذا تكلم تكلم بالحلف ، وإذا باع باع بالحلف ، وإذا اشترى اشترى بالحلف ونحو ذلك ، لم يعظم التعظيم الواجب لله - جل وعلا - فإن الواجب على العبد أن يعظم الله - جل وعلا - وأن لا يكثر اليمين ، والمقصود باليمين والحلف هنا : اليمين المعقودة التي عقدها صاحبها ، أما لغو اليمين فإن هذا معفو عنه ، مع أن الكمال فيه والمستحب أن يخلص الموحد لسانه وقلبه من كثرة الحلف في الإكرام ونحوه بلغو اليمين .(42/297)
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة ؛ وهي أن : تحقيق التوحيد وكمال التوحيد لا يجامع كثرة الحلف ، فكثرة الحلف منافية لكمال التوحيد ، والحلف - كما ذكرنا - هو تأكيد الأمر بمعظم ، وهو الله - جل جلاله . فمن أكد وعقد اليمين بالله - جل وعلا - وأكثر من ذلك ، فإنه لا يكون معظما لله - جل جلاله ، إذ الله - سبحانه وتعالى - يجب أن يصان اسمه ، ويصان الحلف به واليمين به إلا عند الحاجة إليها ، أما كثرة ذلك وكثرة مجيئه على اللسان ، فهو ليس من صفة أهل الصلاح ؛ ولهذا أمر الله - جل وعلا - بحفظ اليمين ، فقال : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] ، وهذا الأمر للوجوب ؛ لأنه وسيلة لتحقيق تعظيم الله - جل وعلا - وتحقيق كمال التوحيد ، فقوله : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } هذا إيجاب لأن يحفظ العبد يمينه ، فلا يحلف عاقدا اليمين إلا على أمر شرعي بين ، أما أن يحلف دائما ، ويجعل الله - جل وعلا - في يمينه ، فهذا ليس من تعظيم أسماء الله - جل جلاله .(42/298)
" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب » : وسبب ذلك أنه نوع عقوبة ، فإن هذا الذي يبيع بالحلف فإنه تنفق سلعته ، ولكن كسبه يمحق ؛ لأن محق الكسب يكون نوع عقوبة لأجل أنه لم يفعل الواجب من تعظيم الله - جل وعلا - .
" وعن سلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : أشيمط زان » : يعني من شمطه الشيب إذا خالطه ، وقلبه متعلق بالزنى - والعياذ بالله - فإنه ليس عنده من الدواعي للزنى ما يجعله يقبل عليه ، كحال من كان شابا ، فهو قد وخطه الشيب ، فيكون إذا في قلبه حب المعصية ، وليست مسألة غلبة الشهوة ؛ ولهذا كان من أهل هذا الوعيد العظيم بألا يكلمه الله ، ولا يزكيه ، وله عذاب أليم .
« وعائل مستكبر » : هذا النوع الثاني - وهو من جنس الأول - فإن الاستكبار - كما قال العلماء - يكون استكبارا في الذات ، ويكون استكبارا للصفات .(42/299)
فإذا كان استكبارا للصفات فهذا محرم ، ولكنه أهون كمن يكون ذا جاه ورفعة ، فيتكبر لأجل ما له من الجاه والرفعة ، فهذا لا يجوز ، لكن عنده ما يوقع في قلبه الشبهة والفتنة بالتكبر أو الاستكبار ، أو يكون ذا مال ، أو يكون ذا جمال ، أو يكون ذا سمعة ، ونحو ذلك ، فعنده سبب يجعله يتكبر ، وهذا يكثر في أهل الغنى ، فإن كثيرا من أهل الغنى يكون عندهم نوع تكبر على الفقراء ، أو من ليس من أهل الغنى ، فهذا عنده وصف جعله يتكبر ، لكن الأعظم أن يكون تكبره في الذات بألا يكون عنده صفة تجعله متكبرا ، وهذا هو النوع الأول ، وهو استكبار للذات يرى نفسه كبيرا ، ويتعاظم ، وهو ليس عنده شيء من الصفات تجعله كذلك ، فهذا يكون فعله كبيرة من الكبائر العظيمة ، ويدخل في هذا الحديث : « وعائل مستكبر » ؛ لأن العائل - وهو الفقير الكثير العيال - ليس عنده من الصفات ما يكون الاستكبار شبهة عنده ، أو لأجل تلك الصفات ، أو يكون ثم فتنة عنده ، إلا لما قام في نفسه الخبيثة من الكبر .(42/300)
« ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه » : وهذا موطن الشاهد من الحديث ، وهو ظاهر في أنه مذموم ، وأنه صاحب كبيرة ؛ لأنه جعل الله بضاعته ، يبيع باليمين ، ويشتري باليمين ، وهذا لا يجامع كمال التوحيد ، بل لا يجامع تعظيم الله - جل وعلا - التعظيم الواجب ، فيكون مرتكبا لمحرم .
والحديثان اللذان بعده واضحان ، وأما قول إبراهيم النخعي : " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار " : فهذا فيه تأديب السلف لأولادهم ولذراريهم على تعظيم الله - جل وعلا - فإن الشهادة والعهد يجب أن يقترنا بالتعظيم لله - جل وعلا - والخوف من لقائه ، والخوف من الظلم ، فكانوا يؤدبون أولادهم على ذلك حتى يتمرنوا وينشئوا على تعظيم توحيد الله وتعظيم أمر الله ونهيه .(42/301)
" باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه "
وقوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } . [ النحل : 91 ](42/302)
وعن بريدة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، فقال : « اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأتيتهن ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجرى عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم . وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم(42/303)
أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا » (1) رواه مسلم .
فيه مسائل :
الأولى : الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين .
الثانية : الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا .
الثالثة : قوله « اغزوا بسم الله في سبيل الله » .
الرابعة : قوله : « قاتلوا من كفر بالله » .
الخامسة : قوله : « استعن بالله وقاتلهم » .
السادسة : الفرق بين حكم الله ، وحكم العلماء .
السابعة : في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا ؟
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (1731) .(42/304)
هذا باب عظيم من الأبواب الأخيرة في هذا الكتاب ، وهو " باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - " ، وذكر الإمام - رحمه الله - لهذا الباب لأجل حديث بريدة الذي ساقه وفيه « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه » ، وهذا لأجل تعظيم الرب - جل وعلا - وتعظيم رسوله - صلى الله عليه وسلم ، فإن تعظيم الله - جل وعلا - في مناجاته وفي سؤاله ، وفي العبادة له - جل وعلا - وفي التعامل مع الناس ، هذا كله من كمال التوحيد ، وهذا الباب من جهة التعامل مع الناس ، كما جاء في الباب الذي قبله ، فالباب الذي قبله وهو " باب ما جاء في كثرة الحلف " متعلق بتعظيم الله - جل وعلا - حين التعامل مع الناس ، و" باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه " متعلق بالتعامل مع الناس في الحالات العسرة الصعبة ، وهي حال الجهاد ، فنبه بذلك على أن تعظيم الرب - جل وعلا - يجب أن يكون في التعامل ولو في أعصب الحالات ، وهي الجهاد ، فإن العبد يكون موقرا لله تعالى مجلا له ،(42/305)
معظما لأسمائه وصفاته ، ومن ذاك أن يعظم ذمة الله وذمة نبيه .
والذمة بمعنى العهد ، وذمة الله يعني : عهد الله وعهد نبيه ؛ فإنه إذا كان يعطي بعهد الله ثم يخفر ، فقد خفر عهد الله - جل وعلا - وفجر في ذلك ، وهذا مناف لكمال التوحيد الواجب ؛ لأن الواجب على العبد أن يعظم الله - جل جلاله - وألا يخفر عهده وذمته ؛ لأنه إذا أعطى بذمة الله فإنه يجب عليه أن يوفي بهذه الذمة مهما كان ، حتى لا ينسب النقص لذمة الله - جل جلاله ؛ لهذا كان إعطاء مثل هذه الكلمة مثل كثرة الحلف ، فلا يجوز أن تجعل في العهد ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، كما لا يجوز كثرة الأيمان ؛ لأن في كل منهما نقصا في تعظيم الرب - جل جلاله .(42/306)
" وقوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [ النحل : 91 ] : العهد في قوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ } فسر بالعقد ، وفسر باليمين ، فالعهد بمعنى العقد ، كما قال - جل وعلا - : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } [ الإسراء: 34 ] ، وقال - جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] ، فالعقد والعهد بمعنى ، فلهذا فسر : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } بأنها العقود التي تكون بين الناس ، وفسر أيضا بأنه اليمين ، ودل عليه قوله بعدها : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، فيجب الوفاء بالعقد والوفاء باليمين تعظيما لحق الله - جل وعلا - ؛ لأن من أعطى اليمين بالله ، فإن معناه أنه أكد وفاءه بهذا الشيء الذي تكلم به ، أكد ذلك بالله - جل جلاله - ، فإذا خالف وأخفر فمعنى ذلك أنه لم يعظم الله - جل جلاله - تعظيما خاف بسببه من أن لا يقيم ما يجب لله - جل وعلا - من الوفاء باليمين ؛ ولهذا قال : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ(42/307)
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } [ النحل : 91 ] حين استشهدتم الله - جل جلاله - أو حين حلفتم بالله - جل جلاله - ؛ ولهذا كانت كفارة اليمين واجبه على ما هو مفصل في موضعه من كتب الفقه .(42/308)
والحديث ظاهر الدلالة على ما ذكرنا ، ففيه تعظيم الله - جل جلاله - بأن لا يعطي العبد الناس بذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، بل أن يعطي بذمته هو ، وفي هذا تنبيه عظيم لأهل التوحيد وطلبة العلم الذين يهتمون بهذا العلم ، ويعرف الناس منهم أنهم يهتمون بهذا العلم ، ألا يبدر منهم ألفاظ أو أفعال تدل على عدم تخلقهم بهذا العلم ، فإن التوحيد هو مقام الأنبياء والمرسلين ، ومقام أولياء الله الصالحين ، فأن يتعلم طالب العلم مسائل التوحيد ، ثم لا تظهر على لسانه ، أو على جوارحه ، أو على تعامله لا شك أن هذا يرجع - ولو لم يشعر - إلى اتهام ما يحمله من التوحيد والعلم الذي هو علم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، فتذكر قول النبي - عليه الصلاة والسلام - هنا : « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه » لأجل أنه قد يدخل على أهل الإسلام أو على الدين نفسه من جهة فعلهم ؛ لأنهم إذا خفروا هذه الذمة رجع إخفارهم إلى ما حملوه من الإسلام ومن الدين ، فهذه مسألة عظيمة ، فينبغي أن تستحضر أن الناس ينظرون إليك - خاصة في هذا الزمان الذي هو زمان شبه وزمان فتن -(42/309)
على أنك تحمل سنة ، وتحمل توحيدا ، وعلما شرعيا ، فلا تعاملهم إلا بشيء فيه تعظيم الرب - جل وعلا - وحتى تجعل أولئك يعظمون الله - جل وعلا - بتعظيمك له ، ولا تستهن بشأن اليمين ، ولا تخفر ذمة الله ؛ لأن ذلك منقص لأثر ما تحمله من العلم والدين ، فتذكر هذا ، وتذكر أيضا قوله عليه الصلاة والسلام هنا : « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا » ، وذلك حتى إذا حصل غلط فيكون الغلط منسوبا إلى من حكم إلى هذا البشر ، ولا يكون منسوبا إلى حكم الله ، فيصد الناس عن دين الله ، وكم من الناس ممن يحملون سنة وعلما أو يشار إليهم بالاستقامة يسيئون بأفعالهم وأقوالهم لأجل عدم تعظيمهم لله - جل وعلا - وما يجب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما يدعوهم إليه الرب الكريم - جل وعلا وتعالى وتقدس - نبرأ إلى الله - جل وعلا - من كل نقص ونسأله أن يعفو ويتجاوز عنا ويرحمنا جميعا .(42/310)
" باب ما جاء في الإقسام على الله "
عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله - عز وجل - : من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له ، وأحبطت عملك » (1) رواه مسلم ، وفي حديث أبي هريرة : أن القائل رجل عابد ، قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته (2) .
فيه مسائل :
الأولى : التحذير من التألي على الله .
الثانية : كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله .
الثالثة : أن الجنة مثل ذلك .
الرابعة : فيه شاهد لقوله : « إن الرجل ليتكلم بالكلمة » إلخ .
الخامسة : أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (2621 ) .
(2) أخرجه أحمد 2 / 323 و 363 وأبو داود ( 4901 ) .(42/311)
الإقسام على الله يكون على جهتين : جهة يكون فيها التكبر والتجبر ، ورفعة هذا المتألي نفسه حتى يجعل له على الله حقا ، وهذا مناف لكمال التوحيد ، وقد ينافي أصله ، وصاحبه متوعد بالعقاب الذي جاء في مثل هذا الحديث ، فهذا يتألى على الله - جل وعلا - أن يحكم بما اختاره هو من الحكم ، فيقول : والله لا يحصل لفلان كذا ، تكبرا واحتقارا للآخرين ، فيريد أن يجعل حكم الله كحكمه تأليا واستكبارا على الله أن يفعل الله - جل وعلا - ما ظنه هو ، فهذا التألي والاستكبار نوع تحكم في أمر الله - جل وعلا - وفي فعله ، وهذا لا يصدر من قلب معظم لله - جل وعلا .(42/312)
والجهة الثانية : أن يقسم على الله - جل جلاله - لا على جهة التألي ، ولكن على جهة أن ما ظنه صحيح في أمر وقع له ، أو في أمر يواجهه ، فهذا يقسم على الله أن يكون كذا في المستقبل على جهة التذلل والخضوع لله لا على جهة التألي ، وهذا هو الذي جاء فيه الحديث : « ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره » (1) ؛ لأنه أقسم على الله ، لا على جهة التعاظم والتكبر والتألي ، ولكن على جهة الحاجة والافتقار إلى الله ، فحين أقسم أقسم محتاجا إلى الله ، وأكد ذلك بالله وبأسمائه من جهة ظنه الحسن بالله - جل وعلا - فهذا جائز ، ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ؛ لأنه قام في قلبه من العبودية لله والذل والخضوع ما جعل الله - جل وعلا - يجيبه في سؤاله ، ويعطيه طلبته ورغبته .
وأما الحال الأولى فهي حال المتكبر المترفع الذي يظن أنه بلغ مقاما بحيث يكون فعل الله - جل وعلا - تبعا لفعله ، فتكبر واحتقر غيره ، فبهذا التفصيل يتضح ما جاء في هذا الباب من الحديث .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 2703 ) ومسلم (1675) .(42/313)
عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله - عز وجل : من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ؟ » : هذا الذي قال : والله لا يغفر الله لفلان ، كان رجلا صالحا ، والآخر كان رجلا فاسقا ، فقال الرجل الصالح : والله لا يغفر الله لفلان ؛ لأن فلانا هذا كان رجلا فاسقا مريدا كثير العصيان ، فتألى هذا العابد وعظيم نفسه ، وظن أنه بعبادته لله - جل وعلا - بلغ مقاما يكون متحكما فيه بأفعال الله ، وأن الله لا يرد شيئا طلبه ، أو له أن يتحكم في الخلق ، وهذا ينافي حقيقة العبودية التي هي التذلل لله - جل وعلا - فالله - سبحانه وتعالى - عاقبه ، فقال : « من ذا الذي يتألى علي ؟ » يعني : يتعاظم ويتكبر علي ويحلف علي ؛ لأن " يتألى " من الألية ، وهي : الحلف ، ومنه قوله تعالى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 226 ] ، والإيلاء من الألية وهي : الحلف ، فيتألى ، يعني : يحلف على جهة التكبر والتعاظم .(42/314)
« ألا أغفر لفلان ، إني قد غفرت له وأحبطت عملك » : فغفر للطالح ، وأحبط عمل ذلك الرجل العابد ، وهذا يبين لك عظم شأن مخالفة تعظيم الله - جل جلاله - وعظم مخالفة توحيد الله - سبحانه وتعالى - فهذا الرجل الفاسق أتاه خير من حيث لا يشعر ، وقيلت في حقه كلمة بحسب الظاهر أنها مؤذية له ، وأن فيها من الاحتقار والازدراء له ما يجعله في ضعة بين الناس ، حيث شهد عليه هذا الصالح بقوله : « والله لا يغفر الله لفلان » ، فكانت هذه الكلمة التي ساءته وآذته فيها مصلحة عظيمة له بأن غفر له ذنبه ؛ ولهذا نبه الشيخ في مسائل الباب بمسألة معناها : أن من الابتلاء والإيذاء للشخص ما يكون أعظم أسباب الخير له . فليست العبرة باحتقار الناس ، ولا بكلامهم ، ولا بإيذائهم ، ولا بتصنيفهم للناس ، بل العبرة بحقيقة الأمر بما عند الله - جل جلاله - فالواجب على العباد جميعا أن يعظموا الله ، وأن يخبتوا إليه ، وأن يظنوا أنهم أسوأ الخلق ، حتى يقوم في قلوبهم أنهم أعظم حاجة إلى الله - جل وعلا - وأنهم لم يوفوا الله حقه ، أما التعاظم في النفس ، والتعاظم بالكلام والمدح والثناء ونحو ذلك ، فليس من صنيع المجلين لله - جل وعلا - الخائفين من تقلب(42/315)
القلوب ، فالله - جل وعلا - يقلب القلوب ، ويصرفها كيف يشاء ، فالقلب المخبت المنيب يحذر ويخاف دائما من أن يتقلب قلبه ، فينتبه للفظه ، وينتبه للحظه ، وينتبه لسمعه ، وينتبه لحركاته ، لعل الله - جل وعلا - أن يميته غير مفتون ولا مخزي .(42/316)
" باب لا يستشفع بالله على خلقه "
عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال : « جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله نهكت الأنفس ، وجاع العيال ، وهلكت الأموال ، فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ، سبحان الله !! " فما زال يسبح ، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : " ويحك أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك ، إنه لا يستشفع بالله على أحد » (1) وذكر الحديث . رواه أبو داود .
فيه مسائل :
الأولى : إنكاره على من قال : « نستشفع بالله عليك » .
الثانية : تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة .
الثالثة : أنه لم ينكر عليه قوله : « نستشفع بك على الله » .
الرابعة : التنبيه على تفسير : " سبحان الله " .
الخامسة : أن المسلمين يسألونه - صلى الله عليه وسلم - الاستسقاء .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أبو داود (4726 ) .(42/317)
« لا يستشفع » : يعني : لا يجعل الله شفيعا على الخلق ؛ لأن شأن الله - جل وعلا - أعظم وأجل من أن يستشفع به ، ويجعل واسطة للانتفاع من أحد من الخلق ، فالشفاعة المعروفة : أن تأتى إلى أحد ، وتطلب أن يكون شفيعا عند آخر ؛ لأن ذلك الآخر هو الذي يملك ما تريد والنفع عنده ، وهذا يكون واسطة ، ولا يستطيع أن ينفعك هو بنفسه إلا بأن يتوسط . والله - جل جلاله - لا يجوز أن يظن به ذلك الظن ، لأنه ظن سوء بالله - جل جلاله - فالله - سبحانه - لا يصلح أن يجعل واسطة لأحد ، أو إلى أحد من الخلق أو على أحد من الخلق ، بل هو - جل وعلا - الذي يملك الأمور جميعا ، فالاستشفاع بالله على الخلق يعني أن يجعل الله واسطة يتوسط العبد بربه على أحد من الخلق ، وهذا مناف لكمال التوحيد ، وعمل وقول من الأقوال المنافية لتعظيم الله - جل وعلا - التعظيم الواجب ؛ ولهذا ذكر الشيخ - رحمه الله - حديث جبير بن مطعم ، والشاهد منه قول الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام : « فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله » يعني : نستشفع بالله نجعل الله - جل وعلا - واسطة يتوسط لنا عندك حتى تدعو ، والله - جل وعلا - هو الملك الحي القيوم ،(42/318)
الملك الحق المبين ، نواصي العباد بيديه ، يصرفها كيف يشاء ، فشأن الله أعظم من أن يستشفع به على أحد من خلقه ، بل الرجل أو المكلف يستشفع بأحد من الخلق عند مخلوق آخر يحتاجه في شيء ، والله - جل وعلا - هو الذي يملك الأشياء جميعا ، بيده الملك والملكوت ، وهو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض ، وبيده خزائن كل شيء { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] ، فالعباد هم المحتاجون إلى الله ، وشأن الله أعظم من ذلك ، إذ المخلوق حقير وضيع بالنسبة إلى الرب - جل جلاله - فلا يصلح أن يجعل الله - جل وعلا - واسطة عنده حتى يقبل هذه الواسطة ، بل شأن الله - جل وعلا - أعظم من ذلك ؛ ولهذا قال سيد الخلق ، وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام رادا على هذا الأعرابي الذي قال : إنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : « سبحان الله ، سبحان الله !! » يعني : تنزيها ، وتعظيما لله ، وإبعادا لله عن كل وصف سوء أو شائبة نقص ، وعن كل ظن سوء به - جل وعلا .(42/319)
" فما زال يكررها حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه " : من شدة تسبيحه ، وتنزيهه لربه - جل وعلا - وهذا من الغضب لله - جل جلاله - فصلى الله وسلم على نبينا محمد ، فما كان أعلمه بربه ، وما كان أعرفه بربه .
ثم قال : « ويحك أتدري ما الله ؟ ! " إن شأن الله أعظم من ذلك ؛ إنه لا يستشفع بالله على أحد » . فالله - جل وعلا - من علم أسماءه ، وعلم الصفات المستحقة له - جل وعلا - فإنه لن يخطر بخاطره ظن سوء به - جل وعلا - أو استنقاص له - جل وعلا .
فهذا الباب فيه - كما في الأبواب قلبه - ما ينبغي أن يتحرز منه الموحد من الألفاظ التي فيها سوء ظن بالله - جل وعلا - وتنقص لمقام الربوبية لله - جل جلاله .(42/320)
" باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسده طرق الشرك "
عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال : انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : « السيد الله تبارك وتعالى » قلنا : وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طولا ، فقال : « قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان » (1) رواه أبو داود بسند جيد . وعن أنس - رضي الله عنه - أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : « يا أيها الناس قولوا بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل - » (2) ، رواه النسائي بسند جيد .
فيه مسائل :
الأولى : تحذير الناس من الغلو .
الثانية : ما ينبغي أن يقول من قيل له : أنت سيدنا .
الثالثة : قوله : « لا يستجرينكم الشيطان » مع أنهم لم يقولوا إلا الحق .
الرابعة : قوله : « ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي » .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أبو داود (4806) .
(2) أخرجه النسائي في « عمل اليوم والليلة » ( 248 ) و (249) ، وصححه ابن عبد الهادي في « الصارم المنكي » (246) .(42/321)
النبي - عليه الصلاة والسلام - حمى وحرس جناب التوحيد ، وحمى حمى التوحيد ، وسد كل طريق توصل إلى الشرك ، فإن في سنة النبي - عليه الصلاة والسلام - من الدلائل على قاعدة سد الذرائع ما يبلغ مائة دليل أو أكثر ، وأعظم الذرائع التي يجب أن تسد ذرائع الشرك التي توصل إليه ، ومن تلك الذرائع قول القائل : أنت سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا ونحو ذلك ؛ فإن مثل هذه الأقوال فيها من التعظيم الذي لا يجوز أن يواجه به بشر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو سيد ولد آدم ، كما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن كره المواجهة كما سيأتي .(42/322)
فحماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد ، وسده طرقا الشرك ، كان في جهة الاعتقادات ومن جهة الأقوال والأفعال ، فإذا تأملت سنته وما جاء في هذا الكتاب - كتاب التوحيد - وجدت أنه - عليه الصلاة والسلام - سد الباب في الاعتقادات الباطلة ، وسد الباب في الأفعال الباطلة ، كقوله : « اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (1) وسد الباب أيضا في الأقوال التي توصل إلى الغلو المذموم ، فقال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » (2) ، وهذا الباب أيضا من ذلك في بيان حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد ، فيما يتعلق بالقول الذي قد يتبعه اعتقاد .
_________
(1) تقدم .
(2) تقدم .(42/323)
" عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال : « انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : " السيد الله تبارك وتعالى " ، قلنا : وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طولا ، فقال : ( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان » رواه أبو داود بسند جيد " . في هذا الحديث أن إطلاق لفظ السيد على البشر مكروه ، ومخاطبته بذلك يجب سدها ، فلا يخاطب أحد بأن يقال له : أنت سيدنا على جهة الجمع ، وذلك لأن فيها نوع تعظيم من جهة المخاطبة ، يعني : الخطاب المباشر ، والجهة الثانية من جهة استعمال اللفظ ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - سيد كما قال عن نفسه : « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » (1) ولكن مخاطبته - عليه الصلاة والسلام - مع كونه سيدا كرهها ومنع منها ، لئلا تؤدي إلى ما هو أعظم من ذلك ، من تعظيمه والغلو فيه عليه الصلاة والسلام ، فهذه مناسبة الحديث لهذا الباب : أن في قوله عليه الصلاة والسلام : « السيد الله تبارك وتعالى » مع كونه عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم ، ما يفيد أنه عليه الصلاة والسلام حمى حمى التوحيد ، وسد الطرق الموصله للشرك ، ومنها طريق الغلو في الألفاظ .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 541 من حديث أبي سعيد الخدري وابن ماجه (4308) .(42/324)
والقول للرجل بأنه سيد ونحو ذلك إذا كان على وجه المخاطبة له ، والإضافة إلى الجمع ، أشد وأعظم مما إذا كان بدون المخاطبة والإضافة إلى الجمع . ومما ذكر العلماء : أن قوله عليه الصلاة والسلام : « السيد الله تبارك وتعالى » يدل على أنه يكره كراهة شديدة أن يقال لبشر : إنه " السيد " هكذا بالألف واللام ؛ لأن هذا قد يفهم منه استغراق معاني السيادة ؛ لأن البشر له سيادة تخصه ، ولهذا ترى الذين يشركون ببعض الأولياء كالسيد البدوي يعظمون كلمة " السيد " ، ويكثر عندهم التعبيد للسيد ، ويريدون به السيد البدوي ، فيكثر عندهم عبد السيد ونحو ذلك ، ولا يريدون به الله - جل وعلا - ولكن يريدون به ذلك الذي اتخذوه معبودا ، وتوجهوا إليه ببعض أنواع العبادة ، فيفهمون من كلمة " السيد " أنه ذو السيادة ، وذو التصرف في الأمر ، وهذا هو الذي اعتقدوه من أن للبدوي ولأمثاله تصرفا في الأرض ، وقبولا للمطالب في الحاجات .(42/325)
« قلنا : وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طولا ، فقال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان » ؛ لأن هذا فيه الثناء والمدح بالمواجهة ، وهذا من الشيطان ، فالشيطان هو الذي يفتح هذا الباب أن يمدح أحد ويعظم في مواجهته ، وذلك حتى يعظم في نفسه فيأتيه الخذلان ؛ لأن كل أحد تخلى عن ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) ، وتخلى عن الازدراء للنفس ، والذل والخضوع الذي يعلمه الله من قلبه ، فإنه يخذل ، ويأتيه الأمر على غرة ؛ ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقال مثل ذلك القول مواجهة ، ونهى عن المدح ؛ لأن فيه إضرارا بالمتكلم ، وإضرارا بالمقول فيه ذلك الكلام .(42/326)
" وعن أنس - رضي الله عنه - « أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : " يا أيها الناس قولوا بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل » - " ، رواه النسائي بسند جيد " : هو عليه الصلاة والسلام كما وصفوه هو خيرهم ، وهو سيدهم عليه الصلاة والسلام ، لكنه حمى جناب التوحيد ، وحمى حمى التوحيد ، حتى لا يستدل أحد بعده عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام على أنه يجوز أن يقال لمن ظن الناس فيه ذلك ، بل سد الباب في نفسه وهو سيد ولد آدم ، وهو خيرهم عليه الصلاة والسلام وأفضلهم ، ولكن سد الباب حتى لا يدخل أحد منه بإقراره هذا الفعل ، فيعظم أحد ويدخل الشيطان إلى ذلك المعظِّم وإلى المعظَّم ، فيجعل القلوب تتعلق بذلك المعظَّم حتى يشرك به ، وحتى يعظم بما لا يجوز له من التعظيم .(42/327)
وهذا الباب كالجامع لما يجب من سد الذرائع الموصلة للشرك ، وهذا واجب على المسلم أن يسد كل طريق أو سبيل يجعل نفسه تتعاظم ، لأن أعظم مقامات الشرف لك أن يعلم الله - جل وعلا - منك أنك متذلل خاضع بين يديه ، وأنك خائف وجل تدعوه راغبا راهبا ، فهذه صفة الخلص من عباد الله - جل وعلا - الذين وعدهم الله - جل وعلا - بالخيرات فقال سبحانه : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء : 90 ] ، والخشوع نوعان : خشوع في القلب ، وخشوع في الجوارح ، وخشوع القلب بالتطامن والذل والخضوع بين يدي الله ، وخشوع الجوارح بسكونها ، كما قال - جل وعلا : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً } [ فصلت : 39 ] .(42/328)
" باب ما جاء في قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] " .(42/329)
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : « جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء على إصبع والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : " أنا الملك " فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه ، تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }» ، وفي رواية لمسلم : « والجبال والشجر على إصبع ثم يهزهن فيقول : أنا الملك أنا الله » ، وفي رواية للبخاري : « يجعل السماوات على إصبع والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع » (1) . ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا : « يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ، ثم يطوي الأرضين السبع ، ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون » (2) ، وروي عن ابن عباس قال : « ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم » (3) . وقال ابن جرير حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
_________
(1) أخرجه البخاري (4811) و (7414) و (7415) و (7513) ومسلم (2786) .
(2) أخرجه مسلم (2788) .
(3) أخرجه ابن جرير في « التفسير » 24 / 25 .(42/330)
قال : قال ابن زيد : حدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس » (1) ، وقال : قال أبو ذر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض » . (2) ، وعن ابن مسعود قال : " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام ، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام ، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء ، والله فوق العرش ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم " . أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله ، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله ، (3) قاله الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - قال : وله طرق .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير (5794) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (591) .
(2) أخرجه ابن جرير « في التفسير » (5794) .
(3) أخرجه ابن خزيمة في « التوحيد » (594) ، وأبو الشيخ في « العظمة » (203) و (279) .(42/331)
وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : " بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله - سبحانه وتعالى - فوق ذلك ، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم » (1) أخرجه أبو داود وغيره .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير قوله تعالى : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
الثانية : أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكروها ولم يتأولوها .
الثالثة : أن الحبر لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه ، ونزل القرآن بتقرير ذلك .
الرابعة : وقوع الضحك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم .
الخامسة : التصريح بذكر اليدين ، وأن السماوات في اليد اليمنى ، والأرضين في الأخرى .
السادسة : التصريح بتسميتها الشمال .
السابعة : ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4723) والترمذي (3317) ، وقال : حديث حسن غريب .(42/332)
الثامنة : قوله : « كخردلة في كف أحدكم » .
التاسعة : عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء .
العاشرة : عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي .
الحادية عشرة : أن العرش غير الكرسي والماء .
الثانية عشرة : كم بين كل سماء إلى سماء .
الثالثة عشرة : كم بين السماء السابعة والكرسي .
الرابعة عشرة : كم بين الكرسي والماء .
الخامسة عشرة : أن العرش فوق الماء .
السادسة عشرة : أن الله فوق العرش .
السابعة عشرة : كم بين السماء والأرض .
الثامنة عشرة : كثف كل سماء خمس مائة سنة .
التاسعة عشرة : أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمس مائة سنة . والله أعلم .
الشرح :(42/333)
هذا " باب ما جاء في قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] " ختم به إمام هذه الدعوة شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - كتاب التوحيد وختمه هذا الكتاب بهذا الباب ختم عظيم ؛ لأن من علم حقيقة ما اشتمل عليه هذا الباب من وصف الله - جل وعلا - وعظمة الله - جل وعلا - فإنه لا يملك إلا أن يذل ذلا حقيقيا ، ويخضع خضوعا عظيما للرب - جل جلاله - والصحيح والواقع من حال الخلق أنهم لم يوقروا الله - جل وعلا - { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ، لا من جهة ذاته وقدرته وصفاته ، ولا من جهة حكمته وبعثه لرسله ، قال - جل وعلا : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 91 ] ، فهذا في إنزال الكتاب وفي إرسال الرسول ، وقال - جل وعلا - في بيان صفة ذاته : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، وقوله :(42/334)
{ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } يعني : ما عظموه حق تعظيمه ، ولو عظموه حق تعظيمه لما عبدوا غيره ، ولما أطاعوا غيره ، ولعبدوه حق العبادة ، ولذلوا له ذلا وخضوعا دائما ، وأنابوا إليه بخشوع وخشية ، ولكنهم ما قدروه حق قدره ، يعني : ما عظموه حق تعظيمه الذي يجب لقدره - جل وعلا - وعظم ذاته - سبحانه وتعالى - وصفاته .(42/335)
ثم بين - جل وعلا - شيئا من صفة ذاته العظيمة الجليلة ، فقال سبحانه : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فإن عقل الإنسان لا يمكن أن يتحمل صفة الله - جل وعلا - على ما هو عليه ، والله - جل وعلا - بين لك بعض صفاته فقال سبحانه : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ، فإذا نظرت إلى هذه الأرض على عظمها وعلى غرور أهلها فيها ، ونظرت إلى حجمها وإلى سعتها وإلى ما فيها ، فهي قبضة الرحمن - جل وعلا - يعني : في داخل قبضة الرحمن - جل وعلا - يوم القيامة ، فنفهم من ذلك أن كف الرحمن - جل وعلا - وأن يد الرحمن - جل وعلا - أعظم من هذا ، وكذلك السماوات مطويات كطي السجل في كف الرحمن - جل وعلا - كما قال سبحانه هنا : { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ، وقال في آية سورة الأنبياء : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] ، فهذه صفات الله - جل جلاله ، فإن الأرض التي يتعاظمها أهلها ، والسماوات التي يتعاظمها من نظر فيها ، هي صغيرة وآيلة في الصغر إلى(42/336)
أن تكون في كف الرحمن - جل وعلا - والله - سبحانه وتعالى - أعظم من ذلك وأجل ، بل هو - سبحانه وتعالى - الواسع الحميد الذي له الحمد كله ، وله الثناء كله ، ويبين لك عظمة الرب - جل وعلا - في ذاته ، وعظمة الرب - جل وعلا - في صفاته ، وإذا تأملت هذه الأحاديث وما اشتملت عليه تبين لك غرور أهل الأرض في الأرض ، وبسعتها وبقواهم فيها ، وأنها بالنسبة إلى السماء تعتبر صغيرة ، وأن بين الأرض وبين السماء الأولى مسيرة خمسمائة سنة في مسير الراكب السريع ، وكذلك بين السماء الأولى والسماء الثانية مسيرة خمسمائة سنة ، وهكذا حتى تنتهي السبع سماوات ، وكذلك السماوات السبع متناهية في الصغر أمام الكرسي ، ولهذا مثل النبي - عليه الصلاة والسلام - السماوات السبع في الكرسي الذي هو فوق ذلك ، وهو أكبر بكثير من السماوات بقوله : « إن السماوات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس » يعني : هذه السماوات صغيرة جدا بالنسبة إلى الكرسي ، بل كدراهم سبعة ألقيت في ترس ، والترس مكتنفها متقوس عليها ، فهي صغيرة فيه وهو واسعها كما قال - جل وعلا - عن الكرسي : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة :(42/337)
255 ] ، فالأرض التي أنت فيها نقطة صغيرة جدا بالنسبة إلى السماء ، والأرض والسماوات مجتمعة في غاية الصغر بالنسبة للكرسي ، والكرسي أيضا فوقهما ، وفوق ذلك عرش الرحمن - جل وعلا ، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ، فهو متناهي الصغر بالنسبة إلى عرش الرحمن ، والذي هو مستو عليه - جل وعلا - وهو فوقه - سبحانه وتعالى ، ولو تأمل الناس صفة الرب - جل وعلا - وما يجب له من الجلال ، وما هو عليه - سبحانه وتعالى - من صفات الذات ، ومن صفات الفعل ، وما عليه تلك الصفات من الكمال والجلال المطلق لاحتقروا أنفسهم ، ولعلموا أنه لا ينجيهم ولا يشرفهم إلا أن يكونوا عبيدا له وحده دون ما سواه ، فهل يعبد المخلوق المخلوق ؟! إن الواجب أن يعبد المخلوق من هو متصف بهذه الصفات العظيمة ، فهو الحقيق بأن يُذل له ، وهو الحقيق بأن يُطاع ، وهو الحقيق بأن يُجل ، وهو الحقيق بأن يُسأل ، وهو الحقيق بأن يُبذل كل ما يملكه العبد في سبيل مرضاته - جل وعلا - إذ هذا من قدره حق قدره ، ومن تعظيمه حق تعظيمه ، فإذا تأمل العبد صفات الربوبية وصفات الجلال وصفات الجمال لله - جل وعلا - وأن ذات الله - جل وعلا - عظيمة ، وأنه -(42/338)
سبحانه وتعالى - مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، على هذا العظم ، علم أنه لا أحد يستحق أن يتوجه إليه بالعبادة وأن يُعبد إلا الله - جل وعلا ، وأن من عبد المخلوق الحقير الوضيع فإنه قد نازع الله - جل وعلا - في ملكه ، ونازع الله - جل وعلا - في إلهيته ؛ ولهذا يحق أن يكون من أهل النار المخلدين فيها والمعذبين عذابا دائما ؛ لأنه توجه إلى هذا المخلوق الضعيف وترك الرب العلي القادر على كل شيء - سبحانه وتعالى .(42/339)
ثم تأمل كيف أن ربك العزيز الحكيم المتصف بصفات الجلال ، وهو - جل وعلا - فوق عرشه يأمر وينهى في ملكوته الواسع الذي ما الأرض إلا كشبه لا شيء في داخل ذلك الملكوت ، يفيض رحمته ويفيض نعيمه على من شاء ، ويرسل عذابه على من شاء ، وينعم من شاء ، ويصرف البلاء عمن شاء ، وهو سبحانه ولي النعمة والفضل فترى أفعال الله - جل وعلا - في السماوات ، وترى عبودية الملائكة في السماوات لهذا الرب العظيم ، المستوي على عرشه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم ، وملك راكع ، أو ملك ساجد » (1) تعظيما لأمر الله - جل وعلا - وترى نفوذ أمر الله في ملكوته الواسع الذي لا نعلم منه إلا ما حولنا من هذه الأرض ، وما هو قريب منها ، بل نعلم بعض ذلك ، والله - جل وعلا - هو المتصرف ثم تنظر إلى أن الله الجليل العظيم المتصف بهذا الملك العظيم يتوجه إليك أيها العبد الحقير الوضيع فيأمرك بعبادته ، وهي شرف لك لو شعرت ، ويأمرك بتقواه وهي عز لك لو عقلت ، ويأمرك بطاعته وذاك فخر لك لو علمت ، فإنه إذا علمت حق الله ، وعلمت صفات الله وما هو عليه من العلو المطلق في ذاته وفي صفاته - جل
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5 / 173 والترمذي (2312) وابن ماجه (4190) .(42/340)
وعلا - وفي نفوذ أمره في هذه السماوات السبع التي هي في الكرسي كدراهم ألقيت في ترس ، ثم ما فوق ذلك ، والجنة والنار وما في ذلك ، وجدت أنك لا تتمالك إلا أن تخضع له - جل وعلا - خضوعا اختياريا ، وأن تذل له ، وأن تتوجه إلى طاعته ، وأن تتقرب إليه بما يحب ، وأنك إذا تلوت كلامه تلوت كلام من يخاطبك به ، ويأمر وينهى به ، فيثمر عندك حينئذ من التوقير والتعظيم لله - عز وجل - غير ما كنت عليه قبل ذلك ؛ ولهذا كان من أسباب رسوخ الإيمان في القلب وتعظيم الرب - جل وعلا - أن يتأمل العبد ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، كما أمر الله - جل وعلا - بذلك حين قال : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ يونس : 101 ] ، وقال - جل وعلا - : { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } [ الأعراف : 185 ] ، وقال - جل وعلا - في وصف الخلص من عباده : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي(42/341)
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ آل عمران : 190- 192 ] ، إلى آخر دعواتهم ، وهم يذكرون الله قياما ، وقعودا ، وعلى جنوبهم ، ويتفكرون ، ومع ذلك يسألون النجاة من النار ، فهم في ذل وخضوع لما عرفوا من آثار توحيد الربوبية ، ولما عرفوا من آثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس .(42/342)
أسأل الله في ختام هذا الكتاب أن يجزي مؤلفه الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب عنا وعن المسلمين خير الجزاء ، وأن يجزي كل من ساهم في شرح هذا الكتاب بما أفهمنا من معانيه ، فإنه والله لكتاب عظيم ، اشتمل على ما به نجاة العباد لو شعروا ، وقرب به الإمام - رحمه الله - نصوص الكتاب والسنة ، وأفهمنا دلائلها بما نرجو معه النجاة بعفو الله - جل وعلا - وكرمه ، هذا ووصية أخيرة أختم بها هذا المجلس المبارك فأوصي بالعناية بهذا الكتاب عناية عظيمة ، وحفظه ، ودراسته ، وتأمل مسائله ، ومعرفة ما فيه ، فإنه الحق الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم من صالحي عباد الله ، هذا وأن الانصراف عن مدارسة ما احتواه مما يجب على العبد تجاه ربه لنذير سوء ، وإن الإقبال عليه لمؤذن بالخير والبشرى ، وأسأل الله أن يغفر لنا زللنا وخطلنا ، وأن يعفو عنا ما أخطأنا فيه ، وأن يجعلنا من المعفو عنهم ، ونسأل الله التسامح ، وأن يجعلنا من المحققين لتوحيده ، وأنه لا حول لنا ولا قوة إلا به ، اللهم فكن لنا يا كريم ، اللهم فكن لنا يا كريم ، اللهم فكن لنا يا كريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .(42/343)
أسئلة وفوائد
سؤال : ما حكم من يضع آية الكرسي في السيارة ، أو يضع مجسما فيه أدعية ، كأدعية ركوب السيارة ، وأدعية السفر وغيرها من الأدعية ؟
الجواب : إن هذا فيه تفصيل : فإن كان وضع هذه الأشياء ليحفظها ، ويتذكر قراءتها ، فهذا جائز ، كمن يضع المصحف أمام السيارة ، أو يضعه معه ؛ فإذا صارت عنده فرصة هو أو من معه أن يقرأ فيه قرأ ، فهذا جائز لا بأس به ، لكن إن علقها لأجل أن تدفع عنه الآفات ، فهذا يدخل في مسألة : حكم تعليق التمائم من القرآن ، وقد عرفنا أن ذلك لا يجوز على الصحيح ، بل يحرم .
سؤال : ما حكم من يوصي أحدا بالبحث عن راق يرقي له دون أن يطلب الرقية من الراقي بنفسه ، هل هذا يدخل في الذين يسترقون ؟(42/344)
الجواب : إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب أنهم : « هم الذين لا يسترقون » (1) معناه : لا يطلبون الرقية ، وفهم جواب السؤال يتبع فهم التعليل ، ذلك أن أولئك كانوا لا يسترقون ، يعني لا يطلبون الرقية ، لأجل ما قام في قلوبهم من الاستغناء بالله ، وعدم الحاجة إلى الخلق ، ولم تتعلق قلوبهم بالخلق في رفع ما حل بهم ، وكما ذكرت لك فإن مدار العلة على تعلق القلب بالراقي ، أو بالرقية في رفع ما بالمرقي من أذى ، أو في دفع ما قد يتوقع من السوء ، وعليه فيكون الحالان سواء ، يعني : إن كان طلب بنفسه ، أو طلب بغيره فإنه طالب ، والقلب متعلق بمن طلب منه الرقية إما بالأصالة أو بالواسطة .
سؤال : ما حكم من يقول له أهله : اذبح ذبيحة ووزعها على المساكين دفعا لبلاء ما ، فهل تجوز تلك النية ؟
الجواب : هذا فيه تفصيل ، ذلك أن ذبح الذبائح إذا كان من جهة الصدقة ، ولم يكن لدفع شيء متوقع ، أو لرفع شيء حاصل ، ولكن من جهة الصدقة ، وإطعام الفقراء ، فهذا لا بأس به وهو داخل في عموم الأدلة التي فيها الحض على الإطعام ، وفضيلة إطعام المساكين .
_________
(1) تقدم .(42/345)
وأما إن كان الذبح ؛ لأن بالبيت مريضا ، فيذبح لأجل أن يرتفع ما بالمريض من أذى ، فهذا لا يجوز بل يحرم ؛ سدا للذريعة ، ذلك لأن كثيرين يذبحون حين يكون بهم مرض ؛ لظنهم أن المرض كان بسبب الجن ، أو كان بسبب مؤذ من المؤذين ، فإذا ذبح الذبيحة وأراق الدم فإنه يندفع شره ، أو يرتفع ما أحدثه ذلك المؤذي . ولا شك أن اعتقاد مثل هذا محرم ولا يجوز ، فالذبيحة التي ذبحت لرفع المرض والصدقة بها عن المريض - والحالة هذه - قال العلماء : هي حرام ولا تجوز سدا للذريعة ، وللشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق رسالة خاصة في الذبح للمريض .
وكذلك إذا كان الذبح لدفع أذى متوقع ، كأن يكون في البلد داء معين ، فذبح لدفع هذا الداء ، أو كان في الجهات التي حول البيت شيء يؤذي ، فيذبح ليندفع ذلك المؤذي ، إما لص - مثلا - يتسلط على البيوت ، أو أذى ما يأتي للبيوت ، فيذبح ويتصدق بها لأجل أن يندفع ذلك الأذى ، فهذا أيضا غير جائز ، ومنهي عنه سدا للذريعة ؛ لأن من الناس من يذبح لدفع أذى الجن وهذا شرك بالله - جل وعلا .(42/346)
فإذا قيل : فما معنى ما رواه أبو داود وغيره بإسناد حسنه بعض أهل العلم ، وبعضهم ضعفه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « داووا مرضاكم بالصدقة » (1) هل يدخل فيه إراقة الدم ؟ لأجل ما فيها من الوسيلة إلى الاعتقادات الباطلة . ومعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك ، وجاءت أيضا بفتح الذرائع الموصلة للخير ، فما كان من ذريعة يوصل إلى الشرك والاعتقاد الباطل فإنه ينهى عنه .
سؤال : ما الحكم في بعض الأواني التي يكتب عليها بعض الآيات ، والتي تباع في بعض المحلات التجارية ؟
الجواب : إن هذه الأواني يختلف حالها فإن كان يستخدمها لأجل أن يتبرك بما كتب فيها من الآيات ، فيجعل فيها ماء ويشربه ؛ لأن الماء يلامس هذه الآيات ، فهذا من الرقية غير المشروعة ؛ لأن الرقية المشروعة تكون بقراءة الآيات في الماء ، وهذه الآيات لم تنحل في الماء ، بل هي مكتوبة في ذلك الإناء المعدني أو النحاسي ، والتصاق الماء بتلك الكتابات من الآيات أو الأدعية لا يجعل الماء - بذلك - مباركا أو مقروءا فيه ، فإذا اتخذت هذه الأواني لذلك : فالرقية بها غير مشروعة .
_________
(1) أخرجه أبو الشيخ في « الثواب » عن أبي أمامة . كما في « صحيح الجامع الصغير » (3358) والحديث لم يروه أبو داود بمرة .(42/347)
وأما إذا اتخذها للزينة ، أو لجعلها في البيت ، أو لتعليقها ، فهذا كرهه كثير من أهل العلم ؛ لأن القرآن ما نزل لتزين به الأواني ، أو تزين به الحيطان ، وإنما نزل للهداية كما قال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } .
سؤال : ما حكم من يضع مصحفا في درج السيارة ، معتقدا أن للمصحف أثرا في رد العين أو البلاء ؟
الجواب : إذا كان يقصد من وضع المصحف في درج السيارة ، أو في أي جهة منها ، أن يدفع ذلك عنه العين ، فهذا من اتخاذ المصحف تميمة ، وقد تقدم حكم التمائم من القرآن ، وأن الصحيح أنه لا يجوز أن يجعل القرآن تميمة ، ولا يظن أن وجوده في مكان ما يدفع العين ، لكن الذي يدفع العين : قراءة القرآن ، والأدعية المشروعة ، والاستعادة بالله جل وعلا ، ونحو ذلك مما جاء في الرقية .(42/348)
فتحصل أن وضع القرآن في السيارة لهذه الغاية داخل في المنهي عنه ، وهو من اتخاذ التمائم من القرآن ، لكن لما كان القرآن غير مخلوق - وهو كلام الله جل وعلا - لم تصر هذه التميمة شركية وإنما ينهى عنها فقط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستعمل القرآن على هذه الصفة ، ولم يجعله في عنق أحد من الصحابة ، لا الصغار ولا الكبار ، ولا أذن ، ولا وجه ، إلى أن يجعل القرآن في شيء من صدورهم ، أو في عضد أحدهم ، أو في بطنه ، ومعلوم أن مثل هذا لو كان دواء مشروعا ، أو رقية سائغة ، أو تميمة مأذونا بها ، لرخص فيها ولا سيما مع شدة حاجة الصحابة إلى ذلك ، لأن تعليق القرآن أيسر من البحث عن راق يرقي ويطلب منه ذلك وربما يكافأ على رقيته ، أو يطلب أجرا ، فلما كان هذا أيسر والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرشدهم إلى الأيسر - وقد بعث ميسرا - علم مع ضميمة الأدلة المتقدمة التي ذكرت : أن هذا من جنس الرقية غير المشروعة والله أعلم .
سؤال : قوله : " وعامرهن غيري " قد يستدل به أهل البدع على أن الله في كل مكان ، فكيف الرد عليهم ؟(42/349)
الجواب : المقصود بالسماوات في قوله - جل وعلا - في الحديث القدسي : " يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري " السماوات السبع معروفة ، وهي طباق بعضها فوق بعض ، والمراد بقوله : "وعامرهن " العمارة المعنوية ، يعني : من عمرها بالتسبيح ، والتهليل ، وذكر الله وعبادته ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم ، أو ملك ساجد ، أو ملك راكع » (1) ، ففيها عمار كثيرون عمروها بعبادة الله جل وعلا ، وقد قال - جل وعلا - في أول سورة الأنعام { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 3 ] ، فالله - جل وعلا - هو المعبود - سبحانه - في السماوات ، وهو المعبود - سبحانه - في الأرض .
_________
(1) انظر السلسلة الصحيحة رقم (852) .(42/350)
فقوله هنا : " لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري " يعني : من يعمر السماوات ، والمقصود بهذا الاستثناء في قوله : " غيري " الله - عز وجل ، ويحتمل الاستثناء هذا أن يكون راجعا إلى الذات ، أو إلى الصفات ، ومعلوم أن الأدلة دلت على أن الله - جل وعلا - على عرشه ، مستو عليه بائن من خلقه ، جل وعلا ، والسماوات من خلقه سبحانه وتعالى ؛ فعلم من ذلك أن قوله : " وعامرهن غيري " راجع إلى عمارة السماء بصفات الله - جل وعلا ، وبما يستحقه سبحانه من التأله ، والعبودية ، وما فيها من علم الله ، ورحمته ، وقدرته ، وتصريفه للأمر ، وتدبيره ، ونحو ذلك من المعاني .
سؤال : رجل عنده ولد مريض مرضا لم يجد له علاجا ، فقال : أذهب إلى مكة ، وأضع ولدي عند البيت ، وأدعو له بالشفاء ، فإذا حان الظهر دعوت مائة شخص من فقراء الحرم على الغداء ثم أقول لهم : ادعوا الله أن يشفي ولدي ، فما حكم هذا العمل ؟(42/351)
الجواب : هذا العمل فيه تصدق ودعوة الفقراء إلى الطعام ، وفيه طلب الدعاء منهم لولده ، والتصدق بالطعام هو من جنس الأعمال المشروعة - كما تقدم - وتقدم أيضا حكم الذبائح وإراقة الدماء ، فإذا كان في هذا الإطعام ذبائح : فتفصيل الجواب كما سبق .(42/352)
وإن كان قصده مجرد إطعامهم ولإشباعهم والتصدق عليهم ، ثم طلب منهم الدعاء - وهي المسألة الثانية - فهذا راجع إلى هل يشرع طلب الدعاء من الغير بهذه الصفة ، أو لا يشرع ؟ الظاهر أن هذا من جنس ما هو غير مشروع ، ومعنى أنه ليس بمشروع : أنه ليس بمستحب ولا واجب ، ولكن هل يجوز طلب الدعاء من الآخرين ؟ قال العلماء : الأصل في ذلك الكراهة ، والمتأمل فيما روي عن الصحابة وعن التابعين الذين طلب منهم الدعاء : أنهم كرهوا ذلك ، ونهوا الطالب ، وربما قالوا له : أنحن أنبياء ؟!! كما قال ذلك حذيفة ، ومعاذ ، وغيرهما رضي الله عنهم ، وكان إمام دار الهجرة : أنس بن مالك - رحمه الله - إذا طلب منه الدعاء نهى الطالب ، خشية أن يلتفت الناس إليه ، وتتعلق قلوبهم به ، وإنما يتعلق في طلب الدعاء بالأنبياء ، أما من دونهم فلا يتعلق بهم في هذا الأمر ؛ لهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن طلب الدعاء من المسلم الحي يكون مشروعا إذا قصد به نفع الداعي ونفع المدعو له ، فإذا قصد الطالب أن ينفع الجهتين يعني : ينفع نفسه ، وينفع الداعي فهذا من المشروع ، وهذا هو الذي يحمل عليه ما جاء في السنة فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما(42/353)
، « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر لما أراد أن يعتمر : " لا تنسنا يا أخي من دعائك » (1) ، وهذا الحديث إسناده ضعيف ، وقد احتج به بعض أهل العلم ومعناه ظاهر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ينفع عمر بهذه الدعوة ؛ فالطالب للدعاء محتاج إلى غيره .
والمقصود : أن ما فعله هذا السائل لأجل ولده الأولى له تركه ؛ لأجل ألا يتعلق قلبه بأولئك في دعائهم .
_________
(1) أخرجه أبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) .(42/354)
ومن العلاج المناسب شرعا أن يلتزم بين الركن والمقام ، يعني : بين الحجر الأسود ، وبين آخر حد باب الكعبة - وهو الملتزم ، يلتزم ويلصق بطنه وصدره وخده ببيت الله - جل جلاله ، ويقف بالباب مخبتا منيبا سائلا الله - جل وعلا - منقطعا عن الخلق عالما أنه لا يشفي من الداء في الحقيقة إلا الله - جل جلاله - فالله - جل وعلا - هو الذي يشفي ، وهو الذي يعافي ، كما قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ، فهذا الفعل أعظم أثرا - إن شاء الله - من فعله الذي يريد أن يفعله من دعوة أولئك ، فالتضرع إلى الله في أوقات الإجابة ، وفي الأماكن الفاضلة ، وفي الأزمنة الفاضلة ، نرجو أن يكون معه إجابة الدعاء وشفاء المرض إن شاء الله .
سؤال : مما يقع فيه كثير من الناس أنه إذا حصل له أمر ونجا منه فإنه يوجب على نفسه الصدقة ، أو يعتقد وجوبها ، فما حكم ذلك ؟(42/355)
الجواب : أن الصدقة في مثل هذا ليس لها حكم الوجوب ، والشكر لله - جل وعلا - على نعمه - إذا نجى العبد من بلاء أو حصلت له مسرة - ينبغي أن يكون بالسجود ، أو بالصلاة ، أو بالصدقة شكرا لله - جل وعلا - على نعمه ، وهذا كله من المستحب ، وليس من الواجب ، إلا إذا كان ثم نذر ، كمن - نذر إن نجي من كذا وكذا - أن يتصدق . فهنا يكون قد ألزم نفسه بعبادة ، وهي الصدقة المنذورة ، فتكون في هذه الحالة - واجبة بالنذر ، أما أصل الصدقة فهو مستحب ، وإذا كانت الصدقة في مقابلة نعمة ، أو اندفاع نقمة ، فهي أيضا مستحبة ، وليست بواجبة ، فلا تجب إلا إذا نذر وتحقق الشرط .
سؤال : عند بعض الناس عادة ، وهي أن من حصل بينه وبين شخص عداوة أو بغضاء لتعد من أحدهما على الآخر فيطلبون من أحدهما أن يذبح ويسمون ذلك ذبح صلح ، فيذبح ويحضرون من حصلت معه العداوة ، فما حكم ذلك ؟(42/356)
الجواب : أن ذبح الصلح الذي تعمله بعض القبائل في صورته المشتهرة المعروفة لا يجوز ؛ لأنهم يجعلون الذبح أمام من يريدون إرضاءه ويريقون الدم تعظيما وإجلالا له لإرضائه ، فهذا النوع من الذبح يكون محرما ؛ لأنه لم يرق الدم لله - جل وعلا - وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان ، فهذا الذبح - كما قلت - محرم ، والذبيحة - أيضا - لا يجوز أكلها ؛ لأنها لم تذبح لله - جل وعلا - وإنما ذبحت لغيره .
فإن كان الذبح الذي هذا صفته يقصد به التقرب والتعظيم للمذبوح له : صار شركا أكبر ، وإن لم يكن يقصد به التقرب والتعظيم له كان محرما ؛ لأنه لم يخلص من أن يكون لغير الله فصارت عندنا مع هذه الصورة المسؤول عنها صورة أخرى تقدمت وهي : الذبح عند قدوم السلطان وبحضرته ، وفي كلتا الصورتين : إن كان قصد الذابح التقرب والتعظيم للمذبوح له ، فيكون الذبح حينئذ شركا أكبر بالله - جل وعلا - لأنه ذبح وأراق الدم تعظيما للمخلوق ، وتقربا إليه .(42/357)
وإن لم يذبح تقربا أو تعظيما ، وإنما ذبح لغاية أخرى مثل الإرضاء ، فيكون قد شابه أهل الشرك فيما يذبحونه تقربا وتعظيما ، فنقول : الذبيحة لا تجوز ولا تحل ، والأكل منها حرام ، ويمكن للإخوة الذين يشيع عندهم في بلادهم أو في قبائلهم مثل هذا الفعل المسمى " ذبح الصلح " ونحوه أن يبدلوه بخير منه ، وهو أن يجعلونه وليمة للصلح ، فيذبحون للضيافة ، يعني : يذبحون لمن يريدون إرضائهم ، ويدعونهم ، ويكرمونهم ، ولا يكون هذا بحضرتهم ، فهذا من الأمر المرغب فيه ، ويكون الذبح في هذه الحالة كما يذبح المسلم عادة لضيافة أضيافه ، ونحو ذلك .
سؤال : رجل في منطقة ما يأتي إليه الناس عند فقد أموالهم ، فيعطيهم خيطا معقدا ويقرأ عليه ، ويطلب منهم أن يضعوه في المكان الذي فقد فيه المال ، فما حكم ذلك العمل ؟ وما حكم هذا الرجل ؟ وما حكم الصلاة خلفه ؟
الجواب : هذا من الكهانة ؛ لأن الذي يعمل هذه الأشياء يسمى بالعراف ، أو الكاهن ، وقد يكون ساحرا أيضا ، فلا يجوز مثل هذا العمل ، ولا يحل لأحد أن يعين أحدا يدعي معرفة شيء من علم الغيب ، والصلاة خلفه لا تجوز ؛ لأن هذا إما أن يكون عرافا أو كاهنا أو ساحرا ، وهؤلاء لا تجوز الصلاة خلفهم .(42/358)
سؤال : ما معنى قولهم : الشرك الأصغر أكبر من الكبائر ، وكيف يكون كذلك والشرك الأكبر يعتبر من الكبائر ؛ إذ هو أكبر الكبائر ، فنرجو إزالة الإشكال ؟
الجواب : هذا سبق إيضاحه ، وهو أن الكبائر قسمان : قسم منها يرجع إلى جهة الاعتقاد والعمل الذي يصحبه اعتقاد ، وقسم منها يرجع إلى جهة العمل الذي لا يصحبه اعتقاد .
مثال الأول - وهو الذي يصحبه الاعتقاد : أنواع الشرك بالله كالاستغاثة بغير الله ، والذبح لغيره ، والنذر لغيره ، ونحو ذلك ، فهذه أعمال ظاهرة ، ولكن هي كبائر يصحبها اعتقاد جعلها شركا أكبر ، فهي في ظاهرها : صرف عبادة لغير الله - جل وعلا - وقام بقلب صاحبها الشرك بالله ، بتعظيم هذا المخلوق ، وجعله يستحق هذا النوع من العبادة ، إما على جهة الاستقلال ، أو لأجل أن يتوسط . والقسم الثاني : الكبائر العملية التي تعمل لا على وجه اعتقاد ، مثل : الزنا ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، ونحو ذلك من الكبائر والموبقات ، فهذه تعمل دون اعتقاد ؛ لهذا صارت الكبائر على قسمين .(42/359)
فنقول : الشرك الأصغر - ومن باب أولى الشرك الأكبر - : هو من حيث جنسه أكبر من الكبائر العملية ، فأنواع الشرك الأصغر - وإن كانت لفظيا ، مثل قول : ما شاء الله وشئت ، ومثل الحلف بغير الله ، أو نسبة النعم إلى غير الله ، أو نسبة اندفاع النقم لغير الله - جل وعلا - أو تعليق التمائم ، ونحو ذلك - كلها من حيث الجنس أعظم . نعم : هي من الكبائر ، لكنها من حيث الجنس أعظم من كبائر العمل التي لا يصاحبها اعتقاد ؛ لأن كبائر الأعمال مثل : الزنا ، والسرقة ، ونحوها من الكبائر العملية ، ليس فيها سوء ظن بالله - جل وعلا - وليس فيها صرف عبادة لغير الله ، أو نسبة شيء لغير الله - جل وعلا - والحامل له على فعلها : مجرد الشهوات ، وأما في الأخرى فالحامل له على فعلها : اعتقاده بغير الله ، وجعل غير الله - جل وعلا - ندا لله سبحانه وتعالى ، وأعظم الذنب أن يجعل المرء لله ندا وهو خلقه - جل وعلا .
سؤال : لماذا لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه كما في حديث ذات أنواط ؟(42/360)
الجواب : من المعلوم أن الشريعة جاءت بالإثبات المفصل والنفي المجمل ، والنفي إذا كان مجملا ، فإنه يندرج تحته صور كثيرة ، فمن فهم دلالة النفي فلا يحتاج - مع النفي - أن ينبه على كل فرد من أفراده ، ولهذا نقول : من فهم ( لا إله إلا الله ) ، لم يحتج إلى أن يفصل له كل مسألة من المسائل ، فمثلا : النذر لغير الله ليس فيه حديث النذر لغير الله شرك ، والذبح لغير الله ليس فيه حديث ينص أن الذبح لغير الله شرك ، وكذا : العكوف عند القبور ، أو العكوف عند الأشجار والأحجار والتبرك بها ، وكل ما سبق لم يأت فيه ما ينص عن النهي عنها بأعيانها ، ولكن نفي إلهية غير الله - جل وعلا - يدخل فيها - عند من فهم معنى العبادة - كل الصور الشركية ؛ ولهذا : فإن الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا ما دخل تحت هذا النفي ، ولم يطلب ذات أنواط - كما للمشركين ذات أنواط - إلا من كان حديث عهد بكفر ، يعني : لم يسلم إلا قريبا ، وهم قلة ممن كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى حنين .(42/361)
وأما الإثبات : فإنه يكون مفصلا ، وتفصيل الإثبات تارة يكون بالتنصيص ، وتارة يكون بالدلالة العامة ، كما في الآيات الآمرة بوجوب إفراد الله - جل وعلا - بالعبادة ، مثلا كقوله تعالى : { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [ البقرة : 21 ] ، وكقوله : { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 و 65 و 73 و 85 - هود : 50 و 61 و84 - المؤمنون : 23 و 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وتارة يكون بالأدلة الخاصة بالعبادة كقوله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [ الإنسان : 7 ] ، وكقوله { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] ، وكقوله { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } [ الأنفال : 9 ] ، فهذه أدلة إثبات تثبت أن تلك المسائل من العبادات ؛ وإذا كانت من العبادات ، فقول ( لا إله إلا الله ) يقتضي بالمطابقة أنه : لا تصرف العبادة إلا لله - جل وعلا .
فيكون ما طلبه أولئك من القول - الذي لم يعملوه - راجعا إلى عدم فهمهم أن تلك الصورة داخلة فيما نفي لهم مجملا بقول لا إله إلا الله .
سؤال : ما حكم التبرك بالصالحين وبماء زمزم والتعلق بأستار الكعبة ؟(42/362)
الجواب : التبرك بالصالحين قسمان :
القسم الأول : التبرك بذواتهم ، أو بعرقهم ، أو بسؤرهم - يعني : بقية الشراب - أو بلعابهم الذي اختلط بالنوى مثلا ، أو بما فضل من طعامهم ، أو بأشعارهم ، ونحو ذلك ، فهذا لا يجوز وهو من البدع المحدثة . وقد تقدم بيان أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا يعملون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - وهم سادة أولياء هذه الأمة - شيئا من ذلك ، وإنما فعله الخلوف الذين يفعلون ما لا يؤمرون ويتركون ما أمروا به .
والقسم الثاني : بركة عمل ، وهي الاقتداء بالصالحين في صلاحهم ، والاستفادة من أهل العلم ، والتأثر بأهل الصلاح ، فهذا أمر مطلوب شرعا ، أما التبرك بالذات ، كما كان يفعل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا ليس لأحد إلا للنبي عليه الصلاة والسلام .(42/363)
أما التبرك بماء زمزم فإنه لا بأس به ؛ لمجيء الدليل بذلك ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام عن ماء زمزم : « إنها طعام طعم وشفاء سقم » (1) ، فمن شربها طعاما ، أو شفاء من سقم ، فقد عمل بما دل عليه الدليل ، وكذلك من شربها لغرض من الأغراض التي يريد أن يحققها لنفسه : فهذا أيضا جائز ، لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : « ماء زمزم لما شرب له » (2) . فمن جعل ماء زمزم سببا لأشياء يريد تحقيقها ، فلا بأس بذلك ؛ لأن هذا راجع إلى أنه سبب أذن به شرعا ، ولو شرب ماء آخر كالمياه المعدنية - مثلا - وأراد بشرب هذا الماء أن يحفظ القرآن ، واعتقد ذلك سببا لحفظ القرآن : فإن اعتقاده هذا خاطئ ، لأن الدليل هو الذي يدل على كون ذلك الشيء مؤثرا أو لا .
_________
(1) أخرجه الطيالسي عن أبي ذر كما في « صحيح الجامع » (2435) .
(2) أخرجه ابن ماجه (3062) .(42/364)
أما التعلق بأستار الكعبة رجاء البركة : فهذا من وسائل الشرك ، ويكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أن ذلك التبرك سبب لتحقيق مطلوبه ، أما إذا اعتقد أن الكعبة ترفع أمره إلى الله ، أو أنه إذا فعل ذلك عظم قدره عند الله ، وأن الكعبة يكون لها شفاعة عند الله ، أو نحو تلك الاعتقادات التي فيها اتخاذ الوسائل إلى الله - جل وعلا ، فإن هذا التبرك - على هذا النحو - يكون شركا أكبر ؛ ولهذا يقول كثير من أهل العلم : إن التمسح بحيطان المسجد الحرام ، أو بالكعبة ، أو بمقام إبراهيم ، ونحوها ؛ رجاء بركتها ، هو من وسائل الشرك الأكبر ، بل هو من الشرك الأصغر ، كما قرر ذلك الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله .
سؤال : يوجد بعض الساعات مكتوب عليها لفظ الجلالة ، فهل يجوز الدخول بها إلى الخلاء ؟
الجواب : يقول العلماء في كتب الفقه ، في آداب دخول الخلاء : " ويكره دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله " ، فاصطحاب شيء مما فيه ذكر الله في الخلاء مكروه .(42/365)
سؤال : هل يعتبر هذا النذر مطلقا أم مقيدا ، وهو : إذا حصل للعبد منفعة ، مثل أن نجح أو حصل على وظيفة ، ثم نذر أن يصوم ثلاثة أيام لله تعالى ، مع العلم أنه لم ينذر قبل نجاحه ، أو حصوله على الوظيفة ؟
الجواب : النذر المطلق : هو الذي لم يعلق بشيء سيحصل في المستقبل ، والنذر المقيد : هو الذي علق الوفاء به بحصول شيء من الله - جل وعلا - للعبد وهذا يكون في المستقبل ، كأن يقول : إن شفى الله مريضي فسأصوم ثلاثة أيام ، أو نحو ذلك . فهذا هو النذر المعلق المقيد . أما المطلق : فهو أن ينذر نذرا لله - جل وعلا - تبررا منه إما بسبب حادثة حدثت ، أو نعمة تجددت ، أو نقمة اندفعت ، أو بدون سبب ، فهذا كله يدخل في النذر المطلق ، أما المقيد فهو المعلق بشرط في المستقبل - كما تقدم قريبا .
سؤال : ما حكم عمل احتفال بسيط بمناسبة انتهاء عقد أحد العاملين بالشركة ، سواء كان مسلما أو غير مسلم ، وحجة بعضهم في عمل الاحتفال لغير المسلم أنه من باب دعوته إلى الإسلام ، مع العلم أنه خلال وجوده في العمل لم يقدم له أحد - ممن يحتجون بهذا القول - كتابا أو شريطا لدعوته للإسلام ؟(42/366)
الجواب : المقصود من تلك الاحتفالات إكرام من أقيمت له ، فإذا كان مسلما : فإكرام المسلم من حقوقه المستحبة ، وإذا كان غير مسلم فله حالتان : الحالة الأولى : أن يكون ممن لم يظهر للإسلام عداوة ، أو أظهر في الإسلام رغبة ، وهو مسالم لأهل الإسلام ، ومحب لأهل الخير وأهل الدين والصلاح - كما يظهر من بعضهم - فمن كان بهذه الصفة : فإنه يصلح أن يدعى للإسلام ؛ لأنه قريب ، سلم من البغضاء والعداوة التي تحجزه عن قبول الحق . لو عرض عليه .
فإذا كان القصد من عمل الاحتفال لمثل هذا : أن يكون ذلك بداية لدعوته إلى الإسلام ببيان محاسنه ، وبيان بطلان الأديان الأخرى ، ونحو ذلك ، فهذا بحسب قصد فاعله ، لكن أصل الإكرام لغير المسلم لا يجوز .(42/367)
وأما إن كان معاديا للإسلام ، أو لم يظهر قبولا للإسلام ، أو عرف من سيرته - حين بقي تلك المدة في المؤسسة أو الشركة - أنه لا يحب الخير ، بل ربما أظهر صدودا عن أهل الخير ، وأظهر عدم قبول لبعض أوامر الشرع التي يحكم بها : فهذا لا يجوز إكرامه ؛ لأن إكرامه من موالاة الكفار ، وموالاتهم محرمة ؛ لأنا نكون - بهذا - قد أكرمناه مع بقائه على عداوته وعلى بغضه ، وهذا لا يجوز . والأصل على هذا التفصيل دل عليه قول الله - جل وعلا : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ الممتحنة : 8 - 9 ] ، فهذه الآيات فيها بيان حال الصنفين ؛ وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما أجاب دعوة اليهود : رجالهم ، أو نساءهم ، وربما أتى بعض أهل الكتاب ، وربما أهدى(42/368)
إليهم ، بل وحث على الهدية للجار ، وهذا كله لأجل الترغيب في الخير ، والترغيب في الإسلام .
فالمقصود : أن الإكرام بتلك الحفلات لا يجوز إلا إذا كانت ثمة مصلحة شرعية راجحة يقدرها أهل العلم إذا وصف الحال لهم ، وأما ما عدا ذلك ، فلا يجوز إقامة الحفلات لهم ؛ لأنها نوع موالاة للكفار .
سؤال : هل يدخل في باب : « لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله » ما يحصل - وخاصة في أوربا وأمريكا - من شراء كثير من المسلمين لكنائس قديمة ثم تعديلها لتكون مساجد ، أو هدم الكنيسة وبناء مسجد مكانها ؟(42/369)
الجواب : أنه لا يدخل في ذلك ؛ لأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تضاعف الصلاة فيه ، أقيم على مكان فيه قبور للمشركين ؛ فبعد أن نبشت تلك القبور وأزيل الرفات ، أقيم المسجد في ذلك المكان . (1) والكنيسة التي عبد فيها غير الله - جل وعلا - إذا حولت إلى مسجد ، فهذا من أعظم الطاعات ، ومن أحب الأعمال إلى الله - جل وعلا - وذكرت فيما سبق أن الفرق بين هذه الصورة وبين « لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله » : أن الذبح صورته مشتركة ، بمعنى أن : الصورة الظاهرية واحدة ، وإنما الاختلاف في النيات ؛ ولهذا منع من ذلك ، أما عبادة المسلمين وصلاتهم وهيئة مساجدهم وجلوسهم ، إلى آخر تلك الهيئات : فهي مخالفة لما عليه صلاة النصارى . فاستبدال الكنيسة بالمسجد أمر مطلوب إذا تمكن المسلمون منه ، بل هذا الذي فعله المسلمون في الأندلس ، بل وفي بعض البلاد الأخرى : كالشام ومصر .
سؤال : نرى عبارة مكتوبة على بعض السيارات " يا رضا الله ورضا الوالدين " فما حكم تلك العبارة ؟
_________
(1) أخرجه البخاري ( 428 ) ومسلم (524) .(42/370)
الجواب : قوله : " يا رضا الله ورضا الوالدين " غلط من جهتين : الجهة الأولى : أنه نادى رضا الله ، ومناداة صفات الله - جل وعلا - بـ (ياء النداء) لا تجوز ؛ لأن الصفة غير الذات في مقام النداء ؛ ولهذا : إنما يُنادى الله - جل وعلا - المتصف بالصفات ، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري ، وغيره من أهل العلم : على أن مناداة الصفة محرم بالإجماع ، فإذا كانت الصفة هي الكلمة - كلمة الله - جل وعلا : كان كفرا بالإجماع ؛ لأن من نادى الكلمة ، يعني بها عيسى عليه السلام فيكون تأليها لغير الله - جل وعلا ؛ ورضا الله - جل وعلا - صفة من صفاته ، فلا يجوز نداء الصفة .(42/371)
والمؤاخذة الثانية في تلك الكلمة : أنه جعل رضا الوالدين مقرونا برضا الله - جل وعلا - بـ ( الواو ) ، والأنسب هنا أن يكون العطف بـ ( ثم ) فيقول - مثلا - : أسأل الله رضاه ثم رضا الوالدين . وإن كان استعمال الواو في مثل هذا السياق لا بأس به ؛ لأن الله - جل وعلا - قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] ، وقال - جل وعلا - : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] ، ولأن ( الواو ) هنا تقتضي تشريكا في أصل الرضا ؛ وهذا الرضا يمكن أن يكون من الوالدين - أيضا - : فيكون التشريك في أصل المعنى ، لا في المرتبة .
سؤال : هل يجوز الذهاب للعلاج عند من يزعم أنه يعالج بمساعدة جن مسلمين ؟ وهل هذه المساعدة من الجن للقارئ من الاستعانة الجائزة أو المحرمة ؟(42/372)
الجواب : الاستعانة بالجن سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين وسيلة من وسائل الشرك ، والاستعانة معناها : طلب الإعانة ؛ ولهذا فمن المتقرر عند أهل العلم أنه لا يجوز طلب الإعانة من مسلمي الجن ؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يطلبوا ذلك منهم ، وهم أولى أن تخدمهم الجن ، وأن تعينهم .(42/373)
وأصل الاستعانة بالجن : من أسباب إغراء الإنسي بالتوسل إلى الجني ، وبرفعة مقامه ، وبالاستمتاع به ، وقد قال - جل وعلا - : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } [ الأنعام : 128 ] ، فحصل الاستمتاع - كما قال المفسرون - من الجني بالإنسي : بأن الإنسي يتقرب إليه ، ويخضع له ، ويذل ، ويكون في حاجته ، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن يخدمه الجني ، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبح من الإنسي للجني ، وتقرب بأنواع العبادات ، أو بالكفر بالله - جل وعلا - والعياذ بالله ، بإهانة المصحف ، أو بامتهانه أو نحو ذلك ؛ ولهذا نقول : إن تلك الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز ، فمنها ما هو شرك -كالاستعانة بشياطين الجن- يعني : الكفار - ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك ، كالاستعانة بمسلمي الجن .(42/374)
وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية يقول : إن الجن قد تخدم الإنسي . وهذا المقام فيه نظر وتفصيل ؛ ذلك أنه - رحمه الله - ذكر في آخر كتاب " النبوات " : أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن أمرهم ، ونهاهم ، أي : بالأوامر ، والنواهي الشرعية ، أما طلب خدمتهم وطلب إعانتهم . فإنه ليس من سجايا أولياء الله ، ولا من أفعالهم ، قال : مع أنه قد تنفع الجن الإنس ، وقد تقدم له بعض الخدمة ونحو ذلك ، وهذا صحيح من حيث الواقع .(42/375)
فالحاصل أن المقام فيه تفصيل : فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة من الجني المسلم ، فهذا وسيلة إلى الشرك ، ولا يجوز أن يعالج عند أحد يعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين . وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه ، فإن هذا قد يحصل ، لكن لم يكن هذا من خلق أولياء الله ، ولا مما سخره الله - جل وعلا - لخاصة عباده ، فلا يسلم من هذا حاله من نوع خلل جعلت الجن تكثر من خدمته ، وإخباره بالأمور ، ونحو ذلك . فالحاصل : أن هذه الخدمة إذا كانت بطلب منه ، فإنها لا تجوز ، وهي نوع من أنواع المحرمات ؛ لأنها نوع استمتاع ، وإذا كانت بغير طلب منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين ويستعيذ بالله من شر مردة الجن ؛ لأنه قد يؤدي قبول خبرهم ، واعتماده ، إلى حصول الأنس بهم ، وقد يقوده ذلك الاستخدام إلى التوسل بهم والتوجه إليهم - والعياذ بالله - . فإذا تبين ذلك : فإن خبر الجن عند أهل العلم ضعيف ، لا يجوز الاحتجاج به عند أهل الحديث ، وذكر ذلك أيضا الفقهاء . وهذا صحيح ؛ لأن البناء على الخبر وقبوله : هو فرع عن تعديل المخبر ، والجني غائب ، وعدالته غير معروفة ، وغير معلومة عند السامع ، فإذا بنى الخبر عمن جاءه به من الجن وهو(42/376)
لم يرهم ، ولم يتحقق عدالتهم إلا بما سمع من خطابهم - وهي لا تكفي - فإنه يكون قد قبل خبر من يحتمل أنه فاسق ؛ ولهذا قال الله - جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الحجرات : 6 ] ، والذين يقبلون إخبار الجن ، وإعلام الجن لهم ببعض الحوادث ، تحصل منهم مفاسد متنوعة كثيرة ، منها هنا : جزمهم بصحة ما أخبرتهم به الجن فربما حصل بسبب ذلك مفاسد عظيمة ، من الناس الذين أخبروا بذلك ، فيكثر القيل والقال ، وقد تفرقت بعض البيوت من جراء خبر قارئ جاهل يزعم أن الذي فعل هذا هو فلان باعتبار الخبر الذي جاءه ، ويكون الخبر الذي جاءه من الجني خبرا كذبا ، فيكون قد اعتمد على نبأ هذا الذي لا يعلم عدالته ، وبنى عليه وأخبر به ، فيحصل من جرائه فرقة ، واختلاف ، وتفرق ، وشتات في البيوت ، ونعلم أنه قد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم - رحمه الله - أن إبليس ينصب عرشه على ماء ، ويبعث سراياه ، فيكون أحب جنوده إليه من يقول له : فرقت بين المرأة وزوجها ، (1) وهذا من جملة التفريق الذي يسعى إليه
_________
(1) أخرجه مسلم (2813) (67) .(42/377)
عدو الله ، بل الغالب أنه يكون من هذه الجهة ، فأحب ما يكون إلى عدو الله أن يفرق بين المؤمنين ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أيضا مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم » . (1) فهذه المسألة يجب على طلاب العلم أن يسعوا في إنكارها ، وبذل الجهد في إقامة الحجة على من يستخدم الجن ، ويتذرع بأن بعض العلماء أباح ذلك ، والواقع أن هذا العمل وسيلة من وسائل الشرك بالله - جل وعلا - . واقرؤوا أول كتاب (( تاريخ نجد )) لابن بشر ، حيث قال : إن سبب دخول الشرك إلى قرى نجد أنه كان بعض البادية إذا أتى وقت الحصاد ، أو أتى وقت خرف النخيل ، فإنهم يقطنون بجانب تلك القرى ومعهم بعض الأدوية والأعشاب ، فإذا كانوا كذلك فربما سألهم بعض جهلة تلك القرى حتى حببوا إليهم بعض تلك الأفعال المحرمة من جراء سؤالهم ، وحببوا إليهم بعض الشركيات ، أو بعض البدع ، حتى فشا ذلك بينهم ، فبسبب هؤلاء المتطببين الجهلة ، والقراء المشعوذين انتشر الشرك - قديما - في الديار النجدية وما حولها ، كما ذكر ابن غنام . وقد حصل أن بعض مستخدمي الجن ، كثر عنده الناس ،
_________
(1) أخرجه مسلم (2812) .(42/378)
فلما رأى من ذلك ، صار يعالج علاجا نافعا ، فزاد تسخر الجن له ، حتى ضعف تأثيره ، فلما ضعف تأثيره ولم يستطع مع الحالات التي تأتيه للقراءة أو للعلاج شيئا : صار تعلقه بالجن أكثر ، ولا زال ينحدر ما في قلبه من قوة اليقين ، وعدم الاعتماد بقلبه على الجن ، حتى اعتمد عليهم شيئا فشيئا ، ثم حرفوه - والعياذ بالله - عن السنة ، وعما يجب أن يكون في القلب من توحيد الله ، وإعظامه ، وعدم استخدام الجن في الأغراض الشركية ، فجعلوه يستخدم الجن في أغراض شركية وأغراض لا تجوز بالاتفاق .
فهذا الباب مما يجب وصده ، وكذلك : يجب إنكار وسائل الشرك والغواية ، وحكم من يستخدم الجن ، ويعلن ذلك ، ويطلب خدمتهم لمعرفة الأخبار ، فهذا جاهل بحقيقة الشرع ، وجاهل بوسائل الشرك ، وما يصلح المجتمعات وما يفسدها ، والله المستعان .
سؤال : ما الفرق بين التوسل والشفاعة ؟ نرجو التوضيح وجزاكم الله خيرا .(42/379)
الجواب : أن التوسل : هو اتخاذ الوسيلة ، والوسيلة : هي الحاجة نفسها ، أو ما يوصل إلى الحاجة وقد يكون ذلك التوسل باستشفاع ، يعني : بطلب شفاعة ؛ بمعنى أنه يريد أن يصل إلى حاجته - بحسب ظنه - بالاستشفاع ، وقد يروم التوصل إلى حاجته - بحسب ظنه - بغير الاستشفاع ؛ فيتوسل مثلا بالذوات فيسأل الله بذات فلان ، أو بجاهه ، أو بحرمته ، مثل أن يقول : اللهم إني أسألك بنبيك محمد - بعد وفاته عليه الصلاة والسلام - أو يقول : اللهم إني أسألك بأبي بكر ، أو بعمر ، أو بالإمام أحمد ، أو بابن تيمية ، أو بالولي الفلاني ، أو بأهل بدر ، أو بأهل بيعة الرضوان ، أو بغيرهم . فهذا هو الذي يسمونه توسلا ، وهذا التوسل معناه : أنه جعل أولئك وسيلة ، وأحيانا يستعمل في التوسل لفظ : الحرمة ، والجاه ، فيقول : أسألك بحرمتهم ، أو أسألك بجاههم ، ونحو ذلك . أما الاستشفاع : فهو أن يسألهم الشفاعة أي : يطلب منهم أن يشفعوا له .(42/380)
فتحصل من ذلك : أن التوسل يختلف عن الاستشفاع ، في أن المستشفِع : طالب للشفاعة ، وقد علم أن الشفاعة إذا طلبها من العبد يكون قد سأل غير الله ، وأما المتوسل - بحسب عرف الاستعمال - فإنه يسأل الله ، لكن يجعل ذلك بوسيلة أحد .
فالاستشفاع : سؤال لغير الله ، وأما الوسيلة فهي سؤال الله بفلان ، أو بحرمته ، أو بجاهه : وكل هذا لا يجوز ؛ لأنه اعتداء في الدعاء ؛ ولأنه بدعة محدثة ووسيلة إلى الشرك ، وأما الاستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء ، كالميت ، أو الغائب ، أو نحوهما : فهو شرك أكبر ؛ لأنه طلب ودعاء لغير الله .
فالتوسل - بحسب العرف - هو من البدع المحدثة ، ومن وسائل الشرك ، وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله ، وهو شرك أكبر .(42/381)
لكن الجاهليون والخرافيون والقبوريون يسمون جميع عباداتهم الشركية - من طلب الشفاعة ، والذبح ، والنذر ، والاستغاثة بالموتى ، ودعائهم - توسلا وهذا غلط في اللغة والشرع معا ، فالكلام في أصله لا يصح ؛ فإن بين التوسل والشفاعة فرقا من حيث مدلول المعنى اللغوي ، فكيف يسوى بينهما في المعنى؟ ! أما إذا أخطأ الناس وسموا العبادات المختلفة توسلا ، فهذا غلط من عندهم ، لا يتحمله الشرع ، ولا تتحمله اللغة .
سؤال : ما حكم من يضع على السيارات ، أو المنازل عبارات مثل : ما شاء الله ، أو تبارك الله ، أو هذا من فضل ربي ؟
الجواب : هذا له حكم تعليق بعض الآي على الحيطان ، أو في السيارات ، أو نحو ذلك ، فإن كان المقصود منها الإرشاد إلى عمل شرعي مسنون : فهذا مشروع ، أو مباح ، وأما إن كان القصد منها أن تحفظه وأن تحرسه من العين أو من الأذى ، فهذا راجع إلى اتخاذ التمائم من القرآن ونحوه ، وهذا سبق تفصيل الجواب عنه .
سؤال : ما حكم امرأة طلبت من قريب لها ذاهب إلى مكة أن يشتري لها كفنا من هناك وأن يغسل الكفن من ماء زمزم ، وهذا الأمر منتشر بين الناس ؟(42/382)
الجواب : هذا تبرك بما يباع في مكة واعتقاد فيه ، وهو باطل ، لا يجوز فعله ؛ لأن ما يباع في مكة ليس له خصوصية في البركة ، وليس له خصوصية في النفع ، بل هو وما يباع في غير الحرم سواء ، وأما غسله بماء زمزم لرجاء أن يكون ذلك الكفن فيه من بركة ماء زمزم ، فكذلك هذا غلط ؛ لأن بركة ماء زمزم مقيدة بما ورد فيه الدليل ، ليست بركة عامة ، إنما هي بركة خاصة بما جاء فيه الدليل ؛ ولهذا : فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا يستعملون ماء زمزم إلا فيما جاءت فيه الأدلة كقوله - صلى الله عليه وسلم : « ماء زمزم لما شرب له » (1) ، وقوله في زمزم - أيضا - : « إنها طعام طعم وشفاء سقم » (2) . أما التبرك بها في غير ذلك ، فهذا ليس له أصل شرعي .
سؤال : ما حكم الاغتسال بماء زمزم ، والماء الذي قرئ فيه القرآن في بيوت الخلاء ؟
الجواب : لا بأس بذلك ؛ لأنه ليس فيه قرآن مكتوب ، وليس فيه المصحف مكتوبا ، وإنما فيه الريق ، أي : النفث ، وهو : الهواء الذي خالطه المصحف ، أو خالطته القراءة .
_________
(1) تقدم .
(2) تقدم .(42/383)
ومن المعلوم أن أهل مكة في أزمنتهم الأولى كانوا يستعملون ماء زمزم ولم يكن عندهم غير ماء زمزم ، فالصواب أن لا كراهة في ذلك ، وأنه جائز ، والماء ليس فيه قرآن إنما فيه نفث بالقرآن وفرق بين المقامين .
سؤال : ما الحكم إذا ذبح العبد ذبيحة ، لأن الله قد شفى مريضه ، وخرج من المستشفى ؟
الجواب : أن هذا يرجع إلى نيته في ذبح هذه الذبيحة ، فإذا كانت بعد الانتهاء من المرض ، وارتفاعه ، وتعافى ذلك المريض ، وشفي بفضل الله -جل وعلا - وبنعمته : فهذا يختلف حاله ، فإذا قصد بالذبيحة أنها شكر لله - جل وعلا - وتصدق بلحمها فهذا حسن ؛ لأن المرض قد انتهى وارتفع ، فهو لا يقصد بها الاستشفاء ، وإنما هي نوع شكر لله - جل وعلا - ، وكذلك : فلا بأس إن دعا إليها أحدا من أقربائه ، أو ممن يحبون ذلك المريض ونحو ذلك ، فهذا من باب الإكرام .
وأما إذا كانت مقاصده أو نياته في هذا الذبح : أن يدفع رجوع هذا المرض مرة أخرى ، أو أن يدفع شيئا من انتكاسات المرض ، أو يدفع شيئا مما يخافه : فهذا غير جائز ، سدا لذريعة الاعتقادات الباطلة .(42/384)
سؤال : جاء في بعض الكتب نقل معناه : أن الإنسان إذا خاف على ولده أو على نفسه العين ، فإنه يضع على جبهته ، أو جبهة ولده نقطة سوداء ، لصرف العين ودفعها .
الجواب : اعتقادات الناس في دفع العين لا حصر لها ، والجامع لذلك : أن كل شيء يفعله الناس مما يعتقدونه سببا ، وليس هو بسبب شرعي ولا قدري : فإنه لا يجوز اتخاذه ، وهذا يختلف عما جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى غلاما صغيرا ، حسن الصورة ، وخاف عليه العين ، فقال لأهله : دسموا نونته ، ففعلوا ؛ فهذا من باب إخفاء الحسن ، ومحاولة تدميم الصورة . وليس التدسيم - وهو وضع نقطة في بعض الوجه - الذي يوضع لأجل أن تدفع تلك النقطة العين ، ولكن لأجل أن يظهر بمظهر ليس بحسن ، فلا تتعلق النفوس الشريرة به .
فإذا كان وضع هذه النقطة - التي ذكرت - لأجل اعتقاد أنها تدفع العين ، فهذا من اتخاذ الأسباب الشركية التي لا تجوز ، وإن كان لأجل إظهار عدم الحسن في تلك الصورة الجميلة ، أو ذلك الجسد المعافى ، أو نحو ذلك ، فإن هذا لا بأس به . والله أعلم .
سؤال : أجاز بعض العلماء التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليلهم حديث الأعمى فكيف يرد عليهم ؟ وجزاكم الله خيرا .(42/385)
الجواب : حديث الأعمى رواه الترمذي وغيره ، (1) وهو حديث حسن ، وهناك رواية أخرى طويلة في معجم الطبراني الصغير لهذا الحديث ، وفيها زيادة : أن أحد الصحابة - وهو عثمان بن حنيف رضي الله عنه - أرشد إلى استعمال ذلك الدعاء بعد وفاته عليه الصلاة والسلام . (2) .
بالنسبة للقدر الأول وهو أن الأعمى توسل بالنبي - عليه الصلاة والسلام - في حياته ، فهذا صحيح وجار على الأصول ، حيث إن التوسل بالنبي - عليه الصلاة والسلام - في حياته توسل بدعائه وهو - عليه الصلاة والسلام - يملك ذلك ، ويستطيعه ويقدر عليه .
أما التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام : أي بدعائه ، أو بذاته ، أو بنحو ذلك ، بعد وفاته ، فإنه لا يجوز ؛ لأنه طلب للشيء ممن لا يملكه ، والرواية التي في " الطبراني الصغير " ضعيفة ، وفيها مجاهيل ؛ ولذلك ليست بحجة ولم يرد أن الصحابة استعملوا هذا الدعاء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
_________
(1) رواه أحمد في المسند (4 / 138) والترمذي (5 / 569) والطبراني في المعجم الكبير(9 / 19 ) .
(2) رواه الطبراني في الصغير(1 / 184) .(42/386)
والذي يدل - أيضا - على أن ذلك خاص بالأعمى ، وعلى أصل الاستشفاع ، وأنه رحمة من الله - جل وعلا - للمستشفع ، وفضل منه عليه ، وإزالة عما به : أن ذلك الأعمى رأى النور وأبصر بعد دعاء النبي - عليه الصلاة والسلام - له ، وتوجه ذلك الأعمى إلى الله - جل وعلا - أن يجيب فيه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام .
والصحابة الآخرون الذين كانوا مكفوفين لم يدعوا بهذا الدعاء ، فكان في المدينة أناس عدة قد كفت أبصارهم منهم : ابن أم مكتوم ، وجماعة ، فما دعوا بذلك الدعاء وإنما كان ذلك خاصا بذلك الأعمى ، فالعلماء لهم في ذلك توجيهان :
التوجيه الأول : أن ذلك الدعاء كان خاصا بذلك الأعمى ، بدليل عدم استعمال بقية الصحابة ذلك الدعاء ، وعدم إرشاد النبي - عليه الصلاة والسلام - لهم أن يزال ما بهم من عمى البصر بذلك الدعاء .(42/387)
التوجيه الثاني : أن ذلك خاص بحياته - عليه الصلاة والسلام - ولا يكون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ، وهذا الثاني والأول جميعا ظاهرة صحيحة والصحابة فهموا ذلك ؛ ولهذا ثبت في صحيح البخاري وغيره أن عمر - رضي الله عنه - قال لما أجدبوا وهو يخطب في الاستسقاء : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بنبيك ، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك ، يا عباس قم فادع الله لنا . (1) .
قال العلماء : انتقل عمر من الفاضل - وهو النبي عليه الصلاة والسلام - إلى المفضول وهو العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام ، لعلة شرعية ، وهي أن الدعاء من الحي ممكن ، وأما من غير الحي - الحياة الدنيا المعروفة - فإنه غير ممكن ، وإلا كان عمر - رضي الله عنه - انتقل من الفاضل إلى المفضول لغير علة شرعية ، وهذا ممتنع في حق الصحابة رضوان الله عليهم ، لكمال فقههم .
سؤال : بعض أصحاب السيارات الخاصة ، كالليموزين ، وسيارات النقل الكبيرة ، يضعون على أطراف السيارة خرقا سوداء اعتقادا منهم بأنها حروز تمنعهم الحوادث ، فهل يجوز نزعها ؟ أو ماذا نفعل ؟
_________
(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء ( 1010) .(42/388)
الجواب : إذا كان الأمر كما وصفه السائل ، من أن سبب وضع تلك الشارات أو الخرق ، هو اعتقاد أهلها فيها ، فيجب نزعها ، ومن نزعها فله فضل نزع التمائم من أماكنها ، أو تخليص أصحابها منها ، لكن هذا متوقف على أن يعلم أنهم وضعوها لهذا الغرض ، فإن وضع مثل هذه الشارات لهذا الغرض غير معروف أنه لأجل دفع التمائم ، فإذا كان بعض الناس يستعملها لدفع الشر ، ويستعملها لأنها تمائم ، فهذه يجب نزعها ، ومن رآها لا يحل له أن يتعداها حتى ينزعها ؛ لأنها اعتقاد في غير الله ؛ ولأنها نوع من أنواع المنكر وذلك الاعتقاد فيها كبيرة من الكبائر ، وشرك أصغر بالله - جل وعلا - .
سؤال : كيف نخرج قول النبي عليه الصلاة والسلام : « لولا أنا لكان عمي في الدرك الأسفل من النار » ؟(42/389)
الجواب عن هذا يأتي في بابه - إن شاء الله - والقاعدة المنضبطة في ذلك ، هو منع أن يقول القائل : لولا فلان لكان كذا ، لأنه شرك لفظي ، ونوع تشريك ؛ حيث إنه نسب النعمة لغير الله - جل وعلا - ، وهذا له صور كثيرة جدا : منها على سبيل المثال قول القائل : لولا أن فلانا كان جيدا معي لكان حصل لي كذا وكذا ، أو : لولا أن السيارة كانت قوية لهلكت ، أو لولا كذا لكان كذا ، مما فيه تعليق دفع النقم أو حصول النعم لأحد من المخلوقين . والواجب على العباد أن ينسبوا النعم إلى الله - جل وعلا - ؛ لأنه هو الذي يسدي النعم ، قال - جل وعلا - في سورة النعم : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، وقال - جل وعلا - أيضا في السورة نفسها : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] ، فالواجب على العبد المسلم أن ينسب النعم إسداء ، وتفضلا ، وإنعاما لله - جل وعلا - وأن يتعلق قلبه بالذي جعل تلك النعم تصل إليه .(42/390)
والناس أو الخلق أو الأسباب ، إنما هي فضل من الله - جل وعلا - جعلها أسبابا ، وما فلان من الناس إلا سبب أوصل الله إليك النفع عن طريقه ، أما النافع في الحقيقة فهو الله - جل وعلا - ، فإذا اندفعت عنك نقمة ، فالذي دفعها هو الله - جل وعلا - بواسطة سبب ذلك المخلوق ، آدميا كان ، أو غير آدمي ، فيجب نسبة النعم إلى الله - جل وعلا - فلا تنسب نعمة لغيره سبحانه ، ومن نسبها لغيره سبحانه فهو داخل في قول الله - جل وعلا - : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] .(42/391)
وأما الحديث الذي في الصحيح من « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : هل نفعت عمك أبا طالب بشيء؟ قال : " هو في ضحضاح من النار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار » (1) ، فقوله عليه الصلاة والسلام : " لولا أنا " هذا فيه ذكر لعمله - عليه الصلاة والسلام - وافترق عن قول القائل : لولا فلان لحصل كذا ، من جهتين : الجهة الأولى : أن ذلك القائل هو الذي حصلت له النعمة ، أو اندفعت عنه النقمة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا - يخبر عن صنيعه بعمه ، وأن عمه اندفعت عنه بعض النقمة ، فذلك النهي في المتحدث الذي تعلق قلبه بالذي نفعه أو دفع عنه الضر ، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا أنا " فهو إخبار عن نفعه لغيره ، فليس فيه تعلق القلب ، في اندفاع النقمة ، أو حصول النعمة بغير الله - جل وعلا - ، هذا وجه ، فتكون العلة التي من أجلها نهي عن قول : لولا كذا ، لما فيها من نسبة النعمة إلى غير الله ، من جهة تعلق القلب بذلك الذي حصل له النعمة ، وهذا غير وارد في قول النبي عليه الصلاة والسلام : « لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار » ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - ليس هو الذي حصلت له النعمة ، وإنما
_________
(1) أخرجه البخاري (3885) و (6564) ومسلم (360 ) .(42/392)
هو مخبر عن فعله لعمه .
الوجه الثاني في ذلك : أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد بين أن نفعه لعمه من جهة الشفاعة ، فهو يشفع لعمه حتى يكون في ضحضاح من نار ، فقوله : « لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار » يعني : لولا شفاعتي . ومعلوم بنصوص الشرع أنه عليه الصلاة والسلام يكرم بالشفاعة ، ويعطى الشفاعة ، فهو سائل ؛ وهو سبب من الأسباب ، والمتفضل حقيقة : هو الله - جل وعلا ، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام - بضميمة علمنا أنه يشفع لعمه - كأنه قال : لولا أن الله شفعني فيه لكان في الدرك الأسفل من النار . فليس فيه - بالوجهين جميعا - تعليق للقلب لغير الله - جل وعلا - في حصول النعم ، أو اندفاع النقم ، مما يكون في قول القائل : لولا فلان لحصل كذا ، أو لولا السيارة لحصل كذا ، أو لولا الطيار لحصل كذا ، أو لولا البيت كان محصنا لحصل كذا ، ونحو ذلك مما فيه تعلق قلب من حصلت له النعمة بالمخلوقين ، والله أعلم .(42/393)
شرح متن الورقات للجويني
الشيخ العلامة
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[(05) أشرطة مفرغة](
ملاحظة: تفريغ الأشرطة لا يعني الاستغناء عنها.
بسم الله الرحمن الرحيم
(معنى أصول الفقه)
هذه ورقات تشتمل على فصول, من أصول الفقه, وذلك مؤلف من جزئين مفردين.
فالأصل: ما بني عليه غيره. الفرع: ما يبنى على غيره.
والفقه: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
(أنواع الأحكام)
والأحكام سبعة: الواجب, والمندوب, والمباح, والمحظور, والمكروه، والصحيح, والباطل.
فالواجب: ما يثاب على فعله, ويعاقب على تركه.
والمندوب: ما يثاب على فعله, ولا يعاقب على تركه.
والمباح: ما لا يثاب على فعله, ولا يعاقب على تركه.
والمحظور: ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله.
والمكروه: ما يثاب على تركه, ولا يعاقب على فعله.
والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به.
والباطل: ما لا يتعلق به النفوذ, ولا يعتد به.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الجويني (هذه ورقات تشتمل على أصول من أصول الفقه)، (هذه ورقات) لتقليلها، ومن سنة العلماء أنهم يقللون شأن ما يكتبون عند أنفسهم، ولا يمدحون ما يقولون أو ما يكتبون، فهذا قال (هذه ورقات) تقليلا لحجمها؛ لعدد صفحاتها، وأيضا يُشْعَر منه أنه ليس بمُتَبَاهٍ بها مع أنها مما اعتنى به العلماء بعده تدريسا وتأليفا وشرحا.
(هذه ورقات تشتمل على أصول من أصول الفقه) (أصول من أصول الفقه) يعني ما اشتملت على جميع مسائل أصول الفقه؛ ولكنها اشتملت على فصول منها؛ يعني على مسائل منها؛ المسائل الأصلية المشهورة من مسائل أصول الفقه يشير إليها إشارة.(44/1)
ثم قال بعد ذلك (وذلك) يعني به أقرب مشار إليه وهو أصول الفقه، (ذلك) يعني أصول الفقه، (مؤلف من جزئين مفردين) يعني كلمة ”أصول الفقه“ مؤلفة من جزئين مفردين، مؤلفة من ”أصول“ ومن ”فقه“، فحتى نفهم ونعرف تعريف أصول الفقه, المعنى الاصطلاحي الخاص لابد أن نعرف تركيبها، وهي مركبة من مفردين كلمة ”أصول“ ومن كلمة ”فقه“، ثم أضيفت فقيل ”أصول الفقه“، فصار لها تركيب إضافي، وصار لها معنى اصطلاحي, حتى نفهمها نأخذ كل كلمة على حدا.
( قال (فالأصل) الأصل واحد الأصول، ”أصول الفقه“ أصول جمع أصل، أراد أن يوضح ذلك فقال (الأصل: ما بني عليه غيره.)، يقال أصل الدار يعني أساساتها، أصل الشجرة جذورها وجذعها الأسفل، قال جل وعلا ?مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ?[إبراهيم:24]سمّى أسفلها أصلا لأنه بني عليه غيره وهو بقية الشجرة, أصول الإسلام؛ لأنه يبنى عليها الإسلام؛ أصول الإسلام الخمسة يبنى عليها الإسلام, أصول الإيمان المسائل التي يبنى عليها الإيمان، وهكذا، قال (فالأصل: ما بني عليه غيره. والفرع: ما يبنى على غيره.) الأصل مجتمع الفروع، فالفروع تتفرع من أصل واحد، لهذا صار الفرع يُبنى على غيره, يبنى على أي شيء؟ يبنى على الأصل, الأصل ينبني عليه الفرع, الأصل يُبني عليه الفرع, والفرع يُبنى على الأصل, يريد بذلك أن يبيِّن أنّ الفروع التي هي مسائل الفقه، أنّ لها أصولا بنيت عليها وأنه لم تكن من طريق اجتهاد ليس له مستند؛ بل لها أصولُها، ولها أدلتها، ولها براهينها، هذا هو المراد من قوله (أصول)، فالأصول تنبني عليها الفروع، كما أن الفروع تُبنى على الأصول، ولهذا في مؤلفات العلماء تخريج الفروع من الأصول وثَم الفروع، وثَم فروع الأصول ونحو ذلك, هذا الجزء الأول.(44/2)
( الثاني قال (والفقه: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد)، (معرفة الأحكام الشرعية) عبّر عن الفقه بالمعرفة، والفقه تارة يُعَبَّر عنه بالعلم، وتارة يعبر عنه بالفهم، وتارة يعبر عنه بالمعرفة. والمعرفة ثَم فرق بينها وبين العلم؛ لكن نقول تسهيلا في هذا المقام: إنّ المعرفة هي العلم. وإنْ كان العلم بلا شك أشرف وأعظم من المعرفة، في تفصيل يضيق المقام عن بيانه. لكن قوله (معرفة) يعني العلم، فقوله (والفقه معرفة الأحكام الشرعية) يعني العلم بالأحكام الشرعية,
الأحكام الشرعية قسمان:
(منها أحكام خبرية.
( ومنها أحكام عملية.
الأحكام الخبرية: هي التي لا يدخلها الاجتهاد؛ يعني مسائل الاعتقاد ونحو ذلك، ممثل صفات الله جل وعلا، مثل الغيبيات وما يتعلق بالرسالات ونحو ذلك، هذه مسائل خبرية؛ يعني ليست مدار اجتهاد بين العلماء. هل هذا مراده في الفقه؟ الفقه في الأصل يطلق على العلم والفهم ?فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ?[التوبة:122] يشمل الفقه هذا معرفة العقائد؛ معرفة التوحيد، ومعرفة الأحكام العملية، هنا قيد لما تُوُهِّم من دخول الخبريات، قال (معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد)، (طريقها الاجتهاد) يعني تختلف فيها أنظار العلماء, هذا الفقه, (الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد) يعني تنبني على الاجتهاد؛ على النظر، ليست مسألة مقطوع بها بل ربما اختلفت فيها أنظار العلماء.
إذن ما تعريف ”أصول الفقه“؟ على هذا لما عرف الجزئين؛ بيّن معنى الجزئين ”الأصول“ و”الفقه“ الآن نستطيع أن نركب تعريفا لأصول الفقه، قال (الأصل: ما بني عليه غيره)، (الفقه: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد) فنستطيع أن نقول بناء على كلامه إنّ:
أصول الفقه: هي الأصول التي يُبْنَى عليها معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.(44/3)
أو تقول الأصول؛ أصول الفقه: المسائل التي بُنِيَ عليها معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
إذن لا يدخل في أصول الفقه العقائد؛ لا يدخل فيها الأحكام الخبرية؛ إنما يتعلق بأصول ينبني عليها معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، هذه الأصول هي طرق الاستنباط نعطيها بعبارة أخرى: هي طرق الاستنباط، أصول الفقه معناها: طرق الاستنباط؛ طرق استنباط الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد؛ كيف تستنبط؟، طرق الاستنباط هي أصول الفقه.
بعد ذلك قال (الأحكام سبعة) أيُّ أحكام هذه؟ الأحكام التي ذكرها من قبل، وهي التي ذكرها في قوله (معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد)، فقال (والأحكام -يعني الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد- سبعة: الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه والصحيح والباطل) هذا التقسيم في كون الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد يعني الأحكام سبعة، هذا التقسيم خاص به، والعلماء من بعد يقسمون الأحكام إلى قسمين:
( إلى أحكام تكليفية.
( وإلى أحكام وضعية.
يقولون:
( الأحكام الشرعية إما أن تكون مَنُوطة بالتكليف؛ يعني قد كُلِّفَ العباد بها، هذه تسمى الأحكام التكليفية، وهي الخمسة المذكورة هنا: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحضور.
( وإما أن تكون أحكاما هي علامات يُستدل بها على أحكام الشرع، سموا هذا القسم من الأحكام بالأحكام الوضعية، معنى الأحكام الوضعية؛ يعني الأحكام التي وضعها؛ يعني نصبها الشارع علامات على الأحكام التكليفية.
ولهذا القسمة المشهورة عند أهل العلم؛ أنّ الأحكام قسمان أحكام تكليفية وأحكام وضعية، وأنّ الأحكام التكليفية خمسة، والأحكام الوضعية أيضا خمس.(44/4)
ما هي الأحكام الوضعية؟ الشرط, السبب, المانع، الصحيح, الباطل. الشرط؛ فنقول هذا من شروطه؛ شروط الصلاة منها دخول الوقت، دليله قوله تعالى ?أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ?[الإسراء:78], (دُلُوك الشَّمْسِ) أليس حكما شرعيا؟ لكن كلف العباد به أم جُعل علامة لم يكلف العباد به؟ فهو حكم ليس حكما تكليفيا وإنما هو حكم وضعي؛ يعني جُعل أمارة، جُعل دلالة، وهذا يسمى هاهنا الشرط (أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) يعني زوال الشمس شرط لوجوب إقام الصلاة، (أَقِمْ الصَّلَاةَ) الصلاة واجبة عليك إذا زالت الشمس؛ إذا دلكت، فيكون الدلوك شرطا، هذا حكم وضعي.
أي صارت الأحكام عندنا: التكليفي منها خمسة، والوضعي منها خمسة. هو جعلها سبعة، ولم يفرق بين التكليفي والوضعي، وجعل السبب والشرط والمانع ليس من هذه الأحكام، وكما قلتُ لك من قبل إن هذا اصطلاح خاص له، والصحيح القسمة.(44/5)
قال (الأحكام سبعة: الواجب والمندوب...) إلى آخره, لو تأملت معي لوجدت أنّ (الواجب) ليس حكما، لما؟ لأنّ الواجب صفة يوصف بها الشيء؛ نَصِفُ الصلاة بأنها واجبة، فالحكم الذي أتى من الشارع هل يصح أن نقول إنّ الحكم هو الواجب؟ لا يصح؛ لهذا يقول العلماء إن هذه العبارة وهي كثيرة عند الأصوليين فيها شيء من التجوّز لأجل الملازمة، والتلازم بين الواجب وما سأذكره؛ ألا وهو أنّ حكم الشارع هو الإيجاب، حكم الشارع هو الندب، حكم الشارع الإباحة، حكم الشارع الحظر، حكم الشارع الكراهة. أما الواجب فهو وصفٌ لما قام به الإيجاب، الإيجاب حكم واحد، أما الواجب هذا وصف لما تعلق به الإيجاب، -أليس كذلك؟- فحكم الله (أَقِمْ الصَّلَاةَ) نقول فيها حكم بواجب الصلاة؟ ما يستقيم؛ لكن فيها حكم بإيجاب الصلاة، هذا صحيح، كذلك ?وَافْعَلُوا الْخَيْرَ?[الحج:77] هذا فيه حكم بندب فعل الخير أو بإيجاب فعل الخير، ?لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى?[النساء:43]، فيها التحريم، فيها الحَظْر؛ لكن نقول فيها المحرم؟ إذن هناك فرق بين حكم الشارع الذي هو الإيجاب والندب والإباحة والحضر والكراهة، هذه الأحكام السالفة، والصحة والبطلان في الأحكام الوضعية ظاهر هذا؟. إذن نقول هذه العبارة فيها تجوّز.
بدأ يشرح هذه الأحكام السبعة فقال (الواجب: ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه), الواجب غير الإيجاب تجوُّزًا نقول الواجب يعني ما تعلق به، ما تعلق به الإيجاب, الإيجاب الذي ذكرته لك الذي يكون من الله جل وعلا من الأحكام.(44/6)
قال (الواجب: من الأحكام ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه) الثواب على الفعل، والمعاقبة على الترك، ليس وصفا للواجب؛ ولكنه أثر تعلق الواجب بمن فعله؛ يعني الواجب: ما يثاب على فعله, يثاب من؟ يثاب الفاعل على فعله، الواجب: العمل الذي يثاب فاعله على فعله ويعاقب تاركه على تركه, إذن تعلق بالفاعل هذا نتيجة؛ يثاب على فعله ويعاقب على تركه، هذا نتيجة من النتائج، لكنه ليس حَدًّا في الواقع الصحيح للواجب, لكن نحن نأخذ ذلك على سبيل التجوّز لأجل أن هذه الورقات كما ذكرت لك من الرسائل السهلة الميسورة في علم أصول الفقه، تُعَرِّف الشيءَ بأبسط ما يدل عليه؛ يعني بأسهل ما يدل عليه، قال (الواجب: ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه) فاجتمع في الواجب شيئان: أن من فعله أثيب، ومن تركه عوقب. (ما يثاب على فعله) أخرج غير ذلك، وهو ما يعاقب على فعله وهو المحرم أو المحظور، أليس كذلك؟ أخرج أيضا ما لا يثاب على فعله وهو المباح, إذن (ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه) هذا وصف لنتيجة فعل الواجب، وإنه إذا فعله فإن أثيب على فعله وعوقب على تركه صار واجبا.
الثواب على الفعل والمعاقبة على الترك، في الدنيا أو في الآخرة؟ يعني كيف نفهم من النصوص أنّ هذا واجب بهذا التعريف؟ الثواب على الفعل المقصود منه الأجر، ليس المقصود منه الثواب الدنيوي؛ لأنّ من الأعمال ما يثاب عليها المرء في دنياه ولا يسمّى واجبا، ويعاقب على تركها لأجل الدنيا ولا يسمى واجبا، من جنس الأعمال المختلفة إذْ تقع عليها عقوبات كونية ونحو ذلك. يثاب على فعله ويعاقب على تركه يوم القيامة إنْ فعله في الدنيا أثيب عليه يوم القيامة، إنْ تركه؛ ترك فعله في الدنيا عوقب عليه يوم القيامة هذا هو الواجب.(44/7)
لاحظ هنا أنّ الفعل والترك ها هنا أنّ المراد منهما مع تمام الشروط-مع بقية الشروط- لأنه قد يفعله ولا يثاب، وقد يتركه ولا يعاقب، قد يفعل الشيء الواجب ولا يثاب عليه؛ لأنّ صورته صورة الواجب، لكن ما أتى ببقية الشروط، مثل لو صلى بدون طهارة, الصلاة في نفسها واجبة لكنه لا يثاب عليها؛ لأنه صلى على غير طهارة، لو ترك أداء واجب لعارض إما لجهل أو لمرض أو لخطأ أو لعذر، فهو تَرَكَه لعارض فهذا لا يسمى تاركا للواجب، ولا يعاقب عليه وإنْ كان في الصورة تاركا للواجب؛ لأنه لابد من قيد أنْ يكون فعله حين فعله بنية الفعل؛ نية التقرب، وأنْ يكون تركه حين ترك بنية المخالفة، وهذا القيد مهم جدا، فيمكن أن نقول في كلام الماتن:
فالواجب: ما يثاب على فعله قصدا -يعني إنْ فَعَلَه قاصدا-, ويعاقب على تركه إنْ تركه قاصدا. هذا قيد مهم.
قال (والمندوب: ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه), المندوبات أنواع, والندب هو الدعاء لفعل شيء، كما قال الشاعر:
ليسألون أخاهم حين يَنْدُبُهم في النائبات على ما قال برهانا
”حين يندبهم“ يعني حين يدعوهم, فالمندوب هو الذي دُعِي إلى فعله, لكنه ليس في درجة الواجب؛ لأنه لم يكن الأمر به أمرا جازما، بحيث أنه توعد من تركه بالعقاب، وإنما كان الأمر به حثا وترغيبا، ليس معه توعد عند المخالفة, لهذا قال (ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه)، من جنس أنواع المسنونات المختلفة في العبادات؛ في الصلاة، والزكاة، في الصدقات وغيرها، وهذا كما ذكرت لك سالفا نتيجة للفعل.(44/8)
(المباح: ما لا يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه), وهنا أيضا نُوزع في المباح؛ هل المباح من أنواع الأحكام الشرعية؟ إذا كان (لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه)، فكيف صار حكما؟ معنى ذلك أنّه تُرِك المرء وشأنه فيه لم يخاطب فيه بأن يفعل، ولم يخاطب فيه بأن يترك؛ فلم يُقَلْ له افعل ولم يقل له أترك، ولم يحث على الفعل ولم يحث على الترك، فصار مباحا، فكيف صار حكما شرعيا؟ لهذا كثير من العلماء نازعوا في كون المباح حكما شرعيا، وقالوا: المباح باقي على ما هو عليه ولم يأتِ أمر من الشارع.
وهذا اعتراض ليس بوجيه؛ بل إنه مردود، لما؟ لأن الإنسان في هذه الدنيا مخلوق لعبادة الله جل وعلا، مخلوق لكي يخاطب بالأمر والنهي، فإن لم يخاطب بشيء وسُكِت عنه، كان السكوت دليلا على جواز اختياره للفعل أو للترك، فجاء الحكم من حيث التخيير؛ أنّ الشارع سكت عنه، فتركك مخيرا، وهذا الترك لخِيرَتِك والترك لما تريد هذا نوع من الأحكام، كما جاء في الحديث «إِنَّ الله فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا» هذا سكوت، سكوت عن الحكم، صار السكوت مقصودا. أليس كذلك؟ صارت الإباحة حكما شرعيا؛ لأن المرء ما يترك هواه في الدنيا لابد يخاطب، فإذا خُيِّر في هذا بين الفعل والترك بالسكوت عن إبداء أن هذا الفعل أنت مخاطب فيه بفعل أو ترك صار ذلك السكوت وذاك التخيير حكما شرعيا.(44/9)
قال (المحظور: ما يثاب على تركه, ويعاقب على فعله), المحظور الذي هو المحرم ؛ يثاب على تركه مثل الأول نقول يثاب على تركه قصدا , ويعاقب على فعله قصدا , لكن إن فعله غير قاصد هل يعاقب؟ لا يعاقب؛ لأنه لابد من القصد، ?رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا?[البقرة:286]، وقال ? إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا?[النحل:106]، فلابد من القصد؛ قصد الفعل.
طبعا الثواب والعقاب على أي شيء؟ على هذا الفعل وعلى الترك في الآخرة، ولكن في الدنيا فاعل المحظور، في الدنيا قد يعاقب ولو كان غير قاصد، ولهذا نقسم ها هنا المسألة إلى قسمين، نقول:
(أحكام يُقبل فيها التَّدَيُّن -التدين عبارة عند أهل العلم؛ يعني يُتْرَكُ المرء فيها ودينه مع ربه جل وعلا-.
( وهناك محظورات يتعلق بها العقاب عند القاضي؛ ... الأمر والنهي ونحو ذلك، فمثلا فمن قتل نفسا خطأ، هو لم يقصد الجناية، قتل الخطأ، مثلا هو يقصد يرمي طيرا فرمى آدميا، لكن أليس عليه دِيَة؟ عليه الدية؛ الدية نوع من العقوبة, أليس عليه كفارة أن يصوم؟ عليه كفارة أن يعتق رقبة أو يصوم؛ يعني فإن لم يجد صام شهرين متتابعين هذا نوع من العقوبة.
فإذن نقسم هنا قوله (يعاقب على فعله) إلى أنه لابد من قيد القصد، وأنّ ثَم أشياء يعاقب عليها في الدنيا وإن لم يقصد، لكنه في الآخرة معذور، فتكون هذه التعريفات المراد بها الثواب والعقاب الأُخروي. ظاهر؟
(والمكروه: ما يثاب على تركه, ولا يعاقب على فعله) فيقابل المندوب؛ لأن (المندوب: ما يثاب على فعله), والمكروه يثاب على تركه، (المكروه) يراد به هنا المكروه الاصطلاحي الذي هو قسيم الأنواع السابقة.(44/10)
والمكروه في القرآن وفي السنة أعم من هذا التعريف؛ لأنه قد يكون المكروه محرما؛ بل أكثر ما جاء في الكراهة في النصوص ما كان محرما محظورا، لما ذكر الله جل وعلا المحرمات والكبائر في سورة الإسراء من الزنا وقتل النفس بغير الحق وأخذ المال ونحو ذلك، قال بعد ذلك ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئة?[الإسراء:38] في قراءة، وفي قراءتنا ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?[الإسراء:38] مع أنها محرمات، لكن قال (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا)، فدل على أن الكراهة في نصوص القرآن والسنة قد تكون للتحريم.
ومراده هنا ما جرى عليه اصطلاح الفقهاء؛ اصطلاح العلماء المتأخرون الذين يجعلون الكراهة إنما هي كراهة التنزيه، التي وصفها بقوله (يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله).
قد تكون الكراهة في النصوص كراهة تنزيه ممثل قوله «كره لكم قيل وقال»، وقد تكون للتحريم كما ذكرت لك في الآية، وكما في قوله «كره لكم قيل وقال وإضاعة المال», (إضاعة المال) محرم ليس كراهة تنزيه.
فإذن لفظ الكراهة في النصوص فانتبه له إلى أنه لا يراد به ما اصطلح عليه الفقهاء والأصوليون من هذا التعريف الذي عرف به الماتن حيث قال (والمكروه: ما يثاب على تركه, ولا يعاقب على فعله.)
قال (والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به. والباطل: ما لا يتعلق به النفوذ, ولا يعتد به.).
نترك البيان للصحيح والباطل إلى غد إن شاء الله، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الأسئلة:
(هذا سؤال لطيف، يقول ما إعراب ثلاثة الأصول وأدلتها؟ ولماذا لم يقل المصنف: الأصول الثلاثة وأدلتها؟ وما هي العبارة الأصح؟(44/11)
الشيخ رحمه الله تعالى له رسالة أخرى بعنوان الأصول الثلاثة رسالة صغيرة أقل من هذه علمًا؛ ليعلمها الصبيان والصغار تلك يقال لها الأصول الثلاثة, وأما ثلاثة الأصول فهي هذه التي نقرأها، ويكثر الخلط بين التسميتين، ربما قيل لهذه ثلاثة الأصول، أو الأصول الثلاثة، لكن تسميتها المعروفة أنها ثلاثة الأصول وأدلتها.
إعراب ثلاثةُ الأصولِ وأدلتها:
ثلاثة: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه (هذه ثلاثة) خبر مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه الضمّة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
الأصول: مضاف إليه مجرور بالتبعية وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.
الواو: عاطفة.
أدلةُ: معطوف على ثلاثة مرفوع بالتبعية, تبعية العطف وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
ها: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالإضافة.
(((((
والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به.
والباطل: ما لا يتعلق به النفوذ, ولا يعتد به.
الحمد لله رب العالمين.
قال الجويني هنا (والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به. والباطل: ما لا يتعلق به النفوذ, ولا يعتد به). الصحيح والباطل من أقسام الحكم الوضعي؛ لأن الصحيح وصف؛ علامة لا يمكن للمسلم أن يُكَلَّف به, يكلف بشيء صحيح؟ لا، يكلف بترك شيء باطل؟ إنما هذا من الأحكام الوضعية؛ يعني الأحكام التي جعلت علامة على ما يريده الشارع.
الصحيح قال (ما يتعلق به النفوذ ويعتد به) يعني أنّ الصحيح شيء يتعلق به نفوذ أو النفوذ ويعتد به؛ يعني شرعا.(44/12)
أولا ما معنى (يتعلق)؟ معنى (يتعلق) يعني يترتب عليه يعني يترتب عليه النفوذ، والنفوذ من نَفَذَ؛ إذا وصل الشيء إلى غايته، قالوا نفذ؛ يعني وصل إلى غايته، يعني ما يترتب عليه الغاية منه ويُعتد به شرعا، وهذا التعريف من الجويني مما خالفه عليه وفيه الأصوليون، فالصحيح تارة يُعرّف عند الفقهاء، وتارة يُعرف عند الأصوليين، وكالعادة يكون بين الأصوليين خلاف في تعريفه، لكن إذا لَحَظْنا إلى تعريف الجويني قال (والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويُعتد به) وهذا إنما تدخل فيه العقود، أمّا العبادات فلا تدخل في هذا التعريف؛ لأن العبادات ما يتعلق بها نفوذ، ولهذا قال جماعة من الأصوليين: إنّ الصحيح يعرف بأنه تَرَتُّبُ أثرٍ مطلوبٍ مِنْ فِعْلٍ عليه. لما؟ لأن هذا يجمع ما يتعلق بالعقود وما يتعلق بالعبادات. أما الفقهاء فالفقهاء فإنهم يجعلون الصحيح في العبادات له تعريف، والصحيح في العقود والمعاملات له تعريف آخر:
فالصحيح في العبادات عندهم: هو ما يحصل به الإجزاء، ويسقط معه القضاء. يعني عبادة أجزت، وسقط عن صاحبها قضاءها بعد أدائها، هذه تسمى صحيحة ولو لم يكن مأجورا عليها.
وعندهم تعريف للصحيح في المعاملات والعقود.
لكن التعريف الجامع هو ما ذكره طائفة من الأصوليين، وهو قولهم إنّ الصحيح: -ما ذكرت لكم من قبل- هو ترتب –الصحيح أو الصحة- أثر مطلوب من فعل عليه.
فالصحيح إذن تعلق به الترتب؛ ترتب أثر، وهذا الأثر مطلوب من فعل، قد يكون الطلب من المكلَّف، وقد يكون الطلب من الشارع؛ من المكلِّف، من فعل عليه، وهذا يشمل العبادات؛ لأن العبادة توصف بالصحة، مثلا الصلاة إذا ترتب الأثر المطلوب من الفعل عليها وهو إجزاؤها، وسقوط التكليف بها، وعدم مطالبة فاعلها بالقضاء.(44/13)
العقد ما هو الأثر المترتب عليه, تعريف صاحب الورقات مستقيم مع العقود؛ يقول (ما يتعلق به النفوذ ويعتد به شرعا) فإذا تعلق النفوذ بعقد ما وصف بأنه صحيح ويعتد به شرعا، ما هذا النفوذ يعني الأثر المترتب على العقد من انتقال الشيء. مثلا في البيع؛ انتقال هذه العين من المالك الأول إلى المالك الثاني، وأصبح المالك الجديد له التصرف فيها, بعد أنْ كان المتصرف فيها هو الأول صار المتصرف فيها هو الثاني. فالبيع مثلا يوصف عقده بالصحة، متى؟ إذا تعلق به النفوذ؛ وهو الانتقال وحيازة الثاني له، ويُعتد به شرعا؛ لأنه قد يتعلق به النفوذ ولا يُعتد به شرعا فلا يوصف بالصحة؛ مثل بيع المحرمات، لو باع إنسان إلى آخر خمرا، فهل بيع الخمر يوصف العقد بأنه صحيح؟ لا يوصف العقد بأنه صحيح، لما؟ لأنه لا يعتد به شرعا؛ (1) لأنّ الخمر مثلا ليست بمال, الأعيان المحرمة بيعها لا يوصف بأنه عقد صحيح، ولكن قد يبتاع الناس ذلك، وينتقل من الأول للآخر؛ لأن هذه الأشياء واجب إتلافها، فلا يسمى انتقالها من الأول إلى الآخر صحيح شرعا، لهذا لو وصلت مثلا للقاضي لقال هذا عقد غير صحيح، يأتي المتبايعان يقول الأول أو يقول الثاني للأول أو الأول للثاني أو يقولان للقاضي تبايعنا برضانا هذا راضي وأنا راض. فيقال: ولو رضيتما، فإن العقد وإن كان في عرفكما بينكما صحيح، لكنه في الشرع لا يوصف بالصحة. لما؟ لأنه لا يُعتد به شرعا، وأيضا إذا كان لا يعتد به شرعا فبالتالي لا يتعلق به نفوذ، فإذن لم يوصف بالصحة وإن تعلق به نفوذ في عرفكما؛ لكنه لما لم يكن صحيح شرعا صار لا يتعلق به نفوذ؛ لأنه غير معتد به شرعا، ولهذا لا تنتقل الملكية؛ ملكية المحرمات ما تنتقل شرعا، لو باع رجل شيئا محرم الأول أصلا ليس مالكا له ملكا شرعيا صحيحا، ولا يوصف ملكه له بالصحة، والثاني أيضا لا يوصف ملكه بالصحة.
إذن نخلص من هذا إلى أن الصحة تنقسم:
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الأول(44/14)
( صحة في العبادات.
( وصحة في العقود.
وأنّ ما ذكره الماتن هذا يتعلق بالصحة في العقود؛ لأن الصحة في العبادات إنما يُقال إنها ما أعتد به شرعا؛ يعني الصحيح من العبادات هو ما اعتد به شرعا؛ لأنه لا يتعلق به نفوذ، أو كما عرفت التعريف الآخر: ما ترتّب عليه أثر الفعل شرعا. أو: ما ترتب عليه الإجزاء والإسخاط القضائي ونحو ذلك.
فإذن العقود تعلق بها النفوذ والاعتداد اثنين، أما العبادات فإنما هي في الاعتداد فقط.
هناك تارة يُعبّر عن عدم الصحة بعدم القَبول، ”لا يقبل“ في النصوص، ”لا يقبل“بأن ”لا يصح“ قليل في النصوص جدا؛ بل تكاد تكون من استعمالات علماء الأصول والفقه.
في الشرع يكثر ”لا يُقبل“ ?فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ?[آل عمران:91]، «لا يَقْبَلُ الله صَلاَةَ حائِضٍ إِلاّ بِخِمارٍ»، «من شرب الخمر لن تقبل له صلاة أربعين صباحا»، «من أتى كاهنا فسأله عن شيء لن تقبل له صلاة أربعين صباحا».
فهل القبول ونفي القبول؛ هل نفي القبول هو نفي الصحة؟ الجواب: أنّ نفي القبول لا يعني نفي الصحة، وإن كان القبول والصحة قد يترادفان؛ يعني القبول، قد نعبر عن الأشياء الصحيحة بالمقبولة والمقبولة بالصحيحة، لكن نفي القبول لا يعني نفي الصحة، وذلك لأنّ ما نفي عنه القبول على قسمين في النصوص:
نُفي القبول بمعنى الإجزاء، وهذا هو المراد بنفي الصحة، مثل قوله عليه الصلاة والسلام «لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةَ أحَدِكُم إذَا أحْدَثَ حَتّى يَتَوَضّأَ» هذا القبول، عدم القبول بمعنى عدم الصحة، «لا يَقْبَلُ الله صَلاَةَ حائِضٍ إِلاّ بِخِمارٍ» هذا عدم القبول بمعنى عدم الصحة، (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ) يعني بمعنى الصحة، هذا قسم.(44/15)
القسم الثاني يُنفى القبول ويراد منه نفي الثواب مع بقاء العبادة صحيحة عند الفقهاء والأصوليين، وذلك مثل قوله «من شرب الخمر لن تقبل له صلاة أربعين صباحا»، ومن مثل قوله عليه الصلاة والسلام «من أتى كاهنا فسأله عن شيء لن تقبل له صلاة أربعين يوما» أجمع العلماء على أن من شرب الخمر وصلى أربعين صباحا، ومن أتى كاهنا فسأله وصلى أربعين صباحا أنه لا يؤمر بالعبادة، ولهذا قالوا إنّ نفي القبول هنا بمعنى نفي الثواب، أما الصحة فالعبادة في نفسها صحيحة إذا استكملت شروطها الشرعية.
قال ابن العراقي -أحد العلماء-: يمكن أن تضبط المسألة -يعني الفرق بين النصوص التي فيها عدم القبول بمعنى عدم الصحة والأخرى التي فيها أن عدم القبول بمعنى عدم الثواب- قال: يمكن أن تضبط بأنه إذا اقترن مع عدم القبول في النص ذكر معصية، فإنه يكون عدم القبول بمعنى عدم الثواب-بمعنى أنه لا يثاب عليها والعبادة صحيحة-، وإن لم يقترن بالعبادة معصية وإنما اقترن بها شرط، صار معنى عدم القبول عدم الصحة. وهذا ضابط عندي حسن، لأنه يمكن ضبط كثير من المسائل به.
هذا بعض ما يتعلق بقوله (والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به).
(والفاسد: ما لا يتعلق به النفوذ, ولا يعتد به) والفاسد مقابل للصحيح قد يقال الباطل، على تعريفنا السابق عرفنا الصحيح بأنه: ترتُّب أثر مطلوب من فعل عليه.
إذن الفاسد ماذا يكون؟ يكون: عدم ترتب أثر مطلوب من فعل عليه. وهنا قال (ما لا يتعلق به النفوذ, ولا يعتد به) وهذا يدخل في العقود، أما العبادات فتعريفه هذا عليه نفس الإيراد السابق فيما ذكرنا آنفا.(44/16)
الفاسد بمعنى الأثر المطلوب لا يترتب عليه، يسمى فاسدا وهذا يسمى من الأحكام الوضعية؛ لأن الأثر لم يترتب على الفعل، من الذي لم يرتب الأثر على الفعل؟ الشرع، مع أنّ الفاعل يريد التّرتّب؛ هو يصلي يرد أنْ يترتّب أثر فعله الذي هو الصلاة على ما فعل، لكن الشارع هو الذي يحكم على فعله بالفساد، يقول: هذا الفعل منك لا يترتب عليه أثر. لما؟ لفقد أحد الشروط أو نحو ذلك.
الفاسد تارة يُعبر عنه بالباطل، الفاسد والباطل مترادفان عند جمهور الفقهاء والأصوليين، وطوائف منهم يفرّقون بين الفاسد والباطل، مثل الحنفية مثلا عندهم الفاسد شيء والباطل شيء آخر، –لا أريد أن أدخل في التفصيلات لكن كلمة سريعة- عند الحنفية أنّ الباطل إذا كان شيء راجع إلى ذات العبادة، والفاسد إذا كان عدم الاعتداد راجع إلى وصفها.
عند الجمهور أن الباطل والفاسد مترادفان، وفرّق الفقهاء بين الباطل والفاسد في الفقه في مسائل معروفة، منها في الحج، ومنها في النكاح، مثل النكاح بلا ولي يقولون هذا نكاح فاسد، ولا يقولون نكاح باطل، لما؟ لأنه عندهم عرف خاص بأنّ الفاسد هو الذي لم يُتَّفق على بطلانه، فإذا كان ثَم اتفاق على بطلانه سمَّوه باطلا، إذا كان هناك اتفاق على بطلانه سموه باطلا، إذا كان هناك اختلاف في صحته وفساده وبطلانه سموه فاسدا، هذا اصطلاح خاص، لكن هذا إنما جاء في عدد من المسائل محصورة معروفة.
بهذا ينتهي ما ذكره من الأحكام السبعة. والفقه إذن هو معرفة هذه الأحكام؛ يعني معرفة الواجبات، معرفة المندوبات، معرفة المباحات، معرفة المكروهات، معرفة المحظورات، معرفة الصحيح، معرفة الفاسد.
هناك تتمات متعلقة بالمسائل السابقة التي مررنا عليها بالأمس، تتمات مهمة:(44/17)
منها بما يتعلق بالواجب أنه ذكر –قد نبه بعض الأخوة على ذلك جزاه الله خيرا- أنّ المؤلف ذكر قال (الواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه)، وأنا ذكرت لكم أن قوله (ويعاقب على تركه) أنّ هذا معلق بشروط، يعاقب على تركه إذا تمت الشروط، ومن الشروط ألا يشاء الله جل وعلا أن يغفر له، فإن شاء الله جل وعلا مغفرة ذلك الذنب لا يعاقب، ويحسن أن يقال (ما يثاب على فعله) نغيرها إلى ”ما وُعِدَ بالثواب على فعله“ و( يعاقب على تركه) بـ”ما تُوُعِّد بالعقاب على تركه“ وكما تعلمون أن هذا التعريف أثر؛ نتيجة ليس بتعريف للواجب أو للإيجاب إنما هو أثر للتقريب.
يتصل بالواجب مسائل مهمة منها:
أولا: ألفاظ الواجب ما هي؟ هل هي مختصة بـ: وَجَبَ، أَوْجَبَ، فقط؟ لا, الواجب له عدة عبارات، عدة ألفاظ يستفاد الوجوب منها.
( أولا كُتِبَ ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ?[البقرة:183] هذه يستفاد منها الوجوب.
( فُرِضَ.
( لَزِمَ، يَلْزَمُ «ومن لزمته بنت مخاض» الحديث، لَزِمَ يعني من لزمته؛ وجبت عليه.
( ومنها صيغة الأمر افْعَل مجردة من اللام، أو باللام؛ لِتَفْعَل مثل قوله تعالى ?ثُمَّ لِيَقْضُوا? لام الأمر ?لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ?[الحج:29].
( ومنها من الصيغ التي نستفد منها الوجوب أنْ يُعبَّر عن العبادة الواجبة ببعض أجزائها، مثل قوله تعالى ?وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا?[الإسراء:78]، يستدل العلماء بهذه الآية على أن القراءة واجبة وفرض، القراءة في الصلاة، من أين جاء الاستنباط؟ أنّ الوجوب يستفاد من التعبير عن العبادة ببعض أجزائها، هوأراد الصلاة ولكنه قال (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) يعني صلاة الفجر (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) فعبّر عن الصلاة ببعض أجزائها، فدل على أن هذا الجزء له حكم الأصل وهو الوجوب.(44/18)
من المسائل المتعلقة بالواجب المهمة:
أنّ الواجب ينقسم إلى أقسام باعتبارات مختلفة فتارة ينقسم بالنسبة إلى الزمن الذي وُجِب فيه الفعل إلى: واجب موسّع، وواجب مضيّق. الواجب المضيق قسم، والواجب المضيق قسم آخر .
الواجب الموسع: هو الواجب الذي زمن جواز فعل العبادة فيه أوسع من مدة العبادة، مثل أوقات الصلوات، صلاة الظهر لا تستغرق وقت الظهر، فوقت الظهر من زوال الشمس إلى مصير ظل كل شيء مثله، فهذا الوقت أطول من وقت أداء الصلاة، فهذا يسمى واجب موسع.
هناك واجب مضيق: وهو إذا كان الوقت مساويا لوقت العبادة، مثل الصيام من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، هذا واجب مضيق ليس بواجب موسع مضيق ليس بواجب موسع، مضيق؛ لأن هذا الوقت هو الذي تؤدى فيه العبادة مثل شهر رمضان ونحو ذلك.
هذا قسم من الأقسام(1).
قسم آخر(2) أنّ الواجب ينقسم إلى واجب عيني وواجب كفائي، واجب عيني المسمى فرض عين، وواجب كفائي وهو المسمى فرض كفاية.
الفرض العيني أو الواجب العيني: هو الفعل أو القول الذي إنْ لم يفعله المكلَّف أثم، هذا الواجب العيني؛ الفرض العيني، وهو ما خوطب كل مكلف بعينه بأدائه، كل مكلف مخاطب بالأداء، مثل الصلاة، كل مكلف مخاطب بأداء الصلاة المفروضة، فهذا واجب عيني.
القسم الآخر واجب كفائي: والواجب الكفائي هناك تعريف مشهور له وهو ما إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، لكن هذا فيه نظر، والأحسن منه أن يقال الواجب الكفائي هو ما خوطب المكلفون بمجموعهم بأدائه لا بكل فرد بعينه.
__________
(1) يقصد تقسيم من التقسيمات.
(2) يقصد تقسيم آخر.(44/19)
المقصود من الواجب الكفائي أن يحدث الفعل دون نظر إلى فاعله، وأما الواجب العيني فالمقصود إحداث الفعل من الفاعل المعين، وهذا فرق مهم يمكن أن تضبط به مسائل الواجب الكفائي، الواجب الكفائي في الشرع مقصود منه إيقاع الفعل دون نظر إلى من فعل، بخلاف الواجب العيني؛ الواجب العيني المقصود منه إيقاع الفعل مع اعتبار النظر إلى من فعل؛ لأنه واجب تعين على واحد بعينه.
هذا تقسيم باعتبار آخر.
هناك تقسيم ثالث باعتبار ثالث، وهو أن الواجبات تنقسم إلى: واجب معين، وواجب مبهم أو مخير.
الواجب المعين: مثل أكثر الواجبات، الصلاة، الزكاة، معين؛ ليس لك الاختيار فيه، يجب أن تنفذ هذا الواجب بعينه.
الواجب المبهَم: هو الذي خيرت فيه، بل الوجوب متعلق بك، وليس متعلقا بالصنف.
مثل كفارة القتل الخطأ، مثلا عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، هذا عتق الرقبة واجب بعينه إذا لم يجده –هذا واجب معين يعني مخص بخصوصه، ليس له أن يختار صوم شهرين متتابعين- إن لم يجد توجّه إلى صوم شهرين متتابعين دون غيرها، هذا يسمى واجب معين لا مبهم.
هناك واجبات يُخيّر فيها العبد مثل كفارة اليمين مثلا، ?فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ?[المائدة:89]، هذا يسمى واجب مخير، هل الواجب إطعام عشرة مساكين؟ لا، هل الواجب كسوة عشرة مساكين؟ لا، هل الواجب عتق الرقبة؟ لا، الواجب واحد منها، بخطاب للمكلف أنه وجب عليه أحد الثلاثة فهو بالخيار، هذا يسمى واجب مبهم.
فإذن هذا التقسيم الثالث باعتبار ثالث.
المندوب يتعلق به مسائل أيضا:
منها الصيغ التي يستفاد منها الندب:
أولا: صيغة الأمر غير الجازم، والأمر غير الجازم قد يكون من أوامر الآداب، وقد يكون أمرا صرف بصارف فصار أمرا غير جازم، ونحو ذلك.(44/20)
أيضا من عبارات الندب كلمة ”يُستحب“، منها كلمة ”سنة“ عند الفقهاء، منها كلمة ”ينبغي“ عند الفقهاء أيضا، يستعمل العلماء كلمة ينبغي، ينبغي يعني يندب، ينبغي يعني يستحب؛ يُسَن ونحو ذلك.
فإذن عندنا ”سنة“ في اصطلاح الأصوليين ”مندوب“، ”ينبغي“، ونحو ذلك، هذه كلها من الصيغ التي نستفيد منها الندب.
لكن لاحظ ”ينبغي“ إذا جاءت في النصوص شيء متأكد جدا باختلاف اصطلاح الفقهاء، ”ينبغي“ إذا جاءت في النصوص فهي بمعنى الشيء المتأكد جدا، وأكثر ما جاء منفيا كما في قوله?وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا?[مريم:92] ليس معناه أنه يمكن (مَا يَنْبَغِي) ليس معناه أنه يمكن، (مَا يَنْبَغِي) معناه أنه منفي أشد النفي، ومحال أشد الإحالة، فإذن هي في النصوص غير الاصطلاح.
يُشرع، كلمة ”يُشرع“ تشمل الواجب والمستحب، فإذا عَبّر بها أحد العلماء يدل على أن هذا الفعل أصله في الشرع، قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا؛ تستعملها في الواجب بقرينة وتستعملها في المندوب بقرينة، وقد تُستعمل مطلقا لاحتمال الأمر، إما عند المتكلم لشكه أو عدم تثبته بأنه واجب أو مستحب، أو لأجل احتمال النص لهذا أو ذاك.
المندوب هل هو مأمور به؟ الجواب: نعم، المندوب مأمور به، ولكن الأمر به أمر غير جازم. ما معنى غير جازم؟ يعني أنه ما توعد من تركه بشيء.
الإباحة تستفاد من ألفاظ منها التخيير –إذا خُيِّر استفدنا الإباحة- أو أن يترك الحكم على حكمه السابق، أن يترك الشيء على ما كان عليه؛ ولم يبين فيه لا وجوب ولا التحريم ولا استحباب ولا كراهة، فنستفيد من هذا الإباحة.(44/21)
التحريم نستفيده من ألفاظ في الشرع منها الحظر، الحرمة، النهي بلا تفعل، النفي في بعض الحالات يكون أشد النهي، مثل ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18] هذا نفي أو نهي؟ نفي، لأنه قال (فَلَا تَدْعُوا) بإثبات الواو، لو كان نهيا لصارت (فلا تدعُ مع الله أحدا)، إلا إن كانت هذه الواو واو الجماعة فهي محتملة (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) تحتمل إذا كانت واو الجماعة النهي والنفي.
الكراهة تستفاد من النهي غير الجازم، أو بأنه نُهي عنه مطلقا ثم فعله النبي عليه الصلاة والسلام؛ نهي عنه بالقول ثم فعله عليه الصلاة والسلام، مثل أنه نهى عن الشرب واقفا ثم شرب عليه الصلاة والسلام واقفا هذا يدل على أن الشرب من الواقف مكروه، ونحو ذلك.
هذه الأحكام التكليفية الخمسة، والأحكام الوضعية الاثنان الصحيح والفاسد، بهذا نكون قد انتهينا من قسمة الأحكام الشرعية إلى أحكام وضعية وتكليفية، وما تعرّض المؤلف للسبب والشرط والمعنى، ونترك هذه الثلاثة لوقت آخر إن شاء الله تعالى.
ونقف على المقدمة المنطقية وهي تعريفات الفقه والعلم والفقه والاستدلال والنظر ونحو ذلك نكملها إن شاء الله في الغد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الأسئلة: أنا أقترح أن الأسئلة تجمع إن شاء الله تعالى ونجيب عليها في وقت يكون فيه متسع، نجيب على الأسئلة جميعا، إلا ما كان له صلة بالبحث كإيراد إشكال أو عدم فهم مسألة ونحو ذلك.
هذا يقول اقتراح لو قدم كتاب الورقات على الأصول الثلاثة؛ لأن الورقات يطلب فيه تركيز ووعي، وأول الوقت نحن أكثر تركيزا من آخر الوقت.(44/22)
الحقيقة يا إخواننا الأصول صحيح أنها توجع الرأس بعض الشيء؛ لكن أن نقدم، هذه خلاصة ليس فيها ذكر لأقوال وردود وخلافات؛ إنما هي خلاصة، هي التي تنفع الناظر في كتب الحديث أو في كتب الفقه، ما أظن إن شاء الله فيه وجع الرأس، أو أنه شيء يطلب تركيزا.
هل من الممكن أن تعيد قول ابن العراقي في ضبط التفريق بين أنواع الصحيح المترتب عليه نفي الصحة أو نفي الثواب.
يقول ابن العراقي إن النصوص التي فيها نفي القبول: إن اقترن بنفي القبول معصية فيكون نفي القبول بمعنى نفي الثواب لا نفي الصحة، وإنْ لم يقترن بها معصية وإنما اقترن بها شيء من العبادة أو من شروط العبادة فهذا فيه نفي للصحة.
وهذا معقول كما قلتُ وحسن؛ لأن المعصية لها إثم، والعبادة لها ثواب، فمعنى ذلك أن إثم المعصية هذه مثل شرب الخمر أو الإتيان لكاهن وسؤاله، أنّ هذا إثمه يستمر مع صاحبه يحبط ثواب صلاته أربعين يوما، ولهذا ذكرت أنه ....
نعم...، لا، هو واجب عليه أن يصلي، لكن ليس له ثواب، يجب عليه أن يصلي، لو ترك الصلاة لعوقب بعقوبة تارك الصلاة.
2- هذا سؤال أيضا مناسب يقول: الأحكام الوضعية أحد عشر حكما منها ما ذكرتم، ومنها الرخصة والعزيمة والعلة وغيرها.(44/23)
أنا ذكرت لكم من قبل أنّ الأحكام الوضعية خمسة، والأحكام التكليفية خمسة، وهذا أحسن لأن الرخصة والعزيمة، العلة تؤول-لأنه ذكر الرخصة والعزيمة والعلة- إلى أنْ تكون إما سبب أو شرط أو مانع أو نحو ذلك، أما الرخصة والعزيمة فالرخصة قد تكون واجب أخذها، والعزيمة قد تكون واجب أخذها وقد يكون مستحب، فرجعت الرخصة والعزيمة إلى الأحكام التكليفية، هذا الذي يظهر لي، والذين يجعلوا الرخصة والعزيمة ونحوها من الأحكام الوضعية هذا فيه نظر؛ لأن الرخصة ليست وصفا مجردا إنما الرخصة كأنه قال يستحب لك في هذا الموضع أن تكون كذا، مثل المسافر يستحب له أن يقصر الصلاة قصره للصلاة رخصة، ونحو ذلك فهي راجعة إلى الأحكام التكليفية بنوع من التأليف.
هل المندوب يقضى؟
الجواب: المندوبات تقضى نعم، ويختلف ما قضاؤه له وقت، ومنها ما قضاؤه موسع، وأُمثِّل بالصلاة، الصلاة المندوبة مثل قيام الليل مثلا، فإنه إذا كان له ورد من ليله يصلي خمس ركعات أو سبع ركعات، وفاته تلك الليلة، فإنه يقضيه من صباحه ما بين طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى ما قبل الزوال؛ يعني دخول وقت النهي قبل الزوال يقضيه في هذا الوقت، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا فاته ورده من الليل قضاه صبيحة تلك الليلة اثنتي عشرة ركعة»، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما فاتته سنة الظهر قضاها بعد العصر ونحو ذلك، فجنس المندوبات تقضى؛ لكن هناك تفصيل في بعض المندوبات.
ولهذا لا أقول كل مندوب يقضى، ولكن لكل نوع منها يحتاج إلى تفصيل، ولكن نعلم جنس المندوبات تقضى هذا صحيح، مثل واحد أراد أن يتصدق وفاتته الصدقة يقضي ذلك، واحد فاتته صلاة العيد يقضي ذلك، وفيه أشياء كثيرة.
4- تعريف الجويني للصحيح لماذا لا يدخل فيه العبادات؟(44/24)
لا تدخل فيه العبادات لأنه جعل أوله النفوذ، قال (ما يتعلق به النفوذ ويعتد به)، الذي يعتد به النفوذ هي العقود أما العبادات فما توصف بالنفوذ، فالنفوذ عند الفقهاء وعند الأصوليين من الأوصاف التي توصف بها العقود، أما العبادات فتوصف بالاعتداد، بالإجزاء، بسقوط القضاء، بالقبول ونحو ذلك.
نكتفي بهذا القدر، صلى الله على سيدنا محمد.
(((((
( الفرق بين الفقه والعلم والظن والشك)
والفقه أخص من العلم والعلم: معرفة المعلوم على ما هو به. والجهل: تصور الشيء على خلاف ما هو به.
والعلم الضروري: ما لم يقع عن نظر واستدلال, كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس: التي هي السمع والبصر والشم والذوق واللمس أو التواتر.
وأما العلم المكتسب: فهو الموقوف على النظر والاستدلال، والنظر هو الفكر في حال المنظور فيه، والاستدلال طلب الدليل, والدليل: هو المرشد إلى المطلوب لأنه علامة عليه.
والظن: تجويز أمرين, أحدهما أظهر من الآخر.
والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
وعلم أصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال, وكيفية الاستدلال بها.
(أبواب أصول الفقه)
وأبواب أصول الفقه: أقسام الكلام, والأمر, والنهي, والعام والخاص, والمجمل, والمبين, والمؤول والأفعال, والناسخ, والمنسوخ, والإجماع, والأخبار, والقياس, والحظر, والإباحة وترتيب الأدلة وصفة المفتي والمستفتي وأحكام المجتهدين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:(44/25)
هذا الذي سمعناه من كلام الجويني، يسمى عند الأصوليين المقدمة المنطقية، ومباحث أصول الفقه هي ما ذكره بعد ذلك بقوله (إن أصول الفقه مباحثها الأمر والنهي، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والمنطوق والمفهوم، والإجماع والقياس، والإخبار) ونحو ذلك مما يتبعها، هذه أبواب أصول الفقه، لكنهم احتاجوا في بيان هذه إلى مقدمات مهمة، هذه المقدمات يستعان بها على فهم ما سيأتي من الأصول، وهذه المقدمات قد يستفاد منها مجردة في مسائل الاستنباط، المقدمات التي يقدم بها الأصوليون نوعان:
مقدمة منطقية.
ومقدمة لغوية.
ثم بعد ذلك يدخلون في باب الأمر والنهي وفي الكتاب والسنة والإجماع بحس الترتيب لكل مؤلف بما ألف به.
المقدمة المنطقية: يذكر فيها أشياء تتعلق بضبط الحدود والتعريفات وأنواع الدلالات، والعلاقة بين العلم والمعرفة والفقه والإدراك والتصور والتخيل، دلالات الألفاظ، واشتراك الألفاظ، الترادف، التباين، التواطؤ، الاشتراك ونحو ذلك، مقدمات متنوعة، هذه تسمى مقدمات منطقية، والحد وأنواعه وما يتصل بذلك.
المقدمات اللغوية: يعتنون فيها أكثر ما يعتنون بالحقيقة والمجاز، وبحروف العطف، وحروف المعاني ومعانيها، والاستفهام ودلالاته، ونحو ذلك من المباحث اللغوية.
يعني أن الأصوليين أخذوا من فن المنطق أشياء وقدموا بها لعلم الأصول، وأخذوا من اللغة أشياء سواء بالبلاغة أو النحو أو التصريف أخذوا أشياء وجعلوها أيضا بين يدي كلامهم على أصول الفقه، سبب ذلك كما ذكرت الحاجة، الحاجة لهذا؛ فالأصولي يحتاج إلى بعض المسائل المنطقية، وكما هو معلوم أن المنطق لا يجوز تعلمه ولا تعليمه، لكن أُخذت منه هذه المسائل، وهي أيضا في المنطق ليست بأصل المنطق، وإنما هي أشياء عامة في مقدمات المنطق، كذلك اللغة أخذوا منها بعض المسائل، وصار عند الأصوليين مقدمة منطقية، تليها مقدمة لغوية كالتوطئة والتمهيد للدخول في فن الأصول.(44/26)
هذا الذي ذكره هنا من المقدمات المنطقية، وهي كما ترى نمر عليها بسرعة بإيضاح موجز؛ لأنها فيما أرى ليست بذات بال وأهمية.
قال (والفقه أخص من العلم) الفقه أخص من العلم، لما؟ لأن العلم جنس، والفقه نوع من أنواع ذلك الجنس، فالعلم يمكن أن يكون فقها، يمكن أن يكون توحيدا، يمكن أن يكون أصولا، يمكن أن يكون نحوا، لغة، حديثا، تفسيرا؛ العلم أقسام منها الفقه، فالفقه أخص من العلم، لهذا نقول: كل فقه علم ولكن ليس كل علم فقها. قد يكون العلم أصولا، قد يكون نحوا، قد يكون حديثا، تفسيرا، إلى آخره، لهذا قال (الفقه أخص من العلم)، وبالتالي يكون كل فقيه عالم، وليس كل عالم فقيها؛ لأن الفقيه عالم بالفقه، لكن العالم قد يكون عالما بالحديث ليس عالما بالفقه.
فإذن العلم واسع والفقه بعض العلم، هذا الذي أراده حين قال (الفقه أخص من العلم).
قال بعد ذلك (والعلم: معرفة المعلوم على ما هو به) وفي بعض النسخ التي أذكرها حين قراءة هذه الرسالة (معرفة المعلوم على ما هو به أو عليه في الواقع) وهذه أوضح مما هو موجود هنا، فيكون العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه في الواقع.(44/27)
(معرفة المعلوم على ما هو عليه في الواقع) يعني أنّ العلم(1) يفارق التخيّل؛ لأن التخيل ليس هو معرفة الشيء على ما هو في نفس الأمر؛ على ما هو في الحقيقة؛ في الواقع، لأن المتخيل يتخيل أشياء، ربما كانت غير موجودة في الواقع، فليس كل موجود ذِهنا موجودا واقعا، قال (معرفة المعلوم على ما هو عليه في الواقع) يعني في نفس الأمر، مثلا إذا عرف أن الإنسان عاقل، هذا يسمى علما؛ لأنه عرف المعلوم وهو الإنسان، على ما هو في نفس الأمر وهو أنه عاقل، الحيوانات تلد، الطيور مثلا تبيض، إذا عرف هذه المعلومة، يقال له علمها لأنه علمها على ما هو عليه في الواقع، لكن لو تخيّل شيئا تخيّل مدينة من صِفتها كذا وكذا، مثل ما تخيل الشيخ أبو بكر الجزائري مدينة من صفتها كذا وكذا وألّف فيها كتابا، هذا خيال، هل هو علم؟ هو تخيَّل هذا الشيء؛ أنه ذهب إلى مدينة ومن صفتها كذا وكذا، مدينة موصوفة بأنها مدينة مسلمة كل ما فيها موافق للشرع، هذا خيال، لكن هل هذا موجود في الواقع؟ ليس موجودا، فلا يُسمى علما، فإنه إنما تخيل هذا تخيلا وكتبه، فمستنده تَوَهُّم الذهن، ليس مستنده العلم بشيء واقع في الخارج، ولهذا لا يُسمى عندهم علما، وإنما يسمى خيالا وتصورا لا مستند له من الواقع.
هو أُعترِض على الماتن باعتراض لا نطيل يعني في بيانه، لكن نوضح لكم، نشير إليه إشارة أنّ قوله (العلم: معرفة المعلوم) هذا يستدعي التسلسل؛ الدّور، ليش؟ لأنّ المعلوم هم ما يعلم، فصار أنّه يفسر العلم بشيء يحتاج إلى العلم، وهذا يقتضي الدّور، على كل حال تنبيه على أنه هذه الرسالة لتبسيط وتقريب علم أصول الفقه وليست دقيقة كما هو ظاهر.
__________
(1) انتهى الشريط الأول(44/28)
الجهل ما هو؟ قال (والجهل: تصور الشيء على خلاف ما هو به.) –نمر بسرعة تعذروني- (والجهل: تصور الشيء على خلاف ما هو به.)، وفي نسخة أخرى (تصور الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع.)، (على خلاف ما هو به في الواقع) أو (على خلاف ما هو عليه في الواقع)، (تصور الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع.) هذا يُسمى جهلا؛ لأنه تصوّره بصورة وعَرَفه على شيء خلاف ما هو عليه، فإذن هو لم يعلمه، وإنما جهله؛ لأنّ هذا الشيء المعلوم أو الذي يُراد العلم به هو على صفة، وهذا تصوره بنظره أو بغيره، على خلاف ما هو عليه، فصار جهلا، والجهل نقيض العلم، والجهل قسمان: جهل بسيط، وجهل مركّب، عندهم.
فالجهل البسيط: إذا كان لا يعرف الشيء أصلا.
والجهل المركّب: إذا عرفه على خلاف ما هو عليه، واعتقد أنّه مصيب.
فمثلا لو قيل لرجل هل يجوز التيمم عند فَقْد الماء؟ فقال رجل: لا أدري. وقال آخر: يجوز. وقال آخر: لا يجوز. ردّ أحد الرجلين قال: لا أدري. والآخر قال: لا يجوز. يعني التيمم عند فقْد الماء، الذي قال لا أدري، جهله جهلٌ بسيط؛ لأنّه لم يتصور الشيء أصلا، والثاني جهله جهل مركب؛ لأنه تصور الشيء على خلاف ما هو عليه؛ لأنّ حكم المسألة الجواز، وهو تصوَّرها بأنها غير جائزة معتقدا صواب نفسه وأنه يعلم هذه المسألة، فصار جهله مركبا من شيئين:
الأول: عدم العلم بالمسألة.
الثاني: اعتقاد أنّ علمه صحيح فيها.
صار جهل مركب من جهتين، ولهذا يقول العلماء الجهل البسيط هذا أخص من الجهل المركب، ولهذا لا يعاب أن يقول المرء لا أدري، لا أعلم، لأن من طبيعة بني آدم أنْ يجهل، لكن أنْ يتكلّم بغير علم هذا يكون جاهلا جهلا مركبا.
بعد أنْ ذكر العلم ونقيضه الذي هو الجهل، ذكر أقسام العلم قال (العلم قسمان العلم الضروري والعلم المكتسب).(44/29)
ما هو العلم الضروري؟ قال (ما لم يقع عن نظر واستدلال) بمعنى أنّه يحصل للمرء بالاضطرار، مِن مثل كونه حيا، كونكَ حيا هذا يحصل لك بالاضطرار، ما يحتاج أن تُعمل ذهنك، أو تستدل أو تنظر أنت حي، تشعر بنفسك أنك حي، رأيت هذا العمود وإذا لونه أبيض، ما يحتاج في ذهنك أن تُفكر وأنْ تربط شيء بشيء حتى يحصل لك هذا الحكم؛ وهو أنه أبيض، بمجرد ما نظرت إليه اُضطررت إلى العلم بأنه أبيض، هذا يسمى علم ضروري. ما معنى كونه ضروريا؟ يعني اضطر المرء إلى العلم به دون نظر ولا استدلال، لمس شيء عرف حجمه كبير، صغير. هذا علم يحصل لك بالاضطرار ليس بالاختيار، فأنه يمكن أن تمسك شيء وتقول أنا بَخْتَار أعلم به أو لا أعلم به، تنظر إلى رَجل هل تختار أن تعلم كونه طويلا أو قصيرا؟ لا تختار، فيحصل لك هذا العلم بالاضطرار.
كيف يحصل العلم الاضطراري؟ بالحواس الخمس أو الكواسب، الحواس الخمس، السمع والبصر:
سمعت صوتا حصل لك بالاضطرار هل هو المتكلم رَجل أو امرأة، هل هو أخوك زيد أو الآخر عمر، هذا يحصل بالاضطرار بالسمع.
أو بالبصر لرؤيتك للأشياء.
أو بالشّم شممت رائحة عرفت هل هي رائحة مسك أو هي رائحة شيء منتن.
الذوق كذلك ذقت شيئا عرفت هل هو مالح أو حلو هذا يحصل لك بالاضطرار؛ بدون ما تَفَكُّر، تحصل لأنك تعرف طعم المالح، تعرف طعم الحلو.
واللمس كذلك باللمس.(44/30)
أو( التواتر)، يعني ما يحصل الحواس الخمس ظاهر، و(التواتر) هذا أضافه هو، وإضافته وجيهة، وذلك أنّ الشيء الذي تواتر وانتشر لا يحصل به استدلال، وهذا من مثل ما يقال عند الفقهاء بأن العلم بها ضروري، المسائل التي العلم بها ضروري من أمور الإسلام مثل حرمة الزنى، هذا يعرفه كل مسلم، حرمة الخمر كل مسلم يعرفها، لما ؟ قد تناقل الناس ذلك بالتواتر، الصلاة أربع ركعات في الظهر وصلاة الفجر ركعتين هذا يعلمه الناس بالتواتر، فالعلم يحصل له بالاضطرار ما يحتاج له بالتفكير، ما يحتاج له بالتفكير؛ لأنّ الناس تتابعوا على ذلك بالتواتر، ينقل آلاف عن آلاف عن آلاف فحصل التواتر بهذا، كذلك عند المسلمين القرآن كلام الله جل وعلا لا يحتاج ذلك عندهم إلى استدلال؛ لأن هذا معروف عندهم بالتواتر، وأنه ليس بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس بكلام أحد من الخلق، إنما هو كلام الله جل وعلا، هذا علم اضطراري، علم ضروري، بهذا لو تأتي إلى أحد من الناس وتقول له: أثبت أنّ القرآن كلام الله. من العامة، يقول القرآن كلام الله ما فيه شك، لما؟ لأنّه ما أخذ هذا عن استدلال؛ لأنه ليس علما مكتسبا، وإنما أخذه بالاضطرار؛ يعني بالتواتر، هكذا عرف عند المسلمين، وهكذا تناقله الآلاف عن الآلاف، بل الأجيال عن الأجيال، كونه يعلم أنه كلام الله جل وعلا بالاستدلال هذا يحتاج إلى علم مكتسب آخر، وهذا وإنما خاصة لأهل العلم؛ المكتسب ونحو ذلك.
إذن العلم نوعان؛ قسمان:
الأول: العلم الضروري؛ الذي يعلم بالاضطرار، لا يقع عن نظر واستدلال، ما يحتاج تعمل فيه فكرك.
الثاني: علم مكتسب؛ العلم المكتسب هو ما تكتسبه بعد نظر واستدلال.(44/31)
يحتاج هنا –حينما عرف العلم المكتسب – يحتاج هنا أن يبين لك ما معنى النظر، وما معنى الاستدلال، قال (النظر هو الفكر في حال المنظور فيه ) التّفكر، تَنظر في حال المنظور فيه بصفاته بأحواله، إذا نظرت في صفاته بأحواله وبتقلباته أكسبكَ هذا شيئا، وهذا هو المكتسب؛ مكتسب عن طريق النظر، قال (والاستدلال)، النظر هو الفكر، والتفكر في حال المنظور فيه يعني طلب الدليل من المنظور فيه:
إذا كان المنظور فيه آية كونية، طلب الدليل من هذه الآية الكونية؛ الشمس، القمر، الليل، النهار إلى آخره.
إذا كان المنظور فيه آية متلوة قرآن، آية من آيات القرآن ونحو ذلك، صار النظر لطلب الدليل من الآية المتلوة.
ولهذا قال جماعة من العلماء إنّ النظر والاستدلال متقاربان؛ لأن الاستدلال طلب الدليل، طلب الدليل عن أي طريق؟ عن طريق التفكر في حال ذلك الدليل، والاستدلال طلب الدليل، الدليل مُو معناه الآية، يعني طلب وجه الدِّلالة من الآية، الآية بنفسها قد تكون دليلا، وقد لا تكون دليلا، مثلا قوله تعالى ?ثُمَّ نَظَرَ?[المدثر:21] هل هي دليل؟ (ثُمَّ نَظَرَ) ليست بدليل على مسألة، لكن قوله تعالى ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ?(1) هذه دليل؛ وجه الدليل؛ يعني وجه الاستدلال هو أنّ هذا أمر، هذا معنى كونه علما مكتسبا؛ يعني نَظَر تَفَكَّر في حال المنظور فيه وهو الآية طالبا الدليل؛ يعني وجه الاستدلال من هذا النص.
إذن يكون العلم المكتسب علم ليس باضطراري ولكنه موقوف على النظر والاستدلال والنظر والاستدلال متقاربان.
طيب الاستدلال طلب الدليل، الدليل ما هو؟ قال (والدليل: هو المرشد إلى المطلوب لأنه علامة عليه) الدليل في اللغة هو ما يرشد إلى المطلوب، قدمت رجلا بين يديك ليدلّك على مكان، صار هذا الرجل دليلا لك؛ لأنه يدلّ على هذه الغاية، فالمرشد إلى المطلوب هو الدليل.
__________
(1) البقرة: 43، 83، 110، النساء:77، النور:56، المزمل:20.(44/32)
من المستدل؟ المستدل من؟ هو الناظر، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: الدالّ هو الله تعالى، والدليل هو القرآن، والمبيّن هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والمستدلّ هم أهل العلم، هذه قواعد الإسلام. هكذا قال إمام أهل السنة والجماعة، أعيدها، قال: الدال هو الله تعالى، والدليل هو القرآن، والمبيّن هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والمستدلّ هم أهل العلم، هذه قواعد الإسلام. الدال هو الله تعالى، ولهذا حثَّنا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قولَ الداعي يا دليل الحيارى، يا دليل الحيارى، لما؟ قال: لأن الله جل وعلا هو الدّليل وهو الدال وهو المستدل له وهو المستدل عليه. وهذا من أعظم ما يكون، فالذي استدل أو أقام الدليل هو الله جل وعلا، والذي دلّ هو الله جل وعلا، والذي يُستدل عليه هو الله جل وعلا، فكلمة الإمام أحمد هذه عظيمة دقيقة؛ الدال هو الله تعالى، والدليل هو القرآن، والمبيّن هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والمستدل -من؟- هم أهل العلم، هذه قواعد الإسلام.
بعد ذلك قال (والظن: تجويز أمرين, أحدهما أظهر من الآخر. والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.) الظن والشك لفظان يستعملان عند الأصوليين، ويستعملان عند الفقهاء:(44/33)
ففي استعمال الأصوليين أنّ الظن شك خاص، الظن شك خاص إذا كان ثم محتملان بشيء؛ يحتمل أنه كذا، ويحتمل أنه كذا، مثلا نقول فلان يحتمل أنْ يكون طوله متر وسبعين سنتمتر، ويحتمل أن يكون متر وخمس وسبعين سنتمتر، إذا صار الاحتمال متساوية؛ والله عندي ما فيه ترجيح، قد يكون هذا، وقد يكون هذا، بدون ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، في ذهني صار هذا شكا لتساوي الاحتمالي. فإنْ كان أحد الاحتمالين أكثر، يغلب على ظني أنه هو صار ما عندي: ظن، ظننتُ أن فلانا طوله مائة وخمس وسبعين، ليش؟ يعني ترجّح عندي أنه مائة وخمس وسبعين، ظاهر؟ فإذا تساوى الاحتمالان صار شكا عندهم، وإذا ترجح أحد الاحتمالين صار ظنّا راجحا بما ترجح، وظنا مرجوحا بما رُجح، هذا عند الأصوليين.
أما عند الفقهاء، في استعمال الفقهاء في كتبهم يستوي عندهم الظن والشك، تارة يقولون ”فإنْ ظنّ“ وتارة يقولون ”فإنْ شك“ والظن والشك عندهم بمعنى واحد في أكثر وأغلب استعمالاتهم.
بعد أن انتهى من هذه المقدمة، يصل إلى نتيجة، وهي تعريف أصول الفقه قال (وعلم أصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال)، (طرقه) يعني طرق الفقه، (على سبيل الإجمال) يعني لا على سبيل التفصيل؛ لأن سبيل التفصيل غاية الفقيه هو الذي يعرفها على وجه التفصيل، أما طرق الفقه على وجه الإجمال هي صنعة الأصولي، (على وجه الإجمال) يعني مطلق الأمر، الأمر المطلق للوجوب، الأصل فيه أنه للتحريم، لا جناح للإباحة الأمر بعد النهي لرد المنهي عنه إلى ما كان عليه، ونحو ذلك، هذه مجملات، لكن تفصيلاتها مثل هذا واجب وهذا مندوب وذاك محرم إلى آخره، هذه على وجه التفصيل.(44/34)
قال (وعلم أصول الفقه: طرقه –يعني طرق أصول الفقه- على سبيل الإجمال- لا على سبيل التفصيل-, وكيفية الاستدلال بها) يعني طرق الاستدلال بها؛ كيف تفهم أن هذا عام؟ كيف تفهم أن هذا خاص؟ كيف تفهم أنّ هذا مطلق؟ كيف تفهم أن هذا مقيد؟ متى يكون اللفظ مجملا؟ متى يكون مبينا ؟ متى يكون له مفهوم مخالفة؟ متى يكون له مفهوم موافقة؟ ونحو ذلك, هذه كيفية الاستدلال بتلك السبل المجملة؛ أي تحت هذا هو علم أصول الفقه، يضاف أيضا للتعريف ”وأحوال المفتي والمستفتي والمجتهدين“؛ لأن هذه من صنعة الأصولي أيضا، فإن في أواخر كتب الأصول يُذكر حال المفتي، وحال المستفتي، الأدب؛ أدب المستفتي، وأدب المفتي، وحال المجتهدين، أقسام المجتهدين؛ المجتهد المطلق، المستقل، المقيد إلى آخره، وآداب الاجتهاد ونحو ذلك.
وبعض الأصوليين عرّفوا أصول الفقه بتعريف آخر قال: أصول الفقه علما هو القواعد التي يمكن بها استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. وهذا تعريف جيد، أو كما ذكرت لكم في أول الشرح أن أصول الفقه علما يمكن أن يعرف بأنه: القواعد التي يبنى عليها فهم الفقه، القواعد التي يبنى عليها فهم الأحكام الشرعية الفرعية، وعلى هذا أو ذاك فأصول الفقه علما هو طرق أحكام يمكن بها وبفهمها أن يكون عند الناظر وعند المتعلم ملكة يستطيع أن يستنتج ويستنبط الأحكام الشرعية الفرعية من الأدلة، هذه الملَكة بمعرفة القواعد تكون بعد معرفة أصول الفقه.
فإذن أصول الفقه قواعد وضوابط وأصول يبنى عليها غيرها من استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية.
بعد أن انتهى من ذلك أخذ يعرض مجمل لعناوين ما سيبحثه من أصول الفقه قال(وأبواب أصول الفقه أقسام: الكلام, والأمر, والنهي).
(الكلام) يقصد به ما ذكرتُ لكم من انقسام الكلام إلى حقيقة ومجاز، يعني أنّ الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز؛ لأنّ الأصوليين يهتمون كثيرا بالمجاز.(44/35)
(والأمر والنهي) الأمر والنهي من مباحث الأصول المهمة.
(العام والخاص, والمجمل, والمبين) تلاحظ أنّه حين ذكر هذه لم يذكر المطلق والمقيد، ففي الورقات ما ذكر في هذا الموضع المطلق والمقيد، ولم يشرح الكلام على المطلق والمقيد بتفصيل، لما؟ لأن المطلق عام، والمقيد خاص، لكن العام عمومه شمولي، والمطلق عمومه بدلي، والخاص خصوصيته لأفراده، والمقيد خصوصيته بدلية، ولهذا يقال في المطلق والمقيد أحيانا أنه عام باعتبار أنّ عمومه بدلي، فهو قوله هنا (والعام والخاص) يدخل فيه المطلق والمقيد، فلا تستغرب أنه لم يورد بحث عن المطلق والمقيد هنا، لما؟ لأنّ المطلق والمقيد يدخل في العام والخاص باعتبار كون المطلق عامّا بدليا.
قال (والمجمل, والمبين) المجمل والمبين هذا يعرض اللفظ إجمالا ويعرض له البيان.
(الظاهر والمؤول) ما يظهر من النص، وما يحمل عليه النص، ما يُحمل عليه النص هذا المؤول، يأتي إيضاحها بتفصيل إنْ شاء الله تعالى.
(والأفعال) يعني أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ودِلالتها على الأحكام الشرعية.
(والناسخ والمنسوخ) من القرآن والسنة وشروط النسخ، ونحو ذلك.
إلى آخر ما ذكر من المباحث التي ستأتي بتفصيل.
هذه المقدمة يعرض لكَ فيها كل المباحث التي سيبحثها، والأصوليون مختلفون في ترتيب هذه المباحث:
بعضهم يورد الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على هذا النحو.
بعضهم يورد الكتاب والسنة، ثم يفصل في مباحث الألفاظ؛ الأمر والنهي، الظاهر والمؤول، الحقيقة والمجاز، المجمل والمبين، العام والخاص، المطلق والمقيد إلى آخره، ثم يأتي للإجماع والقياس، ثم يأتي بعد ذلك إلى الأدلة المختلف فيها؛ مثل قول الصاحب ونحو ذلك، ثم أحكام المجتهدين، وأحوال المفتي والمستفتي.(44/36)
بعضهم يذكر ما يتعلق بالأحكام؛ بالأمر والنهي لتعلقه، تعلق نصوص الكتاب والسنة بالأمر والنهي، ثم ما يتصل من المنطوق والمفهوم وأنواع الحقائق ونحو ذلك، ثم يأتي للإجماع ثم القياس، ثم يأتي للسّنّة ودلالاتها.
أريد من هذا أنْ تفهم أنّ ترتيب كتب أصول الفقه مختلفة؛ ليس لها ترتيب واحد، فبعضهم يقدم شيء ويؤخر شيء، بحسب الاعتبار الذي أقامه مصنِّف الكتاب.
نشرع إنْ شاء الله تعالى غدا في زُبدة الأصول، والكلام على الأمر والنهي والعام والخاص ونحو ذلك.
أسال الله جل وعلا أنْ يُعلِّمني وإياكم العلم النافع, وأنْ يمنَّ علينا بالعمل الصالح، وأنْ يُرشدنا إلى ما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
1-(أقسام الكلام)
فأما أقسام الكلام, فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان, أو اسم وفعل, أو فعل وحرف, أو اسم وحرف.
والكلام ينقسم إلى أمر, ونهي, وخبر واستخبار. وينقسم أيضا إلى تمن, وعرض, وقسم.
ومن وجه آخر ينقسم إلى:حقيقة ومجاز، فالحقيقة: ما بقي في الاستعمال على موضوعه.
وقيل:ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة.
والمجاز ما تجوز عن موضوعه.والحقيقة :إما لُغوية, وإما شرعية, وإما عرفية.
والمجاز: إما أن يكون بزيادة, أو نقصان، أو نقل، أواستعارة.
والمجاز بالزيادة:مثل قوله تعالى:? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11].
والمجاز بالنقصان: مثل قوله تعالى:? وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ?[يوسف:82].
والمجاز بالنقل:كالغائط فيما يخرج من الإنسان.
والمجاز بالاستعارة:كقوله تعالى: ? جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ?[الكهف:77].
هذا شروع من المؤلف بالأحكام في المقدمة اللغوية، المقدمة اللغوية يختلف المصنفون في الأصول في ذكر مسائلها، بعضهم يُطنب، بعضهم يختصر؛ لكن يجتمعون في أنّه لابد أن تذكر مسائل من أصول اللغة، للحاجة إليها في أصول الفقه.
بدأ ذلك بذكر أقسام الكلام”الكلام هو اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها“ كما قال بن مالك:(44/37)
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
الكلام يتركب من كلمات، قد يكون ذلك التركُّب من كلمتين أو ثلاث أو أكثر، وقد يكون من كلمة واحدة ظاهرة وأخرى مضمَرة، قال هنا الجويني (فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان, أو اسم وفعل, أو فعل وحرف, أو اسم وحرف.)
(اسمان) مبتدأ وخبر، محمد قادم، الأصول مهمة، كلام تام تكوَّن من اثنين، مبتدأ وخبر.
أو (اسم وفعل)؛ قام زيد، قرأ عمر، أتى محمد، ذهب أحمد، هذا فعل وفاعل، فعل واسم، هذا أيضا من أقل ما يتركب منه، ومنه استقم، استقم فعل، كلمة واحدة، أين فاعلها؟ ضمير مستتر وجوبا، فهنا أيضا كلمتان، أحدهما ظاهرة وهي الفعل، وأخرى مضمرة وهي الاسم.
في الحقيقة الكلام عند النحويين وعند البلاغيين ليس إلا هذين النوعين السابقين؛ إما أن يكون من اثنين، أو يكون من اسم وفعل، فقط.
أما قوله (أو فعل وحرف, أو اسم وحرف) هذا زيادة في التقسيم وليس بالمستقِرِّ أو المقرَّر في علوم العربية، لكن من باب التقسيم قال (أو فعل وحرف, أو اسم وحرف)، (فعل وحرف)، ما قام، لا تذهب، (فعل وحرف) ما قام، ما قام، من؟ ما قام هو ، مثلا سُئلت: هل قام زيد؟ قلتَ: لم يقم. هذا حرف وفعل، ما قام، حرف وفعل، لكن في الواقع الفعل فيه ضمير مستتر الذي هو الفاعل، ولهذا لا يصحح أن يكون هذا من باب الفعل والحرف، وإنما هذا من باب الفعل والاسم، أو الحرف والفعل والاسم. أو (الاسم والحرف) كذلك لجواب من قال: في الدار أحد؟ قلتَ: لا أحد. لا أحد هذا حرف الذي هو (لا) نافية للجنس و(أحد)، فهذا حرف واسم.
وهذا كما ذكرت لك فيه منازعة، والصحيح أنّ الكلام أقله إنما يكون من اثنين أو من فعل واسم؛ مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل، هذا تقسيم.(44/38)
تقسيم آخر باعتبار آخر قال (ينقسم إلى أمر, ونهي, وخبر واستخبار) هذا التقسيم باعتبار المتكلم بالكلام، إمّا أنْ يأمر بشيء؛ اقترب، اذهب، اقرأ، وإما أنْ ينهى عن شيء؛ لا تلهو، لا تسهو، لا تغفُل، ونحو ذلك، وهذا يُسمَّى إنشاء، عند البلاغيين، الأمر والنهي وأشباهها تسمى إنشاء، يقابل الإنشاء الخبر، الكلام وهو ما سيأتي، الخبر قسيم للأمر والنهي؛ قسيم للإنشاء.
ما ضابط الإنشاء، وما ضابط الخبر؟ ضابط الإنشاء هو أنّ الكلام الذي لا يَقبل وصفه بالصدق أو الكذب؛ اذهب، لا تصفني إذْ قلت اذهب بصادق ولا بكاذب، محمد قادم يمكن أن تقول فلان صادق إذْ قال محمد قادم، أو تقول فلان كاذب إذْ قال محمد قادم، الخبر يوصف بالصدق والكذب، يقبل الوصف بالصدق، يقبل الوصف بالكذب.
أتى بشيء زائد قال (واستخبار) حقيقة الاستخبار هي طلب الخبر الذي هو الاستفهام، هل ذهب زيد؟ هذا استخبار؛ طلب للخبر، فيجيب الآخر فيقول: ذهب زيد، ذهب زيد من حيث كونُها جملة من فعل وفاعل؛ جملة خبرية، يعني خبر، ذهب زيد، تقبل أن يقول آخر صادق فيما أخبرك به أو يكون كاذبا فيما أخبرك به، هذا يسمى استخبار، وهو عند المحققين نوع من الخبر؛ لأنه طلب للخبر، فتحصَّل أنّ هذه القسمة يمكن أن تحصر في أن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء:
الإنشاء ما لا يقبل الصدق والكذب؛ الوصف بكونه صادقا أو كاذبا، أو بكونه صدقا وكذبا.
والخبر ما يقبل أن يوصف بكونه صدقا أو كذبا.
ذكر تقسيم آخر، باعتبار آخر قال (وينقسم أيضا إلى تمن, وعرض, وقسم):
التمني مثل أن يقول ليت زيدا يعود،
ليت الشبابَ يعود يوما
هذا تمني، نوع من الأنواع، باعتبار أي شيء؟ هل هو باعتبار المتكلم أو باعتبار المخاطب؟ لا باعتبار المتكلم ولا باعتبار المخاطب، باعتبار الكلام نفسه، كتقسيم ثالث باعتبار ثالث، هذا الكلام متمنًّا.(44/39)
هذا الكلام معروض، العرض مثل أن تقول: ألا تأتينا. منه؛ من العرض التحضير وهو الآتي بعد لَوْلاَ وهَلاَّ، فلولا كان من القرون ، فهلاَّ جاء القارئ ، هذا يسمى التحضير، وهو عرض وزيادة؛ عرض مؤكد، عرض مؤكد، إذن صار العرض منه التحضير.
قال (وقسم) القسم معروف، والله لتنزلنْ، بالله لتذهبن، ونحو ذلك، هذا باعتبار الكلام نفسه.
فإذن التقسيمات باعتبارات مختلفة:
تارة يُنظر إلى تركيب الكلام وهو الأول؛ تقسيم الكلام من جهة تركيبه إلى ما يكون اسمين أو فعل واسم إلى آخره.
تارة يُنظر إلى حال المتكلم بالكلام.
وتارة يُنظر إلى حال المتكلَّم به ونحو ذلك.
قال (ومن وجه آخر ينقسم إلى حقيقة ومجاز) وهذا هو المهم، (ينقسم إلى حقيقة ومجاز) الكلمة تنقسم إلى حقيقة ومجاز، وكذلك الكلام أثناء تركيبه ينقسم إلى حقيقة ومجاز.
ما هي الحقيقة؟ الحقيقة بقاء اللفظ على معناه الأول، مثل ما يمثلون به أسد حقيقة لهذا الحيوان المفترس المعروف، شجرة حقيقة في هذا النبت المعروف هذا وضعها الأول.
المجاز هو نقل اللفظ من معناه الأول إلى معنى ثان لمناسبة بينهما أو لعلاقة بينهما، هذا المجاز، ولاحظ أن كثيرا يخلطون بين الحقيقة والمجاز وبين الظاهر والتأويل، فيخلطون بين المجاز والتأويل، المجاز شيء والتأويل شيء آخر.
إذن المجاز نقل اللفظ، أما التأويل صرف اللفظ، المجاز نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما، مثل أنْ تقول فلان أسد، لا تريد به الحيوان المفترس، لكن تريد فلان أسد في الشجاعة، فَنَقَلَ اللفظ من معناه الأول إلى معنى جديد.(44/40)
وهذا الذي ذَكر من انقسام الكلام إلى حقيقة ومجاز دَرَجَ عليه جلّ الأصوليين، بل أكثر العلماء في القرون المتأخرة ما بعد القرن الثالث الهجري، وهذا التقسيم إنما ظهر من جهة المعتزلة، وذلك أنه لما احتج عليهم أهل السنة بردّ صرفهم لآيات الصفات وآيات الأسماء عمّا هي عليه من المعاني أتوا بما يسمى بالمجاز، وأنّ هذه ألفاظ نقلت من معناها الأول إلى معنى جديد لعلاقة بينهما، وبالتأويل، وهو أنهم صرفوها لمعنى جديد، والتحقيق في هذه المسألة ولا يتسع المقام لتفصيل الكلام؛ أنّ لغة العرب لا تعرف في ألفاظها إلا الحقيقة؛ فليس ثَم عندهم مجاز، والحقيقة عندهم تارة تكون إفرادية؛ حقيقة في اللفظ بمفرده، وتارة تكون تركيبية، وهي المفهومة من تركيب الكلام.
الحقيقة الإفرادية مثل الأسد هو الأسد؛ حيوان مفترس.
الحقيقة التركيبية هي التي ادعى فيها المدّعون المجاز، مثل أنْ يقال فلان أسد، قال كلمة أسد، هذه مجاز عن الرجل الشجاع لأنه لا يُعنى بها المعنى الأول.(44/41)
فنقول العرب استعمالها لتركيب كلامها لا تنظر حين التركيب إلى الألفاظ، وإنما تنظر إلى دلالة الألفاظ حال التركيب، فالألفاظ تدل حال التركيب على معنى لا ينتقل معه الذهن من المعنى الأول إلى معنى جديد، مثلا نقول زيد أسد مباشرة ما دام قال زيد أسد لا يأتي للذهن الأسد الذي هو حيوان مفترس، ثم ينتقل منه إلى الرجل الشجاع لقرينة وجود زيد، وإنما مباشرة لما قال زيد أسد علِمَ أن المراد تشبيه زيد بالأسد في شجاعته، وهذه حقيقة تركيبية، وهي التي يدعي فيها المخالفون أنها مجاز، مثلا في القرآن في قول الله تعالى ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ?[النحل:26] قال (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) معلوم هنا الذي يتبادر للذهن أول ما يسمع السامع هذا الكلام (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) أنه ليس إتيان الله لهذا(1) المكان بذاته، وإنما أتى بقدرته، لأنه قال (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ) فيفهم من حقيقة الكلام هذا المعنى، ولا يمكن أن يفهم منه أنه يمكن أن يكون الإتيان بالذات فيُصرف عنه لأجل أنه قال (مِنَ الْقَوَاعِدِ) ونحو ذلك، فهذا يسمى حقيقة تركيبية، وهي التي أو يشبهها الذي يسميه أولئك المجاز، قال تعالى ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45] لا يمكن أنْ يفهم عربي أن المراد (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) يعني ألم تر إلى ذات ربك، إنما المراد يَفهم من قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) ألم تر إلى قدرة ربك كيف مد الظل، وهذا ليس مجازا، وإنما هو حقيقة تركيبية، الحقيقة هي التي تُعنى عند العرب بالكلام؛ لأنّ الحقيقة ما هي؟ هي إظهار الحقيقة بهذا
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.(44/42)
الكلام، فصار الكلام حقيقة، لأنّه تظهر به حقيقة الأمر، فالكلام كله حقيقة، هذه الحقيقة تارة تكون إفرادية في اللفظ، وتارة تكون تركيبية في الكلام جميعا، وهنا مثّل بأمثلة يأتي الكلام عليها.
لكن هذه الحقيقة بمثل قوله تعالى ? وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا?[يوسف:82].
تعريف المجاز الذي عرفوه به: أنّ المجاز نَقْلُ اللفظ من معناه الأول إلى معنى ثان. وهذا يسمونه المجاز الناقص؛ لأنه حُذفت منه أهل القرية، أصل الكلام واسأل أهل القرية، نقول أنّ هذا الكلام مفهوم، ولا نقول أنّ ثَمّ مجاز؛ لأنّ المستمع لهذا الكلام يعلم أنّ القرية من حيث هي جدران وأبنية أنّه ليس المراد الجدران والأبنية، وإنما المراد أنْ يُسأل من يصح أن يُنسب إليه أنّه يسأل وهم أهل القرية، فقوله (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ) من الذي يصح أنْ يسأل؟ أهل القرية، فلهذا يكون الكلام بتركيبته يفيد حقيقة، هذه تسمى حقيقة تركيبية تُستفاد من تركيب الكلام، لكن لو أتى بمفردها وقيل القرية يُعنى بها أهل القرية لم تكن حقيقة إفرادية، ولكن لما استعملت بهذا التركيب صات حقيقة تركيبية، ومن مثل قوله ?وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا?[يوسف:82] يعني أهل العير، ونحو ذلك من أنواع كثيرة أُدُّعي أنها مجاز في القرآن.
بقي أنْ نقول أنّ الأصوليين اختلفوا في وجود المجاز في اللغة، فمنهم من قال بوجوده في اللغة وهم الكثرة الكاثرة، وهناك قلة أفراد من المحققين نفوا وجود المجاز في اللغة؛ قالوا كلام العرب كلُّه حقيقة.
هناك خلاف آخر أخصّ من هذا، وهو هل في القرآن مجاز أم لا؟ فنفاه كثيرون؛ نفاه كثيرون، وأثبته كثيرون، والخلاف في كون القرآن فيه مجاز أم لا، قد يكون عقديا وقد يكون أدبيا:(44/43)
(فيكون الخلاف في قول المجاز في القرآن عقديا إذا أُدُّعي أنّ آيات الصفات فيها مجاز، أو أنّ الآيات التي فيها العقائد -آيات الغيب التي فيها الخبر عن الغيب ونحو ذلك- أنّ فيها مجاز؛ إذا أدعي أن فيها مجاز صار الخلاف عقديا، لأنّ هذا مسلك المبتدعة.
(فإن أُدعي أنّ القرآن فيه مجاز في غير آيات الصفات صار خلافا أدبيا، فمثلا إذا قرأت في بعض التفاسير في بعض الآيات، قال هذه الآية فيها مجاز في مثل قوله تعالى ?وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ?[الإسراء:24] يقولون هذا فيه استعارة تمثيلية وهي من أنواع المجاز، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ) ليس متعلقا بخبر غيبي ولا متعلق بعقيدة، فيكون الخلاف فيه أدبيا، نقول لا، الصواب أنه ليس هاهنا مجاز، ظاهر؟
وإذا قيل ?الرَّحْمَن الرَّحِيم?(1) أو?وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?(2) أنّ الرحمة مجاز عن إرادة الإحسان أو عن إيصال الإنعام صار خلافا عقديا، يُرَدُّ كما يُرَدُّ على أهل البدع.
بهذا تجد أنّ من أهل السنة من قد يقول في بعض الآيات فيها مجاز، لكن في غير آيات الصفات هذا يكون خلافا أدبيا، نقول الصواب فيه أنه لا مجاز في القرآن أصلا، والأصح أيضا أنّه لا مجاز في اللغة أصلا؛ لأنّ كلام العرب حقيقة قد تكون حقيقة إفرادية وقد تكون تركيبية، في كلام طويل على المجاز ليس هذا محل تفصيله.
قال (فالحقيقة:ما بقي في الاستعمال على موضوعه. وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة.) وهو ما ذكرتُه لك من أنه ما بقي على وضعه الأول؛ لفظ لم ينقل على معناه بقي على وضعه الأول، وهذا هو الحقيقة الإفرادية.
__________
(1) الفاتحة:1، 3، البقرة:163، النمل:30، فصلت:2، الحشر:22.
(2) النساء:96، 100، 156، الفرقان:70، الأحزاب:5، 50، 59، 73، الفتح:14.(44/44)
(المجاز ما تجوز عن موضوعه) يعني عن ما وضع له وعلم الوَضْع من العلوم، من علوم اللغة، علم يُسمى علم الوَضْع، يعنى بهذه الأمور، وهنا قال (المجاز ما تجوز عن موضوعه) يعني ما تجاز به المتكلم به ما وضع له إلى شيء آخر، والتعريف الأدق تعريف جماعة من الأصوليين حيث قالوا: إن المجاز هو نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثانٍ لمناسبة بينهما.
قال (الحقيقة: إما لغوية, وإما شرعية, وإما عرفية.) هذا يحتاج إلى بسط طويل لا أدري نأخذها أو...، (والحقيقة: إما لغوية, وإما شرعية, وإما عرفية.) فيها تعريفات وكلام، نؤجل هذا إن شاء الله تعالى وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[سؤال] هل هناك فرق بين قول الفقهاء يجوز ويشرع؟ نعم هناك فرق؛ يشرع يعني ثبتت مشروعيته، ثبت الأمر به من الشارع، هذا معنى يشرع، قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا، أما يجوز هذا في المباحات؛ يجوز كذا، يباح كذا، فكلمة يُشرع تحتمل أن يكون واجبا أو مستحبا، أما يجوز فهي خاصة بالمباحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
والحقيقة :إما لُغوية, وإما شرعية, وإما عرفية.
والمجاز: إما أن يكون بزيادة, أو نقصان، أو نقل، أواستعارة.
والمجاز بالزيادة:مثل قوله تعالى:? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11].
والمجاز بالنقصان: مثل قوله تعالى:? وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ?[يوسف:82].
والمجاز بالنقل:كالغائط فيما يخرج من الإنسان.
والمجاز بالاستعارة:كقوله تعالى: ? جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ?[الكهف:77].
الحمد لله حق حمده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد دائما وأبدا.(44/45)
قال المؤلف في ذكر المقدمات اللغوية لما ذِكر أن المجاز ينقسم إلى حقيقة ومجاز، أخذ يقسم الحقيقة قال (والحقيقة: إما لغوية, وإما شرعية, وإما عُرفية.) الحقيقة اللغوية يُريد بها التي وضعها أهل اللغة، وضعوا لفظ الأسد للحيوان المفترس، الدابة لكل ما يدبّ على الأرض، الوجه لكل ما يواجِه من الشيء، هذه تسمى حقائق لغوية، وهي المسمّاة الوضع اللغوي يعني اللغة لكل لفظ منها معنى، هذا المعنى -على كلامهم- في أصل نشأة اللغة ووضع اللغة له معنى، هذا المعنى هو حقيقته اللغوية، هذه الحقيقة اللغوية، قد يأتي لها نقل إلى عرف خاص كما سيأتي، أو إلى شرعي، إنْ بقي اللفظ على ما كان عليه بدون نقل؛ بدون سبب إما سبب عرفي أو سبب شرعي صار يُسمّى حقيقة لغوية، مثل ما ذكرتُ لك:
الأسد، ما الأسد؟ الحيوان المعروف.
الحمار ما هو؟ الحيوان المعروف.
الدّابة ما هي الدّابة؟ الدّابة لكل ما يدبّ على الأرض، سواء أكان ذا رجلين أو كان يدب على بطنه أو كان يدب على أربع؛ كل ما يدبّ يسمى دابة، هذا في الوضع اللغوي.
الماء في الوضع اللغوي، هو هذا الماء هو المعروف.
الجبل في الوضع اللغوي هو هذا المعروف.
هذه تسمّى حقائق لغوية التي هي المعاني اللغوية للشيء؛ الأصلية قبل مجيء عرف يحددها، أو مجيء الشرع الإسلامي الذي نقل بعض الألفاظ إلى حقائق شرعية.(44/46)
قال (وإما شرعية) يعني أنّ ثَمَّة ألفاظ تسمَّى حقيقة شرعية، لها حقيقة لغوية ثم نُقلت إلى معنى خاص، وصار هذا المعنى الخاص حقيقة، من الذي نقل؟ الشرع، فأضيفت إلى الشرع فصارت حقيقة شرعية، بالمثال يتضح المقال، مثل الصلاة، الصلاة الأصل في اللغة هي الدعاء أو الثناء قال جل وعلا ? وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ?[التوبة:103] (صَلِّ عَلَيْهِمْ) هل هم أموات؟ لا ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ? (صَلِّ عَلَيْهِمْ) أي أدعو لهم، أي أدعو لهم، هذا المعنى اللغوي، وقال الأعشى لابنته:
تقول بنتي وقد قرَّبْت مرتحلا يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجع
ما ذا قالت؟ يا رب جنب أبي الأوصاب والوجع، هو سيسافر، قال لها:
عليك مثل الذي صليتِ فاغتمضي نوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا
(عليك مثل الذي صليت) يعني مثل الذي دعوت، فهذا الحقيقة اللغوية في الصلاة أنها الدعاء أو الثناء ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ?[الأحزاب:56]، الصلاة من الله جل وعلا على نبيه يعني الثناء، الثناء عليه في الملأ الأعلى ? هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ?[الأحزاب:43] يعني يثني عليكم، فإذن الصلاة قد تكون للدعاء وقد تكون للثناء، هذا أصلها اللغوي، نقلها الشرع من الحقيقة اللغوية إلى معنى خاص، وهي هذه الكيفية المعروفة التي تسمى الصلاة، لو قيل لك فلان صلى ما يأتي على بالك الدعاء، بل يأتي على بالك الحقيقة الشرعية وهي الصلاة المعروفة.(44/47)
مثل الزكاة، الزكاة في اللغة هو الزيادة ? تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا?[التوبة:103] التطهير والنقاء هذه الزكاة، زكاه طهّره ونمّاه ونقّاه ونحو ذلك، ? قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا?[الشمس:9] قد أفلح من طهّرها ونقاها ونحو ذلك، هذا معناها اللغوي، أتت في الشرع، نُقلت إلى شيء آخر، وهي إخراج المال على النحو المحصول، هذا سمي زكاة، ليس لوضعه اللغوي لكن لوضع شرعي جديد، فصار حقيقة شرعية أنّ الزكاة هي الزكاة هذه المعروفة؛ إخراج المال على وجه مخصوص بكيفيات مخصوصة وأوعية مخصوصة إلى آخره، هذه تسمى حقيقة شرعية.
السّجود في اللغة له معنى، وفي الشرع له معنى آخر هذا يسمى الحقيقة الشرعية، صار عندنا حقيقة لغوية، هذه الحقيقة اللغوية قد تبقى على أصلها، فيصير اللفظ باقيا على أصله اللغوي، وقد تُنقل إلى معنى جديد، الذي نَقَلَ هو الشرع، يسمى هذا المعنى الجديد حقيقة شرعية.
قال (وإما عُرفية) أحيانا العُرف لا يجعل اللفظ على ما هو عليه في اللغة بل يجعله أخص منه أو أوسع منه.
مثل مثلا الدابة؛ الدابة في اللغة كما ذكرتُ لك اسم لما يدبّ على وجه الأرض، قد يكون يدب على بطنه أو على رجلين أو على أربع، لكن في العُرف خُصصت الدابة لذوات الأربع، نمثّل- يعني الأمثلة العرفية كثيرة-.
مثل اللحم لو قال فلان أكلت لحما، اللحم من القديم من وقت العرب اللحم لا يصدق على السمك، مع أنّ السمك لحم، السمك لحم؛ قال جل وعلا ?لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا?[النحل:14]، لكنه العُرف نقل اللحم إلى شيء خاص، وهو ما عدى السمك، فإذا قال القائل أكلت لحما، لم يدخل في العرف أنه أراد لحم سمك، وإذا أراد سمكا قال أكلت سمكا.(44/48)
مثل الغائط، لفظ الغائط، وهو المطمئن من الأرض، أرض نازلة، إذا أتى فيها أحد وطأطأ أخفته عن الأنظار، هذه تسميها العرب تسمي الأرض هذه غائطة؛ يعني منخفضة، ومنه الاشتقاق غوطة، ونحو ذلك من الألفاظ، إذا كانت منخفضة، العرف أصلا هو الذي نقل، أما اللغة فمعنى غائط أو غاط أو شيء آخر، ثم نقلها العرف، يعني أصلها اللغوي هو المكان المنخفض، لكن العرف هو الذي نقلها إلى أنّ الغائط هو ما يخرج من الإنسان من الأذى، لما نقلها العرف؟ لملابسة، ما هذه الملابسة؟ أنّ من أراد أن يخرج هذا الأذى ذهب على ذلك المنخفض من الأرض، كما تعلمون العرب لم تكن لها كُنُف في بيوتها، وإنما إذا أرادوا أن يتبرّزوا، خرجوا، فذهبوا وبحثوا عن ما يتوارون به عن الأنظار، وهي الأرض المسماة الغائط، فسمي ما يخرج منهم في تلك الأرض غائطا، هذا يسمى حقيقة عرفية، وهذا هو الصحيح، وليس هذا مجازا كما مثل به المؤلف فيما سيأتي، الصحيح أنّ هذا حقيقة عرفية.
إذن الحقائق العرفية أنها نَقْلٌ من العرف لأشياء في اللغة بمعنى آخر أخص من المعنى السابق، أو بينه وبينه ملابسة، وهذه الثلاث مهمة.
إذا فهمنا معناها سنقول قد يتعرض اللفظ في نصوص الشرع إلى أنْ تتنازعه الحقائق؛ تتنازعه الحقيقة اللغوية، تتنازعه الحقيقة الشرعية، تتنازعه الحقيقة العرفية، فإذا تنازع اللفظ أكثر من حقيقة، فأي الحقائق يُقدَّم؟ الذي عليه عامّة العلماء أنه يجب تقديم الحقيقة الشرعية، إذا قلنا صلى فلانٌ، نعرف الصلاة المراد بها الحقيقة الشرعية، قال جل وعلا ?وَأَقِمْ الصَّلَاةَ?[هود:114] نعرف الصلاة هي الحقيقة الشرعية؛ لأن هذا اللفظ نعرف أنّ الشرع نقله من اللغة إلى شيء جديد.
فإذن يجب تقديم الحقائق الشرعية أولا عند التعارض.(44/49)
ثانيا الذي عليه جمهور العلماء خلافا للحنفية أنه يقدم بعد الشرعية العرفية إذا تنازع اللفظ حقيقة عرفية ولغوية، هل يحمل على اللغوية أو يحمل على العرفية؟ نقدم العرفية، لما؟ لأنّ اللغوية باقية على أصلها، وأما العرفية منقولة، ولهذا يقدم المنقول على ما هو باق على أصله، إذْ هذه فائدة النقل، أو هذه من فوائد النقل، ظاهر؟ إذن نقدِّم العرفية، مثاله نقول فلان أتى على دابّة، دابة يعني ذوات الأربع، هذه الحقيقة العرفية.
الحنفية يقولون لا؛ إذا تعارضت العرفية واللغوية تقدم اللغوية؛ لأنها هي الأصل، لكن هذا ليس هو الذي عليه جمهور العلماء.
إذن تحصل عندنا أنّ عامة أهل العلم أنّ الحقيقة الشرعية مقدمة عند التعارض، ثم إذا تعارضت الحقيقة العرفية واللغوية تقدم العرفية عند جمهور العلماء، وتقدم اللغوية عند الحنفية، ما مثال ذلك؟(44/50)
قبْل المثال تذكرتُ تنبيها مهما بهذا المقام، وهو أنّ الحقيقة الشرعية ما جاء عن الشرع، وأما إذا جاء عن أهل الشرع فهو حقيقة عرفية، انتبه إلى هذا القيد المهم؛ لأن كثيرين يخطئون لأجل عدم التفريق، إذا جاء النقل من الشرع صارت حقيقة شرعية، وأما إذا جاء النقل من أهل الشرع من الفقهاء، من المحدثين، من غيره؛ ما جاء من الله جل وعلا ومن رسوله، فهذه تسمى حقيقة عرفية، أي عرف؟ عرف أهل الشرع، لهذا تجد أنّ الفقهاء مثلا أحيانا يقولون في التعريفات وشرعا، وتارة يقولون اصطلاحا، فهنا ينبغي أنْ يُنظر إذا كان هذا التعريف مستقى من الشرع قيل شرعا، وإذا كان لم يُستقى من الشرع يعني لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم أو استقى تعريفه من دلالة واضحة ظاهرة من النص فإنه يقال فيه اصطلاحا، يعني هذا اصطلح عليه علماء مذهب معين، ولهذا تجد أنه في البيع مثلا تعريف البيع عند الحنابلة يختلف عن تعريفه عند الشافعية وتعريفه عند المالكية وإلى آخره، إذا كان تعريفه مختلفا والكل يقولون شرعا كذا، لا يستقيم؛ لأنهم لم يختلفوا في الصلاة لأن الصلاة تعريفها شرعا هي كذا وكذا، أو أن الصلاة شرعا حقيقة شرعية هي هذه المعروفة.(44/51)
فإذن نقول البيع اصطلاحا هو مثلا مبادلة مال بمال إلى آخره، ظاهر؟ لهذا نقول إذا أتى النقل من أهل الشرع صارت حقيقة عرفية، إذا أتى النقل من النحاة صار بعرف النحاة حقيقة عرفية نعني بها عرف النحاة، صار النقل عند أهل الحديث مثل المعلق عن أهل الحديث، الذي في القرآن تعليق الصلاة ?وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ?[النساء:129] هنا المعلقة هذا في الشرع جاء على وصف معروف، جاء في الحديث قال الحديث المعلق لهذا اختلف علماء المصطلح تسميات علماء الحديث له بالمعلق نأخذه من إيش؟ من تعليق الجدار، من تعليق الطلاق؟ هذا عرف خاص بأهل الحديث، هذه تسمى حقيقة عرفية لأهل الحديث، بعض الألفاظ يكون عرفها عند أهل الأصول غير عرفها عند أهل النحو، غير عرفها عند اللغويين، غير عرفها عند الفقهاء وهكذا.
إذن فانتبه إلى أنّ التعريفات التي اصطلح عليها علماء مذهب ما أو علماء فن ما، هذه لا يسوغ أن تنسب إلى الشرع، وإنما يقال اصطلاحا كذا، يعني مما اصطلح عليه علماء مذهب ما، لهذا تجد في كثير من كتب الفقه أنهم يقولون فيما اصطلحوا عليه هو شرعا، وهذا عندي لا يسوغ؛ لأنه نسبة شيء إلى الشرع، وربما كانت النصوص مخالفة له، وإن كان بعض العلماء خرج قولهم”وشرعا“؛ يعني في عرف أهل الشرع؛ قال ”وشرعا“ يعني في عُرف أهل الشرع، لكن هذا تخريج ليس بالجيد.(44/52)
نمثّل نعود للمثال في تعارض الحقائق، مثلا لو قال قائل لزوجته إن أكلتْ لحما فهي طالق، هنا رتّب وقوع الطلاق منه على أكل اللحم، جاءت بسمك وأكلته، سمك يسمى في اللغة لحم، فعند الجمهور القائلين بتقديم العرفية على اللغوية يقولون لم يقع الطلاق، لما؟ لأنها لم تأكل لحما وإنما أكلت سمكا، والسمك لم يدخل في عرف المتكلم، هو قال إنْ أكلتِ لحما فأنت طالق، والحنفية يقدّمون اللغوية، فيقولون تطلق لأنها أكلت لحما واللحم في اللغة كذلك، لو قال قائل لامرأته مثلا أنتَ طالق ثلاثا، قال الرجل لامرأته مثلا أنتَ طالق ثلاثا، فالذين يقدمون العرفية يقولون قوله أنتَ لا يعني بها أصله اللغوي هو يقصد أنتِ، ولكن قال أنتَ؛ لأن عرفه؛ لهجته في قومه هكذا ما يقول أنتِ يقول للمرأة أنتَ ونحو ذلك، هذا عند من يقدّمون العرفية، يقول يقع؛ لأن المراد بالمقاصد هو قصد إيقاع الطلاق، إلا أن يكون عالما بالعربية وأراد تخويفها فيه تفصيل آخر، الحنفية يقولون لا يقع الطلاق، إذن هنا نقدم اللغوية على العرفية، هو قال أنتَ وهو غير أنتِ، فلهذا لا يقع بذلك الطلاق.
مثلا في قوله تعالى ? وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ?[الرعد:15]، هذا السجود يحمل على أي نوع من السجود؟ هل هو السجود الشرعي أو السجود اللغوي أو السجود العرفي؟ محل خلاف بين أهل العلم:
( فمن رأى أن الأصل الإطلاق الشرعي، وهنا تعارضت لأننا لا نعرف كيفية سجود الأشياء فقال هنا يحمل السجود على السجود الشرعي.
( ومنهم من قال لا؛ نحمله على السجود العرفي المتعارف بين الناس وهو طأطأة الرأس، ?ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا?[النساء:45] طأطأة الرأس.
( أو قال طائفة يحمل على اللغوي؛ لأنه هو الأصل، واللغوي هو الخضوع والذل؛ السجود بمعنى الخضوع والذل.(44/53)
المقصود أنّ هذه القاعدة أطلتُ فيها لبيان التعارض بين الحقائق، والتعارض لأنك ستجد لها فوائد كثيرة في الفقه، وفي شرح الأحاديث، وفي التفسير، ومن جهتي لم أحصي كثرة تطبيقات ما مر علي في التفسير، كثيرا ما تطبق هذه في التفسير، لكن تطبيقها ينبغي أن يكون على معرفة وبينة.
طيّب وفي قوله تعالى ?وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ?[التوبة:103] لماذا ما نحملها على الشرعية؟ أليس الأصل في الصلاة الشرعية، ألفاظ إذا تعارضت، الأصل أن تقدم الحقائق الشرعية، فلماذا لا نقول وصلّ عليهم يعني الصلاة الشرعية، فما الجواب؟ نقول لا يمكن أن تُحمل على الصلاة الشرعية؛ على الحقيقة الشرعية لأنه قال (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) والصلاة على الآدمي لا تكون إلا إذا مات وهذا حي، فهذا انتفى بقرينة قوله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)، فدل على الانتقال من الحقيقة الشرعية إلى ما بعدها وهي الحقيقة العرفية، العُرف؛ ليس ثَم عرف خاص بالصلاة، فانتقل إلى الأخير وهي الحقيقة اللغوية، فيكون الصلاة هنا بمعنى الدعاء، وهكذا في تفصيلات وأمثلة خاصة.
ذكر المجاز وقال (والمجاز: إما أن يكون بزيادة, أو نقصان، أو نقل، أو استعارة.) المجاز ذكرتُ لكم أنّه يعرف بأشياء منها استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا، أو نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثانٍ لسبب جامع بينهما أو لمناسبة بينهما.
وذكر هنا كتقسيم قال (إما أن يكون بزيادة, أو نقصان، أو نقل، أو استعارة.) المجاز ينقسم إلى عقلي ولغوي؛ ينقسم إلى مجاز عقلي وإلى مجاز لغوي عند القائلين به، وكما قدمتُ لك المجاز عندنا، صحيح أنه ليس ثمّ مجاز في اللغة لكن نبين شيئا مما يتعلق به لإيضاح المقام؛ مجاز عقلي ومجاز لغوي:(44/54)
المجاز العقلي: إذا أُسند الفعل إلى من لم يفعله ظاهرا، مثل مات فلان، معلوم أنّ فلان لم يفعل الموت، وإنما فُعِلَ به الموت، يعني الفاعل للإماتة غيره، هذا يسمى مجاز عقلي، أسند الفعل إلى من لم يفعله ظاهرا. أنبت الماء الشجرة، الواقع الذي أنبت من؟ هو الله جل وعلا، هذا يُسمى عندهم مجاز عقلي، هذا على كلامهم، ليس تقريرا لكلام المحققين من أهل السنة. أنبت الربيعُ البقل، هذا أيضا من المجاز العقلي عندهم، هذا المجاز العقلي.
الثاني لغوي: واللغوي ينقسم إلى مفرد، وإلى مركب، المفرد له أقسام، والمركب له أقسام، هذه تقسيمات المفرد؛ للمفرد يعني الذي هو الزيادة والنقصان والنقل، والاستعارة للمركب.
قال هنا (أن يكون بزيادة,)، (مثل قوله تعالى:? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]) هنا قال فيه زيادة الكاف؛ لأنّ معنى الكلام ليس مثله شيء هذا واحد.
أو نقصان (? وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ?[يوسف:82]). واسأل أهل القرية.
أو نقل مثل عندهم الغائط، نقل عندهم من المطمئن من الأرض إلى ما يخرج من الإنسان من الأذى.
أو استعارة مثل (? جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ?) ضابط الاستعارة، طبعا هذه كلها من مباحث البلاغة في علم البيان من البلاغة لأن البلاغة ثلاثة علوم:
الأول: علم المعاني وهو علم مهم جدا جدا.
الثاني: من البلاغة البيان، والبيان عماده على أشياء، وهي التشبيه ويدخل في المجاز كثيرا، وعلى الكناية والمجاز، ويدخل في المجاز الاستعارة بأنواعها إلى آخره.
قال (والمجاز بالاستعارة:كقوله تعالى: ? جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ?) لأنها عندهم الاستعارة مشبه ومشبه به؛ لأنه يستعار شيء بشيء آخر هو ليس له أصل.
قال (والمجاز بالزيادة) الاستعارة تركيبية، المجاز المركب، وما قبله المجاز المفرد، هذه كلها من أقسام المجاز اللغوي.
قال (والمجاز بالزيادة:مثل قوله تعالى? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11].)(44/55)
( الكاف هذه حتى عند أهل السنة، يقولون هذه الكاف زائدة؛ صلة، لماذا؟ زِيدت لتأكيد الكلام، فهي بمقام تكريره، فقوله (? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]). معناه ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء، فالكاف هذه زيدت في مقام تكرير الجملة مرتين أو أكثر، إذن ليس مثله شيء ذلك إذا أعرض تقول هنا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) الكاف هذه صلة، أو تقول حرف جر زائد أو نحو ذلك، (كَمِثْلِهِ) تقول هنا (مثل) نقول اسم مجرور بالكاف؟ لا، لأنّ الكاف هنا زائدة، نقول (مثل) تلك خبر (لَيْسَ) مقدم منصوب محلا مجرور لفظا؛ لفظه مجرور، لكن محله منصوب؛ لأنه خبر ليس. فإذن الكاف ها هنا زِيدت فتكون حرف زائد، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). معناه ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء، فالعربي يفهم من مجيء الكاف هنا أنها في مقام تكرير الكلام وتأكيده.
( القول الثاني أنّ الكاف هنا بمعنى مثل، قال ليس مثل مثله شيء، ومجيء الكاف بمعنى مثل، هذا معروف في اللغة، قد جاء في القرآن، وفي كلام العرب، فمنه في القرآن، قوله تعالى ? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً? عطف (أَشَدُّ) على الكاف، الاسم يعطف على اسم، ما يعطف على حرف، فدل على أنّ الكاف هنا حرف (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَـ) يعني مِثْل خبر (هِيَ) قال (أَوْ أَشَدُّ) عطفها على الخبر التي هي مثل، ومنه أيضا قول الشاعر الذي هو كسيرهن:
لو كان في قلبي كقدر قلامة
حبا لغيرك ما أتتك رسائلي
قال (لو كان في قلبي كقدر) الكاف هنا بمعنى مِثْل ضرورة؛ لأنه ليس ثم اسم يصلح أن يكون خبرا لكان (لو كان في قلبي) هذا جارّ ومجرور متعلق بخبر مقدم (كقدر) هذا اسم كان.(44/56)
إذا تقرر ذلك، فعلى القول الثاني يكون ليس مثل مثله شيء، فهل هو نفي للمثل؟ أو نفي لمثل المثل؟ قال بعض العلماء إن هذا فيه نفي لمثل المثل، وإذا نُفي مثل المثل، قد يُفهم منه جواز أنْ يوجد المثل ظاهر؟ ليس مثل مثله شيء، فمعنى ذلك على هذا التقدير أنه يجوز أن يوجد المثل، قالوا لا، ليس هذا المراد؛ لأن نفي مثل المثل عند العرب أبلغ في نفي المثل؛ لأنه يكون بتقديم المثل الثاني بمعنى الذات، فيكون ليس مثل مثله شيء عند العربي الذي يفهم، إذا استعمل مثل هذا الأسلوب، يفهم أن معناه ليس مثل ذاته شيء فهو نفي للمثلية الأولى، ليس نفيا لمثل المثل الثاني، فيكون فيه إثبات للمثل الأول، وهذا مشهور.
والقولان هذان مشهوران عند أهل السنة في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، والأول هو الأظهر الأبين، وهي أن تكون الكاف صلة.
المقصود هنا زيادة مباحث ليس هذا محل بيانها.
قال (والمجاز بالنقصان: مثل قوله تعالى:? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11].) لأن أصل الكلام عندهم واسأل أهل القرية لقرينة أنّ القرية لا يصح أن تسأل، إذْ هي جدران ومباني ونحوها، فلما لم يصلح أن تسأل القرية صار التقدير واسأل أهل القرية، فنُقِصَ من الكلام كلمة (أهل) ودلت عليها وجود القرية، لقرينة عدم صلاحية القرية لسؤالها، فصارت مجاز نقصان.
قال (والمجاز بالنقل:كالغائط فيما يخرج من الإنسان.) هذا كما قدمتُ ليس يصح أن يكون مجازا، وإنما هو حقيقة عرفية.
(والمجاز بالاستعارة:كقوله تعالى ? جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ?.) وهم يقولون مجاز بالاستعارة؛ لأنه استعار الإرادة للجدار فجعل الجدار حيا، يصلح أن يكون محلا للإرادة، وإرادته أن ينقض، وهذا يسمى عندهم استعارة؛ لأنه أعار الحياة للجدار وأعار الإرادة للجدار، وهذا يسمى مجاز.
وطبعا عندنا كل هذه لا يصلح أن تكون مجازا، وإنما جميعا حقيقة؛ وإنما هذه جميعا حقيقة:(44/57)
(المجاز بالزيادة) لا يصح أن يكون مجازا، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذا تركيب ظاهر، هو حقيقة في ألفاظها، لم ينقل شيء إلى شيء آخر.
(والمجاز بالنقصان) هنا (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ) علمنا من قبل أنَّ هذه حقيقة تركيبية يفهم أي سامع منها (واسأل القرية) بمعنى واسأل أهلها لا يأتي ذهنه أولا للقرية ثم ينتقل ويفكر بالنقصان، يعرف أن المراد أن يسأل أهلها.
(والمجاز بالنقل) هذا علمنا أنه حقيقة عرفية.
(والمجاز بالاستعارة) عندنا أنه حقيقة تركيبية ليس مجازا، وإنما حقيقة تفهم من تركيب الكلام، وأما هذا المثال بخصوصه فعندنا أن الجدار له إرادة على الصحيح، الجدار له إرادة.(44/58)
ومخلوقات الله جل وعلا التي تسمى الجمادات لها إرادة، لها حياة خاصة، ولهذا الجماد لا يصح أن يعرّف عندنا بأنه الذي ليس فيه حياة، الجماد تعريفه ما ليس فيه حركة ظاهرة، هذا تعريف الجماد، عندنا الجماد هو ما ليس فيه حركة ظاهرة، هذا الجدار أمامنا ليس فيه حركة ظاهرة فهو جماد، خشب أمامنا ليس فيه حركة ظاهرة أمامنا فهو جماد، وهو ما يناسب كلمة جماد، فهي من الجمود الذي هو عدم الحركة، أمّا أنْ يُقال الجماد ما ليس فيه حياة، فهذا باطل؛ لأنّ الله جل وعلا أثبت أن للجبال حياة، وأنّ للشّجر حياة، وأنّ لما لا يرى فيه حركة حياة، قال جل وعلا مثلا في قوله في آخر سورة الأحزاب? إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا? [الأحزاب:72]، وهذا الإباء نتيجة عن حياة خاصة، وأيضا قال النبي عليه الصلاة والسلام «أحد جبل يحبنا ونحبه» فأثبت أنه يحب، فدل على أنَّ له حياة خاصة، كذلك الجذع كان يحن لما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم حنّ حنين العشار، جذع أحد سواري المسجد، جذع من الجذوع كان النبي صلى الله عليه وسلم يستند إليه في خطبة الجمعة، فلما تركه بعد أن عُمل له المنبر، حنّ؛ سُمع له حنين كحنين العشار؛ حنين الإبل، فهذا فيه إثبات حياة، كذلك كان يسمع كلام بعض الصخور والحصى عليه الصلاة والسلام، ونحو ذلك.
المقصود أنّ هذه التي تسمى جمادات في الشرع أدلة كثيرة -يطول لو أردنا أن نسردها طال المقام جدا- تدل على أنّ فيها حياة خاصة، فهنا الجدار (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ) هذا فيه إثبات الإرادة للجدار، نأخذه بظاهره؛ أنّ الجدار له إرادة (يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ) له إرادة خاصة، ثم أنه (يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ) (1) هل هذا لأنه يفعل به ذلك، أم أنه اختيار منه؟ الله أعلم لأن حقائق ذلك محجوبة عنا.
__________
(1) انتهى الشريط الثاني.(44/59)
نكتفي بهذا القدر، يعني أنا أرى أوجه، أو وجوه –جمع كثرة- وجوه الإخوة مع الأصول تجول، سببه أني أستعجل في الكلام، كما ترون أنّ الوقت ضيق، ولا يمكن أيضا أنه نمشي كما ينبغي، ولا بد من الإيضاح، ما أدري كيف يكون الكلام القليل لا يوضح المراد والاستعجال قد يتعبكم، لكن على كل حال هي فتح للأبواب، أسأل الله جل وعلا أن ينفعكم وينفعني بأعمالنا كلها في هذه الحياة وفي الدار الأخرى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
(((((
2-(الأمر)
والأمر: استدعاء الفعل بالقول, ممن هو دونه, على سبيل الوجوب.
وصيغته:افعل.وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه, إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب, أو الإباحة,ولا تقتضي التكرار على الصحيح,إلا ما دل الدليل على قصد التكرار,ولا تقتضي الفور .
والأمر بإيجاد الفعل أمر به, وبما لا يتم الفعل إلا به, كالأمر بالصلاة؛ فإنه أمر بالطهارة المؤدية إليها, وإذا فعل يخرج المأمور عن العهدة.
(تنبيه):
من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل: يد خل في خطاب الله تعالى: المؤمنون. وأما الساهي والصبي والمجنون فهم غير داخلين في الخطاب.
والكفار مخاطبون بفروع الشريعة, وبما لا تصح إلا به, وهو الإسلام؛ لقوله تعالى: ?سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ?[المدثر:42-43].
والأمر بالشيء نهي عن ضده, والنهي عن الشيء أمر بضده.
الحمد لله، قال هنا (والأمر: استدعاء الفعل بالقول, ممن هو دونه, على سبيل الوجوب.)
الأمر في اللغة تارة يُراد به الطلب على وجه مخصوص، وتارة يراد بالأمر الفعل، كما قال تعالى ?أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ?[هود:73] يعني من فعل الله جل وعلا، ?إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا?[الأحزاب:36] يعني شيئا، ونحو ذلك، سيأتي الأمر ويراد به الفعل في بعض النصوص.(44/60)
أما في الاصطلاح فهنا عرفه صاحب الورقات بقوله (الأمر: استدعاء الفعل بالقول, ممن هو دونه, على سبيل الوجوب.)، (استدعاء الفعل) الاستدعاء يعني الدعوة إلى الفعل، فإذن الأمر دعوة إلى الفعل؛ إلى فعل المأمور به، (بالقول) فإذا كان الأمر بإشارة أو بكتابة أو نحو ذلك لم يَصِرْ أمرا عندهم، وهذا فيه نظر؛ لأنّ الكتابة إذا كانت من الشارع أو النهي إذا كان من الشارع فإنه بمنزلة القول، أو الإشارة إذا كانت ظاهرة الدلالة فإنها مثل القول، وذلك لأنّ الجميع يشترك في أنّ الفعل مدعو إلى الإتيان به، النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الأمصار، كتب إلى قيصر وإلى هرقل، وكتب إلى عدد من ملوك الأبقاع يدعوهم إلى الإسلام ويأمرهم بالإسلام لله جل وعلا، وهذا أمر منه بالكتابة.
فإذن الصحيح أن نقول أنّ هذا القيد وهو قوله (بالقول) أنه ليس بدقيق، ليس بصحيح؛ لأن الكتابة أو الإشارة من الشارع أنها تدل على الأمر إذا كانت يُستدعى بها الفعل.
فإذن (استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه) هو هنا نَظَرَ إلى جهة الآمر، وإلى جهة المأمور، فيكون الآمر أعلى من المأمور؛ الآمر أعلى من المأمور قدْرا، فإن كان الآمر مساويا للمأمور سمي ذلك التماسا، وإن كان الآمر أدنى من المأمور منزلة سمي ذاك سؤالا وطلبا ودعاء؛ كما نخاطب الله جل وعلا نقول: اللهم اغفر لي. اغفر لي، أمر، ولأنه منا نحن البشر الفقراء الضعاف المساكين إلى العظيم الأعلى صار سؤالا، وإذا سألت صديقك وإذا استدعيته إلى الفعل بالأمر، فإنّ هذا ليس ممن هو دونك إنما هو من مساوٍ لك فيسمى التماسا، فإذن الأمر عندهم لا يدخل فيه الالتماس، ولا يدخل فيه الدعاء، إنما الأمر استدعاء الفعل من قائله أو من الكاتب أو من المشير ممن هو دونه قدْرا من سيده لعبده، رجل لزوجته، مسؤول عمل لمن يعمل عنده، مستأجر للأجير، وحاكم لرعيته، ونحو ذلك، هذا كلها أمر لأنه ممن هو دونه.(44/61)
قال (على سبيل الوجوب)، وقوله هنا (على سبيل الوجوب) يعني أنْ يكون الأمر واجبا، وهذا فيه نظر؛ لأنّ المؤلف كأنه يرى بذلك أن النّدب -كما سيأتي- لا يكون مأمورا به في ظاهر الأمر، والأَوْلى أنْ نقول في تعريف الأمر: أنّ الأمر استدعاء الفعل ممن هو دونه على وجه الاستعلاء. واضح؟ استدعاء الفعل ممن هو دونه على وجه الاستعلاء، ما معناها؟ يعني أن يكون الآمر في أمره مؤكِّدا جازما، وبعض علماء الأصول يقولون على وجه العلو، وهذا ليس بصحيح؛ لأنّ العلو صفة الآمر، والاستعلاء صفة للأمر في نفسه، فيكون على وجه الاستعلاء؛ يعني الأمر فيه جزم، أو فيه شدة، وفيه غلظة، ونحو ذلك، حتى يخرج منها الالتماس والسؤال وإلى آخره.
إذن تحصَّل لنا أنّ تعريف الأمر يصلح أنْ نقول: إنَّ الأمر هو استدعاء الفعل ممن هو دونه، على وجه الاستعلاء، لا على وجه العلو، وعلى سبيل الوجوب ليست بصحيحة؛ لأن المندوب مأمور به لكن بأمر ليس بجازم.
قال (وصيغته: افعل) صيغة الأمر (افعل)، (وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه) يعني على الوجوب، أولا هو حدّد صيغة بـ(افعل) وهذا تقرير وتمثيل، وإلا فإنّ صيغ الأمر كثيرة فمنها: افعل، اذهب، اقرأ، اكتب، أقم الصلاة، آتي الزكاة، تصدق، اعتق رقبة، ونحو ذلك، هذه صيغة (افعل).
أيضا قد يكون من صيغ الأمر صيغة (لتفعل) كما قال جل وعلا ?ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ? اللام لام الأمر، ? وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ? لام الأمر، ? وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ?[الحج:29] لام الأمر؛ يعني فلتفعل، هذه اللام لام الأمر، لام بعدها الفعل المجزوم بها، هذا يكون من صيغ الأمر.
أيضا من الصيغ الإتيان باسم الفعل الذي يدل على الأمر كـ(عليك) مثلا، قال جل وعلا ? عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? (عَلَيْكُمْ) هذه من صيغ الأمر.(44/62)
كذلك من صيغ الأمر المصدر النائب عن فعله، كقوله تعالى ?فَضَرْبَ الرِّقَابِ?[محمد:4]، (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) هذا مصدر لكنه نائب عن فعله الذي هو اضربوا، (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) يعني فاضربوا الرقاب، لكن التعبير بالمصدر، وترك التعبير بالفعل له أغراض معلومة في علم المعاني.
أيضا من الصيغ –الصيغ كثيرة، لكنها مهمة بَعِدّ بعضها لا بأس-، من الصيغ الخبر الذي يتضمن الأمر، كقوله تعالى ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ?[البقرة:228] (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) هذا ليس بصيغة أمر، خبر (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ). إلى غير ذلك من الصيغ.
قال( وهي) يعني الصيغة على صيغة افعل عنده، وعندنا على أي من هذه الصيغ التي ذكرتُ (وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه) على الوجوب، يعني أنّ الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب، وجوب أي شيء؟ وجوب الامتثال يعني أنّ الامتثال واجب، من لم يمتثل كان متوعدا على عدم الامتثال بالعقوبة، (وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه)، (عند الإطلاق) ما ذا يريد بالإطلاق هنا، الإطلاق من الصفة، الإطلاق من التكرار، الإطلاق من الشرط، الإطلاق من قيد يفيد الندب، أو قيد يفيد الإباحة، إلى آخره. قال(والتجرد عن القرينة) هذا احتراز؛ لأنه قد يتصل بالأمر قرينة تنقله من كونه أمر للوجوب، يُحمل على الوجوب إلى أمر لاستحباب أو أمر للإباحة، فقد يكون الأمر للإباحة، وله مواضع، مما قاله أهل العلم أنّ الأمر يكون للإباحة ليس للوجوب ولا للندب، في مواضع:(44/63)
منها أن يكون الأمر بعد نهيه، إذا أتى الأمر بعد نهي عند جمهور العلماء دل على الإباحة، كما قال جل وعلا ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ?[المائدة:95] فنهى عن قتل الصيد والمرء مُحْرِم، وقال جل وعلا ?وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا?[المائدة:2] فأمر بالاصطياد، قال أهل العلم أمر بالاصطياد بعد النهي عنه، فيفيد عند جمهورهم أنّ الأمر للإباحة؛ لأنه أتى بعد النهي، وعند المحققين أنّ الأمر بعد النهي يُرجع المأمور به إلى ما كان عليه قبل النهي، مثاله أيضا قوله تعالى ?فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ?[الجمعة:10] (انتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) هل هو للوجوب؟ (ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) هل هو للوجوب؟ قالوا هذا للإباحة على قول الجمهور، أو على قول المحققين أنّه لرد الأمر لأصله، ومعلوم أنّ أصل الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله بالبيع ونحوه أنه مباح.
أيضا من المواضع –يعني البحث هذا بحث الأمر طويل جدا؛ لكن نذكر أهم ما فيه – من المواضع التي فيها الأمر يكون بالقرينة دال على الإباحة، أن يكون الأمر أن يكون أتى بعد سؤال تعليم؛ إذا أتى بعد سؤال للتعليم، يعني سؤال للاستفهام لطلب العلم، فيكون الأمر بعده للإباحة عند الكثيرين من العلماء.
ومن المواضع التي يكون فيها الأمر للإباحة، أنْ يكون بعد –ذكرنا أن يكون بعد سؤال نهي، أن يكون بعد سؤال تعليم- نسيت الثالث هناك ثلاثة أحوال، نسيتها الآن.
قال (والتجرد عن القرينة ) القرينة هذه قد تكون متصلة وقد تكون منفصلة:
( متصلة بالكلام مثل ?وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا?[المائدة:2] القرينة أنه كان منهيا عنه ثم أُمر به، الاتصال بالكلام «كنتم نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها» هذه قرينة متصلة.(44/64)
( أو قرينة منفصلة يعني هذه في آية وتلك في آية أخرى، هذا الأمر في حديث الذي يفيد الوجوب والقرينة التي تصرفه عن الوجوب في حديث آخر.
القرينة إما أن تكون متصلة وهذه في الغالب تنقله إلى الإباحة، وقد تكون منفصلة هذه تكون للاستحباب.
إذن فالأمر قد يكون للوجوب وهو الأصل، وقد يكون الأمر للاستحباب لقرينة دلت على ذلك، مثاله قوله تعالى ?فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا?[النور:33] (فَكَاتِبُوهُمْ) للاستحباب، وكذلك قوله جل وعلا ?وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[الحج:77] هذا أمر بفعل الخير، فدلت القرينة المنفصلة أنّ من الخير ما هو مستحب ليس بواجب، فيكون (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) هذا للوجوب فيما يجب فيه والاستحباب فيما يستحب من أنواع الخير.
هذه القرائن التي تنقل الأمر من الوجوب إلى الاستحباب كثيرة، وأهل العلم لا يُفَصِّلون الكلام عليها في كتب الأصول، وإنما يقولون: إنّ من القرائن أنْ يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الذي نهى عنه، أو أن يترك الشيء الذي أمر به، فإذا ترك الشيء الذي أمر به، فيكون تركه قرينة دلت على أنّ الأمر للاستحباب، أو يكون فعل ما نهى عنه، فيكون فعله لما نهى عنه يدل على أن نهيه للكراهة وليس للتحريم.
أيضا قالوا: من القرائن أنْ يكون الخبر في صفة في المعاملات المالية؛ يعني هي نوع المعاملة، ليس في أركانها ولا شروطها، إنما هو في صفتها، فيكون الأمر إذا كان في صفة معاملة؛ مثل الإشهاد في البيع فإن هذا دلّ على الاستحباب، كذلك قالوا إذا كان الأمر في أنواع الآداب؛ مثل آداب الأكل، آداب الشرب، آداب التخلي، ونحو ذلك، فإنَّه لو أُمر به قرينة كونه من الآداب تصرفه عن الوجوب للاستحباب، وذكروا قرائن كثيرة.(44/65)
ومجموع ذلك يتلخص في أنّ القرينة هي ما أفاد كون الشارع لم يُرِد بالأمر وجوب الامتثال لم يرد بالأمر الأمر الجازم، فإذا لم يُرِد بالأمر الأمر الجازم فإنه يكون الأمر ليس للوجوب إنما للاستحباب.
قال هنا (وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه) أي على الوجوب (إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة) ذكرت لك القرائن التي تفيد الإباحة، والقرائن التي تفيد الندب؛ يعني بعض هذه وبعض تلك.
قال (ولا تقتضي التكرار) لا تقتضي صيغة (افعل) ونحوها من الصيغ التي تدل على الأمر، (لا تقتضي التكرار على الصحيح) وهذا كما قال (على الصحيح) ما معنى هذا الكلام؟ معناه أنّ الله جل وعلا حين قال ? وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ?[التوبة:103] امتثال هذا الأمر بفعله مرة لا يقتضي تكرار الفعل؛ يعني بمجرده، كما قال في أوله عند الإطلاق، لا تقتضي التكرار، صيغة افعل وما شابهها من الصيغ عند الإطلاق؛ يعني بدون ضميمة أراد التكرار كل يوم وليلة بقوله كل ساعة بقوله كل سنة ونحو ذلك، فإنّ هذا يفيد بمجرده عدم التكرار، يفيد أن الواجب مرة لا غير، وهذا هو الصحيح؛ لأن العلماء أجمعوا على أنّ الرجل لو قال لامرأته طلقي نفسك، هذا أمر؛ طلقي نفسك، فطلقت نفسها مرة، وزادت ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، أنّ الواقع منها واحدة؛ لأنّ الأمر لا يفيد التكرار، طلقي نفسك؛ يعني مرة واحدة، فالأمر لا يفيد التكرار، وكذلك في قوله تعالى ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[الأحزاب:56] والأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يفيد أنّ الواجب الامتثال بها مرة، الامتثال بها يكون بفعلها؛ بقولها مرة واحدة، اللهم صلي على محمد وإذا أُريد التّكرار كان ثَم قرينة تفيد التكرار، مثل قوله عليه السلام «خمس صلوات في اليوم والليلة»، فبيّن أنّ قوله جل وعلا ? وَأَقِمْ الصَّلَاةَ?(1)
__________
(1) هود:114، طه:14، العنكبوت:45.(44/66)
أنّ هذه صلاة مكررة مرة واحدة، وإنما في أوقاتها المخصوصة، مثل قول القائل تصدق بدرهم، لو قلتُ لأحد منكم تصدق بريال كان مُنْتَزِلا إذا تصدق مرة واحدة، لكن لو جعلت معها قرينة تفيد التكرار كقول تصدق كل ساعة بريال، صار الامتثال لا يكون إلا بالتكرار.
إذن فالتكرار لا يفيده الأمر، وإنما الأمر يفيد التكرار بضميمة قرينة تدل على التكرار، ولهذا قال بعد ذلك (إلا ما دل الدليل على قصد التكرار) وهذا هو الصحيح، إذا دلّ الدليل على قصد التكرار وجب التكرار.
قال أيضا (ولا تقتضي الفور) نقف هنا؛ لأنّ هذه فيها خلاف ونُرْجِئه إلى غد إن شاء الله تعالى، صلى الله وسلم على نبينا محمد. نعم
الحمد لله، مع الأصول، قال الجويني أثناء كلامه على الأمر (ولا تقتضي الفور) يريد لا تقتضي صيغة (افعل) الفور، قال بعض الشرّاح يعني ولا التراخي، كأنه يقول إنّ قول الجويني (ولا تقتضي الفور) يعني ولا التراخي، يعني بمجرد صيغة (افعل) لا يستفاد منها الفورية ولا التراخي، لكن هذا عندي فيه نظر؛ لأنّ الجويني من الشافعية، والشافعية يرون أن الأمر للتراخي، وذلك أنّ العلماء اختلفوا من الأئمة وأتباعهم والفقهاء والأصوليين في هل يقتضي الأمر الفور أم لا؟
فذهب الإمام أحمد وأصحابه والمالكية وبعض الشافعية وبعض الحنفية إلى أنّ الأمر يقتضي الفور.
وذهب الشافعية والحنفية إلى أن الأمر يقتضي التراخي؛ ما يقتضي الفورية.(44/67)
ومعنى ذلك، معنى أنّ الأمر يقتضي الفورية؛ يعني أنّ المأمور يجب عليه أن ينفذ ما أمر به فورا، ليس له أن يؤجل، إذا قال قائل لمن أمر يا فلان اذهب فآتي بالكتاب، فهذا الأمر يعني اذهب فورا، فإذا أجَّلَ ذلك ساعة كان غير ممتثل للأمر، وهذا هو الذي يُفهم من اللغة، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، أنّ الأمر يفيد الفورية؛ لأنه لو كان يفيد التراخي كان فيه نوع تخيير له أن ينفذه الآن أو متى شاء، ومعلوم أنّ الأمر إذا كان مفيدا للوجوب فإنه للجزم، والجزم لا يناسب التراخي، لهذا قال العلماء لو قال السيد لعبده أُجلب لي ماء فلم يمتثل فورا عُدّ عاصيا، عدّ مخالفا.
طائفة من العلماء يرون أن الأمر للتراخي؛ يعني للمأمور أنْ يُؤخر الامتثال عن وقت الخطاب، وهذا الخلاف له ثمرات فقهية مهمة، فمثلا الله جل وعلا أمر بإيتاء الزكاة فقال ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ?(1) متى تجب الزكاة؟ إذا تمت الشروط وجبت، وأخرج مال الزكاة، قال هذه ألف ريال مثلا هذه زكاة، يجب أن يؤتي الزكاة؛ يعني أن يخرجها ويعطيها من يستحقها على القول بأنّ الأمر بالفور، فورا ليس له أن يؤخر، وعلى القول بأنه للتراخي، تقول لو أخر أسبوع شهر فإنه لا حرج عليه، كذلك قال جل وعلا ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا?[آل عمران:97] فأمر بالحج وأمر بالعمرة أيضا في قوله ?وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ?[البقرة:196] فهل لهذا المخاطب بهذا الأمر أن يؤخر الامتثال؟
(من قال أنّ الأمر للفور يقول بأنه إذا كان مستطيعا السبيل إلى الحج أو إلى العمرة فلم يحج أو لم يعتمر فإنه يعد بذلك عاصيا.
(ومن قال أنّ الأمر للتراخي قال له أن يؤخر ذلك سنة سنتين ثلاث، له أنْ يؤخر ذلك.
__________
(1) البقرة: 43، 83، 110، النساء:77، النور:56، المزمل:20.(44/68)
أيضا من الفروق؛ لو نذر ناذر بنذر وأراد الوفاء به، الوفاء بالنذر واجب، أليس كذلك؟ مأمور به، «من نذر أنْ يطيع الله فليطعه» هذا واجب، فهل القول بالفورية؟ وهو الصحيح، فإنه يجب أنْ يوفي بهذا النذر فورا؛ يعني فور تمكنه من الوفاء به، وعلى القول بالتراخي يقال يبقى في ذمته.
كذلك أنواع الكفارات؛ واحد عليه كفارة يمين، حلف يمينا فحنث فيها، يجب عليه أن يطعم عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله أو أن يكسوهم أو أن يعتق رقبة، الذين يقولون على الفور يجب حينما حنث فإنه يتوجه إليه الخطاب، فيجب فورا عليه أن يخرج. وعلى القول بالتراخي يبقى في ذمته، مثل جنس أنواع الكفارات له أن يؤديها متى ما أراد.
إذا قلنا أنّ الصحيح أن الأمر يقتضي الفورية إلا إذا دلّ الدليل على التراخي، مثل الأوقات التي وُقتت بها الصلاة قال جل وعلا ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ?(1)، هذا أمر حينما يصل وقت الصلاة يتوجه على العبد أن يصلي، فإن أخّر عن أول الوقت، فهل يُعَدُّ غيرَ ممتثل؟ الجواب هو ممتثل إذا أدى الصلاة في وقتها، لما؟ لأن الشارع حينما خاطبه بالصلاة لم يجعل وقت المخاطبة بها أولا، جعل كل هذا الوقت وقت خطاب، فهو إذا توجه في وقت الصلاة إلى أوله كان مخاطبا بالصلاة في أوله، إذا توجه إلى الصلاة في آخره كان مخاطبا بها في آخره، أو نقول هو يخاطب بالصلاة بأنْ يصلي في أول الوقت، وله أنْ يؤخره إلى أن يتضايق وقت الصلاة؛ يعني إلى أنْ يبقى من الوقت ما يمكِّنه من أداء وقت الصلاة بعينها.
__________
(1) البقرة:43، 83، 110، النساء:77، يونس:87، النور:56، الروم:31، المزمل:20.(44/69)
ثم قال (والأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم الفعل إلا به) والأمر هنا يشمل الواجب والمستحب، (الأمر بإيجاد الفعل أمر به) بذلك الفعل، وأيضا أمر بوسائل الفعل، وهذه هي التي يسميها العلماء: ”ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب“. وهكذا، قال (والأمر بإيجاد الفعل أمر به) يعني بذلك الفعل (وبما لا يتم الفعل إلا به)، قال جل وعلا ?وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ?[البقرة:43]، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأداء الصلاة في المساجد مع الجماعة، فالواجب إقامة الصلاة مع الجماعة في المساجد، المشي إلى المسجد؛ الانتقال من البيت إلى المسجد، ما حكمه؟ لا يمكن أن يمتثل إقامة الصلاة في المساجد إلا بالانتقال، فهذا الانتقال واجب، قد يقول قائل: إذا قلت إنه واجب، هو سينتقل فما فائدة كونه واجبا؟ نقول هذا من رحمة الله؛ لأنّ الماشي يؤجر أجْرَ ممتثل لواجب؛ لأنّ الأمر بشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به، فهو حين ينتقل من بيته إلى المسجد، لأداء الصلاة؛ لأنّ الصلاة مع الجماعة واجبة، ويعلم أنّ إتيانه بهذا لابد منه؛ لأنّ الصلاة لا يمكن أن يفعلها في الجماعة إلا به، فيؤجر على من شاء أجره على الواجبات، ظاهر؟ نقول الأمر بالصلاة مثلا أمر بها وبما لا تتم إلا به مثل الطهارة استقبال القبلة ونحو ذلك.(44/70)
إذن هذه القاعدة أو هذا الحكم الأصولي يُعبَّر عنه في مواضع أخر؛ يعني في كتب أخر بأنّ ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهنا ينبغي أنْ يتنبه إلى أنّ ما لا يتم الواجب إلا به على قسمين: بعضه مقدور للعبد، وبعضه غير مقدور للعبد. فالذي يوصف بالوجوب يوصف بأنه مأمور به ما هو داخل في مقدور العبد، رجل مريض لا يستطيع أن يصلي قائما، والله جل وعلا أمر بإقامة الصلاة، قال ?وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ?[البقرة:232] الصلاة لا يمكن أن تكون عن قيام إلا بأن يقوم، إذا كان القيام في مقدوره فإن القيام واجب، إذا لم يكن في مقدوره لم يصبح مما لا يتم الواجب إلا به؛ لأن ما لم يتم الواجب إلا به يُقيَّد بما كان داخلا تحت مقدور العبد؛ يعني بما يستطيعه العبد، لهذا قال عليه الصلاة والسلام في الصلاة لعِمران«صَلّ قَائِماً, فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً, فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» إلى آخره، وهذا ظاهر فيما أحسب.
كذلك المستحبات وسيلة المستحب وسيلة السنة سنة، الأمر إذا كان يفيد الاستحباب فوسائله؛ ما لا يتم إلا به فهو مستحب، صلاة التراويح إقامتها مع الجماعة في المساجد مستحب؛ سنة. الطريق الانتقال المشي، أو الانتقال بسيارة، جنس الانتقال من البيت إلى المسجد، هذا واجب أو مستحب؟ مستحب فيؤجر عليه أجر المسنونات والمستحبات، ولهذا بعض العلماء يعبّر عن هذه القاعدة بتعبير أشمل، وهو أنهم يقولون ما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع؛ لأنّ المشروع يشمل الواجبات والمستحبات، وهذا أدق، فإنه ما لا يتم المشروع إلا به واجبا كان أو مستحبا فهو مشروع؛ يعني فهو واجب أو مستحب.(44/71)
مثّل هنا بقوله (كالأمر بالصلاة فإنه أمر بالطهارة المؤدية إليها وإذا فعل يخرج المأمور عن العهدة ) إذا فَعل المأمور أو فُعل الأمر؛ يعني فُعل ما أمر به فإن المأمور يخرج عن العهدة؛ يعني يخرج عن التبعة فلا يخاطَب بذم يقع ما فعله مجزئا يقال امتثل الأمر. إذا فُعل فورا أو على التراخي؟ بحسب الخلاف الذي سبق، لكن الذي أُمر شيء ففعله أداء أو قضاء، يخرج من العهدة بعد فعله، ما فائدة هذا الكلام؟ فائدته أنه لو مات وقد خوطب بأمر فما الذي يجب؟ مأمور هو أن يؤدي الأمانات على أهلها قال جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا?[النساء:58] مات عنده أمانة ولم يؤدها إلى أهلها، امتثل الأمر أو لم يمتثل؟ لم يمتثل، فلم يخرج من العهدة، يبقى عليه، فإن فعله مَنْ رواءه بأنْ أَدَّوا الأمانة التي عنده إلى من هي له، برئ من العهدة في قبره، وإن لم يفعلوا لُوحِق بذلك، مثل الدَّين وأنواع الكفارات، لهذا قال عليه الصلاة والسلام فيمن ماتت وعليها صيام ونذر، «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، من مات وعليه صيام إما صيام مطلق أو صيام نذر حسب الخلاف بين العلماء يصوم عنه وليه؛ لأنه ما برئ من العهدة، فهذا موقت بوقت، وهذا لم يؤده، فكان مخاطبا به لا يبرأ من العهدة حتى يفعله، إن فعله من بعده برئ، وإلا يكون مآخذا بذلك، بخلاف الأشياء التي وقتها طويل مثل الصلاة، مات بين الظهر والعصر، ولم يصلِّ الظهر، فليس عليه شيء؛ لأنّ الأمر ما توجَّه له على الفور في هذا الجزء من بين صلاة الظهر إلى حين وفاته لأنه فيه بقية، فلم يفعل، مثل المرأة الحائض في صلاتها، ولها أمثال كثيرة.(44/72)
المقصود قال بعد ذلك ((تنبيه): من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل: يد خل في خطاب الله تعالى: المؤمنون.) مَنِ المخاطب بخطاب الله جل وعلا في القرآن أو في السنة؟ قال (يدخل في خطاب الله تعالى: المؤمنون.) من هم المؤمنون؟ يعني المكلفين: البالغ العاقل الذي بلغ سن التكليف. هذا هو الذي يدخل في الخطاب، فمعنى ذلك أنّ من هو دون سن البلوغ ليس مخاطبا بالتكليف، (يدخل في خطاب الله) يعني بالتكليف (المؤمنون).
استثنى قال (وأما الساهي والصبي والمجنون فهم غير داخلين في الخطاب.)، (الساهي) الذي سها عن أداء ما أُمر به، وها هنا ألفاظ متقاربة تكثر عند الأصوليين وعند الفقهاء منها النسيان؛ نسي، السهو؛ سها، يسهو، ومنها الغفلة؛ غفل عن كذا، فما الفرق بينها؟ نعم الساهي لا يؤاخذ، والناسي أيضا لا يؤاخذ، والغافل أيضا لا يؤاخذ؛ (1) لأن الجميع ما خالفوا قصدا للمخالفة، هذا ساهي، وذاك غافل، وذاك ناسي، والله جل وعلا يقول ? رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا?[البقرة:286]، وثبت في الصحيح أنّ الله جل وعلا قال «قد فعلت»، فلا يؤاخذ الناسي مثله الساهي.
النسيان يكون لشيء سبق العلم به، فلم يذكره في الحال يقول نسيتُ كذا. كان عالما به فنسيه، ولهذا قال بعض العلماء النسيان متعلق بما كان.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.(44/73)
الغفلة تقابل النسيان، الغفلة متعلقة بما يكون، تقول غفلت عن هذا الشيء حتى صار وكان، غفلة عما يكون، والسهو بينهما يكون عما كان وعما لم يكن، يكون عما كان وعما لم يكن، لهذا في حديث ذي اليدين المعروف في قصة سهو النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ذو اليدين: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ وهو عليه الصلاة والسلام سها، لهذا سمي سجود السهو؛ لأن النسيان، السهو يكون عما كان، وعما لم يكن، هنا عبر بالسهو؛ لأنه يشمل الأمرين، وبعض العلماء يقول الغفلة تشملها جميعا، وعلى العموم الخطب يسير، فالساهي -كما ذكرتُ لك- السهو يكون عن ذُكْرٍ وعن غير ذُكر؛ يعني عن تذكر ما ينبغي وعن عدم تذكر، سها عن الشيء؛ يعني غفل عنه، ما يدري عن أصله، أو يكون على ذكر منه ثم نسيه سَهَا عنه مثل ما مثلتُ لك فقوله: وأما الساهي يدخل فيه الناسي ويدخل فيه الغافل، كل هؤلاء غير مخاطبين، لما؟ لأنّ الله جل وعلا خاطب من يعقل؛ من يتقبل الأمر، وهؤلاء في تلك الحال ليسوا متقبلين للأمر.
(والصبي) الصبي هو من لم يبلغ، وهذا كما جاء في حديث علي وغيره المروي في السنن، الحديث في الصحيح إنه عليه الصلاة والسلام قال «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام أو قال الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يُفيق» فهذا الصبي، من لن يبلغ أيضا لا يدخل في التكليف.
(المجنون) أيضا لا يدخل في التكليف، لهذا قال (هم غير داخلين في الخطاب).
إذا تقرر ذلك، فهاهنا مسائل مهمة تتبع ذلك، هل كل نسيان وسهو لا يؤاخذ به العبد أم أنّ النسيان والسهو قد يؤاخذ به العبد؟ فالجواب أنّ ما خاطب الله جل وعلا به المؤمنين على أقسام:
منه ما هو أوامر يجب امتثالها؛ صلاة يجب أن تؤدى، شرط يجب أن يؤتى به، ونحو ذلك.
ومنه ما هو مناهي؛ متروكات يجب تركها والانتهاء عنها.(44/74)
( فإذا نسي ما أمر به، لم تبرأ عهدته بالنسيان، فإذا تذكر وجب عليه أن يأتي به، كما قال عليه الصلاة والسلام «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» هو قد أدى الصلاة، وبعد الصلاة قال: تذكرتُ أني صليت على غير طهارة. فيقال له: أنت كنت ناسٍ للطهارة، ونعم الناسي غير داخل في الخطاب، لكن لا يبرأ إلا بفعل الأمر، لا إثم عليه، لكن الأمر هذا لابد أن تمتثله، فصلاتك غير صحيحة؛ لأن الطهارة مأمور أنت بها، فإذن إذا كان النسيان والسهو عن أوامر، فإنه لا تبرأ العهدة إلا بها، نسي الطهارة، نسي تعدى الميقات؛ ميقات الإحرام غير محرم ناسيا، هنا نقول يجب عليك أنْ ترجع وتحرم من موقعك؛ لأنك مأمور به، ترك طواف الإفاضة ناسيا لا بد أن تطوف، أنت باق على إحرامك، ما رميت الجمرة الكبرى نسيانا، نسيتَ ما تذكرتَ إلا بَعْدِينْ لابد أنت مخاطب بذلك، هذا قسم.
( القسم الثاني منهيات طلب الشارع من المكلف أنْ يتركها، فهذه إذا نسيها فإنها منهيات؛ متروكات، والله جل وعلا رفع الجناح، ورفع الإثم عن الناسي، فهذه إذا تركها عن نسيان فإنه ليس عليه شيء على الصحيح، مثال ذلك لو مثلا حلق شعره وهو محرم ناسيا، نقول هذا مطلوب الانتهاء عنه، مطلوب تركه، فلا يجب عليه، ما ذا نقول ليس عليك كفارة ولا غيره؛ لأنك فعلت ذلك عن نسيان، وهذا من المنهيات، تكلَّم في الصلاة ناسيا، حمل في الصلاة النجاسة ناسيا، النبي صلى الله عليه وسلم حمل نجاسة لا يعلم ما هي جاهلا بها، حتى نبّهه جبريل بذلك، فلم يُعِد أول الصلاة، كذلك قال لمعاوية بن الحكم حينما تكلم في الصلاة قال له «إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التكبير والتسبيح والتحميد والتهليل وذكر الله» فلم يأمره بالإعادة، استفاد العلماء من ذلك أنّ النّاسي إذا نسي منهيا عنه، فإنه لا جناح عليه لأنه رفع عنه.
فإذن في النسيان هناك قسمان:(44/75)
قسم مأمورات: فهذه لا بد أنْ يأتي بها لا يبرأ الناسي من العهدة إلا بالإتيان بها، فإذن عدم مؤاخذة الناسي بأنه لا إثم عليه فيما ترك من الإتيان بالأمر.
النواهي: أنه لا يؤاخذ بها وليس عليه أن يعيد العبادة أو نحو ذلك.
(الصبي) الصبي غير مخاطب، هل معنى ذلك أنه لا يؤمر بأداء شيء من العبادات؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنّ الصبي لم يؤمر هو، إنما الذي أُمر هو وليه، قال عليه الصلاة والسلام «مروهم بالصلاة لسبع» فأمر الأولياء أن يأمروا الصبيان، أما الصبي؛ من دون البلوغ فهو لو ترك صلاة فهو غير مؤاخذ بذلك، فإذا فعل فالأجر له ثابت ولوليه؛ لمن أمره بذلك، وهذه لها تفاصيل يضيق المقام عنها.
قال (والمجنون) أيضا المجنون غير مخاطب بالتكليف، لو مات الصبي أو مات المجنون، فما حكمه؟ ابحثوا الجواب لأنه باقي .... (1)كثيرة .
قال (والكفار مخاطبون بفروع الشريعة) (الكافر) مخاطب بالإسلام أولا، ومخاطب بكل ما خوطب به المؤمنون؛ مخاطب بالصلاة، مخاطب بالزكاة، مخاطب الحج، مخاطب بالصوم، مخاطب بأن يترك الزنا، بأن لا يشرب الخمر، بأن لا يأخذ الربا، كل فرع من فروع الشريعة فهو مخاطب به، هو مخاطب بالإسلام أولا، وبكل فرع الشريعة، وهذا هو الصحيح أن الكفار مخاطبون، وذلك لقول الله تعالى ?وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6)الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ?[فصلت:6-7] فتوعدهم بهذا الوصف، فتوعدهم بالنار لهذا الوصف؛ لأنهم لا يؤتون الزكاة، وكذلك قال جل وعلا ?سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ?[المدثر:42-43].وهي من الفروع وهكذا.
__________
(1) كلمة غير واضحة.(44/76)
ما معنى كونِ الكافر مخاطب بفروع الشريعة؟ معناه أنه يعاقب على تركه للإسلام الذي هو الأصل، ويعاقب على تركه لكل فرع من فروع الشريعة، فالكافر يجتمع عليه أنواع من المخالفات، قد يكون يستدل بعقله أو بحسنٍ على بعض أوامر الإسلام، فيأتي بالأخلاق الحسنة، يصدق الحديث لا يكذب، لا يرابي، لا يزني ونحو ذلك، فيكون عقابه دون عقاب الكافر الذي لم يأتِ بالإسلام ولم يأتِ بهذه الأوامر.
فإذن (الكفار مخاطبون بفروع الشريعة)، المخاطبة هذه يظهر أثرها في الآخرة، أما في الدنيا فلا أثر لها، يعني لا يلزم الكافر بأن يصلي، أنا كافر يُقال صلِّ، أنا كافر يُقال زكي، لا، لا يخاطب بذلك، وإنما أثر هذا الخطاب يظهر في الآخرة، إلا ما كان في باب الأمر والنهي فإنه لا يجوز للكافر أن يظهر المحرمات في دار الإسلام كما هو مبين في محله. ذكر الدليل قال (لقوله تعالى: ?سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ?[المدثر:42-43]).(44/77)
قال(والأمر بالشيء نهي عن ضده, والنهي عن الشيء أمر بضده.) طبعا الأمر هذا يشمل الواجبات ويشمل المستحبات، الأمر الواجب والأمر المستحب للشيء نهي عن ضده، وكذلك النهي المحرم أو المكروه، أمر لضده، وبعض العلماء يعبر بتعبير آخر هو أحسن من هذا، يقول الأمر بالشيء نهي عن أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده. وهذه هي العبارة الصحيحة؛ الأمر بالشيء نهي عن أضداده جميعا؛ لأنه هنا يقول (نهي عن ضده) يُحمل على أنه يريد جنس الضد، إذا كان له ضد فهو نهي عن هذا الضد، إذا كان له أضداد فإنه نهي عن الأضداد جميعا، (والنهي عن الشيء) إذا نهى الشارع عن شيء فإنه أمر بأحد أضداده، مثال ذلك الأمر بالشيء نهي عن أضداده، الأشياء كل شيء في الغالب له ضد، وقد يكون للشيء أضداد، مثلا القيام في الصلاة «صل قائما»، ?وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ?[البقرة:238] هذا أمر بالقيام في الصلاة، أليس كذلك؟ ما أضداد القيام؟ كثيرة: القعود، الجلوس، على جنب، الاستلقاء. له أضداد كثيرة، فلما أمر بإقامة الصلاة أو بالصلاة قياما، علم من ذلك أنه نهي عن أداء الصلاة على كل الأضداد، فلو قال قائل الأمر بالصلاة قائما يُخرج ضد واحد وهو قاعد، نقول هذا غلط؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن أضداده، تصور أضداده جميعا، فيكون الأمر بالشيء نهي عن جميع الأضداد، بهذا في حديث عمران قال «صَلّ قَائِماً, فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً, فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» لأن القاعد وعلى جنب من أضداد القيام، ولو كان القيام له ضد واحد، لقال صل قائما فإن لم تستطع فبضده، أو فإن لم تستطع فقاعدا وتكفي، لكن له أضداد، فبين أنّ المسألة في الصلاة أنه يجب القيام، فإن لم يكن مستطاعا يجب القعود، فإن لم يكن مستطاعا فعلى جنب، فإن لم يكن مستطاعا فكذا وكذا.(44/78)
الحال الثانية قال (النهي عن الشيء أمر لا بضده) وقلنا أنّ الأحسن والأَوْلى أنْ يُقال أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، مثاله قال تعالى ? وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا?[الإسراء:32] نهى عن الزنى (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) عدم غشيان الزنا وفعل الزنا والعياذ بالله، عدم غشيانه له أضداد، صحيح؟ ما أضداد فعل الزنا؟ الزواج واحد، ملك اليمين اثنين، نكاح الأمة ثلاثة، الصيام، الاستعفاف، الصبر، له أضداد ، فنهى عن الزنا، فهل النهي عن الزنا أمر لجميع تلك الأضداد، ليس كذلك، ولهذا قال العلماء، النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، لك الخيار، نهاك عن شيء، فهذا النهي مضمن الأمر لأحد تلك الأضداد، لكَ أن ... (1) لك، أن تنكح أمة ، لك أن تتزوج، لك أن تصبر؛ أن تستعف ، لك أن تصوم، أمر بأحد أضداده، ظاهر؟ وهكذا، والأمثلة على هذا كثيرة.
يضبط لك القاعدة أنّ الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده.
لا حظ أن هذه الاستفادة ليست من اللفظ، يعني الأمر بالشيء نستفيد منه النهي عن أضداده جميعا لم نستفدها من الأمر من اللفظ افعل، لتفعل، عليك، أن تفعل، إنما استفدناه من معنى الأمر؛ لأنه مقتضى أنه أمر مقتضاه أنه ينهى عن أضداده جميعا، معنى الأمر النهي عن الأضداد.
فإذن نقول هذه القاعدة مستفادة من مقتضى الأمر لا من لفظ الأمر، وهذا تعبير العلماء يقولون هذه القاعدة مستفادة من المعنى لا من اللفظ.
أصلح الله حالي وحالكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
3-(النهي)
والنهي: استدعاء الترك بالقول. ممن هو دونه على سبيل الوجوب ويدل على فساد المنهي عنه.
ويرد صيغة الأمر والمراد به: الإباحة, أو التهديد, أو التسوية, أو التكوين.
المتون، ما أحسن قول الشاعر فيها:
غيري جنى وأنا المعذب فيكم فكأنني سبابة المتندم
__________
(1) كلمة غير واضحة.(44/79)
المتن كلمات سهلة؛ يعني كلمتين أو ثلاث؛ لكن كل كلمة لها تفصيلات، ولهذا من فوائد المتون في استيعابها أو فهمها وتقريرها أو شرحها، من فوائدها أنها تعوّد الذهن على الدقة والضبط، بخلاف القراءة في الكتب المطولة فإنها تعوّد الذهن على أن تكون الأفكار سائحة، ما يدري من أين يبتدئ وما يدري أين ينتهي، عند الضبط والتحليل المتون، العلماء من قديم يعتنون بها لأن من فوائد العناية بها أن الذهن ينبني بناء خاصا...
يقال فلان قرأ فتح الباري، قرأ صحيح مسلم، قرأ، ما تجد هذه، لما؟ لأن هذه المتون الصغيرة القصيرة، هذه إذا شُرحت بحقها، وكان الطالب عنده استعداد لتقبل الشرح، يَبني ذهنه لدقة الأخذ ودقة التعبير عن المسائل؛ كل كلمة لابد لها معنى، وإذا بني ذهنه على هذا الفهم، أيضا يتبع ذلك بناء اللسان، لسانه، تفكيره، دقته في نظره، وتركه وتفسيره للأشياء، حتى في علاقاته مع الآخرين، ونظرته للأمور يكون عنده شيء من الدقة، وهذه من الفوائد التي من أجلها اهتم العلماء بهذه المتون القصيرة، ليس فقط لأنها متون قصيرة يمكن أن تنهى بسرعة، لا؛ ولكن لأجل أنّ شرحها يعوِّد الطالب على أنّ العلم ليس بكثرة الكلام، العلم مركّز؛ كلمة، وهذه معانيها، تفصيلها يكون على هذا النحو، أما من جهة الكلام فإنه سهل؛ أي واحد منكم، والحمد لله الآن انتشرت القراءة، والكتب موجودة، ممكن يقرأ باب كامل ويأتي ويلقيه، لكن هذا ما يكون مرتّبا، ما يكون دقيقا، تجد أنه عنده معلومات؛ لكن غير مرتبة، سائحة بعضها من هنا، وبعضها من هنا، لهذا بالمناسبة لما انتقل الأخ للعام نقول أن النهي، الكلام على النهي ربما طال، نعم، هي كم؟ سطرين تقريبا ولكنها فيها كفاية إن شاء الله.
(النهي)، النهي:
أصله في اللغة الترك، أنهاك عن كذا؛ يعني آمرك بالترك، انتهي؛ أترك ?انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ?[النساء:171] يعني أتركوا ذلك خيرا لكم.(44/80)
أما في الاصطلاح يعني اصطلاح الأصوليين، فلهم في تعريف النهي تعريفات كثيرة، منها تعريف صاحب الورقات حيث قال(النهي: استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب) مقابل للأمر، تذكرون أنّ الأمر عرَّفه بقوله (استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب).
(النهي استدعاء الترك) يعني طلب الترك بالقول، يطلبه الأعلى من الأدنى على سبيل الوجوب، هذا تعريف صاحب الورقات، وقد ذكرتُ لكم في الأمر أنّ هذا التعريف فيه مؤاخذة.
والأحسن منه والأصح أنْ يُقال: إنَّ النهي استدعاء الترك ممن هو دونه على وجه الاستعلاء. فنخرج (بالقول) نترك كلمة (بالقول) لأنه قد يكون النهي بالكتاب أو بالإشارة فيدل على النهي الجازم أو غيره، ونترك أيضا (على سبيل الوجوب)، ونقول على وجه الاستعلاء؛ لأنه قد يكون للتحريم، وقد يكون للكراهة.
صيغة النهي (لا تفعل) لأن صيغة الأمر المشهورة (افعل) وصيغة النهي المشهورة (لا تفعل)، وهناك صيغ أخر هي التحذير (احذر أن تفعل) كقوله تعالى ?فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[النور:63]، قال العلماء إنّ كل مسألة من مسائل الأمر ثَم مسألة على وِزَانها من مسائل النهي؛ لأن النهي نقيض الأمر مقابل له:
فمثلا في الصيغة: الأمر له صيغة النهي له صيغة؛ صيغة الأمر (افعل) صيغة النهي (لا تفعل).
الأمر استدعاء الفعل، النهي استدعاء الترك.
الأمر يقتضي الفور، والنهي أيضا يقتضي الفور.
الأمر يخرج بفعله عن العهدة، والنهي يخرج عن العهدة بالانتهاء عنه.
وهكذا فكل مسألة من مسائل الأمر يأتي مسألة على وِزَانها للنهي، لهذا صار فهم الكلام على باب النهي في الأصول ينبني بناء على فهم مسائل الأمر.
من المسائل الجديدة، أو نقول لما صار النهي يقابل الأمر، لما صار مسائل النهي مثل مسائل الأمر، لما؟(44/81)
لأن حقيقة الأمر طلب للفعل، وحقيقة النهي طلب لعدم الفعل، فكلاهما طلب، وكلاهما فيه إلزام، وفيه استعلاء واستدعاء، ممن؟ مِنَ الأعلى إلى من هو دونه، لكن هذا طلب بالفعل، وذلك طلب لعدم الفعل.
ففي الحقيقة كل منها قريب من الآخر، لكن اختلفا في المعنى، فصار هذا أمر لأنه يُطلب منه الفعل، وهذا صار نهي لأنه يُطلب منه الترك، لهذا ظاهر لديك من التعريف أنه يقابل الأمر.
يقول بعد ذلك (ويدل) يعني النهي (على فساد المنهي عنه) هذه المسألة من مسائل الأصول العظيمة، وهي التي يسميها العلماء بقولهم: النهي يقتضي الفساد. يقول هنا (ويدل على فساد المنهي عنه.) وهذا أيضا مما يقابل فيه النهي الأمر؛ لأن الأمر يدل على صحة المأمور به، مقابله النهي يدل على فساد المنهي عنه.
ما معنى قوله (على فساد المنهي عنه.)؟ يعني أنّ هذا المنهي عنه لا يُعْتَدُّ به إن كان من العبادات، ولا ينفذ إن كان من العقود ونحوها، (على فساد) يعني على عدم صحة ذلك؛ الفساد يقابل الصحة، صحيح؟ لأن:
الصحة ما يتعلق به النفوذ ويعتد به شرعا.
والفساد ما لا يتعلق به النفوذ أو الفاسد ما يتعلق به النفوذ ولا يعتد به ؛ الذي هو الباطل كما مر معنا.
إذن قوله (ويدل على فساد المنهي عنه.) يعني أنّه لا يعتد بالعبادة ولا ينفذ العقد، هذه الكلمة وهي أن النهي يقتضي الفساد، من المسائل المشهورة في الأصول، وصُنِّفَ فيها مصنفات، ومن أجمعها كتاب للعلائي الفقيه الشافعي المعروف سماه ”تبيين المراد في أن النهي يقتضي الفساد“.
والعلماء في هذه المسألة مختلفون:(44/82)
( فمنهم من يحكم على المنهي عنه بالفساد مطلقا، على أي جهة كان، وهذا قول ينسب للإمام أحمد، وهو قول الظاهرية، يعني أنّ الشارع إذا نهى عن شيء فإذا فعل المكلف ذلك الشيء فإنّ فعله له فاسد، نهى عن الصوم يوم العيد، فإن صام صار صيامه فاسدا، نهى عن الصلاة وقت النهي فإنْ صلى وقت النهي صارت صلاته فاسدة؛ لأنّ الصلاة في هذا الوقت منهي عنه، نَهى عن الربا؛ فإن عَقَدَ عَقْدَ ربا صار هذا العقد فاسدا، وهكذا من أهل العلم من قال -وهم الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد- أنّ النهي على أي جهة كان؛ يعنى سواء لعين المنهي عنه، أو ركنه، أو شرطه، أو كان لوصفه الملازم، أو كان لوصفه غير الملازم، فإنه يدل على فساد المنهي عنه، سيأتي إيضاح ذلك.
( يقابل هؤلاء طائفة من الفقهاء والعلماء، قالوا إنّ النهي يقتضي الفساد، ويدل على فساد المنهي عنه، لكن في حال واحدة وهي إذا كان النهي لعين الشيء، أما إذا كان النهي للوصف، فلا يحكم بالفساد، يحكم بالصحة وفساد هذا الوصف، وهذا قول الحنفية، وسيأتي إيضاح للأقسام.
( وقال آخرون النهي إذا تعلق بعين المنهي عنه أو بوصفه الملازم فإنه يدل على فساد المنهي عنه، وهذا قول الشافعية وطائفة من الحنابلة وقول كثير من الفقهاء.(44/83)
[جواب على سؤال] الحنفية يقولون النهي يدل على فساد المنهي عنه في حالة واحدة، وهي أنه إذا كان النهي متعلق بعين المنهي عنه، مثل ?لَا تَقْرَبُوا الزِّنَى?[الإسراء:32] بعينه ليس بوصفه، أما إذا كان النهي بوصفه مثل الربا، الربا ما نهي عن البيع، إنما نهي عن هذه الزيادة، فيقولون الأصل صحيح، ولكن هذا الوصف هو الفاعل، يفرقون ها هنا بين صحة الأصل؛ الوصف، لأن عندهم أنّ النهي عن الربا، مثلا –أنا كنت سأوضح هذا بعد قليل الأقسام من جديد، لكن أتى لذكر الأخ- في الربا، مثلا البيع أصلا صحيح، الزيادة محرمة؛ يعني لو أراد عندهم لو أتى عند القاضي؛ القاضي حنفي، ماذا يقول؟ يقول العقد صحيح، لكن هذه الزيادة باطلة، فيلزم ممن أخذها أنْ يُرجعها للآخر، عندنا من يقول يدل على الفساد سواء لعينه أو لوصفه الملازم أو لأمر خارج عنه متصل إلى آخره -كما سيأتي-، فهذه عندهم يقول أصلا العقد باطل؛ العقد ربوي، يقول العقد أصلا باطل؛ لأنه عقد ربوي والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الربا، والله جل وعلا حرم الربا، فالربا منهي عنه، والربا وصف ملازم للبيع؛ لأن البيع ما أريد للبيع، أريد لهذه الزيادة فصار وصفا ملازما له، فلهذا يدل على فساد العقد جميعا، فيقول الأصل فاسد أمات أولئك فيصححون العقد، وطبعا تصحيح العقد وعدم تصحيحه له آثاره الأخرى.
( إذا تبين ذلك، فهناك قول رابع يتضح به المقال، وتبين به المسألة، وأيضا هو القول الصحيح، وهو أن النهي يقتضي الفساد، ويدل على فساد المنهي عنه إذا كان النهي متعلقا أو راجعا لعين المنهي عنه، أو لركنه، أو لشرطه، أو لوصفه الملازم.
أولا: لعينه.
ثانيا: لركنه.
ثالثا: لشرطه.
رابعا: لوصفه الملازم.(44/84)
وهذا في الحقيقة ظاهر، وبيّن وبه تتضح المسألة؛ لأن مسألة النهي يقتضي الفساد، لو قرأت عنها في كتب الأصول، فلن يعلق منها بذهنك كثيرا، السبب في ذلك هو أن كلامهم فيها غير واضح؛ لأنهم يقولون راجع لعين المنهي عنه، لوصفه الملازم، لوصفه المنفصل، لشرطه، فيها نوع غموض، لكن إذا قسمتها: عينه، ركنه، شرطه، وصفه الملازم.
بقي لفهم المسألة أن نفهم ما هو عين المنهي عنه؟ ما هو ركنه؟ ما هو شرطه؟ ما هو وصفه الملازم؟ إذا أتضح ذلك أتضح الأصل، وهو أنه يدل على فساد المنهي عنه إذا تعلق بعينه.
يأتي السؤال الآن هنا، ما معنى عين الشيء؟ الجواب إذا كان النهي لم يقيَّد بصفة للشيء، وإنما نهي عن الشيء نفسه، كما في قوله جل وعلا ?لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ?[لقمان:13] (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) نهى عن الشرك، فهذا نهي عن عين الشرك، فيدل على فساده، وأنه لا يعتد به، قال جل وعلا ?لَا تَقْرَبُوا الزِّنَى?[الإسراء:32] (الزِّنَى) منهي عنه، هل نهي عن وصف متصل بالزنى؟ لا عن الزنى نفسه، هذا النهي عن عين الشيء .
نهي عن ركنه يعني نهي عن الشيء باعتبار ركنه، مثلا الصلاة لها أركان، البيع له أركان، فمِن أركان البيع -إيش أركان البيع؟ القبول، الإيجاب، العاقدان، صحيح؟ قبول، وإيجاب، وعاقدان؛ بائع ومشتري، ومثمَن، هو القبول، الإيجاب، والصيغة، أربعة؛ قبول وإيجاب، عاقدان، بائع ومشتري، ومثمن.(44/85)
بالمناسبة نذكر لكم إيش معنى الركن، كيف تفهم الركن؟ أركان الشيء هل تحفظها حفظ؟ إذا حفظتها فهذا طيب، لكن الأركان أخذها العلماء بالاستنباط، الركن ما تقوم عليه ماهية الشيء، والماهية هي ما يصلح جوابا لسؤال ما هو؟، لو سألك سائل ما هو البيع؟ البيع واحد بيشتري الثاني بيبيع، فيه سلعة مع البائع، يقوم المشتري يقول بِعْنِي، وذاك يقول شريت، صحيح؟ هذا حقيقته، لو قال ما هو البيع؟ فهذا جوابه، هذه ماهية البيع، الماهية هي الأركان في جميع العقود تستمر عليها، وفي غير العقود أيضا، الأركان هو ما تقوم عليه ماهية الشيء، والماهية ما يصلح جوابا لسؤال ما هو؟، البيع الآن هناك مثمن، هذا المثمن من الأركان، صحيح؟ المثمن لنفرض أنه دم، أو لحم خنزير، أو نحو ذلك، فباع لحم خنزير، أو باع دَمًا، أليس هذا المثمن من الأركان، صحيح؟ من الأركان، فالشرع نهى عن هذا عن بيعه؛ عن بيع الدم وعن بيع لحم الخنزير ونحو ذلك.
فإذن النهي هنا جاء عن أي شيء؟ عن ركن من الأركان، فيدل على فساد المنهي عنه؛ يعني على أنّ البيع لم يقم، لما؟ لأنّ حقيقته ما دام الشرع نهى عن أن يكون هذا الشيء ركنا، يعني على أن يكون الدم أحد الأركان، يعني هو المثمن، فكأنه غير موجود، فمعنى ذلك ما قامت الأركان، صحيح فما قامت حقيقة العقد.
الشرط مثل الصلاة مثلا «لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةَ أحَدِكُم إذَا أحْدَثَ حَتّى يَتَوَضّأَ» هنا نهى عن الصلاة إلا بالطهارة، الطهارة شرط في صحة الصلاة، فصار النهي عن الصلاة لعدم توفر الشرط، فدل على فساد المنهي عنه إلى آخره. وهذا واضح.
نأتي للرابع وهو الوصف الملازم وهناك بعض العلماء يقسم الوصف ها هنا إلى قسمين تحقيقا: إلى وصف ملازم، ووصف غير ملازم؛ وصف منفصل:(44/86)
الوصف الملازم الذي يلازم النهي؛ يعني أتى النهي عن عين المنهي عنه لا لأجل عينه، ولكن لأجل وصفه، مثاله قال جل وعلا ?لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى?[النساء:43] فنهى عن الصلاة، فعل هذا النهي يدل على فساد الصلاة مطلاقا؟ لا؛ لأنه لم ينهى عن الصلاة بعينها، وإنما نهى عن الصلاة بهذا الوصف الذي لازمها حين النهي، قال (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فإذن هذا وصف ملازم، فمن كان حال صلاته قد لزمه وصف السكر توجه له هذا النهي، فصارت صلاته فاسدة.
بخلاف الوصف المنفك مثل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبس الحرير، حرَّم على الرجال أن يلبسوا الحرير، هذا الحرير هل هو مرتبط بالصلاة، هو وصف، نعم من حيث أنه سترة، هو وصف من أوصاف الصلاة لكن منفك عنه يعني يمكن أن ينفك عن هذا الوصف، فلهذا بعض العلماء قال إنّ الصلاة في ثوب الحرير تجوز لأنه يمكن الإنفكاك عنه، وأما الوصف الملازم، فلا يصح؛ لأنّ النهي عنه يدل على الفساد، ولهذا دخلوا في الكلام على الصلاة في الأرض المغصوبة، باعتبار أنّ الأرض المغصوبة، أنها وصف ملازم ما ينفك، لأنه يشغل هذه البقعة:
بعضهم يقول أنه وصف ملازم له، وصلاته في الأرض المغصوبة حرام فهذا وصف ملازم لها أثناء صلاته.
قال آخرون ليس لذلك، لكن لأجل أنّ البقعة شرط رجع النهي إلى الشرط، فدل على فساد المنهي عنه.
إذن تحرر لدينا أن النهي يدل على فساد المنهي عنه إذا كان النهي راجعا لعينه، ركنه، شرطه، وصفه اللازم.(44/87)
قال بعض العلماء وهو مذهب الحنابلة: أو لأمر خارج عنه لا عليه. مثل قوله تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ?[الجمعة:9] نهى عن البيع بعد النداء، فهل(1) البيع عين النداء هنا هل البيع منهي عنه أصلا؟ لا، فإذن النهي هنا طارئ، هل هو طارئ لصفة فيه؟لا، لكن لأمر خارج عنه، وهو النداء، وهذا هو مذهب الحنابلة، وهو قول قوي؛ لأن النهي إذا كان لأمر خارج عنه لا عليه فإنه يدل على فساد المنهي عنه، نهى عن البيع بعد الأذان؛ حال الآذان دلّ على أنه لو حصل تعاقد فسد، وهذا مذهب الحنابلة، وأما الشافعية فيصححون البيع في هذه الحال.
المقصود من هذا أنّ مثلا في العقود طبعا يدل على فساد المنهي عنه، فيه بعض العلماء تذكرت قولا يقول أن هناك فرق بين العبادات والمعاملات، فالنهي يدل على فساد المنهي عنه في العبادات، أما في المعاملات فلا يدل على فساد المنهي عنه ويستدلون على ذلك بقوله؛ يعني دليل هذه القاعدة ما هو قوله عليه الصلاة والسلام «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رَدٌّ) يعني مردود باطل، (لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا) بمفهومها أو عليه نهينا، يعني فعل من غير أمر، لم يؤمر بهذا الفعل، فعل من عند هوى نفسه، صار مردودا باطلا، أو فعل ما نهي عنه صار فعله فاسدا باطلا، على كل حال فيها مؤلَّف –تحقيق المراد بأنّ النهي يقتضي الفساد- هذا مطبوع، القاعدة مهمة فيها خلاف كبير بين العلماء.
__________
(1) انتهى الشريط الثالث.(44/88)
سؤال على هذه القاعدة في الدقائق الباقية، لو زوّج رجل أو لو زوّجت امرأة نفسها بلا ولي فما حكم هذا العقد؛ تزويج المرأة نفسها هذا منهي عنه فما حكم العقد، عقد الزواج؟ لما؟ يعني الركن ما هو، الولي ركن؟ ما هو ركن، تصور ما هو النكاح؟ رَجَّال يِدِّي امرأة يقول لها تقول مثلا المرأة زوجتكَ نفسي يقول هو قبلت، هذا حقيقته؛ رجل وامرأة، رجل يريد أن يتزوج امرأة فيزوجها، هناك صيغة بينهما، فإذن أركانه ثلاثة قبول وإيجاب والعاقدة، الولي هنا هل هو في حقيقته؟ لا، يتصور أنه يقع؟ يقع بدون ولي، الولي خارج عن ماهيته، ولكنه شرط راجع لأحد أركانه، في العقود –بودي لو كان عندنا فرصة أعطيكم قاعدة في العقود بها تفهمون أركان والشروط للعقود ولو ما استحضرتم كلام الفقهاء فيها، قاعدة عامة بها يمكن أن تستخرج العقود، ترتب الشروط مثلا عند هنا صيغة صحيح؟ ورجل يريد أن يتزوج، وامرأة تُزَوَّج، الشروط شروط النكاح تجد أن بعضها راجع للصيغة؛ يعني الشروط كلها لتصحيح الأركان؛ لأن أهم شيء في العقود تعرف ما تقوم به حقيقة العقد، عندك هنا زوج وزوجة وصيغة، شروط خاصة بالصيغة، مثل ما يقولون أن يتأخر الإيجاب على القبول إلى آخره، أن يتأخر القبول على الإيجاب، والكلام أن يكون بصيغة كذا نكحت وزوجت، تجد أنّ الشروط راجعة إلى الصيغة هذا واحد، هناك شروط راجعة لمن؟ للرجل؛ الزوج؟ هناك شروط راجعة للمرأة رِضاها؛ رضى المرأة، من الشروط الولي هذا شرط فيه.
بينما النهي عن النكاح بدون ولي هذا نهي راجع إلى عين الشيء أو إلى شرطه؟ إلى شرطه، إذن فصار دالا على الفساد؛ لأن النهي رجع للشرط، على كل حال المسألة هذه مهمة لعلكم، نعم مهمة، قاعدة تطبيقاتها كثيرة في الفقه، في الطهارة، في الصلاة، وفي الزكاة، والصيام، والحج، والبيوع، جميع الأبواب في هذه القاعدة.(44/89)
وفقكم الله، نعم، لا، خلاص الأصول اكتفينا بهذا، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، بقي عندنا غدا إن شاء الله تعالى، و نكمل ثلاثة الأصول إن احتجنا إلى بعد غد نكمل ثلاثة الأصول، ونكتفي بهذا القدر وتسامحوننا عما بدر من نقص أو تقصير في الإفهام، أو نحو ذلك، وفقني الله جل وعلا وإياكم، وسدد خطانا وسلك بنا سبيل الراشدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
4-(العام والخاص)
وأما العام: فهو ما عم شيئين فصاعدا. منقوله: عممت زيدا وعمرا بالعطاء, وعممت جميع الناس بالعطاء.
وألفاظه أربعة: الاسم الواحد المعرّف بالألف واللام. واسم الجمع المعرف باللام. والأسماء المبهمة كـ(من) فيمن يعقل, و(ما) فيما لا يعقل، و(أي) في الجميع, و(أين) في المكان, و(متى) في الزمان, و(ما) في الاستفهام والجزاء وغيره, و(لا) في النكرات والعموم من صفات النطق ولا يجوز دعوى العموم في غيره, من الفعل وما يجري مجراه.
والخاص يقابله العام, والتخصيص تمييز بعض الجملة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا الكلام عن العام والخاص، أو العموم والخصوص، ومبحث العام والخاص، أو مبحث العموم والتخصيص، أو مبحث ألفاظ العموم والمخصِّصات، هذا من مهمات مباحث الأصول، وذلك لأنّ كثيرا من الأحكام إنما يدل لها ألفاظ العموم في النصوص؛ الكتاب والسنة، وقد قدّم قبل ذلك الكلام على الأمر والنهي، والأمر والنهي من عوارض الألفاظ؛ يعني مما يستفاد من اللفظ، يستفاد من اللفظ الأمر، ويستفاد من اللفظ النهي، وكذلك العام إنما يستفاد من النطق، كما قال هنا (من صفات النطق أو من عوارض الألفاظ) يعني لا عموم في الأفعال، إنما يكون العموم فيما يستفاد من الأقوال، ولذلك فصيغ العموم هذه صيغ قولية.(44/90)
هذا الباب باب العام والخاص، وكذلك باب المجمل والمبين، والمطلق والمقيد، ونحو ذلك، هذه كلها من المباحث التي هي ثمرة علم الأصول؛ لأنه هو الذي يستفاد منه، هذه المباحث هي التي يستفاد منها تطبيقيا في فهم دلالات النصوص.
أما العام فهو كما ذكر تعريفه في اللغة (فهو ما عم شيئين فصاعدا) وهذا التعريف من المؤلف بناء على أنّ أقل الجمع اثنان، وهذه مسألة فيها خلاف، ولهذا قال طائفة من أهل العلم إنّ أقل الجمع ثلاثة، وبناء عليه يعرفون العام ما عمّ ثلاثة أشياء فصاعدا، وقد جاء على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «اثنان فما فوقهما جماعة» ويستدل أهل الأصول بهذا على أنّ أقل الجمع اثنان، وإذا تقرر هذا فيصح على هذا القول بهذا الاستدلال المشهور عند الأصوليين، يصح أن يكون تعريف العام ما عم شيئين فصاعدا، وهذا تعريف لغوي.
أما التعريف الاصطلاحي فهو كسائر التعريفات المشهورة عند الأصوليين؛ يجري فيها خلاف وأقوال ربما تتباين أو تختلف، لكن مما قيل في تعريف العام وهو تعريف -كما سيأتي لك- تعريف جامع مانع والاعتراض عليه قليل أنّ العام هو كلام مستغرق لما يصلح له بلا حصر دَفعةً واحدةً. ويضاف على هذا التعريف أو يضاف على ما ذكرتُ: بحسب الوضع؛ يعني يكون تعريف العام: كلام لما يصلح له بحسب الوضع –أدخلها هذا موضعها أنسب- دَفعة واحدة بلا حصر. الترتيب هكذا مناسب، وإن قدمت وأخرت فالأمر قريب ما فيه تعلق بالكلمة والتي قبلها.
فإذن العام عندهم أنه كلام، وهذا يعني إخراج الأفعال.(44/91)
ثانيا يقول (مستغرق) لما يصلح له، فلو كان يدل على العموم لكن لا يستغرق ما يصلح له فليس عندهم بعام، مثال ذلك قول القائل تناولْ بعض الطعام، فإنّ الطعام إذا كان كثيرا فإن بعضه أيضا يدل على شيئين فصاعدا، بعض الطعام هذا قد يكون كثيرا ولكنه لفظ –أعني كلمة بعض- لا يعم جميع ما يصلح له، فإن بعض هذه إنما تكون بعض هذا الكل، وهي تصلح أن يكون هذا منه؛ يعني لو كان عنده عشرة أنواع من الطعام يصلح إطلاق البعض رقم واحد إلى ثمانية وكذلك من رقم تسعة إلى عشرة مثلا من أنواع الطعام، فإذن هنا استثني واحترز بقولهم مستغرق لما يصلح له كلمة بعض ونحوها مما يدل على عموم لكن ليس على عموم شمولي مستغرق.
قال أيضا في التعريف (بحسب الوضع) وهذا احتراز (بحسب الوضع) احتراز من الألفاظ المشتركة، فإنّ لفظ مثلا عَين كما هو مشهور في المثال عندهم كلمة عين هذه تصدق على عين الإنسان، وعلى الذهب، وعلى عين الماء، فإذا قال قائل رأيت العينَ أو مررت بالعين أو نحو ذلك أو لي عين، لي عين هل يريد العين الباصرة، أو يريد بها عين الماء، أو يريد بها العين الذي هو الذهب؟ هذا يحتمل، لفظ عين هذا من الألفاظ المشتركة ليست شاملة لجميع ما يدخل تحتها بحسب الوضع، وإنما كل معنى وُضع له لفظ، فوضع للعين الباصرة كلمة عين، ووضع لعين الماء كلمة عين، ووضع للذهب كلمة عين، فإذن الوضع ليس واحدا وإنما متعدد، ولهذا هنا قال في التعريف (بحسب الوضع)، يعني بحسب وضع واحد لا متعدّد، وأحسن أن تقول بحسب وضع واحد، فيكون أوضح في التعريف؛ يعني يكون كلام مستغرق لما يصلح له بحسب وضع واحد؛ لا وضع متعدد. حتى لا تدخل كلمة عين وأشباه ذلك من الألفاظ المشترِكة.(44/92)
قال هنا (دفعة بلا حاجة) دفعة احترازا من المطلق؛ لأن المطلق عام ولكن عمومه بدلي وليس عمومه عموما شموليا، المطلق عام لأنه يصلح أي فرد من الأفراد لما أطلق فيه، لو قال قائل أنفق ريالا، وعندك عشر ريالات وَرَقِيَّة كل واحد مستقل؛ يعني ورقة ريال، ورقة ريال، ورقة ريال، فقول القائل أنفق ريالا، هذا يصلح، كلمة ريال تتناول الأول والثاني والثالث والرابع... لكن تناولها هل هو على سبيل الشمول أم على سبيل البدل؟ على سبيل البدل؛ يعني أنفق ريالا، يصح أن يكون الأول أو الثاني أو الثالث أو... رقم عشرة، ولهذا كثير من أهل العلم يعبر عن المطلق بالعام، وذلك من جهة أنّ المطلق عمومه عموم بدلي، أما العام الذي نتكلم عليه الآن فعمومه شمولي، ولهذا احترز عن العموم البدلي الذي هو المطلق، بقوله في التعريف (دَفعة واحدة) فمعنى قوله (دفعة) يعني مرة واحدة، أما العموم البدلي الذي هو المطلق فليس دفعة واحدة ولكن دفع هذا أو هذا أو هذا.(44/93)
إذا قلت أنفق كل الريالات، أنفق كل ريال معك، وقال آخر أنفق ريالا، تلحظ أنّ قوله أنفق كل ريال لفظة (كل) هذه من ألفاظ العموم هذه تفيد إنفاق الجميع بهذه الكلمة (دَفعة)، يعني هذا اللفظ يتناول جميع الريالات، من أول ما تسمع كلمة (كل)، أما لو قلت أنفق ريالا فإنه لا يتناولها دفعة واحدة؛ يتناول الأول أو الثاني أو الثالث ليس مرة واحدة، بمعنى أنه لو أنفق الجميع بالمطلق حينما قال القائل أنفق ريالا ما صار ممتثلا، لقوله أنفق ريالا؛ لأنه لم يقل أنفق الجميع أنفق ريالا، فلو أنفق العشرة أو أنفق خمسة صار مخالفا للأمر، وذلك أن هذا اللفظ لم نستفد منه دخول الأفراد فيه دَفعة واحدة، وإنما دخلت الأفراد على سبيل البدل، ومثاله أيضا قوله جل وعلا ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ?[النساء:92]، لو عند واحد؛ لو يملك عددا من الرقاب ووجبت عليه كفارة فيها عتق رقبة، كفارة هي عتق رقبة، فهنا هل يعتق الجميع لقوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أو يعتق واحدة؟ واحدة، أي واحدة؟ رقم واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة، هذا أنت مخير أنت تعتق، مأمور بإعتاق رقبة دون تحديد لهذه الرقبة، المهم أن يكون فيها وصف الإيمان دون تحديد، إذا كان اجتمعوا هم في الأوصاف المجزئة رقم واحد و اثنين و ثلاثة و أربعة، فقول القائل أعتق رقبة، هذا الرقبة تشمل الأول والثاني والثالث والرابع، لكن تشملهما دَفعة أو على سبيل البدل؟ على سبيل البدل، فلو قلت لهذا الذي يملك أربع رقاب أعتق الرقاب التي تملك، فهذا اللفظ أعتق الرقاب يشمل الجميع، ولذلك هذا صار عموما شموليا بخلاف العموم البدلي، ولهذا قال هنا دفعة أو دفعة واحدة.(44/94)
ثم قال (بلا حصر ) أحيانا يكون اللفظ يدل على شمول أكثر من شيئين، شيئين فأكثر، قد يكون أكثر بكثير يدل على عموم الأشياء، لكن يكون محصور مهما كان، يكون محصورا مثل عدد ألف، إذا قلت لمن يملك مَالاً أنفق ألف ريال فهل هذا من ألفاظ العموم؟ ليس من ألفاظ العموم؛ لأنه وإن دلّ على العموم لكنه محصور بهذا العدد، وألفاظ العموم هي التي تستغرق ما يصلح لها بلا حصر معين، فإذا حصر لم يكن عاما، صار له باب آخر.
فإذن صار عندنا تعريف العام وهذا هو التعريف المختار: أنه كلام مستغرق لما يصلح له بحسب وضع واحد أو بحسب الوضع الواحد، دفعة بلا حصر. صار عندنا كم؟ خمسة أو أربعة؟ أربعة:
أولا كلام مستغرق لجميع لما يصلح له.
ثانيا-انتبه لأن هذا الكلام ينبني عليه ما بعده-.
( كلام مستغرق لما يصلح له هذا واحد.
( اثنين: بحسب وضع واحد.
( ثلاثة: دفعة واحدة.
( أربعة: بلا حصر.
هذه أربعة قيود مهمة في تعريف العام.
إذا تقرر ذلك، فالصحيح عند الأصوليين أن العام له ألفاظ تخصه، والعموم مستفاد من الألفاظ، فما هي هذه الألفاظ؟ فقال هنا الماتن يعني الجويني في الورقات (وألفاظه أربعة: الاسم الواحد المعرّف بالألف واللام).
وقبل هذا هناك صيغتان مشهورتان هما أصل الباب لم يذكرهما فيما سمعتُ منكم الآن وهما كلمتا (كل) و(جميع)، فإن كلمة (كل) وكلمة (جميع) هذه من ألفاظ العموم التي هي أصل الباب، حتى إن كثيرا من العلماء قالوا إن كلمة (كل) و(جميع) ظاهرتان في العموم، وهما أظهر الباب في العموم، وقال آخرون إن كلمة (كل) نص في العموم وكلمة (جميع) ظهور في العموم، وهذا مهم أن نبينه لك، وهو أنّ العموم الذي سنستفيده من الألفاظ القادمة ضربان: نص صريح في العموم، وظهور في العموم؛ يعني عام عمومه ظاهر وعام عمومه نصي.(44/95)
أما العام الذي عمومه نصي هو الذي لا يُخرج من أفراده شيء، وهذا هو الذي قيل أنه مستفاد من كلمة (كل)، وأيضا يستفاد من النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام إذا سُبقت بحرف جر زائد مثل (من) كما في قوله تعالى { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (1): فأصلا النكرة في سياق النفي أو في سياق النهي أو في سياق الشرط أو في سياق الاستفهام تعم وعمومها ظاهر، عمومها ظاهر، يعني النكرة إذا كانت في سياق أحد هذه الأربعة نستفيد منها الظهور في العموم، إذا سبقت النكرة بحرف جر زائد نقلت العموم من ظهوره إلى نصيته.
فما الفرق بين النص والظاهر؟ هذا من مباحث الأصول؛ مبحث النص ومبحث الظاهر، وهنا يريدون بقولهم أن النص في العموم أو التنصيص الصريح في العموم، والظهور في العموم أنّ:
النص: هو ما لا يخرج شيء من أفراده.
والظهور في العموم: ما يحتمل خروج الشيء من أفراده، يحتمل خروج الشيء من أفراده لكن هذا الاحتمال يكون ضعيفا.
أما النص فلا يخرج شيء من أفراده (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هذه العبارة –أستغفر الله وأتوب إليه- هذه الآية نفهم منها أنه لا يمكن أن يكون هناك فرد من أفراد الآلهة يُعبد، لا يمكن، (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) النكرة هي كلمة (إِلَهٍ) أتت في سياق النفي وهي كلمة (مَا لَكُمْ)، (مَا) هذه نافية أتت بعدها (إِلَهٍ) لو لم تأتِ كلمة (مِنْ): مالكم إله، صار ظهور في العموم، لما أتت (مِنْ) نقلت هذا العموم من ظهوره إلى كونه نصا صريحا في العموم.
__________
(1) الأعراف:59، و65، و73، و85، هود:65، و61، و83، المؤمنون:23، و32.(44/96)
إذا تقرر هذا لك في الفرق بين النص في العموم والظهور في العموم، فإن أصل هذا الباب هو كلمة –يعني من ألفاظ العموم- هو كلمة (كل) و(جميع)، و(كل) و(جميع) باتفاق أنها يدلان على الظهور في العموم، وقال بعضهم في كلمة (كل) كما ذكرتُ لك أنها تفيد التنصيص الصريح في العموم، ومثال ذلك في قوله تعالى ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?(1) فأفادنا هذا أنّ الله جل وعلا خالق جميع الأشياء، خالق لكل ما يسمى أنه شيء، طبعا هذا يستثنى منه شيء وهو الله جل وعلا وأسماءه وصفاته وأفعاله، فقوله هنا (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) يعني كل شيء مخلوق، كل شيء ممكن، كل شيء يقبل ذلك، فلا يدخل فيه أسماء الله جل وعلا وصفاته ولهذا أُبطل قول المعتزلة في الاستدلال بهذه الآية، قال جل وعلا في سورة النمل قي قصة بلقيس ?وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ?[النمل:23]، (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) هنا يعم جميع الأشياء، لكن هل كان عندها عرش سليمان؟ هذا يدخل في الأشياء؟ يدخل فيه، ولكن لم يكن عندها عرش سليمان، فإذن (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يعني عموم الأشياء التي تكون عادة عند الملوك.
إذن هنا تنتبه إلى أن (كل) و(جميع) كما ذكرنا في التعريف مستغرق لما يصلح له، ذكرنا في التعريف أنّ العام كلام مستغرق لما يصلح له، ولهذا بهذا القيد نخرج كثير من هذه الإيرادات، مستغرق لما يصلح له، فهنا (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الذي يصلح هنا لهذا اللفظ، يصلح أي شيء؟ يصلح الأشياء التي يؤتاها الملوك عادة.
ولهذا قال بعض أهل العلم وهذا متوجه، إنّ لفظ (كل) تفيد الظهور في العموم، لا التنصيص في العموم؛ لأنّ الظهور يمكن أن تستثنى منه بعض الأفراد بقرينة.
__________
(1) الرعد:16، الزمر:62.(44/97)
(جميع) كلمة (جميع) أيضا من ألفاظ العموم، أعط جميع الحاضرين مالاً، الحاضرون هل يُستثنى منهم أحد بهذا الكلام؟ لا، فكل حاضر يستحق، كل فرد من أفراد الحاضرين يستحق أن يعطى مالا، أليس كذلك؟ هذا من أين أُستفيد؟ أستفيد من لفظ (جميع)، أعط جميع الحاضرين، وكما يُقال القاعدة في باب العام أنّ الاستثناء معيار العموم، الاستثناء معيار العموم، يعني إذا صار هناك استثناء، العام لا يستثنى منه شيء، وإذا ورد لفظ ثم استثني فهذا يدل على أنّ ما قبل الاستثناء عام؛ لأن الاستثناء معيار للعموم، وهذا سيأتي في موضعه إن شاء الله.
والأمثلة في (كل) و(جميع) كثيرة.
ذكر هنا الألفاظ منها (الاسم الواحد المعرف بالألف واللام) وبيان ذلك أن الألف واللام هذه تأتي في اللغة لأمور:
( الأول: أن تكون الألف واللام للعهد، كما في قوله تعالى ?كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا(15)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ?[المزمل:15-16] (الرَّسُولَ) كلمة (الرَّسُولَ) معها لكلمة (الـ) حرف التعريف، هذه (الرَّسُولَ) الألف واللام استفدنا منها أي شيء؟ يعني (الرَّسُولَ) المعهود في الذهن أو في الذكر؟ في الذكر، قال(كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا(15)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) يعني الرسول الذي جرى ذكره، فهذا يسمى عندهم معهود ذكري، وقد يكون العهد ذهني؛ يعني معروف في الذهن، معهود في الذهن، وذلك كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم«استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» (استنزهوا من البول)، البول هذا هل جرى له ذكر؟ جرى له ذكر قبل هذا الحديث؟، قال (استنزهوا من البول)، فهذا كلمة البول تشمل جميع الأبوال؟ يأتينا أن هذا ليس المراد؛ لأن أبوال الإبل مثلا يجوز يعني لا يستنزه منها، ونحو ذلك، البول المعهود، معهوده ذكري أو ذهني؟ معهوده ذكري.
إذن (الـ) التي تأتي قبل الاسم المفرد، قد تكون للعهد، والعهد:
قد يكون عهدا ذكريا.(44/98)
وقد يكون عهدا ذهنيا.
وقد يكون عهدا حُضوريا.
كما هي أقسامه. هذا نوع.
( الثاني: من أقسام (الـ) أن تكون للاستغراق أو لاستغراق الأفراد، وهذه إذا أتت قبل الاسم المفرد؛ مثل كلمة إنسان أتينا قبلها (الـ) الإنسان، هذه تدل على عموم ما يصل لهذه الكلمة؛ كلمة إنسان، قال جل وعلا ? إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2] كلمة (الْإِنسَانَ) هذه نكرة اسم واحد أتى قبلها كلمة (الـ)، هذا يدخل فيها بعض الإنسان أو كل الإنسان؟ كل الإنسان، ولهذا قالوا ضابط (الـ) هذه أنه يصح أن يجيء مكانها (كل)، فإذا صح أن يجيء مكانها (كل) صارت (الـ) هذه الاستغراقية لاستغراق الجنس، أو لاستغراق الأفراد، هنا (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) يعني إن كل إنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكما ذكرنا أن الاستثناء معيار العموم، فلما استثنى دل على أنه قبله أراد العموم.
( قد تكون (الـ) تأتي لبيان الحقيقة؛ حقيقة الشيء، وهذا كما في قوله تعالى ?وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ?[الأنبياء:30]، هذا ليس عهديا، ولا استغراق أفراد الماء، ولكن لبيان الحقيقة.
الذي يهمنا من هذه الأقسام الثلاثة القسم الثاني، وهو أنّ (الـ) إذا صارت قبل الاسم المفرد فإنها تفيد العموم، وهنا بحث وهو أنها قد تكون قبل الاسم المفرد، ويكون المراد بها العهد، فكيف نفرّق بين هذا وهذا؟ وهذه مسألة مهمة في التطبيق، لتطبيق القواعد الأصولية على النصوص أو الفروع، كيف تستنبط؟ هنا نقول أن ألفاظ العموم كما فهمنا من قبل أنها تستفاد من اللغة؛ يعني كيف علمنا أن (كل) من ألفاظ العموم، أن (الـ) من ألفاظ العموم، هذه كلها من اللغة، فإذن هي في ذلك حقائق لغوية، أليس كذلك؟(44/99)
وقد قدمتُ لكم في الدرس الماضي -الذي هو من أشهر- أنّ الحقائق ثلاثة حقيقة شرعية، حقيقة عرفية، حقيقة لغوية، وأنه عند التعارض تقدم الحقيقة الشرعية على الحقيقة العرفية واللغوية، وذلك لأنّ الحقيقة الشرعية ناقلة، كان هناك حقيقة لغوية، ثم نُقلت فإذا كان هناك لفظ مفرد وأتت قبله الألف واللام، وهذا اللفظ له حقيقة شرعية، فهل نحمله على أن المراد به العموم أو نقول مراد به العهد الشرعي؟ هذه مسألة بحث، وعلى الصحيح الذي قدمناه الذي هو مذهب جمهور أهل العلم أنّ الحقيقة الشرعية مقدمة، فمعنى ذلك أن المفرد الذي قبله (الـ) وله حقيقة شرعية لا نستفيد منه العموم، وإنما نأخذ منه الحقيقة الشرعية، مثال ذلك –وكما يقال بالمثال يتضح المقال – قال قول النبي صلى الله عليه وسلم «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» إذا نظرت إلى كلمة (التكبير) وكلمة (التسليم)، كلمة تكبير لها مدلول في اللغة، صحيح؟ دخلت عليها الألف واللام (التكبير) هذا يشمل هل أنواع التكبير، أليس كذلك؟ إذن الألف واللام قبل الاسم المفرد تستغرق، يصح أن يشتق من هذه الكلمة لغةً قولك أو قول القائل الله الكبير أو الله كبير أو الله الأكبر كل هذه تصلح داخلة في التكبير، لكن هنا هل نأخذ على أنّ الألف واللام هذه للعموم؛ لأجل اللغة؟ أم نقول هنا تعارض العموم المستفاد من اللغة مع الحقيقة الشرعية وهو أن التكبير له لفظ شرعي معروف؛ فنقول تقدم الحقيقة الشرعية؟ فنقول هنا صحيح الألف واللام لما أتت معرفة للمفرد فهذا يدل على العموم لغة، ولكن لما كان هذا الاسم المفرد له معنى في الشرع فصارت الألف واللام هذه للعهد الشرعي، ولهذا مذهب عامة العلماء الذين يقدمون الحقيقة الشرعية على اللغوية هؤلاء يجعلون قوله «تحريمها التكبير» هذا إنما يكون التكبير الذي عرف في الشرع، وهو قول الله أكبر، فلو قال قائل الله الكبير أو الله الأكبر ونحو ذلك من الألفاظ، لم يكن قد دخل في التحريم، ظاهر؟(44/100)
مثلها «تحليلها التسليم»، التسليم مثلها، يقول السلام عليكم، عليك السلام، هذه داخلة في التسليم، ومثل سلام عليك، سلام عليكم فهذه كلها داخلة فيها لغة، لكن هل هو مراده لغة وتحليلها التسليم، نفس البحث السابق، صحيح أنّ كلمة التسليم أتى قبلها الألف واللام، وأنها تدل على العموم اللغوي، لكن هنا عارضتها الحقيقة الشرعية، وهو أن التسليم له معنى في الشرع وهو قول السلام عليكم ورحمة الله، قول المصلي في آخر الصلاة السلام عليكم ورحمة الله، هذا هو المعروف بكلمة التسليم شرعا، ولهذا يُحمل على هذا.
وهذا من المواطن المهمّة جدا في هذا الباب، ولهذا ربما كثير من الناس ما أدركوا مدارك الأحكام؛ عدّ (الـ) تعم وهي لا تعم، وفيه مسائل كثيرة معروفة، وفيه أدلة كثيرة حصل فيها نزاع.
الآن بعد ذكر هذا، نرجع إلى الأصل؛ وهو أنّ الألف واللام إذا أتت قبل الاسم الواحد أو الاسم المفرد أو الاسم المفرد المعرف بالألف واللام، هذا يدل على العموم.
ما مثاله؟ لو قلت: اقرأ الكتاب. أو أوضح من ذلك: اشتري الكتاب. وكان الكتاب من عدة مجلدات، وكان الكتاب مثلا مثل فتح الباري (15) مجلدا أو (14) فاشترى اثني عشر مجلدا، فهل اشترى الكتاب؟ لما؟ لأن قول الآمر للمأمور اشتري الكتاب؛ يعني به كل الكتاب. مثل ما ذكرتُ لكم أنّ الضابط حلول كلمة (كل) مكان (الـ) اشتري الكتاب هذا يعني اشتريه كله لا تشتري بعضه، اشتريه كله.
لو قال قائل لعبده مثلا -مثل ما يمثلون أحيانا- إذا حفظت القرآن فأنت حر، كلمة القرآن، هنا متى يكون حُرًّا؟ إذا حفظ تسعة وعشرين جزءا يكون حرا؟ لا يكون حرا، من أين الدليل؟ لأنه قال القرآن، وكلمة القرآن هي من كلمتين؛ الألف واللام أتت على المفرد، وهذا يدل على عموم (1) يستغرق إيش؟ ما يصلح له، القرآن الذي هو القرآن المعروف، ظاهر لكم؟
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.(44/101)
وبالمناسبة كذلك يعم الألف واللام التي قبل الجموع، صحيح أن العموم مستفاد من صيغة الجمع، لكن إذا أتت قبلها الألف واللام استفدنا منها أيضا العموم، مثل رجل له ثلاث سيارات مثلا، فقال جاءت السيارات التي أملكها، أو جاءت السيارات التي هي لي، هذه السيارات اثنين يصح أو لابد جميعها؛ لأنه قال السيارات فيشمل الجميع ما لم يستثني. رجل له أصدقاء؛ عدد من الأصدقاء، عشرة، خمسة، كذا، فقال جاءني الأصدقاء، هذا يدل على جميع أصدقائه ما لم يستثني، وهكذا.
فإذن الجمع إذا أتى قبله الألف واللام فهو مستفاد من الجمع، ولكن (الـ) التعريف هذه أفادت بقوة.
الجمع أنواع، تعرفون أنواع الجمع، هناك الاسم المعرف بالألف واللام الاسم؛ المفرد المعرف بالألف واللام، نترك تسميته لأني أظن أنّ ماله اسم، هناك اسم جمعي، وهناك اسم جنس جمعي، وهذه بدون الألف واللام، وهناك اسم جنس، وهناك جمع، وهناك مفرد أتت قبله ألف واللام التي نتكلم عنه فصار دالا على الجمع.
الأول اسم جمع: اسم الجمع هذا هو ما لا واحد له -تعريفهم له هذه كلها مفيدة في العموم-، اسم الجمع ما لا واحد له من لفظه ومعناه معا، ما لا واحد له من لفظه ومعناه معا، قد يكون من معناه، قد يكون من لفظه، لكن من لفظه ومن معناه معا ليس له واحد، هذا يسمى عندهم اسم جمع، مثل كلمة إبل مفردها إيش؟ بعير أو جمل، صحيح؟ لكن إبل لا واحد له من لفظه ومعناه معا، لكن له واحد من معناه، لكن من لفظه ومعناه معا لا واحد له، هذا ضابطها، وهذا له أمثلة كثيرة.(44/102)
اسم الجنس الجمعي: اسم الجنس الجمعي هو دال على الجنس مع الجمع، وضابطه أنّه ما كان تمييز المفرد فيه عن الجمع بإضافة تاء أو ياء النسبة، إما بإضافة تاء أو بإضافة ياء النسبة مثل تفاح هذا اسم جنس جمعي واحده تفاحة، ما دام أضفت الهاء هذا ضابط، مثل خبز واحده خبزة، مثل شجر واحده شجرة، وهكذا، وقد يكون تمييز بين واحده وجمعه بالياء، وهذا يكون في أجناس الناس، مثل عرب، عرب هذه دالة على الجمع، هل لها واحد من لفظه؟ نعم بإضافة ياء النسبة، واحد العرب عربي، واحد تُرْكٍ تركي، واحد عجم عجمي، وهكذا، هذا ضابطها.
الأخير اسم الجنس: وهذا مثل كلمة الماء، ونحوها مما لا واحد له، اسم جنس ما له واحد، يعني الماء ما فيه شيء يقال له مفرد ماء، الماء هذا اسم جنس، ما يقال جمع ليش؟ لأنه لا واحد له، لا من لفظه ولا من معناه، لهذا يقال اسم جنس.
هذه كلها مهمة؛ لأن كل واحدة من هذه قد يكون دالا على العموم، ما لم تكن (الـ) قبلها دالة على العهدية بأنواعها، ظاهر لكم؟
اسم الجنس الجمعي ضابطه أو تعريفه هو ما يُفرَّق بين واحده وجمعه بزيادة التاء في آخره؛ التاء المربوطة أو ياء النسبة، مثل دجاج دجاجة ، تمر تمرة ، شجر شجرة ، وياء النسبة مثل عرب عربي ، ترك تركي ، عجم عجمي إلى آخره.
هو ذكر هنا اسم الجمع المعرف باللام، اسم الجمع ذكرناه لكم ما هو؟ مثل إبل مثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الإبل «في الإبل في سائمتها» كذا، الإبل هذا يشمل أجناس؛ يعني هذا يدل على الجمع، إذا قال اشتري الإبل، واحد شاف خمسة، ستة من الإبل فقال لآخر اشتري الإبل، فيمتثل إذا اشتراها جميعا، إذا قال والله لا أشتري الإبل، هنا يصبح حالف أنه ما يشتري الإبل جميعها، فلو اشتراها صار حانثا، لو اشترى واحدا حنث أو لم يحنث؟لم يحنث لأن الإبل اسم جمع، وقبله أتت الألف واللام فلا يحنث بشراء واحدة.(44/103)
وهذا مهم في الأيمان يأتي كثيرا الاستفادة من هذه القاعدة، يعني قواعد العموم يستفاد منها في فهم النصوص، وفي الأيمان في قواعد في الأيمان يعني لأنه يخرّج بها كلام الناس أحيانا.
نيته إذا صار اللفظ محتمل، إذا كان اللفظ محتمل نعم، يُرجع إلى قصده، أو يرجع إلى العرف، يعني ولو قال والله لا آكل لحما، أنتم هنا عندكم مثلا جنب البحر تسمون السمك لحم؟ طيب هل يحنث بأكل السمك؟ قال العلماء لا يحنث مع أنه في اللغة لحم، كما قال جل وعلا ?لَحْمًا طَرِيًّا?[النحل:14]، لكن العرف هنا القصد ليش؟ لأن لها عرف في استعمالها، لو قال قائل مثلا ليش -هذه لها أمثلة كثيرة أحد القواعد في ... (1) الفروع على الأصول-، نمثل بما له عرف، قال والله لا أركب دابة –ناس في البدو مثلا – تدخل فيها السيارة؟ ناس في البدو مثلا في البادية قال لا أركب دابة، دابة هذه لغة تشمل السيارة لأنها تدب على الأرض، لكن هنا عرف خاص هذه يعتني بها الخطباء والعلماء؛ لأن القواعد الأصولية إما في الفتاوى والاستنباط إلى آخره.
__________
(1) كلمة لم أفهمها.(44/104)
(الأسماء المبهمة) أيضا من ألفاظ العموم، ومعنى الإبهام، ما معنى الإبهام؟ معنى الإبهام فيها أنها تحتاج إلى صلة بعدها أو كلام بعدها يبين المراد منها؛ لأنها تحتمل عدة أشياء، فمثلا من هذه، إذا قلتُ أتاني من وسكتُ، أنت تفهم أنني أُتيتُ لكن من الذي أتاني هذا يحتمل، يحتمل أنه أتاني من أحب، أتاني من لا أحب، أتاني من أكرمني، أتاني من بايعته، فيه عدة احتمالات، فإذن الكلمة فيها إبهام تحتاج إلى صلة كلام تزيل هذا الإبهام، والأسماء الموصولة جميعا من الأسماء المبهمة؛ لأنها تحتاج إلى صلة تفك الإبهام الذي فيها، فالأسماء المبهمة مثل مَنْ، (مَنْ) هذه قال هنا لمن يعقل، وهنا اعتراض عليه؛ لأن الله جل وعلا قال في كتابه ?قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ?[الأنعام:12] قال (لِمَنْ) ثم قال (لله) الله جل وعلا يدخل في كلمة (مَنْ) أليس كذلك؟ ولذلك نقول لا يجوز أن يقال (من لمن يعقل)؛ لأن الله جل وعلا لا يوصف بالعقل؛ لأن هذا لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، بل لم يدعِ أحد أن الله جل وعلا يوصف بالعقل، هذا المدققون من علماء النحو يقولون: من لمن يعلم. أما يعقل، فلا.
إذا كان كذلك، فـ(مَنْ) تأتي يعني في الأصول دالة على العموم إذا كانت اسما موصولا، دالة على العموم إذا كانت اسم استفهام، دالة على العموم إذا كانت اسم شرط.
الظاهر أطلت في التفصيل شوي، فما رأيكم نختصر، أو على طريقتنا؟ التفصيل أحسن، طيب، والله هو الأصل الذي كنا نقوله أن اثنين في الورقات، وبينهما؛ الظهر والمغرب كان الورقات هذا الترتيب الذي كان عندي، والعصر لـ... المهم اثنين للأصول وواحد لمسائل الجاهلية، وإن أحببتم أن تكون الأصول أكثر وأولى سنستمر ونمشي؟
على كل حال نرجع للموضوع (من) ذكرنا أنها تدل على العموم:(44/105)
سواء أكانت اسما موصولا، تقول جاءني من أحب؛ يعني من أحب هذا يدخل فيه جميع الذين تحبهم، يعني كل أحبابك، وهذا أيضا كما قال جل وعلا ?وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ?[الرعد:15] (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ) هذه موصولة، صحيح؟ فكل من يوصف بذلك في السموات أو في الأرض داخل في هذا العموم، هذا واحد.
الثاني أن تكون من اسم استفهام، مثلا لو قال لو سئلت من في الدار؟ قلت محمد، (مَنْ) هذه دالة على العموم، وهنا أورد إشكال على هذا الكلام، وهو أنّ الجواب صار بواحد، من في الدار، فقال محمد، فكيف تدل على العموم مع أنّ (من) دخل فيها واحد لا غير؟ هذا سؤال معروف عند الأصوليين، وجوابه أنه لا يُنظر في ذلك إلى الجواب؛ جواب السؤال، وإنما السؤال وقع من السائل طالبا أن يُخبَر عن جميع من في الدار، من في الدار هو من حيث السؤال يريد الكل لا يريد البعض، فإذن صلاحية اللفظ لجميع الذين هم في الدار، اللفظ يصلح، فإذن هو لفظ يدل على عموم الكائنين في الدار، كونه لم يكن في الدار إلا واحدا هذا ليس لأجل (مَنْ)، وإنما هذا الذي حصل؛ يعني لو كان في الدار مائة رجل، فجواب السائل في قوله من في الدار؟ جوابه يكون بتعداد المائة فيها؛ فلان وفلان وفلان إلى أن يتم المائة، لو عدّ تسعة وتسعين يكون مجيبا على السؤال بتمامه؟ لا، وذلك لأنّ اللفظ سؤال به عن الجميع، مثل قول الله جل وعلا ? مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?[البقرة:255] (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فهذا سؤال الذي يصلح للجميع، يعني يشفع الملائكة، هل تشفع الملائكة عنده إلا بإذنه، الملائكة تشفع بغير إذن الله؟ لا، الصالحون يشفعون؟ لا، الأحجار –لا الأحجار لا تدخل في (مَنْ)- الأنبياء، العلماء، الناس؟ لا يمكن، لا أحد يشفع إلا بالإذن، ولذلك (مَنْ(44/106)
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) يستدل بها أهل العلم بالتوحيد على أن الشفاعة عند الله جل وعلا لا تكون لأحد مهما كان مقامه حتى الملائكة المقربون وحتى الأنبياء المنتخبون المصطفون وحتى الصالحون إلا من بعد أن يأذن الله، استدلالا بهذه الآية (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، ووجه الاستدلال أنّ (مَنْ) من ألفاظ العموم.
(مَنْ) تكون للشرط أيضا، يعني الأمثلة كثيرة جدا في الكتاب والسنة وفي الكلام، (مَنْ) للشرط تقول مثلا من جاءني أكرمته، من كتب لي أعطيته، من أعطاني محبرة فله دينار، تعرفون القصة هذه؛ من أعطاني محبرة فله دينار؟ من أعطاني محبرة فله دينار، هذه اسم شرط، هذه تسمى اسم شرط، وهي دالة على العموم، يعني كل واحد يعطيه محبرة، يعطيه دينار، من جاءني أكرمته، كل واحد يأتيه فيكرمه، فهنا من تصلح للجميع.(44/107)
(وما فيما لا يعقل) (ما) هذه أيضا هي اسم موصول، (وما فيما لا يعقل) اسم موصول؛ يعني (ما) هذه من الأسماء الموصولة، ولا شك أنها مبهمة؛ لأنها تحتاج إلى صلة تفك إبهامها، ومجيئها دالة على العموم يكون في أنحاء، منها أن تكون اسما موصولا مثل (مَن) تقول في قوله تعالى ?وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?(1) (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) هذا يشمل جميع ما لا يعقل جميع ما يعقل هو لله جل وعلا ملكا في سمواته وفي أرضه، هذا اسم موصول دال على العموم، مثلا لو قلت إيتني بما طلبت، طلبت أنت مثلا عدة كتب، قلت للقائل إيتني بما طلبت، ما هذه؟ لو أتى هو بتسعة منها وهي عشرة، أو أتى بألف وهي ألف ومائة، هل يكون ممتثلا؟ لا، لأن قولي إيتي بما طلبت، هذا يشمل جميع ما طلب، بدلالة لفظ (ما)، في القرآن مثلا ?مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ?[النحل:96] (ما) هذه موصولة، أليس كذلك؟ الذي عندكم ينفذ وما عند الله باق، والذي عند الله باق، هذا يستثنى منه شيء؟ (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ) كل ما عندكم تملكونه فإنه إلى النفاذ، وما عند الله جل وعلا فهو للبقاء يعني من الأجر والجنة ونحو ذلك.
(ما) تكون أيضا، ذكرنا أنّ (ما) اسم موصول، وهنا ننبه على أيضا زيادة على الأول؛ وهو أن (ما) كثيرا ما تأتي بعد (أي)، و(أي) نعم اسم موصول، لكن هو ننبه على (أي) هنا (أي) اسم موصول كما ذكرتُ لكم من قول ابن مالك
أي كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف
__________
(1) آل عمران:109، و129، النساء:126، و131، و132، النجم:31.(44/108)
فـ(ما) تأتي مع (أي) كثيرا، إذا أتت مع أي فيقوى العموم المستفاد لأنه هنا من (أي) ومستفاد من كلمة (ما)، وذلك مثل قوله جل وعلا ?قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى?[الإسراء:110] (أَيًّا مَا تَدْعُوا) هذا أتت بعد (أي) كلمة (ما) على العموم، العموم مستفاد من (ما ) ومن كلمة (أي) أيضا، نعم من (أي) يستفاد عموم كما سيأتي في موضعه، مثل قول الله تعالى أو شاهده قوله تعالى ? ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا?[مريم:69]، (أَيُّهُمْ) يصدق على كل واحد، هنا قوله تعالى (أَيًّا مَا تَدْعُوا) يصدق على الرحمن أو الله؛ لأنه قال (قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا) وقد مرّ معنا أنّ العموم ما يشمل اثنين فصاعدا، وهذا يشمل (أَيًّا مَا تَدْعُوا) هذا أو هذا أو هما معا، فكلّ ذلك لله جل وعلا (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
نكتفي بهذا القدر –بقي على الأذان كم الآن أقل من ساعة ؟ نكتفي.
(((((
والأسماء المبهمة كـ(من) فيمن يعقل, و(ما) فيما لا يعقل، و(أي) في الجميع, و(أين) في المكان, و(متى) في الزمان, و(ما) في الاستفهام والجزاء وغيره, و(لا) في النكرات، والعموم من صفات النطق، ولا يجوز دعوى العموم في غيره, من الفعل وما يجري مجراه.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا عملا وعلما يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فهذه صلة للكلام على المبحث العام، وقد تقدم لنا أنّ العام يحتاج إلى ألفاظ مخصوصة؛ يعني أن العام له ألفاظ تدل عليه، ذُكر بعضها، وهنا ذكر بقية تلك الألفاظ التي تدل على العموم.(44/109)
فمنها كلمة (أي)، و(أي) قال لك (في الجميع)؛ ((أي) في الجميع) يعني على حسب استعماله (أي) فيمن يعقل وفيمن لا يعقل، وذكرنا أنّ الاستعمال المناسب لكلمة (من) فيما سبق أنها لمن يعلم دون كلمة من يعقل، وذلك لأنها تصلح لله جل وعلا ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ?[الرعد:16]، وكذلك (أي) هنا قال (و(أي) في الجميع) يعني فيمن يعقل على حسب استعماله وفيمن لا يعقل، ونصوب فيها ما صُوِّب سابقا فتكون (أي) فيمن يعلم وفيمن لا يعلم، وإذا قلت من يعلم ومن لا يعلم أو من لا يعقل، يصح ذلك أيضا، لكن هي (أي) فيمن يعلم ومن لا يعلم ومن لا يعقل وذلك لأنها أطلقت على الله جل وعلا وشملت بعمومها اسم الله جل وعلا كما في قوله ?قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ?[الأنعام:19]، وكما في قوله ?قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى?[الإسراء:110]، وهذا يدل على دخول اسم الله جل وعلا أو على دخول أسمائه في كلمة (أي). وإذن تكون فيمن يعلم وفي من لا يعلم أو من لا يعقل. (أي) هذه من ألفاظ العموم سواء قصد بها الاستفهام كقول الله تعالى?أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا?[مريم:73] وكقول القائل أي الرجال في الدار؟، هنا هذه للعموم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) مع أنهما فريقان، لكن صلاحية (أَيُّ) أنها تستغرق لكل ما يصلح لها، قوله (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) يصلح أنْ يتناول اللفظ الأول والثاني، وهذا معنى كونها دالة على العموم، وليس ذلك بالنظر إلى الجواب؛ لأن الجواب يكون واحدا من الاثنين، وكذلك لو كانت جماعة فإن الجواب يكون بواحد أو بأكثر، كقوله أي الرجال عندك؟ أي الرجال المهذَّب؟ هنا (أي) من حيث تناولها تتناول جميع ما يصلح لها في هذا الموضع؛ يعني تتناول جميع الرجال، لكن هي من حيث الجواب –نعم- تدل على واحد، إذن فلا اعتراض بأنّ(44/110)
(أي) تدل على واحد في الاستفهام، مثلا فكيف تكون دعوى العموم فيها؟ والجواب أنّ ذلك بالنظر أنها تتناوله بمفردها، يعني حين السؤال، الكلمة تصلح لجميع ما يدخل فيها من الرجال، وليست لواحد بعينه، أي الرجال إذا كان عندنا عشرة أو عشرين، (أي) هذه تشمل الجميع دون واحد بعينه، قال سبحانه وتعالى هنا (قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، (أي) تكون مستعملة في الاستفهام كما مثلنا (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا)، أي الرجال عندك ؟ أي الكتب قرأت؟ أي العقائد أسلم وأعلم وأحكم؟ ونحو ذلك، هذه في السؤال؛ في الاستفهام.
تأتي أيضا (أي) في الشرط وكما في قوله (قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ) (فَلَهُ) هذا جواب وقع في جواب الشرط، والفاء هذه واقعة في الجزاء، فمعنى هذا أنّ (أي) هذه يراد منها الشرط (أَيًّا مَا تَدْعُوا) يعني إنْ هذا وإنْ هذا؛ إن دعوتم الله أو دعوتم الرحمن فله الأسماء الحسنى.
كذلك تأتي (أي) لكونها موصولة، مثل (ما) السابقة موصولة، وهذا من مثل قوله ?ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا?[مريم:69]، (أي) هنا هذه موصولة، قد تَقدم أنّ الأسماء الموصولة من ألفاظ العموم، وقد قال ابن مالك في الألفية في بيان (أي) هنا
أيٌّ كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف
يعني أن (أيًّا) هنا من الموصولات، والموصولات تعم.
إذن صار عندنا هنا في قوله (وأي في الجميع) نجعلها على وجه الاختصار، (أي في الجميع) يعني في من يعلم ومن لا يعلم، (أي) لها ثلاثة استعمالات:
تكون (أي) في الاستفهام، هذه تعم.
(أي) في الشرط شرطية، هذه تعم.
و(أي) في الموصول، هذه تعم.(44/111)
كثيرا ما يلحق (أي) كلمة (ما)، وهذه يراد منها تقوية العموم وتأكيد العموم، كما في الآية التي ذكرنا (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، فقوله (أَيًّا مَا) هذا لتقوية العموم ولتأكيده.
((أين) في المكان و(متى) في الزمان)، (أين) هنا في المكان يعني دلالتها، و(متى) دلالتها على الزمان، يعني بحسب الوضع؛ إذا سألت على المكان سألت بـ(أين)، وإذا سألت عن الزمان سألت بـ(متى).
(أين) هذه تصلح لجميع الأمكنة؛ يعني يصلح أن يدخل فيها أي مكان.
(متى) تصلح أن تدخل فيها جميع الأزمنة.
وهذا معنى قوله الأسماء المبهمة هنا (من) فيها إبهام، و(متى) فيها إبهام، لكن (أين) إبهامها في الأمكنة، ولذلك تحتاج إلى تتمة لها حتى يبين المراد منها، و(أين) في المكان تكون عامة في موضعين:
( الأول إذا كان في الاستفهام، كقول القائل أين تذهب؟ هو سأل عن جهة الذهاب ومكان الذهاب، يصلح للجواب بـ(أين) أي بها أي مكان، أين تذهب؟ يصلح أن يقول أذهب إلى الشمال، إلى الجنوب، إلى الشرق، إلى الغرب، يصلح أن يقول أذهب إلى البيت أذهب إلى الحديقة، أذهب إلى المسجد، أذهب إلى المكتبة، يصلح أن يقول أذهب إلى مكة، أذهب إلى الرياض، فإذن صلاحية (أين) لجميع الأمكنة ناسب أن تكون دالة على العموم، وذلك في الاستفهام -كما ذكرنا، وهي الحال الأولى- ومثاله قوله تعالى ?يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ?[القيامة:10] فقوله هنا (أَيْنَ الْمَفَرُّ) يعني المفر أين؟ فهو سأل عن كل الأمكنة التي تصلح أن يفر إليها من عذاب الله، ومما وقع يوم القيامة (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) وهذا ظاهر في أن دلالتها على العموم؛ لأن الإنسان في ذلك الوقت يبحث عن خلاص ولا خلاص، يقول (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)، (أَيْنَ) متعلقة بجميع الأمكنة.(44/112)
( كذلك تكون (أين) دالة على العموم إذا كانت شرطية، أين تذهب أذهب، أين تقوم أقم معك، فهذا شرط، لكنه شرط متعلق بأي شيء؟ متعلق بالمكان فقط، يعني إن ذهبت إلى أي مكان ذهبت معك، إن قمت في أي مكان قمت معك، وهذه الشرطية كثيرا ما تقوى بكلمة (ما) التي تدل على تقوية العموم، وذلك من مثل قوله تعالى?أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا?[البقرة:148]، لهذا يشمل جميع الأمكنة وقوي العموم بقوله (مَا) (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا)، ?أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ?[النساء:78]، ?فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?[البقرة:115] هذه كلها (أين) التي هي شرطية (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ) دلّ على كونها شرطية، مجيء الجواب متصل بالفاء التي تتصل بجواب الشرط (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا) أصلها يأتي، لكن هنا جزمها، فدل على أنها جواب الشرط، قال (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ) جَزَمَ (يدرك)، وهذا دليل على أنها واقعة في جواب الشرط، وما في هذه الآيات لتقوية العموم وتأكيده، لا نعني بها أنها تكون نصا في العموم، لا، ولكن عموم مقوّى وهو أقوى وأوكد من العموم الذي يقوى، ومجيء العموم مقوى كثير، بألفاظ التأكيد تارة، وبزيادات تارة، فمثلا من ألفاظ التوكيد كقوله تعالى ?فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ?(1) هنا (الْمَلَائِكَةُ) عام لكن قوى العموم بقوله (كُلُّهُمْ)، وقوى مرة أخرى بقوله (أَجْمَعُونَ)، وهكذا؛ لكن هذا غير الظهور والنصية في العموم التي سبق أن أوضحناها لك.
فإذن عندنا في العموم أربع أنواع:
عندنا عام.
وعام مؤكد؛ مقوى.
وعندنا ظهور في العموم.
وعندنا نص في العموم.
__________
(1) الحجر:30، ص:73.(44/113)
هي أربع ألفاظ مهمة، كل واحدة لابد أن تكون في ذهنك متجلية واضحة عن غيرها.
قال (و(متى) في الزمان) (متى) من جهة الزمان مبهمة، متى الخروج؟ قوله متى الخروج؟، يصلح الجواب أن يكون بأي زمن من الأزمنة، متى الخروج؟ هذا يغني عن قولك الخروج الساعة السادسة أو الخروج الساعة السابعة، الخروج الساعة الثامنة، الخروج الساعة التاسعة، الخروج صباحا، الخروج مساء، الخروج ظهرا، الخروج عصرا.
فإذن (متى) دالة على العموم عموم الأزمنة، ولهذا نقول إنها في الاستفهام، وكذلك في الشرط أنها دالة على العموم، وذلك لصلاحية اللفظ لشموله جميع الأزمنة، وذلك لأنها أيضا فيها إبهام، والإبهام يصلح أن يتناول الجميع، إذا قلت متى الخروج؟، نعم الجواب عليه كما سبق أن ذكرت في (أي)، الجواب عليه يكون بتحديد وقت واحد، متى الخروج؟ تجيب الخروج صباحا، نعم عدد واحد، لكن قولهم إن (متى) تدل على العموم، ليس معناه أنّ الجواب عليها يقع عاما، ولكن معناه صلاحية اللفظ أن يستفهم به عن جميع الأوقات، فـ(متى) هل هناك وقت لا يصلح أن يستفهم عنه بها؟ ليس ثَم وقت لا يصلح أن يستفهم عنه بها حتى قيام الساعة، حتى وقت الساعة كذلك يصلح أن يستفهم عنه فـ(متى) ? مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى?؛ ?فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا?[الإسراء:51] وهو أبعد ما يكون من الأزمنة بالنسبة للمتحدث الذي هو قيام الساعة.(44/114)
إذن هذه الحالة الأولى التي تأتي فيها (متى) عامة التي هي تكون (متى) في الاستفهام. إذن في قوله تعالى (مَتَى هُوَ) هذا يصلح لأي زمن، لما قال تعالى (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) هذا معناه أن الساعة يمكن أن تكون في أي وقت من الأوقات التي هي بعد وقت التكلم، بعد وقت التكلم يصلح أن يأتي الجواب، (مَتَى هُوَ) بعد ساعة، بعد يوم، بعد يوم أو يومين هذا كله يصلح، وهذا لا شك يستفيد منه المفسر في أنه أبلغ في التخويف منها، ?وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا?[الأحزاب:63].
الحال الثانية تكون (متى) شرطية، مثل (أين) التي سبق ذكرها، تقول متى تقم أقم، متى تصلِّ أصلي، متى تصلِّ أصلي، بالجزم، تقول مثلا متى قام الناس قمت، هذا جزاء مرتّب على شرط مع فعله، الجزاء هو القيام الثاني، متى قام الناس قمت، فقيامك مرتّب على قيام الناس، بل هو مشروط به، فإن قاموا قمت، فقولك متى قام الناس قمت، كأنك قلت إن قام الناس قمت، ولكن إنّ هذه ليست الأزمنة، لكنها مشروطة، إنْ قام بدون النظر إلى الزمان، متى بالنظر إلى الزمان، وهذا ظاهر كما ترى..
(و(ما) في الاستفهام والجزاء) ذكرنا لكم أنّ (ما) فيما سبق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
(ما) الموصولة ومر الكلام عليها التي قلنا فيها فيهن لا يعلم أو فيما لا يعقل.
الثانية الجزائية.
الثالثة الاستفهامية ما عندك هذه، الاستفهامية ما عندك، تسأل عن هذا، ما تقول هذا استفهام يصلح أن يتناول جميع المقولات، ما رأيك في الكتاب؟ هذا يصلح أن يتناول جميع الآراء، هذا معنى الاستفهامية.
أما الجزائية (1) فهي الشرطية بمثل قوله تعالى ?وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ?[البقرة:197] (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) وهذه عند كثير من علماء الأصول والنحو أنها هي الموصولة، ولكن الموصولة على قسمين:
موصولة ليست بالشرط.
__________
(1) انتهى الشريط الرابع.(44/115)
وموصولة مضمنة معنى الشرط.
فإذن فالأصح أن نقول إن (ما) التي تكون دالة على العموم نوعان:
الأول: الموصولة.
الثاني: الاستفهامية.
والموصولة قسمان:
موصولة مجردة.
وموصولة مضمّنة معنى الشرط.
لو قلت جاءني ما أروم، هذه (ما) فيها، هذه مجردة، جاءني الذي أروم، لكن (ما) تكون مضمنة معنى الشرط، مثل ما ذكرت ? وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ?[البقرة:272]، ما تعمل أعمل، هذه التي هي تكون بمعنى ...؛ يعني الذي تعمل أعمل، ولكنها موصولة فيها معنى الشرط، طبعا فيه فرق في الاستفادة بين هذه وهذه، ليس هذا محل بيانه.
إذن صار عندنا أن الموصولة(ما) هذه تنقسم إلى قسمين، وكلها دالة على العموم، و(ما) الثانية التي هي استفهامية، كذلك دالة على العموم.(44/116)
((لا) في النكرات) المقصود بها (لا) النافية للجنس، كقولك لا رجلَ في الدار، لا إلهَ إلا الله، لا أحدَ أغيرُ من الله، لا شيءَ أغيرُ من الله، هذه كلها ألفاظ من حديث، لا شخص أغير من الله، هذه كلها لا النافية للجنس أتى بعدها نكرة، فدلت معه على العموم، وهذا عند علماء الأصول عندهم أنه نص في العموم، وعند بعضهم ظهور في العموم، والمقصود أن قول الله جل وعلا ? لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ? في قوله ? إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا?[الصافات:35] (إِلَهَ) هذه اسم لا النافية للجس، ولا نافية للجنس وقد مر معنا أن الجنس دال على العموم في الإنسان والحيوان ونحو ذلك، وهذا يدل على العموم، فإذن لا نفت الجنس نعم بعدها نكرة، لكن هي معها صارت دالة على الجنس، أما النكرة بمفردها بدون ضميمة شيء آخر لا تدل على الجنس؛ الجنس يعني الذي يدل على العموم، ولهذا قالوا الذي بعدها إذا صار مبنيا مع ما قبلها على الفتح صارت نصا في العموم، لا رجلَ في الدار، لا إلهَ إلا الله يعني لا يخرج من هذه شيء، لا يخرج منها شيء نص صريح في العموم، وإذا كان ما بعدها نكرة مرفوعة تكون (لا) بمعنى (ليس)، هنا (لا) تكون تعمل عمل (ليس)، وتعمل عمل (إن)، إذا عملت عمل (إن) تسمى (لا) النافية للجنس، وإذا عملت عمل (ليس) تسمى لا النافية، مثل ما قال ابن مالك :
فصل في ما، ولا، ولات، وإن المشبهات بـ(ليس) .
المشبهة بليس يكون ما بعدها مرفوع، تقول لا رجلٌ في الدار، إذا قلت لا رجلٌ في الدار، هذه أيضا دخلت (لا) على النكرة فيشملها كلامهم، لكن هنا دلالتها على العموم أضعف من دلالة النافية للجنس؛ لا رجلَ في الدار، لهذا يختلف مقصود المتكلم باستعمال نفي الجنس، أو باستعمال (لا) بمعنى (ليس).(44/117)
إذن في قول النبي عليه الصلاة والسلام «لا أحد أغير من الله» هنا ما وجه العموم؟ وجه العموم أنّ (أحدَ) نكرة أتت بعد لا النافية للجنس، دلنا على أنّ لا نافية للجنس، أن (أحدَ) منصوبة، هو في الحقيقة ما هي منصوبة مبنية على الفتح في محل نصب، (أحدَ) هذه مبنية على الفتح في محل نصب بـ(لا)، ظاهر؟ فإذن دلنا على أنها عامة قوله «لا أحدَ أغير من الله» فكل من يدخل في كلمة (أحدَ) فإنه ليس بأغير من الله جل وعلا.
(((((
والعموم من صفات النطق ولا يجوز دعوى العموم في غيره, من الفعل، وما يجري مجراه.
هذه مسألة مهمة، بعد أن ذكر بعض صيغ العموم على وجه الاختصار، قال إن (العموم من صفات النطق)، (العموم من صفات النطق) معناه أنّ العموم مستفاد من النطق؛ يعني مما ينطق به، والذي يُنطق به هو اللفظ، أما المعنى والمفهوم في الذهن فإن هذه لا ينطق بها، إنما تفهم، فلهذا عنده لا يصح دعوى العموم في غير اللفظ، وهو النطق، لهذا يقول (العموم من صفات النطق) يعني من عوارض الألفاظ حقيقة، كما يعبر غيره من الأصوليين من عوارض الألفاظ؛ يعني العموم إنما يستفاد من اللفظ، فلا تصح دعوى العموم في غير اللفظ، مثل الفعل وما يجري مجرى الفعل، وسيأتي توضيحه.(44/118)
الأفعال هذه هل هي من صفات النطق المنطوق به أم هي عمل؟ هي عمل، فالنبي عليه الصلاة والسلام إما أن يقول قولا أو يعمل عملا أو يقرر تقريرا، هنا القول والتقرير هذا لفظي، والعمل فعلي، لهذا يقول (العموم من صفات النطق) يعني أنّ الأفعال ليست بأقوال، ولهذا لا تدخل في العموم، لا عموم في الأفعال، فمثلا النبي عليه الصلاة والسلام جمع في السفر، جمع في السفر، السفر من حيث هو لفظ يدل على عموم، لو قال مثلا السفر مباح، لو كان نطق بهذه لصار السفر هنا عام لكل الأسفار، ظاهر؟ هنا قال الصحابي في الحديث المتفق عليه، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، هنا فعله عليه الصلاة والسلام كان الجمع، والجمع كان في السفر، صحيح إن السفر ليس من نطق النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كان حالا له فيه جمع، يعني فيه فعل الفعل، فإذن هنا لفظ السفر لا يُدَّعى فيه العموم؛ لأنه ليس من نطقه عليه الصلاة والسلام، وإنما كان حاد فعله أنه سافر، وبهذا السفر جمع، فإذن لا يستدل بهذا الفعل أن هذا يعم السفر القصير والطويل، أو يعم سفر الطاعة وسفر المعصية، أو يعم السفر الذي قصد به النسك والسفر الذي لم يقصد به النسك، وذلك لأنه فعل، والفعل لا يدل على العموم.(44/119)
ما سبب عدم دلالة الفعل على العموم؟ لأنه إنما فَعَل واحدة من تلك الحالات، وعليه الصلاة والسلام جمع في السفر، هو كان على حالة واحدة، إما أن يكون سفره سفرا قصيرا، وإما أن يكون سفره سفرا طويلا، وإما أن يكون سفره سفر نسك، وإما أن يكون سفره ليس بسفر نسك، ظاهر؟ النسك يعني للحج والعمرة ونحو ذلك، فيه غير هذه الحالات؟ هو هذا الكلام هل يشملها جميعا، أو وقع عليه الصلاة والسلام حالة واحدة؟ إذن لأنه إنما وقع منه عليه الصلاة والسلام حالة واحدة، فإنه لا يصح أن يدعى العموم في الأفعال، صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، هنا صلى في الكعبة أي صلاة؟ فرض أو نفل؟ هنا لا يقال هذا فعل وبعمومه يدل على الحالين، لا يقال ذلك، لما؟ لأنه إنما فعل واحدة، إما هذه أو هذه، فهذا معنى كون الأفعال لا تنهض لأنْ تكون عامة؛ لأنها إنما كانت حالة واحدة، ولهذا قالوا العموم من عوارض الألفاظ من صفات النطق.
قال (وما يجري مجراه) ما يجري مجرى الفعل، مثل الأحوال الخاصة، قضى النبي عليه الصلاة والسلام في كذا وكذا، هذا فعل منه عليه الصلاة والسلام، قضى، نعم هو من جهة كالقول، لكنه من جهة النظر في العموم ليس قولا، وإن كان قضاؤه بالقول، لكن قضاءه كان مرتبطا بحالة معينة، وهي التي أرادها هنا الماتن، بقوله (الفعل أو ما يجري مجراه) مثل قضاؤه عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يؤخذ من قضائه عليه الصلاة والسلام في واقعة، أن هذه تشمل كل الوقائع؛ لأنه قضى في حالة خاصة، فلا يدعى العموم في أنواع أقضيته عليه الصلاة والسلام.(44/120)
ذكرنا أنّ العموم من صفات النطق؛ يعني من عوارض الألفاظ، فهل تصح دعوى العموم في المفاهيم؟ هذه مسألة مهمة كثيرا ما يحتاج إليها الفقهاء والعلماء؛ يعني المفهوم سواء كان مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة، هل يصح، أو بالمقتضى؛ يعني هذه المفاهيم العامة هل يصح أن يقال إن المفهوم له عموم؟ هنا اختلف العلماء فكثير من الأصوليين من الحنابلة والشافعية وغيرهم يقولون إن المفاهيم تعم، المفهوم يعم، يقصدون بالمفهوم مفهوم المخالفة ومفهوم الموافقة.
ومفهوم الموافقة: معناه أن يشترك ما يفهم مع ما نطق في الحكم.
ومفهوم المخالفة: معناه أن ما يفهم يكون حكمه بعكس ما ذكر، أو بخلاف ما ذكر، أحسن من العكس؛ لأن المخالفة والعكس بينهما فرق؛ يعني يكون ما يفهم حكمه خلاف ما ذكر.
قال هنا مثل حديث القلتين « إذا بَلَغَ الماءُ قلّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الخَبَثَ »، هنا (إذا بَلَغَ الماءُ قلّتَيْنِ) هذا نصه (إذا بَلَغَ) طيب، إذا لم يبلغ هذا مفهوم، فهل يقال أنه يعم الجميع، هنا طائفة قالت نعم إن مفهوم الموافقة وهنا مفهوم المخالفة والمقتضى ونحو ذلك من المفاهيم هذه كلها يستفاد منها العموم، وخالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما ذكره وأطال عليه في المسوّدة في أصول الفقه، وكذلك ابن قدامة في المغني عند شرحه لحديث القلتين، قال إنّ المفهوم لا ينهض للعموم؛ المفهوم لا ينهض للعموم.
وقولهم إن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة أن هذا يدل على عدم شمول المفاهيم.(44/121)
أجيب –هذه مسألة مهمة – بأن المفهوم هو في موازنة المنطوق، لكنه يفهم منه عكس الحكم، أما –يعني يفهم منه خلاف الحكم- أما اللفظ فهو في مقام عكسه، مثلا «إذا بَلَغَ الماءُ قلّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الخَبَثَ» هنا المفهوم معناه أنه قال إذا لم يبلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ولهذا قالوا المفهوم يرجع إلى اللفظ، مفهوم المخالفة يرجع إلى اللفظ، في قوله ?فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ?[الإسراء:23] هذا في تحريم التأفيف، طيب تحريم الضرب هذا مفهوم موافقة؛ لأنه يوافق التأفيف في الحكم، وكأنه قال فلا تضربهما أو قول أعظم من الأف؛ فلا تقل لهما هجرا، لا ترفع عليهما صوتك، ونحو ذلك، هذه تسمى مفهوم موافقة، قالوا إنّ مفاهيم الموافقة ومفاهيم المخالفة إنها تدل على العموم؛ لأنها راجعة إلى النطق، وهذه مسألة مهمة جدا.
بقي تنبيه، وذكرنا لكم الخلاف في المسألة، وسبب الخلاف أصلا حديث القلتين.(44/122)
بقي تنبيه هنا، وهو أن (العموم من صفات النطق) قوله من صفات النطق؛ يعني أنه ليس لأجل النطق فقط، ولكنه صفة في النطق، وهو المعنى العام الذي أُخذ من النطق، أما إذا كان الاشتراك صار في اللفظ، وليس في معناه لم يصر عاما، وإنما صار مشتركا مثل العين، هنا العين هل نقول أنها تشمل عين الإنسان وتشمل عين الماء وتشمل العين التي هو الذهب إلى آخره؟ قالوا لا, هنا لا تشمله؛ لأن هذا مشترك لفظي، فهو لم يدل على العموم بصفته؛ يعني بمعناه، وإنما وقع الاشتراك في اللفظ لا في المعنى، ظاهر؟ فالألفاظ متباينة، هذه عين الماء، هذه عين إنسان، هذه عين الذهب، هذه العين الذي هو الجاسوس، هذا اللفظ وقع الاشتراك فيه، لكن إذا أطلقت لفظ العين لا تأتي جميعا تحت اللفظ، إذا قلت مثلا لي عين، فتريد أحد هذه؛ يعني لك العين هذه، أو ذهب، أو عين ماء، أو عين جاسوس، واحد من هذه الأربعة، ظاهر؟ فإذن هنا قوله (من صفات النطق) هذه مهمة، ويريد بقوله (من صفات النطق) إخراج المشترك؛ لأن المشترك في اللفظ بخصوصه وليس في صفته التي هي معناه. الذي بعده.
(((((
والخاص يقابل العام
طيب من المسائل المهمة المتصلة بالعموم، أن العموم قد يكون مطلقا، وقد يكون مقيدا، وقد يكون من وجه دون وجه، وهذا يعظم إذا تعارض العموم والخصوص؛ يعني أتى عام وأتى خاص، إذا أتى العام وأتى بعده الخاص، فإن العموم هنا يكون مخصوصا، أو يكون مقيدا، إذا كان العام لم يرد له تخصيص، فيسمى عاما مطلقا.(44/123)
طيب إذا عارض العام عاما آخر؛ عام وعام تعارضا، فهذا هو الذي يسميه الأصوليون عام من وجه دون وجه، أو عام وجهي، أو بينهما عموم وخصوص من وجه، مثلا –هذا الثالث مهم- مثلا في حديث النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، والصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، قال عليه الصلاة والسلام «لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتّى تَغْرُبَ الشّمْسُ » هذا عام في الصلوات، أليس كذلك؟ لأنه قال (لاَ صَلاَةَ)، وقد تقرر فيما سبق أنّ النكرة في النكرات أنها تعم، (لاَ صَلاَةَ) هذا عام في الصلوات، (لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ) يعني لا صلاة نافلة، لا صلاة تحية مسجد، لا صلاة استخارة، لا صلاة وضوء، لا صلاة فريضة، جميع الصلوات داخلة هنا، قال (لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتّى تَغْرُبَ الشّمْسُ) لهذا كان عمر يستدل بهذا، وكان يحسب الذين يصلون بعد العصر استدلالا بهذا العموم.(44/124)
عارض هذا العموم ذوات الأسباب، مثاله تحية المسجد، قال «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتّىَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ » هذا عام، عام في أي شيء ؟ عام في الأزمنة في الأوقات؛ لأنه قال (إِذَا دَخَلَ) (إِذَا) هذه تصلح إلى أي زمن، (إِذَا دَخَلَ) يعني حين الدخول، وحين الدخول تصلح لأي وقت، فصار عندنا عموم في الأزمنة، تعارض عموم الأزمنة هنا عموم الصلوات في ذاك الحديث، فصار عموما وجهيا؛ عموم معارض بعموم، هذا عام من وجه دون وجه، قوله (لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ) هذا عام في الصلوات، لكن في الوقت خاص في الأوقات، صحيح ؟ قوله هنا (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتّىَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) هذا عام في الأزمنة؛ لكنه خاص في الصلاة، من الصلاة صلاة تحية المسجد، فهذا يسمى عام وجهي، عام من وجه دون وجه، وهذا مما تختلف فيه أنظار العلماء، هذا يقوى الخلاف في مثل هذه المسائل، فتلك الجهة يحكم على أي هذين، هل يحكم على عموم الأزمنة؟ هل يحكم لعموم الصلوات بالنهي أم يخصص تحية المسجد، وذلك لأن تحية المسجد هي في وقت؛ يعني عامة في الأوقات، فقوله (لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْفَجْرِ) هذا خاص في الوقت، وقوله (إِذَا دَخَلَ) هذا عام في الأوقات، يأتي هنا النظر.
فمن قال إنها لا تجوز تحية المسجد في أوقات النهي، قال قوله (لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ) هذا عام في الصلوات ويدخل فيها تحية المسجد، وخاص في الوقت هذا بخصوصه، ومن جهة العموم ظاهر الدلالة، ومن جهة الخصوص أنه في هذا الوقت يمنع، ودلالة الخاص مقدمة على دلالة العام في ذلك الحديث.(44/125)
ومن ذهب إلى ذاك الحديث قال هنا (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتّىَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) هذا عام في الأزمنة خاص في الصلاة، فنقضي بخصوص الصلاة؛ صلاة تحية المسجد على العموم، ذاك لأن الخاص مقدم على العام، طيب عموم الأزمنة هنا سيبقى الإشكال، ولهذا الشوكاني لقوة نظره في الأصول توقف في المسألة؛ لأنها مشكلة ولا ترجيح لأحدهما على الآخر من حيث العمومان، هذا وهذا، إلا أن شيخ الإسلام رحمه الله ومن تبعه مثلا في الأخذ بجواز الصلاة ذات السبب في أوقات النهي، عضدوا ذلك في أنواع من الأدلة، مثل حديث «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ تَمْنَعُوا أَحَداً طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أو صَلّى. أَيّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنَ لّيْلِ أَوْ نهَارِ» لكن أجابوا بأن هذا خاص بالكعبة.
والإمام أحمد رحمه الله خلص من الإشكال بطريقه هي المعروفة عند أصحابه، قالوا هنا تعارض الأمر تعارض العمومان، فإذا تعارضا وصار الإشكال تساقطا، وأخذنا الترجيح من دليل خارج، وهو أنّ النهي مقدم على الأمر، فإنّ صلاة تحية المسجد مستحبة أو سنة مؤكدة عنده، والنهي للتحريم إذْ لا صارف له، فلا يوقع محرم لتحصيل سنة مؤكدة، خرج بهذا من تداعي العمومين.
المقصود أنه أحيانا تأتي لكم مسائل خاصة في العموم، والعموم من أهم الأبواب، تأتي لكم وقد ينظر فيها طالب العلم نظرا سريعا، فلا يقدر خلاف العلماء واختلاف أنظارهم، لكن إذا تأمل وكانت عنده تأصيلات جيدة، هنا يَقْدُر خلاف العلماء، ويعرف أن لكل وجهته، هذا مشهور من مباحث العام على وجه الاختصار. اقرأ
(((((
والخاص يقابل العام والتخصيص تمييز الجملة
وهو ينقسم إلى متصل ومنفصل:
فالمتصل: الاستثناء, والتقييد بالشرط, والتقييد بالصفة.(44/126)
والاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام وإنما يبقى من المستثنى منه شيء ومن شرطه أن يكون متصلا بالكلام. ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه, ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره.
هنا بعد أن ذكر العام ذكر الخاص، والعام يقابله الخاص، والخاص هو خلاف العام، وبهذا نعرفه بأنه ما لم يعم شيئين فصاعدا؛ يعني خاص بفرد واحد، بحالة واحدة، ما لا يتناول شيئين فصاعدا، ما لا يعم شيئين فصاعدا.
ودلالة العام العموم، ودلالة الخاص التخصيص، ولهذا يقول هذا فيه عموم، وهذا تخصيص، لذلك العموم أو يقال هذا الدليل عام، وذاك الدليل خاص.
فإذن الخاص يعرف بأنه مثل ما ذكر في اللغة ما لا يتناول شيئين فصاعدا.
أما في الاصطلاح فإنه يعرف بأنه قصر العام على بعض أفراده، دلالة العام كثيرة، فإذا قصرنا العام على بعض أفراده، أخرجنا دلالة العام على كل الأفراد، وخصصنا بعض الأفراد وقصرناها بالحكم؛ لأن هذا يسمى خاصا، فإذن الخاص هو قصر العام على بعض أفراده.
التخصيص قسمان:
إما أن يكون التخصيص متصلا بالعموم.
وإما أن يكون التخصيص منفصلا عن العموم.
أو كما قال الخاص:
إما أن يكون متصلا في اللفظ العام.
وإما أن يكون منفصلا.
أما المتصل فمعناه أن يكون معه في نفس الكلام وفي نفس المجلس تأتي بلفظ العام ثم تخصصه، دخل الرجال إلا عشرة، دخل الرجال إلا زيدا ومحمدا وخالدا وأحمد، هنا هذا الاستثناء تخصيص متصل، بمعنى أنه في المكان اتصل بالكلام ما انفصل عنه –المنفصل سيأتي، وهو ما يكون في موضع آخر؛ يعني يستفاد من جملة أخرى ليست متصلة في الجملة السابقة – ذكرنا لكم قوله تعالى ?فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30)إِلَّا إِبْلِيسَ?(1)، هذا استثناء، استثناء متصل وهذا معناه أنه تخصيص متصل.
__________
(1) الحجر:30-31، ص:73-74.(44/127)
قال هنا (الاستثناء) أول المخصصات المتصلة الاستثناء، الاستثناء مهم؛ لأن الفقهاء أو الأصوليين يقولون الاستثناء معيار العموم، معنى قولهم الاستثناء معيار العموم؛ يعني أنّ اللفظ إذا كان يصلح أن يستثنى منه فإنه عام اللفظ، إذا كان يصح أن يستثنى منه ،تقول مثلا لا رجلَ في الدار، نريد نختبر هل هذا يدل على العموم أم لا؟ نأتي باستثناء فإن صح إتيان الاستثناء صار اللفظ عام، لا رجل في الدار إلا محمدا، إذن ما دام صح أن يستثنى منه، معناه أنه تأتي الشركة في الذهن لجميع الأفراد، ولهذا يصح أن تخرج فردا من العموم، وإلا لو لم يشترك جميع الأفراد في اللفظ، فإننا ما نحتاج أن نستثني، لأنه يكون يقول المتكلم لنفسه تقول أنا ما أحتاج أن أستثني من العام، لأنه معروف عند المخاطب، لكن العموم لا يمكن أن يستفيد منه المخاطب خروج بعض أفراده إلا بمخصص، وهنا أتى الاستثناء، يقول الاستثناء معيار العموم، يعني أنّ إتيان الاستثناء دال على أن اللفظ بالعموم.
وهذا أهم المخصصات المتصلة الاستثناء وأوضحها دلالة، يقول يجوز أن يقدم المستثنى عن المستثنى منه، ما علمت أو تقول دخل ماأحد-مثلا- إلا زيد، وتقول ما دخل إلا زيد أحد، ما دخل من أحد إلا زيد، ما دخل إلا زيد من أحد، يعني يجوز أن يتقدم الاستثناء على اللفظ العام، أو أن يتأخر، هذا ليس بشرط أن يكون هناك ترتيب؛ لأنها كلها متصلة في مكان واحد، فيأتي للذهن المعنى العام والتخصيص معه.
القسم الثاني الشرط من المخصصات المتصلة.
والقسم الثالث الصفة.
فعندنا المخصصات المتصلة ثلاثة أنواع كما ذكرها هنا الاستثناء والشرط والصفة.
الشرط كثير، مثلا تقول أكرم الرجال إن جاءوك، يعني إن جاءوك فأكرمهم، يعني هذا عموم خصص بأي شيء؟ بالشرط، يعني الذي يجيء تكرمه، الذي لم يأتِ لا يستحق الإكرام، هذا معنى الشرط، والشرط أنواع عندهم:
شرط لغوي، وهو المقصود هنا.
وشرط شرعي.
وشرط عقلي.
وشرط عادي.(44/128)
هذه أربعة أقسام للشروط بشكل عام، لكن هنا لا يقصد بالشرط إلا الشرط اللغوي، الذي يكون بأدوات الشرط إنْ وإذا وأمثالها. ظاهر؟
الشرط العقلي يعني ما تشترطه العقول عادة، بإنفاذ الأشياء ليس بمعتبر التخصيص.
الشرط الشرعي الشروط الشرعية، المسلمون على شروطهم ونحو ذلك، هذا غير معتبر التخصيص، المقصود منه اللغوي، لما؟ لأن الدلالة التي استفدنا منها العموم في العام هي دلالة اللغة ليست هي دلالة الشرع، إنما هي دلالة اللغة، فلهذا كان التخصيص في اللغة ليقابل استفادة العموم من اللغة.
الصفة نأتي بصفة تخصص بعض العام، تقول اقرأ الكتب المفيدة، الكتب عام، صحيح؟ لكن هنا خصصته بالمفيد، أكرم الرجل العالم، أكرم الرجال الفقهاء، هنا أعطيته صفة، هذه الصفة خصصت وهي متصلة به، وقولنا التخصيص بالصفة، ليس معناه النعت فحسب:
قد يكون نعتا.
وقد يكون عطف بيان.
وقد يكون حالا.
5. وقد يكون شبه جملة ظرف أو جار ومجرور.
الصفة تشمل هذه الخمس، تشمل النعت، تشمل الحال، تشمل عطف البيان، تشمل شبه الجملة التي هي الظرف والجار والمجرور، يعني إذا قلت لك، مثلا في الظرف، لكن الأولى واضحة، لكن في الظرف.
بل اجعل مثلا في عطف البيان، أكرم أبا حفص، أو أكرم أبا محمد، هنا أبا محمد فيه اشتراك قد يكون أكثر من واحد، أكرم أبا محمدا خالدا، هذا تخصيص، خالد عطف بيان؛ يعني إعرابها عطف بيان، لكنها تسمى هذه تدخل في الصفات، فهي تخصيص لما وقع الاشتراك فيه في الذهن.(44/129)
الظرف مثلا قد يكون ظرف مكان أو ظرف زمان، في ظرف المكان أو الظرف الزمان، تقول اقرأ الكتب كل يوم حين الصباح، اقرأ الكتب كل يوم الساعة العاشرة، إيتني كل يوم الساعة كذا، فقوله كل يوم هذا فيه اشتراك، صحيح؟ تأتي الصفة لتقييده أو لتخصيصه، هو أتى أنا ما دريت، لكن هو لم يأتِ يعني الجويني صاحب الورقات لم يتكلم على المطلق والمقيد في هذه الرسالة، واعتبر المقيد من التخصيص بالصفات، تقول إن قيد بصفة فهو المقيد، يقابله المطلق، يعني عنده المقيد والمطلق أنه من فروع بحث العام، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قوله مثلا قوله تعالى ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ?[النساء:92]، في آية الظهار ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا?[المجادلة:3]، في آية القتل قال ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ?[النساء:92]، (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) هذا سموه مطلقا، هنا يسميه عاما، وتحرير رقبة مؤمنة يقول هذا تخصيص للعام بالصفة، لأن الإيمان صفة للرقبة، لكن هنا يقال من أين أستفيد العموم في قوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) هنا ما استفدنا العموم، مِنِينْ استفدنا العموم(تحرير) هذا فعل يعني مصدر، بمعنى فعل الأمر حرروا رقبة، هنا رقبة كيف استفدنا العموم منها، هذه نكرة في سياق النفي أو في سياق الإثبات؟ في سياق الإثبات، وقد تقرر أن النكرة في سياق النفي أو النهي أو الاستفهام أو الشرط أنها للعموم، لكن هنا صار تحرير رقبة هذه نكرة في سياق الإثبات، فمن أين أخذنا العموم، لهذا قال العلماء العام والخاص باب، والمطلق والمقيد؛ لأن استفادة ألفاظ الإطلاق ليست هي ألفاظ العموم.(44/130)
نعم إن التقييد بالصفة هو شبيه بالتخصيص بالصفة، لكن التقييد بالصفة هذا جاء على أمر مطلق، وأما التخصيص بالصفة جاء بعد لفظ عام، ظاهر؟ وهذا فرق مهم، ولهذا نقول إن بحث المطلق والمقيد، نبحث إن شاء الله تعالى بعد إتمام البحث الخاص، كإفراد له كما أفردته كتب الأصول.
ما سبب الإشكال هنا إيش قال؟ إقرأ عشان يسمعون.
(((((
فالمتصل: الاستثناء, والتقييد بالشرط, والتقييد بالصفة.
والاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام وإنما يبقى من المستثنى منه شيء ومن شرطه أن يكون متصلا بالكلام. ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه, ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره.
والشرط يجوز أن يتأخر من المشروط ويجوز أن يتقدم من المشروط.
والمفيد بالصفة: يحمل عليه المطلق, كالرقبة قيدت بالأيمان في بعض المواضع, وأطلقت في بعض المواضع, فيحمل المطلق على المقيد.(44/131)
لاحظ هذا الكلام (والمفيد بالصفة: يحمل عليه المطلق) فجعل المطلق والمقيد من مباحث العام والخاص، السبب ما هو؟ السبب أن كثيرين من المتقدمين يعبرون عن المطلق بالعام، قال هذه لها عموم ذلك من أئمة السلف يعبرون عن الإطلاق بالعام، لكن عموم المطلق ليس هو عموم العام، ما هو عموم المطلق وعموم العام؟ ذكرنا أن عموم العام هو الشمول، يعني أن العام عمومه شمولي للأفراد، إذا قلت الرجال دخل في ذهنك كل الرجال، الرقاب دخل في ذهنك كل الرقاب، الكتب دخل في ذهنك كل الكتب، أما المطلق فإنه لا يكون الدخول فيه شموليا ولكن يكون الدخول دخول الأفراد تحت اللفظ بدليا؛ إما هذا أو هذا أو هذا أو هذا، نعم هو عام، لكن على سبيل البدل لا على سبيل الشمول؛ يعني مثلا أعتق الرقاب، هذا يعني اعتقها جميعا، صحيح هذا عموم شمولي، لكن أعتق رقبة، عندي عشر رقاب من البشر، هذا سعيد، وهذا سعد، وهذا خالد إلى آخره، عشرة، إذا قلت أعتق رقبة، هو من حيث الأمر يشمل الجميع، لكن هل يشملها، بأن أُعتق الجميع، أو أنا مخير في واحدة منها، هذا قولهم مخير في واحد منها؛ يعني الأمر متوجه لواحد من الجميع، لكن يصلح أن يكون المأمور به الأول سعيد، يصلح أن يكون المأمور به سعد، يصلح أن يكون المأمور بإعتاقه أحمد، خالد إلى آخره، ظاهر؟ ولهذا وقع كثير من العلماء في استعمال العموم في الإطلاق، وهذا وجه ذكر الجويني هذه المسألة في الورقات؛ لأن كثير من المتقدمين يستعملون لفظ العام في المطلق باعتبار العموم البدلي، قال ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا?[المجادلة:3]، ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ?[النساء:92]، هذا شرط؛ قُيدت الرقبة بأنها مؤمنة، لكن أي رقبة أي واحدة، صحيح؟ بشرط الإيمان.(44/132)
إذن عموم المطلق بدلي وعموم العام -إيش؟- شمولي، (1) تنتبه إلى هذه الكلمة، وعلى هذا ففي الاصطلاح لا يصح أن يقال في المطلق إنه عام ويسكت، ويقال هذا عام؛ لأنه قد يأتي إشكال، هل هذا العام تخصصه مخصصات العام الشمولي: فيبقى الإشكال، ظاهر لكم؟
على كل حال يأتي مزيد تفصيل في مكانه في المطلق والمقيد، نقف عند المخصصات المنفصلة، ونكمل إن شاء الله الدرس غدا بعد صلاة الفجر في هذا المسجد، أما درس المغرب اليوم فيلغى، يكون عندنا درس بعد صلاة العصر في مسائل الجاهلية، وبعد الفجر غدا في هذا المسجد في الأصول تكملة لها.
أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم ويعلمنا الخير كله، نكتفي بهذا. نعم
ذكرتُ قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة في المغني عند شرح حديث القلتين من أنه لا مفهوم له، الله أعلم اختلف الكبار، ما عندي تحرير الحقيقة فيها.
(((((
ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب, وتخصيص الكتاب بالسنة، وتخصيص السنة بالكتاب, وتخصيص السنة بالسنة، وتخصيص النطق بالقياس؛ ونعني بالنطق قول الله سبحانه وتعالى وقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلما ذكر المخصصات المتصلة وهي الاستثناء والشرط والصفة، ذكر المخصصات المنفصلة، ويُعنى بالمخصص المنفصل عند الأصوليين ما كان في كلام مستقل عن العموم؛ يعني إذا كان التخصيص متصلا بالعموم في جملته، فإن هذا يسمى متصلا، فإذا كان في جملة أخرى منفصلة من حيث الإنشاء، ومن حيث الزمن، عن الدليل الذي دل على العموم، فإنه يسمى مخصِّصا منفصلا، والمخصِّصات المنفصلة كثيرة، منها ما ذكر، ومنها مخصص الحس.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.(44/133)
فأول المخصصات المنفصلة الحس، والحس يعنى به أحد الحواس الخمس التي منها المشاهدة؛ يعني أن هناك نصوصا عامة، لكن يخصصها الحس، يعني ما يشاهَد، أو ما يُسمع، أو ما يُلمس، أو ما يُشم أو نحو ذلك من الحواس الخمس، لكن المخصص الذي يتصل بالنصوص من الحس واحد، وهو المشاهدة، وبهذا قالوا إنّ من المخصصات المنفصلة الحس، وهو المشاهدة، وذلك لأنه هو الذي يمكن التخصيص فيه، في هذا المقام.
وذلك ممثل قوله تعالى ?تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا?[الأحقاف:25]، وقوله (كُلَّ شَيْءٍ) هذا عام، خَصَّ الحِسُّ منه الآدميين بقوله ?فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ?[الأحقاف:25] يعني خصت المشاهدة منه الآدميين، لهذا قال (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ).
وقال سبحانه في بيت الحرام ? يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ?[القصص:57] ومن المعلوم بالحس والمشاهدة أن هناك من الثمرات التي في شرق الأرض أو في غربها ما لم يجبى إلى الكعبة؛ يعني إلى مكة.
كذلك قوله تعالى ?وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ?[النمل:23]، هناك شيء لم تؤتَ إياه، فالأشياء يدل على ذلك الحس، فإذن هناك الحسُّ مخصص، فخص الأخير هنا في قوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) بأنها أوتيت من كل شيء أوتيه ملوك زمانها، قوله (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) يعني مما يمكن وصوله إلى مكة في الأوقات؛ يعني في كل وقت بحسبه، في كل زمن بحسبه، وهكذا.
إذن فمخصص الحس ويعنى به المشاهدة، قد يخص به الكتاب والسنة، ولكن هذا لابد أن يكون متفقا عليه؛ لأجل أن لا يدخل أهل العقول في جعل المخصصات العقلية صحيحة لنصوص الكتاب والسنة، ولهذا قالوا الحس هو المشاهدة، والمشاهدة يشترك فيها الجميع فهي من قبيل ما أتفق عليه.(44/134)
ذكر هنا من المخصصات قال (يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب) قوله (يجوز) معناه يمكن، يعني يجوز وقوعا، يمكن أن يخصص الكتاب بالكتاب؛ يعني يصلح الكتاب أن يخصص الكتاب، وهذا مباين للوجوب؛ لأنه هناك من الألفاظ العامة في القرآن ما لم يرد عليه تخصيص.
مثل قوله تعالى ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?(1) وقوله (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) هذا عام في الأشياء التي تقبل أن تُخْلَق، وهي ما كان غير الله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله، هذا عام لا مخصص له عام؛ باق على عمومه، وهذا معنى قوله (يجوز) يعني ليس كل عام واجب التخصيص، بل هناك ألفاظ عامة بقيت على عمومها دون مخصصات، (يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب) يعني أن القرآن يكون فيه آيات عامة وهناك آيات في القرآن تخصص ذلك العموم.
__________
(1) الرعد:16، الزمر:62.(44/135)
مثاله قوله تعالى ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ?[البقرة:228] فهذا عام في كل مطلقة ويشمل المطلقة الحامل والمطلقة غير الحامل؛ يعني الحائل،(1) كذلك يشمل المدخول بها وغير المدخول بها، فقوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) يعم كل مطلقة سواء أكانت حاملا أم حائلا، وسواء أكانت مدخولا بها أم غير مدخولا بها، هذا العموم خص بالكتاب بالقرء، في الحوامل في قوله تعالى ?وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ?[الطلاق:4] يعني أن عدة المرأة الحامل لا تنقضي إلا بوضع الحمل، وكذلك بقوله ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا?[البقرة:234]، مع قوله (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، كذلك المدخول بها وغير المدخول بها، قوله (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) يشمل هذه وهذه، لكن خُصَّ من عمومه غير المدخول بها، بقوله ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا [نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ] (2) مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا?[الأحزاب:49] قال هنا في غير المدخول بها (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) فخُصّ منهم.
__________
(1) حائل: كل أنثى لا تحمل، يقال امرأة حائل ونخلة حائل.
(2) الشيخ قال: إذا طلقتم النساء.(44/136)
كذلك قوله تعالى ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ?[النور:2] (الزَّانِيَةُ) هذا يعم الحرة والأَمَة، خص من عمومه الأَمَة بقوله تعالى في الأَمَة في سورة النساء قال ?فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ?[النساء:25] فقال إن الأمة عليها نصف ما على المحصنة من العذاب، وهي داخلة في عموم، قوله (الزَّانِيَةُ) لأنها هي زانية، فإذا زنت بآية سورة النور يجب عليها مائة جلدة، ولكن لآية سورة النساء خصت من ذلك العموم فصار عليها خمسين جلدة.
وهكذا يعني أن هناك آيات كثيرة بعضها يخص بعض، مثل أيضا قوله تعالى ?وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?[البقرة:221] هنا (الْمُشْرِكَاتِ) يعم كل من كان مشركا بالله، فيدخل فيه المشركون من غير أهل الكتاب ويدخل فيه المشركون من أهل الكتاب، لأن الله جل وعلا قال في أهل الكتاب ?سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?قال ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ] (1) سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?[التوبة:31]، فهم مشركون، ولكن هذا العموم خص منه أهل الكتاب بقوله تعالى ?وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?[المائدة:5]، فبين أن المرأة إذا كانت من أهل الكتاب فإنها يجوز نكاحها وهذا خارج عن العموم، يعني أنه مخصص للعموم في قوله (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) فيراد بالمشركة من كانت من غير أهل الكتاب، وهكذا في أمثلة كثيرة جدا معروفة.
__________
(1) لم يذكرها الشيخ.(44/137)
وكذلك يجوز كما ذكر (تخصيص الكتاب بالسنة) تخصيص القرآن بالسنة، وهذا عند عامة العلماء، وخالف فيه بعضهم من جهة أن القرآن قطعي الدلالة والسنة لا تقوم على التخصيص إلا إذا كانت قطعية الدلالة، وهذا ليس بصحيح، فعندهم أن حديث الآحاد لا يخص الآية، لا يصلح أن يكون مخصصا للآيات، وهذا غلط، فإننا نقول إنّ القرآن تخصه السنة سواء كانت السنة متواترة أم آحاد فإنها تصلح مخصِّصَة.
مثال ذلك قوله تعالى في المحرمات من النساء لما عدها ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ?[النساء:23] إلى آخره، ثم قال بعدها ?وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ?[النساء:24] (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ) (مَا) هذه من ألفاظ العموم، فيستدل بهذه الجملة من الآية على أنّ كل امرأة لم تذكر في المحرمات بهذه الآية فإنها مباحة لدليل قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) هذا عموم من القرآن، لكن خُص بالسنة بقوله عليه الصلاة والسلام « لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمّتِهَا، وَلاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا» يعني أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، فهذا مما جاء في السنة، وهو تخصيص لهذا العموم المستفاد من قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ).
كذلك قوله تعالى ?وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ?[الأنعام:141] (وَآتُوا حَقَّهُ) يعني كل ما خرج من الأرض، خَصت منه السنة أشياء من أن الذي يجب أن يؤتى الحق يوم الحصاد؛ هو ما يكال ويدّخر، وأما غيره فإنه لا يجب ذلك فيه، وهكذا في أمثلة كثيرة، وهذا من المهمات؛ يعني أنْ يُعلم أنّ الكتاب يخص بالسنة.(44/138)
وقد ادعى الظاهرية كداوود وابن حزم وجماعة؛ ادعوا أن التخصيص إنما يقع بالسنة فقط، وأما تخصيص الكتاب بالكتاب فإنه ليس بوارد، وذلك أن التخصيص نوع بيان والله جل وعلا قال لنبيه ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ?[النحل:44] فالمبيِّن هو النبي صلى الله عليه وسلم يعني بالسنة، فخرج عن كون القرآن مبينا، والتخصيص نوع من البيان، ولهذا قالوا إنه لا يصلح التخصيص إلا بالسنة.
وهذا يقابل قول آخرين أنّ التخصيص لا يكون بالسنة، وإنما يكون بالقرآن.
وكلا القولين غلط؛ لأن التخصيص جاء بوضوح في القرآن، وجاء بوضوح أيضا في السنة.
تخصيص السنة بالقرآن، أيضا السنة تخص بالقرآن. وأيضا السنة تخص بالسنة.
ففي قوله تعالى أو في قول النبي صلى الله عليه وسلم -راح مني المثال في تخصيص القرآن بالسنة-، قوله عليه الصلاة والسلام «لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةَ أحَدِكُم إذَا أحْدَثَ حَتّى يَتَوَضّأَ» هذا عام وجه العموم فيه استخدام حرف الغاية (حَتّى) «لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةَ أحَدِكُم إذَا أحْدَثَ حَتّى يَتَوَضّأَ» وحروف الغايات تدل على العموم بنوع من الاعتبار، هذا يشمل كلَّ مسلم، «لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةَ أحَدِكُم إذَا أحْدَثَ حَتّى يَتَوَضّأَ» يشمل كل مسلم سواء كان مريضا أو غير مريض، أو كان واجدا للماء أو غير واجد للماء، كان مسافرا أو غير مسافر، وخُص هذا العموم بقوله تعالى ?فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا?(1)، فإذن قوله (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) هذا تخصيص لقوله «لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةَ أحَدِكُم إذَا أحْدَثَ حَتّى يَتَوَضّأَ».
(تخصيص السنة بالسنة) هذا كثير أيضا وميدانه واسع.
__________
(1) النساء:43، المائدة:6.(44/139)
من المخصصات أيضا المفاهيم، والمفاهيم أيضا فيه نزاع في تخصيصها كما سبق في هل تدل المفاهيم على العموم أو لا تدل؟ هل تصلح المفاهيم للتخصيص أم لا؟ لكنها مهمة، التخصيص في المفاهيم والتخصيص بالمفهوم كقوله تعالى..،
أولا المفهوم قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.
ونعني بمفهوم الموافقة: أن يوافق الحكم المسكوت عنه؛ الحكم المذكور في محل النطق، وهذا مثل قوله تعالى ?فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ?[الإسراء:23]، فإنه يُفهم منه تحريم ما فوق التأفيف، وذلك بالموافقة؛ لأن ما فوقه مشارك للتأفيف في النهي، وهو موافق له، قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «لَيّ الْوَاجِدِ يُحِلّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» (لَيّ الْوَاجِدِ) يعني مَطْلُه وعدم إعطاء الحق الذي عليه، (يُحِلّ عِرْضَهُ) يعني يحل أن يقال ظلمني، يحل أن يتقدم بالشكاية عليه، ويحل عقوبته من الحبس وغيره، هذا عام، (لَيّ الْوَاجِدِ يُحِلّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ)، هذا فيه عموم هذا هل يدخل فيه الوالد؟ قال تعالى (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) والليّ؛ (لَيّ الْوَاجِدِ) هذا قد يكون من الوالد، وقال هنا (يُحِلّ عِرْضَهُ) والله جل وعلا حرم التأفيف، وما هو أعظم من التأفيف هو الليّ من العرض والعقوبة بحبس أو بغيره، فإذن نستفيد من قوله (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) تحريم حبس الوالدين، قوله (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) هذا يستفاد منه أن الحبس لا يجوز الذي هو أعظم من التأفيف، وكذلك أن ينال الرجل من عرض والده لا يجوز، فهذا خص منه بمفهوم الموافقة، أو خص قوله (لَيّ الْوَاجِدِ يُحِلّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) خص منه الوالد في قوله (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وذلك لأنه مفهوم موافقة.(44/140)
القسم الثاني مفهوم المخالفة: وهو أن يثبت نقيض الحكم المأثور بالمفهوم، لما يفهم نقيض الحكم المأثور للمفهوم؛ يعني بخلاف الحالة المذكورة، كما في قوله «إذا بَلَغَ الماءُ قلّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الخَبَثَ» هذا يُفهم منه أنه إذا لم يبلغ القلتين حمل الخبث معنى ذلك أن هذا مفهوم مخالفة لأنه خلاف الحكم المذكور (إذا بَلَغَ الماءُ قلّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الخَبَثَ) معناه إذا لم يبلغ يحمل الخبث هذا مفهوم مخالفة، يسمى مفهوم مخالفة، قوله عليه الصلاة والسلام «المَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجّسُهُ شَيءٌ»، (شَيءٌ) هنا نكرة جاءت في سياق النفي قال(لاَ يُنَجّسُهُ شَيءٌ)، فإذن عموم (لاَ يُنَجّسُهُ شَيءٌ) سواء كان قلتين أو كان أكثر أو كان أقل الجميع لا ينجسه شيء، فحديث (إذا بَلَغَ الماءُ قلّتَيْنِ) بالمخالفة إذا لم يبلغ الماء قلتين فإنه يحمل الخبث، فمن صحح هذا الحديث واستدل به على هذا الكلام قال إن قوله (لم يُنَجّسُهُ شَيءٌ) مخصوص بما كان فوق القلتين، أما ما دون القلتين فيخص من هذا؛ يعني (المَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجّسُهُ شَيءٌ) في حالة كونه قلتين فأكثر، أما ما دون القلتين فإن في هذه الحالة مخصوصة من هذا العموم بقوله (إذا بَلَغَ الماءُ قلّتَيْنِ) ووجه الدلالة على التخصيص المفهوم مفهوم المخالفة.
أيضا من التخصيص بالسنة التخصيص بأفعال النبي عليه الصلاة والسلام، وأفعال النبي عليه الصلاة والسلام تصلح أن تكون مخصصة للألفاظ العامة، سواء كانت في القرآن أو في السنة.(44/141)
فمثلا في قوله تعالى ?لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ?[البقرة:222] (لَا تَقْرَبُوهُنَّ) يعني لا تقربوا الحائض حتى تطهر، (لَا تَقْرَبُوهُنَّ) هذا عام، شُو وجه العموم؟ كيف استفدنا العموم (لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)؟ حرف الغاية واحد، لكن (تَقْرَبُوهُنَّ) ألا نستفيد منه العموم؟ (تَقْرَبُوهُنَّ) هذا نكرة في سياق النفي فتعم، أين النكرة؟ قال العلماء تقربوهن الأفعال المضارعة تَنْحَلُّ عن مصدر وزمان، حدث مجرد عن الزمان مع الزمان، هذا الفعل المضارع عبارة عن مصدر وزمان، (لَا تَقْرَبُوهُنَّ)، (تَقْرَبُوهُنَّ) يعني قرب في الزمن الحاضر، صحيح؟ أو في الزمن المستقبل، والفعل المضارع إذا جاء منفيا لاشتماله على المصدر المنسبك في داخله فإنه يكون نكرة في سياق النفي، فيعم أنواع القرب (لَا تَقْرَبُوهُنَّ) جميع أنواع القرب، من ذلك تقبيل المرأة الحائض، من ذلك ضمها، من ذلك مباشرتها، من ذلك النوم معها، كل هذا يشمل قوله (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) خصَّ هذا العموم بفعله عليه الصلاة والسلام، فإنه كان يقبل المرأة الحائض ويباشرها، فعلم أن قوله (لَا تَقْرَبُوهُنَّ) يراد به قرب الوطء لا غيره؛ يعني الوطء في الفرج لا غيره، (لَا تَقْرَبُوهُنَّ) خُص السنة بفعله عليه الصلاة والسلام.
كذلك يخص العام من الكتاب والسنة بالقياس، والقياس إذا كان صحيحا واضح العلة شرعا، وأن العلة فيها منصوص عليها، والمماثلة شرعية، فإنه يُخص بالقياس الكتاب والسنة.(44/142)
ومثاله أن الله جل وعلا قال ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ?[النور:2]، (الزَّانِي) يشمل الحر والعبد، صحيح؟ يشمل الحر والعبد، طيب، العبد هل نجلده مائة جلدة، أو يجلد إذا زنى خمسين جلدة؟ العبد يجلد خمسين جلدة، هنا قوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يشمل الحر والعبد، فكيف استفدنا أنّ العبد لا يدخل في هذا العموم؟ بالقياس على الأَمَة المذكورة في قوله تعالى ?فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ?[النساء:25] (عَلَيْهِنّ) يعني على الإماء نصف ما على المحصنات، والعبد الذكر مقيس على الأنثى، فهذا تخصيص للكتاب بالقياس؛ يعني قياس العبد على الأمة، وهذا القياس واضح جلي؛ لأن الأَمَة مع هذا المشترك فيما بينه.
هنا قال أيضا في الحديث « الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عَام وَالثّيّبُ بِالثّيّبِ, جَلْدُ مِائَةٍ وَالرّجْمُ» الحديث الذي رواه مسلم وغيره قوله (الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ)، هذا يشمل الحر والعبد، ويشمل الصغير والكبير، وشموله هنا للعبد (الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ) هذا مخرج من هذا العموم، بأي شيء؟ بالقياس، القياس المذكور.
فإذن صار عندنا مثال لتخصيص القياس بالقرآن، ومثال لتخصيص السنة بالقياس؛ يعني لكون القياس مخصصا للقرآن، ولكون القياس مخصصا للسنة.
هذه أمثلة لما ذكره فنعيد علينا كلامه لَيَكون فاتنا شيء.
نعيد بحث العام مهم، طبعا أكثر المخصصات التي يقال هذا عام وهذا خاص أكثرها من قبيل المخصصات المنفصلة؛ تخصيص القرآن بالقرآن، تخصيص القرآن بالسنة، تخصيص السنة بالقرآن، تخصيص السنة بالسنة، والسنة تنقسم إلى أقوال وأفعال، كذلك تخصيص العمومات من الكتاب والسنة بالمفاهيم، وتخصيصها بالقياس، كل هذا ذُكر وهي أمثلة مهمة.(44/143)
إذن نأخذ أمثلة كتطبيق لما ذكر؛ لأن بحث المحمل والمبين يحتاج إلى وقت، وعندنا بحث قبله وهو المطلق والمقيد أيضا.
طيب عندنا الآن أمثلة على العام والخاص؛ أمثلة تطبيقية:
قوله تعالى ?إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا?[التوبة:28] هنا هل في هذه الآية عموم أين هو؟ (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ) كل أنواع المشركين، طيب فيه دلالة ثانية؟ (إِنَّمَا) لا هذه (مَا) ليست موصولة (إِنَّمَا) حصر (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا) (يَقْرَبُوا) فيها عموم، فعل مضارع منفي، صحيح؟ يعني يعم جميع أنواع القرب، طيب (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا).
?وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً? هل في هذه عموم؟ (إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) نكرة في سياق الشرط فتعم جميع أنواع العيلة، (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) تعم جميع أنواع العيلة، طيب هذا واضح. طيب.(44/144)
قوله تعالى ?فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا?(1)، (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) هل فيه عموم؟ طيب، وِينْ النكرة؟ (تَجِدُوا) فعل مضارع، يعني نفى الفعل طيب، (لَمْ تَجِدُوا) لم لا تدخل إلا على الفعل المضارع، صحيح؟ والفعل المضارع قلنا يشمل المصدر الذي هو الحدث مع الزمن، والمصدر نكرة، فإذن صار نكرة في سياق النفي، صحيح؟ فتكون عامة، فتعم أحوال عدم الوجود، (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) يعم جميع أحوال عدم الوجود، أحوال عدم الوجود ما هي؟ هل الوجود له حالة واحدة أو أحوال؟ عدم الوجود له حالة أو أحوال؟ أحوال، ما هي؟ (لَمْ تَجِدُوا) ما وجد الماء حسا؛ فقده، غير موجود، أو ما وجد الماء؛ حبس عنه، هو يراه لكن هو محبوس عنه، أو ما وجد الماء حُكْمًا، مُو حقيقة؛ حكما، ولهذا المريض يتيمم، لما؟ ما الدليل؟ (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً)؛ لأنه هنا غير واجد للماء، داخل في العموم، لكن عدم وجدانه للماء هذا حكما، ولو كان واجدا له حسًّا، فإذن (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) هذا يشمل كل الأحوال عدم وجوده حقيقة، وعدم وجوده حكما. طيب.
مثلا في قوله تعالى ?يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ?[النساء:11] هل في الآية عموم؟ جمع مضاف وهذا يعم جميع الأولاد، صحيح؟ طيب هل هذا (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) يشمل إيش؟ ويش فيها في العموم ؟ يعني عام، عام في الأولاد جميعا، ما هي جهات الأولاد؟ لازم تتصور بعد العموم جهات العموم؛ يعني ما يدخل؛ ما شمله من الصور (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) يشمل الذكر والأنثى هذا واحد، الصغير والكبير هذا اثنين، المسلم والكافر، صحيح؟ هل هذا العموم باقي؟ هذا مما خص بالسنة، القرآن خص بالسنة في قوله «لا يرث كافر مسلما» فهنا خُص.
هذه تطبيقات طيبة.
هل عندك مثال أو نزيدكم أمثلة على المخصصات.
__________
(1) النساء:43، المائدة:6.(44/145)
طيب، قوله عليه الصلاة والسلام -مثلا في السنة- قوله عليه الصلاة والسلام «إذا قتل الولد أباه لم يرث» فهو مخرج من الآية (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ) يخرج من هذا؛ لأنه استعجل ؟؟؟ قبل أوانه، والقاتل لا يرث من المقتول شيء.
طيب، لو نأخذ مثال من السنة فيما قيل فيه العموم «اتّقُوا اللّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ»، طيب (وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ) أوش وجه العموم أولا؟ يعني اللفظ الذي دل على العموم؟ الأمر ما هو من صيغ العموم، (أَوْلاَدِكُمْ) هذه يعني يشمل جميع الأولاد الذكر والأنثى، الحاضر والغائب، الحمْل الموجود فعلا، والذي لم يأتِ، هذا يشمل الجميع، ولهذا اُستدل بالعموم -يعني استدل بع بعض العلماء– على أنه إذا أعطى الحاضرين شيئا ثم حَدَثَ له بعد ذلك ابن؛ حدث له ولد بعد ذلك أنه يساويه بالحاضرين يعطيه مرجّع؛ يعني يعطيه مثل ما أعطاهم، لأنه داخل في قوله (أَوْلاَدِكُمْ) (اتّقُوا اللّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ)، الذكر تخصيصه في بعض الأحوال هذا مُو تخصيص لأنه لا يخرج عن العدل قال (اتّقُوا اللّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ) فإذا أعطى أحد الأولاد لميزة فيه لا لتفضيل لغير، ميزة، وهذه الميزة يعنى بها الميزة الشرعية التي يؤذن بها، يؤذن فيها بالعطاء مثل أن يشتغل معه، أعطاه أكثر من أولاده، طالب علم أعطاه مما يعينه على طلب العلم، ونحو ذلك، فهذا خارج عن ذلك، لكن مُو خروج بالقياس، خروج لأنه داخل في ضمن العدل المأمور به، هذه مسألة ما لها دخل بالتخصيص.(44/146)
فيه مثال ثاني؟ طيب هذا ذكرناه، نعيده «لاَ صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ووش وجه العموم فيه؟ يعني لا النافية للجنس، يعم إيش؟ كل أنواع الصلاة التي هي الفرض والنفل، أيضا الجهرية والسرية، أيضا للإمام والمأموم والمنفرد، صحيح؟ (لاَ صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) هذه يعمها الجميع. طيب.
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة، هذا، صلى داخل الكعبة، هنا أوش جهة العموم؟ يعني فرض ونفل وُوش بعد؟ سرية وجهرية، هذا فعل وقلنا الأفعال لا عموم لها؛ لأنه هذه حالة واحدة، صلى هو أحد الحالات، صلى صلاة سرية وهي نافلة، والأفعال ليس بها عموم، وإنما العموم من عوارض الألفاظ من صفات النطق الذي مرّ معنا.
«فَلاَ يَجْلِسْ حَتّىَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ»، هذا عام؟ طيب وأين لفظ العموم؟ وين لفظ العموم؟ قبل ما تبحث قبل تفكيرك ويش العموم، أولا لفظه كيف استفدت العموم «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتّىَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ».(1)
(((((
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
5-(المجمل والمبين)
والمجمل : ما افتقر إلى البيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.
والنص: ما لا يحتمل إلا معنى واحدا وقيل ما تأويله تنزيله وهو مشتق من منصة العروس, وهو الكرسي.
6-(الظاهر والمؤول)
والظاهر : ما احتمل أمرين: أحدهما أظهر من الآخر . ويؤول.
الظاهر بالدليل , ويسمى (الظاهر بالدليل)
7-(الأفعال)
فعل صاحب الشريعة : لا يخلو إما أن يكون على وجه الفرية والطاعة, أو غير ذلك.
فإن دل دليل على الاختصاص به, يحمل على الاختصاص به, وإن لم يدل لا يخصص به : لأن الله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا, ومن أصحابنا من قال يحمل على الندب ومنهم من قال يتوقف عنه.
فإن كان على وجه غير القربة والطاعة, فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا.
__________
(1) انتهى الشريط الخامس.(44/147)
وإقرار صاحب الشريعة على القول الصادر من أحد, هو قول صاحب الشريعة, وإقراه على الفعل كفعله.
وما فعل في وقته في غير مجلسه, وعلمبه, ولم ينكره, فحكمه حكم ما فعل في مجلسه.
8-(النسخ)
وأما النسخ فمعناه لغة : الإزالة وقيل : معناه النقل من قولهم نسخت ما في هذا الكتاب أي نقلته .
وحده: هو الخطاب الدال على وقع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه, لولاه لكان ثابتا, مع تراخيه عنه.
ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم, ونسخ الحكم وبقاء الرسم, والنسخ بدل وإلى غير بدل وإلى ما هو أغلط, وإلى ما هو أخف.
ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب, ونسخ السنة بالكتاب ونسخ السنة بالسنة.
ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر منهما ونسخ الآحاد بالآحاد وبالتواتر ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد.
(تنبيه في التعارض): إذا تعارض نطقان, فلا يخلو: إما أن يكونا عامين، أو خاصين , أو أحدهما عاما والآخر خاصا , أو كل واحد منهما عاما من وجه , وخاصا من وجه.
فإن كانا عامين: فإن أمكن الجمع بينهما جمع , وإن لم يمكن الجمع بينهما يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ.
فإن علم التاريخ ينسخ المتقدم بالمتأخر , وكذا إذا كانا خاصين .
وإن كان أحدهما عاما والآخر خاصا , فيخصص العام بالخاص .
وإن كان أحدهما عاما من وجه وخاصا من وجه, فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر.
9-(الإجماع)
وأما الإجماع : فهو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة . ونعني العلماء والفقهاء ونعني بالحادثة :الحادثة الشرعية .
وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم (لاتجتمع أمتي على ضلالة), والشرع ورد بعصمة هذه الأمة.
والإجماع حجة على العصر الثاني ,وفي أي عصر كان ولا يشترط انقراض العصر على الصحيح .
فإن قلنا :انقراض العصر شرط فيعتبر قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار من أهل الاجتهاد فلهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم .
والاجماع يصح بقولهم وبفعلهم , وبقول البعض وبفعل البعض وانتشار ذلك وسكوت الباقين .(44/148)
وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره على القول الجديد.
10-(الأخبار)
وأما الأخبار : فالخبر ما يدخله الصدق والكذب. والخبر ينقسم إلى قسمين : آحاد ومتواتر فالمتواتر : ما يوجب العلم وهو أن يروي جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم , إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه . ويكون في الأصل عن مشاهدة أو سماع, لا عن إجتهاد.
والآحاد هو الذي يوجب العمل, ولا يوجب العلم . وينقسم إلى مرسل ومسند فالمسند: ما اتصل إسناده. والمرسل: ما لم يتصل إسناده. فإن كان من مراسيل غير الصحابة, فليس ذلك حجة إلا مراسيل سعيد بن المسيب لأنها فتشت فوجدت مسانيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والعنعنة تدخل على الأسانيد, وإذا قرأ الشيخ يجوز للراوي أن يقول حدثني أو أخبرني وإذا قرأ هو على الشيخ يقول: أخبرني ولا يقول حدثني.
وإن أجازه الشيخ من غير قراءة, أجازني أو أخبرني أجازة .
11 _(القياس)
وأما القياس: فهو رد الفرع إلى الأصل , بعلة تجمعها في الحكم .
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى قياس علة, وقياس دلالة,وقياس شبه.
فقياس العلة: ما كانت فيهموجبة للحكم .وقياس الدلالة :هو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر,وهو أن تكون العلة دالة على الحكم,ولاتكون موجبة للحكم.وقياس الشبه:وهو الفرع المتردد بين أصلين ,ولا يصار إليه مع إمكانما قبله.
ومن شرط الفرع أن يكون مناسبا للأصل .ومن شرط الأصل أن يكون ثابتا بدليل
متفق عليه بين الخصمين .
ومن شرط العلة أن تطرد معلولتها ,فلا تنتقص لفظا ولامعنى.
ومن شرط الحكم:أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات, أي في الوجود والعدم .فإن وجدت العلة وجد الحكم.والعلة هي الجالبة للحكم.
12_(الحظر والإباحة )(44/149)
وأما الحظر والإباحة:فمن الناس من يقول إن الأشياء على الحظر, إلا ما أباحته الشريعة.فإن لم يوجد في الشريعة مايدل على الإباحة, يتمسك بالأصل, وهو الحظر.ومن الناس من يقول بضده, وهو أن الأصل في الأشياء ,أنها على الإباحة,إلا ما حظره الشرع.
ومعنى استصحاب الحال الذي يحتج به:أن يستصحب الأصل, عند عدم الدليل الشرعي.
13-(ترتيب الأدلة)
وأما الأدلة : فيقدم الجلي منها على الخفي والموجب للعلم على الموجب للظن والنطق على القياس , والقياس الجلي على الخفي. فإن وجد فالنطق ما يفسر الأصل -يعمل بالنطق- وإلا فيستصحب الحال.
14-(شروط المفتي)
ومن شروط المفتي:أن يكون عالما بالفقه أصلا وفرعا,خلافا ومذهبا, وأن يكون كامل الأدلة في الاجتهاد ,عارفا بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام ,وتفسير الآيات الواردة فيها.
15_(شروط المستفتي)
ومن شروط المستفتي:أن يكون من أهل التقليد وليس للعالم أن يقلد, والتقليد قبول قول القائل بلا حجة.
فعلى هذا قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم يسمى تقليدا ومنهم من قال :قبول قول القائل , وأنت لاتدري من أين قاله.
فإن قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بالقياس فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليدا .
16-(الاجتهاد)
وأما الاجتهاد فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد في الفروع فأصاب فله أجران وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد.
ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب ولا يجوز كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب,لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة والمجوس والكفار والملحدين .
ودليل من قال:ليس كل مجتهد في الفروع مصيبا,قوله صلى الله عليه وسلم من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد.
ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ المجتهد تارة وصوبه تارة أخرى. ا.هـ(44/150)
شرح الأربعين النووية(/)
شرح متن الأربعين النووية
للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لمجده، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا، أن يجعلني وإياكم ممن يتحرّك لله، ويعمل لله، ويطلب العلم لله، ويتكلم ويعمل لله جل جلاله فـ«إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات, وإِنّمَا لِامْرِىءٍ ما نَوَى» وما من شك أن «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ» كما ثبت ذلك عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.(45/1)
وطلب العلم له أصوله، وله رتبُه، فمن فاته طلب العلم على رتبِه وأصوله، فإنه يحرم الوصول، وهذه مسألة كثيرًا ما نكررها رغبة في أن تَقَرَّ في قلوب طلبة العلم ومحبِّي العلم، ألا وهي: أنْ يُطلب العلم شيئًا فشيئًا على مر الأيام والليالي، كما قال ذلك ابن شهاب الزهري الإمام المعروف إذ قال: ”من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وإنما يُطلب العلم على مر الأيام والليالي“، وهذا كما تُدَرِّس صغيرًا أصول الكتابة، أو أصول نُطق الكلمات، فإنه لا بد أن يأخذه شيئًا فشيئًا، ثم إذا استمرّ على ذلك أحكم الكتابة، وأحكم النطق حتى تمكّن من ذلك، والعلم كذلك، فالعلم منه صِغار ومنه كِبار باعتبار الفهم وباعتبار العمل وباعتبار كون العلم من الله جل جلاله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس في العلم شيء سهل، كما قال مالك رحمه الله تعالى إذ قيل له: هذا من العلم السهل، قال: ليس في علم القرآن والسنة شيء سهل، وإنما كما قال الله جل وعلا { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } [المزمل:5]، فالعلم من أخذه على أنه ثقيل صعب أدركه، وأما من أخذ المسائل على أنها سهلة، وهذه سهلة، وهذه مُتصوّرة، وهذه مفهومة، ويمرّ عليها مرور السريع، فإن هذا يفوته شيء كثير.(45/2)
فإذًا لا بد لنا في طلب العلم من تدرج فيه، على أصوله، وعلى منهجية واضحة، ولا بد لنا أن نأخذ العلم على أنه ليس فيه شيء سهل؛ بل كلُّه ثقيل من حيث فهمُه، ومن حيثُ تثبيتُه، ومن حيث استمرارُه مع طالب العلم، فهو ثقيل لا بد له من مواصلة ومتابعة، فالعلم يُنسى إذا تُرِك، وإذا تواصل معه طالب العلم فإنه يبقى، وهذا يُعظِّم التبعة على طالب العلم في ألا يتساهل في طلبه للعلم، فلا يقولن قائل مثلا: هذا الكتاب سهل، وهذا المتن لما يشرح لأنه سهل واضح، أحاديث معروفة، فإن هذا يُؤتى من هذه الجهة، حيث استسهل الأصول وعُقَد العلم، وقد قال طائفة من أهل العلم: "العلم عُقَد وملح، فمن أحكم العقد سهل عليه العلم، ومن فاته حل العقد فاته العلم" وهذا إنما يكون بإحكام أصول العلوم.
وإذا ضبط طالب العلم المتون المعروفة في الحديث، وفي العلوم المختلفة، فإنه يكون مهيئًا للانتقال إلى درجات أعلى بفهمٍ وتأسيس لما سبق، فلهذا أحض جميع الإخوة وجميع طلاب العلم ممن يسمعون كلامي هذا؛ أحضهم على أن يأخذوا العلم بحزم، وألا يأخذوه على أن هذه المسألة مفهومة، وهذه سهلة، وهذه واضحة؛ بل إنّه يكرّر الواضح ليزداد وضوحًا، ويكرر المعلوم ليزداد به علما وهكذا.(45/3)
ونسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا الشرح الذي نبتدؤه هذه الليلة، أسأله جل وعلا أن يجعله شرحًا تامًّا مكَمَّلًا، وأن ينفع به الملقي والسامع، وأن يجعلنا فيه من المتبصِّرين الذين يقولون بعلم لا برأي أو هوى، ثم إن هذا الكتاب الذي سنعاني شرحه هو الأحاديث المختارة المعروفة بالأربعين النووية جمعها العلاّمة يحيى بن شرف النووي، ويُقال: النواوي أيضًا، وهو من علماء الشافعية البارزين وممن شرح كتبًا في الحديث، وكتبًا في الفقه، وأيضًا في لغة الفقهاء، وغير ذلك من العلوم، وأصل كتابه”الأربعون النووية“ أن ابن الصلاح رحمه الله تعالى جمع في مجالس من مجالس تدريسه للحديث، جمع الأحاديث الكلية التي يدور عليها علم الشريعة، فجعلها ستة وعشرين حديثًا، فنظر فيها العلاّمة النووي رحمه الله فزادها ستة عشر حديثًا، فصارت الأحاديث التي اختارها النووي ثنتين أو اثنين وأربعين حديثًا، فسُميت بالأربعين النووية تجوزًا، ثم زاد عليها الحافظ الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ثمانية أحاديث كُلِّيَّة أيضًا وعليها مدار فهم بعض الشريعة، فصارت خمسين حديثًا، وهي التي شرحها في كتابه المسمى ”جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم“.
وأصل هذه الأحاديث في اختيارها على أنها جوامع كلِم تدور عليها أمور الدين، فمنها ما يتصل بالإخلاص، ومنها ما هو في بيان الإسلام وأركانه، والإيمان وأركانه، ومنها ما هو في بيان الحلال والحرام، ومنها ما هو في بيان الآداب العامة، ومنها ما هو في بيان بعض صفات الله جل وعلا، وهكذا في موضوعات الشريعة جميعًا.(45/4)
فهذه الأحاديث الأربعين، وما يزيد عليها أيضًا، فيها علم الدّين كله، فما من مسألة من مسائل الدين إلا وهي موجودة في هذه الأحاديث؛ من العقيدة، أو من الفقه، وهذا يتبيَّن لمن طالع الشرح العجاب؛ شرح ابن رجب رحمه الله على الأربعين النووية، وعلى الأحاديث التي زادها ثم شرحها، فالعناية بها مهمّة؛ لأن في فهمها فهم أصول الشريعة بعامة، وقواعد الدين، فإن منها الأحاديث التي تدور عليها الأحكام كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى مفصلًا .(45/5)
الحديث الأول -
وعن أميرِ المؤمنين أبي حَفْصٍ عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ اِمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ».[رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النَّيسابوري في صحيحيهما الذين هما أصح الكتب المصنفة].
[الشرح]
هذا هو الحديث الأول؛ حديث عمر - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)، وهذا الحديث حديث عظيم، حتى قال طائفة من السلف ومن علماء الملة: ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم. ولهذا بدأ به البخاري رحمه الله صحيحَه، فجعله أوّل حديث فيه حديث «إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات, وإِنّمَا لِامرئٍ مَا نَوَى» بحسب اللفظ الذي أورده في أوله.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين، وقد قال الإمام أحمد: ثلاثة أحاديث يدور عليها الإسلام حديث عمر«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ»، وحديث عائشة«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وحديث النعمان بن بشير: «الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ».(46/1)
وهذا الكلام من إمام أهل السنة متين للغاية؛ وذلك: أنّ عمل المكلف دائر على امتثال الأمر، واجتناب النهي. وامتثال الأمر، واجتناب النهي هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشبَّهات، وهو القسم الثالث. وهذه الثلاث هي التي وردت في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - «الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» وفي رواية: «مشبّهات» والعمل لمن أراد أن يعمل، أو فِعل الأمر واجتناب النهي لا بد أن يكون بنية حتى يكون صالحًا. فرجع تصحيح ذلك العمل -وهو الإتيان بما فرض الله، أو الانتهاء عما حرّم الله- إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل صالحًا مقبولًا، ثم إنّ ما فَرض الله جل وعلا من الواجبات، أو ما شرع من المستحبات، لا بد فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح العمل، وهذا يحكمه حديث «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» كما في رواية مسلم للحديث.
فإذن هذا الحديث؛ حديث (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يُحتاج إليه في كل شيء؛ يحتاج إليه في امتثال الأوامر، وفي اجتناب النواهي، وفي ترك المشتبِهات، وبهذا يَعْظُم وَقْعُ هذا الحديث؛ لأن المرء المكلَّف في أي حالة يكون عليها ما بين أمر يأتيه؛ إما أمر إيجاب أو استحباب، وما بين نهي ينتهي عنه؛ نهي تحريم أو نهي كراهة، أو يكون الأمر مشتبهًا فيتركه، وكل ذلك لا يكون صالحًا إلا بإرادة وجه الله جل وعلا به وهي النية.
قوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) روي أيضًا في الصحيح «إِنَّمَا العَمَلُ بالنِّيَّة»، ورُوي «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّة» بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، فإنه إذا أُفرد العمل أو النية أريدَ بها الجنس، تتفق رواية الإفراد مع رواية الجمع.(46/2)
وقوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) هذا فيه حصر؛ لأنّ لفظ (إِنَّمَا) من ألفاظ الحصر عند علماء المعاني، والحصر يقتضي أن تكون الأعمال محصورة في النيات، ولهذا نظر العلماء ما المقصود بقوله (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) لأنه حصر الأعمال بالنيات؟:
1. فقال طائفة من أهل العلم وهو القول الأول: إن قوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يعني إنما الأعمال، وقوعُها مقبولة، أو صحيحة بالنية. و(وإِنّمَا لِامرئٍ مَا نَوَى) يعني وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه. فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يراد بها الثواب على العمل:
(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) الباء هنا للسببية، يعني إنما الأعمال تُقبل، أو تقع صحيحة بسبب النية، فيكون تأصيلًا لقاعدة عامة.
قال(وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) اللام هذه لام الملكية، يعني مثل التي جاءت في قوله تعالى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم:39]، (وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) يعني من ثواب عمله ما نواه.
هذا قول طائفة من أهل العلم.
2. والقول الثاني: أن قوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) هذا راجع إلى أن الباء سببية أيضًا، والمقصود بها سبب العمل لا سبب قَبوله، قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فقوله: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يعني: إنما الأعمال بسبب النيات، فما من عمل يعمله أحد إلا وله إرادة وقصد فيه وهي النية. فمنشأ الأعمال -سواء كانت صالحة أو فاسدة، طاعة أو غير طاعة- إنما منشؤها إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملًا، وكانت القدرة على إنفاذه تامّة، فإن العمل يقع، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام على هذا:(46/3)
(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يعني إنما الأعمال صُدورها وحصولها بسبب نية من أصدرها؛ بسبب إرادة قلبه وقصده لهذا العمل.
(وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) هذا فيه أن ما يحصل للمرء من عمله ما نواه نية صحيحة، يعني إذا كانت النية صالحة صار ذلك العمل صالحًا، فصار له ذلك العمل.
والقول الأول أصح؛ وذلك لأنّ تقرير مبعث الأعمال، وأنها راجعة لعمل القلب، هذا ليس هو المراد بالحديث، كما هو ظاهر من سياقه، وإنما المراد اشتراط النية للعمل، وأن النية هي المصححة للعمل، وهذا فيه وضوح؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) بيان لما تطلبه الشريعة، لا لما هو موجود في الواقع.
فلهذا نقول: الراجح من التفسيرين أن قوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يعني إنما الأعمال صحّة وقَبولًا أو فسادًا بسبب النيات، وإنما لامرئ من عمله ثوابًا وأجرًا ما نواه.
إذا تقرر هذا، فالأعمال ما هي؟ الأعمال جمع عمل، والمقصود به هنا ما يصدر عن المكلف، ويدخل فيه الأقوال، فليس المقصود بالعمل قسيم القول والاعتقاد، وإنما الأعمال هنا كل ما يصدر عن المكلف من أقوال وأعمال، قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح. فيدخل في قوله (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) كل ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل؛ قول اللسان، وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، فقوله (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يدخل فيها جميع أنواع ما يصدر من المكلف.
طبعًا هذا العموم عموم مراد به الخصوص؛ لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة أقسام:
¨ عام باقٍ على عمومه.
¨ وعام دخله التخصيص.
¨ وعام مراد به الخصوص، يعني أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.(46/4)
وهنا لا يدخل في الأعمال في قوله (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) لا يدخل فيها الأعمال التي لا تشترط لها النية مثل أنواع التُّروك، وإرجاع المظالم، وأشباه ذلك، تطهير النجاسة، وأمثال ذلك، يعني مما لا يشترط له النية؛ لأنه ترك ونحوُه.
والنية التي عليها مدار هذا الحديث، النية: قصد القلب وإرادته. وإذا قلنا: النية قصد القلب وإرادته علقناها بالقلب، فالنية إذًا ليس محلها اللسان ولا الجوارح، وإنما محلها القلب؛ نَوَى يعني: قصد بقلبه وأراد بقلبه هذا الشيء. فالأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده، فأي إرادة وقصد هذه؟ المقصود بها إرادة وجه الله جل وعلا بذلك؛ ولهذا في القرآن يأتي معنى النية بلفظ الإرادة والابتغاء وأشباه ذلك.
كما في قوله { يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه } [الروم:38] وكما في قوله { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } ([1])، { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الكهف:28] ونحو ذلك { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } [الشورى:20] يريد يعني: ينوي يطلب ويقصد، هذه هي النية { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } [الإسراء:19] هذه النية.
أو لفظ الابتغاء كقوله جل وعلا { إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } [الليل:20] وكما في قوله جل وعلا { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً } [النساء:114].
فإذن في النصوص يكثر ورود النية بلفظ:
أولًا: الإرادة؛ إرادة القلب.
ثانيًا: بلفظ الابتغاء.
أو بلفظ الإسلام؛ إسلام القلب والوجه لله جل وعلا.
والنية في كلام الله جل وعلا أو في الشريعة بعامة يُراد بها أحد معنيين:(46/5)
المعنى الأول: نية متجهة للعبادة،
والمعنى الثاني: نية متجهة للمعبود.
فالنية قسمان: نية متعلقة بالعبادة، ونية متعلقة بالمعبود.
¨ فأما المتعلقة بالعبادة: فهي التي يستعملها الفقهاء في الأحكام حين يأتون إلى الشروط، (الشرط الأول: النية) يقصدون بذلك النية المتوجهة للعبادة، وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض؛ تمييز الصلاة عن الصيام، تمييز الصلاة المفروضة عن النفل، يعني أن يميز القلب فيما يأتي ما بين عبادة وعبادة، أتى المسجد وأراد أن يركع ركعتين، ميّز قلبه هاتين الركعتين؛ هل هي ركعتا تحية المسجد، أو هل هي ركعتا راتبة؟ أو هل هي ركعتا استخارة؟ إلى آخره، فتمييز القلب ما بين عبادة وعبادة هذه هي النية التي يتكلم عنها الفقهاء في الكتب الفقهية، وهي النية المتوجهة للعبادة.
¨ القسم الثاني النية المتوجهة للمعبود: وهذه هي التي يُتحدث عنها باسم الإخلاص؛ إخلاص القصد، إخلاص النية، إخلاص العمل لله جل وعلا وهي التي تستعمل كثيرًا بلفظ النية والإخلاص والقصد.
فإذن هذا الحديث شمل نوعي النية: النية التي توجهت للمعبود، والنية التي توجهت للعبادة.
فـ (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يعني: إنما العبادات تقع صحيحة، أو مقبولة بسبب النية، يعني:
1. النية التي تميّز العبادة بعضها عن بعض أولا.
2. والنية التي هي إخلاص العبادة للمعبود وهو الله جل جلاله.
فلهذا لا يصلح أن نقول: النية هنا هي النية التي بمعنى الإخلاص، ونقول: إن كلام الفقهاء في النيات لم يدخل فيه الإخلاص، ولا القسم الثاني، فإن تحقيق المقام انقسام النية إلى هذين النوعين كما أوضحتُ لك.(46/6)
قال عليه الصلاة والسلام (وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) هذا حصر أيضًا، وإنما لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا لما نواه بعمله، فإن كان نوى بعمله الله والدار الآخرة -يعني أخلص لله جل وعلا مريدا وجه الله جل وعلا- فعمله صالح، وإن كان عمله للدنيا فعمله فاسد؛ لأنه للدنيا. وهذا كما جاء في آيات كثيرة إخلاص الدين لله جل علا { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [البينة:5] يعني: الدين يقع على نية الإخلاص، كما في قوله جل وعلا { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر:03]. وقد جاء في أحاديث كثيرة بيان إخلاص العمل لله جل وعلا كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث القدسي: «فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء».
وهذا يدل على أنّ العمل لا بد أن يكون خالصًا لله جل وعلا حتى يكون مقبولًا، ويؤجر عليه العبد، إذا وصلنا إلى هذا فمعناه أن من عمل عمَلًا، ودخل في ذلك العمل نية غير الله جل وعلا بذلك العمل، فإن العمل باطل لقوله: «من عمل عملًا أشرك فيه معيَ غيري تركته وشركه» «فهو للذي أشرك» « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
وهذا يحتمل أن يكون المراد بذلك العملِ العملَ الذي يكون في أصل العبادة، أو في أثناء العبادة، أو غيَّر نيته بعد العبادة، يحتمل هذا، أو تكون العبادة أيضا في بعضها لله، وفي بعضها لغير الله، فما المراد؟
قال العلماء: تحقيق هذا المقام أن:
العمل إذا خالتطه نية فاسدة، يعني رياء؛ نوى للخلق، أو سُمعة:(46/7)
- عليه السلام - فإنّه إنْ أنشأ العبادة للخلق فهي باطلة، يعني صلّى؛ دخل في الصلاة، لا لإرادة الصلاة؛ ولكن يريد أن يراه فلان، فهذه الصلاة باطلة وهو مشرك كما جاء في الحديث: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك» يعني حين أنشأ الصلاة الواحدة أنشأها يرائي، وإلا فإن إنشاء المسلم عباداته جميعًا على الرياء هذا غير متصور، وإنما يقع الرياء ربما في بعض عبادات المسلم؛ إما في أولها، وإما في أثنائها، وأما الرياء التام في جميع الأعمال فإنّ هذا لا يُتصور من مسلم، وإنما يكون من الكفار والمنافقين، كما قال جل وعلا في وصفهم { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء:142] وقوله في وصف الكفار { رِئَاءَ النَّاسِ } ([2]) يعني بهذا أن القسم الأول نية ابتدأ بها العبادة لغير الله، فهذه العبادة تكون باطلة؛ صلاته باطلة، صيامه باطل، وصدقته باطلة، نوى بالعمل غير وجه الله جل وعلا.
- القسم الثاني: أن يحدث تغيير النية في أثناء العبادة، وهذا له حالان:
الحال الأولى: أن يُبطل نيته الأصلية، ويجعل العبادة لهذا المخلوق، فهذا حكمه كالأول من أن العبادة فسدت؛ لأنه أبطل نيتها، وجعلها للمخلوق، فنوى في أثناء الصلاة أن الصلاة هذه لفلان، فتبطل الصلاة.(46/8)
الحال الثانية من هذا القسم: أن يزيد في الصلاة من لأجل رؤية أحد الناس، يعني: يراه أحد طلبة العلم، أو يراه والده، أو يراه كبير القوم، أو يراه إمام المسجد، فبدل أن يسبح ثلاث تسبيحات أطال في الركوع -والركوع عبادة لله جل وعلا- فأطال على خلاف عادته لأجل رؤية هذا الرائي. فهذا العمل الزائد الذي نوى به المخلوق يبطل؛ لأن نيته فيه لغير الله، و(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) لكن أصل العمل صالح؛ لأن هذه النية ما عرضت لأصل العمل، وإنما عرضت لزيادة في بعضه؛ أطال الصلاة، أو إمام أطال القراءة؛ لأنه حسَّن صوته لرؤية إلى الخلق، أو لأن وراءه فلان، أو نحو ذلك من الأعمال، فلا يبطل أصل العمل، وإنما ما زاد فيه لأجل الخلق يكون فيه مشركًا الشرك الأصغر، وهو الرياء والعياذ بالله، هذه الحالة الثانية من القسم الثاني.
صدق الله العظيم والحال الثالثة: أن يعرض له حب الثناء، وحب الذكر بعد تمام العبادة، عمِل العبادة لله، صلى لله، حفظ القرآن لله، وصام لله، صام النوافل لله جل وعلا مخلصًا، وبعد ذلك رأى من يُثني عليه، فسرّه ذلك، ورغب في المزيد في داخله، فهذا لا يَخْرِمُ أصل العمل؛ لأنه نواه لله، ولم يكن في أثنائه فيكون شركا، إنما وقع بعد تمامه، فهذا كما جاء في الحديث «تلك عاجل بشرى المؤمن أن يسمع ثناء الناس عليه لعبادته» وهو لم يقصد في العمل الذي عمله أن يثني عليه الناس.
هذه ثلاثة أحوال.
وإذا تقرر هذا فالأعمال التي يتعلق بها نية مع نيتها لله جل وعلا على قسمين أيضا:
الأول: أعمال يجب ألا يريد بها، وألا يعرض لقلبه فيها ثواب الدنيا أصلا، وهذه أكثر العبادات، وأكثر الأعمال الشرعية.(46/9)
والقسم الثاني: عبادات حض عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا، مثل صلة الرحم حضّ عليها الشارع بذكر ثواب الدنيا، فقال عليه الصلاة والسلام «من سره أن يُبْسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» فحضّ على صلة الرحم بذكر ثواب الدنيا: النسأ في الأثر، والبسط في الرزق، أو كقوله في الجهاد «من قتل قتيلا فله سَلَبُه» يعني ما عليه من السلاح، وما معه من المال أو كذا، يسلبه ويكون لهذا القاتل، فهذا حض على القتل بذكر ثواب دنيوي، فمن أراد الثواب الدنيوي هنا -في هذا القسم- مستحضرا ما حضَّ الشارع من العمل -يعني من هذه العبادة- وذكر فيه الثواب الدنيوي فإنه جائز له ذلك؛ لأن الشارع ما حضَّ بذكر الدنيا إلا إذْنٌ منه بأن يكون ذلك مطلوبا.
فإذًا من وصل الرحم يريد وجه الله جل وعلا ولكن يريد أيضا أن يُثاب في الدنيا بكثرة الأرزاق، وبالنسأ في الأثر، يعني: طول العمر، فهذا له ذلك، ولأجل أن الشارع حض على ذلك.
جاهد في سبيل الله يريد أيضا مغنما، ونيته خالصة لله جل وعلا لتكون كلمة الله هي العليا؛ ولكن يريد شيئا حض عليه أو ذكره الشارع في ذلك، فهذا قصده ليس من الشرك في النية؛ لأن الشارع هو الذي ذكر الثواب الدنيوي في ذلك.(46/10)
فإذًا تنقسم الأعمال إلى عبادات ذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وإلى عبادات لم يذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وهذا كما جاء في قول الله جل وعلا { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } [هود:15] الآية. فهذه المسألة مهمة. فإذا تقرر أنه لا يكون مشركًا بذلك، فهل من نوى الدنيا بصلة الرحم مثلا مع نيته لله مساوٍ لمن لم يَنْوِ الدنيا إنما جعلها خالصة لله؟ لا؛ يختلف الأجر؛ لكن لا يكون مرائيًا، ولا مشركًا بذلك، فمن كانت نيته خالصة لله جل وعلا فأجره أعظم، لهذا لما سئل عدد من الأئمة من السلف والإمام أحمد وجماعة عَن مَن جاهد للمغنم ونيته خالصة لله؟ قال: أجره على قدر نيته، لم يبطل عمله أصلًا، لم يبطل السلف العمل أصلًا، وإنما جعلوا التفاوت بقدر النيات. فكلما عظمت النية لله في الأعمال التي فيها ذِكر الدنيا، وذَكر الشارع عليه ثواب الدنيا، فإنه كلما عظمت النية الخالصة كلما عظم أجره([3])، وكلما نوى الدنيا مع صحة أصل نيته قل أجره يعني: عن غيره.
هنا قال عليه الصلاة والسلام (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ) طبعًا الحديث: تفاصيل الكلام في النية، ودخول النية في أبواب كثيرة من العبادات، هذا يطول عليه الكلام جدًّا، وصنفت مصنفات في هذا، وشروح كتب الأحاديث أطالت في شرح هذا الحديث، وإنما نذكر في شرحنا لهذه الأربعين النووية قواعد وتأصيلات متعلقة بشرح الحديث، كما هي العادة في مثل هذه الشروح المختصرة لهذه الكتب المهمّة.(46/11)
قال (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ) الفاء هذه تفصيلية؛ تفصيل لمثال من الأعمال التي تكون لله وتكون لغير الله، ذكر مثالاً (الهجرة) قال (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ اِمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ). الهجرة معناها: التّرك، هَجَرَ يعني تَرَكَ، وأصل الهجرة هجرة إلى الله جل وعلا وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ هجرة إلى الله جل وعلا بالإخلاص وابتغاء ما عنده، والهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباعه عليه الصلاة والسلام والرغبة فيما جاء به عليه الصلاة والسلام.(46/12)
ومن آثار ذلك، الهجرة الخاصة التي هي ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ) يعني من كان ترْكه لبلد الشرك إلى بلد الإسلام (إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ)، هذا فيه تكرير للجملة (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ)، والمتقرر في علوم العربية أن الجمل إذا تكررت في تَرَتُّب الفعل والجزاء فإن شرط الفعل يختلف عن شرط الجزاء؛ فلهذا نقول: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ نية وقصدا، فَهِجرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِه ثوابًا وأجرًا، فما تعلق بالفعل النية والقصد، وما تعلق بالجواب الأجر والثواب، وهذا فيه نوع من أنواع البلاغة، وهو أنّ عمله جليل عظيم بحيث يُستغنى لبيان جلالته وعظمه عن ذكره؛ لأنه من الوضوح والبيان بحيث لا يحتاج إلى ذكره، فقال عليه الصلاة والسلام (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ) هذا تعظيم، ورفع لهذا العمل، وهو أن تكون الهجرة إلى الله ورسوله، يعني نية وقصدًا وتعظيما للثواب والأجر بقوله (فَهِجرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ) ثوابًا وأجرًا، يعني حدِّث عن ثوابه وعظِّم ذلك.(46/13)
ثم بين الصنف الثاني فقال: (وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ اِمْرَأَةٍ يتزوجها)، (لِدُنْيَا يُصِيبُهَا) هذا حال التاجر الذي هاجر لكي يكسب مالًا، أو هاجر ليكسب زوجة أو امرأة، فهذا (هِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ). وقوله عليه الصلاة والسلام (وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا) هذه النية يعني هاجر؛ العمل الظاهر يشارك فيه من هاجر إلى الله ورسوله لكن نيته أنّه في هجرته يريد التجارة، أو يريد أن يتزوج امرأة فنيته فاسدة، قال (فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ) يعني من حيث أنّه لا ثواب له فيها ولا أجر، وقد يكون عليه فيها وزر.
والهجرة:-كما ذكرتُ لك- ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو ترْك بلد تظهر فيه البدعة إلى بلد لا تظهر فيه البدعة وإنما تظهر فيه السّنة, أو -القسم الثالث- ترك بلد تظهر فيه الفواحش والمنكرات إلى بلد تقل فيه الفواحش والمنكرات ظهورا. وهذه كل واحدة منها لها أحكام مذكورة في كتب الفقه بالتفصيل.(46/14)
الحديث الثاني -
وعن عمر - رضي الله عنه - أيضا قال: بينما نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ, إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثّيَابِ, شَدِيدُ سَوَادِ الشّعَرِ, لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السّفَرِ, وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنّا أَحَدٌ, حَتّى جَلَسَ إِلَى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -. فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ, وَوَضَعَ كَفّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وقال: «يا مُحَمَّدُ؛ اَخْبِرْنِي عَنِ الإسلام» فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - «الإِسْلاَمُ أنْ تَشْهَدَ أَن لا إلَهَ إلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله، وَتُقِيمَ الصَلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا»، قال «صَدَقْتَ». فعجبنا له: يسأله ويُصَدِّقُه! قال «فأخبرني عن الإيمان؟»، قال«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ»، قال: «صدقت». قال «فأخبرني عن الإحسان؟»، قال «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ». قال «فََأَخْبِرِْني عَنْ السَّاعة؟» قال «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قال «فََأَخْبِرِْني عَنْ أَمَارَاتِهَا؟» قال «أَنْ تَلِِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاَةََ الْعُرَاةَ الْعَالَةََ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ». ثُمّ انْطَلَق. فَلَبِثتُ مَلََََََََِيا، ثمّ قال«يَا عُمَرُ, أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلَم. قال «هَذَا جِبْرِيلُ, أَتَاكُمُ يُعَلِمُكُمْ ِدينَكُمْ» [رواه مسلم].
[الشرح](47/1)
هذا الحديث حديث عظيم أيضًا، سماه بعض أهل العلم أم السّنة، يعني كما في القرآن أم القرآن، فهذا الحديث أم السنة؛ لأن جميع السنة تعود إلى هذا الحديث؛ فإن الحديث فيه بيان العقيدة، والعقيدة مبنية على أركان الإيمان الستة، وفيه بيان الشريعة، وذلك بذكر أركان الإسلام الخمسة، وفيه ذكر الغيبيات والأمارات؛ بل قبل ذلك فيه ذكر آداب السلوك، والعبادة، وصلاح توجُّه القلب، والوجه إلى الله جل وعلا بذكر الإحسان، وفيه ذكر الساعة وأماراتها، وهذا نوع من ذكر الأمور الغيبية ودلالات ذلك. فهذا الحديث يعود إليه جلّ السّنة، كما أن قول الله جل وعلا في آية النحل { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النحل:90]، قال طائفة من مفسري السلف: دخل في هذه الآية جميع أحكام الدين. جميع الدين في هذه الآية، وجميع أصول الأحاديث النبوية في هذا الحديث.
وهذا الحديث هو معروف بحديث جبريل، وروايته على هذا الطول عن عمر - رضي الله عنه -، ورُوي أيضًا مقطعًا ببعض الاختصار في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وهذا الحديث فيه ذكر الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه أن هذه الثلاثة هي الدين؛ لأنّه في آخرها قال عليه الصلاة والسلام (أَتَاكُمُ يُعَلِمُكُمْ ِدينَكُمْ).(47/2)
فإذن الدين الذي هو الإسلام منقسم إلى ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وهذا نخلص منه إلى قاعدة مهمة وهي: أن الاسم العام قد يندرج فيه أنواع منها الاسم العام؛ لأن الإسلام هو الدين فجمع هذه الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان؛ فالإسلام منه الإسلام، وهذا مهم في فهم الشريعة بعامة؛ لأن من الألفاظ ما يكون القسم هو اللفظ ذاته، يعني أحد الأقسام هو اللفظ ذاته، وله نظائر، إذا وجد هذا فالاسم العام غير الاسم الخاص، ولهذا نقول الاسم العام للإسلام يشمل الإسلام والإيمان والإحسان، وليس هو الاسم الخاص إذا جاء مع الإيمان ومع الإحسان؛ لهذا لم يلحظ هذا الأمر طائفة من أهل العلم، فجعلوا الإسلام والإيمان واحدا، ولم يفرقوا بين الإسلام والإيمان حتى عزا بعضهم هذا القول لجمهور السلف، وهذا ليس بصحيح، فإن السلف فرقوا ما بين الإسلام والإيمان إذا كان الإسلام والإيمان في مورد واحد، وأما إذا كان الإسلام في مورد والإيمان في مورد؛ يعني هذا في سياق وهذا في سياق، هذا في حديث وهذا في حديث، فالإسلام يشمل الدين جميعًا، والإيمان يشمل الدين جميعًا، فإذًا هذا الحديث فيه بيان الإسلام بمراتبه الثلاث.
(إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثّيَابِ, شَدِيدُ سَوَادِ الشّعَرِ) في هذا مدح لهذه الصفة وإحداهما مكتسبة والأخرى جِبلية، أما شدة سواد الشعر فهذه جبلية لا تكتسب، ولا يجوز أن يصبغ بالسواد لمن ليس بذي سواد، وأما شدة بياض الثياب فسياق هذا الحديث يقتضي مدح من كان على هذه الصفة، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب الثياب البيض، وكان يلبسها، وأمر بتكفين الموتى فيها عليه الصلاة والسلام.(47/3)
قال (وَلاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السّفَرِ) يعني أنه لا يعرفونه في المدينة، وأتى بهذه الصفة الجميلة شدة سواد الشعر، (ليس عليه) يعني فيه أثر غبار أو تراب، وعادة المسافر أن يكون كذلك، وأيضا (شَدِيدُ بَيَاضِ الثّيَابِ) كأنّه خرج من بيته في نظافة أهله الساعة، فكيف يكون ذلك؟ فإذًا في قوله (لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السّفَرِ) إشعار بأنه مستغرب أن يكون على هذه الصفة لهذا قال بعدها (وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنّا أَحَدٌ)، وقد جاء في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام كان ربما أتاهم على صورة دحية الكلبي -أحد الصحابة-، فيسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجيب، وهذا غير مراد هنا؛ لأنه لا يتوافق مع قوله (وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنّا أَحَدٌ) خلافًا لمن قال غير ذلك.
وهذا فيه التعليم، فإنّ جبريل عليه السلام أتى متعلمًا ومعلمًا؛ متعلمًا من جهة الهيئة والسؤال والأدب، ومعلمًا حيث سأل لأجل أن يستفيد الصحابة رضوان الله عليهم وتستفيد الأمة من بعدهم.
قال (فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ, وَوَضَعَ كَفّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ):
(أَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ) الضمير الأول يرجع إلى جبريل، والثاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا فيه القرب من العالم، القرب من المسؤول حتى يكون أبلغ في أداء السؤال بدون رُعونة صوت ولا إيذاء، وأفهم للجواب.
(وَوَضَعَ كَفّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) هذه قيل فيها تفسيران:
(وَوَضَعَ كَفّيْهِ) يعني جبريل، (عَلَى فَخِذَيْهِ) يعني على فخذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا ذلك لأجل أن تكون الضمائر راجعة على نحو ما رجعت عليه الجملة الأولى؛ لأن توافق الرجوع أولى من تعارضه بلا قرينة.
وقال آخرون: لا، (ووَضَعَ كَفّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) هذه على فخذي جبريل أيضًا، يعني وضع كفي نفسه على فخذي نفسه، وهذا أدب منه أمام مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -.(47/4)
في هذا أنّ طالب العلم ينبغي له أن يكون مهيِّئا نفسَه، ومهيِّئا المسؤول للإجابة على سؤاله في حسن الجِلسة، وفي حسن وضع الجوارح، وفي القرب منه، وهذا نوع من الأدب مُهم، فإنّ سؤال طالب العلم للعالم، أو سؤال المتعلم لطالب العلم له أثر في قَبول العالم للسؤال، وفي انفتاحه للجواب. قد ذُكر في آداب طلب العلم، وفي الكلام عليه أنّ بعض العلماء من علماء السّلف كانوا ينشطون لبعض تلاميذهم فيعطونهم، وبعضهم لا ينشطون له فيعطونه بعض الكلام الذي يكون عامًّا، أو لا يكون مكتملاً من كل جهاته، وذلك راجع إلى حسن أدب طالب العلم أو المتعلم، فإنّه كلما كان المتعلم أكثر أدبًا في جلسته، وأكثر أدبًا في لفظه، وفي سؤاله كلما كان أوقع في نفس المسؤول؛ فيحرص ويتهيأ نفسيًّا لجوابه؛ لأنه مَن احْتَرَم احْتُرِم، ومن أَقبل أُقبل عليه، فهذا فيه أن نتأدب جميعًا بهذا الأدب؛ فمثلاً ألحظ على بعض طلاب العلم، أو بعض المتعلمين أنه إذا أتى يسأل العالم يسأله بِنِدِّية لا يسأله على أنّه يستفيد، فيجلس جلسة العالم نفسه، أو يجلس جلسة المستغني، ويداه في وضع ليس في وضع أدب؛ واحدة هنا والأخرى هناك، وجسمه أيضًا يعني في استرخاء تام ليس فيه الاستجماع، ونحو ذلك مما يدل على أنه غير متأدب مع العالم، أو طالب العلم الذي سيستفيد منه. وهذه الآداب لها أثر على نفسية العالم أو المجيب، فإنك تريد أن تأخذ منه العلم، وكلما كنت أذلّ على الوجه الشرعي في أخذ العلم، كلما كان العالم أكثر إقبالًا عليك؛ ولهذا تجد أنَّ مِنْ؛ بل أكثر أهل العلم لهم خواص، هذا من خاصته، هذه الخصوصية راجعة إلى إيش؟ راجعة إلى أن هذا المتعلم كان متأدبًا في لفظه، وفي تعامله، وفي كلامه، وفي حركته مع شيخه، مما جعل شيخه يثق فيه، ويقبل عليه في العلم، ويعطيه من العلم ما لا يعطيه غيره، ويعطيه من تجاربه في الحياة وتجاربه مع العلم ومع العلماء، وفي الأمور، وفي الواقع بما لا يفيده غير(47/5)
المتأدب معه. فهذه نأخذها من حديث جبريل عليه السلام هذا، ونأخذها أيضًا، من قصة الخضر مع موسى في سورة الكهف، وهي حَرِيَّة بالتأمل في آداب طلب العلم.
قال (يا مُحَمَّدُ؛ اَخْبِرْنِي عَنِ الإسلام)، (اَخْبِرْنِي عَنِ الإسلام) هذا سؤال عن نوع من أنواع الدين ألا وهو الإسلام المتعلق بالأعمال الظاهرة، فسأل عن الإسلام، ثم سأل عن الإيمان، ثم سأل عن الإحسان، إلى آخره. فقال (يا مُحَمَّدُ؛ اَخْبِرْنِي عَنِ الإسلام)، وفي قوله (اَخْبِرْنِي) فيه دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُخبِر، يعني أنه ينقل أيضًا الخبَرَ عن الإسلام، وهذا موافق لما هو متواتر في الشريعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو مُبَلِّغ؛ مُبَلِّغ للدين عن الله جل وعلا، قال(اَخْبِرْنِي) يعني اجعل كلامك لي خَبَرَا، فأخبرني بذلك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا مخبر عن ربه جل وعلا في ذلك، كما جاء في بعض الأحاديث القدْسية قد قال عليه الصلاة والسلام فيما يُخْبِر به عن ربه جل وعلا.
قال (الإِسْلاَمُ أن تَشْهَدَ أَن لا إلَهَ إلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله) إلى آخره، هذا التفسير للإسلام تفسير للأركان الخمسة المعروفة التي سيأتي إن شاء الله بعض بيانها في حديث ابن عمر الثالث الذي نشرحه غدا إن شاء الله.(47/6)
فقال (الإِسْلاَمُ أن تَشْهَدَ أَن لا إلَهَ إلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله) وهذا ركن واحد، (وَتُقِيمَ الصَلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا. فقال «صَدَقْتَ».) الإسلام هنا فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأعمال الظاهرة، ولم يجعل فيه الأعمال الباطنة أو بعض الأعمال الباطنة، ومعنى هذا أن الإسلام استسلام ظاهر، وهذا الاستسلام الظاهر يُخْبَرُ عنه بالشهادتين وبإقامة الأركان العملية الأربعة، والشهادة في نفسها لفظ فيه الاعتقاد، والتحدّث، والإخبار الذي هو الإعلام، وعلى هذا فسر السلف كلمة شَهِدَ، فقوله جل وعلا { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } [آل عمران:18] (شَهِدَ اللَّهُ) معناه هل الله يشهد؟ بمعنى أي شيء؟ يشهد بمعنى يعلم ويخبر. فإذًا شهادة المسلم بأن لا إله إلا الله لا تستقيم مع كتمانه هذه الشهادة، فمن شهد ذلك بقلبه ولم يظهر هذه الشهادة دون عذر شرعي فإنه لا شهادة له؛ بل لا بد في الشهادة من حيث اللفظ الذي دلت عليه اللغة، وأيضًا من حيث الدليل الشرعي لا بد فيها من الإظهار، وهو الموافق لمعنى الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة.
فإذًا دخول الشهادتين في الإسلام الذي هو الأعمال الظاهرة راجع لمعنى الشهادة، وهو أن معنى الشهادة الإظهار -يعني بعد الاعتقاد- الإظهار والإعلام والإخبار، وهنا يأتي الاعتقاد؛ اعتقاد الشهادتين يرجع إليه؛ لأنه في معنى شَهِدَ، يرجع إليه أركان الإيمان جميعًا.(47/7)
ولهذا نقول الإسلام هو الأعمال الظاهرة، ولا يصح إلا بقدر مصحِّحٍ له من الإيمان، وهو الإيمان الواجب بالأركان الستة؛ فالإيمان الواجب يعني أقل قدر من الإيمان به يصبح المرء مسلمًا، هذا مشمول في قوله (أن تَشْهَدَ أَن لا إلَهَ إلاَّ الله)؛ لأن الشهادة معناها الاعتقاد والنطق والإخبار والإعلام، تشمل ثلاثة الأمور هذه، فالاعتقاد يرجع إليه أركان الإيمان الستة.
فنخلص من هذا إلى أنّ الإسلام -وإن قال أهل العلم فيه: إن المراد به هنا الأعمال الظاهرة- فإنه لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان مصحح له، وهذا القدر من الإيمان دلنا على اشتراطه لفظ (أن تَشْهَدَ) لأن لفظ الشهادة في اللغة والشرع متعلق بالباطن والظاهر.
والاعتقاد في الشهادتين بـ(أنْ لا إلَهَ إلاَّ الله)، هذا هو الإيمان بالله، وبـ(أَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله) يرجع إليه الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما أخبر به عليه الصلاة والسلام من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والإيمان باليوم الآخر، والقدر خيره وشره.(47/8)
الإيمان فسّره النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل بالاعتقادات الباطنة، وهذا الفرق بين المقامين لأجل وردوهما في حديث واحد، فالإسلام إذا اقترن مع الإيمان رجع الإسلام إلى الأعمال الظاهرة ومنها الشهادتان، ورجع الإيمان إلى الأعمال الباطنة، وإذا أُفرد الإسلام فإنه يراد به الدين كله، وهو الذي منه قسم الإسلام هذا، وإذا أُفرد الإيمان فإنه يراد به الدين كله بما فيه الأعمال، ولهذا أجمع السلف والأئمة على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وعلى أن الإيمان قول وعمل؛ يعني قول وعمل واعتقاد، يعني إذا أُفرد، وهذا هو الذي عليه عامة أهل العلم من أهل السنة والجماعة في أنّ الإسلام غير الإيمان، وأن الإيمان إذا جاء مستقلاً عن الإسلام فإنه يُعنى به الدين كله؛ يعنى به الإسلام والإيمان والإحسان، وإذا أتى الإسلام في سياق مستقل عن الإيمان يُعنى به الدين كله، وأن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا من حيث الدِّلالة، فجُعل الإسلام للأعمال الظاهرة، وجُعل الإيمان للاعتقادات الباطنة.
من أهل العلم من السلف أيضًا، من رأى أن الإسلام والإيمان واحد، وهذا كما ذكرت لك غير صحيح، ومنهم أيضًا رأى أن الإسلام والإيمان يختلفان ولو تفرقا أيضًا، ولكن الصحيح أن الإسلام إذا اجتمع مع الإيمان صار الإسلام كما ذكرت لكم للأعمال الظاهرة والإيمان للاعتقادات الباطنة، كما دلّ عليه حديث جبريل هذا.
نقول الإيمان عند أهل السنة والجماعة يزيد وينقص مع أنه متعلق بالاعتقادات، والإسلام عند أهل السنة والجماعة لا يطلقون العبارة بأنه يزيد وينقص مع أنه متعلق بالعمل الظاهر، فكيف يكون هذا؟ وَضَح الإشكال؟ الإيمان يعلقونه بالاعتقادات الباطنة، ويقولون يزيد وينقص، والإسلام في الأعمال الظاهرة ولا يقولون فيه إنه يزيد وينقص.(47/9)
والجواب عن هذا الإشكال: أن الإيمان إذا أريد به عامة أمور الدين، كما جاء في حديث مثلاً وفد عبد القيس حيث قال لهم عليه الصلاة والسلام «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» ثم ذكر أمور الإيمان، وقال «أن تؤدوا الخُمُس من المغنم» وهذا نوع من الأعمال. فإذًا الأعمال باتفاق السلف داخلة -يعني من أهل السّنة- داخلة في مسمّى الإيمان، وإذا كان كذلك، فإذا قالوا الإيمان يزيد وينقص، فإنه يرجع في هذه الزيادة إلى الاعتقاد ويرجع إلى الأعمال الظاهرة، وهذا يعني أنّ الإسلام يزيد وينقص؛ لأنّ الإيمان الذي يزيد وينقص إيمان القلب وإيمان الجوارح، وإيمان القلب اعتقاده بقوة إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا الناس ليسوا فيه سواء بل يختلفون؛ منهم من إيمانه كأمثال الجبال، ومنهم من هو أقل من ذلك، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأعمال الظاهرة التي هي من الإيمان تزيد أيضًا وتنقص، فكلما زادت زاد إيمان العبد، وكلما نقصت نقص إيمان العبد، وينقص الإيمان بالمعصية أيضًا، ويزيد بترك المعصية.
بعض أهل العلم أيضا يقول الإسلام أيضًا يزيد وينقص، على اعتبار أن الإسلام هو الإيمان في دلالته على الاعتقاد والعمل، أو في دلالته على الأعمال الظاهرة، فإن الأعمال الظاهرة أيضًا يزيد معها الإسلام ويزيد معها الإيمان، كيف يزيد معها الإسلام؟ لأن الإسلام استسلام. ما الإسلام؟ الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. فالإسلام فيه استسلام لله بالتوحيد، وهذا تدخل فيه الشهادتان، فهذا إذًا يزيد الناس فيه وينقص استسلامهم لله بالتوحيد مختلف يتفاوتون فيه، والانقياد بالطاعة أيضًا يتفاوتون فيه.(47/10)
إذن من أطلق هذا القول فلا يغلط، وقد أطلقه مرة شيخ الإسلام ابن تيمية؛ ولكن القول المعتمد عند السلف أنهم يعبرون في الزيادة والنقصان عن الإيمان دون الإسلام؛ لأن في ذلك مخالفة للمرجئة الذين يجعلون الإيمانَ الناسُ في أصله سواء، يعني في اعتقاد القلب، وإنما يتفاوت الناس عندهم بالأعمال الظاهرة.
فتقيد السلف بلفظ الإيمان يزيد وينقص، خلافًا للمرجئة الذين جعلوا الزيادة والنقصان في الأعمال الظاهرة دون اعتقاد القلب، وعندهم اعتقاد القلب الناس فيه سواء، كما يعبرون عنه بقولهم وأهله في أصله سواء.
فيعبرون عن الإيمان بأنه هو الذي يزيد وينقص دون الإسلام لهذا، فتأخذ بتعبيرهم ولا تطلق العبارة الأخرى؛ لأنها غير مستعملة عندهم مع أنها إن أطلقت فهي صحيحة إن احتيج إليها.
(قال «صَدَقْتَ») يعني في جوابه عن مسألة الإسلام، وهذا فيه عجب أن يسأل ويُصدِّق، وهذا فيه لفت الانتباه؛ انتباه الصحابة إلى هذه المسائل، كيف يسأل ويصدق؟ فالمتعلم إذا أتى بأسلوب في السؤال يلفت النظر ليستفيد البقية مع علم المسؤول فإنّ هذا حسن ليستفيد منه الآخرون؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف أن هذا جبريل، وتصديقه له دال على هذا بوضوح. ففي هذا أن المتعلم يأتي للعالم بمعرفته بما يسأل لإفادة غيره، وأن هذا أسلوب حسن من أساليب التعليم الشرعية.(47/11)
(قال فعجبنا له يسأله ويُصَدِّقُه! قال «فأخبرني عن الإيمان»، قال«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِرْ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ») ذكر أركان الإيمان الستة، وهذه الأركان جاءت في القرآن أيضًا، منها خمسة؛ المتتابعة، جاءت في قول الله جل وعلا { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [البقرة:258] هذه أربعة. وقوله { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [البقرة:177] وكما في قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } [النساء:136]، وفي القدر جاء قوله جل وعلا { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [البقرة:49] يعني أن أصول هذه الأركان جاءت أيضًا في القرآن.
وهذه الأركان الستة هي التي عُبر عنها بأركان الإيمان، والخمسة التي قبلها بأركان الإسلام.(47/12)
أركان الإيمان، ما معنى كونها أركانا؟ نلحظ مسألة مهمة ينبغي لكم أن تنتبهوا لها: أن لفظ أركان الإسلام، ولفظ أركان الإيمان لم يرد في شيء من النصوص؛ لم يرد أن للإيمان أركانا، ولا أن للإسلام أركانا، وإنما عبر العلماء بلفظ الركن اجتهادًا من عندهم. وإذا كان كذلك فينبغي أن تُفهم النصوص على ضوء هذا الأصل، وهو أن التعبير عن هذه بالأركان إنما هو فهم لأهل العلم في أن هذه هي الأركان -وفهمهم صحيح بلا شك- لأن الركن هو ما تقوم عليه ماهية الشيء؛ فالشيء لا يُتصور قيامه إلا بوجود أركانه، فمعنى ذلك أنه إذا تخلف ركن من الأركان ما قام البناء، فإذا تخلّف الإيمان بالقدر ما قام بناء الإيمان أصلاً، إذا تخلف ركن الإيمان باليوم الآخر ما قام البناء؛ لأن الركن في التعريف الاصطلاحي هو ما تقوم عليه ماهية الشيء، فإذا تخلف ركن لم يقم الشيء أصلًا، يعني لم يقم الشيء وجودا شرعيًّا؛ لأن قيامه مبني على تكامل أركانه.
وهذا يورد علينا إشكالا وهو: أنّه في الإسلام قيل هذه هي أركان الإسلام الخمسة، والعلماء لم يتفقوا على أن من ترك الحج والصيام جميعًا من أركان الإسلام أنه ليس بمسلم، واتفقوا على أنه من ترك ركنًا من أركان الإيمان فإنه ليس بمؤمن أصلًا، وهذا يرجع إلى أن اصطلاح الركن اصطلاح حادث.(47/13)
فينبغي أن تفهم خاصة في مسائل الإيمان والإسلام والتكفير وما يتعلق بها أن العلماء أتوا بألفاظ للإفهام، فهذه الألفاظ التي للإفهام لا تُحكَّم على النصوص، وإنما النصوص التي تُحكّم على ما أتى العلماء به من اصطلاحات، يعني أن نفهم الاصطلاحات على ضوء النصوص، وأن نفهم النصوص على ضوء الاصطلاحات، فإذا صار الاصطلاح صحيحًا من جهة الدليل الشرعي رجعنا في فهم الدليل الشرعي للاصطلاح ففهمنا ذلك، وهذا يتضح ببيان أركان الإسلام، فإنّه لو تخلف ركنان من أركان الإسلام، تخلف الحج مثلا والصيام، فإنّ أهل السنة والجماعة ما اتفقوا على أن من لم يأتِ بالحج والصيام فإنه ليس بمسلم؛ بل قالوا: هو مسلم؛ لأنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ ولأنه أقام الصلاة مثلا، واختلفوا فيما عدا ذلك من الأركان فيما إذا تركها، يعني ولم يأتِ بها دون جهد لها مع أنه تخلف عنه ركن أو أكثر.
وهذا يعني أنّه في فهم أركان الإسلام، نجعل هذه الأركان تختلف في تعريف الركن عن فهم أركان الإيمان، فنقول في أركان الإسلام: يُكتفى في الإسلام بوجود الشهادتين والصلاة، وفي غيرهما خلاف، وأما في أركان الإيمان فمن تخلف منه ركن من هذه الأركان فإنه ليس بمؤمن هذا من حيث التأصيل. فإذًا نقول يمكن أن يسمى مسلمًا ولو تخلف عنه بعض أركان الإسلام، ولا يصح أن يسمى مؤمنًا إن تخلف عنه ركن من أركان الإيمان.
إذا تقرّر هذا فأركان الإيمان الستة هذه فيها قدر واجب لا يصح إسلام بدونه؛ قدر واجب على كل مكلف، من لم يأت به فليس بمؤمن، وهناك قدر زائد على هذا تبعا للعلم، أو تبعا لما يصله من الدليل.
فما هو القدر المجزئ وهو الذي من لم يأتِ به صار كافرًا؟ فهذا هناك قدر مجزئ في الإيمان بالله، قدر مجزئ في الإيمان بالرسل، قدر مجزئ في الإيمان بالكتب، وقدر مجزئ في الإيمان باليوم الآخر والقدر، إلى آخره.
أما الإيمان بالله فهو ثلاثة أقسام:(47/14)
1. إيمان بالله بأنه واحد في ربوبيته.
2. وإيمان بالله بأنه واحد في ألوهيته؛ يعني في استحقاقه العبادة.
3. وإيمان بالله يعني بأنه واحد في أسمائه وصفاته لا مثيل له سبحانه وتعالى?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11].
القدر المجزئ من الأول أن يعتقد أن الله جل جلاله هو ربّ هذا الوجود، يعني أنه هو الخالق له، المدبر له، المتصرف فيه؛ خالق له، مدبر له، ومتصرف فيه كيف يشاء، هذه الربوبية.
بالإلهية بأنه لا أحد يستحق شيئا من أنواع العبادة من الخلق؛ بل الذي يستحق هو الله جل جلاله وحده.
والثالث: أن يؤمن بأن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلا دون تمثيل لها بصفات المخلوقين، ودون تعطيل له عن أسمائه وصفاته بالكلية، أو جحد لشيء من أسمائه وصفاته بعد وضوح الحجة فيها له.
هذا القدر المجزئ من الإيمان بالله.
الإيمان بالملائكة: القدر المجزئ أن يؤمن بأن الله جل وعلا له خلق من خلقه اسمهم الملائكة، عباد يأتمرون بأمر الله جل وعلا، مربوبون لا يستحقون شيئًا، وأن منهم من يأتِ بالوحي للأنبياء، هذا القدر هو الواجب.
فإذا قال: لا أنا أنكر وجود ملائكة ما شفت أحد. فهذا انتفى عنه هذا الركن وهو الإيمان بالملائكة؛ لكن لو قال: أنا ما أعلم ميكال هذا. فإنه لا يقدح في إيمانه بالملائكة؛ لأنه يقول: أنا مؤمن بوجود هذا الخلق من خلق الله جل وعلا ملائكة؛ لكن ميكال ما أعرف هذا ميكال. فيبلَّغ بالحجة فيه في آية البقرة?مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ } [البقرة:98] الآية التي فيها ذكر ميكال، ويبلغ بما جاء فيه، فإن علم أنها آية ثم لم يؤمن كان جاحدًا لهذا الركن من الأركان. ([4])
فإذًا فيه قدر مجزئ وهو الذي يجب على كل أحد، وقدر يتفاضل فيه الناس واجب أيضاً مع العلم؛ فكلما علم شيئاً من ذلك وجب عليه الإيمان به، إلى آخره، وهذا واسع، وكلما علم شيئاً واجبا من ذلك زاد أجره وثوابه وإيمانه ويقينه.(47/15)
الإيمان بالكتب: القدر المجزئ منها أن يعلم؛ أن يعتقد الاعتقاد الجازم الذي لا شك فيه بأن الله جل وعلا أنزل على من شاء من رسله كتباً هي كلامه جل وعلا وأن منها القرآن الذي هو كلامه جل وعلا هذا هو القدر المجزئ من ذلك. وما بعد ذلك أن يؤمن بالتوراة؛ قد يقول: أنا لا أعرف التوراة، فإذا عُرِّف وجب عليه، وهكذا في تفاصيل ذلك. فمن علِم شيئا بدليله، بنصه وجب عليه أن يؤمن به، لكن أول ما يدخل في الدين يجب عليه أن يؤمن بهذا القدر المجزئ، وهو الذي يصح معه إيمان المسلم.
ورسله: الإيمان -وهو الاعتقاد الجازم الذي لا ريب فيه، ولا تردد- بأن الله جل وعلا أرسل رسلاً لخلقه، وأن هؤلاء الرسل موحى إليهم من الله جل وعلا، وأن خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام فيؤمن به عليه الصلاة والسلام ويتبعه، فهذا هو القدر المجزئ، وما بعد ذلك أيضا يكون واجبا بقدر ما يصله من العلم، وفيها أشياء أيضاً مستحبة في تفاصيل.
طبعاً هذا الحديث قد نُدخل فيه العقيدة كلها، ويطول الكلام، لكن أنبهك على أصول في فهم هذه الأحاديث.
واليوم الآخر: القدر المجزئ منه الذي يتحقق به قيام الركن أن يؤمن بأن الله جل وعلا جعل يوماً يحاسب فيه الناس، يعودون إليه ويبعثهم من قبورهم ويلقون ربهم ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وأن المحسن يدخل الجنة وأن المسيء يعني الكافر يدخل النار، وأن المسلم يدخل الجنة، هذا القدر واجب؛ ركن، وما بعد ذلك يكون بحسب العلم.(47/16)
والقَدَر: يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ بأن يؤمن -هذا هو القدْر المجزئ- بأنه ما من شيء يكون إلا وقد قدَّره الله جل وعلا؛ بمعنى أنه سبحانه علِم هذا الشيء قبل وقوعه، وعِلْمُه بذلك أوَّل، وأنه كتب ذلك عنده سبحانه وتعالى، ويغني عن اعتقاده الكتابة قبل العلم بدليلها أن يؤمن بالقدَر السابق، يعني أن القدَر سابق، فيشمل ذلك؛ يشمل اعتقاده أن القدر سابق العلم: علم الله جل وعلا، والكتابة؛ لأن الأقسام الآتية مقارَنة أو لاحقة، وليست سابقة. ويؤمن أيضاً بأن ما شاء الله جل وعلا كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما من شيء إلا والله جل وعلا هو الذي يخلقه سبحانه فيخلق جل وعلا جميع الأشياء كما قال?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ([5]).
فإذن الإيمان بالقدر إيمانٌ بالقدَر السابق وبمشيئة الله وقُدرته وخلقه؛ لإنفاذ القدَر السابق. هذا قدر واجب لا يصح الإيمان بدونه، وهو الركن فيه أن يؤمن بسبق القدر، وفيما يتعلق بالمقدور الواقع، يعني بالقضاء الواقع، يعتقد أنه بمشيئة الله وخلقه لهذا الفعل، يعلم مراتب القدر الأربعة، وتفاصيل ذلك، هذا بحسب ما يصل إليه من العلم فمنه واجب، ومنه مستحب.(47/17)
إذا تقرر هذا فالإيمان الشرعي المراد به في هذا الموطن الذي يكون قريناً للإسلام كما فسرت لك، يراد به الاعتقاد الباطن، فإذا قرن بين الإسلام والإيمان انصرف الإسلام إلى عمل اللسان وعمل الجوارح، والإيمان إلى الاعتقادات الباطنة؛ فلهذا نقول إذًا لا يُتصور أن يوجد إسلام بلا إيمان، ولا أن يوجد إيمان بلا إسلام، فكل مسلم لا بد أن يكون معه من الإيمان قدرٌ هو الذي ذكرنا صحَّح به إسلامه، فلو لم يكن عنده ذلك القدر ما سُمي مسلماً أصلاً، فلا يُتصور مسلم بلا إيمان، فكل مسلم عنده قدر من الإيمان، وهذا القدْر هو القدْر المجزئ الذي ذكرت لك. وكل مؤمن عنده قدْر من الإسلام مصحِّح لإيمانه، فإنه لا يُقبل من أحد إيمان بلا إسلام، كما أنه لا يقبل من أحد إسلام بلا إيمان.
فإذا قلنا: هذا مسلم، فمعناه أنّه وُجد إسلامه الظاهر مع أصل الإيمان الباطن، وهو القدْر المجزئ.(47/18)
إذا تقرّر هذا فنقول الإيمان يتفاوت أهلُه فيه، ولتفاوت أهله فيه، صار الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، وصار المؤمن أعلى مرتبة من المسلم؛ لأن الإيمان في المرتبة التي هي أعلى من مرتبة الإسلام قد حقق فيها الإسلام، وما معه من القدر المجزئ من الإيمان، وزاد على ذلك فيكون إذًا إيمانه أرفع رتبة من إسلامه؛ لأنه اشتمل على الإسلام وزيادة. ولهذا قال العلماء: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له أحد الصحابة: أعطِ فلانا فإنه يا رسول الله مؤمن. فقال عليه الصلاة والسلام «أو مسلم»، فأعادها عليه الصحابي، فقال عليه الصلاة والسلام «أو مسلم»، فهذه قوله (أو مسلم) فيها دليل على تفريق ما بين المسلم والمؤمن، فإن مرتبة المؤمن أعلى من مرتبة المسلم، كما دلّت عليها آية الحجرات?قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:14] فدل على أنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان الذي هي أعلى من مرتبة الإسلام.
فإذًا نخلص من هذا إلى أن الإيمان الذي هو تحقيق هذه الأركان الستة بالقدْر المجزئ منه، ليس هو المراد بذكر هذه المراتب؛ لأنه داخل في قوله (أنْ تَشْهَدَ أَن لا إلَهَ إلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله)، فتحقيق مرتبة الإيمان يكون بالقدر المجزئ، وما هو أعلى من ذلك؛ لأن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام، والمؤمن أعلى رتبة من المسلم.
السَّلفُ تنوعت عباراتهم في الإيمان وأنواعه:
تمت فقالت طائفة منهم: الإيمان قول وعمل.
تمت وقالت طائفة: الإيمان قول وعمل واعتقاد.
تمت وقال آخرون: الإيمان قول وعمل ونِيّة.(47/19)
وهذا مَصِير منهم إلى شيء واحد وهو أن الإيمان إذا أُطلق، أو جاء على صفة المدح لأهله في النصوص أو في الاستعمال فإنه يراد به الإيمان الذي يشمل الإسلام. إلْحَظْ هذا إذَا أُطلق، قلنا: الإيمان ولم نذكر الإسلام، أو جاء في مورد فيه المدح له ولو كان مع الإسلام؛ فإنه يشمل الإسلام أيضاً لدخول العمل فيه، فنقول: هنا تنوعت عباراتهم.
فقال بعضهم: الإيمان قول وعمل، من قال هذا فإنه يعني بالقول: قول القلب وقول اللسان، والعمل عمل القلب وعمل الجوارح. وقول القلب: هو اعتقاده، وعمل القلب وعمل الجوارح: هذا هو العمل، وقول اللسان: هو القول رجع إلى أنه قول وعمل واعتقاد؛ لأن الاعتقاد داخل في قول من قال: قول وعمل، فالاعتقاد داخل في القول؛ لأن المراد به قول القلب، وقول اللسان، وقول القلب: هو اعتقاده.
من قال -وهم كثير من السلف- قول وعمل ونية، يريد بالنية: ما يصح به الإيمان، فزاد هذا القيد تنبيها على أهميته، لقول الله جل وعلا?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ([6]) (مَنْ عمِلَ) (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) صار القول والعمل مع النية، يعني النية في القول والعمل، وهذا راجع أيضاً إلى الاعتقاد؛ لأن النية هي توجه القلب وإرادة القلب وقصد القلب.
فإذًا إذا اختلفت العبارات فالمعنى واحد، والإيمان عندهم كما ذكرت لك يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بشيئين؛ بنقص الطاعات الواجبة أو ارتكاب المحرمات.
قوله هنا (بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ)، الشرّ هنا من باب إضافة القدر إلى العامل، أما فعل الله جل وعلا فليس فيه شر كما جاء في الحديث «والشر ليس إليك».
(قال « صدقت ». قال: «فأخبرني عن الإحسان»، قال «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ») قال العلماء: الإحسان هنا ركن واحد.(47/20)
¨ والإحسان جاء في القرآن مقرونًا بأشياء أيضًا، مقرونًا بالتقوى?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل:128] ومقرونا أيضاً بالعمل الصالح، ومقرونا بأشياء.
¨ وأيضاً أتى الإحسان مستقلاً كقوله جل وعلا?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس:26].
ويراد بالإحسان: إحسان العمل، وقوله هنا في بيان ركنه (أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ) هذا ركن به يحصل الإحسان؛ لأن الإحسان مِن: (أَحْسَنَ العَمَلَ)؛ إذا جعله حسنًا. وإحسان العمل يتفاوت فيه الناس، ومنه قدر مجزئ يصح معه أن يكون العمل حسنًا، وأن يكون فاعله محسنًا، فكل مسلم عنده قدْر أيضاً من الإحسان لا يصح عمله بدونه، ثم هناك القدر الواجب أو المستحب الآخر ليتفاوت الناس فيه بحسب الحال الذي يتحقق به هذه المرتبة.
فأما القدر المجزئ فأن يكون العمل حسنًا؛ بمعنى أن يكون خالصاً صوابا، يعني أن تكون النية فيه صحيحة، وأن يكون على وفق السنة.
وأما القدر المستحب فأن يكون قائماً في عمله على مقام المراقبة، أو مقام المشاهدة. ومقام المراقبة هذا أقل، ومقام المشاهدة هذا أعظم المراتب التي يصير إليها العبد المؤمن، وهو أن يكون عنده الأشياء حق اليقين.(47/21)
? فأما المرتبة الأولى مرتبة المراقبة فهي في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ) ذكر مقام المراقبة في قوله (فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ) وهي مقام أكثر الناس، فإنهم إذا وصلوا لهذه المرتبة فإنهم يعبدونه جل وعلا على مقام المراقبة، فإذا راقب الله؛ دخل في الصلاة بمراقبته لله، يعلم أن الله جل وعلا مطَّلع عليه، وأنه بين يدي الله جل وعلا كما قال سبحانه في سورة يونس { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [يونس:61]. فهذا مقام الإحساس بمراقبة الله جل وعلا للعبد، صلِّ صلاة مُوَدِّع لتعلم أن الله جل وعلا مراقبُك، وأنه جل وعلا مطلع عليك، وما تفيض في شيء إلا وهو يعلمه سبحانه يعلم ذلك ويراه ويبصره منك سبحانه وتعالى، فهذا مقام المراقبة، وكلما عظمت هذه رجعت إلى إحسان العمل. فإذا مثلاً المرء تحرك في صلاته فاستحضر مقام مراقبة الله جل وعلا له واطلاعه عليه فإنه مباشرة سيخشع لاستحضاره هذا المقام؛ مقام المراقبة.(47/22)
? أعلى منه لأهل العلم مقام المشاهدة، وهو الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ)، وهذه المشاهدة المقصود بها مشاهدة الصفات لا مشاهدة الذات؛ لأن الصوفية والضُّلال هم الذين جعلوا ذلك مدخلا لمشاهدة الذات كما يزعمون، وهذا من أعظم الباطل والبهتان، وإنما يمكن مشاهدة الصفات، ويُعْنَى بها مشاهدة آثار صفات الله جل وعلا في خلقه، فإن العبد المؤمن كلما عظُم عِلمه وعظم يقينه بصفات الله جل وعلا وبأسمائه أرجعَ كل شيء يحصل في ملكوت الله إلى اسم من أسماء الله جل وعلا أو إلى صفة من صفاته؛ فإذا رأى حسنًا أمامه أرجعه إلى صفة من صفات الله وإلى أثر من آثار أسمائه الحسنى في ملكوته، وإذا رأى سيّئًا أرجعه إلى صفة من صفات الله، وإذا رأى خَلقا فيه كذا أرجعه إلى صفة من صفات الله، وإذا رأى طاعة أرجعها إلى صفة، وإذا رأى معصية، وإذا رأى مصيبة، وإذا رأى حربًا، وإذا رأى قتالا، وإذا رأى علمًا، أي حالة من الحالات يراها في السماء أو في الأرض فإن مقام مشاهدته لصفات الله تقتضي أنّه يُرجِع كل شيء يراه إلى آثار أسماء الله جل وعلا وصفاته في خلقه، ولهذا يحصل هذا المقام لمن عَظُمَ علمُه بأسماء الله جل وعلا وبصفاته وبأثرها في ملكوته، فيأتي لعظم علمه بذلك حتى يشهد صفة إحاطة الله جل وعلا بالعبد، وأن الله جل وعلا رقيب عليه وأنّه محيط به، وأنه شاهد عليه، فيعظم ذلك في نفسه حتى يستحييَ أن يكشف عورته في خَلوة لا يراها إلا هو، كما جاء في الحديث، قال في كشف العورة «إنّ الله أحَقّ أنْ يُسْتَحْيِىَ مِنْهُ»؛ هذا لأجل مقام المشاهدة العظيمة.(47/23)
فإذًا أهل السنة الذين يتكلمون في الزهد وفي إصلاح أعمال القلوب على منهج أهل السنة يجعلون هذا على مقامين؛ مقام المشاهدة والمراقبة، والمشاهدة كما ذكرت لك في وصفها، وكل هذا راجع إلى الإحسان، إحسان العمل?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا? ([7]) وكلما عظم مقام المشاهدة أو المراقبة زاد إحسان العمل.
(قال «فََأَخْبِرِْني عَنْ السَّاعة؟» قال «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»)؛ لأن علم الساعة عند الله جل وعلا?يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً } [الأعراف:187]كما في آية الأعراف.(47/24)
(قال: «فََأَخْبِرِْني عَنْ أَمَارَاتِهَا») الساعة لها أمارات، وهي الدلائل والعلامات، والأمارات يعني الأشراط كما جاء في آية سورة محمد قال جل وعلا { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } [محمد:18] يعني أشراط الساعة، وهي علاماتها، جمع شَرَط وهو العلامة البيِّنة الواضحة التي تدل على الشيء، (قال «فََأَخْبِرِْني عَنْ أَمَارَاتِهَا») أمارات الساعة قسمها العلماء إلى قسمين: أشراط أو أمارات صغرى، وأشراط أوأمارات كبرى، وهذا المذكور هنا هي الأمارات الصغرى، ذكر منها (أَنْ تَلِِدَِِ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)، والمقصود بالأشراط الصغرى أو الأمارات الصغرى: هي التي تحصل قبل خروج المسيح الدجال، فما كان قبل خروج المسيح الدجال مما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من علامات الساعة، فإن هذا من الأشراط الصغرى. ثم ما بعد ذلك من الأشراط الكبرى، وهي عشْرٌ تحصل تباعا في ذلك فمثلا قوله: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوما كذا» هذا من الأشراط الصغرى، «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من المدينة تضيء لها أعناق الإبل بالبصرة» هذا من الأمارات الصغرى، «لا تقوم الساعة حتى يفتح بيت المقدس أو «اعْدُدْ سِتًّا» كما في حديث عون بن مالك المعروف: «اعْدُدْ سِتًّا بين يدي الساعة: موتي، وفتحُ بيت المقدس، ثم مُوتَانٌ يخرج فيكم كقُعَاصِ الغنم، ثم استفاضة المال» … إلخ، هذه جميعاً أشراط صغرى. وهذه الأشراط الصغرى ذِكْرُها لا يدل على مدح أو على ذمّ، فقد يذكر الشيء على أنه علامة من علامات الساعة وليس هذا دليلاً على أنه محمود أو مذموم، أو على أنه منهي عنه في الشريعة. فقد يكون الشيء من الأشراط وهو من الأمور المحمودة في الشريعة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي ذكرتُ لك حديث عوف بن مالك قال «اعْدُدْ سِتًّا بين يدي الساعة: موتي، وفتحُ بيت المقدس» وهو من الأمور المحمودة، وقد يكون من الأمور المذمومة.(47/25)
فإذًا وصف الشيء بأنه من أشراط الساعة الصغرى أو الكبرى لا يدل بنفسه، يعني بكونه شرطاً لا يدل على مدحه أو ذمه بل هذا له اعتبار آخر.
قال هنا(«فََأَخْبِرِْني عَنْ أَمَارَاتِهَا») يعني الأمارات الصغرى.
قال (أَنْ تَلِِدَِِ الأَمَةُ رَبَّتَهَا) (رَبَّتَهَا) يعني سيدتها، فالأمة إذا ولَدت فإنّ مولودها الذكر أو الأنثى هو سيد كمالك الأمَة. فإذًا الأمة هذه التي وَلدت هذا الولد أصبحت مَسُودَة له فهو سيِّد على أمِّه، والبنت سيدة على الأَمَة باعتبار أن الأب سيد؛ لهذا تعتق أم الولد بعد موت السّيد؛ ولا تعتق بمجرد ولادتها منه بل بعد موته لأجل الولادة؛ فلهذا قال هنا (أَنْ تَلِِدَِِ الأَمَةُ رَبَّتَهَا). الربّة هنا بمعنى: السيدة تلد سيدتها؛ لأن البنت المولودة حرّة وسيدة، وقال أهل العلم في هذا: هذا كناية أو إخبار عن كثرة الرقيق حيث يكثر هذا، وإلا فإنه موجود في العصور الأولى، في عهد الإسلام الأول، موجود فيما قبله وُلود الأمة أيضا لسيدها أو لسيدتها، وهذا غير المقصود به هذا الخبر لأنه من أمارات الساعة. لكن المقصود به أن يكثر ذلك بحيث يكون ظاهرة فيكون علامة، وقد حصل هذا، فقد حصل لما كثرت الفتوح صار الرجل يأخذ إماء كثيرة ويصير له عشر أو عشرون من الإماء، فيطأ هذه ويطأ هذه، فكل واحدة تنجب فيصبح الأولاد أسيادا على الأمهات لكثرة الرقيق.(47/26)
قال(وَأَنْ تَرَى الْحُفَاَةََ الْعُرَاةَ الْعَالَةََ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) يعني أن ترى الفقراء الذين ليسوا بأهل للغنى، وليسوا بأهل للتطاول لِما جعلهم الله جل وعلا عليه مِن الأمور مِن رَعي للشِّياه أو تتبع للجِمال أو نحو ذلك، جعلهم الله جل وعلا على هذا، فمن العلامات أنهم يتركون هذا الذي هو لهم، ويتجهون للتطاول في البنيان، والتطاول في البنيان جاء في ذمِّه أحاديث كثيرة معروفة، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتطاولون في البنيان، بل كانت منازلهم قصيرة رضوان الله عليهم، ففي هذا ذمٌّ للذين يتطاولون في البنيان، وهم ليسوا أصلاً بأهل لذلك، وهذا فيه تغيّر الناس وكثرة المال، وأن يكون المال بأيدي مَن ليس له بأهل.
قال (ثُمّ انْطَلَق. فَلَبِثتُ مَلََََََََِيًّا) انطلق يعني جبريل، (فَلَبِثتُ) ذلك عمر - رضي الله عنه -، (مَلََََََََِيًّا) جاءت في بعض الروايات أنها ثلاثة أيام، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم («يَا عُمَرُ, أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلَم، قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ, أَتَاكُمُ يُعَلِمُكُمْ ِدينَكُمْ»)، أخبره عليه الصلاة والسلام بذلك مع علمه عليه الصلاة والسلام به، أخبره حتى يعظم وقع هذه الأسئلة، وجواب هذه الأسئلة.
هذا الحديث أيضًا يطول الكلام عليه، وطال بنا الوقت أيضًا، فعذرًا لأجل طول هذا الحديث، والكلام على تفاريعه؛ تفاريع الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله يطول أيضا، وتفاريع الكلام عن الإحسان، وإخلاص العمل، وكيف يكون ذلك يطول الكلام عليه.
وإنما نقصد من هذا الشرح إلى ذكر أصول عامّة في فهم هذه الأحاديث ينبني عليها، يعني على تلك الأصول فهم العلم في فروعه، فهم الحديث والسنة والفقه والعقيدة فيما نرجو، ونسأل الله جل وعلا أن ييسره لي ولكم، وأستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??? - -(47/27)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع والدعاء المسموع، ربنا لا تكِلنا لأنفسنا طرفة عين، وخُذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى.
ثم إننا إن شاء الله تعالى سننتهي من هذا الدرس تقريباً في كل ليلة حوالي الساعة العاشرة قد تزيد دقائق أو نحو ذلك، ونروم إن شاء الله أن ننهي هذا الجمع من الأحاديث، يعني هذا المتن المبارك أن ننهيه إن شاء الله تعالى في هذه الدورة.
ولا شك أنّ إنهاءه في هذه المدة الوجيزة تتطلب أن يكون العرض مختصراً، وأن يكون البحث في الأحاديث وذكر ما فيها من الفوائد والشرع والأحكام على وجه الاقتضاب والتنبيه، لا على وجه الاستيعاب.
ومعلوم أن هذا الكتاب وهو ”الأربعين النووية“ شُرِح شروحاً كثيرة، فننبه في شرح هذه الأحاديث إلى أصول المعاني، وما يمكن أن يكون كالضوابط والقواعد في فهم تلك الأحاديث وما دلّت عليه، فنسأل الله الإعانة والسلامة في القول والعمل.(47/28)
الحديث الثالث -
وعن أبي عبد الرحمن عبدِ الله بنِ عُمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول«بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْس: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ َرمَضَانَ»[رواه البخاري ومسلم]
[الشرح]
هذا الحديث فيه ذِكْرُ دعائم الإسلام ومبانيه العظام، وهي الخمس المعروفة: (شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله) وهذه واحدة باعتبار أن كلا من شقيها شهادة، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: الحج، والخامس: صوم رمضان.
وهذا الحديث من الأحاديث التي اُسْتُدِلَّ بها على أن أركان الإسلام خمسة، وهذا الاستدلال صحيح؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ) يدل على أنّ البناء يقوم على هذه الخمس، وغير هذه الخمس مكملات للبناء، ومعلوم أن البناء يَحْسُن السكنى فيه ويكون جيدا أوفيه العبد سعيداً إذا كان تامّاً، وكلما كان أتم كان العبد فيه أسعد.
والإسلام إذا أتى العبد بمبانيه الخمس هذه فقد حقّق الإسلام، وكان له عهد عند الله جل وعلا أن يدخله الجنة.(48/1)
قال في أوله عليه الصلاة والسلام (بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْس) ولفظ (بُنِيَ) يقتضي أنّ هناك من بناه على هذه الخمس، فلم يُذكر الباني على هذه الخمس، والمقصود بالباني: الشارع أو المُشَرِّع. فالذي بنى الإسلام على هذه الخمس هو الله جل جلاله، وهو الشارع جل وعلا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغ عن ربه جل وعلا، ليس هو شارعاً على جهة الاستقلال، وإنما هو عليه الصلاة والسلام مبلغ أو مشرِّع على جهة التبليغ. على الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة، فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لنا هنا أنّ الإسلام بني على هذه الخمس، والمقصود بالإسلام هنا الدين؛ لأن الدين هو الإسلام كما قال جل وعلا?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران:19]، والإسلام في قوله(بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ) مقصود منه الإسلام الخاص الذي بعث به محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
والإسلام في القرآن وفي السنة له إطلاقان:(48/2)
- عليه السلام -الإطلاق الأول الإسلام العام: الذي لا يخرج عنه شيء من مخلوقات الله جل وعلا إما اختيارا، وإما اضطرارا، قال جل وعلا?وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [آل عمران:83]، وقال جل وعلا?أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ } [آل عمران:83]الآية، وقال جل وعلا?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران:85]، وقال جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا } [آل عمران:67]، وقال جل وعلا?هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } [الحج:78]. فالمقصود أنَّ لفظ الإسلام هذا هو الذي يقبله الله جل وعلا من العباد المكلَّفين ديناً، فآدم عليه السلام مسلم، وكل الأنبياء والرسل وأتباع الأنبياء والرسل جميعاً على دين الإسلام، الذي هو الإسلام العام، وهذا الإسلام العام هو الذي يُفَسَّر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشّرك وأهله. فهذا هو ملة إبراهيم وهو الذي دانَ به جميع الأنبياء والمرسلين ومَن تبعهم.
- أمّا الإسلام الخاص: فيراد به الإسلام الذي بُعث به محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وهو الذي إذا أُطلق الإسلام لم يُعن به إلا هذا، على وجه الخصوص؛ لأن الخاص مقدم على العام في الدِّلالة؛ ولأن هذا الاسم خُصَّت به هذه الأمّة، وخُصَّ به النبي عليه الصلاة والسلام، فجعل دين المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الإسلام.
فإذن المقصود هنا بقوله (بُنِيَ الإسْلامُ) يعني الإسلام الذي جاء به نبينا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.(48/3)