نقف عند هذا ولاشك أن هذه مسائل عظيمة تحتاج ممكن إلى درس ونظر وترديد لأن المسألة في هذا الأمر عظيمة جدا فنسأل الله جل وعلا أن يعيذنا وإياكم من الجهل بحقه والجهل بتوحيده وأن يجعلنا من يكثرون من قراءة التوحيد وتعلمه وتعلم مسائله، وإدمان المطالعة في كتب أئمة هذه الدعوة الذين مكثوا أكثر من قرنين من الزمان يتتابعون في تجلية مسائل هذا، واختصوا به وتفرغوا له، حتى غدت مسائله بإيضاحهم وبيانهم واضحة جلية لا لبس فيها.
فالله الله في هذا الأمر الجلل والمداومة على فهم التوحيد وعلى مطالعة كتبه وحفظ ذلك ومدارسته، فإنه نعم العلم ونعمة العاقبة لأصحابه والعاقبة للمتقين.
[الأسئلة]
س1/ هل يكفر قوم بأن عندهم عادة سب الدين والرسول ومنهم جاهل بأن ذلك كفر وأنه منكر هل يكفر بالجهل؟
ج/ من سب الإسلام الذي أنزله الله جل وعلا على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كافر ولا يعذر بالجهل ولا بأن يقول ما قلته على وجه المزاح واللعب أو غلطت ما علمت إلى آخر ذلك، كذلك سب الله جل وعلا كذلك سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن تعظيم الله جل وعلا تعظيم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيم القرآن وتعظيم دين الإسلام هذا واجب من الواجبات ويعلم بالضرورة من دين الإسلام فإذا سب معناه أنه نافى ذلك التعظيم وهذا كفر بمجرده.
أما سب دين فلان فهذا لا يكفر به، فإذا سب معين من الناس، مثلا تخاصما اثنان فقال أحدهما للآخر: كذا دينك. فسب دينه فهذا لا يكفر، لأن هذا يحتمل أن يريد تدينه، والديانة التي هو عليها، فلا يكفر إلا إذا سب الإسلام مطلقا، أما إذا سب الدين المضاف إلى بعض الناس فإنه لا يكفر به، لأن هذا فيه شبهة لكن يعزر ويؤدب.
س2/ الدرس الجديد متى سيكون؟
ج/ ربما يكون ليلة الإثنين أو ليلة الإربعاء، وربما الراجح يكون ليلة الإثنين لكن إلى الآن ما تحدد ولا متى نبدأ به، ونبلغكم في حينه إن شاء الله .(37/403)
س3/ هناك بعض الإخوة في المنطقة الشرقية في مدارس يكون مديروها من الرافضة أو مدرسوها ؟
ج/ أما إذا كان المدير من الرافضة فهذا يجب عليك أن تبلغنا به نسعى إن شاء الله في أمره، أما المدرس الذي يدرس فهذا فهذا له أحكام معاملة المبتدع معروفة في كتب أهل العلم وفي فتاويهم يمكن أن ترجع إليها.
أما المدير فلا يجوز أن يسكت عليه لأن المدير موجه وآمر ناهي فتبلغنا بذلك إن شاء الله.
س4/ فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بما فيه اختبار التلاميذ هل يعتبر من الكذب من أجل العلم والتعلم وهل هو جائز؟
ج/ نستفيد من فعل الشيخ أنه جائز، هذا للتعلم الكذب للمصلحة الشرعية جائز كما هو معلوم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «ليس الكذاب الذي يقول خيرا أو ينوي خيرا».
وهذا الذي فعله الشيخ هذا خير له وليس من الكذب هذا بالمناسبة يذكر أن بعض الإخوة يكثر من الإعتراض وهذا لا ينبغي فإن أفعال أئمتنا والراسخين في العلم نستفيد منها، فالأصل فيها الاستفادة والسلامة إلا إذا عارضت نصا أو دليلا الكتاب والسنة أو فعل الصحابة أو نحو ذلك فإنه لا عصمة لهم؛ لكن الأصل فيها السلامة وأننا نستفيد من أقوالهم ومن أفعالهم.
س5/ ما رأيكم من يزور أماكن الشرك للوقوف على حقيقة الشرك دون أن ينكر عليهم بحجة أنه سيتعرض للخطر إذا هو أنكر؟(37/404)
ج/ لا يجوز له أن يحضر مكان يعبد فيه غير الله، يستغاث فيه بغير الله، يصلى فيه للميت يتجه إليه للقبلة يطاف على قبره ويسكت ولا ينكر؛ لأن هذا أعظم المنكر وهو الشرك لكن كيف ينكر هذا يحتاج إلى بيان الشيخ محمد رحمه الله إمام الدعوة لما كان يحضر الذين كانوا يعبدون زيد بن الخطاب كان يقول لهم في أول الدعوة الله خير من زيد، فينبههم أن دعوة الله جل وعلا وحده أنها أفضل، وهذا من التدرج في الدعوة، فإذا كان يرى أن الإنكار عليهم ينفعهم وأنه إذا قالهم مثل هذه الكلمة أنها أنفع لهم، هذا لما يراه أن المصلحة الشرعية فيه، أما أن يحضر مثل هذه الأماكن ولا ينكر البتة فهذا حرام عليه ولا يجوز.
ونسأل الله لنا ولإخواننا العفو والعافية والمغفرة.
... السياحة!! يتفرج على الذين يعبدون غير الله!! أعوذ بالله يتغيض الواحد من رؤية قبة من دون أن يعرف ماذا تحتها فكيف يذهب وينظر ويجلس ويسمعهم ويسكت!! هذا..
....طبعا مفهوم الشرك في صوره المخنتلفة هذا يختلف فيه الناس، لكن ينبغي بل يجب أن لا يأخذ الشباب هذه المسائل من غير الراسخين في العلم؛ لأن كون صورة ما صورة شركية هذ ه إنما يعلمها أهل العلم في المسائل هذه الحادثة الجديدة
هذا يسأل عن بعض ما يفهم من الأنظمة الرأسمالية والشيوعية والوطنية وتمجيد الماضي إلى آخره وغيره من الصور، فهذه تعرض المسألة على أهل العلم فإن قالوا إن هذه حكمها كذا فيصار إليه، لأن المسائل تختلف وليس كل ما ظنه المرء شركا يكون يكون شركا.
بل قد رأيت في بعض الكتب كتاب اسمه الأوثان أو شيء أن مؤلفه جعل التلفاز وثنا وأن حال الجالسين أمامه لينظروا أنهم عاكفون عند هذا الوثن، فكل من فعل بأن عكف عند هذا الجهاز الساعات الطويلة، فإن هذا عبادة لغير الله جل وعلا، هذا لاشك أنه إفتآت على الدين وقول بلا علم وخروج عن ما يجوز، فإن القول على الله بلا علم أكبر من الكبائر العملية.(37/405)
س7/ ما رأيك يا شيخ في من ينكر أهمية هذا المتن ويقول إن كان له أهمية تذكر فهي للدعاة في الخارج ونحن تكفينا قراءته ؟
ج/ هذا كلام الشيخ فيه (ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فليحذر على نفسه .
س8/ ذكرت أن من سجد للصنم أنه يكون كافرا هل هذا بعد الاستفصال؟
ج/ لا شك من سجد للصنم فإنه كافر ظاهرا، السجود للصنم من الكفر العملي الذي يضاد الإيمان، فإن الكفر قسمان:
كفر اعتقادي يكون بالاعتقاد.
وكفر عملي والكفر العملي قسمان -كما ذكر ابن القيم في أول كتابه الصلاة-:
قسم يضاد الإيمان من أصله كسب الدين أو الإسلام أو سب الله أو سب رسوله أو السجود للصنم أو إلقاء المصحف في القاذورات متعمدا عالما وأشباه ذلك، فهذا كفر عملي؛ يعني كفر بعمله هو مخرج من الملة لأنه مضاد للإيمان.
وقسم آخر من الكفر العملي ما لا يضاد الإيمان مثل المسائل التي ذكروها، ترك الصلاة عند طائفة كبيرة عند أهل العلم ومثل الحكم بغير ما أنزل الله، ومثل سباب المسلم، قتاله، سباب المسلم فسوق وقتاله كفر؛ يعني تقاتل المسلمين وأشباه ذلك مما جاء في الشريعة أنه كفر.
فإذن من فهم أن تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي: أن العملي لا يكفِّر هذا غلط عظيم، حتى غلط على ابن القيم رحمه الله فإن ابن القيم في كتابه الصلاة الذي نقلوا عنه هذا التقسيم قال وكفر عملي مثل السجود للصنم وهذا يضاد الإيمان وقال كفر عملي ومنه ما يضاد افيمان كالسجود للصنم مثل إلى آخره منه ما لا يضاد أفيمان كترك الصلاة والحكم بغير ما أنزل الله إلى آخر كلامه ، فالعلماء حيننما يقسمون الكفر إلى اعتقادي وعملي، هذا تقسيم لمورد الكفر فإن الكفر قد يكون مورده من جهة الاعتقاد وقد يكون من جهة العمل والاعتقاد منه الشك أيضا والكفر العملي منه القول ومنه ما لا يكفر.(37/406)
فإذن قول العلماء: أن الردة تكون باعتقاد أو عمل أو فعل أو شك. راجع إلى هذين القسمين: اعتقاد أو عمل ولكن الكفر العملي منه ما يضاد افيمان من أصله كما ذكرنا ومنه ما لا يضاد الإيمان من أصله فليس معنى كفر اعتقادي وكفر عملي أنها مساوية للكفر الأكبر والأصغر كما يظنه طائفة هذا غلط عظيم على أهل العلم؛ فإن الكفر قسمان كفر أكبر وأصغر، باعتبار كفر أكبر يعني مخرج من الملة وكفر أصغر يعني غير مخرج من الملة، فباعتبار حكم هذا الفعل فإنه يكون أكبر ويكون أصغر وباعتبار مورد الكفر قد يكون اعتقاديا وقد يكون عمليا واعتقادي أكبر ويكون بعض أقسامه أصغر والعملي قطعا منه أكبر ومنه أصغر.
فقول بعض أهل العلم الكفر العلملي هو الكفر الأصغر هذا غلط؛ بل الكفر العملي منه أكبر ومنه أصغر، فكلمات العلماء متداخلة مثل ما نقول في الشرك أكبر وأصغر، والشرك يكون باعتقاد ويكون بالعمل، فإن من ذبح لغير الله فهو مشرك بالعمل ومن نذر لغير الله فهو مشرك بالعمل، ومن استغاث بغير الله فهو مشرك بالعمل، وهذا الفعل منه قد يؤول إلى اعتقاد وقد لا يؤول إلى اعتقاد، فالمكفرات العملية الكفر الأكبر أو الأصغر من الكفر العملي قد ترجعها إلى اعتقاد وقد ترجعها إلى عمل مجرد.
فإذن ليس كل ما قيل فيه إنه كفر عملي يساوي الكفر الأصغر؛ بل قد يكون هذا وقد يكون هذا.
س9/ نرى بعض الأشخاص يستشهد ببعض ما يحصل له من أحداث في حياته اليومية ببعض الآيات والأحاديث، فيضحك من حوله وهو في تلك الحالة ليس بمستهزئ، وإنما قالها لمناسبة الموقف، ما حكم هذا الفعل وبما ينصح هؤلاء؟
ج/ أما من جهته فإذا كان أوردها إيرادا عاديا وهم الذين ضحكوا فهو ليس عليه حرج إذا لم يتعمد إضحاكهم بما أورده، وهم على قسمين :
· إن ضحكوا لفعله فهذا مما هو سائغ مما هو مباح.
· وإن ضحكوا على استشهاده بالآية أو ضحكوا على الآيات فهذا يدخل في الاستهزاء.(37/407)
هنا يستفصل ضحكوا لأي شيء؟ هل ضحكوا لفعله لما حصل له، أو ضحكوا على الآيات؟ إن ضحك على الآية فهذا داخل في الاستهزاء بالآيات.
إن ضحكوا على استدلاله، فهذا ضحك على فعله فقد يكون ذلك خلاف الأدب فقط.
س10/ يقول لم لا يكفر بعينه من فعل كذا وكذا؟
ج/ التكفير حكم شرعي فقهي راجع إلى أهل العلم، ليس لمن سمع، فمن سمع كفرا يجب عليه إنكاره؛ لكن لا يكفر إلا بعد حكم عالم، التكفير ليس لآحاد الناس، حكم، فتوى.
س11/ من يمثل في مسرح أو تمثيلية يمثل دور |أحد الكفار فيسب الممثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل يكفر بذلك؟
ج/ هذا من المنكر الأعظم يمثل سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا لاشك أنه منكر أعظم وصاحبه إن لم يكن له شبهة في ذلك فإنه يجب أن يعزر وأن يقام عليه؛ لأنه لا يجوز أن يمثِّل بسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا من الاستهزاء.
س12/ كيف نفرق بين ما بين تكفير الذين نزل فيهم قول الله ?قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ?[التوبة:65]، وبين الصحابة الذين ورد ذكرهم في حديث ذات أنواط، حيث إن أولئك كفروا بمجرد القول وهؤلاء قالوا واعتقدوا ولم يكفروا؟
ج/ الفرق بينهما ما ذكرت لك التكفير قد يكون باعتقاد أو بقول أو بعمل أو بشك، فالذي قال تلك المقالة هو طلب كفرا، وطالب الكفر –أي القائل- ليس بكافر أما من عمل العمل المكفر فهذا انتقل إلى العمل المكفر فقول المستهزئين هذا داخل في قسم قول المكفر وأما من سألوا ذات أنواط فقوله لا يدخل بقول المكفر ولكن يدخل في العمل المكفر فالتقسيم يجعل فرقا بين هذا وهذا فأوةلئك مردهم إلى الفعل وأولئك مردهم إلى القول.
وبهذا القدر كغاية وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن](37/408)
وتفيد أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبّه على ذلك فتاب من ساعته فإنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وتفيد أيضًا أنه لو لم يكفّر فإنه يغلّظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال له: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وأحاديث أخر في الكف عمن قالها.
ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل.
فيقال لهؤلاء المشركين الجهّال: معلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله وأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلّون ويدّعون الإسلام، وكذلك الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب وهؤلاء الجهلة مقرُّون أن من أنكر البعث كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله. فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟ ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث. ولن يفهموا.(37/409)
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادّعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالفه ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ?[النساء:94] أي فتثبّتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: (فتبيّنوا) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك.
والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وهو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحا حتى إن الصحابة يحقّرون أنفسهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة.
وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة من هذا الباب، وكذلك أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لمَّا أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ?[الحجرات:6] وكان الرجل كاذبًا عليهم(5) ، فكل هذا يدل على أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:(37/410)
فهذه صلة للجواب عن الشُّبه التي أدلى بها المشركون في أن من قال لا إله إلا الله فإنه لا يكفر أبدا ولو فعل ما فعل لأن لا إله إلا الله تدخله في الإسلام، وفي أثناء ذلك ساق الشيخ رحمه الله قصة ذات أنواط والحديث في ذلك، وأخذ منها ثلاث فوائد، وذكرنا منها الفائدة الأولى في تلك القصة أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل التوحيد فهمناه أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان، وقد تقدم لنا الكلام على هذه الجملة.(37/411)
قال رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ورفع درجته في الجنة في الفائدة الثانية (وتفيد أيضًا) يعني تلك القصة قصة ذات أنواط (وتفيد أيضًا أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنُبّه على ذلك فتاب من ساعته فإنه لا يكفر) لأن هذا الكلام الذي طلبوه قال في معناه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة»، ومن طلب إلها مع الله جل وعلا فإنه يطلب عبادة ذلك الإله، فكفره يكون بعبادته غير الله جل وعلا، ومعلوم أن الطلب متصل بالمطلوب اتصال اللازم بالملزوم، ولهذا نستفيد منه أن الكفر إذا كان مورده القول فإن صاحبه إذا نبه عليه وهو جاهل به فتاب من ساعته فإنه لا يؤاخذ بذلك؛ يعني أنه لا يكفر بقول كفري؛ لأنه جاهل بهذا القول، وذلك إذا نبه فتنبه، إذا قيل له هذا كفر والدليل على ذلك كذا أو أجمع العلماء على كذا أو قال الأئمة كذا فتنبه فإنه لا يكفر بذلك؛ لأن مورد الغلط في اللسان والجهل يعذر به صاحبه في مثل هذا كما عَذَر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة في قولهم بل أنكر عليهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ غلظ الكلام عليهم شديدا فأفاد كما قال الشيخ رحمه الله تعالى (أن المسلم إذا تكلم لكلام كفر وهو لا يدري) وقوله (وهو لا يدري) راجعة إلى أنه لا يدري أنه مؤاخَذ بقوله ذلك، لا يدري أن كلامه كفر وأن كلامه لا يجوز له أن يقوله، والجهل راجع إلى جهتين:
جهة الحكم، والحكم بأن قوله لا يحل أو أن قوله كفر.
والجهة الثانية راجع إلى الحكم عليه بما قاله.
والأحكام الشرعية متعلقة بالنوع الأول لا بالنوع الثاني.
يعني أنه إذا كان جهله وعدم درايته راجعة إلى أنه لا يعلم أنم هذا الكلام لا يحل له، لا يعلم أن هذا الكلام لا يجوز له، لا يعلم أن هذا الكلام كفر، فإنه إذا نبه فتنبه فإنه يعذر بذلك.(37/412)
وأما إذا علم أنه لا يجوز له ذلك، فيقول أعلم أن هذا كفر أن هذا لا يجوز، ولكن لا أدري أن هذا يوصل القائل إلى درجة الكفر، لا أدري أني أصير كافرا بذلك، فهو يدري أنه محرم ولكن لا يدري أنه يصير كافرا بذلك، فهذا لا يُعذر به مثل من يقول أدري أن القذْف محرم لكن لا أدري أني أجلد فهذا لا يعذر بجهله، يقول أدري ....
فإذن هنا فعدم الدراية بالأحكام الشرعية إذا كان مردها إلى عدم الدراية بحرمة القول، عدم الدراية بأن القول حرام كبيرة كفر، فهذا يُعذر به في مسائل كثيرة.
أما إذا علم الحكم ولكن جهل أنه يجب عليه الحد بهذا أو أنه يكفر بهذا فإنه يؤاخذ فيكفي درايته أنه لا يحل له هذا القول.
وهذا له تطبيقات كثيرة في القواعد الفقهية في تقسيم عدم الدراية أو الجهل إلى جهل بالحكم يعني إلى جهل بعاقبة الحكم، معلوم أنه إذا كفر فإنه يصبح مرتدا، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، وفي بعض صور الكفر يقتل زندقة، ولا تقبل منه توبته، فإن قال أنا أعلم أن الكلام حرام ولكني أجهل أني إذا قلت ذلك أني أصبحت مرتدا أو أني أصبحت زنديقا قتل بهذا الكلام فإنه لا يعذر.
فإنه يعذر إذا كان يجهل الحكم.
فإذا قال مثلا في الزنا أنا أعلم أن الزنا حرام لكن لا أدري أن الزاني المحصن يرجم، فهنا لا يعذر بجهالته، ولكن يعذر إذا قال أنا لا أعلم أنه حرام.
وهذا تفريق مهم في مسائل كثيرة عند العلماء والفقهاء في عدم دراية بعض المسائل، فإن عدم دراية الحكم أصلا شيء، وعدم دراية الحكم على صاحبه أو العقود المقدرة على صاحبه وأشباه ذلك هذا شيء آخر.
لهذا قال الشيخ رحمه الله هنا (وتفيد أيضًا أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبّه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -) فإن بني إسرائل نبهوا فتنبهوا وإن الصحابة الذين كانوا حدثاء عهد بكفر نبهوا فتنبهوا.(37/413)
الفائدة الثالثة قال (وتفيد أيضًا أنه لو لم يكفّر فإنه يغلّظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا، وجه التغليظ الشديد أن ذاك تعزير، ومعلوم أن باب التعزير يكون -يعني التعزير في الشريعة- يكون بالقول، ويكون بالفعل، ويكون التعزير بالمال:
القول بأن يقال له كلام يأنبه كلام شديد قال قوي.
وبالفعل إما بضرب أو بهجر أو بأشباه ذلك.
وبالمال بأخذ بعض ماله كثير له، وهذا من جهة القاضي.
فإذا كان كذلك فالتعزير في الشريعة مطلوب لمن وقع منه المنكر بحسب الحال، فهؤلاء كان قولهم قبيحا، وكان طلبهم قبيحا إذ طلبوا إلها مع الله جل وعلا، فلهذا قال النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» وهذا الكلام قد يقال إن ظاهره ليس بشديد إن ظاهره ليس فيه تعزير، لكن هذا ليس بصحيح بل المسلم الموحد إذا قبل له الذي أحب التوحيد ودخل في دين الله بلا إله إلا الله وقد فقه هذه الكلمة ا قيل له أنت طلبت إلها مع الله جل وعلا، فإن هذه الكلمة تتفطر لها القلوب، فهي أعظم مما لو قيل له أسكت أو قيل له كذا أو كذا؛ بل قيل له أنت طلبت إلها مع الله جل وعلا، ومعلوم أنه ما دخل في الدين إلا للتوحيد إلا للإسلام الوجه لله جل وعلا وحده دون الآلهة المتعددة، فلهذا الوضوح في حال الواقع في المنكر نوع من التعزير فمن وقع في الباطل فقيل له أنت وقعت في كذا وكذا تأنيبا له، فإن هذا نوع من التعزير الشديد وتغليظ الكلام بما يناسب الحال.
إذن أفادت أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا كما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا انتهاء لأحد الأجوبة على تلك الشبهة.(37/414)
ويتصل بتلك الشبهة التي مرت معنا قبل درسين وهي قولهم: أنتم تكفرون بالشرك من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وقام وصلى وزكى وحج ويكون له أعمال صالحة، فلهم شبهة متصلة بتلك الشبهة وهي قوله (وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال له: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وكذلك قوله) إلى آخره، وهذا الكلام مع جوابه أفاد أن شبهة من احتج بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله) الجواب على هذه الشبهة مترتب بأمور الأول أن يقال: لا إله إلا الله تدخل في الإسلام، ومن دخل في الإسلام بلا إله إلا الله فإنه يُنتظر له حتى يرى أيكون آتيا لحقوق لا إله إلا الله أم لا، فلا إله إلا الله لها حقوق وأعظم حقوقها التوحيد بل هي في التوحيد مطابقة، وإذا كان كذلك فإن قول القائل لا إله إلا الله محمد رسول الله يُنتظر به إذا كان قاله في معركة أو استسلامٍ أو نحو ذلك ولا يعاقب على ما كان منه من الكفر وإنما ينتظر به، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله»، وجاء في الحديث الآخر أيضا قال «حرم دمه وماله إلا بحقها»؛ «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني وقاتل النفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» وقوله (إلا بحقها التارك لدينه المفارق للجماعة) وهنا (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) كلها متفقة غير مختلفة ولهذا نقول في جواب هذه الشبهة ما ذكره الشيخ رحمه الله أن من قال لا إله إلا الله فيما ظاهره أنه خوف فينتظر به فإن أتى بحقوق لا إله إلا الله قبلت وإن خالف حقها من التوحيد فإنه دل على نفاقه وإنما قالها تعوذا.(37/415)
وأسامة بن زيد رضي الله عنهما قتل قبل التثبت، قتل قبل أن يستفصل وأن يرى هل هذا قالها تعوذا أو قالها على الإسلام حقيقة.
والجواب الثاني عن هذه الشبهة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل اليهود وسباهم بني قريضة أو بني النضير أو يهود خيبر، قاتلهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله أو يقولون لا إله إلا الله بحسب تفسيرهم يقولون لا إله إلا الله فعَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قاتلهم على الشرك، قاتلهم على اتخاذهم ندا مع الله جل وعلا قال تعالى ?وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ?[التوبة:30]، فدل على أن قول لا إله إلا الله مع عدم تطبيقها مع عدم عمل ما دلت عليه لا ينفع صاحبه؛ لأنه خالف مقتضاها.
كذلك بنو حنيفة الذين قاتلهم الصحابة قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه فيما قدمنا وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانوا يقولون لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويدعون الإسلام، لكن لما لم يلتزموا بحكم أداء الزكاة لخليفة المسلمين قوتلوا قتال ردة لا قتال بغاة؛ لأنهم ادعوا أنهم مخاطبين بحكم الله جل وعلا بأداء الزكاة لخليفة المسلمين.
كذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار فيما تقدم هم كانوا يقولون ظاهرا لا إله إلا الله محمدا رسول الله.
وهؤلاء الجهلة يقولون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها.(37/416)
يعني أن هؤلاء الذين احتجوا بفعل أسامة قالوا ما قاله الفقهاء والعلماء بأن من جحد البعث كفر وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر، فكيف إذن تقولون هنا يكفر مع قوله بلا إله إلا الله محمدا رسول الله وإتيانه بالصلاة والزكاة والصيام والحج إلى غير ذلك؟ وفي هذه المسألة العظيمة -مسألة التوحيد- تقولون لا يكفر؟ لا شك أن هذا خلف من القول وتناقض القاعدة عند أهل العلم واحدة وهي أنه من أتى بمكفر قولي أو عمليا أو اعتقادي أو شك فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما كانت دلاللته قطعية فإنه يكفر ولو كان أصلح الصلحاء بل قد قال الله جل وعلا لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66].
قال المصنف رحمه الله في بيان تناقض أهل هذه الشبهة (فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع) يعني كيف لا تنفعه لا إله إلا الله محمد رسول الله إذا جحد فرعا من الفروع مسألة من المسائل جحد الصلاة جحد الزكاة جحد الحج جحد تحريم الربا جحد حِلّ البيع إلى آخر ذلك (وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس الملة وأساس دين الرسل ورأسه) لا شك أن هذا تناقض بل الباب باب واحد، الأصول والفروع في هذا سواء، فمن جحد التوحيد كفر من جحد الصلاة كفر ومن جحد الزكاة كفر إلى آخر الأمور،([62]) الباب باب واحد ولا ينفعه قوله: لا إله إلا الله.(37/417)
قال (ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث [ولن يفهموا]) أما كونهم ما فهموا فهذا واضح هي ما قدمنا، أما كونهم لن يفهموا لأن الشبهة إذا قامت في القلب والبدعة إذا قامت بالروح وبالقلب فإن صاحبها يصعب عليه الخلاص منها، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره أن أهل الأهواء تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه مفصل ولا عرق إلا دخله ذلك، فأهل البدع استغرقت البدعة في قلوبهم حتى حجبتهم عن نور فهم الكتاب والسنة، وهذه من أنواع العقوبات التي يعاقب بها من ترك الكتاب والسنة إلى غيرهم، فهذا ملاحظ أن طائفة منهم من الأذكياء ومن العلماء وممن عنده علوم مختلفة في التفسير وفي الفقه وفي العقائد إلى غير ذلك، ومع ذلك يقعون في هذه المسألة، وإذا أفهمتهم لن يفهموا.
وهنا بحث في أنهم إذا لم يفهموا فإنهم لا يُعذرون بذلك لأن فهم الحجة ليس بشرط؛ بل الشرط هو إقامة الحجة في التكفير يعني لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية التي يكفر من أنكرها أو ترك مقتضاها.
وأما فهم الحجة فإنه لا يشترط لهذا قال الشيخ هنا رحمه الله (ما فهموا ولن يفهموا) وإذا كانوا لم يفهموا فإنه لا يعني أنه يسلب عنهم الحكم بالشرك الأكبر؛ لأن فهم الحجة ليس بشرط.
وهذا مبحث بحثه علماء الدعوة والعلماء قبلهم هل فهم الحجة شرط أم ليس بشرط والله جل وعلا قال في كتابه ?وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ?([63]) يعني جعلنا على قلوبهم أكنة أغطية وحجب أن يفهموا هذا البلاغ وهذا الإنذار (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) فدل على أن المشرك لم يفقه الكتاب ولم يفقه السنة يعني لم يفهم.
وتحقيق المقام هنا لأن بعض الناس قال كيف لا تشترطون فعهم الحجة وكيف تقام الحجة إلى فهم، وتفصيل الكلام هنا أن فهم الحجة نوعان:
النوع الأول فهم لسان.
والنوع الثاني فهم احتجاج.(37/418)
أما فهم اللسان فهذا ليس الكلام فيه فإنه شرط في بلوغ الحجة لأن الله جل وعلا قال ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ?[إبراهيم:4]، والله جل وعلا جعل هذا القرآن عربيا لتقوم الحجة به على من يفقه اللسان العربي.
وإذا كان كذلك فإن فهم اللسان هذا لابد منه؛ يعني إذا أتاك رجل يتكلم بغير العربية فأتيت بالحجة الرسالية باللغة العربية، وذاك لا يفهم منها كلمة، فهذا لا تكون الحجة قد قامت عليه بلسان لا يفهمه، حتى يَْبُلَغُه بما يفهمه لسانه.(37/419)
والنوع الثاني من فهم الحجة هو فهم احتجاج يفهم أن تكون هذه الحجة التي في الكتاب والسنة حجة التوحيد أو في غيره ارجح وأقوى واظهر وأبين أو هي الحجة الداحضة لحجج الآخرين، وهذا النوع لا يشترط؛ لأنه جل وعلا بين لنا وأخبر أن المشركين لم يفقهوا الحجة فقال جل وعلا (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) وقال سبحانه ?وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا?[الكهف:101]، ?أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ?[الفرقان:44]، فهم لا يسمعون سمع فائدة، وإن سمعوا سمع أُذُن ولا يستطيعون أن يسمعوا سمع الفائدة وإن كانوا يسمعون سمع الأذن، وقد قال جل وعلا ?وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ?[الأنفال:23]، وقال سبحانه ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن [رَّبِّهِم] ([64]) مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ?[الأنبياء:2]، (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حتى وصفهم بأنهم يستمعون وليس فقط يسمعون بل يستمعون يعني ينصتون ومع ذلك نفى عنهم السمع بقوله (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) وبقوله ?أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ?[الفرقان:44]، وقوله جل وعلا في سورة تبارك ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك:10].
فإذن هم سمعوا سمع لسان لكن لم يسمعوا الحجة سمع قلب وسمع فهم للحجة يعني أنها راجحة فلم يفهموا الحجة ولكنهم فهموها فهم لسان فهموها لأنها أقيمت عليهم بلسانهم الذي يعلمون معه معاني الكلام ولكن لم يفهموها بمعنى أن الحجة هذه راجحة على غيرها، ولهذا قال تعالى (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ).
الوجه الثاني أن الكفر والكفار أنواع:(37/420)
منهم من كفره كفر عناد.
ومنهم من كفره كفر تقليد.
?إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ?[الزخرف:22]، ?وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ?[الزخرف:23].
ومن الكفار من كفره كفر إعراض معرض عن الحق ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ?[الأنبياء:24].
وإذا أشترط فهم الاحتجاج للحجة، فمعنى ذلك المصير إلى مخالفة الاجماع بالقول بأنه لا يكفر إلا المعاند، إذا قيل إنه يشترط فهم الاجتجاج يعني أن يفهم من أقيمت عليه الحجة أن هذه الحجة أقوى وتَدحض حجة الخصوم، فمعنى ذلك أن يصير القول إلى أنه لا يكفر إلا من كان معاندا فقط.
ومعلوم أن الكفار ليسوا كلهم معاندين؛ بل منهم المعاند، ومنهم غير المعاند، فمنهم من جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، ومنهم المقلد ومنهم المعرض إلى غير ذلك.
فإذن فهم الحجة ليس شرط في إقامتها ونعني بفهم الحجة فهم الحجة من حيث كونها داحضة بحجج الخصوم ومن حيث كونها أوضح من حجج الخصوم، فلو قال بعد إقامة الحجة عليه وبيان الأدلة من الكتاب والسنة وبيان معنى العبادة ويقيم الحجة عالم يعلم كيف يقيم الحجة ويزيل الشبهة، لهذا يقول العلماء الحجة الرسالية، كما يقول شيخ الإسلام في مواضع كثيرة: ويكفر من قامت به الحجة الرسالية. الحجة الرسالية يعني التي يقيمها الرسل أو ورثة الرسل ممن يحسن إقامة الحجة سمع بالحجة وأنصت لها ثم لم يقتنع، وقال أنا لم أقتنع، عدم الاقتناع هو عدم الفهم ليس بشرط في سماع إقامة الحجة، لهذا الشيخ رحمه الله نبه على ذلك بقوله (ولم يفهموا) وكونهم لم يفهموا بما أشربت قلوبهم من حب الشرك وحب البدع ومخالفة السنة.(37/421)
ثم بين رحمه الله فقال (فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادّعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالفه ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا? الآية)، إلى أن قال في آخرها ?كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ?[النساء:94]؛ يعني أن الله جل وعلا يمن فمن قال هذه الكلمة فينتظر في شأنه حتى يُرى ما يأتي به من حقوق لا إله إلا الله.
قال (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: (فتبيّنوا) ولو كان لا يقتل، إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك.) هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله محل إجماع بين أهل العلم في تفسير حديث أسامة بن زيد في قتله للرجل، وغير هذا الحديث من اسشباهه.
وأما الحديث التي علق فيها قتال الناس بقول لا إله إلا الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فإن في الحديث الاستثناء بقوله (إلا بحقها) وأعظم حقوقها الواجبة التي تدل عليها الكلمة المطابقة التوحيد.
قال (والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله») وهذا واضح أيضا، (وهو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحا) إلى آخر الكلام.(37/422)
وهنا تنبيه على أنه ليس ثم تلازم ما بين القتال والحكم بالكفر فقد يحكم بالكفر ولا يقاتل، وقد يقاتل وليس بكافر يعني ليس كل من قوتل فإنه كافر بل تقاتل الطائفة التي تمتنع عن إظهار شريعة من شرائع الإسلام التي تمنع شعيرة من شعائر الإسلام فاقول أنا لا أظهر الأذان لا أظهر الصلوات جماعة مثلا كل يصلي في بيته لا نقيم المساجد ونحو ذلك من شعائر الإسلام فإنه وإن كانوا مقرين بذلك؛ لكن إن منعوا هذا فإنهم يقاتلون وإن كان تركهم لبعض السنن؛ لأن الطائفة المانعة لشعيرة من شعائر الله تقاتل حتى تظهر شعائر الله.
وأظهر منه الطائفة الممتنعة التي لم تلتزم حكم من أحكام الله فإنها تقاتل قتال كفر وردة.
إذن فمن حكم عليه بأنه يقال أو يقاتل لا يلزم منه أنه يكفر وكل من كفر فقد بقتل وقد لا يقتل أيضا.
فإذن قد يكون الحال أن الكافر يقتل، وقد يؤخر فلا يقتل، وكذلك حال القتال فقد يقاتل من كان كافرا وقد يقاتل من ليس بكافر.
ومن النوع الأخير هذا الخوارج، فإن الخوارج لا يحكم بكفرهم لأن عليا رضي الله عنه سئل عنهم: أكفار هم؟ فقال من الكفر فروا. وفي كفرهم روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله والمنصور من الروايتان أنه لا يطلق القول بتكفير الخوارج لأن الذين قاتلوا عليا رضي الله عنه، وحصل منهم ما حصل مما هو معروف.(37/423)
قال (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) الصحابة رضوان الله عليهم علّموا العلم في المدينة وفي مكة وفي مصر وفي الشام وفي اليمن، والخوارج اجتمعوا من هذه الأقطار أتى طائفة منهم من اليمن وطائفة من المدينة وطائفة من مصر وطائفة من الشام، فتجمعوا على هذا، فلا يزكون بأنهم تلاميذ الصحابة، فإن التلمذة شيء والثبات على الحق شيء آخر، بل إن عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عن علي كان في المدينة من أكثر الناس إحكام للقرآن فكتب عمر رضي الله عنه إلى عاهله في مصر عمرو بن العاص فقال له: إني مرسل إليك برجل آثرتك به على نفسي وهو عبد الرحمن بن ملجم، اجعل له دارا يعلم الناس فيها القرآن، فلما وصل للمكتوب إلى عمرو استأجر له دارا أو اكترى له دارا فجعله يعلم الناس. وكان من أكثر الناس عبادة؛ عبد الرحمن بن ملجم، ومن أكثر الناس صلاحا في أول أمره حتى دخلته الفتنة بالقيام على عثمان رضي الله عنه، ثم سار مع علي إلى أن حصل قتل علي رضي الله عنه حتى إنه لما قتله وأرادوا القصاص منه قال لا تقتلوني دفعة واحدة؛ بل قطعوني أجزاء حتى أرى جسدي يقطع وأنا صابر في سبيل الله ولساني يلهج بذكر الله، وهذا من أعظم الفتن التي حصلت طائفة بعده حتى قال أصحابه بعده ممن غرهم هذا المظهر في مدح عبد الله بن ملجم قاتل علي:
يا ضربة من تقي – يعني عبد الرحمن بن ملجم يصفه بأنه تقي صالح -.
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
كان هذا من قول عمران بن حِطان وقد تاب -فيما يقال- في آخر عمره من قول الخوارج .(37/424)
المقصود من هذا أن قول الشيخ رحمه الله (حتى إن الصحابة يحقّرون أنفسهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة) يدل على أن تعلم العلم على من هو على الحق لا يعني أن يوصف صاحبه بأنه على الحق دائما فإن المعلم لا يكوم حكما على من تعلم العلم دائما، فكم خرج ممن علمهم أهل السنة والأئمة وأهل العلم ممن ليسوا على طريقة أهل السنة بل راحوا إلى البدع وإلى الضلالات وإلى بعض الكفريات، نسأل الله جل وعلا والعافية، حتى بعض من درس التوحيد في هذه المدارس والجامعات إلى آخره وعرف السنة وعرف العقيدة الصحيحة زاغ عنها بعد ذلك، فليست التزكية بأن شيخه فلان، وإنما التزكية بأنه ثبت على قول أشياخ من أهل السنة، وهذا ظاهر والحمد لله وفي قصة الخوارج عبرة لمن اعتبر.
قال (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) يعني في الكف عنهم بأن لا يقاتلوا (ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة) فإذا ظهرت مخالفة الشريعة فإنهم يقاتلون سواء أقلنا بكفرهم أو لم نقل بكفرهم؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم لمن قتلهم أجرا عند الله (جل وعلا)» وقال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد .(37/425)
قال (وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة من هذا الباب، وكذلك أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لمَّا أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ?[الحجرات:6] وكان الرجل كاذبًا عليهم، فكل هذا يدل على أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه) وهذا تطويل من الشيخ رحمه الله للإيضاح واستطراد للبيان بأن قول لا إله إلا الله محمد رسول الله لا ينفع صاحبه إلا إذا أتى بحقوقه إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، فإذا لم يأت بحقها فإنه لا يقبل منه ذلك بل إنما يقاتل قتال كفر إذا كان من ترك من حقها التوحيد، وإما أن تقاتل الطائفة قتال بغاة إذا كان الذي تركوا من حقها دون التوحيد فمنعوه ولم يمتنعوا منه.
نكتفي بهذا القدر ..
[الأسئلة]
س1/....
ج/ هذه موجودة عندنا (لم يفهموا ولن يفهموا) لأن صاحب البدعة ما يرجع عن بدعته إذا دخلت قلبه، إذا استحكمت منه لا يرجع مثل ما جاء في بعض الأحاديث «أبى الله أن يقبل صاحب بدعة توبة» وفي لفظ آخر «إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة» وزاد في بعض ألفاظه «حتى يدع بدعته» والملاحظ أن الذين دخلت فيهم البدعة واستحكمت فيهم أنهم لا يرجعون لأن أولئك يرونها تدينا يرون أن هذا هو الحق وأن غيره باطل، فلهذا لا يدعه إلى غيره، فالعبرة بالحق المطلق لا بالحق الإضافي.
س2/ ذكرت أن للإمام أحمد روايتين في تكفير الخوارج.
ج/ في تكفير الخوارج الذين خرجوا على علي الحرورية، وأما الخوارج الذين ظهروا بعد ذلك ولهم اعتقادات مختلفة فإن هؤلاء يعامل كل بحسب حاله.
س3/ هل هناك فرق بين الجهل والجهالة؟
ج/ نعم الجهالة تعد، والجهل عدم العلم.
س4/ أليس ظاهر كلام الشيخ أنه يرى كفر الخوارج كما ذهب إليه بعض العلماء من السلف؟(37/426)
ج/ نعم هو ظاهر كلامه وهو كلامه على القتال وعدم الانتفاع بلا إله إلا الله في ترك مقاتلتهم .
س5/ « يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» هل يدل على كفرهم استدل به من رأى كفر الخوارج لكن الصواب أنه لا يدل على ذلك لأن المروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية قد يكون مروقا مع بقاءء الأصل وقد يكون مروقا كاملا فهو محتمل.
س6/ من عمِل عمَلَ كفر سواء أكان قوليا أو فعليا لكنه يجهل الحكم أن هذا كفر لأن عادة بدله هذا؟
ج/ السؤال غير منضبط ، كيف يكون عمل كفر وهو قولي أو فعلي لابد يحدد الصورة التي يسأل عنها.
س/ لم قام ابن ملجم بأمر أصحابه بتقطيع نفسه حنى الموت ؟
ج/ هو ما أمر أصحابه أن يقطعوه حتى الموت هو طلب من ورثة علي من الحسن والمسلمين أن لا يقتلوه دَفعة واحدة وهو قتلوه بالسيف ضربة واحدة.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.
والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها كما قال في قصة موسى: ?فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ?[القصص:15]، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها في الأشياء التي يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.(37/427)
إذا ثبت ذلك، فإن استغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منها أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرْب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، [وذلك] أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السَّلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسِه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا من عبادك المتقين.
أما بعد:
فهذه شبهة أخرى جديدة ذكرها الإمام المجدد رحمه الله تعالى بأن أهل الشرك في زمانه من العلماء وأشباههم كانوا يوردونها على الشيخ رحمه الله مستدلين بهذه الشبهة على إبطال توحيد الله جل وعلا في عبادة الاستغاثة، والمشركون حين احتجوا بهذه الشبهة وجادلوا بها يريدون إبطال الأصل الذي يعتمد عليه الموحدون، وهو أن صرف العبادة لغير الله جل وعلا شرك أكبر، فهم استدلوا ببعض ما ورد لإبطال توحيد العبادة، ويريدون بعد هذا أن يقصروا الشرك في عبادة الأصنام وفي عبادة الأوثان التي كان عليها أهل الجاهلية في الزمن الأول على ما فهموه من عبادة الأصنام والأوثان.(37/428)
وهذا الإيراد الذي ذكره الشيخ رحمه الله من العجب أنه تتابع عليه الذين ردوا على الشيخ قبله؛ يعني في زمانه وبعده رحمه الله تعالى، فالذين كتبوا في تجويز الاستغاثة بالقبور وبالمقبورين وبالأولياء الصالحين وغير الصالحين، هؤلاء احتجوا بهذا الدليل وهو أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، وهذا النوع من الاستغاثة هي استغاثة بعد الممات، فيقولون الممات حلَّ والاستغاثة هذه بعد الممات، وحياتهم في قبورهم كحياتهم في الموقف ولا فرق إذ هذا وهذا حياة لهم، فيستدلون بالاستغاثة بآدم وبنوح وبإبراهيم بموسى ثم بعيسى ثم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يستدلون بذلك على أن الاستغاثة بغير الله جل وعلا ممن ليس في الحياة الدنيا جائزة.
وهذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله هنا حيث ساق ما ساق قال في آخر كلامه (قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا فالجواب أن نقول) وقبل سياق جواب الإمام رحمه الله تعالى نذكر أصلا في أصل شبه المشبهين من المشركين وذلك أن توحيد العبادة أدلته كثيرة محكمة والمجيب على الشبه إذا اشتبه عليه جواب، فإنه يعود إلى الأصل وهو تقرير الأدلة التي جاءت في توحيد العبادة، ثم يُدخل الصورة هذه التي أوردها المشبه في تلك الأدلة حتى يبطل الاستدلال من وجه إجمالي فهذه طريقة نافعة.
ثم بعد ذلك يأتي إلى الجواب الذي يكون فيه تخصيص بتلك المسألة التي احتجوا عليها ببعض الأدلة، ومسألة الاستغاثة راجعة إلى الدعاء، فإن الاستغاثة طلب ودعاء؛ لأن الأصل في فعل (استفعل) أي طلب الشيء، وقد يكون من غير الطلب في مواضع متعددة، فإذا أوتي بـ(استفعل) فإنها تحمل على الطلب لأنها تدل عليه في مواضع فاستسقى طلب السقيا، واستغاث طلب الغوث، واستعان طلب العون إلى آخر أمثال ذلك.(37/429)
فإذا كانت طلبا فإنها سؤال وإنها دعاء، ولهذا الأدلة العامة في الكتاب والسنة امنع السؤال بغير الله جل وعلا تمنع دعاء غير الله تمنع الطلب من غير الله جل وعلا كما في قوله ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]وكما في قوله جل وعلا ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، وبخصوص الاستغاثة قال جل وعلا ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ?[الأنفال:9]، وكما في قوله ?إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ?[الرعد:36]، ونحو ذلك من الآيات التي فيها إفراد الله جل وعلا بالطلب وإذا كان كذلك في القرآن فهذا عام يشمل ما يقدر عليه المطلوب منه وما لا يقدر عليه وكذلك ما جاء في السنة من قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» حتى السؤال والطلب من مخلوق لا يجوز بل يجب إفراد الله بالطلب هذه أدلة الكتاب والسنة في هذا بخصوصه.(37/430)
لكن هذا العموم أو هذا الإطلاق ورد ما يقيده في النصوص، فالنصوص العامة كما ذكرنا لك أو المطلقة تمنع السؤال مطلقا إذا سألت فاسأل الله بلا تفصيل، هل يقدر أو لا يقدر؟ هل هو حي أم ليس بحي؟ هل هو حاضر أم ليس بحاضر؟ إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وكذلك ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18] لكن جاء في القرآن والسنة تقييدات جعلتنا نقيد هذا العموم نقيد هذا الإطلاق أو نخص هذا العموم ببعض الصور، ولهذا القيود في الأدلة ظاهرة فجعلوا تلك المطلقات مشروطة بشروط ولهذا قال العلماء تلك المطلقات ينظر في النصوص هل قيدت أم لا ؟ كفهم عام فإنه يبقى على عمومه حتى يرد مخصص كفهم مطلق فإنه يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده فنظرنا في القرآن فوجدنا أن الرب جل وعلا ذكر أن نبيه موسى عليه السلام في أول سورة القصص ذكر قوله جل وعلا (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فعلمنا بذلك أن موسى عليه السلام وهو نبي الله وكليم الله وإن كان هذا قبل أن يوحى إليه فهو ليس إذ قال ذلك بمشرك الشرك الأكبر لأن الأنبياء منزهون عن الشرك الأكبر قبل النبوة وبعدها من باب أولى كما هو واضح ظاهر.
فإذن قوله (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) هنا الله جل وعلا ذكر الاستغاثة فدل على أن هذا النوع من الطلب خارج عن الإطلاق، فهذا ننظر في هذا الحال في بساط الحال في هذه الآية، فنقول: هذا طلب الغوث من موسى وهو حي أمامه وهو قادر لأنه وكزه فقضى عليه أو أنه في محل القدرة، أي في حكم القادر وكذلك أنه يسمع خطابه، فظهر لنا من هذا الدليل قيودات.
وكذلك نعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم استغاثوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته في مواضع، وإذا كان كذلك فإنهم استغاثوا بمن يسمع وهو حي ويقدر على أن يغيثهم.(37/431)
وكذلك إجازة طلب الغوث بهذه فيما يستغيث المرء بمن هو يقدر على إجابة ما به من كرب؛ يعني بشروطه.
فدلنا ذلك على أن تلك المعلومات إذا سألت فاسأل الله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) مقيدة، فلهذا قيّد العلماء بهذه النصوص المقيدة العموم فقالوا إذا كان المستغاث به المسؤول المطلوب إذا كان حيا -يخرج الميت-، إذا كان قادرا على الإنفاذ أو بحكم القادر، إذا كان حاضرا يسمع فإن الأدلة دلت على جواز الطلب منه وعلى جواز الاستغاثة به وعلى جواز الاستعانة، فإن كان غائبا فإنه يبقى العموم على بابه يبقى المطلقات على بابها، فإن كان غير حي فيبقى.
فإذن هنا العمومات بالإجماع يعمل بها والمطلقات بالإجماع يعمل بها العموم مثل قوله (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ومثل قوله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) وأشباه ذلك، فيُعمل بالعموم حتى يرد المخصص، وهنا المخصصات المنفصلة كما يرد في الأصول دلتنا على اعتبار الشروط.
فإذن من منع هذا منع الاستغاثة بغير الله جل وعلا فيما لا يقدر عليه ذلك المستغاث به، مستمسك بالأصل مستمسك بالعمومات، مستمسك بالأدلة المحكمة في هذا الباب، فمن أجاز صورة من الصور فهو الذي عليه الدليل.
ولهذا نقول هذا الدليل الذي أورثتموه لا يخرج عن القيود التي ذكرناها، هذه الشبهة بالاستدلال بهذا الدليل لا يخرج عما ذكرناه؛ بل هو مؤيد ودليل من السنة على ما ذكرناه من القيود.(37/432)
واستدلالكم به على أن الحياة التي بعد الموت لا تسمى حياة وإنما هي حياة الدنيا ثم بعده موت ويوم القيامة والبعث له حكم ما قبل الموت؛ لأن هؤلاء أحياء في قبورهم، ثم بعد ذلك هم أحياء، فلا فرق نقول هذا لا يستقيم مع الأدلة الكثيرة في القرآن في أن الناس أُحيوا حياتين وأميتوا ميتتين قال جل وعلا ?كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً?[البقرة:28]، يعني في بطون أمهاتكم فأحياكم بنفخ الروح ثم يميتكم بذهاب الروح ثم يحييكم بعود الروح، وكذلك قوله جل وعلا في سورة غافر ?رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ?[غافر:11]، فدل على أن النصوص فيها حياتان وفيها مِيتتان، فمن جعل الموت والحياة حالة واحدة كحال هؤلاء المشبهة الذين أوردوا هذه الشبهة فإن النصوص تبطل هذا الإيراد، فهذا الإيراد هذه الشبهة مبطلة كما ذكرنا من هاتين الجهتين:
أولا من حيث إن هذا الدليل هو لنا وليس علينا؛ لأن فيه القيود بأن هؤلاء أحياء يتكلمون قادرون، آدم قادر على الدعاء، نوح قادر على الدعاء، وموسى قادر على الدعاء، ومحمد عليه الصلاة والسلام قادر على الدعاء، وعيسى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قادر على الدعاء، ثم نقول إن هؤلاء كانوا في حياة ثم صاروا إلى موت، وهم مع موتهم في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء؛ لكن فرق بين أحكام الموت وأحكام الحياة، ثم يصيرون إلى حياة، فدل على تنوع الأحوال فلكل حال دليلها الذي يخصها.
فإذن أولا جواب الشبهة هذه العمومات باقية، أدعاء هذا الدليل يصلح لجواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا باطل؛ لأنهم استدلوا بدليل في الحياة والكلام معهم في الممات إذا قالوا الممات وما([65]) بعده من يوم القيامة كل هذا يعتبر نوع واحد من الحياة، نقول النصوص دلت على أن ثمة حياتين وثمة موتين، فإذن يحتاجون إلى دليل آخر ولا دليل عندهم.(37/433)
هذا تقرير لهذه المسألة، ولك أن تُنَظِّرَ مثلها في كل أنواع الطلب، كل الأنواع التي يستدلوا بها في أنواع الطلب تستدل بمثل هذا؛ لأنهم يوردون بعض الأدلة والآثار والإشراك بالله في مثل هذا ولك أن تطرد هذا في أمثاله.
قال الإمام رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة (والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه) وهذا تنبيه من الله جل وعلا في مسألة عظيمة وهي مسألة القدر؛ لأنهم طبع على قلوبهم فلا يفقهون إلا قليلا، (فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها)، تستدلون بشيء ليس هو في المسألة التي فيها البحث، المسألة التي فيها البحث الاستغاثة بالأموات، الاستغاثة بمن لا يقدر، وأنتم تستدلون بدليل ليس في محل الدعوى فلا شك أن هذا باطل عند جميع العقلاء استدلال في بدليل ليس بمحل الدعوى استدلال باطل، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، وتلحظ هنا قوله فيما يقدر عليه، وفي آخرها قال (في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله)، وبين العبارتين فرق، هنا (فيما يقدر عليه) وهناك (فيما لا يقدر عليه إلا الله).
والجواب عن هذا الإيراد أن ضابط الاستغاثة كما ذكره في أول الكلام أن الاستغاثة بالمخلوق جائزة فيما يقدر عليه، والاستغاثة الشركية وأن يسنغيث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق أو فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن بين العبارتين فرقا، هو لا يقدر ولكن الآخر يقدر قد لا يقدر هو ولكن الآخر يقدر، وهذه من حيث الاستغاثة بغير الله جل وعلا مما لا يقدر عليه ذلك الغير يحتاج إلى تفصيل، وقد ذكرنا شيئا من تفصيلها في شرح كتاب التوحيد كما هو موجود في شروح كتاب التوحيد.
وخلاصة الأمر أن الضابط الأيسر أن تقول فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما فيما يقدر عليه المخلوق بأنه جائز، وفيما لا يقدر عليه المخلوق لأنه شرك هذه تحتاج إلى ضوابط.(37/434)
فمثال ذلك لو استغاث بمهندس للعمارة فيما يتعلق بأمر طبي، هو لا يقدر على ذلك، صحيح؟ إنما يقدر عليه الطبيب لكن هنا الاستغاثة لا نقول إنها شرك أكبر لأن هذا جنسه وليست القدرة على ما يقدر عليه الطبيب بخصوصه بل القدر متنوعة، يأخذه ويذهب به إلى طبيب يكون معه إلى آخر الأنواع ولهذا بعض أهل العلم يعبر بقوله إن الاستغاثة بالميت فيما لا يقدر عليه أو الاستغاثة بالغائب فيما لا يقدر عليه إنها شرك أكبر، وهذه لا تنضبط عند أكثر الناس فهي صحيحة لكن تحتاج إلى عالم يضبطها لأن المسائل متشابهة فالذي يضبط المسألة هو قول الشيخ بآخر الكلام أو بغيبته في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله؛ يعني إذا طلب من المخلوق الميت أو الغائب شيء لا يقدر عليه إلا الله فإنه يكون شركا أكبر أما فيما يقدر عليه المخلوق لكن هذا المخلوق المعين لا يقدر عليه، قد تكون وقعت شبهة عند المستغيث وحال الاستغاثة يكون هناك ضعف، وقد يكون هناك ظن أن هذا يقدر أن يضيف إلى آخر مات يتصل بهذا مما ذكرنا شرحه.
المقصود من هذا أن الضابط الأخير الذي ذكره الشيخ في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله هذا ضابط صحيح كما ذكره الشيخ في الحكم بالشرك والأول في الحكم بالجواز، لهذا الشيخ نوّع العبارة فقال الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائز، والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر.
وهذا ضابط صحيح وهو أحسن من أن نقول في المقامين فيما يقدر عليه المخلوق أو فيما لا يقدر عليه بما يحصل معه من الاشتباه.
قال رحمه الله (وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأشياء التي يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم) استغاثة العبادة يعني طلب الغوث من الغائبين مع اعتقاد أن لهم تدبيرا في غيبتهم هذه استغاثة العبادة، ويكون معها رجاء وخوف، أو رجاء ومحبة أو خوف ومحبة أو الثلاثة معا.(37/435)
فإذن الاستغاثة منها ما هو عبادة ومنها ما ليس بعبادة، وما أنكرناه هو استغاثة العبادة، وهو أن يستغيث بغائب إما ميت أو حي غائب فيما يقدر عليه إلا الله جل وعلا يستغيث به في شفاء مرضه، يستغيث به في أن يخلص من المدلهمات التي أصابته، في كشف الكربات في إزالة المصائب التي أصابته، في مغفرة الذنب في إتيانه الولد في تأمينه مما يخاف إلى آخر ذلك.
قال (إذا ثبت ذلك) يعني الجواب الأول الذي ذكره الشيخ وجه الاستدلال لصالحهم، قال هذا الدليل لنا وليس علينا ثم قال (إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الله حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة) جوازه في الدنيا لأنه يجوز أن تطلب من أحد في الدنيا أن يدعو لك؛ لأنه يقدر على هذا الشيء، كذلك في الآخرة يجوز أن تطلب أن يدعو لك لأنه يقدر على ذلك وهاتان حياتان، والكلام في الموت، الكلام في الموت أو حين الغيبة هو محل النزاع قال (أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره) يعني أن الصحابة لم يرد عنهم شيئا البتة وحاشاهم وكلا أنهم أتوا قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستغاثوا به، أو أتوا قبره فاستشفوا به طلبوا منه الدعاء فهذا لم يكن يفعله الصحابة رضوان الله عليهم بعد موته البتة، قال (بل أنكر السَّلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نفسِه) يعني السلف كما في قضية علي بن الحسين وعدة حوادث في هذا عن السلف أنهم أنكروا من يأتي إلى القبر للدعاء، وإنما من دخل المسجد أن من أتى من سفر كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما وغيره يأتي فيسلم عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ سلاما، أما أن يتخذ القبر للدعاء(37/436)
يعني ما حول القبر أو أنه يدعى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نفسه هذا لم يكن عند السلف؛ بل بعضهم غلط ودعا الله جل وعلا وحده عند القبر فأنكر عليه بعض السلف كما ذكرت لك، إذا أنكروا على من قصد القبر لدعاء الله جل وعلا فكيف لا يُنكرون من قصد القبر لدعاء المقبور نفسه، لا شك أن هذا أولى بالإنكار.
المقصود من هذا أن الشبهة هذه ليست بمستقيمة؛ بل هي داحضة كما هي شبه أهل الشرك، ولله الحمد أهل السنة وأهل التوحيد ليس لهم غرض في هذا الأمر، لم يأتوه عن هوى لم يأتوه عن شهوة وإنما أتوه تطبيقا لما جاء في الكتاب والسنة ورعاية لما ورد وإقامة لحق الله جل وعلا فلو أجاز الله جل وعلا ذلك لاتبعناه كما قال سبحانه ?قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ?[الزخرف:81]، لو أجاز الرب جل وعلا ذلك لاتبعناه ولكن لا دليل البتة يجيز هذا لأن هذا هو الشرك الأكبر وهذا عند أهل التوحيد وظهور ولهذا قال في القصة المعروفة أن رجلا حاج عن أهل الشرك ما هم عليه من الشرك فقالوا له انتم تقولون هذا لأجل أن محمد بن عبد الوهاب قال تعصبا له فقال هذا الموحد كلمة التوحيد خالصة نتيجة عن بينة لا عن تقليد، قال: لو قام محمد بن عبد الوهاب من قبره فقال ما قلت لكم غلط ما اتبعناه. لم؟ لأنهم أخذوه بالحجة ليس بالحجة من قول محمد بن عبد الوهاب إنما بالحجة من قول الله جل وعلا وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع سلف الأمة، والإمام محمد بن عبد الوهاب إمام مصلح مجدد دل الناس على معاني النصوص، وهذه وظيفة أهل العلم أهل العلم الراسخون منهم يؤخذ قولهم؛ لأنهم دلوا الناس على نعاني النصوص، وفي فقههم للنصوص وفهمهم لها قالوا هذا معنى الآية، وهذا ما دل عليه القرآن وهذا ما دلت عليه السنة، أو تارة يجتهدون ويذكرون من القواعد ما يكون في نفوسهم من دلالات النصوص، فيفهمون من الشريعة بمجموع أدلتها وبروح الشريعة أن(37/437)
الشريعة أتت بكذا، فيقولون هذا ويقبل كلامهم لأنهم هم الفقهاء بالكتاب والسنة، والإمام المصلح رحمه الله إنما قال للأمة معنى الآيات كذا، ومعنى الأحاديث كذا، ودلت على هذا.
فإذن هو ناقل للكتاب والسنة وموضح لمعناهما لما آتاهما الله جل وعلا من متابعة السلف الصالح ومن الرسوخ في العلم وفهم الأدلة.
فإذن ليست المسألة عن تقليد، وإنما هي عن وضوح حجة ووضوح برهان، ولله الحمد والمنة.
?????
[المتن]
ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم عليه السّلام لما ألقي في النّار اعترض له جبريل في الهواء فقال له ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا(1) فقالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم.
فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه: ?شَدِيدُ الْقُوَى?[النجم:5]، فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم [عليه السلام] في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل. وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجًا فيعرض عليه أن يُقرضه أو أن يهب له شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر حتى يأتيه الله برزق لا منّة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟
[الشرح](37/438)
هذه الشبهة أضعف من الشبهة الأولى ولكن المشرك والعياذ بالله يتشبث بخيط العنكبوت للإبقاء على ما هو عليه، قصة إبراهيم هذه ذكرها بعض المفسرين وأن جبريل عليه السلام اعترض له في الهواء لما ألقي في الهواء فقال له يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام وهو إمام الحنفاء، قال: أما إليك فلا؟ قالوا لو كانت الاستغاثة شركا لم يعرضها على إبراهيم، وكما ترى ان الاستدلال ليس في محل الدعوى والدليل ليس في محل الدعوى، فالكلام في الاستغاثة بالأموات، وأما الاستغاثة في أصلها كما قلنا دلت الأدلة على جوازها بشروطها، وأما الاستغاثة التي نتكلم فيها الاستغاثة بالغائبين الاستغاثة بالأموات، ولهذا لو قال قائل لهم، إذا قلتم تقولون ذلك فهل يجيز أحد منكم أن يستغيث بإنسان اليوم، مجمع على حياته بين المسلمين وهو عيسى عليه السلام رسول من أولي العزم من الرسل، فهل تجيزون الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام، وهو حي في السماء رفعه الله جل وعلا إليه، ولا قائل بين المسلمين البتة أنه تجوز الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام إنما كلامهم في الأولياء المقبورين.(37/439)
لهذا نقول هذه الشبهة لأنه عرض جبريل على إبراهيم هذه لنا وليست علينا؛ لأن جبريل عليه السلام قوي بل شديد القوى فقد أتى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وقال له: يا محمد لو شئت لأطبقت على أهل مكة الأخشبين، فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو الرؤوف الرحيم «لا لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله» عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فجبريل عليه السلام يخلص إبراهيم من النار هذا امر سهل ميسور عليه وجبريل كان حاضرا عرض الإغاثة لإبراهيم، هذه بلا شك محل للدعوى لكن كما ذكرت لك المشرك يتشبث بخيط العنكبوت (فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى فإن جبريل عليه السلام عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه: ?شَدِيدُ الْقُوَى?) -?عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى?[النجم:5-6]- (فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم عليه السلام في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.) ولكن إبراهيم عليه السلام في هذا أرادها من الله جل وعلا، وهذا يدل على الأصل الذي أصلناه ودلت عليه النصوص وهو أنه من استغنى عن الخلق فهو أحمد فهو المحمود؛ لأن الأصل أن يستغنى عن الخلق لكن الناس لا تستقيم أمورهم إلا بحاجة بعضهم إلى بعض، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى عددا من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، قال: كان أحدهم يسقط سوطه وهو على دابته فلا يسأل أحدا أن يرفعه إليه فينزل ويأخذه. وذلك الكمال، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان قلما يحتاج إلى غيره، إذا كان الشيء يمكن أن يعمله بنفسه عمله بنفسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ –يعني في الأصل- وأما غير ذلك فهو جائز لكن ليس هو الأصل يعني أن هذا الدليل الذي أوردوه وغن لم يستقم دليلا(37/440)
هذا لنا وليس لهم.
فقال من حيث التمثيل (هذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منّة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟) وهذا الجواب واضح الدلالة واضح القوة، ولكن المشركون طبع الله على قلوبهم.
نكتفي بهذا القدر بقي معنا قد يكون بقي درسان أو ثلاثة.
[الأسئلة]
س1/ لم نفهم حكم الاستغاثة بمهندس بأمر طبي!!
ج/ لا، ليس شركا لأنه استغيث بغير عمله .
س2/ هل المرأة التي قالت: وامعتصماه ارتكبت شركا أكبر؟
ج/ لا، ليس ذلك من الشرك الأكبر، قد يكون إذا أرادت النداء وهي تعلم أنه لن يصل إليه وليست متوجعة قد يحصل ذلك، لكن الأصل فيها أنه ليس شركا.
كل يسألون هل هذه القصة ثابتة تحتاج إلى مراجعة.
س3/ ماذا تعني بقولك أن عيسى مجمع على حياته في السماء؟
ج/ عيسى عليه السلام ما مات وما قتل وما صلب ولكن الله جل وعلا توفاه؛ يعني استوفى له مدته الأولى في الأرض ?إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، فرفع إلى السماء حيا ووجه الشبه مكانه فتقل اليهود الشبه فصلبوا الشبه وأما عيسى عليه السلام فهو حي في السماء وينزل ونزوله من أشراط الساعة الكبرى. ينزل عليه السلام ويعيش في الأرض مدة قالوا سبع سنين ومنهم من قال أقل ومنهم من قال أكثر ثم يموت، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، وهو الآن عليه السلام حي في السماء، ولا قائل إنه يجوز الاستغاثة به وهو حي، ما أحد يقول هذا إلزام لهم لو قالوه، لصرحت عليهم جميع المراجع التي يرجعون إليها شرك وأن هذا يضاهي فعل النصارى.
س4/ هل الاستغاثة بعيسى عليه السلام شرك؟
ج/ نعم. بلا شك.
س5/ هل طلب الدعاء من شخص سنة؟(37/441)
ج/ طلب الدعاء من الحي؛ يعني ترى من ترجو أن يجاب إما بكونه صالحا، أو لأنه يتحرى أوقات الإجابة أو أنه في سفر، أو ما أشبه ذلك من أسباب الإجابة، فتطلب منه أن يدعو لك الأولى أن لا تطلب منه، وإذا طلبت فإن السنة أن تنوي نفعه ونفعك جميعا، لا تنوي حين تطلب أنك محتاج إلى أن يدعو لك، هذا خلاف السنة، السنة أن تنوي النفع حين تطلب منه الدعاء تريد أن تنفعه يعني بأن ينوي الملك ويقول لك بالمثل وتنفع نفسك أيضا بالدعاء هذا هو التحقيق.
وعليه يحمل ما ورد من في السنن من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لعمر أن يدعو له مع أن لحديث ضعيف.
وكذلك طلب الدعاء من [...].
س6/ لماذا قول المرأة وامعتصماه شرك؟
ج/ قلت أنه ليس بشرك، بمعنى أنها استغاثت بغائب ليس بموجود لأن وامعتصماه الواو هذه ليست متمحضة للنداء والاستغاثة في اللغة، تحتمل أنها للتوجع تحتمل أنها للندبة، وفي اللغة اللفظ محتمل وتدرأ الحدود بالشبهات.
بارك الله فيكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
?????
[المتن]
ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة [جدًا] تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون إن حق ونحن نفهم هذا ونشهد أنه الحق ولكن لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى ?اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً?[التوبة:9]، وغير ذلك من الآيات كقوله ?يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?([66]).(37/442)
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ?[النساء:145].
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبيّن لك إذا تأملتها في ألسنة النّاس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا أو جاه أو مداراة [لأحد].
وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا فإذا سألته عمّا يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.
اللهم علمنا ما ينفعنا ونفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
أما بعد : فهذه صلة لما اتفق أن بينا من مقاصد هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات لما أورد الإمام المجدد رحمه الله تعالى جملا من أصول الشبهات التي يوردها أعداء الدين وأعداء دعوة والتوحيد، ختم الكلام بإيراد شبهة، وهذه الشبهة راجعة إلى العمل، والشبه السابقة راجعة إلى العلم يعني بالتوحيد وببيان أنه الحق ورد ما يجادل به المشركون في صحة التوحيد وصحة اعتقاد ما دلت عليه كلمة التوحيد.(37/443)
قال الإمام رحمه الله (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا) وفي قوله هنا (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى) فيه يعني في إيراده للاستثناء هذا إن شاء الله تنبيه لطالب العلم؛ بل ولكل مؤمن أن يستعمل هذه الكلمة فيما يريد أن يفعله من الأمور العلمية ومن الأمور العملية، واستعمال هذه الكلمة ينقسم إلى واجب مستحب ومتأكد فأما الواجب فهو إذا قرنها بتأكيد وعزم وتصميم او كان مع ذلك أو كان معها قسم في فعل شيء ما وهذا مأخوذ من قول الله جل وعلا ?وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ?[الكهف:23-24]، فقوله هنا جل وعلا (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) فيها النهي كما هو ظاهر، والنهي متعلق بقوله (إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا) وهذه الجملة مأكدة بإن كما هو وعلوم وأعظم من ذلك إذا أقسم على الشيء كأن يقول القائل والله لأسألن كذا وكذا فهذا يجب عليه أن يقول في ذلك إن شاء الله، والحال الثانية أن تكون متأكدة الاستحباب وذلك في غير ما ذكرنا مما يجري في عادة الكلام فيما تستقبل من أمور سأفعل كذا، وسأقوم بكذا وسأقول كذا وسأذهب ونحو ذلك هنا يسحب بتأكد أن يقول المرء إن شاء الله؛ لأنه لا يدري هل يفي أو لا يفي وتعليقه بالمشيئة إخراج له من الحول والقوة والتذلل والتبرؤ من الحول ولقوة إلى حول الله جل وعلا وقوته.(37/444)
فإذن فيما يستعمل أهل العلم فيما يعدون به يأتون بهذه الكلمة إن شاء الله تعالى، والإمام رحمه الله استحضر فيما يظهر عدة أشياء حين قال (ولنختم الكلام) استحضر عدة أشياء، فخشي أن ينسى فأتى بإن شاء الله تعالى؛ لأنه بالاستقراء وجدنا كثيرا من المصنفين وعدوا في كتبهم بأنهم سيبسطون القول في مسألة في موضع آخر ولم يقولوا إن شاء الله ففاتهم في الموضع التذكر، وهذا موجود في كتب كثيرة، فيكثر في فتح الباري في مواضع عدة قال ستأتي في كتاب كذا وسيأتي بيانها في باب كذا ولم يقل إن شاء الله ففاته، مع طول مدة التأليف حيث أمضى في تأليفه أكثر من ثلاثين سنة كما هو معلوم، كذلك صاحب الروض المُرْبع في فقه الحنابلة في مواضع بل في موضع أو موضعين قال وستأتي في كذا ثم لم يأت بها.
المقصود أنّ طالب العلم حتى ولو كان بحثه قريبا فيما يكتب أو فيما سيتحدث به، فيقول إن شاء الله سنتكلم عليها إن شاء الله، حتى يوفَّق لأن كل شيء بمشيئة الله جل جلاله، قال هنا رحمه الله (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا تُفهم مما تقدم) يعني أنها لم تتقدم بنصها ولكن بمفهومها فما تقدم يفهم منه هذا التقرير والمفهوم لا يتفطن له كل أحد؛ بل الناس يختلفون في التنبه لباطن الكلام ولجِماعه وإشارته ودلالاته اللازمة، ولهذا أورد هنا ما يفهم لكن التصريح والإيضاح لشدة أهمية ذلك، قال (ولكن نُفْرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها) لعظم شأنها لأنها تفرق بين المؤمن والمنافق -كما سيأتي إن شاء الله- ولكثرة الغلط فيها؛ لأن الذين زعموا أنهم من أهل التوحيد وأنهم أقروا به في زمن الشيخ رحمه الله غلطوا في ذلك وظنوا أن الإقرار بالتوحيد يكفي، هل أن يتركوا الشرك فقالوا نعم هذا الذي قال محمد بن عبد الوهاب حق وهذه دلالات النصوص صحيحة؛ ولكنهم لم يتركوا الشرك هملا ولم يتبرؤوا منه عملا مداراة لقولهم أو خوفا على مال أو جاه أو ما أشبه ذلك.(37/445)
ولهذا قال (ولكثرة الغلط فيها) يعني في زمانه وفي كل زمان يشبه زمانه (فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا)، قوله (لا خلاف) يعني عند أهل السنة والجماعة لأن أهل السنة والجماعة عندهم الإيمان ثلاثة أشياء مسماه يقع على ثلاثة أشياء الاعتقاد الباطل والقول باللسان والعمل بالأركان، فالإيمان عندنا هو:
· اعتقاد بالجنان وهذه هي النون الأولى.
· والقول باللسان وهذه هي النون الثانية.
· والعمل بالأركان.
والإيمان أركانه ستة وأعظمها وأولها الإيمان بالله.
والإيمان بالله منقسم إلى ثلاثة أقسام:
· إيمان بتوحيد الله في ربوبيته.
· وإيمان بتوحيد الله في إليهته.
· وإيمان بتوحيد الله في أسمائه وصفاته.
فإن أقر بقلبه بتوحيد الربوبية والألوهية ونطق بلسانه بتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات؛ لكنه لم يعمل بتوحيد الألوهية فلا خلاف أنه فقد ركنا من أركان الإيمان، لم يعمل بالإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله فيه توحيد الله بالعبادة فإذا أشرك مع الله جل وعلا إلها آخر فإنه لا خلاف كما ذكر الإمام رحمه الله أنه لم يَصِر مسلما بإيمانه بكل الأركان إذا فقد العمل بتوحيد الإلهية، ولهذا قال فإن اختل شيء من هذا؛ يعني من هذه الثلاثة مجتمعة، أن يكون بالقلب والمقصود به قول القلب وهو اعتقاده.(37/446)
وقولنا قول القلب هذا مسماها بعض السلف سمّى الإخلاص والاعتقاد قول القلب، وهذه تسمية اصطلاحية وإلا فإن القول لا يُنسب للقلب لفظا، وإنما قيل قول القلب للتقسيم ما بين العمل والقول، فالقول قسيم العمل، ولما كان للقلب عمل بالاتفاق سموا ما ليس من عمل القلب قول القلب، لاكتمال التقسيم، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في مواضع عن الإخلاص والاعتقاد يقول هو الذي يسميه بعضهم قول القلب، وهذا ظاهر المقصود أن قول الشيخ رحمه الله (لابد أن يكون بالقلب) يعني الإيمان يكون بالقلب الذي هو الإقرار بتوحيد الله جل وعلا والعلم بذلك وإخلاص الدين لله جل وعلا إخلاص الإقرار يعني أن لا يكون مقرا كحال المنافقين؛ بل أن يكون في اعتقاده مخلصا، أو كحال المستكبرين وما أشبه ذلك، واللسان يعني أن يشهد فيما دل عليه الإيمان، والشهادة عند السلف فيما فسروا به موالد الشهادة في القرآن كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولي العزم قائما بالقسط وكقوله إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وأشباه ذلك، ففسروا الشهادة بأنها اعتقاد ونطق وإعلام وإخبار، فالشهادة ليست هي القول وحده وليست هي الاعتقاد وحده؛ بل لابد أن يعتقد وأن يقول وأن يُعلم غيره بذلك إلا إذا كان ثم ما يرخص به في كتمان الإيمان في مواضع، فالشهادة تضم هذا، ولهذا صار قول اللسان هذا جزء من الإيمان، هناك اعتقاد بالجنان وقول باللسان والعمل بالأركان يعني بما دل عليه.(37/447)
إذا تقرر هذا فمن المتقرر أيضا عند أهل السنة والجماعة بلا اختلاف بينهم أن الإيمان لا يصح من أحد إلا بقدر يصحح هذا الإيمان من الإسلام وكذلك من المتقرر عندهم باتفاق أن الإسلام لا يصح من أحد -يعني الأعمال العمل بالأركان الأربعة العملية وغير ذلك- إلا بقدر من الإيمان هو القدر المجزئ هذا القدر المجزئ من الإيمان الذي به يصح الإسلام هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على القدر المجزئ، وإيضاح ذلك له موضعه وأوضحنا مرارا يعني القدر([67]) المجزئ في الإيمان بالله، القدر المجزئ في الإيمان بالرسل، القدر المجزئ في الإيمان بالرسل إلى آخر ذلك، فلا يصح إسلام حتى يأتي بقدر مجزئ من الإيمان به يسمى مسلما فلا يتصور أن يكون ثم مسلم ليس معه إيمان البتة أو ثم مؤمن ليس معه إسلام البتة؛ بل لابد في الإسلام من إيمان يصحح ذلك الإسلام ولابد في الإسلام من إيمان يصحح \لك الإسلام ولابد في الإيمان من إسلام يصحح ذلك الإيمان يعني قدرا مجزئا.
إذا تقرر هذا بلا خلاف تنبهت لدقة المصنف رحمه الله إذ قال (فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا) ولم يقل مؤمنا، لم يقل مؤمنا لسببين:
الأول أنه لو نفى الإيمان قد يتوهم أنه يثبت الدرجة التي هي اقل منه وهي الإسلام، وهذا غير مراد فنفى الأقل حتى لا يتوهم المعنى الباطل.
السبب الثاني هي الإسلام لأنه أتى بعبادات ولكن لم يأتِ بالإيمان المصحح لها، فنفي عنه الإسلام لأنه وإن كان أتى بظاهر الإسلام لكن لم يأتِ بالتوحيد الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ففيه الركن الأول من الإسلام، وكذلك لم يحقق الإيمان الذي هو بالقلب واللسان والعمل.(37/448)
إذا تبين لك ذلك ففصل بعد ذلك الإمام عليه رحمة الله تعالى بقوله (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما) وتقرير هذا أن الكفر عندنا -يعني عند أهل السنة والجماعة- الكفر يكون إخراجا مما ضده الذي هو الإيمان فالإيمان إذا كان فيه اعتقاد وقول وعمل، فضده الكفر يكون باعتقاد يضاد الاعتقاد، وبقول يضاد القول، وبعمل يضاد العمل، ولهذا مورد الكفر يكون بالاعتقاد، ويكون بالقول، ويكون بالعمل؛ لأن الكفر ضد الإيمان، ويتصور أن يكون المرء يعتقد اعتقادا حقا؛ لكن لا يعمل، فليس إذن داخلا في الإيمان، فهؤلاء هم المستكبرون والاستكبار أحد نوعي الكفر؛ لأن الذين كفروا على قسمين منهم من كفر بعد علم هؤلاء هم المستكبرون إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين وقال جل وعلا في فرعون ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا?[النمل:14]، وقال جل وعلا أيضا عن فرعون في آخر سور الاسراء في قِيلِ موسى عليه السلام ?قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا?[الإسراء:102]، (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ) فعلمه حاصل بذلك فإذن حين كفر لم يكفر عن جهل وإنما عن إباء واستكبار وكذلك أبو جهل وكذلك صناديد قريش سمعوا القرآن وعلموا حجته لكن صدهم عن ذلك الإيباء والاستكبار ?وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ?[الزخرف:31].
والقسم الثاني مما يكون به الكفر الإعراض، والإعراض قد يكون إعراضا بعد علم، وقد يكون إعراضا عن العلم، قال جل وعلا ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]، هذا في الإعراض الذي هو إعراض عن العلم، كذلك إعراض بعد علم كما في آيات أُخر.(37/449)
فإذن العلم بالاتفاق لا يكفي في صحة الدين، حتى يعمل بما دل عليه العلم، علم التوحيد فلم يعمل به هذا مستكبر، علم الحق الذي هو الإيمان بالأركان فلم يعمل بما دل على ذلك فهو مستكبر.
لم يعلم أصلا مع تمكنه من العلم؛ ولكن أعرض فهذا معرض، فإذا أعرض عن التوحيد مع التمكن فهذا معرض وهو غير عامل بالتوحيد وغير معتقد له، فلا يكون مؤمنا، لابد من اجتماع الإيمان بحدوده؛ يعني الإيمان الذي هو في القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وعمل الأركان.
قال (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند) وتعبيره هنا رحمه الله بقوله (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به) فيه إشارة إلى أن معرفة التوحيد لمن لم يعمل به أنسب من أن يقال (علم التوحيد)؛ لأن المعرفة في القرآن أكثر ما جاءت على سبيل الذم، كما في قوله جل وعلا ?يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، ?يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?([68]) ونحو ذلك من الآيات فمن رد الحق نقول عرفه ورده، وإن قلنا علمه ورده فلا بأس كما قال جل وعلا ?قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ?[الإسراء:102].(37/450)
قال رحمه الله (وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون إن حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق؛ ولكن لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم) يعني أن هذا الأمر هو ما عليه كثير من الناس يقولون هذا حق ونحن نفهم هذا الشيء الذي هو دلالة التوحيد وأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه، وأن صرف العبادة لغير الله بأنواعها من الدعاء والاستغاثة والاستعانة وأنواع الطلب والذبح والنذر والرجاء والخوف ورجاء العبادة وخوف السر ومحبة العبادة وأشباه ذلك، نعلم أنها حق لله جل وعلا؛ لكن لو لم نفعل ما يوافق أهل البلد ما تمكنا من الحياة، فلابد أن نوافقهم في الشرك، ففعلوا الشرك مع علمهم بالتوحيد، وهذا لا ينجيهم لأنهم علموا فلم يعملوا بالتوحيد، فمن علم بالتوحيد، علم حق اله جل وعلا في توحيده ولم يعمل به هذا كافر، مثل ما ذكر الإمام قال (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند) يعني مستكبرا.
(ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم) يعني ما يمشي عند أهل البلد الذين نسكن فيهم ونسكن معهم ما يمشي فيهم إلا الذي يوافقهم، لو عاندناهم وخالفناهم لثارت علينا مصائب، (أو غير ذلك من الأعذار. ولم يدر المسكين) وحقا هو مسكين؛ بل هو أكثر المساكين في عقله وفي عدم معرفته بمصلحته وما يؤول إليه أمره، قال (ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق) الأكثر في الناس في أئمة الكفر المعرفة والعلم بالحق؛ لكن تركوه إيباء واستكبارا، لم يتركوه عن شبهة قائمة، لم يتركوه عن عدم علم به أو إعراض عنه، إنما هم تركوه بعد العلم به بعد المعرفة به، قال (ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق)، ولاحظ استعمال كلمة (يعرفون) مرة أخرى، قال (ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار) لهم عذرهم، الأعذار تختلف:
فهذا عذره أن يوافق أهل البلد.
وهذا عذره أن يعيش.
وهذا عذره أن يأكل هو وأولاده.
وهذا عذره كذا وهذا عذره كذا.(37/451)
وإذا كان الله جل وعلا لم يعذر طائفة من أهل الإسلام في مساكنة المشركين وعدم الهجرة مع أنهم لم يعملوا الشرك ولم يوافقوا أهل الشرك في الشرك، فأنزل الله جل وعلا فيهم قوله العظيم ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا?[النساء:97]، مع أن هؤلاء ليسوا مشركين؛ ولكنهم تركوا الهجرة مع القدرة على الهجرة وعدم القدرة على إظهار الدين، يقدرون على الهجرة لأن الله استثنى المستضعفين جل جلاله، ولم يقدروا أن يظهروا الدين وإنما تعبدوا بالتوحيد وسكتوا ولم يهاجروا، في أرضٍ لم يستطيعوا أن يظهروا فيها التوحيد، فتوعدهم الله جل وعلا بقوله (فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) فكيف بمن مكث في بلد لا يستطيع فيها أن يظهر الدين وأعظم من ذلك أنه يعمل بالشرك والكفر موافقة لأهل البلد من غيره والله جل وعلا قال في سورة النحل ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ?[النحل:106] الآية فاستثنى المكره، وأما هؤلاء الذين وصفهم الشيخ رحمهم الله فكل واحد يعتذر بعذر، فكذلك أئمة الكفر كل واحد له عذر هذا عذره جاهه وهذا عذره ماله، وهذا عذره أنه يشتري بآيات الله ثمننا قليلا يعني يبيع فيها ويشتري، وهذا عذره وهذا عذره والكل يجتمعون في أنهم علموا وعرفوا الحق ولكنهم سألوا وعلموا الشرك ولم يعملوا التوحيد، قال (كما قال تعالى ?اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً?[التوبة:9]، وغير ذلك من الآيات كقوله: ?يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?([69])).(37/452)
ثم قال (فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق) لأن الإيمان كما ذكرنا بتوحيد الإلهية ثلاثة أقسام لابد منها مجتمعة اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان، فإن هو عمل بالتوحيد عملا ظاهرا موافق للناس؛ لكنه لا يعتقد ذلك بقلبه لا يعتقد أن هذا حق وأن ما عليه أهل الشرك هو الباطل، لا يعرف الطاغوت ولم يكفر به؛ يعني لم يتبرأ من عبادة غير الله جل وعلا، فهذا حاله كحال المنافقين؛ لأنه أحسن الظاهر وفي الباطن لم يقم شرط الباطن وهو العلم، المنافق في الباطن مخالف ففاته شرط الاعتقاد؛ لأنه اعتقد اعتقادا مخالفا، وهذا الذي عمل بالتوحيد عملا ظاهرا ولا يفهمه في الباطن ولا يعتقده، هذا فاته أن يكون في الباطن معتقدا للحق أصلا، لم يعتقد خلافه لكنه لم يعتقد الحق وإنما يفعله كما يفعله أهل بلده، فهذا منافق أيضا، قال (وهو شر من الكافر الخالص: ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ?[النساء:145].) لأن حاله حال أهل النفاق عمل شيئا بلا قصد، عمل شيئا بحركة آلة دون اعتقاد، وهذا في هذه الأزمنة نادر؛ لأن الذي يعمل للتوحيد مع وجود الشرك وأهله فهو قاصد للعمل للتوحيد.(37/453)
قال (وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبيّن لك إذا تأملتها في ألسنة النّاس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا) يخاف أن تنقص دنياه، لا أن يصير فقيرا؛ بل حتى نقص الدنيا يوافق أهل الشرك على شركهم ويتعبد معهم بالشرك لأجل ألا تنقص دنياه، مثل ما حصل لأمير العيينة في وقت الشيخ لما قال له والي الأحساء أو أمير الأحساء أنك إذا وافقت الشيخ على ما هو عليه وأقمته عندك سوف أقطع عنك الخراج، قال للشيخ: أنا ما أقدر أن يقطع عني الخراج كيف يعيش أهل البلد. وأوصاه بقتله فأخرجه من البلد وبعث خلفه بأحد العبيد ليقتله، هذا لخوف نقص دنيا، يخاف أن تنقص دنياه أو جاه يخاف أن لا يكون معظما من كل الناس ينقسم عليه الناس، ناس يرضون وناس لا يرضون، هذا فيعمل بالشرك والكفر لكي يرضي طائفة من الناس، وهو يعلم الحق ولكن يريد بفعله الكفر والشرك أن يرضي طائفة، فهذا أيضا لم يعمل بالتوحيد وإنما علم وترك، أو مداراة لأحد؛ يعني مجاملة، جامل شيخه، جامل أمير بلده، جامل رئيس البلد إلى آخره، كما يحصل عند طوائف من الصوفية بعض مريديهم يدركون الحق لكن يجاملون مشايخهم فيما هم عليه من الضلالات الكفرية بالله.(37/454)
قال رحمه الله بعد ذلك (وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا) هذا قسم ثاني من الناس (ترى من يعمل به ظاهرا لا باطنا فإذا سألته عما يعتقده وبقلبه فإذا هو لا يعرفه) يعني وقع منه هذا الشيء اتفاقا يعم بالتوحيد ما أحب هذه الأشياء وما أحب هذه الخرافات؛ يعني ما أحب هذه الأشياء تعتقد التوحيد تعتقد بطلان الشرك؟ فيقول لا، ما أدري، هؤلاء عقولهم ناقصة سميا باللي يسميها، فهو يعمل بالتوحيد لكن لا يعتقد أن التوحيد هو الحق، وأن غيره باطل، لا يتبرأ من الكفر، لا يتبرأ من الطاغوت، لا يكفر بالطاغوت، وهذا فاته شرط لصحة التوحيد وهو الكفر بالطاغوت وهو اعتقاد أن عبادة غير الله جل وعلا باطلة، وأنها شرك؛ لابد أن يعتقد أن عبادة غير الله شرك، فإذا عمل بالتوحيد ظاهرا وهو لا يعتقد أن عبادة غيره شرك، فإن هذا كما ذكر الشيخ منافق، أو له أحكام المنافقين لأنه لم يعتقد بقلبه أن عمله هذا الذي هو التوحيد عمل واجب.
ثم قال رحمه الله (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله تعالى) وهذا نتركه للمرة القادمة.
ونُذكّر أننا إن شاء الله تعالى نختم هذا الكتاب العظيم كشف الشبهات في الدرس القادم بإذنه تعالى وتوفيقه ومنّه، ثم بعده نبتدئ في شرح متن الطحاوية كما رغب ذلك عدد من الإخوة، وسيكون الشرح للمتن بطريقة ربما مخالفة لما عليه الشرح المعروف -شرح ابن أبي العز الحنفي- لأن الطحاوية فيها مسائل ليست في كتاب العقيدة الأخرى التي شرحناها، فنحتاج فيها إلى بسط الكلام تأصيلا وترتيب المسائل بما ينفع المبتدئ والمتوسط والذي سار معنا من زمان.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهدى والسداد وصلى الله وسلم وبارك وعلى نبينا محمد
[الأسئلة] أجيب عن بعض الأسئلة.
س1/ ما رأي فضيلتكم في رجل يداهن قومه الذين هم على مذهب مخالف لمذهب أهل السنة قد يحتج بحجة تأليف قلوبهم للدعوة أرجو النصيحة وما هي الحلول؟(37/455)
ج/ أولا كلمة رجل يداهن قومه، ينبغي أن نفهم معنى المداهنة؛ لأن هناك مداراة هذه مشروعة، وهناك مداهنة والمداهنة لا تجوز؛ لأن الله جل وعلا قال لنا ?وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ?[القلم:9]، فمداهنة أهل الكفر والبدع والمعاصي محرمة.
والمداهنة معناها أن توافقهم على ما هم عليه من الباطل، تقر بالموافقة، أو أن تَدخل معهم في عملهم، فإذا كانت على هذا الوصف فهي مداهنة محرمة؛ لأن الموافقة هذه باطلة، والعمل أيضا باطل، ولا يكون هذا وهذا من مؤمن يعني العمل بالكفر، ولا أن يقول الكفر حق يوافقهم على الكفر، كما جاءوا للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقالوا له: تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة. نوحّد فترة ونشرك فترة. هذا المداهنة.
أقر بالبدع، احضر معنا الموالد احضر معنا الذبح عند القبور، ونحن ندخل معك في برامجك الإصلاحية، وفي برامجك السياسية الإصلاحية السلفية أو غيرها إلى آخره، فهذه المداهنة محرمة وقد تكون كفرا شركا إذا فعل شركا، أو أقر بكفر وشرك ووافق عليه، وقد تكون معصية محرمة بحسب ذلك.(37/456)
المسألة الثانية أو اللفظ الثاني المداراة، المداراة مأخوذة من لفظها دارى يداري مداراة؛ يعني لم ينكر لأجل مصلحة تتحقق له لكن لم يوافق ولم يعمل فعندنا إذن ثلاثة أشياء عدم الإنكار فقط؛ يعني لم ينكر فقط، ولكن في قلبه بطلان ما هم عليه، والبراءة مما هم عليه وهم، وهذا لا بأس به إذا كان في مقدور مصلحة شرعية، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره ربه جل وعلا بأن لا يسب هو والمؤمنون الآلهة التي تعبد من دون الله فقال جل وعلا ?وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:108]، وقال جل وعلا في آية آل عمران ?لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً?[آل عمران:28]، وهي المداراة، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ دخل عليه رجل فبش في وجهه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأكرمه، ثم لما دخل إلى عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قال «بئس أخو العشيرة» فقالت: يا رسول الله رأيتك معه كيت وكيت. قال «يا عائشة إن شر لرجال أو شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره أو اتقاء سخطه» أو نحو ذلك، أو اتقاء لسانه.
فإذن هذه مداراة المداراة أن تسكت عن شيء لأجل ما هو أصلح لك منه، وهذا يدخل ضمن القواعد الشرعية أن القاعدة الشرعية المعروفة أنه تفوت أدنى المصلحتين لتحقيق المصلحة العليا وتعمل أدنى المفسدتين لدرأ المفسدة الكبرى وهذا شيء معلوم باتفاق أهل الشريعة .
فإنه إن داراهم بمعنى لم ينكر عليهم في البداية مثل ما فعل الإمام المصلح محمد عبد الوهاب يأتي إلى قبة زيد بن الخطاب ما يقول لهم هذا شرك بل يقول الله خير من زيد هذه مداراة حتى يصل معهم إلى ما هو الحق.
وهذا لاشك أنه من الحكمة ومن النظر الصائب.(37/457)
س2/ ما حكم ذبح الذبائح عند نزول المنزل الجديد؟
ج/ هذا معروف هذه إن كانت لإكرام الناس وجمعهم بمناسبة سكنى البيت لا بأس، وهذه المعروفة عندنا هنا وفي غيرها وهي للإكرام ولجمع الناس بمناسبة دخول مناسبة سكنى المنزل وشكرا لله جل وعلا على ما جدد من نعمة، وهذا أمر حسن ومرغب فيه.
والشرك يكون أنه إذا نزل المنزل ذبح الذبائح عند أعتاب الأبواب يعني يأتي بكبش يأتي بخروف ويذبحه يسيل دمه عند عتبة الباب هذا اعتقاد شركي لأنه ذبح لاتقاء العين، ذبح لاتقاء الجن لاتقاء الضر فيكون ذبحا.... ([70])
س3/ أحد الإخوة مصاب بمرض وذهب إلى طبيب وعمل له عملية بدون آلات الطب بل إنه بأحد أصابعه يفتح اللحم والجلد ويخرج منه وأوضحت له أن هذا قد يكون ساحرا إذا كان هذا عمله أرجو بسيط الكلام منكم على الموضوع.
ج/ هذا ينبني على تصور كيف عمل هذا الشيء يعني صورة هذه المسألة ووش الذي حصل بالضبط؟ ما أدري، إذا كان يفتح الجلد بدون سبب الفتح المعتاد المعروف ند الناس فهذا لاشك أن يكون ساحرا أو كاهنا؛ لأن الفتح فتح الجلد وشق الجلد لإخراج ما هو داخل البدن هذا لا يكون إلا بالأسباب المعروفة بالمشرط والسكين إلى آخره وأن يكون يفتح بلا سبب ظاهر هذا الأصل فيه أن يكون عنده إما سحر أو كهانة لكن لا نحكم قولا واحدا حتى نتصور المسألة وما هو عليه.
لكن النهي عن مثل هذا هو الأولى والحمد لله في الأسباب الشرعية ما يغني عن ذلك.
س4/ ذكرت في أول الدرس أن هذه الشبهة راجعة إلى العمل والشبهة السابقة راجعة إلى العلم؟(37/458)
ج/ لأن الشبه التي ذكرت من أول الكتاب إلى آخره هي في التوحيد هل هذا هو التوسل هل هذه هي العبادة هذا ليس داخل في العبادة، هاذول ما عبدوا إلا الله هم طلبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو له جاه عند الله ومنزلة كلها راجعة في العلم بالتوحيد، الذي أتى في هذا المقام أنه يعلم ولكن لم يعمل، علم ولم يعمل، لم يعمل إما استكبارا لم يعمل مدارة بقومه ويقول أنا خائف من كذا وكذا أو لم يعمل مع عدم الاعتقاد، هذه التي ذكرها الشيخ الآن ولذلك ذكر أن الأول راجع إلى العلم يعني في الاعتقاد نفسه شبهة أصلا الشبهة راجعة إلى العلم بالتوحيد، وهذا الذين ذكرناهم الآن هؤلاء من جهة العمل إذا استثنينا الذي لم يعتقد شيء هذا ما عنده شبهة، فلا يقال ما عنده شبهة راجعة إلى العلم هو لم يعتقد شيئا حتى يكون عنده شبهة في العلم.
س5/ يقول هناك طبعة فيها عنواوين مضافة عنونوا للفصل الأخير بقولهم وجوب التوحيد بالقلب واللسان والجوارح إلا لعذر شرعي؟
ج/ عذر شرعي ما ذكرها الشيخ رحمه الله يذكرها بعد ذلك في الإكراه، العذر الشرعي للإكراه بس.
س6/ هل يكفر المسلم بالأعمال، أم لابد أن يكون مع العمل اعتقاد، مثل أن يعمل عملا كفريا لكن من غير أن يعتقد ذلك؟
ج/ هذه المسألة أوضحناها مرارا وذكرت لكم أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، لهذا العلماء يقولون في باب حكم المرتد، المرتد: وهو المسلم الذي كفر بعد إيمانه بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك. بهذه الأربعة عند أهل العلم يكون الكفر، القول والعمل والاعتقاد؛ لأنها كما ذكرت لك مقابلة لأمور الإيمان، الإيمان قول وعمل واعتقاد، إذا كان يدخل في الإيمان بقول فإنه يخرج من الإيمان بقول، يدخل في الإيمان باعتقاد معناه يخرج منه باعتقاد، يدخل في الإيمان بعمل يعني مع القول والاعتقاد، كذلك يخرج منه بعمل مع بقاء القول والاعتقاد، هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة.(37/459)
الذين يقولون الإيمان اعتقاد وقول فقط، وهم مرجئة الفقهاء هؤلاء يقولون لا يخرج إلا بالاعتقاد؛ لأن العمل أصلا عندهم ليس داخل في مسمى الإيمان، فلا يخرجونه من ذلك، هذا من حيث التنظير تنظير المذهب؛ لكن من حيث الواقع فإن أشد المذاهب في التكفير بالعمليات الحنفية الذين هم مرجئة الفقهاء، فهم أشد الناس في التكفير، حتى إنهم نصوا في كتبهم و قال هذا مصيحف ارتد، ولو قال هذ مسيجد ارتد، يعني حتى في تصغير ما أوجب الله جل وعلا تعظيمه.
فالمسألة نقول أن الكفر يكون بالقول والعمل والاعتقاد هذا بالاتفاق بين أتباع الأئمة الأربعة، حتى المرجئة عندهم يخرج بذلك، وهذا ما حدا طائفة من أهل العلم أن يقولوا الخلاف مع المرجئة خلاف لفظي أو يؤول إلى أن يكون الخلاف لفظيا؛ لأنهم يجعلون العمل شرط صحة ويجعلونه يكفر إذا لم يعمل أو عمل عملا مخالفا.
هذه المسألة تكلمنا عنها مرارا لأنه ثم بعض الكتب التي شككت في هذه المسألة.
س7/ هل هناك فرق بين قول القلب والتكلم الذي عليه المعتزلة نرجو البيان؟
ج/ لا، الكلام الذي عليه –قصده- الأشاعرة الكلام النفسي الذي هو في الداخل، قول القلب ذكرنا أنه الإخلاص والاعتقاد فقط، هذا تسمية، سماها بعض السلف القرن الثاني والثالث سموها قول القلب تقسيما كما ذكرت لأن عمل القول معروف قالوا الأشياء التي لا تدخل في عمل القلب أنها قول القلب، لكن الكلام الذي هو الكلام النفسي هو كل ما يجري في النفس من حديث ولم ينطق به هذا يسمونه كلام نفسي، ليس هو الإخلاص والاعتقاد كل ما يجري في النفس، إذا دوت في نفسك كلاما فيقولون هذا يسمى كلاما نفسيا قبل خروجه، فهو كلام قبل أن يخرج.
س8/ هل يجوز الجمع أكثر من نية في العمل الواحد كأن يصوم يوم الخميس الموافق للرابع عشر من الشهر بنية صيام أيام البيض صيام يوم الخميس؟(37/460)
ج/ أما من حيث التأصيل من حيث القواعد الفقهية المعروفة الجمع بين عدة أعمال في نية واحدة يجوز في مواضع ولا يجوز في مواضع، كما هو معلوم في القواعد.
هذه الصورة التي ذكر وهي أن يصوم الست وينوي معها مثلا القضاء فإن هذا لا يجزئ؛ لأن القضاء فرض مستقل والست نفل مستقل، والست تكملة، وإذا صام ثلاثين يوما في الشهر فهذه عشرة أشهر أن الحسنة بعشر أمثالها والست شهران فإذا صام القضاء وفي داخله الست ما حصل ذلك، ولهذا القضاء مقدم ما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه أولا ينتهي، يقضي لأن القضاء أحق، وأما أنه يصوم الست ويوافق ثلاثة أيام البيض، فهذا أمر طيب من أنه صيام الثلاثة البيض لا تقصد لذاتها المقصود منها صيام ثلاثة أيام في الشهر، فإذا صام ثلاثة أيام الست والبيض لكن لا يجمع النيتين وافقت البيض فيكون قد صام أيام البيض، وإن أحب أن يزداد بستة أيام بثلاث من كل شهر فهذا أفضل.
...النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال» صام رمضان، الذي صام رمضان، الذي صام رمضان إلا ستة أيام ما يسمى صام رمضان، هو صام بعض رمضان، فلا يسمى صائما لرمضان حتى يكمله ثلاثين يوما الأداء والقضاء «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال» فإذا صام رمضان في الشهر ثم قضى ما ما قد أفطر فيه لعذر فهذا يكون قد صام رمضان فيتبعه بست من شوال، وكذلك في صيام القضاء ليوم عرفة فإنه يقع قضاء.
س9/ هل يدخل في تكفير السنة الماضية في هذا الموطن ؟
ج/ الظاهر لا لكنه إذا صامه في العشر يعني في الثمان الأول عشر ذو الحجة فلا بأس هذا يدخل في الفضل فضل ذو الحجة لأنها فضلها خاص ليس متقيدا بعام.
س10/ كتاب ابن الجوزي زاد المسير ولما لا يؤخذ تفسير ابن عباس رضي الله عنه لا سيما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا له بالعلم والتأويل ودعاؤه مجاب؟(37/461)
ج/ دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالعلم والتأويل حصل في مواضع «اللهم فقهه في الدين» في موضع «اللهم علمه الحكمة» في موضع «اللهم عمله التأويل» في موضع «اللهم فقهه في الدين وعلمه الكتاب» ونحو ذلك فهذا دعاء لابن عباس رضي الله عنهما وابن عباس تفاسيره معتمدة وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به كما سفيان وغيره لأنه أخذ التفسير عن ابن عباس.
لكن قد يكون تفسير ابن عباس مخالف لتفسير غيره من الصحابة فتكون الحجة هنا الترجيح بحسب الدليل.
س11/ ألم يقتل الخوارج علي بن أبي طالب، ألم يستحل الخوارج دماء الصحابة فيكفرون بذلك؟
ج/ الجواب أن كفر الخوارج في قولان لأهل العلم:
من أهل العلم من قال يكفرون لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» السهم مشبه بالخوارج فالفعل ذاك خرجوا من الدين.
والقول الثاني أنهم لا يكفرون كما قال علي رضي الله عنه وهو الذي قاتلهم وهو الذي حصل معه بينه وبينهم الحجاج والمجادلة لما سئل عنهم أكفار هم ؟ قال: من الكفر فروا. يعني أنهم تأولوا في ذلك وهم كلاب أهل النار، وشر القتلى تحت أديم السماء؛ لكن التكفير ما نطلقه عليهم.
طبعا المقصود الخوارج الذين قاتلوا عليا، أما الخوارج الذين فشوا بعد ذلك، هؤلاء عندهم اعتقادات قد يكفرون ببعضها.
س12/ ما الحكم إذا قال رجل: أنا مؤمن إن شاء الله وعلق إيمانه بالمشيئة؟
ج/ لا بأس أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله باعتبار أنه لا يدري ماذا يختم له .
س13/ الشخص الذي يجاهد القبوريين ويبين لهم التوحيد ولكنهم يستهزؤون به ولا يسمعون كلامه هل يتركهم في شركهم أم يستمر معهم دون أن يهجرهم أم ماذا يفعل؟(37/462)
ج/ يفعل مثل ما فعل نوح عليه السلام في قومه فلبث فيم ألف سنة إلا خمسين عاما، قال جل وعلا عن نوح في سورة نوح وهي سورة عظيمة في بيان هذا الأمر قال ?ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا?[نوح:8-10]، إلى آخره فدعاهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا ولم ييأس حتى يأتي أمر الله.
خلاص يأمرهم وينهاهم حتى يأتي أمر الله.
س14/ ما حكم من علق القسم بالمشيئة هل عليه كفارة يمين، إذا حلف بالقسم؟
ج/لا، اليمين إذا تبعها بـ (إن شاء الله) فليس عليه كفارة إذا حلف، كذلك النذر إذا قال والله لأفعلن كذا إن شاء الله، فليس عليه كفارة.
وهنا مسألة مهمة ننبه عليها، وقلّ من ينبه عليها أو ينتبه لها، وهي أن الاستثناء في اليمين هذا يُقبل ولو كان بعد مدة، الاستثناء في اليمين يقبل ولو كان بعد مدة إذا كان لم يفعل، ثبت عن ابن عباس أو غيره أنه قال: وله استثناؤه ولو بعد سنة. وذلك عند قوله تعالى ? وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّه?[الكهف:23-24]، فإذا استتثنى فله استثناؤه يعني له استثناؤه لو امتد به القسم فيسلم من الإثم في ذلك.
نكتفي بهذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وفقكم الله وبارك فيكم
?????
[المتن]
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما ما تقدم من قوله: ?لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:66]، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراةً لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها.(37/463)
والآية الثانية قوله تعالى: ([71]) ?مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ?[النحل:106-107]، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان. وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفًا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض؛ إلا المكره.
والآية تدل على هذا من جهتين
الأولى قوله: ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ?، فلم يستثن الله تعالى إلا المكره ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
والثانية قوله تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ?، فصرّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين.
والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم أسألك علما نافعا، وعملا صالحا، وقلبا خاشعا، ودعاء مسموعا.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فهذا ختام هذه الرسالة العظيمة رسالة كشف الشبهات التي كشف فيها الشيخ رحمه الله تعالى ما شبه به أعداء التوحيد وأعداء الإسلام وصدوا به عن دعوة الحق التي هي دعوة إخلاص الدين لله جل وعلا.(37/464)
قد ذكر في آخر ما عرضنا له في الدرس الماضي انه يختم كشف الشبهات بذكر مسألة مهمة خطيرة وهذا المقطع تعليل لما تقدم من ذِكر تلك المسألة التي بيناها وأوضحنا ما يتصل بها من المقامات والضوابط.
قال رحمه الله ورفع درجته (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما قوله تعالى: ?لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?) قال (فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها) وهذه الآية من سورة التوبة هي قوله جل وعلا ?وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ?[التوبة:65-66]، هذه الآية فيها أن كفرَهم كان بسبب الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله، وقول الإمام رحمه الله هنا (فإذا تحققت أن بعض) هذه راجعة إلى الظاهر من حال أولئك فإن أولئك الذين تكلموا بتلك الكلمة ظاهرهم محكوم بإسلامهم وحالهم أنهم يعدون مع الصحابة وإلا فإنهم منافقون ظهر نفاقهم بذلك الاستهزاء، وهذه مسألة حصل فيها خلاف بين أهل العلم، فمن قائل إنهم ليسوا منافقين، وقال الجمهور من المفسرين وأهل العلم إنهم منافقون، والصواب من القولين في ذلك أن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم بالاستهزاء أنهم منافقون، وهم في الأصل منافقون ودلّ هذا على نفاقهم، والاستهزاء كفر لأنه يدل على عدم تعظيم الله جل وعلا وعدم توقيره والاستهانة بالله وبآياته وبرسوله؛ لأن المعظم المبجل لا يستهزئ بمن عظمه وبجله، بل يكون له في قلبه المقام الأعظم(37/465)
حيث لا يستهزئ به ولا يستنقصه ولا يسبه إلى آخر ذلك، ودلّ على أن المراد بهم المنافقون أوجه:
الأول أن الآية يفهم معناها بدلالة السياق والسباق وهذه الآية أولها ?وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ? الضمير لابد أن يرجع إلى مذكور معلوم، والآية التي قبل هذه الآية هي قوله جل وعلا ?بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ? يعني أيها المنافقون ?إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ?[التوبة:64-65]، فدل إرجاع الضمير على الآية قبلها أن المراد بذلك المنافقون.
ودل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي التي تسمى السياق أو اللحاق فقبلها سباقها وبعدها سياقها أو لحاقها وهي قوله جل وعلا (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ) إذ قال جل وعلا ?لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?[التوبة:66-67]، فهذه الآية أيضا تدل على أن هذا الذي استهزأ أو تلك الطائفة التي استهزأت هم المنافقون لأن السياق والسباق يدل على ذلك.
وأيضا يدل عليه أن السورة وهو الوجه الثالث أن السورة سورة براءة تسمى الفاضحة، وهي التي فضحت المنافقين، وبعد ذكر المنافقين في أثناء السورة استمر ذكرهم واستمر فضحهم وبيان ما هم عليه إلى آخر السورة.(37/466)
الوجه الرابع أن الله جل وعلا قال بعد آيات ?يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ?[التوبة:74]، فقوله جل وعلا في هذه الآية (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ) المقصود بهم هؤلاء الذين استهزءوا فإنهم حلفوا أنهم ما قالوا، قال جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ) فدل على أن المستهزئ بالكلام قال كلمة الكفر قال سبحانه (وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) ودلت هذه لآية على أن المراد بالإيمان في قوله تعالى (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) هو الإسلام لأنه قال وكفروا بعد إسلامهم والمنافقون محكوم بإسلامهم ظاهرا.
وهذا يجاب به عن قول من قال أنهم ليسوا بمنافقين لأن هؤلاء احتجوا بأن المنافقين لم يحكم بإيمانهم وإنما حكم بإسلامهم فالمنافق يقال له مسلم باعتبار الظاهر ولا يقال إنه مؤمن لأن الإيمان باطن فقوله جل وعلا هنا (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) دل على أنهم ليسوا بمنافقين.(37/467)
وهذا الاحتجاج منهم والإيراد له وجهه لكن ليس قويا بقوة ما ذكرنا من أوجه، وجوابه أن الإيمان -كما هو معلوم- اعتقاد وقول وعمل، والاعتقاد هو الإيمان الباطن والقول والعمل هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام فإذا قيل في المنافق إنه كفر بعد إيمانه يعني بعد إيمانه الظاهر الذي هو الإسلام لأن الإسلام لا يصح إلا بإيمان تصححه وإيمان لا يصح إلا بإسلام يصححه، والإيمان منقسم إيمان باطن وهو الاعتقاد، وإلى إيمان ظاهر وهو القول والعمل، فأولئك معهم قول وعمل فقيل لهم هنا بعد قوله (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) باعتبار الظاهر، وهذا الظاهر هو الإسلام كما قال جل وعلا في الآية الأخرى (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ)، فالإيمان في هذه الآية هو الإسلام في الآية الأخرى، ويقوي هذا ما تعلمه من قواعد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن الإيمان إذا أفرد عن الإسلام والإسلام إذا أفرد عن الإسلام فإنه يدل أحدهما على الآخر، فقوله (قد كفرتم بعد إسلامكم) يعني ما يناسب المخاطب بذلك وهو الإسلام لأن الإيمان إذا أفرد دل على الإسلام وهذا بحسب حال المخاطبين.(37/468)
إذا تقرر لك ذلك فهؤلاء الذين كفروا بعد إسلامهم كفروا بكلمة قالوها على وجه المزح واللعب، على وجه المِزاح –أو المُزاح- واللعب، وهذا الكفر منهم هي الاستهزاء، كلمة الكفر هي الاستهزاء، والاستهزاء مكفر إذا كان استهزاء بالله جل جلاله أو بآيات القرآن أو بالرسول محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بمجموع ذلك وهو الدين الذي بعث الله به محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا استهزأ أحد بالله جل وعلا كفر، وإذا استهزأ أحد بالقرآن كفر، وإذا استهزأ أحد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني بشخصه بذاته كفر، وإذا استهزأ بالدين الذي نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيقين المستهزئ أنه نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكفر أيضا.(37/469)
فإذن رجع الاستهزاء المكفِّر إلى أحد الثلاثة وهي التي جاءت في الآية (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ) هذا واحد (وَآيَاتِهِ) اثنين (وَرَسُولِهِ) ثلاثة (كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) قال هنا الإمام رحمه الله تعالى (فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراةً لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها) وذلك لأن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به قصد ذلك؛ ولكنه خاف، ولكن القصد موجود قصد الكفر وقصد العمل بالكفر موجود عنده، ولهذا لم يُعذر بالخوف أو بالمداراة نقص المال أو الجاه أو المداراة لأنه قصد الكفر وقصد العمل الكفري دون إكراه، والمستهزئ قد يقال إنه ما قصد الكفر، ولو قيل له أقلت هذا كفرا لقال لا إنما قلت هذا مزحا على سبيل المزاح وعلى سبيل اللعب وعلى سبيل الخوض (كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ما قالوا قصدنا ذلك ولهذا كلام الإمام رحمه تعالى متين إذ قال (تبين لك أن الذي تكلم بالكفر) يعني قاصدا الكفر (أو يعمل به) عالما بأنه شرك عالما بذلك قاصدا له لاشك أنه أعظم كفرا ممن يتكلم بكلمة يمزح بها لأن ذاك فاته التعظيم فدخل في الكفر من جهة الاستهانة، وهذا قصده أصلا ومعلوم [...] لم يقصد الشيء من كل جهاته.(37/470)
ثم قال رحمه الله (والآية الثانية قوله تعالى ?مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ?[النحل:106-107]) هذه الآية في حال الذي يكفر بدون عذر، والعذر الذي لا يؤاخذ به من صدر منه الكفر قولا أو عملا شيء واحد وهو الإكراه.
والإكراه معناه ما لا يتحمله من العذاب، أكره على هذا القول بما لا يتحمله من العذاب، أو ما هو أعلى من ذلك وهو القتل، فإذا كان لا يتحمل أن يعذب، لا يتحمل أن يضرب ضربا شديدا، لا يتحمل أن يسجن سجنا طويلا، لا يتحمل في ذلك ويخشى على دينه، ويخشى أن يوافق ويخشى أن يحصل له فتنة أو يخشى أن يتلف بدنه، فإنه معذور مع أن الكمال أن يصبر، لكنه معذور بشرط اطمئنان القلب بالإيمان، فتكون الموافقة ظاهرا للضرورة ولكن القلب مطمئن بالإيمان.(37/471)
وذلك أن الإيمان كما هو معلوم ثلاثة أركان اعتقاد وقول وعمل، والاعتقاد هو الأصل الذي ينشأ عنه القول الإيماني وينشأ عنه العمل الإيماني، فلم يُعذر بالأصل في الموافقة أحد البتة، حتى لو أكره فإن الإكراه ولو وصل إلى القتل لا يصل إلى تغيير عقيدة القلب والله جل وعلا قال سبحانه ?الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3] الصدق هو استقرار العقيدة في القلب وأن يصبر المرء على ما جاءه من ابتلاء، فإذا عرض له الإكراه بما لا يتحمله ويؤدي ببدنه إلى التلف ويخشى على دينه فإن له أن يوافق أولئك ظاهرا لا باطنا؛ لأن الظاهر في الشريعة فيه يُسر في الأحكام بخلاف الباطن، الباطن هو أشد شيء.
فإذن هذه الآية دلت كما قال الشيخ رحمه الله هنا في قوله (فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان) فإذن له إذا أُكره بشرطه أن يقول كلمة يوافقهم بها أو أن يعمل عملا يوافقهم به؛ ولكن يكون ذلك مع اطمئنان القلب بالإيمان، والقلب قول كلمة الكفر موافقة لأجل الإكراه هذا محل اتفاق بين أهل العلم.
أما العمل فاختلفوا فيه:(37/472)
فمنهم من قال لا يعذر بالعمل أن يعمل عملا كفريا؛ لكن الإكراه له فيه القول، مثل ما حصل في قصة عمار في قصة آل ياسر المعروفة ولها نزلت هذه الآية وقول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ له«إن عادوا فعد» وهذا قول لطائفة من أهل العلم إن هذا مختص بالقول وأن العمل ليس فيه إكراه بل إذا وصل الإكراه للعمل فإنه لا يجوز أن يوافق أولئك على عمل كفري ويستدلون أيضا بحديث الذباب المعروف، حديث طارق بن شهاب الذي تعلمونه في كتاب التوحيد، كان هناك صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب فمر به رجلان فقال قربا، فقرب أحدهما فدخل النار، والآخر قال: أما أنا فما كانت مقربا شيئا لغير الله جل وعلا، فقتلوه فدخل الجنة قالوا هذا يدل على أن الإكراه يعني يعلمون من الحال أنهم سيقتلون أما الإكراه لم يعذر به بالفعل.
والقول الثاني أن الإكراه يقع في القول والعمل وهذا هو الصحيح لأن العمل والقول شيء واحد من جهة التكفير الله جل وعلا قال في الأقوال ?وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، وإذا كان ذلك في القول وعذر به بالاتفاق فالعذر بالعمل ظاهر وبالنسبة لحديث الذباب وغيره هناك أجوبة عليه مذكرو في وضعها من شرح كتاب التوحيد.
قال رحمه الله ورفع درجته (وأما غير هذا) يعني غير المكره (فقد كفر بعد إيمانه) يعني المكره، غير المكره إذا وافق الكفار على الكلام الكفري فقاله ووافق الكفار على العمل الكفري فعمله هذا كافر فلا يعذر في ذلك إلا إذا كان مكرها قال (وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه) يعني غير المكره كفر بقوله وعمله سواء فعله خوفا أو مداراة و مشحة لوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض.(37/473)
يعني أن ما ذكره الإمام رحمه الله فيما تقدم فيما ذكرناه في الدرس الماضي من أن أناس عرفوا التوحيد ولكنهم يعملون بالشرك مداراة أو خوفا على أعمالهم أو خوفا على أهلهم أو خوفا على نقصهم خوف متوهم ولم يتركوا الشرك بالله جل وعلا هذا لا يعذرون فيه إلا في حال الإكراه أو إذا كان مستضعفا فإن له أن يبقى بين ظهراني المشركين لكن لا يقول كلمة الكفر ولا يعمل عملا كفريا فيرخص له عدم الهجرة لأجل أنه من المستضعفين كما قال جل وعلا بعد آية الهجرة ?الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ?[النساء:97]، قال بعدها ?إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء?الآية ?لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً?[النساء:98].(37/474)
المقصود من هذا أن كلام الشيخ ظاهر وهذه مسألة عظيمة جدا وهي أن التكلم بالكفر خشية نقص المال أو خشية ذهاب المال لا يعذر به صاحبه عمل الكفر خشية شيء هذا لا يعذر به صاحبه بل لابد أن يجدد دينه وإسلامه ولكن إذا كان فعله عن قصد ثم فالواجب على كل موحد أن يتبرأ من الشرك وأهله، أن يبغض الشرك وأن يعادي الشرك، وأن يبغض أهل الشرك وأن يعادي أهل الشرك، وهذه حقيقة الإيمان، وهذا معنى كلمة التوحيد كما قال جل وعلا ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28]، وفي آية سورة الممتحنة قال جل وعلا مخبرا عن قول إبراهيم ?إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ?[الممتحنة:4]، لهذا قال أئمتنا البراءة من الشرك وأهله وهذه سنة إبراهيم ? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ? يعني من المرسلين ?إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ?[الممتحنة:4]، هذه الكلمة أجمع عليها لمرسلون (إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ) نتبرأ من العبادة ومن الشرك ومن أهل الشرك ببغضهم وبمعاداتهم يعني المعاداة القلبية أما الظاهر فله أحكام معروفة مختلفة.
قال الإمام رحمه الله بعد ذلك (فالآية تدل على هذا) يعني هذا الذي كره (من جهتين: الأولى قوله ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ? فلم يستثن الله تعالى إلا المكره) وهذا ظاهر لأن مقام الاستثناء مقام حصر وإن لم يذكر في هذا المقام غير المكره دل على أنه لا يعذر إلا المكره.(37/475)
وأيضا الاستثناء معيار العموم فقوله ?مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ?[النحل:106]، هذا عام واستثني منه يعني خرج من العموم المكره الذي حصل منه الكفر ظاهرا لكن لا يحكم بكفره لأنه مكره قال (الأولى قوله: ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ? فلم يستثن الله تعالى إلا المكره. ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام) يعني القول (أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليه) القلب لا يمكن أن يكره أحد أحدا على تغيير القلب حتى يختار هو لأن القلب لا أحد يطلع عليه إلا الله جل وعلا، فعقيدة القلب الموافقة فيها كفر بالاتفاق حتى ولو قال أكرهت فهو كافذب؛ لأن العقيدة الباطنة لا يمكن لأحد أن يصل إليها، يكذب في الظاهر يقول إذا قيل له أنت في الباطن في قلبك مقتنع بالشرك تقول هذه مع اعتقاد الباطن فيكذب ظاهرا يقول نعم هذا نوع من الإجابة بالإكراه؛ لكن لا يقول ذلك عن صدق بأن يغير قلبه؛ لأنه إن تغير القلب ووافق أو تردد أو شك فإنه كافر كما ذكر الإمام في مسائل كتاب التوحيد.
ثم قال (والثانية قوله تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ?[النحل:107] فصرّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد) يعني أن العذاب العظيم الذي جاءهم وهو قوله جل وعلا ?فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[النحل:106]، عليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ما سبب الغضب الذي جاءهم وحل عليهم ما سبب العذاب العظيم؟ لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البُغض للدين أو محبة الكفر؛ لأن هذه الأشياء لم يعلل بها في الآية إنما قال الله جل وعلا (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)، وقوله (ذَلِكَ) للمفسرين فيه وجهان في الرجوع الرجوع اسم اشارة يعني (ذَلِكَ) إشارة لأي شيء؟(37/476)
قال طائفة: الإشارة هنا للكفر، كفروا بعد إيمانهم ولم يكونوا مكرهين، ما سبب ذلك؟ قال الله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ) والباء هنا للسببية، ذلك بسبب كونهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ يعني أنهم آثروا الدنيا على الآخرة فوافقوا الكفار من دون إكراه، فقالوا قول الكفر أو عملوا عمل الشرك والكفر من دون إكراه، فتكون (ذَلِكَ) الرجوع إلى قوله (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ).
والوجه الثاني: أنه راجع للعذاب العظيم قال (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ) العذاب بسبب أنهم (اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ).
وهاذان قولان معروفان عند المفسرين والأوجه منهما وارجح هو الأول؛ لأن (ذَلِكَ) ضمير إشارة فهو اسم إشارة فيه اللام التي هي للبعد والعذاب العظيم قريب، والأصل أن الإشارة إلى القريب لفظية، أعني بذلك من قال (ولهم عذاب عظيم) أن إسم الإشارة ذلك يقرون أن اللام للبعد ولكن يقولون هو بعد معنوي؛ لأن مجيء اللام مع اسم الإشارة قد يكون للبعد اللفظي وقد يكون للبعد المعنوي، البعد اللفظي معلوم مثل ما قال ابن مالك في الألفية:
ولدى البعد انطقا بالكاف حرفا دون لام أو معا
فإذن في البعد يشار باللام، أولاء هذا قريب، هذا قريب، ذاك قريب ذلك بعيد.
وقد يكون المراد بمجيء اللام البعد المعنوي وهذا كثير في القرآن كما في قوله تعالى ?الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ?[البقرة:1-2]، وقد يكون بُعْدا معنويا للتعظيم كقوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) يعني جعله بعيدا لعلو مرتبته ومنزلته وقد يكون بعدا معنويا في السفول مثل ما يوصف عذاب الكافرين في مواضع قالوا هنا من قال أن الضمير يرجع إلى العذاب العظيم ذلك هذا رجوع معنوي.
مقصود البحث في الترجيح ليس هذا محله لكن إشارة في معنى قول لفظية؛ لأن الأصل أن تكون الإشارة للبعيد لفظا لا معنى هذا هو الأصل.(37/477)
ولهذا قال الشيخ رحمه الله هنا والإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمه الله كان من أدق أهل زمنه في التفسير وأعلم من أهل زمنه بأقوال المفسرين قال رحمه الله (فصرّح أن هذا الكفر والعذاب) فجمع القولين هذا الكفر والعذاب، فكأنه قال لا يمنع أن يقال رجع الضمير اسم الإشارة إلى العذاب أو يرجع إلى الكفر؛ لأن العذاب حاصل والكفر حاصل، فإرجاع ذلك للجميع متجه.
قال (فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر) هذا ظاهر بين، (وإنما سببه أن له في ذلك حظ من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) وهذا الذي ذكره حاصل وواقع؛ بل إن الذين استحبوا الكفر على الإيمان وكفروا بعد إيمانهم سبب ذلك محبة الدنيا، محبة المال، محبة الجاه، لابد فيه حظ من حظوظ الدنيا وإلا لو قام الإيمان بالآخرة في النفس لما آثر المرء عليه شيئا من الدنيا.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنّ النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال –غاب عني- يعني أن في آخر الزمان يمسي الرجل مؤمنا أو تكون فتن، تكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، وهذا حاصل في أن من كفر؛ بل من فتن عن الدين إنما هو بسبب من الدنيا بشهواته إما شهوة المال أو شهوة الجاه أو شهوة المنصب أو شهوة النساء أو شهوة الأمر والنهي أو إلى آخر ذلك من الشهوات الفانيات.
فما ذكره هنا الإمام رحمه الله هذا ينبغي أن يتنبه إليه كل موحد، فيحذر أشد الحذر من الكفر ومن وسائله.
قال (وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) وهذا الاستدلال المراد ومقيم للبرهان على أولئك الذين يقولون: نحن نعلم التوحيد وإنما علمنا الشرك لأجل الحفاظ على أموالنا أو على جاهنا أو على دنيانا.(37/478)
نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وبصفاه العلى أن يرفع درجة الإمام المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وسائر أئمة الدعوة الذين تركوا الناس بعدهم على أمر واضح بيّن لا لبس فيه في أمر الدين التوحيد الإخلاص، ونرجوا أن يكونوا ممن وعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بظهورهم في تجديد أمر الدين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعلي مقامهم وأن يغفر ذنوبهم وأن يجعلنا ممن ورِثَ علمهم فعلم وعلم وأقام الحق في نفسه وفيمن حوله.
ونسأله سبحانه أن يثبت في قلوبنا التوحيد، وأن يكشف عنا كل شبهة، وأن يثبت هذا العلم في نفوسنا، وأن يحببه إلينا وأن يبغّض إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن تجعل التوحيد حجة لنا لا حجة علينا.
اللهم نسألك أن تهدينا نحن الحاضرين جميعا إلى أقوم طريق، ونسألك أن تجعلنا ممن يفرح بإخلاص الدين لك، ويفرح بهذا العلم الذي هو علم التوحيد، ويفرح بعلم العقيدة ويظهره على غيره، لأن ذلك هو الأساس.
اللهم علمنا علما نافعا واختم لنا بالصالحات، واغفر لنا جميعا الحاضر والسامع وأحبابنا إن جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([72])
... والأسبوع الذي بعده -يعني درس السبت والخميس- أنا غير موجود الأسبوع القادم والذي بعده إن شاء الله بشرح العقيدة الطحاوية شرح المتن فتخبرون الإخوان الحريصين على بداية الدرس من أوله لأن كثيرين يقولن نريد درسا مؤصلا نبدأ فيه من أوله، فهذه بداية من أول العقيدة الطحاوية، وهو كتاب كما هو معلوم كتاب مهم.
{س1/ ما حد الاستضعاف المرخص به للبقاء بين ظهراني المشركين؟
ج/ لا يستطيع الهجرة، مستضعف لا يستطيع أن يهاجر ?إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً?[النساء:98].(37/479)
س2/ هل المقصود من الإكراه أن من أكره على عمل من الأعمال التي نهى الله عنها سواء كان في الشرك أو معصية أم فيها تفصيل ؟
ج/ إذا كان يعذر في الشرك بالإكراه، فعذره فيما هو أدنى من الشرك من المعاصي لا شك أنه من باب أولى؛ لكن هناك ذنوب كبائر لا يصح فيها الإكراه وهذه معلومة في تفصيل القاعدة عند الفقهاء.
س3/ وهل من أكره على معصية من المعاصي مثل الزنا فهل يعذر بالإكراه أم ماذا ؟
ج/ الزنا اختلف فيه العلماء، هل يقع فيه إكراه، يعني إكراه من مرأة لرجل في الزنا أم لا يقع؟ وسبب الخلاف في أن الرجل لا تنتشر آلته إلا بشهوة ورغبة، أما إذا كان القلب كارها فإنه لا يحصل معه انتشار، حتى مع أهل الرجل ومن أُبيح له أن يعاشرهم إذا كره كرها شديدا لا يكون في قلبه رغبة للجماع حتى دواعي الجماع، لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم: يستثنى من القاعدة الزنا؛ لأن الزنا لا يكون انتشار الرجل إلا عن وجود رغبة في قلبه ولو قليلة والتفات إلى هذه المرأة أو إلى ما تعمل إلى آخره.
والقول الثاني أنه يقع الإكراه حتى في الزنا لأن بعض الرجال ربما ينتشر دون رغبة القلب.
وعلى العموم، هذا راجع إلى الحال وكل أعلم بحاله والله حسيب على الخلق.
س/ كيف التوجيه بين هذه الآية وحديث الذباب؟
ج/ ذكرنا التوجيه وأشرنا إليه في شرحنا لكتاب التوحيد ومعروف .
س/ ما أفضل شرح للعقيدة الطحاوية يمكن اقتناءه، ومتابعة الدرس من خلاله؟
ج/ أنا سأشرح المتن إن شاء الله تعالى بطريقة تجمع ما بين السهولة للمبتدئ وكثرة المادة للمتوسط، ولهذا لا أعرف شرحا سيكون على ما أريد إن شاء الله؛ لكن شرح ابن أبي العز هذا شرح معروف، وكذلك شرح ابن مانع رحمه الله، أو تعليقات الشيخ عبد العزيز (رحمه الله)، أو تعليقات الشيخ ناصر الألباني (رحمه الله)، هذه كلها فيها فائدة إن شاء الله.(37/480)
س/ متى يكون الخلاف خلافا سائغا يُعذر فيه المخالف، وهل يكتفى في تسويغ الخلاف أن يقول به إمام من الأئمة؟
ج/ هذه مسألة أصولية مشهورة، والجواب عليها أن الخلاف في المسائل ينقسم إلى قسمين:
الأول: خلاف فيما لم يرد به النص، في مسألة نازلة، اختلف العلماء فيها، فهذا الخلاف فيها سائغ إلا إذا كان هناك اتفاق من أكثر أهل العلم في ذلك فالذي يرى غير ما عليه الأكثر في المسألة النازلة له أن يعمل بما يرى أو يعتقد في ذلك في نفسه؛ لكن لأجل قول الأكثر في المسألة الاجتهادية فإنه لا يخالف الأكثر لأن الأكثر في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، إنما هي تنزيل على الواقع هذا في الغالب أن لا يكون معه الصواب.
فإذن النوع الأول من الخلاف خلاف في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، وهذه يعذر بعضهم بعضا لأنها اجتهاد في تنزيل المسألة النازلة على النصوص.
والثاني، النوع الثاني: الخلاف في المسائل التي فيها دليل؛ لكن اختلف فيها العلماء نزع كل إلى جهة من الدليل، وبعضهم مثلا لم يقل بالدليل، قال بغيره؛ قال بقياس، قال برأيه، فهذا الخلاف في المسائل التي فيها دليل ينقسم إلى قسمين:
الأول : خلاف ضعيف. والثاني : خلاف قوي.
والخلاف الضعيف هو الذي يكون في مقابلة الدليل؛ يعني قال قياسا مع ظهور الدليل، لاحظ كلمة ظهور الدليل، يعني دلّ الدليل على المسألة بظهور أو بما هو أعظم من الظهور وهو النص، وقال طائفة من أهل العلم بخلاف ما دل عليه الدليل ظاهرا أو نصا فهذا لا شك أن هذا الخلاف يكون ضعيفا.
الثاني: أن يكون الخلاف قويا بحيث يكون أن تكون الأدلة متعارضة، قد يرجح هذا وقد يرجح هذا، فإنه حينئذ يكون الخلاف قويا، وإذا كان الخلاف قويا فإنه لا إنكار في مسائل الخلاف القوي.
وأما إذا كان الخلاف ضعيفا فإنه ينكر في مسائل الخلاف الضعيف.(37/481)
أطلق بعض أهل العلم قاعدة وهي قولهم: لا إنكار في مسائل الخلاف. وهذا الإطلاق غلط؛ لأن المسائل الخلافية الصحابة بعضهم أنكر على بعض فيها، والتابعون أنكر بعضهم على بعض فيها.
والمسائل الخلافية على التفصيل الذي ذكرته لك:
· إذا كان الخلاف في مسألة لم يرد فيها الدليل فهذه تسمى المسائل الاجتهادية، هذا الخلاف سائغ.
· والقسم الثاني أن يكون الخلاف في مسائل فيها الدليل وهي منقسمة إلى خلاف قوي وإلى خلاف ضعيف.
مثلا من مسائل الخلاف القوي:
مسألة زكاة الحلي الأدلة فيها مختلفة، وفهم الدليل أيضا مختلف بين أهل العلم، فهذه نقول الخلاف فيها قوي فلا إنكار، من زكى فقد تبع بعض أهل العلم، ومن لم يزك فقد تبع بعض أهل العلم، فلا حرج في ذلك ولا إنكار في هذه المسألة.
كذلك مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة للمأموم، هل يقرأ المأموم أو لا يقرأ، الخلاف فيها قوي والأدلة متنازع فيها، وكلام الأئمة في من يقول كذا وفي من يقول كذا، والجمهور؛ جمهور الصحابة والتابعين، قول المحققين كشيخ الإسلام؛ بل كالإمام أحمد وشيخ الإسلام وابن القيم وجماعة أنه يتحمل الإمام عن المأموم، هذا يجعل المسألة فيها خلاف قوي فلا إنكار فيها كذلك.
مثلا بعض المسائل التي يختلف فيها أهل العلم في هذا الزمن:
مثل مثلا مسألة التصوير بالفيديو، بعضهم يجعله داخلا في التصوير فيمنعه، بعضهم لا يجعله داخلا في التصوير فلا يمنعه فهذا، المسألة فيها خلاف قوي، بعضهم يجيز وبعضهم لا يجيز، كذلك يلحق أو من هذه المسألة التي فيها الخلاف القوي بين أهل العلم مسألة التصوير الضوئي؛ لأن بعضهم أباحه، وبعض أهل العلم منعه، وهذا له حجة وهذا له حجة، واختلف فيه علماؤنا المعاصرون، مع أن الصحيح كما هو معلوم أنه لا يجوز ذلك لعموم الأدلة كما هو مبسوط في موضعه.
المسائل التي فيها خلاف ضعيف كثيرة.(37/482)
وهذا نقول فيه لأجل أن ينتبه طالب العلم إلى ما ينكر فيه وما لا ينكر فيه، فمسائل ترى أهل العلم ما ينكرون فيها لأجل الخلاف القوي فيها، أحيانا ينكرون لأجل الخلاف أن يكون خلافا ضعيفا.
مثل مسألة كشف المرأة لوجهها الخلاف فيها ضعيف وبعض أهل العلم يرى أن الخلاف فيها قوي لكن الصحيح أنه ضعيف لأن الحجة التي أدلى بها من أجاز ذلك ليست بوجيهة إلى آخر المسائل التي فيها..
الخلاف ضعيف مثل المعازف، خلاف ابن حزم فيها شاذ وضعيف.
كذلك إباحة النبيذ وما شابهه مما لا يسكر قليله، هذا معلوم الخلاف فيها لكن الخلاف فيها ضعيف.
كذلك أكل لحم ذي الناب من السباع خلاف، خالف فيه أهل المدينة مالك ومن معه، غيره من الأئمة، ونقول الخلاف فيه ضعيف لوجود النص الواضح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ذلك.
إلى ذلك من المسائل المعروفة.
س/ نقل القرطبي وغيره إجماع العلماء على أن من أكره على الكفر فالأفضل والأحسن أن يصبر على القتل فهو أولى من أن يجيبهم.
ثم رأيتُ لبعض الشافعية تفصيلا قد ذكر بعضهم أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يرجى به النكاية بالكفر فالأولى أن يدرأ عن نفسه القتل بالإجابة، وإن كان ممن ليس كذلك فالأفضل له الصبر فهل يعد هذا التفصيل ناقضا أو خارما للإجماع؟
الجواب: لا، ليس كذلك هو قولهم الأفضل والأحسن أن يصبر، هذه هي القاعدة، ومعلوم أن كل قاعدة لها شواذ، والقاعدة أمر كلي ومجيء بعض الأفراد على خلاف الأمر الكلي لا يخرج الأمر الكلي عن كونه كليا مقطوعا به، كما قرره الأصوليون والعلماء في القواعد.
س/ ما توجيه أهل العلم رحمهم الله تعالى لحديث التائب الذي قال فيه اللهم أنت عبدي وأنا ربك فقد تلفظ بالكفر؟
ج/ هذا قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام «أخطأ من شدة الفرح».
س/ هل صحيح أن حديث الذبابة فيه شيء من الضعف؟
ج/ هذا أحلناكم على ما قبله.
س/ متى يبدأ وقت أذكار المساء والصباح ومتى ينتهي؟(37/483)
ج/ في أول النهار وفي إقبال الليل، يعني في المساء من بعد العصر إلى المغرب، أو بعد المغرب، كل هذا وقت المساء، المساء إلى غياب الشفق يطلق عليه مساء باتفاق أهل اللغة، هل يطلق المساء لما بعد ذلك فيه خلاف، من بعد الزوال إلى غياب الشفق يعني إلى دخول وقت العشاء هذا يطلق عليه مساء في اللغة، فأذكار المساء من بعد العصر بالنية قبل المغرب قبل الأذان بعد الصلاة، كل هذه فيها سعة.
س/ إذا كان الرجل جاهل بأحكام الغسل وكان في هذا الوقت يصلي وهو جنب وبعد أن علم أحكام الغسل هل يعيد الصلاة أو لا ؟
ج/ إذا كانت سنين كثيرة ما يعيد؛ لكن إذا كانت صلاة أو صلاتين معلومة فيعيد لأنه ما أتى بالشرط؛ لكن كيف يعني أحكام الغسل –أخاف أن يكون مدخل للوسوسة-، الغسل تعميم البدن بالماء، أخشى أنه يكون مدخل للوسوسة، يعني الغسل يعرفه كل أحد، أنه تعميم البدن بالماء ، إذا وصل إلى جميع أجزاء الجسم حصل الغسل الشرعي من الجنابة
س/ هل نصرح بكفر من رأيناه يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
لابد تعرض كلامه على أهل العلم وهم يفتون ، مسائل الكفر ليست لآحاد الناس أو لآحاد طلاب العلم.
س/ هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التورك في التشهد الأول؟
هل هناك فرق بين البراءة من الشرك وبين الخلوص من الشرك ؟
ج/ التورك النبي عليه الصلاة والسلام كان يفترش قدمه اليسرى ويجلس عليها، هذه هي السنة، التشهد الأول لا أعلم فيه ما يكون فيه التورك سنة، ربما السائل رآني اليوم، أنا معي عذر في رجلي يمنعني من ذلك.(37/484)
ما الفرق بين البراءة من الشرك وبين الخلوص من الشرك؟، الخلوص من الشرك هذه كلمة يعني تتركونها لما ليس لها أصل في كلام أهل العلم المتقدمين، إنما هي جاءت متأخرة، ما أدري كيف جاءت في كتاب ثلاثة الأصول، نبهنا عليها في شرحنا على الثلاثة الأصول لأن تعريف الإسلام اللي ذكره الشيخ في أول ثلاثة الأصول، الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، هذا تعريف الإسلام المعروف عند أئمة التوحيد، أما تعديل ذلك إلى والخلوص من الشرك وأهله، أو الخلوص من الشرك ، هذا ليس صحيحا؛ لأن البراءة غير الخلوص البراءة فيها بغض ومعاداة والخلوص فيها انتقال، فيها خلاص من الشيء، البراءة لفظ شرعي جاء في النصوص في القرآن وفي السنة فلابد من اعتماده، وتعريف الإسلام مأخوذ من القرآن يعني لأن قصة لإبراهيم عليه السلام فيها تعريف الإسلام.
نكتفي بهذا القدر.} ([73])
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([74])
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) وتمام البيت:
قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا الـ أذهانَ والآراءَ كلَّ زمانِ
([2])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([3])لم أجدها وإنما وجدت: ?فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ?[الأعراف:135]، ?فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ?[يونس:12] إلى آخره.
([4])انتهى الشريط الأول.
([5]) قال البهوتي في كشف القناع: قال الفخر إسماعيل وأبو البقاء: العبادة ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. كتاب الصلاة باب صلاة التطوع.
([6]) الأعراف:59، 65، 73، 75، هود: 50، 61، 84، المؤمنون:23، 32.
([7])انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([8]) هود:119، السجدة:13، الناس:6.
([9]) الحجر:40، ص:83.
([10])انتهى الشريط الثاني.
([11]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([12])الحجر:40، ص:83.
([13]) لم يذكرها الشيخ.
([14])الظاهر يوجد قطع في الشريط.(37/485)
([15]) لم يذكرها الشيخ.
([16])الشيخ قال وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله... ولعلها التي في سورة لقمان التي فيها وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين... الآية.
([17])الشيخ قال ركبوا.
([18]) انتهى الشريط الثالث.
([19]) النمل:60، 61، 62، 63، 64.
([20])الفاتحة:2، يونس:10، الزمر:75، غافر:65.
([21])انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.
([22])الأنعام:57، يوسف:40، يوسف:67.
([23])انتهى الشريط الرابع.
([24]) النساء:38، 116.
([25])البقرة:146، الأنعام:20.
([26]) النساء:38، 116.
([27])انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.
([28])الأنعام:112، الفرقان:31.
([29]) الظاهر وجود قطع في الشريط.
([30]) انتهى الشريط الخامس.
([31])انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([32]) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([33])سورة هود: 7. الملك:2.
([34]) في الشريط مسح.
([35])انتهى الشريط السادس.
([36]) انتهى الوجه الأول من الشريط السابع
([37]) تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد تأليف الأستاذ المحدث الشهير محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني.
([38]) يوجد مسح في الشريط.
([39]) انتهى الشريط السابع.
([40]) الشيخ حفظه الله قال:قل.
([41]) يوجد مسح في الشريط.
([42]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن.
(1) وهي أيضا في سورة الشورى الآية:10.
([44]) يوجد مسح في الشريط.
([45]) انتهى الشريط الثامن.
([46]) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع.
([47])الأفراط: هم الأولاد الصغار الذين ماتوا قبل آبائهم. انظر لسان العرب 7/366 مادة «فرط».
([48]) انتهى الشريط التاسع
([49]) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي في جامعه الفريد: "المحصور بين هاتين العلامتين[ ] سقط من جميع الطبعات وأكملناه من المخطوطة المعاصرة لشيخ الإسلام المؤلف ص8 وهي في خزانة كتبنا الخاصة برقم 5138." ط4، 1420هـ ص271.(37/486)
([50]) وهي رسالة الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للعلامة محمد بن علي الشوكاني.
([51]) انتهى الوجه الأول من الشريط العاشر.
([52]) الشعراء:227، ص:24، الانشقاق:25، التين:6، العصر:3.
([53]) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي في جامعه الفريد: "المحصور بين هاتين العلامتين[ ] سقط من جميع لطبعات وأكملناه من المخطوطة المعاصرة لشيخ الإسلام المؤلف ص8 وهي في خزانة كتبنا الخاصة برقم 5138." ط4، 1420هـ ص271.
([54]) انتهى الشريط العاشر.
([55]) الشيخ قال وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله... ولعلها التي في سورة لقمان التي فيها وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين... الآية.
([56]) انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر.
([57]) انتهى الشريط الحادي عشر.
([58]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني عشر.
([59]) انتهى الشريط الثاني عشر.
([60]) يوجد قطع في الشريط.
([61]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث عشر.
(5) انظر تفسير ابن كثير 4/210-211
([62]) انتهى الشريط الثالث عشر.
([63]) الأنعام:25، الإسراء:46.
([64]) الشيخ –حفظه الله تعالى- قال: الرحمن. وهي الآية (5) من سورة الشعراء: ?وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ?.
([65]) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع عشر.
(1) ذكر هذا الأثر ابن كثير عن بعض السلف كما في البداية والنهاية 1/146 في قصة إبراهيم خليل الرحمن. نقل من شرح الشيخ صالح الفوزان.
([66])البقرة:146، الأنعام:20.
([67]) انتهى الشريط الرابع عشر.
([68]) البقرة:146، الأنعام:20.
([69])البقرة:146، الأنعام:20.
([70]) يوجد قطع في الشريط.
([71]) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس عشر.
([72]) انتهى الشريط الخامس عشر.
([73]) قامت بتفريغ ما بين الحاضنتين الأخت المشكدانة الكويتية.
([74]) انتهى الشريط السادس عشر.(37/487)
شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
- رحمه الله تعالى-
[(11) شريطا مفرغا]
ملاحظة: تفريغ الأشرطة لا يعني الاستغناء عنها.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل شيخ الإسلام العالم الرباني تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى:
ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات كقوله تعالى?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقوله ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?[الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4]، وقوله ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ?[فصلت:11]، إلى غير ذلك من آيات الصفات وأحاديث الصفات كقوله - صلى الله عليه وسلم - «إنّ قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن»، وقوله «يضع الجبار قدمه في النار» إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه، وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى؟
فأجاب –رضي الله عنه-:
الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره؛ فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهِدَ له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، وأمره أن يقول ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي?[يوسف:108].(38/1)
فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردُّوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بُعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته، محال -مع هذا وغيره- أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.
فإنّ معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصّلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يُحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا!
ومن المحال أيضا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علّم أمته كل شيء حتى الخِراءة([1])، وقال «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»، وقال فيما صح عنه أيضا «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم».
وقال أبو ذر :- رضي الله عنه - لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه. رواه البخاري.([2])(38/2)
ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقّت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم ربِّ العالمين، الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام، ثم إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصَّروا في هذا الباب؛ زائدين فيه أو ناقصين عنه.
ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث فيه رسول - صلى الله عليه وسلم - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين به وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق. وكلاهما ممتنع.
أما الأول فلأن من في قلبه أدنى حياةٍ وطلب للعلم ونهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه؛ أعنى: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته.
وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر.
وهذا أمر معلوم بالفطرة الوُجدية([3])، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم. هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم أعرضا عن الله وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟!
وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم.([4])
ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه.(38/3)
ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدّر قدر السلف بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعنى بها معنى صحي.
فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أُتوا من حيث ظنوا أنَّ طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم ?وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ?[البقرة:78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات.
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.([5])
وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف-، فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلمَ عن مواضعه.(38/4)
فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأنّ الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله.
ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلالة.
كيف يكون هؤلاء المتأخرون، لاسيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين([6]) اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول
لعمري لقد طُفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذَقَنٍ أو قارعا سن نادم([7])
وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا([8])
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروى غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ?[فاطر:10]، واقرأ في النفي ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]، ?وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا?[طه:110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ا.هـ
ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي.ا.هـ([9])
ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام.([10])(38/5)
ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف([11]) إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضلون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون: أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعرفة وبواطن الحقائق بما لو جُمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.
ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لاسيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلاّل اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم؛ أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!
وإنما قدمتُ هذه المقدمة لأنّ من استقرت هذه المقدمة عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره. وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة؛ وليس غرضي واحدا معينا وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء. ([12])(38/6)
وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر([13]) في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى وهو فوق كل شيء وهو عليٌّ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله تعالى ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، ?إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ(16)أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا?[الملك:16-17]، ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، ?تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ?[المعارج:4]، ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، ?يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ?[النحل:50]، ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?([14]) في ستة مواضع، ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ?يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا?[غافر:36-37]، ?تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت:42]، ?مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ?[الأنعام:114]. إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة([15]).
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة.
مثل قصة معراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه؛ وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم.(38/7)
وفي الصحيح في حديث الخوارج «أَلاَ تَأْمَنُونِي؟ وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السّمَاءِ, يَأْتِينِي خَبَرُ السّمَاءِ صَبَاحاً وَمَسَاءً».
وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: «رَبُّنَا الله الّذِي في السّماء تَقَدّسَ اسْمُكَ أَمْرُكَ في السّمَاءِ وَالأرْضِ كما رَحْمَتُكَ في السّمَاء اجْعَلْ رَحْمَتَكَ في الأرْضِ اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا أنْتَ رَبّ الطّيّبِينَ أنْزِلْ رَحْمَةً مِن رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ».
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء» وذكره.
وقوله في حديث الأوعال «والعرش فوق ذلك والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه» رواه أحمد وأبو داود
وغيرهما.
وقوله في الحديث الصحيح للجارية «أين الله» قالت: في السماء. قال «من أنا» قالت: أنت رسول الله. قال «فأعتقها فإنها مؤمنة».
وقوله في الحديث الصحيح«إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبى».
وقوله في حديث قبض الروح «حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها([16]) الله تعالى» إسناده على شرط الصحيحين.
وقول عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - الذي أنشده للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقره عليه:
شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينَ
وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينَ
وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وغيره من شعره فاستحسنه، وقال آمن شعره وكفر قلبه حيث قال:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما يناله بصر العين ترى دونه الملائك صورا
وقوله في الحديث الذي في المسند «إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا».(38/8)
وقوله في الحديث «يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب»، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية،([17]) التي تورث علما يقينيا من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبلِّغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أنّ الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام؛ إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته.
ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمع لبلغ مئين أو ألوفا.
ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف، حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا.
ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء. ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أنّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا أنه لا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل يقول: «ألا هل بلغت» فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكبها إليهم ويقول «اللهم أشهد» غير مرة، وأمثال ذلك كثيرة.(38/9)
فإن كان الحق ما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة، من هذه العبارات ونحوها دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا، فكيف يجوز على الله تعالى ثم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائما بما هو إما نص وإما ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصا ولا ظاهرا حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلَّف أو كل فاضل أن يعتقدها.
لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أُحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين.
فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل، وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة.
ولكن أنظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به -سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن- وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به؟
ثم هم ها هنا فريقان:
أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه.(38/10)
ومنهم من يقول بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافا أكثر من جميع اختلافٍ على وجه الأرض- فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحقُّ الذي تعبدتكم به، وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأى هؤلاء المتكلمين.([18])
وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوما لا محيد عنه، ومضمونه أنّ كتاب الله لا يُهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول،([19]) بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين.(38/11)
وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به إذْ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم، وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا(61)فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا?[النساء:60-62].([20])
فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول -والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته- أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علما وعملا بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية.([21])
ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تَقَلَّدوا أكثرها عن طواغيت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم؛ مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه قلوبهم، وقال الله تعالى ?فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء:65]، ?كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ?[البقرة:213] الآية.(38/12)
ولازم هذه المقالة أن لا يكون الكتاب هدى للناس، ولا بيانا ولا شفاء لما في الصدور ولا نورا، ولا مردا عند التنازع، لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون أنه الحق الذي يجب اعتقاده لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصا ولا ظاهرا، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4]، ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا?[التحريم:65].
وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دلّ الخلق على أن الله ليس على العرش، ولا فوق السموات ونحو ذلك بقوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) لقد أبعد النجعة، وهو إما مُلْغِز وإما مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين.
ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرا لهم في أصل دينهم؛ لأنّ مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمى وضلالة.([22])
يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه؛ ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاقبلوه وما لا فتوقفوا فيه أو أنفوه.
ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله».
وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي».(38/13)
فهلا قال من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقادات فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة في هذه المقالة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين. ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين؛ فإن من حُفِظَ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام أعني أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وأن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان؛ وأظهرها فنُسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل أن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود، والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر القبط الكفار، والنجاشي ملك الحبشة النصارى، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس لا اسم علم.(38/14)
فكانت الصابئة إلا قليلا منهم إذ ذاك على الشرك وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركا؛ بل مؤمنا بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى ?الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[البقرة:62]، وقال ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[المائدة:69].
لكن كثيرا منهم، أو أكثرهم كانوا كفارا أو مشركين، كما أن كثيرا من اليهود والنصارى بدّلوا وحرفوا وصاروا كفارا أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك؛ كانوا كفارا أو مشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل.
ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة.
وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حرّان وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضا -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- لما ناظر السُّمنية([23]) بعض فلاسفة الهند -وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات-.
فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين هم إما من الصابئين وإما من المشركين. ([24])
ثم لما عُرِّبَت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء، من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.(38/15)
ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والفضيل بن عياض، وبشر الحافي، وغيرهم، في هؤلاء كثير في ذمهم وتضليلهم.
وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فُورك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس، ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني، وأبي الحسين البصري، وأبي الوفاء بن عَقيل، وأبي حامد الغزالي، وغيرهم؛ هي بعينها تأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه: وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا، ولهم كلام حسن في أشياء.
فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي، ويدلُّ على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنف كتابا سماه: رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضى أن المريسي أقعد، بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم.
ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية وأكثرهم كفّروهم أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسية تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ولا حول ولا قوة إلا بالله. ([25])
والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما أشير إشارة إلى مباديء الأمور والعاقل يسير فينظر.(38/16)
وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلا منه، مثل كتاب السنن للالكائي، والإبانة لابن بطة، والسنة لأبي ذر الهروي، والأصول لأبي عمرو الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي، وقبل ذلك السنة للطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني، ولأبي عبد الله بن منده، ولأبي أحمد العسال الأصبهاني، وقبل ذلك السنة للخلال، والتوحيد لابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن سريج، والرد على الجهمية لجماعة، مثل البخاري وشيخه عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي، وقبل ذلك السنة لعبد الله بن أحمد، والسنة لأبي بكر بن الأثرم، والسنة لحنبل، وللمروزي ولأبي داود السجستاني، ولابن أبي شيبة، والسنة لأبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب الرد على الجهمية لعبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري، وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وكتاب الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم.
وكلام أبي العباس عبد العزيز المكي صاحب الحيدة في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن حماد الخزاعي.
وكلام غيرهم، وكلام الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن سعيد ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأمثالهم، وقبل هؤلاء لعبد الله بن المبارك وأمثاله وأشياء كثيرة.
وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة، ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى، فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير.
فإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذا عن تلامذة المشركين، والصابئين، واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن بل نفس عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ([26])
فصل(38/17)
ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتجاوز القرآن والحديث.
قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -:([27]) لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز القرآن والحديث.
ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وُصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي؛ بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد. ([28])
وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما يتيقن أنّ الله سبحانه له ذات حقيقية، وله أفعال حقيقية، فكذلك له صفات حقيقية، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقه العدم([29]) ولافتقار المحدث إلى محدث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.
ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون([30]) ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله؛ فعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته.
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل.(38/18)
أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل؛ مثلوا أولا وعطلوا آخرا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى.
فإنه إذا قال القائل لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، كما يلزم من سائر الأجسام.
وصار هذا مثل قول الممثل إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهرا أو عَرَضا ([31]) وكلاهما محال، إذ لا يعقل موجود إلا هذان، و قوله إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، إذ لا يُعلم الاستواء إلا هكذا فإن كليهما مثّل وكليهما عطّل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين. ([32])
والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط؛ من أنّ الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير، ونحو ذلك ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها.(38/19)
وأعلم أنه ليس في العقل الصريح، ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا؛ لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير، ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة -من المتأولين لهذا الباب- في أمر مريج، فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أنّ لله علما وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل. بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة، يزعم أن العقل أحال ذلك، وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل؛ بل منهم من يزعم أن العقل جوّز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله.
فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس، حيث قال: أَوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدل هؤلاء.
وكلٌّ من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر وهو من وجوه:
أحدها: بيان أن العقل لا يُحيل ذلك.
والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.
والثالث: أنّ عامة هذه الأمور قد عُلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها بالاضطرار، كما أنه جاء بالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان؛ فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم، وسائر ما جاءت به النبوات.(38/20)
الرابع: أنْ يبين أنَّ العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص، وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن دَرَك تفصيله، وإنما عقله مجملا إلى غير ذلك من الوجوه على أن الوجوه الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية.
وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه.
ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ?لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:28]، وأنه بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر.([33])
والإيمان بالله واليوم الآخر يتضمَّن الإيمان بالمبدأ والمعاد، وهو الإيمان بالخلق والبعث كما جمع بينهما في قوله تعالى ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ?[البقرة:8]، وقال تعالى ?مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ?[لقمان:28]، وقال تعالى ?وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ?[الروم:27].
وقد بين الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى الله به عباده، وكشف به مراده.
ومعلوم للمؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم من غيره بذلك، وأنصح من غيره للأمة، وأفصح من غيره عبارة وبيانا، بل هو أعلم الخلق بذلك وأنصح الخلق للأمة وأفصحهم، فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة.([34])
ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته: كمل كلامه وفعله، وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه وإما من عجزه عن بيان علمه وإما لعدم إرادته البيان.(38/21)
والرسول هو الغاية في كمال العلم، والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين،([35]) والغاية في قدرته على البلاغ المبين، ومع وجود القدرة التامة، والإرادة الجازمة: يجب وجود المراد، فعُلم قطعا أن ما بينه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر حصل به مراده من البيان، وما أراده من البيان فهو مطابق لعلمه، وعلمه بذلك أكمل العلوم، فكل من ظن أن غير الرسول أعلم بهذا منه، أو أكمل بيانا منه، أو أحرص على هدى الخلق منه فهو من الملحدين لا من المؤمنين؛ والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم في هذا الباب على سبيل الاستقامة.
وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف، فإنهم يقولون: إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بيّن به الحق، ولا هُدِي به الخلق، ولا أوضح به الحقائق.
ثم هم على قسمين:
منهم من يقول: أن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه. ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين،([36]) وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية.
ومنهم من يقول: بل الرسول علمها لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق.
ويقول هؤلاء يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل. قالوا: لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد.
فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر.(38/22)
وأما الأعمال فمنهم من يقرها ومنهم من يجريها هذا المجرى، ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر بها العامة دون الخاصة، فهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم.
وأما أهل التأويل: فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يُقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل؛ ولكن قصد بها معاني ولم يبيّن لهم تلك المعاني ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرف الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك.
والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء، إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهورا، بخلاف هؤلاء فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة، وهم في الحقيقة لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا،([37]) لكن أولئك الفلاسفة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات. فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان وقد علمنا فساد الشبه المانعة منه.
وأهل السنة يقولون لهم: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد، ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه، بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئا منها أحد من العرب.
فعُلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، ([38]) فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به.(38/23)
وأيضا: فقد علم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا مما بدل وحرف لكان انكار ذلك عليهم أولى، فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجبا منهم وتصديقا لها ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة أهل الإثبات، مثل لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك، بل عابهم بقولهم ?يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ?[المائدة:64]، وقولهم ?إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ?[آل عمران:181]، وقولهم إنه استراح لما خلق السموات والأرض، فقال تعالى ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ?[ق:38].
والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن. فإذا جاز أن نتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان.
وأما الصنف الثالث وهم أهل التجهيل: فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف. يقولون: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك.(38/24)
وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أنّ الرسول تكلم بها ابتداء فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه، وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ?[آل عمران:7]، فإنه وقف أكثر السلف على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، وهو وقفٌ صحيح، ثم فرقوا بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه، وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين وغلطوا في ذلك.([39])
فإن لفظ التأويل يراد به ثلاث معان:
فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلا على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلا يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله، أولا يعلمه المتأولون، ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجري على ظاهرها فظاهرها مراد. مع قولهم: إن لها تأويلا بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله. وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم.
والمعنى الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه، وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قوله ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ?[آل عمران:7]، كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم، وكلا القولين حق باعتبار كما قد بسطناه في موضع آخر، ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا وكلاهما حق.(38/25)
والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، وإن وافقت ظاهره فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف أنه قال ?يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا?[يوسف:100]، وقال تعالى ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ?[الأعراف:53]، وقال تعالى ?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59]، وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله.
فتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله تعالى بعلمها، وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف كمالك وغيره: الاستواء معلوم والكيف مجهول. فالاستواء معلوم يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة أخرى وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقد روى عن ابن عباس ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه:([40])
تفسير تعرفه العرب من كلامها.
وتفسير لا يعذر أحد بجهالته.
وتفسير يعلمه العلماء.
وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل فمن ادعى علمه فهو كاذب.([41])
وهذا كما قال تعالى ?فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[السجدة:17]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».(38/26)
وكذلك علم الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه كما قال تعالى ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?[محمد:24]، وقال ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ?[المؤمنون:68]، فأمر بتدبر القرآن كله لا بتدبر بعضه.([42])
وقال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية وأسأله عنها.
وقال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها.
وقال مسروق: ما سئل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه.
وهذا باب واسع قد بسط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلالة في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن من جعل الرسول غير عالم بمعاني القرآن الذي أنزل إليه، ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات، ولم يجعل القرآن هدى ولا بيانا للناس.
ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية فلا يجعلون عند الرسول وأمته في باب معرفة الله عز وجل لا علوما عقلية ولا سمعية، وهم قد شاركوا الملاحدة في هذه من وجوه متعددة، وهم مخطئون فيما نسبوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى السلف من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة.
ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها، وألفاظ من نقل مذهبهم إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما لم يعلم به مذهبهم.([43])(38/27)
روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته.
وقد حكى الأوزاعي -وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابع التابعين الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق- حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش، وبصفاته السمعية.([44])
وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت.
وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية. فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف.
فقولهم رضي الله عنهم أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم بلا كيف، رد على الممثلة، والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما.([45])
وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرَّف بن عبد الله([46]) قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تعالى تغييرها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتَّبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.(38/28)
وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق.
وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه.
منها ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا. فأمر به أن يخرج.
فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نَفَوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة.
ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ([47]) ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنَّ الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم.
وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية، إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتتَ الصفات.
وأيضا فإن من ينفي الصفات الخبرية، أو الصفات مطلقا لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف، نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف.(38/29)
وأيضا فقولهم: أمروها كما جاءت. يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني؛ فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن الله([48]) لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذْ نفى الكيف عما ليس بثابت لغو من القول.([49])
وروى الأثرم في السنة، وأبو عبد الله بن بطة في الإبانة، وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون -وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم: مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب- وقد سئل عما جحدت به الجهمية:
أما بعد: فقد فهمتُ ما سألتَ فيما تتابعت الجهمية ومن خَالفَها، في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحصرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمتَه([50]) العقولُ فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول، ولم يزل، وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى، يعرفه عارف أو يحد قدْرَه واصف على أنه الحق المبين لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه. الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغرا يجول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر؛ لما يتقلب به ويحتال من عقله، أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم وسيد السادة وربهم ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].(38/30)
اعرف رحمك الله غِناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها؛ إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته؟
فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد ?اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ?[الأنعام:71]، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمَّى من نفسه بأن قال: لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البيّن بالخفي، فجحد ما سمى الرب من نفسه، بصمتٍ عمّا لم يسم منها، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?[القيامة:22-23]، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونضرته إياهم ?فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ?[القمر:55].
قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون، إلى إن قال: وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلّى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحدا.
وقال المسلمون: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا. قال «فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فإنكم ترون ربَّكم يومئذ كذلك».
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تمتلئ النار حتى يضع الجبَّار فيها قدمه، فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض».
وقال لثابت بن قيس «لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة».(38/31)
وقال فيما بلغنا «إن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم» فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال «نعم»، قال: لا نُعْدَمُ من رب يضحك خيرا. إلى أشباه لهذا مما لا نحصيه.
وقال تعالى ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?[الطور:48]، وقال تعالى ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي?[طه:39]، وقال تعالى ? مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وقال تعالى?وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?[الزمر:67].
فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي أُلقي في روعهم، وخلق على معرفة قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه -لا هذا ولا هذا- لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. ([51])
اعلم رحمك الله أنَّ العصمة في الدين أن تنتهيَ في الدين حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة، فلا تخافنَّ في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيبا، ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرا.
وما أنكرته نفسك، ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك -من ذكر صفة ربك- فلا تكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك واصمت عنه كما صمت الرب عنه([52]) من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل انكار ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها.([53])(38/32)
فقد –والله- عزَّ المسلمون الذين يعرفون المعروف وبهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن.
وما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى وما وصف الرب تعالى من نفسه.
والراسخون في العلم -الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها- لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدا، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا؛ لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى، ?وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]. وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين.
وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام فتدبره، وانظر كيف أثبت الصفات ونفى علم الكيفية موافقة لغيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا كما تقوله الجهمية: أنه يلزم أن يكون جسما أو عَرَضا فيكون محدَثا.([54])
وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر؟ فقال: لا تكفرن أحدا بذنب، ولا تنف أحدا به من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا توالي أحدا دون أحد([55])، وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل.
قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأنْ يفقه الرجلُ([56]) كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير.(38/33)
قال أبو مطيع الحكم بن عبد الله قلت: أخبرني عن أفضل الفقه، قال: تعلم الرجل الإيمان، والشرائع والسنن، والحدود، واختلاف الأئمة، وذَكَرَ مسائل الإيمان، ثم ذكر مسائل القدر، والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعَه.
ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا. قلت: ولم؟ قال: أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال: هو كذلك لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام.
قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض: فقد كفر؛ لأن الله يقول ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5] وعرشه فوق سبع سموات.
قلت: فإن قال أنه على العرش استوى، ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعا من أعلى لا من أسفل.
وفي لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض قال: قد كفر. قال: لأن الله يقول ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وعرشه فوق سبع سموات، قال: فإنه يقول على العرش استوى، ولكن لا يدرى العرش في الأرض أو في السماء، قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه أنه كفَّر الواقف([57]) الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؛ فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء أو ليس في السماء ولا في الأرض، واحتج على كفره بقوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، قال: وعرشه فوق سبع سموات.
وبين بهذا أنّ قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) يبين أن الله فوق السماوات، فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش.(38/34)
ثم أنه أردف ذلك بتكفير من قال إنه على العرش استوى. ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض، قال: لأنه أنكر أنه في السماء لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. ([58])
وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق، وروى أيضا ابن أبي حاتم أن هشام بن عبيد الله الرازي -صاحب محمد بن الحسن، قاضي الري- حبس رجلا في التجهم، فتاب فجئ به إلى هشام ليُطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.([59])
وروى أيضا عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضِلِّيل وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. ([60])
وروى أيضا عن ابن المديني لما سئل ما قول أهل الجماعة قال: يؤمنون بالرؤية والكلام. وأن الله فوق السماوات على العرش استوى، فسئل عن قوله ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ?[المجادلة:7]، فقال اقرأ ما قبلها ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?[المجادلة:7].
وروى أيضا عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان.(38/35)
وروى عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، فقال تفسيره كما تقرأ: هو على العرش وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله.([61])
وروى أبو القاسم اللالكائي الحافظ الطبري -صاحب أبي حامد الإسفرائيني- في كتابه المشهور في أصول السنة بإسناده عن محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسَّر اليوم شيئا منها فقد خرج مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء.
محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء، وقد حكى هذا الإجماع، وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالبا أو دائما، وقوله من غير تفسير أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات.
وروى البيهقي وغيره بإسناد صحيح عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها «ضحِك ربُّنا من قنوط عبادة وقرب غيره»، و«إنَّ جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه»، و«الكرسي موضع القدمين»، وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حق حملها الثقات بعضهم عن بعض؛ غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها، وما أدركْنا أحدا يفسرها.
أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة الذين هم: الشافعي، وأحمد، وإسحاق وأبو عبيد، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف، وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها -أي تفسير الجهمية-.(38/36)
وروى اللالكائي والبيهقي بإسنادهما عن عبد الله بن المبارك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الرحمن أني أكره الصفة -عني صفة الرب-. فقال له: عبد الله بن المبارك وأنا أشد الناس كراهية لذلك، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه ونحو هذا.
أراد ابن المبارك أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من تلقاء أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار.
وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: أنه هاهنا في الأرض. وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.
وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء.
وروى ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي -إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد- أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم أشر قولا من اليهود والنصارى، وقد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس على شيء.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة، ولا أهل الذمة. ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام الواسطي -إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد- قال: كلمتُ بشرا المريسي، وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء.
وعن عبد الرحمن بن مهدى الإمام المشهور أنه قال: ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء، أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا.(38/37)
وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الرحمن بن مهدى قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وإن الله ليس على العرش. أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت محدود على محدود، فقال الأصمعي كفرت بهذه المقالة.
وعن عاصم بن علي بن عاصم -شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما- قال: ناظرت جهما فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربا.
وروى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني قال أخبرنا سريج بن النعمان، قال: سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان.
وقال الشافعي: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء وجمع عليه قلوب عباده.
وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات. وهذا مثل قول الشافعي.
وقصة أبي يوسف -صاحب أبي حنيفة- مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه لما أنكر الصفات وقال بقول جهم قد ذكرها بن أبي حاتم وغيره.
وقال أبو عبد الله محمد بن أبي زَمَنِين -الإمام المشهور من أئمة المالكية- في كتابه الذي صنفه في أصول السنة قال فيه: باب الإيمان بالعرش.
قال: ومن قول أهل السنة: أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقوله ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ?[الحديد:4] الآية.(38/38)
فسبحان من بعد وقرب بعلمه، فسمع النجوى، وذكر حديث أبي رزين العقيلي؛ قلتُ يا رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال «في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء» قال محمد: العماء السحاب الكثيف المُطْبِق -فيما ذكره الخليل- وذكر آثارا أخر.([62])
ثم قال: باب الإيمان بالكرسي. قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين. ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها.
وذكر ما ذكره يحيى بن سالم صاحب التفسير المشهور: حدثني العلاء بن هلال عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض وموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه.
وذكر من حديث أسد بن موسى ثنا حماد بن سلمة، عن زر عن ابن مسعود قال: ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه.
ثم قال في باب الإيمان بالحجب، قال: ومن قول أهل السنة أن الله بائن من خلقه يحتجب عنهم بالحجب فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ?كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا?[الكهف:5]، وذكر آثارا في الحجب.(38/39)
ثم قال: في باب الإيمان بالنزول، قال: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره. إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري([63]) عن ابن عباد قال: ومن أدركت من المشائخ -مالك وسفيان وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع- كانوا يقولون: إنّ النزول حق.
قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي عن النزول، قال: نعم. أومن به ولا أحد فيه حدا. وسألت عنه ابن معين، فقال: نعم أٌقِرُّّ به ولا أحد فيه حدا.
قال محمد: وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض، وهو أيضا بين في كتاب الله وفي غير حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى ? يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، وقال تعالى ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(16)أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ?[الملك:16-17]، وقال تعالى ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، وقال ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?[الأعراف:18 و61]، وقال تعالى ?يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، وقال ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:58].
وذكر من طريق مالك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية «أين الله؟» قالت: في السماء. قال «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله. قال «فاعتقها».
قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جدا، فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض، لا إله إلا هو العلي العظيم.(38/40)
وقال قبل ذلك في الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه، قال: وأعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله، ([64]) يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علما، والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، وعلى لسان نبيه.
وقد قال -وهو أصدق القائلين- ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?[القصص:88]، وقال ?قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ?[الأنعام:19]، وقال ?وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ?[ آل عمران:28 و30]، وقال ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي?[الحجر:29]، وقال ?فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?[الطور:48]، وقال ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي?[طه:39]، وقال ?وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، وقال ?وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ?[الزمر:67]الآية، وقال ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:36]، وقال ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا?[النساء:164]، وقال تعالى ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[النور:35] الآية، وقال ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] الآية، وقال ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ?[الحديد:3]، ومثل هذا في القرآن كثير.
فهو تبارك وتعالى نور السموات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع ويرى ويتكلم، هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء والباطن بَطُنَ([65]) علمُه بخلقه فقال: وهو بكل شيء عليم، قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم.(38/41)
وذكر أحاديث الصفات ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير، ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، لم تره العيون فتحدَّه كيف هو، ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان. ا.هـ([66])
وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره، وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم.
مثل ما ذكره أبو سليمان الخطَّابي في رسالته المشهورة في الغنية عن الكلام وأهله، قال: فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة. فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه.
والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويُحتذا في ذلك حذوه وأمثاله. فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: أن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي وبالأسماع وبالأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول إن القول إنما وجب بإثبات الصفات لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات. هذا كله كلام الخطابي. ([67])
وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك.(38/42)
وهذا الكلام الذي ذكره الخطّابي قد نقل نحوا منه من العلماء ما لا يحصى عددهم مثل أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السجزي، وشيخ شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي([68])، صاحب منازل السائرين وذم الكلام وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني، وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب، وغيرهم.
وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية في عقيدة له قال في أولها: طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ قال: فمما اعتقدوه أنّ الأحاديث التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وإن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم([69])، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه.(38/43)
وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه محجة الواثقين ومدرجة الوامقين تأليفه: وأجمعوا أنّ الله فوق سمواته عالٍ على عرشه مستو عليه، لا مستول عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان خلافا لما نزل في كتابه ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16]، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ?[فاطر:10]، ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السموات والأرض، وهو قوله ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ?[البقرة:255]، وكرسيه جسم، والأرضون السبع والسموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة، وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية؛ بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفا صفا، كما قال تعالى ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]، وزاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين، ويعذب من يشاء. كما قال تعالى ?يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ?[آل عمران:129، المائدة:18، الفتح:14]. ([70])
وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني -شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده- قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين.(38/44)
قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله عز وجل سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، فيقول: هل من داع فاستجيبَ له؟ هل من مستغفر فاغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه، ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة من العارفين على هذا. ا.هـ([71])
وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب السنة: ثنا أبو بكر الأثرم، ثنا إبراهيم بن الحارث -يعني العبادي- حدثنا الليث بن يحيى، قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر -وهو صاحب الفضيل- قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؛ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الإخلاص]، فلا صفةَ أبلغُ مما وصف به نفسه.
وكل هذا: النزول، والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الإطلاع، كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطَّلع. فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟ فإذا قال الجهمي: أنا أكفر بربٍّ يزول عن مكانه. فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء.
ونقل هذا عن الفضيل جماعة؛ منهم البخاري في أفعال العباد، ونقله شيخ الإسلام بإسناده في كتابه الفاروق فقال: ثنا يحيى بن عمار ثنا أبي، قال ثنا يوسف بن يعقوب، قال ثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل.(38/45)
وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه التعرف بأحوال العباد والمتعبدين قال: باب ما يجيء به الشيطان للتائبين، وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد، فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل.([72]) فقال بعد ذكر حديث الوسوسة:
وأعلم -رحمك الله- أن كلما توهمه قلبك، أو سنح في مجارى فكرك، أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء، أو ضياء أو إشراق، أو جمال، أو سنح مسائل، أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]، وقوله ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4] أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مِثل، أو لم تعلم أنه لما تجلَّى للجبل تدكدك لعظم هيبته، وشامخ سلطانه، فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فَرُدَّ بما بيّن الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفْء.
فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تبارك وتعالى وتقدس في كتابه وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى.(38/46)
وأعلم -رحمك الله تعالى- أنَّ الله تعالى واحد لا كالآحاد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، إلى أن قال: خلصت له الأسماء السَّنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا، واسما كان منه بريا تبارك وتعالى، فكان هاديا سيهدي، وخالقا سيخلق، ورازقا سيرزق، وغافرا سيغفر، وفاعلا سيفعل، ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل، فهو يسمى به في جملة فعله، كذلك قال الله تعالى ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22] بمعنى أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية، فيستحسر العقل وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين لا معطلا ولا مشبها، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقِف عند خبره لنفسه مسلما مستسلما، مصدقا؛ بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير. ([73])(38/47)
إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل أنا الله، لا الشجرة الجائي قبل أن يكون جائيا، لا أمره المتجلي لأوليائه في المعاد؛ فتبيض به وجوههم، وتفلج به على الجاحدين حجتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان تبارك وتعالى، الذي كلم موسى تكليما، وأراه من آياته، فسمع موسى كلام الله لأنه قربه نجيا، تقدَّس أن يكون كلامه مخلوقا أو محدثا أو مربوبا، والوارث بخلقه لخلقه السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه -وهو أمره تعالى وتقدس أن يحل بجسم، أو يمازج بجسم، أو يلاصق به تعالى عن ذلك علوا كبيرا، الشائي له المشيئة، العالم له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس.
إلى أن قال ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، القائل ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(16) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا?[الملك:16-17] تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء جل عن ذلك علوا كبيرا. ا.هـ([74])
وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى فهم القرآن قال -في كلامه على الناسخ والمنسوخ وأن النسخ لا يجوز في الأخبار- قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وصفاته ولا أسماءه يجوز أن ينسخ منها شيء.(38/48)
إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عُليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يبصر ما قد كان، ولا يسمع الأصوات، ولا قدرة له، ولا يتكلم، ولا الكلام كان منه، وأنه تحت الأرض لا على العرش جل وعلا عن ذلك.
فإذا عرفت ذلك واستيقنته علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز، فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون ?حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ?[يونس:90] الآيات، وقال ?حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ?[محمد:31].
وقال: قد تأول قوم أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار لأنه آمن عند الغرق، وقال: إنما ذكر اللهُ أن قوم فرعون يدخلون النار دونه، وقال ?فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ?[هود:98]، وقال ?وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ?[غافر:45]، ولم يقل بفرعون، قال: وهكذا الكذب على الله؛ لأن الله تعالى يقول ?فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى?[النازعات:25]، كذلك قوله ?فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا?[العنكبوت:3] فاقرأ التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علما بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر أن يصنعه -نجده ضرورة-.
قال ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14]، قال: وإنما قوله (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ) إنما يريد حتى نراه، فيكون معلوما موجودا؛ لأنه لا جائز أن يكون يعلم بالشيء معدوما من قبل أن يكون، ويعلمه موجودا كان قد كان، فيعلم في وقت واحد معدوما موجودا، وإن لم يكن وهذا محال.
وذكر كلاما في هذا في الإرادة.([75])(38/49)
إلى أن قال: وكذلك قوله ? إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ?[الشعراء:15] ليس معناه أنه يحدث له سمعا، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من أهل السنة أنَّ لله استماعا في ذاته، فذهبوا إلى أنَّ ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت، وكذلك قوله ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ?[التوبة:105]، لا يستحدث بصرا محدثا في ذاته،([76]) وإنما يحدث الشيء فيراه مكونا كما لم يزل يعلمه قبل كونه.
إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?[الأعراف:18 و61]، وقوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقوله ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16]، وقوله ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، وقال ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، وقال ?تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ?[المعارج:4]، وقال لعيسى ?إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا?[آل عمران:55] الآية، وقال ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، وقال ?إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ?[الأعراف:206].
وذكر الآلهة أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا حيث هو فقال ?قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا?[الإسراء:42]، أي طلبه، وقال ?سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى?[الأعلى:1].
قال أبو عبد الله فلن ينسخ ذلك لهذا أبدا.(38/50)
كذلك قوله ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، وقوله ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]، وقوله ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ?[الأنعام:3]، وقوله ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ?[المجادلة:7] الآية، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك.
واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها، جل وعز عن ذلك، وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائنا، كما هو على العرش، لا فرقان بين ذلك، ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات؛ أنّ الله تعالى في كل شيء بنفسه كائنا ثم نفوا معنى ما أثبتوه، فقالوا: لا كالشيء في الشيء.
قال أبو عبد الله لنا قوله ?حَتَّى نَعْلَمَ?[محمد:31]، ?وَسَيَرَى اللَّهُ?[التوبة:94]، و?إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ?[الشعراء:15]، فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودا، ويسمعه مسموعا، ويبصره مُبْصَرا لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر.
وأما قوله ?إِذَا أَرَدْنَا?[الإسراء:16]، إذا جاء وقت كون المراد فيه.(38/51)
وأن قوله ?عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?[الأعراف:18 و61] الآية، ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16] ?إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا?[الإسراء:42]،([77]) فهذا وغيره مثل قوله ?تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ?[المعارج:4]، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ?[فاطر:10]، هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده لأنه قال ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، يعني فوق العرش والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء، وقد قال مثل ذلك في قوله ?فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ?[التوبة:2]، يعني على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها. وكذلك قوله ?يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ?[المائدة:26] يعني على الأرض لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71] يعني فوقها عليها.
وقال ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ ?، ثم فصل فقال ?أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، ولم يصل فلم يكن لذلك معنى -إذ فصل قوله (مَنْ فِي السَّمَاءِ)، ثم استأنف التخويف بالخسف-، إلا أنه على عرشه فوق السماء.(38/52)
وقال تعالى ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، وقال ?تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ?[المعارج:4]، فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال ?فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ?[المعارج:4]، فقال صعودها إليه، وفصله من قوله (إِلَيْهِ) كقول القائل إصعد إلى فلان في ليلة أو يوم، وذلك أنه في العلو وأن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل، وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو، قال تعالى ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، ولم يقل عنده.
?وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى? ثم استأنف الكلام فقال ?وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا?[غافر:36-37]، فيما قال: قال لي أن إلهه فوق السموات.
فبين الله سبحانه وتعالى أنّ فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال: قال وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب ولو أن موسى قال إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو حُشِّه،([78]) فتعالى الله عن ذلك ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح.(38/53)
قال أبو عبد الله: وأما الآية التي يزعمون أنها قد وصلها ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه فقال ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?[المجادلة:7] فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج ثم ختم الآية بالعلم بقوله ?إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[المجادلة:7]، فبدأ بالعلم وختم بالعلم، فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا لا يخفون عليه، ولا يخفى عليه مناجاتهم، ولو اجتمع القوم في أسفل وناظر إليهم في العلو فقال: إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقا -ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق- فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة، وقالوا هذا منكم دعوى. خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة؛ لأن من هو مع الاثنين فأكثر هو معهم لا فيهم، ومن كان مع شيء خلا جسمه وهذا خروج من قولهم.
وكذلك قوله تعالى ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]؛ لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد.
وكذلك قوله ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، لم يقل في السماء ثم قطع -كما قال ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16] ثم قطع فقال ?أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]- فقال (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ) يعني إله أهل السماء إله أهل الأرض وذلك موجود في اللغة، تقول فلان أمير في خراسان، وأمير في بَلْخ، وأمير في سمرقند، وإنما هو في موضع واحد، ويخفى عليه ما وراءه، فكيف العالي فوق الأشياء لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره، فهو إله فيهما إذ كان مدبرا لهما، وهو على عرشه وفوق كل شيء تعالى عن الأشباه والأمثال.([79])(38/54)
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه: اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه، قولا واحدا وشرعا ظاهرا، وهم الذين نقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك حتى قال «عليكم بسنتي» وذكر الحديث، وحديث «لعن الله من أحدث حدثا» قال: فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف، وهم الذين أُمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات، كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنُقل إلينا كما نقل سائر الاختلاف، فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين حتى نقلوا ذلك قرنا بعد قرن؛ لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر ولله المنة.
ثم إني قائل: وبالله أقول أنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين، فخاض في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معولهم على أحكام هوى حسن النفس المستخرجة من سوء الظن به([80]) على مخالفة السنة، والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس، فتأولوا على ما وافق هواهم وصححوا بذلك مذاهبهم، احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين؛ خوفا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ومنع المستجيبين له حتى حذرهم.
ثم ذكر أبو عبد الله خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يتنازعون في القدر وغضبه، وحديث «لألفين أحدكم» وحديث «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» وأن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه.(38/55)
ثم قال: فلزم الأمةَ قاطبة معرفةُ ما كان عليه الصحابة،([81]) ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرنا بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة، الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة.
إلى أن قال: فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجلها، ذكر أسماء الله عز وجل وصفاته مما ذكر الله في كتابه، وما بين - صلى الله عليه وسلم - من صفاته في سنته، وما وصف به عز وجل نفسه مما سنذكر قول القائلين بذلك مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك ومما قد أُمرنا بالاستسلام له. ([82])
إلى أن قال: ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية، والإقرار بالألوهية: إن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق، بما بدأ من أسمائه وصفاته، وأكده عليه السلام بقوله، فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله لا إله إلا الله.
إلى أن قال بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل، فقال لموسى عليه السلام ?وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي?[طه:41]، وقال ?وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ?[ آل عمران:28 و30.].
ولصحة ذلك، واستقرار ما جاء به المسيح عليه السلام فقال ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ?[المائدة:116].
وقال عز وجل ?كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ?[الأنعام:54]، وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال يقول الله عز وجل «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي».
وقال «كتب كتابا بيده على نفسه أن رحمتي غلبت غضبي»، وقال «سبحان الله رضي نفسه» وقال في محاجة آدم لموسى «أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه».
فقد صرح بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفسا، وأثبت له الرسول ذلك؛ فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر الله به عن نفسه، ويكون ذلك مبنيا على ظاهر قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]. ([83])(38/56)
ثم قال فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام بنقل العدل عن العدل حتى يتصل به - صلى الله عليه وسلم -، وأن مما قضى الله علينا في كتابه ووصف به نفسه ووردت السنة بصحة ذلك أن قال ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?، ثم قال عقيب ذلك ?نُورٌ عَلَى نُورٍ?[النور:35]، وبذلك دعاه - صلى الله عليه وسلم - «أنت نور السموات والأرض»، ثم ذكر حديث أبي موسى «حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقال (سُبحات وجهه) جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبي عبيد، وقال: قال عبد الله بن مسعود: نور السموات نور وجهه.([84]) ([85])
ثم قال: ومما ورد به النص أنه حي، وذكر قوله تعالى ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] والحديث «يا حي يا قيوم برحمتك استغيث».
قال ومما تعرف الله إلى عباده أنْ وصف نفسه أن له وجها موصوفا بالجلال والإكرام فأثبت لنفسه وجها، وذكر الآيات.
ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم فقال في هذا الحديث مِن أوصاف الله عز وجل (لا ينام) موافق لظاهر الكتاب ?لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ?[البقرة:255]، وأن له وجها موصوفا بالأنوار وأن له بصرا كما علمنا في كتابه أنه سميع بصير.
ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه, وفي إثبات السمع والبصر, والآيات الدالة على ذلك.
ثم قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين, وأنه قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة. وذكر الأحاديث في ذلك, ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت, ثم ذكر حديث: «يلقى في النار وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رجلَه»([86]) وهي رواية البخاري وفي رواية أخرى «يضع عليها قدمه».(38/57)
ثم ما رواه مسلم البَطين عن ابن عباس: أنَّ الكرسي موضع القدمين. وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله, وذكر قول مسلم البطين نفسَه, وقول السدي, وقول وهب بن منبه, وأبي مالك, وبعضهم يقول: موضع قدميه. وبعضهم يقول: واضع رجليه عليه.
ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - متداولة في الأقوال و محفوظة في الصدر، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم, نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم ممن حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مجالستهم ومكالمتهم, وأمرنا أن لا نعود مرضاهم, ولا نشيع جنائزهم, فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس, وكَفَّروا المتقدمين, وأنكروا على الصحابة والتابعين وردوا على الأئمة الراشدين فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. ([87])
ثم ذكر المأثور عن ابن عباس, وجوابَه لنجدة الحروري؛ ثم حديث الصورة وذكر أنه صنف فيه كتابا مفردا, واختلاف الناس في تأويله.
ثم قال: وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ, وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة -إن شاء الله-.
ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها, وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم الصديق وأنه أفضل الأمة.
ثم قال: وكان الاختلاف في خلق الأفعال, هل هي مقدَّرة أم لا؟ قال: وقولنا فيها أنَّ أفعال العباد مقدرة معلومة وذكر إثبات القدر.
ثم ذكر الخلاف في أهل الكبائر ومسألة الأسماء والأحكام، وقال: قولنا فيها أنهم مؤمنون على الإطلاق, وأمرهم إلى الله, إن شاء عذبهم, وإن شاء عفا عنهم.(38/58)
وقال: أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال, ([88]) وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، وقال: قولنا إنه يزيد وينقص. قال: ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقا وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه صفة الله منه بدأ قولا، وإليه يعود حكما.
ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد أنَّ الله يُرى في القيامة، وذكر الحجة.
ثم قال: اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة. وقد بدأت أن أذكر أحكام الجمل([89]) من العقود، فنقول ونعتقد أنَّ الله عز وجل له عرش، وهو على عرشه فوق سبع سمواته([90]) بكل أسمائه وصفاته، كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، و?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ?[السجدة:5]، ولا نقول أنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه؛ لأنه عالم بما يجرى على عباده ثم يعرج إليه.
إلى أن قال: ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء([91]) لا للفناء.
إلى أن قال: ونعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى.
إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال «هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار».
ونعتقد أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - حوضا، ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفَّع، وذكر الصراط، والميزان، والموت، وأن المقتول قُتل بأجله([92])، واستوفى رزقه.
إلى أن قال: ومما نعتقد أنَّ الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيبسط يده فيقول «ألا هل من سائل» الحديث، وليلة النصف من شعبان،([93]) وعشية عرفة، وذكر الحديث في ذلك. قال: ونعتقد أن الله تعالى كلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا، وأن الخلة غير الفقر، لا كما قال أهل البدع.(38/59)
ونعتقد أنّ الله تعالى خص محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.
ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفاتح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله ?إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ?[لقمان:34]الآية.
ونعتقد المسح على الخفين ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم.
ونعتقد الصبر على السلطان من قريش([94]) ما كان من جور أو عدل، ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد، والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة، والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب إذا لم يكن عذر أو مانع، والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمدا فهو كافر، والشهادة والبراءة([95]) بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحدا جنة ولا نارا حتى يكون الله ينزلهم،([96]) والمراء والجدال في الدين بدعة.
ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إلى الله، ونترحم على عائشة ونترضى عنها([97]).
والقول في اللفظ والملفوظ؛ وكذلك في الاسم والمسمى بدعة، ([98]) والقول في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة، واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملا من غير استقصاء، إذْ تقدم القول من مشائخنا المعروفين من أهل الإبانة والديانة إلا إني أحببت أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه الله تعالى المذهب وأهله من ذلك.
إلى أن قال: وقرأت لمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه التبصير، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم؛ وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى؛ فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة.(38/60)
ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة، لم يخص طائفة، فبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول -بعد أن ادعى على الطائفة- ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم محله عند المخلصين، فكيف بابن أخته، وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولا نسب إلى الجملة؛ كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولا في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين.
وأعلم أنّ ألفاظ الصوفية وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه رجع عنهم وهو خاسئا وهو حسير.
ثم ذكر إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد. فقال: كثيرا ما يقولون: رأيت الله يقول. وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل هل رأيت الله حين عبدته؟ قال: رأيت الله ثم عبدته. فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره الأبصار بتحديد الأعيان، ولكن رؤية القلوب بتحقيق الإيقان.
ثم قال: وإنه تعالى يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
هذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا.
وأن مما نعتقده أن الله حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع. فمن زعم أنه يبلغ مع الله إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين -إلا المضطر على حال يلزمه أحياء للنفس- لو بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادات فذلك كفر بالله، والقائل ذلك قائل بالإباحة وهم المنسلخون من الديانة.
وأن مما نعتقده ترك إطلاق تسمية العشق على الله تعالى؛ وبيَّن أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه، ولعدم ورود الشرع به، وقال: أدنى ما فيه أنه بدعة وضلالة، وفيما نص الله من ذكر المحبة كفاية.([99])(38/61)
وأن مما نعتقده أنَّ الله لا يحل في المرئيات، وأنَّه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه، مستو على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق، حيث ما تلا ودرس وحفظ.
ونعتقد أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - خليلا وحبيبا، والخلة لهما منه على خلاف ما قاله المعتزلة إن الخلة الفقر والحاجة.
إلى أن قال: والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليها الكيف، فأما صفاته تعالى فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفى عنهما التشبيه، فالإيمان به واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط. ([100])
ومما نعتقده أنّ الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات وإنما حرم الله الغش والظلم، وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذْ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، إنما حرم الله ورسوله الفساد لا الكسب والتجارات، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة.
وأن مما نعتقد أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أنَّ الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقبلون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع؛ لا أنه مفقود من الأرض.([101])
ومما نعتقده إنا إذا رأينا مَنْ ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عما قاله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط جاز إلا من داخل الظَّلَمة.(38/62)
ومن ينزع عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك: فالسؤال والتوقي؛ كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا، فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام، إلا أنه مشتبه؛ فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق، وأجاز ابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة. والناس طبقات والدين الحنيفية السمحة.([102])
وأن مما نعتقد أن العبد ما دام أحكام الدار جاريةً عليه فلا يسقط عنه الخوف والرجاء، وكل من ادعى الأمن فهو جاهل بالله، وبما أخبر به عن نفسه ?فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ?[الأعراف:99]، وقد أفردت كشف عوار كل من قال بذلك.
ونعتقد أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقَل وعلِم ما له وما عليه، فيبقى على أحكام القوة والاستطاعة؛ إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأَحدية المُسْدِية بعلائق الآخرية, فهو كافر لا محالة, إلا من اعتراه علة, أو رأفة؛ فصار معتوها. أو مجنونا, أو مبرسما، وقد اختلط عقله, أو لحقه غشية يرتفع عنه بها أحكام العقل, وذهب عنه التمييز والمعرفة؛ فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة.
ومن زعم الإشراف على الخلق يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله بغير الوحي المنزل من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج عن الملة, ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم و على ماذا يموتون عليه ويختم لهم, بغير الوحي من قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد باء بغضب من الله.([103])
والفراسة حق على أصول ما ذكرناه, وليس ذلك مما رسمناه في شيء.
ومن زعم أن صفاته تعالى بصفاته ويشير في ذلك إلى غير آية العظمة والتوفيق والهداية وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة: فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام, وذلك كفر لا محالة. ([104])(38/63)
ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة. ومن قال إنها غير مخلوقة فقد ضاهى قول النصارى –النسطورية- في المسيح, وذلك كفر بالله العظيم([105]).
ومن قال: إن شيئا من صفات الله حال في العبد, أو قال بالتبعيض على الله فقد كفر؛ والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ولا حال في مخلوق, وأنه كيفما تُلي وقرئ وحفظ: فهو صفة الله عز وجل وليس الدرس من المدروس, ولا التلاوة من المتلو, لأنه عز وجل بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق, ومن قال بغير ذلك فهو كافر.
ونعتقد: أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة. ([106])
وأن القصائد بدعة, ومجراها على قسمين: فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه, وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين, فذلك جائز, وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به, وما جرى على وصف المرئيات, ونعت المخلوقات, فاستماع ذلك على الله كفر, واستماع الغناء والربعيات على الله كفر, والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكام الدين فسق, وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب.
وحرام على كل من يسمع القصائد والربعيات الملحنة الجائي بين أهل الأطباع على أحكام الذكر, إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد, ومعرفة أسمائه وصفاته, وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك وما لا يليق به عز وجل مما هو منزه عنه فيكون استماعه كما قال ?الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ?[الزمر:18] الآية.(38/64)
وكل من جهِل ذلك وقصد استماعه على الله على غير تفصيله فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى الله فغير جائز إلا لمن عرف بما وصفت من ذكر الله ونعمائه، وما هو موصوف به عز وجل مما ليس للمخلوقين فيه نعت ولا وصف بل ترْك ذلك أولى وأحوط، والأصل في ذلك أنها بدعة، والفتنة فيها غير مأمونة، على استماع الغناء و الربعيات بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي ومالك والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق، والإقتداء بهم أولى من الإقتداء بمن لا يُعرفون في الدين، ولا لهم قَدَم عند المخلصين.
وبلغني أنه قيل لبشر بن الحارث: إنّ أصحابك قد أحدثوا شيئا يقال له القصائد، قال: مثل أيش؟([107]) قال: مثل قوله:
اصبري يا نفس حتى تسكني دار الجليل
فقال: حسن، وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك؟ قال: قلت: ببغداد. فقال: كذبوا والله الذي لا إله غيره، لا يسكن ببغداد من يستمع ذلك.
قال أبو عبد الله: ومما نقول -وهو قول أئمتنا- إن الفقير إذا احتاج وصبر ولم يتكفف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى، فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله - صلى الله عليه وسلم - «لأن يأخذ أحدكم حبله» الحديث.
ونقول إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط موسومة من التعفف والاستغناء عما في أيدي الناس، ومن جعل السؤال حرفة وهو صحيح، فهو مذموم في الحقيقة خارج.
ونقول: إنّ المستمع إلى الغناء والملاهي فإن ذلك كما قال عليه السلام «الغناء ينبت النفاق في القلب»، وإن لم يكفر فهو فسق لا محالة.
والذي نختار: قول أئمتنا: إن ترك المراء في الدين، والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، ومن زعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - واسط يؤدي وأن المرسل إليهم أفضل: فهو كافر بالله، ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة فقد كفر.ا.هـ([108])(38/65)
ومن متأخريهم الشيخ الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني، قال في كتاب الغنية: أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد.
إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ?[السجدة:5]، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان؛ بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5].
وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش. قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف. وذكر كلاما طويلا لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا.
ولو ذكرتُ ما قاله العلماء في هذا لطال الكتاب جدا.
قال أبو عمر بن عبد البر: رَوينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت. قال أبو عمر: ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقل الثقات، أو جاء عن أصحابه رضي الله عنهم فهو علم يُدان به؛ وما أُحدث بعدهم ولم يكن له أصلٌ فيما جاء عنهم فهو بدعة وضلالة.
وقال في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال: هذا حديث ثابت النقل، صحيح من جهة الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق سوى هذه، من أخبار العدول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش استوى من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله تعالى في كل مكان بذاته المقدسة.(38/66)
قال: والدليل على صحة ما قال أهل الحق قول الله -وذكر بعض الآيات-.
إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
وقال أبو عمر بن عبد البر أيضا: أجمع علماء الصحابة والتابعون الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ?[المجادلة:7]، هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله.
وقال أبو عمر أيضا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج: فكلهم ينكرونها ولا يحملون شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون: بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أئمة الجماعة.
هذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب.([109])
وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري، وذبه عنهم، قال في كتابه الأسماء والصفات: باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة لورود خبر الصادق به، قال الله تعالى ?قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وقال ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64].(38/67)
وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب، مثل قوله في غير حديث؛ من حديث الشفاعة «يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده»، ومثل قوله في الحديث المتفق عليه «أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده» وفي لفظ «وكتب لك التوراة بيده»، ومثل ما في صحيح مسلم أنه سبحانه «غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده»، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها بيده كما يكتفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة».
وذكر أحاديث مثل قوله «بيدي الأمر»، «والخير في يديك»، «والذي نفس محمد بيده»، و«إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل»، وقوله «المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين»، وقوله «يطوى الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، وقوله «يمين الله ملآ لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار،([110]) أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع». وكل هذه الأحاديث في الصحاح.
وذكر أيضا قوله «إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان إختر أيهما شئت. قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة». وحديث «إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيده» إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع.
ثم قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب؛ وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية مع أنه يحكى قول بعض المتأخرين.([111])(38/68)
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها؛ لكن على ما روى عن الإمام أحمد وسائر الأئمة.
وذكر بعض كلام الزهري، ومكحول، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، والأسود بن سالم، وإسحاق بن راهوية، وأبي عبيد، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهم في هذا الباب. وفي حكاية ألفاظهم طول.
إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل: أنّ الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا أسبق إليه لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة.
وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم، صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين، وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم.(38/69)
ثم قال مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة: قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله تعالى، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يردون شيئا من ذلك، وأن الله واحد احد فرد صمد لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال ?خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وكما قال ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14]، وأن له وجها كما قال ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن: 27].
وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علما كما قال ?أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ?[النساء:166]، وكما قال ?وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ?[فاطر:11]، وأثبتوا له السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة؛ وأثبتوا لله القوة كما قال ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً?[فصلت:15]، وذكر مذهبهم في القدر.
إلى أن قال: ويقولون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق.
ويقرون أنّ الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون، قال عز وجل ?كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ?[المطففين:15].
وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء. ([112])(38/70)
إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار.
إلى أن قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون للروايات الصحيحة، كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لا يقولون كيف ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم.
إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]. ([113])
إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الآثار والنظر في الفقه مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والشكاية، وتفقد المآكل والمشارب. قال: فهذه جملة ما يأمرون به، ويستسلمون إليه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان.([114])(38/71)
وقال الأشعري أيضا في اختلاف أهل القبلة في العرش: فقال قال أهل السنة وأصحاب الحديث إن الله ليس بجسم ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ولا نتقدم بين يدي الله في القول؛ بل نقول استوى بلا كيف، وأن له واجها كما قال ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:127]، وأن له يدين كما قال ?خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وأن له عينين كما قال ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14]، وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]([115]) وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى.
وقال أيضا أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه الإبانة في أصول الديانة -وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه- وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة. فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرِّفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها؛ التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل؛ الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهَّم.(38/72)
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا نردّ من ذلك شيئا؛ وأن الله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وأن له وجها كما قال ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:127]، وأن له يدين بلا كيف كما قال ?خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وكما قال ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14].
وأنَّ من زعم أن أسماء الله غيرُه كان ضالا -وذكر نحوا مما ذكر في الفِرَق-.
إلى أن قال: ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا، وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل،([116]) وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إلى أن قال: وإن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي رواها الثقات عدلا عن عدل([117]) حتى ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: «هل من سائل؟ هل من مستغفر؟» وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل.(38/73)
ونعوِّل فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]. ([118])
وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]، وكما قال ?ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى?[8-9].
إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره بابا بابا. ثم تكلم على أن الله يُرى واستدل على ذلك، ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك، ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال: لا أقول أنه مخلوق ولا غير مخلوق، ورد عليه.
ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش.(38/74)
فقال: إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله مستو على عرشه كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقال تعالى ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، وقال تعالى ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، وقال تعالى ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، وقال تعالى حكايةً عن فرعون ?يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا?[غافر:36-37]، كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال تعالى ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال (ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)؛ لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السموات، وليس إذا قال (ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى ?وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ?[نوح:16]، ولم يرد أن القمر يملؤهن وأن فيهن جميعا.
ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ([119])(38/75)
ثم قال: فصل: وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5] أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها- لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلِّها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش([120]) والأخلية. لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها.
وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل.([121])
ثم قال: باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين.
وذكر الآيات في ذلك، ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته، مثل قوله: فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل نقول ذلك، وقد دل عليه قوله تعالى ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ?[الفتح:10]، وقوله تعالى ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال«إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته»، وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن الله خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده».(38/76)
وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوما في كلامها، ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة، بطل أن يكون معنى قوله تعالى (بِيَدَيَّ) النعمة.
وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه.([122])
وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقِلاَني([123]) المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري؛ ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب الإبانة تصنيفه: فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له: قوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:127]، وقوله تعالى ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، فأثبت لنفسه وجها ويدا.
فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى، وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا؛ لأنّا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم، إن قالوا يجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرَضا واعتلوا بالوجود، وقال: فإن قال: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له معاذ الله؛ بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقال الله تعالى ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، وقال ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ?[الملك:16].(38/77)
قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يُرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصحَّ أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.([124])
وقال أيضا في هذا الكتاب صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا.
وقال في كتاب التمهيد كلاما أكثر من هذا لكن ليست النسخة حاضرة عندي، وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه، وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام. ([125])
وملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيمانا بحيث يكون له عقل ودين، حتى يفهم ويدين، ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء؛ ولكن كثيرا من الناس قد صار متنسبا إلى بعض طوائف المتكلمين، ومحسنا للظن بهم دون غيرهم، ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم، فلو أتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم.(38/78)
ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم، فلو أنهم أخذوا بالهدى الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرُجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى، ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة، ثم لا يتمسك بما جاءت به من الحق: ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[البقرة:91]. فإنَّ اليهود قالوا: لا نؤمن إلا بما أنزل علينا قال الله تعالى لهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم، يقول سبحانه وتعالى لا لما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون، ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون، ولكن إنما تتبعون أهواءكم، فهذا حال من لم يقبل الحق، لا من طائفته ولا من غيرها، مع كونه يتعصب لطائفته بلا برهان من الله ولا بيان.([126])
وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه الرسالة النظامية:([127]) اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها وإلتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب.
فقال: والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة اتِّباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة وهو حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة.(38/79)
وقد درج صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما: لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل: كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزُّه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى فليجر آية الاستواء والمجيء وقوله ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:127]، وقوله ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14]، وما صح من أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه. ([128])
قلت: وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره؛ ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به، وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه، الذي رواه أبو داوود في سننه: إقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافرا -أو قال فاجرا- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إنَّ على الحق نورا. أو قال كلاما هذا معناه.([129])
فأما تقرير ذلك بالدليل، وإماطة ما يعرض من الشبه وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه، فما تتسع له هذه الفتوى، وقد كتبت شيئا من ذلك قبل هذا وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا، وربما أكتب إن شاء الله في ذلك ما يحصل به المقصود.([130])(38/80)
وجِماع الأمر في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتِّباع الحق وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته.
ولا يحسب الحاسب أنَّ شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ?[الحديد:4].
وقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قِبل وجهه» ونحو ذلك فإن هذا غلط([131]) وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[الحديد:4].
فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال «والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه».
وذلك أن كلمة (مَعَ) في اللغة إذا أُطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قُيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة.(38/81)
ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) إلى قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطَّلِع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه. وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.([132])
كذلك في قوله ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ? إلى قوله ?هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا?[المجادلة:7]الآية، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه في الغار«لا تحزن إن الله معنا» كان هذا أيضا حقا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الإطلاع والنصر والتأييد.
وكذلك قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، وكذلك قوله لموسى وهارون ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:46]، هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف أنا معك، أو أنا هنا، أو أنا حاضر ونحو ذلك. ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه؛ ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها، فيختلف باختلاف المواضع.
فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها -وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها.(38/82)
ونظيرها من بعض الوجوه الربوبية والعبودية، فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والعبودية فلما قال ?رَبِّ الْعَالَمِينَ(121)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ?[الأعراف:121-122]، كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره: فقد ربَّه وربَّاه ربوبية وتربية أكمل من غيره. ([133])
وكذلك قوله ?عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا?[الإنسان:6] و?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا?[الإسراء:1].
فإن العبد تارة يعني به المعبد فيعم الخلق كما في قوله ?إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا?[مريم:93]، وتارة يعنى به العابد فيُخَص، ثم يختلفون فمن كان أعبد علما وحالا، كانت عبوديته أكمل، فكانت الإضافة في حقه أكمل، مع أنها حقيقة في جميع المواضع.
ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشككة لتشكك المستمع فيها، هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة، أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط، والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة؛ إذْ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدْر المشترك، وإن كانت نوعا مختصا من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ.([134])
ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات -كإضافة الربوبية مثلا- وأنَّ الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش، وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية، ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط، لا حقيقة ولا مجازا: علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف.(38/83)
ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه، فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحدا يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحدا نقله عن واحد، ولو سئل سائر المسلمين هل تفهمون من قول الله ورسوله إن الله في السماء أن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا.
وإذا كان الأمر هكذا فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله بل عند الناس إن الله في السماء وهو على العرش واحد، إذْ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السموات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه، وقد قال سبحانه ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71]، وقال ?فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ?[آل عمران:137] بمعنى على ونحو ذلك، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازا، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة.([135])
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبل وجهه، فلا يبصق قِبل وجهه» الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلى؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه.(38/84)
وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل بذلك -ولله المثل الأعلى- ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه لا تشبيه الخالق بالمخلوق،([136]) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مَخْلِيًّا به» فقال له أبو رَزِين العُقَيْليْ: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله، فالله أكبر» أو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال «إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر»، فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي، فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه كما يرى الشمس والقمر، ولا منافاة أصلا.
ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد.([137])
واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا اللفظ مجمل فإن قوله ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين؛ مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا، ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد.
ومن قال: إن مذهب السلف إن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار، معذورا في هذا الإطلاق.(38/85)
فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر، أن هذا ليس هو الظاهر، حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى.
وإن كان الناقل عن السلف أراد -بقوله الظاهر غير مراد عندهم- أن المعاني التي ظهرت من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته ولا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا، أو جوازا خارجيا: غير مراد، فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف، أو تعمد الكذب، فما يمكن أحد([138]) قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل -لا نصا ولا ظاهرا- أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة.
وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف، بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تَدُلَّ([139]) على صفات الله سبحانه وتعالى، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها، لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره. ([140])
وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف: أما في كثير من الصفات فقطعا، مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم -الذي لم يحك هنا عشره- علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك.(38/86)
والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما رأيت كلام أحد منهم يدل -لا نصا ولا ظاهرا ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر؛ بل الذي رأيته أن كثيرا من كلامهم يدل -إما نصا وإما ظاهرا- على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة؛ بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة، وما رأيت أحدا منهم نفاها، وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضا؛ كقول نعيم بن حمّاد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها.
وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل. وهذا كثير جدا في كلامهم، فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها -كذبا منهم وافتراء- حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك، حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية: ثلاثة من الأنبياء مشبهة موسى حيث قال ?إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ?[الأعراف:135]، وعيسى حيث قال ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ?[المائدة:116]، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال «ينزل ربنا».
وحتى إن جل المعتزلة تُدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق بن راهوية، وأبي عبيد، وغيرهم في قسم المشبهة.
وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة، ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه، يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد؛ كما أنَّ المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها.(38/87)
فالروافض تسميهم نواصب، والقدرية يسمونهم مُجَبِّرَة،([141]) والمرجئة تسميهم شكاكا، والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حَشْوِية ([142]) ونوابت([143]) وغثاء وغثرا، إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة مجنونا، وتارة شاعرا، وتارة كاهنا، وتارة مفتريا.
قالوا: فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة، فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا؛ فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماءٍ مذمومة مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة-، فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات باطنا وظاهرا.
وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن، والذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان: فلابد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها- كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر - رضي الله عنه - وعمر فقد أبغض عليا؛ لأنه لا وَلاية([144]) لعلي إلا بالبراءة منهما. ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبيا، بناء على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب.
وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد: فقد سلب من العباد الاختيار والقدرة، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة.
وكقول الجهمي: من قال أن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور، وأنه جسم مركب محدود وأنه مشابه لخلقه.
وكقول الجهمية والمعتزلة: من قال أن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب، وأنه مشبه؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرَض لا يقوم إلا بجوهر متحيز، وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد، ومن قال ذلك فهو مشبه؛ لأن الأجسام متماثلة.(38/88)
ومن حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها فهو وربه([145]) والله من ورائه بالمرصاد، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. ([146])
وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام ، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة:
قسمان يقولان: تجري على ظواهرها.
وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.
وقسمان: يسكتون.
أما الأولون فقسمان:
أحدهما: من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم يتوجه الرد بالحق.
الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري([147]) ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات، ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق: إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به.
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض.
والوجه واليد والعين في حقه أجسام.
فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة -وإن لم يكن ذلك عرضا يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين- جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليس أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين.
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطَّابي وغيرُه عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات.
فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودين.
قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين، ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته؛ فمن لم يفهم من صفات الرب -الذي ليس كمثله شيء- إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه.(38/89)
وما أحسن ما قال بعضهم: إذْ قال لك الجهمي كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في ذاته؟ فإذا قال لك: لا يُعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف، لم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك، بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى.([148])
وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وإنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة، ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول، والاتصال بالبدن والانفصال عنه، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ، وأنَّى لهم بذلك؟(38/90)
ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلا أو صفة من صفات البدن والحياة وإنها مختلفة الأجساد ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة كما يقول طوائف من أهل الكلام بل نتيقن أن الروح عينٌ موجودة غير البدن وإنها ليست مماثلة له وهى موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا فإذا كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة فكيف الظن بصفات رب العالمين. ([149])
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية؛ بل صفاته إما سلبية وإما إضافية، وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر، أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين.
فهؤلاء قسمان:
قسم يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم استوى بمعنى استولى؛ أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلفين.
وقسم يقولون الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.([150])
وأما القسمان الواقفان:
قسم: يقولون يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.
فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها.(38/91)
والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة([151]) كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، دلالة لا تحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.([152])
ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدعُ بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ يصلي مِنَ اللّيْلِ، قال «اللّهُمّ رَبّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ. فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِكَ إِنّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».
وفي رواية لأبي داود: أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك.
فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه, وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين: انفتح له طريق الهدى.
ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب, وعرف أن غالب ما يزعمونه برهانا هو شبهة, ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها, أو شبهة مركبة من قياس فاسد, أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية, أو دعوى إجماع لا حقيقة له, أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة.
ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم, أو همت الغر ما يوهمه السراب للعطشان, ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة, فإن الضد يُظهر حسنه الضد وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما, وبقدره اعرف إذا هُدي إليه.(38/92)
فأما المتوسطون من المتكلمين فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه, وعلى من قد أنهاه نهايته, فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية, ومن أنهاه فقد عرف الغاية, فما بقى يخاف من شيء آخر, فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله، وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظمه([153]) تهويلا.
وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان.
ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب في قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من اعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القَدَر([154]) -والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم وترفقت بهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة ?فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون?[الأحقاف:26].
ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حِذْقُ السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم؛ وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا.
فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين.(38/93)
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين. ([155])
---
([1])الخراءة التي هي كيفية وهيئة وآداب قضاء الحاجة، التي جاءت في الأثر: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة.
([2]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه الرسالة الموسومة بالحموية رسالة عظيمة في تقرير مذهب السلف، في صفات الله جل وعلا، وهي جواب سؤال ورد لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وسبب السؤال أنّ مذاهب الناس في زمنه كان أكثرها على غير الهدى في باب صفات الله جل وعلا، فكثير منهم أشاعرة، وماتريدية، وثَم معتزلة قليل، وثَم من أهل الفرق الأخرى أيضا جماعات، وهؤلاء كلهم في باب الصفات ضُلاَّل ولم ينج في باب الصفات إلا من تبع السلف الصالح، ولهذا كانت الحاجة ماسة لكثرة ما خاض الناس في هذا الباب في زمن شيخ الإسلام وما قبله أن يُبسط القول في مذهب السلف المنجي في باب صفات الله جل وعلا.
ومن المتقرر أن طريقة النجاة في هذا الباب أن يسلك فيها طريقة سلف هذه الأمة؛ لأن الله جل وعلا وصف السلف بأنهم خير القرون، قال«خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وكونهم خير القرون يدل على أنهم جمعوا من العلم أسلمه وأعلمه وأحكمه، وجمعوا أيضا من العمل ما كان على صواب فيه إخلاصهم ومتابعتهم.
وهذا الباب باب صفات الله أعظم أبواب الدين؛ لأن به معرفة الله جل وعلا والعلم به، فإن الله جل جلاله لن تره العيون في هذه الدنيا، وما آمن به من آمن لرؤية وإنما رأته القلوب بحقائق الإيمان، وهذا الإيمان أعظمه العلم بالله جل وعلا وبأسمائه وبنعوت جلاله وصفات كماله وجماله.(38/94)
فلما كان الإيمان بصفات الله جل وعلا بهذه المثابة نجزم قطعا بأنه لا يمكن أن لا يذكر باب النجاة فيه في الكتاب والسنة؛ لأن هذا أعظم ما تصح به القلوب وأعظم ما يكون به الهدى، فإن العبد كلما كان أعرف بالله جل وعلا كان أتبع لشرعه وكان أتقى لله جل وعلا.
ونقطع أيضا أنّ الله جل جلاله قد أكمل لنا الدين وبين ذلك لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وهذه هي المقدمة الثانية-، وكمال الدين يقضي بأن ما كان في ذلك الزمن الأول هو العلم المحكم، العلم الكامل في باب صفات الله جل وعلا وفي غيره، فقول الله جل وعلا ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ?[المائدة:3] من الدين الكلام في العقائد ومن ذلك الكلام في صفات الله جل وعلا؛ بل ذلك ما به تصح القلوب، وتشرق الأرواح على المعارف الربانية والحقائق الإلهية، وإذا كان كذلك كان ذكره على وجه الكمال في الكتاب والسنة لا بد منه، بل كان ذكره متيَقَّنا لم؟ لأنّ الله أكمل لنا الدين، أتمَّ علينا النعمة، وهذا من الدين، وهذا الإكمال يقتضي أن طريقة الصدر الأول طريقة محكمة في هذا الباب، وأن ما فهموه من الكتاب والسنة في هذا الباب هو العلم وهو الحكمة، وهذا فيه -كما أشار الشيخ - فيه إبطال لقول من قال: إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم. فهذه المقالة باطلة -كما سيأتي-؛ لأنها مبنية على أن الصدر الأول الذين هم خير هذه الأمة لم يُحكموا هذا الباب وإنما طلبوا فيه السلامة، وفرق بين السلامة والعلم والحكمة والإحكام؛ لأن السلامة مرتبة دون العلم والإحكام، فلهذا كان قول من قال إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، باطل من وجوه متعددة.
هذا التأصيل من شيخ الإسلام والتقديم لكي يدخل في هذا البحث، وما ذكر مبني على هاتين المسألتين.
([3]) الوُجدية بضم الواو نسبة إلى الوجود، الفطرة الوجدية نسبة إلى الوجود يعني الوجود الأول الذي كانوا عليه...(38/95)
([4]) من عرف حال السلف من الصحابة فمن بعدهم، خاصة في عهد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بالنسبة للصحابة، وبعد حياته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يجزم قطعا أنهم لا يمكن أن يتفقهوا في أمور الدين المختلفة في أبواب الطهارة والصلاة والعبادات والبيوع وإلى آخره ولا يتفقهون في باب صفات الله جل وعلا؛ بل نجزم ونقول من المحال ألا يكون الصحابة اعتنوا بهذا الباب اعتنوا بهذا الباب اعتناء عظيما؛ لأن الأمم مجمعة على أن معرفة الله جل وعلا غاية المطالب وأن عبادته سبحانه وتعالى والوصول إليه غاية المقاصد وأشرف المقاصد، العلم بالله جل وعلا بما هو عليه سبحانه وتعالى من نعوت الجلال وصفات الكمال، هذا مطلب مهم وكل طالب علم أو طالب هدى يسعى في فهم صفات الله جل وعلا؛ لأن هذا به العلم الحق، والله جل وعلا هو معبوده فلا بد أن يعلم معبوده، كيف يعلمه؟ هل يعلمه بالعقليات؟ وبإعطاء المقاييس العقلية له جل وعلا؟ فيدرك الصفات من جهة العقل، كما فعل الفلاسفة من قبل؟ أم يدرك ذلك عن طريق الوحي؟
الأصل في هذا الدين التسليم للنصوص ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ?[الأحزاب:36]، فما فيه نص من الكتاب أوالسنة وجبت متابعته.
فنقول من المحال أن يكون السلف من الصدر الأول غير معتنين بهذا الباب.
وهذه المقدمات من شيخ الإسلام ضرورية لا بد أن ترجع إليها من أول الكتاب، وتكتب المقدمات الحجة على المخالفين، فقدم بذلك للوصول إلى حقيقة وهي أن طريقة السلف في ذلك واضحة، وأنها مسطورة، وأنها مأخوذة من النصوص، وأنها هي الأعلم والأحكم والأسلم جميعا.
هذه مقدمات حتى يدخل في البحث في قوة لأجل الحجة للمخالفين في هذا الباب.(38/96)
ومن المعلوم أن طريقة السلف في صفات الله جل وعلا هي أنهم يمِرُّونها كما جاءت، وأنهم لا يدخلون فيها بلا تأويل ولا تفسير يخرجها عن ظاهرها، وطريقتهم فيها أنهم يأخذون بحقيقة ألفاظها، وبظاهر ألفاظها، فباب الغيبيات باب تسليم لا تعمل فيه العقول ولا تصح فيه الأقيسة، وخاصة ما يتعلق بالله جل وعلا، لهذا طريقة السلف فيه التسليم بما دل عليه الظاهر، وظاهر النصوص ليس هو التشبيه أو التمثيل، وإنما ظاهر النص هو ما دل عليه النص من إثبات الصفة ومن معناها، أما الكيفية فهي التي يتطرق إذا تُحدِّث عنها إلى التمثيل أو إلى التشبيه، وأما الظاهر المجرد الظاهر المتعلق بالمعنى فإنه لا مدخل للكيفية فيه، ولهذا من القواعد المقررة في هذا الباب -كما سيأتي مفصلا- أننا نقول في باب الصفات: نأخذ بظاهر ما دلت عليه النصوص، ونثبت ظاهر ما دلت عليه النصوص، وهذا الظاهر ما دل عليه اللسان العربي في هذا النص.(38/97)
يدلنا على ذلك قطعية معلومة بلا نزاع وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام يأتيه الناس المختلفون في ذكائهم وفهمهم وفي علمهم وإدراكهم، يأتونه من خارج المدينة ومن خارج مكة، ويأتونه ويسألونه ويتلو عليهم القرآن ويتكلم عليهم بحديثه عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك علم صفات الله جل وعلا، ثم لم يُتبع ذلك عليه الصلاة والسلام بكلام يدل على أن ظاهر تلك الألفاظ غير مراد، أو أنّ اللغة التي نفهم بها ما دلت عليه تلك الكلمات في باب الصفات أن لا نأخذ بها، وهذه قطعية يأتيه الجميع فيتلو عليهم القرآن، ويتلو عليهم ما أنزل الله جل وعلا، ويخبرهم بالسنة، وفي ذلك صفات الله ولم يعقب ذلك بشيء يصرفها عن ظاهرها، فدلت [.....] هو ظهور المعنى وأن صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه ليس بجائز؛ لأنه ما علمهم ولا في مسألة أن يصرفوا الألفاظ في الصفات ولا في الغيبيات عن ظاهرها المتبادر منها، وإذا قلنا الظاهر فإنه يقابله التأويل، وإذا قلنا الحقيقة فإنه يقابل ذلك المجاز، والمجاز غير التأويل، والظاهر غير الحقيقة.
([5]) في أوّل الكلام مر معك قوله (هؤلاء المبتدعة من المتفلسفة) وهذا من أقوال أهل الكلام الذي سمعت، ومن الناس من يقول: إن أهل الكلام ليسوا بفلاسفة، والفلاسفة شيء وأهل الكلام شيء آخر. وهذا في الواقع غلط؛ لأن أهل الكلام من الفلاسفة؛ لكن فلسفتهم كانت مع وضع الاتصال بين الحكمة والشريعة.
فالفلاسفة أقسام:
فلاسفة نهجوا نهج اليونان في الفلسفة، وجعلوا طريقة اليونان هي الأصل، وجعلوا النصوص محمولة على طريقة أهل اليونان، هؤلاء الذين يقال لهم فلاسفة الإسلام أو الفلاسفة الإسلاميين.(38/98)
ومنهم من الفلاسفة من جمعوا بين الحكمة -وهي الفلسفة- وما بين الشريعة فركبوا منها الكلام، وذلك أنهم قالوا نأخذ بما دل عليه العقل من القوانين التي يطلب بها الحكمة، نأخذ بما دل عليه العقل بشرط أن لا يخالف الشرع، فإذا خالف الشرع أخذنا بالوحي، وبالتالي جعلوا نصوص الوحي محكومة بالعقل.
ولهذا ألف ابن رشد وغيره كتبا فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ككتابه: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. وكتاب: مناهج الأدلة. له، وكتب كثيرة، فأهل الكلام هم الذين جمعوا بين الفلسفة والشريعة، ركَّبوا منهما شيئا جديدا غريبا سمي علم الكلام.
فشيخ الإسلام دقيق حينما يقول (من المتفلسفة) فأهل الكلام الذين يقولون طريقة الخلف أعلم وأحكم من طريقة السلف ليس هذا في الواقع كلام الفلاسفة الإسلاميين، هو كلام أهل الكلام، وأهل الكلام فلاسفة بالاعتبار الذي ذكرت.(38/99)
وهذا الظن الفاسد منهم -وهو أن طريقة الخلف أعلم وأحكم- جعلهم يخوضون في نصوص الغيبيات بتأويلات غريبة، بما يصرفها عن حقائقها، كما قال شيخ الإسلام هنا بأنواع المجازات وغرائب اللغات، يريد بغرائب اللغات ونحو ما ذكره ابن العربي في كتابه عارضة الأحوذي حينما تكلم على حديث الاستواء يعني في حديث فيه ذكر الاستواء ونحو ذلك قال: فإن قلتَ ما معنى الاستواء في كلام العرب؟ قلنا: الاستواء في كلام العرب يرد على خمسة عشر معنى هي الأول الثاني العاشر الخامس عشر. ذكرها جميعا، ثم قال: فإن قلت على أيها تحمل الآيات؟ قلنا: هذا غير ممكن، فلا ندري على أَيِّها يحمل: فلابد من نفي أصل المعنى؛ لأنه لا ندري أي المعاني يراد فيكون معنى استوى غير معلوم، هذه طريقة لبعضهم الذين يصرفون الحقائق بغرائب اللغات، ولهذا ولهذا تحذر إذا وجدت في كتب بعض الناس في العقائد كثرة التحاليل اللغوية في آيات الصفات، إذا قال هذه الكلمة من آيات الصفات ترد بعدة معاني كذا وكذا وكذا، ثم يسكت فلا يذكر المعنى المراد، فهذا دليل شيء من الخوض في هذا الأمر، بخلاف من قال إن هذه الصفة في كلام العرب ترد لعدة معاني وكلها ثابتة في حق الله، مثل طريقة طائفة من العلماء كابن القيم يذكر للفظ عدة معاني ويقول كلها صحيحة بحق الله جل وعلا مثل ما قال في تفسير (العزيز):
وهو العزيز فلن يرام جنابه أنا يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز بعزة وهو وصفه فالعز حينئذ ثلاث معاني
يعني بعد كلام له.
المقصود أنه تارة المفسر يفسر في كتب الحديث أو في كتب التفسير اللفظ من الصفات أو من الغيبيات، ويأتي بمعان ويسكت، فهذا يحذر منه، وتارة يقول يأتي بمعان وهذه كلها ثابتة والمعنى بصفات الله هو كذا، فهذا إذا موافقا لطريقة السلف فيقبل.
([6]) عندكم كلها في باب الدين؟ كأنها (في باب أصول الدين)، على كل حال المعنى (باب الدين) المقصود (أصول الدين) لا المقصود الفروع.(38/100)
([7]) هذا الشهرستاني في أول كتابه نهاية الإقدام، هو أيضا كتاب فيه عجائب أعني على طريقة المتكلمين.
([8])هذا الرازي فخر الدين الرازي وهو من عمداء الكلام -وهم الأشاعرة الذين نحو منحى المعتزلة في تقرير المسائل- في أول كتاب له اسمه أقسام اللذات لم يطبع، موجود منه نسخة خطية في أسبانيا في مكتبة [....]
المقصود من الشاهدين أن أولئك الذين أتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء، أنهم يتندَّمون في آخر عمرهم على ما مضى من ترك طريقة السلف، فالغزّالي أبو حامد المعروف توفي وصحيح البخاري على صدره يعني ينظر في الحديث، وكأنه ندم -فيما ذكروا- على مضي عمره في غير طريقة السلف ولم يدرك طريقة السلف.
وكذلك الشهرستاني فيما سمعت، وكذلك الرازي، وجماعات أيضا عندي بعض أسمائهم، فيما اطلعت عليه يندمون في آخر أعمارهم؛ لأنهم أذكياء ويصلون في آخر الأمر إلى أنهم ما جمعوا حقائق بعلم الكلام؛ لأن علم الكلام يعارض الشريعة، يعارض الوحي، الحقيقة أنه لا يحصل منه الإنسان على تحقيق.(38/101)
مثلا الآمدي وهو من رؤوس أهل الضلال في العقائد حينما تكلم عن تقرير كلام الله جل وعلا وأنه كلام قديم وأن القول بأنه كلام نفسي حادث هو قول الأشاعرة وهو قول الحق إلى آخره، قال: لكن يشكل على هذا شيء عظيم عندي، وهو أن في القرآن ألفاظا جاءت بصيغة الماضي ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا?[المجادلة:1]، ?قَدْ نَعْلَمُ?[الأنعام:33]، ونحو ذلك من الأفعال التي فيها الخبر عن شيء حدث في الزمن الماضي، قال: وهذا له احتمالان: إما أن يكون قد سبق فعلا، وإما أن يكون الكلام غير مطابق للواقع، وإذا كان الكلام غير مطابق للواقع فهو الكذب، قال وهذا عندي مشكل يعني استعمال الأفعال في صيغة الماضي، (قَدْ سَمِعَ) إذا كان الكلام؛ كلام الله جل وعلا في القرآن قديم، وقال الله جل وعلا (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) معناه أنه قد سمع، حصل السمع وتحقق، فهل هناك شيء قد سُمع قبل ذلك؟ يُشكل على أصولهم؛ لأن من أصولهم أنه ليس ثمّ مخلوقات يعني جنس المخلوقات، ليس بقديم في مسألة تسلسل الحوادث، وهو إما الخبر يكون كذب في نفسه، وإما أن يكون أحيل على شيء ماضٍ وهذا يبطل أصلا من أصول الأشاعرة، قال وهذا مشكل عندي جدا، وهذا ذكي وانتبه لهذه المسألة.(38/102)
وهكذا كثير من حذّاق الأشاعرة وحذّاق المتكلمين يترددون في إثبات ما راموه؛ لأنه يخالف الواقع، ويخالف الشريعة، ويخالف النصوص، وإنما يشتد الواحد منهم في مسألة وهي إذا دخل في باب التأويل، إذا دخل في باب التأويل من جهة اللغة هنا تعظم الشبهة عنده، أما إذا دخل بعقليات؛ تأصيلات عقلية فإن العقل يناقضه عقل، ولهذا تجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه درء تعارض النقل والعقل، قال: إن الأصل الذي أصله الرازي حيث قال هو في قانونه العام الذي رد عليه شيخ الإسلام بكتاب درء التعارض قال الرازي: إما أن نجعل النقل مقدم على العقل فهذا...[انتهى الوجه الأول من الشريط الأول] فهذا فيه إثبات الدليل قبل المدلول لأنه ما عرفنا صحة النقل إلا بالعقل، تقديم العقل على النقل مستقيم هذا في أصله، جاء شيخ الإسلام وانتبه إلى ناحية وجهة في هذا البرهان في إبطاله مع عدة جهات مهمة جدا تنتبه لها، وهو أنه قال: تقول إذا اختلف العقل والنقل، العقل هذا عقل من؟ ونحن نجدكم أيها المتكلمون تختلفون في العقليات، تختلفون مع الفلاسفة، أنتم تختلفون فيما بينكم في كثير من العقليات، وهناك أقوال لأهل الكلام في المسألة الواحدة، وكذلك تختلفون مع الفلاسفة وهم عندكم حكماء، فالعقل هذا الذي اختلف مع النقل، عقل من؟ وجواب السؤال: أنه ليس ثم عقل محدود؛ أنه عقل فلان، وإذا كان كذلك كان العقل غير منضبط، وإذا صار غير منضبط وجب أن تدخل في العقل هذا عقل السلف؛ لأنهم جزء من العقول، وإذا عقل السلف دخل فحجتهم أقوى ولا مناقضة بين عقل السلف وما بين النقل في النصوص.ف
هذا التأصيل مهم في أنهم يستعملون كلمات تناقشهم في دليلها، فهنا طريقة الخلف أعلم وأحكم من أي شيء وأحكم من أي شيء لم؟ لعقلهم، هذا العقل اختلفوا فيه، بل هم اعترفوا في آخر أعمارهم كما سمعت في أن عقولهم لم تكن صحيحة:
............................ وحاصل دنيانا أذى ووبال(38/103)
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
قيل وقالوا لاختلاف العقول في ذلك، فإذن مناقضة العقل للنقل هذه باطلة، فوجب التسليم إذن لما دلت عليه النصوص، والذين سلموا لما دلت عليه النصوص هم السلف الصالح، فلذلك صارت طريقة السلف أسلم أعلم وأحكم.
هذا الذي يريد أن يصل إليه شيخ الإسلام.
([9]) يعني عقيدة صافية (على عقيدة أمي) يعني ما دخلتها هذه الكلمات، وهذه أريد أن تستفيد منها فائدة عظيمة وهي قول هذا المتكلم (أموت على عقيدة أمي) في إبطال قول من قال: إن عامة الأمة والسواد الأعظم من الأمة على طريقة الأشاعرة والماتريدية، أو على غير طريقة السلف.
طريقة الأشاعرة والماتريدية موجودة في أذهان من درسها، في أذهان المتكلمين، في أذهان العلماء منهم، أما العامة فلو تأتي تسأل عاميا في أي بلد، أثبت لك ما أثبت القرآن، ما قام في ذهنه إلا ما يسمع بظاهر اللفظ، فهذا يقول (أموت على عقيدة أمي) أمك لماذا لم تكن مثلك؟ لأنه هو انصرف عن الفطرة بالتعليم، فلهذا لا يجوز أن يُتسامح في قول من قال إن عامة الأمة أشاعرة، أو السواد الأعظم على غير طريقة السلف، أو على هذه الطريقة الوهابية؛ بل العامة في باب الصفات لا في باب توحيد العبادة، في باب الصفات لا يعرفون الطرق الكلامية ولا يعرفون التأويلات يسمعون ويسلمون، لو تأتي لهم بتفسير ابن جرير وابن كثير وتقرؤه عليهم لما استنكروا فيه شيئا، بخلاف من تعلم فإنه خرج عن فطرته إلى شيء آخر، وهذا يقول (أموت على عقيدة أمي)، فأمه على الفطرة وهو بما تعلّم فسدت فطرته وخرج عن طريق السلف، فالعامة من المسلمين لا يعرفون هذه الطرق ولا التأويلات وإنما هم يسلمون للنصوص.
([10]) (عند الموت) يعني إذا جاء الموت شكُّوا في معلوماتهم السابقة فماتوا على غير عقيدة، ماتوا مترددين، متذبذبين، متشككين. نسأل الله العافية والسلامة.
([11]) [السؤال:.... غير مسموع](38/104)
هذه ما ودّي أنك سألت عنها؛ لأنه استعملها بعض الفضلاء، بعض الأئمة (طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم) ويريد بها من استعملها ممن هم مأمونون؛ بأن طريقة السلف الاستمرار الإثبات؛ إثبات الظاهر والاستمرار على هذا الإثبات، وطريقة الخلف –يعين من تأخر على السلف- طريقتهم إثبات ما أثبته السلف بأنواع البراهين، مثل الآن طريقتنا في الشرح، تقرير العقائد، طريقة شيخ الإسلام فيها التفصيل والبرهان والردود، فيها إثبات الصفات لكن على طريقة برهانية، فيها طول وشرح، لكن السلف ما عندهم هذا، السلف آمنوا بالصفات، وأمروها على ظاهرها، آمنوا بظاهرها ظاهر اللفظ وأثبتوا ما فيها من المعنى، دون خوض في البراهين، دون خوض في التفصيلات؛ لكن من الخلف من أثبت ما أثبتته السلف لكن على طريقة التفصيل والبرهان، فهذا معناه صحيح.
ولهذا نقول في تفسير هذه العبارة: قد يستعملها بعضهم ويريد بها معنى صحيحا، هنا يريد بكلمة الخلف ما يشمل المتأخر جميعا، ولا يريد بالخلف المتكلمين؛ لأن المتكلمين حين قالوا: طريقة الخلف أعلم وأحكم، يريدون بالخلف: المتكلمين، وهذا الذي يعني المعنى الصحيح يريد بالخلف المتأخر؛ لأن الخلف من تبع أو من جاء بعد من سلف يقال له خلف، الألف واللام هنا إما للعهد وهو مراد المتكلمين، وإما للجنس؛ جنس من تأخر وهو مراد من عني بها معنى صحيحا.
([12]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأول ما سمعتم من الكلام تبعٌ لما قبله في بيان فضل الصحابة رضوان الله عليهم وفضل التابعين وتبع التابعين على المتهوكين الحيارى المتأخرين من المتكلمين والمتفلسفة.
ولاشك أنّ الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبع هداهم، أفضل وأزكى وأعلم وأحكم؛ ذلك لأن العلم والحكمة مكتسبة، فإما أن تكتسب عن طريق العقل، وإما أن تكتسب عن طريق الشرع عن طريق النص.(38/105)
فإن كانت مكتسبة عن طريق العقل فالعقل بإجماع الناس يخطئ ويصيب، يدرك الحق وقد يخفى عليه، والأخذ من الكتاب والسنة هذا فيه العصمة؛ لأنّ الكتاب وحي من الله جل وعلا؛ ولأنّ السنة وحي من الله جل وعلا، فمن أخذ بالكتاب –بنصوصه- وأخذ بالسنة فقد نطق بالعلم والحكمة؛ لأنه متيقن الصحة.
وأما العقل فإنه دون ذلك بمراتب لتعرضه للخطأ.
لهذا أولئك لما جعلوا الأصول العقلية هي المقدَّمة صاروا مفضولين، وصار الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبع هداهم هم أعلم والأحكم في باب أسماء الله جل وعلا وصفاته وباب معرفة الله بعامة، فلا يتصور أن هؤلاء المتكلمين ومن نحى نحوهم الذين ورثوا علوم الهند واليونان، كما قال الشيخ وورثوا أقوال اليهود والنصارى الصابئة لا يمكن أن يكونوا مقاربين لسلف هذه الأمة الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، والخيرية راجعة إلى الصفات، ومن أعظم الصفات التي يكون بها الفضل: العلم والعمل، فدل على أن علم الصحابة والقرون المفضلة أغزر وأحكم، وعلى أن عملهم أزكى وأطيب، وبهذا ظهر فضلُهم على من عداهم.
الصابئون فيما ذكر قال (ضلال اليهود والنصارى والصابئين) جاء ذكرهم في القرآن كما هو معلوم?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ?[البقرة:62] فُسر ذلك بوجهين من التفسير:
?إما أن يكون الصابئون ملة من الملل؛ يعني أتباع رسول من الرسل، هم موجودون في شمال الجزيرة يعني في العراق وبعض الشام في الوقت الحاضر -يعني من حيث التقسيم-؛ ولكنهم في القديم كانوا أتباع رسول من الرسل، ولهذا قال جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ?[البقرة:62].
?والقول الثاني أن الصابئين طائفة لهم نحلة انتحلوها وليسوا بتبعٍ لرسول.(38/106)
وهذا بخلاف استعمال العرب لهذه الكلمة؛ لأن استعمال العرب لكمة صبأ بمعنى خرج عن دينه، صبأ محمد يعني خرج عن دينه، هؤلاء صابئة يعني خارجون عن دينه الذي نشؤوا عليه فيما زعموا.
([13]) (إما نص وإما ظاهر) النص يُراد به ما لا يَحتمل غيره، نص وظاهر هذه الألفاظ الأصوليين في بحثهم في الاستدلال، الركن الثالث من الأصول الاستدلال.
والنص: ما لا يحتمل غيره؛ يعني لا يتطرق للكلام احتمال أن يراد غير المعنى المفهوم.
الظاهر: ما يحتمل بمرجوحية، يحتمل ولكن هذا احتمال ضعيف؛ ولكن الأرجح، الغالب، الأظهر، هو الاحتمال الأول، فيكون في الظاهر إما احتمال ظاهر بيّن للمعنى، وثَم احتمال ضعيف خفي للمعنى.
فهذا هو الفرق بين النص والظاهر، ولهذا تجد أن السلف يستعملون كلمة ظاهر كثيرا، أمروا على ظاهرها، أمروها كما جاءت، الأخذ بدلالة النص والظاهر، أما قولهم النصوص، والنص، قد جاء في النص، فيريدون بالنص الكتاب والسنة، وهذا ليس المراد منه الاصطلاح الخاص عند الأصوليين بذلك، وإنما راد بالنص الدليل من الكتاب والسنة.
فإذن تنتبه للفرق بين هذين الاستعمالين.
([14]) الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.
([15])وابن القيم في النونية جمع أنواع الأدلة على العلو، فهذه الآيات والأحاديث في علو الله جل وعلا:
علو الذات.
وعلو الصفات.
هذه كثيرة جدا يمكن أن تقسم إلى أنواع كما قسمها ابن القيم رحمه الله إلى أكثر من عشرين نوعا.(38/107)
فهذا –مسألة العلو والفوقية- نص لا تحتمل غيرها؛ لأن الآيات دالة بما لا يحتمل أن المراد علو غير علو الذات, إما علو قهر أو قدر فقط أو علو جبروت أو علو هيمنة ونحو ذلك، أو علو جنس على جنس، وإنما هذه الآيات فيها علو الذات، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ?[فاطر:10]، يصعد إليه, الصعود ظاهر المعنى، بيِّن، نص, انتقال الشيء من وضعه إلى ما هو أعلى، وقوله (إِلَيْهِ), وتقديم (إِلَيْهِ) يفيد أن هذا الصعود يكون إليه جل وعلا دون غيره، فهو سبحانه المتصف بالعلو المطلق, كذلك قوله ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16]، (السَّمَاء) هنا بمعنى العلو أأمنتم من في العلو، ولما لم يَحُدَّ ذلك بحد دل على أن السماء هنا هو العلو المطلق، نهاية العلو المتصور, نهاية العلو, فلا أَحَدَ أعلى من الله جل وعلا, الله جل وعلا فوق خلقه بذاته، كما أنه فوق خلقه بصفاته, والعلو من أهل العلم من يقول: إن علو الله جل وعلا على خلقه له ثلاث معان:
- علو الذات.
- علو القهر.
- علو القدر.
ومنهم من يقول العلو قسمان:
- علو الذات.
- علو الصفات.
والمخالفون لطريقة السلف يحصرون علو الله جل وعلا في علو القدر والقهر، أو في علو الصفات، أو في علو جنس الله جل وعلا على جنس خلقه، والله جل وعلا واحد في ذلك الجنس فهو سبحانه المتفرد، فقالوا: العلو علو قدر وقهر وعلو جنس، يعني جنس الربوبية عال على جنس المخلوقين، جنس الرب عال على جنس غيره، كما يقال الفضة أعلى من الحديد؛ بمعني لأن جنسها أعلى، أو يقال الذهب أعلى من الفضة بمعنى أن جنس الذهب أعلى من جنس الفضة، وهكذا.
المقصود من هذا أن هذه المسألة مسألة علو الله جل وعلا -علو الذات- من أبشع ما خالف فيه المخالفون، حتى إن طائفة من أهل العلم كفَّروا من لم يُثبت علو الذات لله جل وعلا.
ولا يثبت علو الذات من الفرق إلا أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح.(38/108)
([16])(فيها) هنا في قوله (فيعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى) (فيها) هنا بمعنى (على)، (في) بمعنى: على السماء التي عليها الله تعالى، كما قال جل وعلا ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16]، فسرت السماء هنا بمعنى العلو، فيكون في علا من العلو وفسر السلف هنا السماء بجنس السموات، فتكون (في) بمعنى (على): من على السموات. ومجيء (في) بمعنى (على) معروف، من أمثلة ذلك قوله جل وعلا ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71]، والتصيلب إنما يكون عليها من الخارج لا في داخلها.
([17]) لهذا قال جماعة من أهل العلم منهم المناوي من الشافعية وغيره: إنه في النصوص أكثر من ألف دليل على علو الله جل وعلا على عرشه، علو الله جل وعلا، مطلق العلو بدون العرش، فعلو الله جل وعلا أدلته كثيرة بالمئات، علو الذات، كما سمعتم بعضها، فنفيه نفي لنص، ولهذا ذكرتُ لك أن ابن القيم رحمه الله جعلها أنواعا كثيرة؛ يعني جعل الأدلة أنواع؛ لأنه لا يمكن أن تسرد بنوع واحد أوهذا تلو هذا، فهي كثيرة متنوعة.
والعلو والفوقية بمعنى واحد، إذا قيل علو الله جل وعلا أو فوقية الله جل وعلا فهما بمعنى واحد.
([18]) هذا الكلام من شيخ الإسلام رحمه الله كالتفصيل لرد قول من قال: إن طريقة السلف أسلم ولكن طريقة السلف أعلم وأحكم.(38/109)
فإننا نعلم باليقين أن السلف تكلموا في مسائل الغيبيات ومنها مسائل الصفات بما هو نص أو ظاهر في إثباتها، ولم يأتِ عنهم نقل لا نصًّا ولا ظاهرا في نفي شيء منها، أو تحكيم العقل في شيء منها، أو تخريج بعض تلك النصوص على شواذ اللغة وغرائب اللهجات واللغات، هذا علم يقين، من أبلغ –كما قال- من أبلغ العلوم الضرورية يعني قد يكون بعد التأمل فيه يكون عند الإنسان المتأمل في ذلك أنه علم ضروري لا يحتاج معه إلى استدلال، إذا تأمل كلام السلف ونظر فيه صار عنده علم ضروري بأن طريقة السلف هي الإثبات، وأنهم لم يدخلوا العقل في ذلك، بمنزلة الشيء الذي يلمسه والذي يحسه والذي يراه يعني يصبح أمرا ضروريا عنده لا يحتاج إلى استدلال.
وهذا هو البين لمن رأى طريقة السلف.
إذا افترضا أن كلام أولئك صحيح وهو أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، فنقول طريقة الخلف هي الدخول بعقولهم بنصوص الغيبيات والصفات، والدخول بالعقل في هذه يشترك فيه كل من خالف طريقة السلف، ولكن هؤلاء الذين أجمعوا على وجوب الأخذ بالعقل وتأويل النصوص بما يوافق العقل، هؤلاء الذين أجمعوا على تحكيم العقل على النصوص لا نراهم اتفقوا على تلك المسائل التي خاضوا فيها:
فالجهمية أسسوا هذا المبدأ، ولهم نظر في النصوص خاص بنصوص الصفات والغيبيات والأسماء لله جل وعلا.
المعتزلة خالفوا عقل الجهمية، وأثبتوا بعض الصفات، أثبتوا ثلاثا من الصفات، وأعملوا بعض الأقيسة وخالفوا الجهمية؛ لأن الجهمية في أبواب القدر جبرية، والمعتزلة نفاة للقدر؛ للقدرية؛ القدرية يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه، فالكلية العقلية ما اتفقوا عليها لا في الصفات ولا في أبواب القدر.
وكذلك إذا نظرت إلى الكلابية أيضا أبطلوا هذا الأصل تبعا للجهمية؛ ولكن عقلهم أداهم إلى شيء آخر غير ما قالته المعتزلة، وغير ما قالته الجهمية.
الكرَّامية ؛ أدّاهم عقلهم إلى شيء.
السَّالمية أدّاهم عقلهم إلى شيء.(38/110)
الأشاعرة أدّاهم عقلهم إلى شيء تبعوا فيه الكلابية في جل المسائل.
الماتريدية أداهم عقلهم إلى شيء خالفوا به الأشاعرة في مسائل كثيرة معروفة.
المقصود من هذا أنّ أولئك قالوا إن العقل قاطع والنصوص موهمة. فذكر شيخ الإسلام في هذا التأصيل أن تنازعهم في العقليات من أعظم التنازع والاختلاف، أعظم من اختلاف من اختلف في فهم النصوص؛ بل إن نصوص الغيبيات والصفات لم يحصل بين السلف اختلاف فيها.
فهذا القاطع الذي يسمونه القاطع العقلي ويريدون أن يُرجعوا [انتهى الشريط الأول] النصوص إليه وأن لا تُفهم النصوص إلا بعد عرضها على بعض تلك العقليات.
نقول العقليات اختلفتم فيها اختلافا بينا ظاهرا، فهل يمكن أن يُحيل الشارع إلى عقولكم؟ هل يمكن أن يَعدل السلف عن ما دلَّت عليه النصوص نصا ظاهرا ولا يتكلموا في أي مسألة من دلائل العقول، فيُحجب ذلك ويكتمون؟ هل يمكن يكتموا الحق ولا يبينوه لمن بعدهم؟ والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يكتم الحق ولا يبين ذلك لمن بعده؟ لا شك أن هذا من أمحل المحال، فيبين... فكل واحد له عقل خاص ينظر به للنصوص.
فإذن الإحالة إلى العقل إحالة إلى شيء غير واضح، ومن قواعد المتكلمين المعروفة الإعمال [بالعقل العام] فيستفاد من ذلك لإبطال نظريتهم هذه وهي تحكيم العقل على النصوص بأن العقل ليس بشيء واضح معلوم متفق عليه، فأي عقل هذا؟
ولو كان الأمر كذلك، كما قال شيخ الإسلام هنا فإن الله جل وعلا يكون أحالك إلى العقل ولم يحتج الناس إلى بعثة الرسل لتُبين لهم صفة الله جل وعلا وما له جل وعلا من الأسماء الحسنى والصفات العلا.
هذا استطراد في بيان طريقة السلف، وأنها تفصيل وإثبات، وليس فيها نفي ولا تأويل ولا تفويض، وأنَّ طريقة الخلف عقليات مختلفة متضاربة، وأنّ السلف لم يختلفوا في ذلك، وأن أولئك اختلفوا أكثر اختلاف وأبين اختلاف.(38/111)
فهذا الكلام الذي قالوه من أن طريقة السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم باطل؛ لأن ما يوصف بالعلم والحكمة يجب أن يكون متفقا، غير مختلف غير متباين، فإذا كان متضاربا فكيف يكون علما وحكمة؟ وهم يختلفون في المسألة إلى أقوال؛ بل حتى في المذهب الواحد، تجد أنهم اختلفوا في تفسير بعض الألفاظ إلى مذاهب شتى، سبعة، ثمانية، كما عند الأشاعرة في مسائل، وعند المعتزلة في مسائل، إما في جليِّ الكلام أو في دقيق الكلام.
([19]) على تأصيلهم يقولون الكتاب والسنة غير واضحة مجهولة، فلا يرجع إليها في هذه المسائل، هذا كفر والعياذ بالله.
([20])وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة ليس خاصا في الخصومات العملية بين الناس؛ بل حتى في الخصومات العلمية يجب الرد إلى الكتاب والسنة، فهؤلاء الذين تنازعوا في العلميات في مسائل الصفات والإيمان والقدر والأسماء وغير ذلك، هؤلاء اختلفوا فيها ولم يردوها إلى الكتاب والسنة؛ بل قالوا: إن الكتاب والسنة لا يهدي في هذه المسائل؛ بل الذي يهدي هو العقل. فصار ذلك اتخاذا لطاغوت، تجاوزوا به حدَّه، والطاغوت يكون بأشياء منها طاغوت المتكلمين هذا الذي ردُّوا به الكتاب والسنة وتحاكموا إليه، ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ?[النساء:60]، تحاكموا إلى العقل، تحاكموا إلى الفلسفة، تحاكموا إلى أقوال اليونان، تحاكموا إلى أقوال جهم، إلى أقوال كبرائهم، وتركوا ما يدل عليه الكتاب والسنة.
وهذه هي حقيقة قول المتكلمين، فإن المتكلمين تركوا تحكيم الكتاب والسنة في مسائل الصفات وأخذوا بتحكيم أرائهم وأقوال كبرائهم، وهو من تحكيم الطاغوت.(38/112)
ويمنع من تكفيرهم عدم الجزم بأنهم أرادوا هذا التحاكم، قد يكونون تحاكموا من غير إرادة له ورغبة، إنما لشبهة فيه، فقوله جل وعلا (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) الإرادة هنا مقصودة، (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) فمن أراد واختار التحاكم إلى الطاغوت لا لشبهة قامت عنده فإنه كافر، ولهذا أهل العلم ما كفروا عامة المتكلمين، وإنما ربما كفروا أفاردا منهم الذين تبينوا منهم الحق وتركوه وتحاكموا إلى الطاغوت رغبة منهم في ذلك وإرادة منهم لأقوال الفلاسفة واليونان، والعياذ بالله بعضهم يضيق إذا جاءت النصوص كما في مصنفات بعض المعتزلة وأشباههم، إذا جاء النص ضاق، تحس أن في صدره حرجا منه.
حتى أني سمعت كلمة لبعض المعتزلة أو من ينحون منحى المعتزلة في هذا الوقت يتكلم عن بعض المسائل في الصفات، لما جاء الكلام العقلي قرر مذهبه، ولكن لما جاءت الأدلة من النصوص تلحظ منه وهو يتكلم أن في صدره حرج من إيرادها، فهذا من أعظم الاختلاف، يتلو النص وفي صدره عدم راحة، يود أنه لو لم يكن في الباب هذا النص، هذا بلاء عظيم.
([21]) هذا زعمهم يقولون: نريد أن نوفق بين الدلائل العقلية والنقلية. هذا عمل المتكلمين، أما الفلاسفة، الفلاسفة الإسلاميين يقولون: نرجع النصوص إلى العقل، العقل عندهم أساس، المنطق، الفلسفة وما دلت عليه التجربة والنظر والتأمل هذا أساس, والنص يرجع إليه إن وافقه أخذ به وإن لم يوافقه حمل على محمل يناسب المقام.
ففرق بين المتكلمين والفلاسفة, الذين يوفقون بين الدلائل النقلية والعقلية, هؤلاء هم المتكلمون الذين يوفقون، مثل ما ألف ابن رشد كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال.(38/113)
فقد ذكرت لكم في أحد هذه المجالس أنّ طلب الحكمة الذي كان عند اليونان -يعني طلب معرفة الصواب بالأشياء إما الأشياء المنظورة أو غير المنظورة-، هذا يكون بالعلم أو العمل، العلم بالعقليات دخل إلى المسلمين فمن ردّ هذه العقليات من السلف.
ومن قال نقبل ذلك ونجعله أساسا، وإذا وافقته النصوص أخذنا بها وإذا خالفته النصوص تركنا النص؛ لأنه تكون دلالته غير واضحة وهم أهل التجهيل، وهؤلاء الفلاسفة.
وطائفة تقول نأخذ بالنص ونأخذ بالدليل العقلي ونوفق بينهما، فجمعوا بين علوم اليونان وعلوم الشريعة في خليط وعجينة جديدة سُمّيت علم الكلام.
هذا من جهة العلم.
ومن جهة العمل صار عندنا شرائح دخلت اشراقات اليونان وآراء فلسفية في إصلاح النفس، ومما أثّر في الأمة منها القول بالإشراق والخير ونحو ذلك الذي شاع عند الصوفية في آواخر القرن الثالث والرابع وما بعده.
المقصود من العلم المهم أن تعرف كيف دخل الانحراف على المسلمين، كيف دخل؟ ما تفهم الأقوال في العقيدة ولا التفصيلات حتى تعرف تطور ذلك في السنين، في القرن الأول كان كذا، والقرن الثاني كان كذا، وتدرج ذلك، تفهم كل قول ما منشؤه، ولم نشأ الخلاف فيه؟ والأقوال المتضاربة ما سببها؟ أما إذا أخذت الأقوال أقوال الأئمة، أو أقوال المخالفين دون معرفة بتسلسل القول، وكيف نشأ يكون عندك ضعف لإدراك المراد من كلامهم والرد عليهم، إلى آخره، من العلم المهم أن تعلم كيف دخل الانحراف على المسلمين في شتى المجالات؛ في الاعتقاد، في العمل، بالتفصيل إلى آخره.
.. ما أعرف في الحقيقة أن هناك بحثا مفصلا فيه؛ لكن يمكن أن يؤخذ باستطراد من كلام شيخ الإسلام من درء تعارض العقل والنقل ........
([22]) هذا الكلام واضح من حيث دلالته على إبطال ما تكلم به المتكلمون وزعموه دلائل ويقينيات من نقض النصوص بالعقليات.(38/114)
التنبيه هنا على قوله (ولازم هذه المقالة) هذا يكثر عند أهل العلم أن يذكروا اللوازم التي تلزم على الأقوال الباطلة، وذلك من جهة البرهان؛ لأن من البرهان على إبطال المقالة أو على فسادها أو على ضعفها أن يلزم منها لوازم باطلة، فإذا كان القول يلزم عليه لوازم باطلة فإن القول باطل، وليس هذا من شيخ الإسلام ولا من أهل العلم بإلزام للقائل بلازم مذهبه؛ لأن التحقيق أن لازم المذهب ليس بمذهب حتى يُصَرِّح صاحبه بمذهبه؛ لكن لازم المذهب يدل على بطلان المذهب، إذا كان ذلك اللازم باطلا، وهذا يستفاد منه في المناظرات، وفي إبطال أقوال أهل الضلال خاصة في العقائد، يستفاد منه أكبر فائدة، فنجد مثلا هنا يقول (لازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خير لهم في أصل دينهم) معلوم أن المتكلمين لا يقولون أن ترك الناس بلا رسالة خير لهم في أصل دينهم؛ لكن هذا لازم على تلك المقالة، ولما كان هذا اللازم يشترك فيه يعني في بطلانه المتكلمون يشترك في إبطاله المتكلمون وأهل السنة دل على فساد تلك المقالة.
فهذا تنبيه على طريقة من طرق الاحتجاج على إبطال أقوال الخصوم.
([23]) السُّمنية بضم السين.
([24]) هذه الكلمة من شيخ الإسلام مهمة ونفيسة رحمه الله تعالى؛ لأن فيها بيان أصل الضلال في هذا الباب، وأن زعم من زعم أن طريقة المتكلمين هذه أنها أحكم أنها باطلة؛ لأن هذا القول قول فيه الإجحاف بالسلف الصالح -كما مر معنا-، ومن المعلوم أنه لم يأتِ شيء في النصوص ولا في هدي النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يرشد الناس إلى ألا يأخذوا بظواهر النصوص؛ بل قال «إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله» كما رواه مسلم في الصحيح، ورواه غيره في قوله «كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يرد علي الحوض».(38/115)
وقد قال بعض العلماء: إنه من اليقين القطعي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تلا القرآن وذكر النصوص التي فيه في الغيبيات والصفات وغيرها، كذلك لما ذكر حديث الصفات على الناس، لم يرد أنه أتبعها بشيء يصرفها عن ظاهرها؛ بل أوردها وترك فهم المعنى للناس، وهذا يدل على أنَّ المعنى الذي اشتملت عليه تلك النصوص هو ظاهر اللفظ؛ لأنه لو كان المعنى غير الظاهر معنى آخر يؤول يجب على النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أن يبينه حتى لا يعتقدوا في الله العقيدة الباطنة، فلما لم يُتبِع ذلك عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بشيء يصرفه عن ظاهره دلنا على أن الظاهر مراد.
ثم نقول إنّ هذه المقالة وهي مقالة التأويل إنما هي مأخوذة عن الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، والجهم ابن صفوان كما ذكر في آخر الكلام، وهو كلام مهم، الجهم بن صفوان كان فقيها عنده علم بالفقه بعض الشيء، ووقع له اجتهاد في مناظرة هذه الطائفة من الطبائعيين الذين يقولون بتناسخ الأرواح وهي طائفة السُّمنية، طائفة من طوائف خراسان والهند، ناظرهم في وجود الله جل وعلا فحيَّروه، حتى قالوا عنه إنه تحير فبقي أربعين يوما لا يصلي من شدة الحيرة، وهذا لأجل أنه خاض في مناظرة أولئك دون علم واسع بما يجب وينبغي في مناظرة أمثال هؤلاء، فقاده ذاك إلى أنه يثبت وجود الله لهم، فلم يجد دليلا يثبت به وجود الله جل وعلا إلا ما سُمي فيما بعد بطريقة حلول أو حدوث الأعراض في الأجسام أو طريقة الجوهر الفرد. هذه الطريقة لها تفاصيل؛ لكن المقصود أنها طريقة مخالفة لما جاء في القرآن والسنة من إثبات الله جل وعلا، ولما تقتضيه الضرورة الفطرية في الإنسان أنه جاء لا من فعل نفسه، ولا من فعل والديه، وقد رُكِّبت فيه هذه الآلات تركيبا عجيبا، محال عند كل ذي عقل أن يكون الزمن أو أن تكون الطبيعة أوجدتها على هذا النحو العجيب.(38/116)
سلك تلك الطريقة التي هي طريقة حلول الأعراض في الأجسام، وقال إنَّ العرض لا يقوم بنفسه – العرض مثل اللون أو الألوان والطبائع الأربعة: الحرارة البرودة والرطوبة واليبس، ومثل الارتفاع والانخفاض والحركة ونحو ذلك، هذه أعراض تكون في الجسم - فلما كان كذلك، قال: إن هذه الأعراض في الجسم الجامد تحل فيه، تحدث فيه، والجسم الجامد هذا لا يمكن أن يكون أحدث تلك الأعراض؛ بل إنما أُحدثت فيه، كذلك هذا الجسم الجامد إذا جزأناه إلى أجزاء صغيرة صغيرة ينتهي إلى ما سَمَّوه بالجوهر الفرد، وهذا الجوهر الفرد يعني الخلية الواحدة أو الجزيء الواحد هذا فيه عرضا أيضا من تلك الأعراض التي ذكرنا.
ومعلوم أن هذا الجزيء الواحد لا يمكن أن يُحدث ذلك العرض لنفسه، لا يحدث الارتفاع في نفسه ولا البرودة ولا الحرارة ولا الرطوبة، إلى آخره، فَعُلم أنه محدَث فيه، وإذا كان محدثا فيه فلا بد له من محدث.
وإذا كان كذلك فخرج هذا الجزيء الصغير، أو خرج هذا الجسم الذي حلت فيه الأعراض، عن حكم الطبيعة؛ لأنه لا يمكن لهذا الجزيء وهو الطبيعة أن يؤثر تلك التأثيرات.(38/117)
المقصود أنهم سلَّموا له بأن الأجسام لابد لها من محدث، قالوا: من هذا المحدِث؟ قال هذا هو ربي هو الله جل وعلا. فلنا سلموا له بذلك فرح، ثم قالوا له صِفْ لنا ربك، فلما أراد أن يصفه بما جاء في القرآن من الصفات تحيَّر أكثر؛ لأنه وجد أنه إذا وصف الله جل وعلا بما جاء في القرآن فإنه سيعود على دليله الذي ذكر بالإبطال؛ لأنه إذا وصف الله بأنه رحيم بأنه ذو رحمة، فالرحمة عرض ليست بجسم يُرى، إنما هي عرض، فمعنى ذلك أن هذا العرض حل في جسم، وهذا يقضي على برهانه الذي أتى به بالإبطال، لأنه يعود يقول من الذي أحدث الرحمة في ربك يا جهم؟ نظر في الصفات؛ الحركة ، في المجيء والإتيان ونحو ذلك، نظر في الاستواء وهو الاستواء على العرش، والعلو، ونحو ذلك، فتحير فلما لم يجد برهانا على وجود الله إلا ذلك البرهان، قال: إنَّ هذا البرهان قطعي فلابد أن كل ما عاد على هذا البرهان القطعي بالإضعاف أو بالبطلان أنْ يؤول، فأوَّل نصوص الصفات جميعا وهذا الذي تبعه عليه المعتزلة ثم الكلابية ثم الأشاعرة، إلى آخره.
هذا مقصود شيخ الإسلام لما ذكر في هذه الجملة، وهي جملة لها تفاصيل كبيرة معروفة.
([25]) هذا الكلام ظاهر لك في أصل الضلال، والجهم بن صفوان هو الذي أسس تحكيم العقول على النصوص، وأن النص لا يحكم بظاهره حتى يعرض على العقل، ولهذا كل من حكم العقل على النص يقال له جهمي، فالمعتزلة من السلف يقولون عنهم أنهم جهمية، بشر المريسي هذا من كبار المعتزلة وهو من الجهمية، وكذلك الكلابية يطلق عليهم طائفة من أئمة السلف أنهم جهمية، كذلك الأشاعرة يقال عنهم جهمية باعتبار أنهم شاركوا جهما في الأصل الذي به رد دلالة النصوص وهو مشاركتهم له في تحكيم العقل على النص.(38/118)
إذن نسبة الطوائف وفرق الضلال إلى جهم بالتبعية له في الأصل الذي أصله إن كانوا لا يقولون بكل ما يقول جهم فليست النسبة مقتضية بالمماثلة في كل شيء والمساواة بل إذا وافق في الأصول، وإن زعم أنه لا يقول بقوله.
التأويلات التي ذكرت في كتب الأشاعرة مثل [......] كتاب التأويلات [....] وهو مطبوع، ومثل كتاب الرازي تأسيس التقديس، الذي رد عليه شيخ الإسلام في كتاب كبير سماه [محو التأسيس] وكغيرهم من المعتزلة والماتريدية لما أولوا من النصوص، هؤلاء إنما تبعوا أوائل المعتزلة والجهمية في تأويل النصوص، تبعوا بشرا المريسي وأمثاله، بل إن بشرا المريسي أعرف بدلالات المنقول والمعقول –مثل ما ذَكر- من هؤلاء؛ لأنه لم يخض في تأويل كل الصفات وإنما خاض في تأويل ما يعظم الشبهة عنده في تأويله، وأما هؤلاء المتأخرون فإنهم خاضوا في تأويل كل الصفات التي لا يثبتونها بجراءة وعدم مراعات عقول الناس، ومن أعظم ذلك دخولهم في تأويل العلو وتأويل الاستواء ونحو ذلك من الصفات.
فالمقصود أن الطريقة متتابعة وأنَّ طريقة هؤلاء إنما هي تبع لطريقة بشر المريسي، وبشر المريسي وأتباعه أجمعت الأمة في وصفهم يعني الفرقة الناجية، أجمع السلف في وصفهم الأئمة ومن تبعهم على أنهم ضلاَّل، وكفّرهم طوائف كثيرة من أهل العلم، وهذا ظاهر بيّن، فالأخذ بمقالتهم أخذ بالضلال الذي أجمع على تضليل من قال به السلف الصالح رضوان الله عليهم، ورحمهم الله تعالى.
([26]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يبصرنا في ديننا وأن يجعل هذا العلم نورا في القلوب وبصيرة لما نأتي ونذر.(38/119)
ما ذكره هنا تَعداد للكتب التي توجد فيها أقوال السلف في الاعتقاد، وسمعت منها كتبا كثيرة سيأتي كثير من النقول عنها، كذلك نقل عنها وعن غيرها ابن القيم رحمه الله في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية وينقل عنها أهل العلم نصوص السلف في العقيدة في باب الإيمان والقدر وغير ذلك، هذه الكتب التي ينقل عنها يكتفى فيها بشهرة الكتاب ونقل العلماء عنه، ولا يشترط فيها أن يثبت الكتاب لمصنفه وذلك لأن الكتاب إذا نقل عنه أهل العلم واعتمدوه فإن هذا يكفي في النقل عنه، يعني أن يُعتمد وينقل عنه لأن العلماء نقلوا عنه، ولا يفتقر ذلك إلى صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف؛ لأن المقصود ما اشتمل عليه الكتاب من الأقوال، وذلك لأن في بعض ما سمعنا من الكتب شيئا من البحث في نسبة الكتاب إلى مؤلفه مثل كتاب الحيدة للكناني، فإن هناك بحثا [انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني] معروفا في نسبته إلى مؤلفه، وهكذا أيضا غيره.
المقصود أن هذه الكتب اعتمدها المتقدمون من أهل العلم ونقلوا عنها، وكلام السلف من حيث الأصول وأيضا أفراد العقيدة موجود في هذه الكتب، من حرص على كلام السلف وجده في هذه الكتب.(38/120)
المسألة الثانية مما يتعلق بهذا المقام أن كتب المتقدمين من السلف ليست بسهولة الأخذ منها ومنهجية تصور مسائل العقيدة منها كالكتب التي صنفت متأخرة لأئمة السنة كلمعة الاعتقاد والواسطية والحموية والتدمرية هذه وأشباه ذلك؛ وذلك لأن تلك الكتب تعتمد على نقل أقوال السلف، كلام السلف واحد كقواعد في العقائد، وليس يُفهم على أن كل قول منه أصل وقاعدة في بابه، كلام السلف يفهم بعضه مع بعض، سواء كان ذلك كلام الصحابة أو كلام التابعين أو كلام تبع التابعين، أو كلام الأئمة، وذلك لأنه يوجد في كلامهم متشابه، لابد من إرجاع بعضه على بعض، حتى يحكم القول في مسائل الاعتقاد، نعم أكثر كلامهم واضح؛ لكن طالب العلم إذا لم يكن عنده تقعيد جيد في العقيدة، فإنه إذا نظر في كلام الأولين قد يشتبه عليه، ولا يدرك المراد منه، وذلك لأن فهمه يحتاج إلى جمع أقوالهم ومعرفة اصطلاحاتهم؛ بل ومعرفة ما يجري في ذلك الزمن من ردود وأقوال، فمن الكلام المنقول عن السلف ما لا يفهم إلا بفهم بساط الحال الذي كان يعيش عليه ذلك الكلام، وهذا كثير في فهم كلام أهل الفتوى في كل زمان.(38/121)
ذكر أيضا فيما سمعت كتاب الصفات للبيهقي، والبيهقي معدود في الطبقة الأولى من طبقات الأشاعرة، والطبقة الأولى هي أقرب طبقات الأشاعرة لأهل الحديث، فالبيهقي رحمه الله في كتابه الأسماء والصفات خلّط في أبواب الصفات، ولم يجر فيها على طريقة أئمة السنة المتقدمين، فقسم الصفات إلى صفات ذات وإلى صفات فعل، فما كان من صفات الذَّات وجاء نصه في القرآن يعقد له الأبواب لإثباته، وما كان من صفات الفعل -في بعضها- فإنه يتأوله، ويعقد الباب لذكر ما جاء فيه، يقول مثلا: باب ما جاء في الضحك، باب ما جاء في الإتيان، باب ما جاء في الهرولة، وذكر شيخ الإسلام له لا لأجل أنه من كتب أئمة السنة ولكن لأجل أن أقوال السلف موجودة فيه، فهو كتاب ينقل فيه البيهقي بالأسانيد عن المتقدمين، فتؤخذ منه أقوال السلف في مسائل الاعتقاد في الأسماء والصفات.
([27]) الأصل في الترضي أنه للصحابة، ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ?[التوبة:100]، ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ?[الفتح:18]، وغير الصحابة يجوز أن يُترضى عنهم؛ ولكن بشرط أن لا يكون ذلك شعارا؛ معناه ألا يلتزم مع ذكر من هم دون الصحابة دائما الترضي، مثل الصلاة، فيجوز أن يُصلى على غير الأنبياء لكن لا يكون ذلك دائما على جهة الشعار، صلَّى الله على أبي بكر، كما قال بعض الصحابة فهذا جائز على جهة المرة والمرتين، فالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان إذا أتاه قوم بصدقاتهم صلَّى عليهم، فأتاه ابن أبي أَوْفَى بصدقة قومه قال«اللهم صلِّ على ابن أبي أوفى» أو «على آل أبي أوفى»، وأوسع من الصلاة الترضي، فإنه يسوغ الترضي؛ لكن لا يُجعل ذلك بندية الترضي على الصحابة، يعني يقال مرة مرتين ثلاث، ونحو ذلك، ولا يلتزم مع إمام من الأئمة.
([28]) هذا الكلام قواعد كلها تحتاج إلى تفصيل لكن تأخذون تفصيلها من مظانه.(38/122)
ننبه هنا إلى التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل هذه العبارة جُمعت من أقوال متنافرة للسلف بفهم مذهب السلف بعامة.
التحريف: صرف اللفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله البتة، قد يكون بزيادة أو نقصان، مثل تفسير استوى استولى، هذا تحريف لا تدل عليه اللغة ولا يحتمله اللفظ، مثل تفسير الإتيان بإتيان الأمر هذا تحريف أيضا؛ لأنه لا دليل يدل على ذلك.
كذلك التعطيل: التعطيل هو الإخلاء يعني إخلاء الرب جل وعلا عن الصفة، فحقيقة قول النفاة أنهم عطلوا الله عن صفاته يعني أخلوه جل وعلا من أن يكون موصوفا بصفة.
والتكييف: أن تُجعل الصفة على كيفية من الكيفيات، يكيف الصفات، فيقول مثلا: كيفية استواء الله جل وعلا هو كذا وكذا، كيفية سمع الله جل وعلا هو كذا وكذا، كيف يسمع؟ يقول كذا وكذا؛ يجيب، هذه الطريقة لبعض الضالين في القديم، يكيفون، وهذا منفي لأن الله جل وعلا إثبات الصفات له إثبات وجود لا إثبات كيفية.
والأخير التمثيل: التمثيل هذا نفي يقول الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، التمثيل قد يكون، التمثيل هو إثبات المثل أو المثلية، قد يكون في صفة من الصفات، وقد يكون إثبات المثل في أكثر من صفة أو في الذات والصفات، وهو خلاف التشبيه، فالتمثيل أن يقال يده كيد الإنسان، استواءه كاستواء الإنسان، هذا يقول هذا مثل هذا، هذا أيضا منفي؛ لأن الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
وتفاصيل هذه الجملة بتعريف هذه الألفاظ الأربعة تجدونها فيما سبق ذكره في شرح الواسطية أو في الكتب المعروفة في ذلك.(38/123)
قال بعدها كلمة مهمة هي قوله: إنما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - حق لا مرية فيه، يُفهم من حيث مقصود المتكلم بكلامه. هذه الكلمة دقيقة؛ وذلك أن مقصود المتكلم بكلامه: تارة يكون من جهة أفراد الكلام، وتارة يكون من جهة التركيب.
مثلا يقول هذا كتابي، تفهم معنى الكتاب هو الذي في ذهنك منه، يقول مررت بفلان، تفهم معنى المرور حيث هو كلمة وفلان تتصوره، هذا استعمال للألفاظ وفهم المعنى العام مبني على فهم هذه الألفاظ.
هذا يسمى المعنى الإفرادي للكلام؛ يعني يفهم الكلام بفهم أفراده، هذا نوع.
والثاني وهو مهم في هذا الباب أن المتكلم يُفهم كلامه بتركيب الكلام بسياق الكلام، وهذا هو الذي يسمى عند الأصوليين بالدلالة الحملية للكلام، هذا في غاية الأهمية للناظر في هذا الباب باب الأسماء والصفات؛ لأن من ادعوا التأويل وأن السلف أوّلوا في باب الأسماء والصفات احتجوا ببعض كلامهم في هذا الأمر، وهم إنما أرادوا دلالة التركيب ومعلوم أن الكلام إذا دل بتركيبه فإنه لا يكون نفيا بما دلت عليه أفراده.
مثال ذلك قول الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45]، الظاهر الإفرادي للكلام (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) أن الرؤية تكون لله؛ يعني يرى اللهَ جل وعلا يرى الرب جل وعلا (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ)؛ لكن لما قال (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) علمنا بدلالة التركيب وهو ما يُفهم به مقصود المتكلم من كلامه أنه أراد قدرة الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا?[الفرقان:45].(38/124)
كذلك قوله جل وعلا ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ?[النحل:26]، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) هل هذه من آيات الصفات فيها الإتيان؟ لا، ولم يحملها السلف على ذلك، وليست من آيات صفة الإتيان؛ لأن المقصود بالإتيان إذا أثبتت الصفة إتيان الذات وليس إتيان الصفات، هنا (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) نقول ليس هذا دليلا على صفة الإتيان لأن التركيب تركيب الكلام يدل على أن المراد إثبات الصفة بقوله (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) ومعلوم أن المتقرر في أنه جل وعلا ليس كمثله شيء أن الله جل وعلا لا يأتي بذاته للبنيان من قواعده، فهو جل وعلا أجلُّ من ذلك ومستوٍ على عرشه سبحانه، وإنما المقصود إتيان صفاته اللائقة في هذا الموضع وهي قدرته وبسطه وقوته وعقابه ونكاله بالكافرين لذلك قال(فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).
أيضا من أمثلته –نطيل فيها لأجل أهمية ذلك- قوله جل وعلا في سورة البقرة? وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?[البقرة:115]، هنا فسر السلف الوجه بالقبلة؛ لأن الوجه من حيث اللفظ يطلق على الجهة ويطلق على الصفة، وجه بمعنى وِجهة، والوجه وجه الله بمعنى الصفة التي هي الوجه المعروفة، هنا ما حُمل على الصفة مع أنها إضافة وجه الله، إضافة صفة إلى متصف، وذلك لدلالة السياق لدلالة التركيب، وهذا ظاهر لقوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) لسياق الآيات في القبلة (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يعني القبلة؛ ولهذا خرجت هذه الآية من أن تكون من آيات الصفات.(38/125)
كذلك قوله جل وعلا ? يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ?[القلم:42]، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) هذه هي الآية الوحيدة التي اختلف فيها السلف هل هي من آيات الصفات أم ليست من آيات الصفات؟ وبعضهم قال من آيات الصفات وبعضهم فسرها بما يخرجها عن كونها من آيات الصفات، لم؟ لتنازع هذا الموضع بين أن يُقصد الفرد فتكون من آيات الصفات، أو أن يكون المقصود التركيب فتكون من غير آيات الصفات، يعني هل يفهم الكلام بفهم كلمة (سَاقٍ)، أو نفهمه مع سباقه ولحاقه فمن فهمه مع سباقه ولحاقه، العرب تقول كشفت الحرب عن ساقٍ إذا كشفت عن هول وشدة، وهذا استعمال تركيبي تستعمله العرب للدلالة على الهول والشدة، فلهذا قال ابن عباس وغيره (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني عن هول وشدة. وآخرون كأبي سعيد وغيره: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني عن ساق الرحمن جل وعلا فيما جاء في الحديث في الدلالة على ذلك.
المقصود هذا البحث مهم وطويل فروعه، تضبطه بأن ظاهر الكلام قد يكون من جهة اللفظ، وقد يكون من جهة التركيب؛ لأن الذي يفهم به مقصود المتكلم من جهة ظاهر كلامه، لأننا لا نعلم بواطن الكلام، لكننا نعلم ظاهر الكلام، هذا مقصود المتكلم نفهمه من جهة ظاهر الكلام، وهذا الظاهر قد يكون من جهة الأفراد، وقد يكون من جهة التركيب، ولهذا ينقسم الظاهر إلى ظاهر إفرادي وتركيبي.
هذا البحث أطال عليه شيخ الإسلام في مواضع كثيرة من كتبه، وهو معروف من جهة أصول الفقه في الركن الثالث من علم الأصول وهو دلالة الألفاظ أو الاستدلال.
([29]) يعني يلزم من كون الشيء حادثا أن يكون قبل ذلك عدما، حدوث الشيء يستلزم سبق حدوثه بالعدم.(38/126)
([30]) (كما لا يمثلون) هنا الكاف هذه كاف التقعيد، يعني ما بعدها قاعدة، ذكرت لكم أنه عند الفقهاء والعلماء تتأتي الكاف تارة للتنضيد التمثيل وتارة تأتي الكاف للتقعيد، يعني يكون ما قبلها فرع من فروع ما بعدها ، هنا قال: لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه. هنا تمثيل ذاته بذات خلقه هذا شيء مجمع عليه أنه لا تمثل الذات بذات الخلق وإنما الخلاف بين الصفاتية في مسألة الصفات، فإنه كذلك لا يمثلون الصفات بصفات خلقه خلافا للمجسمة، فهم لا يمثلون الصفة بالصفة لأنهم لا يمثلون الذات أصلا بشيء من الذوات، فكما أن ذات الله جل وعلا لا تشبه الذوات وكذلك صفاته لا تشبه الصفات، وهذه القاعدة جاءت في التدمرية تبعا لما ذكره الخطابي في كتاب معالم الإيمان أو نحو ذلك، ذكر قاعدة السلف في هذا أن القول في الصفات كالقول في الذات، يحتذى فيه حذوه، وينهج فيه على منواله.
([31])الجوهر ما يقوم بنفسه، والعرض ما لا يقوم إلا بغيره.(38/127)
([32]) هذا الكلام من شيخ الإسلام تقرير لأصل متفق عليه، وبهذا الأصل يرد على الطوائف الضالة؛ ذلك هو قول الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فالله جل وعلا ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، فالذين أوَّلوا، الذين عطلوا الله جل وعلا عن صفاته إما جميعا كالجهمية، وإما بعض الصفات كالصِّفَاتية من المعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية ونحو هؤلاء، هؤلاء وقعوا في التمثيل أولا، ثم وقعوا في التعطيل ثانيا، لأنه لا يمكن أن يعطل الله جل وعلا عن صفة من صفاته إلا بسبب أنَّ الذي عطّل قام في قلبه التمثيل ثم لأجل ما قام في قلبه من المعنى الباطل عطَّل، فمثلا إذا أتى لقول الله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وقع في قلبه أن اليدين في هذه الآية مثل يدي المخلوق، فلما وقع في قلبه هذا المعنى الذي هو التمثيل، قال: اليدان هنا بمعنى القدرة، أو بمعنى النعمة. وسبب هذا التأويل أنه وقع في قلبه أن النص فيه التمثيل، فنفى هذا التمثيل الذي قام بقلبه، أو وقع في قلبه بدلالة النص فنقول هذا من شر ما يكون؛ لأنَّ المعطل شر من الممثل؛ لأن الممثل مثَّل أولا والمجسم جسَّم، لكن المعطل مثل في قلبه ثم سعى لنفي هذا التمثيل الذي قام في قلبه وحمل عليه النص أو ظن أن النص يمكن أن يدل عليه فسعى لتأويله أو لدلالة المجاز عليه أو نحو ذلك. لهذا قال هنا كل معطل لا بد أن يجمع بين التمثيل والتعطيل؛ لأنه ما عطل إلا وقد مثل في قلبه أولا، فنفى ما قام بقلبه من المثلية التي نفاها الله جل وعلا بقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] سبحانه وتعالى.
تعلمون الكلمة المشهورة عند السلف: الممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والسني يعبد إله واحدا فردا صمدا.(38/128)
([33]) ?لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:28]، هذه الجملة التي سمعنا من كلام المصنف رحمه الله فيها تأصيل فساد تأويل الآيات والأحاديث التي في الغيبيات بالعقل، والعقل قد حكّمه المبتدعة من الجهمية فالمعتزلة فمن بعدهم إلى يومنا هذا، حكموا العقل في ردّ النصوص، ولهذا وصف العقلانيين يشمل كل من ردّ النصوص بحجج أو بتأويلات عقلية.
والواجب على عباد الله أن يسلموا في الأمور الغيبية بما دلت عليه النصوص؛ لأن الله جل وعلا أعلم بخلقه سبحانه وتعالى، ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14]، وقال جل وعلا ?قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ?[البقرة:140]، وقال جل وعلا ?قُلْ صَدَقَ اللَّهُ?[آل عمران:95]، وقال جل وعلا ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا?[النساء:87]، وقال?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا?[النساء:122]، فالله جل وعلا خبره صدق وحق ويأخذ على ما دل عليه في ظاهره، والذين أولوا الآيات والأحاديث في الأمور الغيبية وصرفوها على حقائقها اللائقة بها إلى معان أخر احتجوا بالعقل، قالوا العقل الصريح اضطرنا إلى ذلك، فمثلا حينما نفوا رؤية الله جل وعلا في الآخرة، قالوا: العقل الصريح يردُّ إمكان هذه الرؤية. كما هو قول الجهمية والمعتزلة، قالوا: لأن الذي يرى لابد أن يكون في جهة، ولابد أن يحاط به من جهة الرؤية، وإذا كان في جهة معناه أنه في مكان، وإذا كان في مكان معناه أنه متحيز وأن ثم مكان من مخلوقاته يسعه، وهذه كلها كما يقولون نعلم بالعقل أنها لا يمكن أن تكون؛ أنها باطلة؛ لأن الله جل وعلا ليس بمحاط بشيء من خلقه ولا متحيز بشيء من خلقه من الأمكنة ونحوها، فدلنا ذلك على بطلان الرؤية، وعلى بطلان الاستواء على العرش وما أشبه هذا.(38/129)
فنفوا الرؤية لأجل هذا الصريح عندهم، وسبب ذلك أنهم جعلوا الصفة من الله جل وعلا من جنس ما يتصف به المخلوق فهم لم يحكموا على الله جل وعلا إلا ما رأوا في الدنيا، ومعلوم أن الفعل الصريح أيضا يدل على أنه يحتمل أن تكون أشياء لا يعقلها العقل.
وهناك مثل بين في ذلك وهو الروح؛ روح الإنسان: فهذه الروح هي في الجسد؛ ولكن هل هذه الروح باقية في الجسد؟ متحيزة به لا تخرج عنه؟ أم أنها تذهب وتجيء وتصعد إلى الله جل وعلا وترسل ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى?[الزمر:42]، فهذه الروح لا يعقلها ابن آدم، فدل على أن تحكيم بعض قوانين المخلوقات في بعض، أن هذا ليس من الحكمة، وليس من العقل، فكيف بتحكيم قوانين المخلوقات على الله جل وعلا؟ ولهذا قال سبحانه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فلا يجوز أن يوصف الله جل وعلا، أو أن ينفى عنه الوصف في قياس شمولي، ولا بقياس منطقي؛ وذلك لأنه لا ينطبق عليه جل وعلا ما ينطبق على المخلوقات، هذا العقل الذي أولوا به النصوص متناقض أصلا؛ لأننا نجد أنَّ المعتزلة مثلا يثبتون البعث بعد الموت، ويثبتون بعض الصفات.
والنافي للبعث والنافي للصفات التي أثبتها المعتزلة يقول: دلنا العقل الصريح على عدم إثباتها. والمعتزلة يقولون: العقل دل على عدم امتناعها.
ويأتي بعد المعتزلة الكلابية فيقولون المعتزلة أثبتوا ثلاث صفات ونحن نثبت سبعا؛ لأن العقل الصريح دل على إثبات هذه السبع.
والماتريدية وجاءوا وقالوا نثبت ثمان صفات لأن العقل الصريح دل أيضا على إثبات ثمان صفات.(38/130)
فإذن العقل الذي به تأول المعتزلة النصوص وظن أنه هو الصريح وأنه هو الذي يجب أن تخضع إليه الآيات والأحاديث، خالفهم فيه عقل الكلابية، وعقل الأشاعرة، وعقل الماتريدية، وخالف الأشاعرة أيضا في عقلهم الماتريدية.
فإذن عقول أصحاب هذه الفرق التي تعتمد على العقل بعضها يضاد بعضا، فأي عقل هذا الذي يُحكَّم على النصوص؟ لا مناص من القول في أن هذا العقل لا يوجد؛ لأن أصحاب العقل الذين يحكمونه مختلفون في تحكيمه، وهذا قطعي.
لهذا نقول ما من شيء قال فيه المبتدعة إن العقل يحيله من الأمور الغيبية، إلا وثَم دليل على أن العقل لا يحيله.
وخذ مثلا على ذلك الرؤية التي مثل بها شيخ الإسلام؛ رؤية الله جل وعلا، الأشاعرة أثبتوا الرؤية، والمعتزلة نفوا الرؤية، الأشاعرة قالوا: يرى لا في جهة؛ يعني شيء يكون إدراكه في نفس الإنسان لكن رؤيته لا تكون إلى جهة معينة, والمعتزلة قالوا: إن رؤية الله جل وعلا إن أثبتناها بحسب ما جاء بالآيات والأحاديث فمعنى ذلك أن الله في جهة, وإن نفيناها نفينا أن الله في جهة، وعقل المعتزلة في هذه -من اطراد الإثبات والنفي- صحيح، وأما الأشاعرة فمتناقضون.
ولهذا أهل السنة قالوا بإثبات الرؤية وإثبات علو الله جل وعلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى له علو الذات وعلو الصفات سبحانه؛ فإذن هو يُرى وهو في جهة العلو جل وعلا، فالعقل [انتهى الشريط الثاني] مع النقل دلّ على إثبات ذلك وعدم التناقض بين هذا وهذا, ولهذا جعل شيخ الإسلام من الأوجه وهو الوجه الأول: في كل مسألة زعموا أن العقل يحيل الإثبات, نقول في العقل ما يدل على الإثبات، وتضرب بعض المبتدعة ببعض، فالجهمية تضربهم بالمعتزلة, والمعتزلة تضربهم بالأشاعرة, والأشاعرة تضربهم بالماتوريدية, وهكذا في تناسق؛ يعني هذا ضد هذا, هذا ضد هذا، حتى تصل إلى أن قول السنة هو الحق وأن العقل لا يحيل شيء من الصفات.(38/131)
وأعظم دليل على ذلك أن الله جل وعلا لا يقاس بأحد من خلقه، لا قياس شمول، ولا قياس منطق.
المسألة الثانية التي تعرض لها هي: أن نصوص الصفات تُعلم بالاضطرار ليست دليلا واحدا يمكن تأويله، ولا هما نصان يمكن أن يتأولا؛ ولكن هي كثيرة، كثيرة جدا، حيث إنه يعلم بالاضطرار أنَّ المراد بها وصف الله جل وعلا بهذه الصفات. فوصف الله جل وعلا بالعلم, وصف الله جل وعلا بالقدرة, بالكلام، بالسمع, بالبصر, بالحياة، هذا كثير, كثير جدا في القرآن، ولهذا في هذه الصفات لم ينكرها الأشاعرة, ولم ينكر بعضها المعتزلة كذلك غيرها من الصفات؛ الصفات الذاتية أو الفعلية, كصفة الوجه لله جل وعلا أوصفة اليدين، أو صفة القدم له سبحانه وتعالى, أو صفة الساق، أو غير ذلك من الصفات، كلها ثابتة لله جل جلاله، لا يُدخل فيها بتأويل, لأن التأويل يمتنع في هذا بقوة؛ بل بجزم لأن النصوص كثيرة جدا مما يُعلم معه أنه لا مجال للتأويل قطعا، ولا يدخل فيها التأويل؛ لأن التأويل كلمة أو جملة تأتي ويراد منها غير ظاهرها لقرينة -كما يُعرِّفون التأويل بأنه صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره بقرينة دلَّت على ذلك-, هذا يكون في دليل, يكون في مسألة, أما في نصوص الصفات فهي كثيرة كثرة يمتنع معها أن يكون كل هذه الكثرة يُخاض فيها بالتأويل، وإلا يكون أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بل النبوات جميعا أتت بما لا يدركه في صفات الله جل وعلا أحد.(38/132)
([34]) وهذه الثلاث هي صفات الكمال، صفات الكمال في البشر ترجع إلى هذه الثلاث؛ كمال العلم والقدرة والإرادة، إذا كان هناك علم وقدرة وإرادة نتج الفعل أو القول بما يوافق الحكمة، وإذا كان كلامه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حكمة فإنه ينفى عنه الباطل، فكمال هذه الصفات تنتج أنَّ ما قاله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هو الحق في نفسه، وكونه عليه الصلاة والسلام كاملا في العلم، وكاملا في القدرة البشرية، وكاملا في الإرادة الجازمة التي ليس فيها تردد، هذا متفق عليه بين الفرق، وإذا كان متفقا عليه فيلزم من ذلك أن يُتَّفق على كونه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حكيما صادقا فيما أخبر به، وإذا كان حكيما فيما أخبر به عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ من صفات الله، فمعنى ذلك أن ظاهر هذه الصفات مرادة؛ لأنه إذا كان يخبر عن الله بصفات كثيرة في كل مجلس وبتنوعها ولا يكون ظاهرها مرادا، فيقع في الخلق اعتقاد ما ليس ظاهره مرادا، هذا ينافي الحكمة.
ولهذا نقول: هذا البرهان ضد كل مبتدع، فنقول لكل مبتدع تأوَّل أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في الصفات أو في الغيبيات، نقول: أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق علما؟ فسيقول: بلى. أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق قدرة؟ فسيقول: –يعني القدرة البشرية المناسبة له- بلى. أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق إرادة فلا تردد في قلبه، بل هو جازم بما يعتقده عليه الصلاة والسلام، أكمل الخلق إرادة؟ فسيقول:بلى. فينتج من ذلك أنه أكمل الخلق حكمة، ثم ينتج من ذلك أنّ ما أخبر به هو الموافق للحكمة، وهو هذه الأخبار التي ظاهرها إثبات الصفات، ظاهرها إثبات البعث، إلى آخره.(38/133)
وإذا كان أكثر الخلق لا يستطيعون الدخول في هذه الأحاديث بالتأويل، وإنما التأويل صنيع الخاصة عند هؤلاء المبتدعة، فإما أن تنفى عنه عليه الصلاة والسلام، فيكون ناقضا لذلك الاعتقاد الأول في أنه عليه الصلاة والسلام كامل العلم والقدرة والإرادة، وإما أن يقال هو عليه الصلاة والسلام حكيم؛ بل هو أحكم الخلق، فيكون إذن في ذلك البرهان على إثبات الصفات والغيبيات.
([35]) ولهذا قال جل وعلا ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا?[فاطر:44]، فقال جل وعلا (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) العجْز إما أن يكون:
عن عدم علم أو نقص في العلم.
وإما عن عدم قدرة أو نقص في القدرة.
وإما عن عدم إرادة أو نقص في الإرادة.
هذا به يكون العجز، ولهذا قال سبحانه (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) وعلل ذلك يعني لِمَ لم يُعجزه شيء سبحانه؟ علل ذلك بقوله (إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) لكمال علمه وكمال قدرته ليس يعجزه شيء سبحانه وتعالى، فهكذا هو عليه الصلاة والسلام لكمال علمه البشري ولكمال قدرته البشرية وإرادته البشرية كَمُل قوله فعله عليه الصلاة والسلام وصار موافقا للحكمة.
([36]) الفلاسفة الإلهية؛ لأن الفلسفة لها عدة أقسام، فهنا قوله (الفلاسفة الإلهية) يعني الفلاسفة الذين اعتنوا بالإلهيات، والفلاسفة منهم من اعتنى بالرياضيات، ومنهم من اعتنى بالطبيعيات، ومنهم من اعتنى بأثر الأصوات والألحان والموسيقى إلى آخره، ومنهم من اعتنى بالإلهيات هؤلاء هم الذين اعتنوا بما يسميه الفلاسفة ما وراء الطبيعة، قسم من أقسام الفلسفة، وهو أعظمها شأنا عندهم.
يريد أن يقول أنّ الفلاسفة الإلهيين هم الذين اهتموا بالفلسفة الإلهية علموا تلك الحقائق.
([37]) يعني الأشعرية مثل الرازي والآمدي وأشباه هؤلاء.(38/134)
([38]) قوله (أن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات) يعني -لا من جهة الإثم، إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات من جهة الإثم، لا، قصده من جهة البرهان.
([39]) هذا التقسيم لطريقة الضلاّل في الوحي وفي النظر في النصوص مهم، وتأصيل وتقعيد لهذه الانحرافات العظيمة، فإن الضلال في هذا الباب على ثلاثة أقسام: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
وأهل التخييل: سماهم شيخ الإسلام بذلك؛ لأنهم قالوا الغيبيات عرضت في النصوص بما عرضت به من جهة الخيال لا أنها حقائق وإنما هي خيال، فليس ثَم بعث للأجساد وإنما هو خيال، وليس ثم جنة على ذلك الوصف إنما هو خيال، وليس ثَم نار على ذلك الوصف إنما هو خيال، وليس ثَم كذا وكذا وإنما هذه خيالات، وكذلك في أبواب الصفات فإنّ الله وصف نفسه بكذا وكذا وكذا وقالوا هذه أخيلة كلها؛ لأجل أن يتخيل الجمهور من الناس هذه الأشياء، فسئلوا لِمَ يُحتاج إلى ذلك؟ قالوا: لأن فلسفتنا دلت على أن الجماهير لا يُصلحها البرهان العقلي وإنما تصلحها الأخيلة، فإذا جُعلت لهم الأمور بتخييل يناسب ما يحدث الإصلاح عندهم بأن يكونوا أناسا صالحين في الدنيا، يَعْمُرونها دون تعدي وظلم، فإن هذا الذي يناسب ويصلح، فإذن يكون المراد كمن ذكر العذاب تخييل ليخوف الناس حتى يكونوا صالحين عند أهل الوهم والتخييل، وذكر الصفات كذلك المقصود منها التخييل.(38/135)
وهذا والعياذ بالله أعظم تكذيب لما جاءت به الرسل، ولما أخير الله جل وعلا به في كتبه جميعا، فإن الأخبار لا تقبل النسخ ولا التخصيص؛ لأنّ –الأخبار- إنما مدارها على الصدق أو الكذب والله جل جلاله أخبر بصفة الجنة وصفة النار وأخبر بالبعث في كتبه جميعا، فهذه أخبار لا تتغير بتغير الشرائع ولا بتغير الرسل؛ لأنها خبر صادق من الله جل جلاله، فهذا من قال إنه تخييل هو تكذيب لله جل وعلا ذلك أن الله أخبر بما هو كذب في نفسه، وهذا أعظم ذنب أن يكون المرء مكذبا لله جل وعلا فيما جاءت به الرسل جميعا.
هؤلاء في نصوص الصفات أيضا سلكوا هذا المسلك، فقالوا: في نصوص الصفات ظهرت مظهر التجسيم -كما يقولون- لله وجه، ولله يدان، ولله أعين، ولله جل وعلا صفة كذا وكذا وكذا، وإنما المقصود أن يتخيل الناس أن إلههم له هذه الصفات التي هي من جنس صفاتهم، فيكون قويا قديرا له ذلك، كما يتخيلون الملك القوي في الدنيا فيكون ذلك أبلغ في طاعته وفي عبادته. وهذا قول الفلاسفة الإسلاميين يعني المنتسبين للإسلام الغلاة منهم، وإلا فإن الفلاسفة طبقات في هذا.
وكذلك منهم يعني من الفلاسفة في هذا: الباطنية -لأن الباطنية فلاسفة-، الإسماعيلية وإخوان الصفا والفرق التي تفرعت عن ذلك فإن منهم طوائف تقول بهذا التخييل وحتى النبوات قالوا إنها يمكن أن يتحصل عليها، والحقائق -إذا كانت هذه تخاييل- الحقائق من يدركها؟ يقولون يدركها من صَفَّى باطنه عن الأوهام من الفلاسفة الإلهيين وأشباههم.
المقصود من هذا أن هذا القسم هم الغلاة وهم كفار عند علماء الإسلام؛ بل أجمعت الأمة على كفر من قال بهذا، فمن قال إن شيئا من النصوص إنما هو للتخييل وللإيهام لأجل مناسبة الجمهور وإلا فإنه لا حقيقة له، فإنه تكذيب لما أخبر الله جل وعلا به، وهذا كفر بالاتفاق.(38/136)
وكذلك الباطنية والفلاسفة من جهة الأعمال أيضا يقولون إن الأمر بالأعمال كان لأجل الإصلاح، فإذا صلحت النفس وأشرقت فلا حاجة إلى العمل، لهذا الفلاسفة وغلاة الباطنية يسقطون على أنفسهم العلم فلا يعملون البتة لا صلاة وصيام ولا زكاة ولا حج ولا سائر الأعمال الصالحة؛ لأن العمل مقصود منه شيء وهو الوصول إلى الحقيقة وتصفية الباطن عن الأغيار، فإذا وصل إلى ذلك سقط عنه ما فُرض على العامة، وهذه طريقة غلاة الباطنية والفلاسفة.
القسم الثاني من الضلال في الوحي؛ أهل التأويل: وأهل التأويل المقصود بهم الجهمية؛ فإن الجهمية هم الذين أسسوا بدعة التأويل بصرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر بقرائن عقلية، فلا يصفون الله جل وعلا بما يستحق من الصفات التي أخبر بها عن نفسه أو أخبر بها عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقولون لابد فيها من التأويل لأن البرهان العقلي القاطع دلنا على أنه لا يمكن أن يوصف بهذه الصفات، هذا قول الجهمية الأوائل، فإنه لا يوصف الله جل وعلا عندهم إلا بصفة واحدة وهي صفة الوجود المطلق من القيود، والمعتزلة أتوا بعدهم فأثبتوا ثلاثا من الصفات وأولوا الباقي، ثم الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب فأثبتوا سبعا، وتبعهم عليها الأشاعرة والماتريدية فجعلوا الصفات سبعا أو جعلوها عشرين بنوع من التفصيل، وأوَّلوا الباقي، وعندهم القاعدة أن التأويل هو طريقة المحققين، وطريقة الناقصين التفويض.
لهذا كل من تفرع عن الجهمية يقول بالتأويل، لهذا السلف كل مؤول يعدونه جهميا، فالأشعري يقولون هو جهمي؛ لأنه أوّل، وبدعة التأويل أتى بها الجهمية فيُنسب كل من تأوَّل إلى جهم لأنه وافقه على هذا الأصل وهو أن التأويل يكون في الصفات، فنفوا على الله جل وعلا ما يستحقه من صفات الجمال والجلال وغير ذلك لأجل التأويل بجامع القرينة العقلية التي أصَّلوها من عند أنفسهم.(38/137)
الفرقة الثالثة؛ أهل التجهيل: وأهل التجهيل ذكر منهم شيخ الإسلام صنفا وهم صنفان:
ذكر أن أهل التجهيل الذين يقولون إنَّ النصوص نصوص الصفات والغيبيات لا يعلم أحدا معناها على الحقيقة، وإنما تمر كما جاءت ولا يُعلم معناها، كما ينقلون مخطئين في فهم ما نقلوا في كلام من نقلوه بأن الأئمة أحمد وغيره قالوا: لا كيف ولا معنى في نصوص الصفات والغيبيات. فيقولون إن المعنى لا يدركه أحد لا جبريل كان يعرف المعنى، ولا الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف المعنى ولا الصحابة كانوا يعرفون المعنى، فلا أحد يعلم المعنى على الحقيقة، وعلى هذا يكونون أهل تجهيل لأنهم قالوا إن الأمة؛ بل إن جميع الخلق يجهلون معنى النصوص فلا أحد يعلم معنى النصوص الغيبية، وهذا معناه أنهم جهال بما أنزل الله جل وعلا على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فمثلا عندهم معنى (يأتي) معنى الإتيان قد يكون هو معنى الرحمة، وقد يكون هو معنى الاستواء، وقد يكون هو معنى الغضب، وقد يكون هو معنى القدرة إلى آخره، فالمعاني لا تفهم بالعربية، وإنما الكلام جرى على هذا النحو لكن معناه لا يعلم، لا أحد يعلم معناه، هذه فرقة وهم الغلاة في هذا الباب، مع أنه منسوب هذا إلى طائفة من المنتسبين إلى السلف كما قال شيخ الإسلام هنا.
والطائفة الأخرى من أهل التجهيل: الذين يفوضون المعنى يقولون المعنى لا نعلمه فنفوّض المعنى إلى الله جل وعلا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم المعنى ولكن لم يبينه، ومن الصحابة من علم المعنى ولكن لم يبينه، وإنما سِيقت نصوص الصفات والغيبيات هكذا دون تفسير لها، ومعانيها غير هذه الظاهرة منها، لهذا يقولون معنى قول السلف أمروها كما جاءت يعني لا تخوضوا فيها.(38/138)
وهذا باطل بوضوح؛ لأنهم قالوا كما جاءت، ولم يقولوا أمروها فقط، وإمرارها كما جاءت في نصها العربي كما هو معلوم، وهذا هو المذهب المعروف بمذهب أهل التفويض، مذهب المفوضة، فإن المفوضة أهل التجهيل لأنهم يقولون نجهل المعنى، وهذا قول كثير من المنتسبين لأحمد من المتأخرين، وقول طائفة من المنتسبين للأشعرية من المتأخرين، ويظنون أن هذا مذهب السلف، وهذا باطل فإنه مذهب أهل التجهيل، ولهذا من عقائد الأشعرية التفويض؛ تفويض المعنى من عقائد الأشاعرة، لهذا في منظومتهم المشهورة في الجوهرة:
وكل نص أوهم التشبيه أوِّله أو فوّض ورُم تنزيهَا
أوِّله كطريقة أهل التأويل وهو الكمال عندهم (أو فوّض) المعنى (ورم تنزيها) وهذا قول طائفة منهم.
السلف وأئمتهم يفوضون ولكن يفوضون الكيفية؛ لأن الكيفية لا يعلمها إلا الله جل وعلا، كيف اتصف بهذه الصفة؟ كيف صفته الوجه؟ كيف صفته القدم؟ كيف صفته اليد؟ كيف صفته القدرة؟ لا يعلمها إلا الله جل وعلا، أما معنى اليد فنعلمه معنى الوجه نعلمه، معنى القدم نعلمه، معنى الرحمة نعلمها، إلى آخره.
فإذن التفويض اللائق أنّ يفوَّض ويوكل العلم إلى الله جل وعلا ولا يعلم أحد تأويله إلا الله سبحانه وتعالى هو تفويض الكيفية لا تفويض المعنى، أما تفويض المعنى فهو من التجهيل، وهذا قول طائفة من الضُّلاَّل؛ بل قد قال الأئمة إنَّ أهل التفويض يعني أهل التجهيل شر من أهل التأويل؛ لأنهم سلبوا المعنى أصلا عن النص الذي يعلم، وأولئك أوَّلوا فأبقوا المعنى ولكن أولوا فأبقوا المعنى ولكن أولوه إلى معنى آخر، والمعنى الآخر الذي أوَّله إليه أهل التأويل صحيح في نفسه ولكنه ليس صحيحا بالنسبة لفظ الذي أولوه، فمثلا أولوا الرحمة بأنها الإنعام، الإنعام صحيح في نفسه أن الله متصف بالإنعام، ولكن لا يصلح أن يكون تفسيرا للرحمة؛ لأن الرحمة صفة من حيث هي معلومة المعنى.(38/139)
المقصود من ذلك أن يُحذر من هذه الطرائق الثلاث، وكلها مناقضة لطريقة السلف، فأعظمها الأولى أهل التخييل وهم كفار، ويليها أهل التجهيل ومنهم من يكفر إذا ادَّعى أن هذه النصوص لا معنى لها البتة، وأخفهم أهل التأويل وأولئك لا يطلق القول بكفرهم؛ ولكن منهم وهم الغلاة؛ غلاة الجهمية وغلاة المعتزلة وأشباههم منهم من حكم بكفره لتكذيبه ما جاءت به النصوص ورده ما دلت عليه. نكتفي بهذا القدر.
.. هو إذا كان يقول أن جبريل لا يعلم، النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم، الصحابة لا يعلمون، لا أحد يعلم المعنى، هذا صنف.
وإذا كان هؤلاء علموا المعنى، والسادات من العلماء وعلموا المعنى؛ لكن لم يبين المعنى لأحد؛ بل يعلمون ويسكتون هذا قول المفوضة، يقول أنا ما أعلم المعنى، أفوض المعنى لله جل وعلا.
([40]) هذا البحث مهم جدا؛ وذاك لأنّ لفظ (التأويل) لفظ جاء في الكتاب والسنة، وجاء به اصطلاح جديد عند علماء الأصول، وتداخل المصطلحات فيما يأتي به العلماء من مصطلح يكون بخلاف المراد بالمصطلح الشرعي يُحدث لَبْسًا كثيرا إلا عند المحقق من أهل العلم، وذلك أنّ العلماء قد يحتاجون إلى وضع اصطلاح لمعنى من المعاني أو شيء من العلوم، فإذا كان هذا اللفظ الذي اصطلح عليه لمعنى من المعاني بتعريفه موجودا في الكتاب والسنة بمعنى آخر وقع الالتباس؛ في أن المتعاطي لذلك العلم يظن أن المراد بلفظ (التأويل) فيما يرد في الكتاب والسنة هو المراد به في ذلك العلم، وهذا له نظائر ذكرت لكم بعضها فيما مضى، ومنها لفظ (التأويل) هذا فإنه لفظ قد جاء في القرآن وجاء في السنة.(38/140)
ففي القرآن مثلا قول الله جل وعلا ?يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ?[يوسف:100]، ?وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:44]، وقال جل وعلا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ?[الأعراف:53]، وقال جل وعلا ?فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59]، فهذه النصوص فيها استعمال لفظ (تأويل) وهذا اللفظ يراد منه ما تؤول إليه حقيقة الشيء، ما يؤول إليه الشيء أو تؤول إليه حقيقته؛ لأنه مأخوذ من آل يؤول بمعنى صار يصير، آل الشيء إلى كذا وكذا يؤول إلى كذا، ومعلوم أن الكلام قسمان:
إنشاء وهو الأمر والنهي والطلب والاستخبار ونحو ذلك.
وخبر.
فالإنشاء له تأويل, والخبر له تأويل؛ يعني في النصوص.
فتأويل الإنشاءات امتثالها؛ تأويل الأمر امتثال الأمر، وتأويل النهي امتثال النهي يعني البعد عنه, وذاك لأنه ما تؤول إليه حقيقة الشيء -كما ذكرنا-، هذا التأويل, فحقيقة الأمر بالشيء من الآمر يؤول إلى أنَّ المطلوب امتثاله، وحقيقة ما يؤول إليه النهي أن المطلوب الانتهاء عنه، فأوامر الله جل وعلا ونواهيه تأويلها امتثال الأمر والانتهاء عن النهي.(38/141)
والأخبار مثل الخبر عن الجنة والنار والخبر عن صفات الله جل وعلا، الخبر عن العذاب, عن النعيم, عن ما يكون في عرصات يوم القيامة، وأشباه ذلك من المغيبات، أو ما يكون من المغيب في الدنيا بعد زمن تنزل القرآن، فهذه تأويلها وقوعها؛ لأنها هي الحقيقة التي تؤول إليها كما قال جل وعلا (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ)؛ يعني ما تؤول إليه حقيقة تلك الأخبار للوعد والوعيد، وما تؤول إليه الحقيقة هو وقوعها، لهذا قال (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث] يعني يوم يأتي وقوع ذلك وما تؤول إليه تلك الأخبار من وقوعها كما أخبر الله جل وعلا ?يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ?[الأعراف53].إلى آخر الآيات.
هذه المغيبات التي أخبر الله جل وعلا بها إما من صفاته أو أفعاله أو الجنة والنار أوما سيكون في المستقبل أو أخبار الملائكة إلى آخره، ما تؤول إليه حقيقة الخبر منقسم إلى:
المعنى الذي يُفهم منه وقوع الشيء.
والكيفية لوقوعه.
المعنى والكيفية، فاجتماع المعنى والكيفية يُقال له تأويل وهو أتم التأويل؛ يعني ما تؤول إليه حقيقة إخبار الله عن صفاته هو معناها وكيفية اتصاف الله بها، ما تؤول إليه حقيقة نعيم الجنة -مما أخبر الله به- هو معنى ذلك وكيفيته.
فإذن وقوع تلك الأخبار هو تأويلها، وما تؤول إليه حقيقتها إما أن يكون آيِلاً تأويلا لعناها حيث نفهم الوقوع بمعنى معين، وإما أن يكون تأويلا لكيفيتها يعني مع المعنى.(38/142)
ولهذا جاء إثبات فهم التأويل وجاء نفيه، تأويل المغيبات، نقول نعلم التأويل ولا نعلمه؛ فنعلمه باعتبار، ولا نعلمه باعتبار؛ فإذا أريد بالتأويل ما تؤول إليه حقيقته من حيث وقوعها من جهة المعنى فقط فإن هذا نعلمه؛ لأن القرآن جاء بلفظ عربي مبين، وعلى هذا وقْف من وقَف من السلف على قوله تعالى ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ?[آل عمران:7]، فيعلم الراسخون في العلم التأويل، والله جل وعلا يعلم تأويله، والمراد من هذا بعلم الراسخين المراد منه أنهم يعلمون تأويل المعنى.
والنوع الثاني من تأويل الخبر أن تعلم الكيفية وهذا هو الذي في المغيبات لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وعلى هذا قول من وقف من السلف على لفظ الجلالة (اللَّهُ) وعدّه وقفا لازما (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) يعني الكيفية.
لهذا في تفسير الأحلام ?وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:44]، ?هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ?[يوسف:100] يعني ما تؤول........
أنّ التأويل في الكتاب والسنة يُراد منه ما تؤول إليه حقيقة الشيء، وهذا الشيء قد يكون إنشاء؛ أمر أو نهي، وقد يكون خبرا، ففي الإنشاء آية النساء ?ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?، لأنه هناك أمر ونهي ?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59]؛ يعني من جهة إنفاذ أمر الله ونهيه.
والخبر مثل ما في آية آل عمران وآية الأعراف وفي غيرها.(38/143)
جاء أهل الاصطلاح وعرّفوا التأويل بأنه صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة، وبعضهم يعرِّف التأويل بقوله صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، وهؤلاء الذين عرَّفوا بهذا التعريف، الكلام الصحيح ويُحتاج غليه في الفقه في بعض الأشياء، وهذا التأويل منه ما هو صحيح في نفسه، ومنه ما هو ضعيف، ومنه ما هو باطل لا يصح أن يسمى تأويلا حتى عند الأصوليين.
فإذن هذا القسم من التأويل، يُدَّعى في أشياء أنها تأويل وهو لا يصح عليها التأويل حتى في اصطلاح أهل الأصول.
في نصوص الصفات -وهو ما الكلام عليه الآن- يُقال هذه الآية ليس المراد بها الظاهر وإنما المراد بها كذا، وهذا هو الذي يسمى التأويل، وتأويلها كذا؛ بمعنى أن هذا اللفظ في الصفات ليس مرادا، والمراد كذا للتأويل، والتأويل غير المجاز، الظاهر والمؤول غير الحقيقة والمجاز، فهذا التأويل ظنَّه أصحابه حقا لمجيء النصوص به في قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) فعرّفوا التأويل باصطلاحهم وحملوا هذا التعريف على ما جاء في النصوص فوقع الخلط والباطل.
والصواب في هذا أن التأويل على شرح الأصوليين صحيح إذا تمت شروطه، ولكن إنما ينقل اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إذا لم يكن الظاهر مرادا، هذا شرطه، بحيث إنه يُنقل اللفظ عن الظاهر إلى غيره، يُنقل عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، إذا ظهر أنَّ هذا الاحتمال الراجح غير مراد، أو أنَّ الظاهر غير مراد.
ولهذا يتناقض بعض أهل التفويض مثل ما ذكر لكم شيخ الإسلام من أتباع الأئمة الأربعة يقولون: تُمرّ على ظاهرها أو تُجرى على ظواهرها وتأويلها كذا، ما يستقيم، هذا غلط حتى في تعريف التأويل عند أهله، فلا يقال تجرى على ظاهرها ولا يعلم تأويلها إلا الله، هذا تناقض؛ لأن معنى: تجرى على ظاهرها: أنك لم تحتج إلى التأويل فتفهم المعنى على الظاهر.
فإذن لا إعمال لتعريف التأويل هنا.(38/144)
فإذن تعريف التأويل يكون النزاع أدق فيه مع من يقول: هذا اللفظ ظاهره غير مراد، وإنما المراد كذا وكذا من الاحتمال المرجوح لقرينة كذا وكذا.
وأما من قال الظاهر مراد ولا يَعلم المعنى إلا الله، فهذا خلط من الكلام وتناقض، مثل ما ذكر لك الشيخ تقي الدين رحمه الله.
إذن يبقى الكلام مع من يقول بتعريف التأويل على نحو ما ذكرنا، وجوابه فيما يورد من آيات الصفات أن الظاهر هو الذي ينبغي أن يفهم الكلام عليه؛ ظاهر اللفظ أو ظاهر الكلام؛ لأن السلف قالوا أمروها كما جاءت، وقال بعضهم تجرى على ظاهرها، وإجراؤها على ظاهرها ليس راجعا إلى لفظ، وإنما يرجع إلى اللفظ والتركيب جميعا، فإجراء الكلام على ظاهره يعني ما تفهمه من الكلام على ظاهره، والكلام هذا قد يكون كلمة وقد يكون جملة، فإذا قلنا بهذا فلا احتياج إلى إدخال التأويل في نصوص الغيبيات أصلا، وذلك لسببين:
الأول: أنَّ نصوص الغيبيات لا يُعلم فيها المعنى والكيفية جميعا حتى نقول إنَّ الاحتمال الراجح غير مراد وإنما المراد الاحتمال المرجوح، ومن المتقرر أنَّ صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه أو عن الاحتمال الراجح في تعريف التأويل مشروط بعدم مناسبة الاحتمال الراجح أو الظاهر -كما ذكرتُ لك-، وهذا في نصوص الغيبيات غير متحقق؛ لأننا لا نعلم حقيقة الكيفية وإنما نعلم تأويلها بمعنى المعنى؛ نعلم معناها، أما الكيفية فلا.
فإذن صرفُها ليس له وجه لأنَّ الحقيقة بكمالها معنى وكيفية لا نعلمها، وإنما نعلم المعنى فقط، والمعنى لا يخوِّلنا أن نصرف اللفظ عن احتماله الراجح؛ لأن اللفظ مشتمل على معنى وكيفية، والكيفية غير معلومة فلا بد من إبقاء دلالة اللفظ على ما هي عليه. هذا واحد.
الثاني: أن ظاهر الكلام إذا فهمناه فإننا لا نحتاج معه إلى التأويل؛ لأنَّ ظاهر الكلام يُفهم المراد.(38/145)
مثال ذلك قول الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا?[الفرقان45]، في قوله(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) ليس ظاهر الكلام أننا نرى ربنا جل وعلا في الدنيا وكيف يمد الظل في الدنيا, ليس هذا ظاهر الكلام، وإنما الذي يفهمه العربي من ذلك (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) يعني إلى بديع صَنعته وإلى بديع قدرته سبحانه وتعالى.
فإذن ظاهر الكلام يفهم منه العربي شيئا لا يحتاج الذي يريد فهمه إلى أن ينظر إلى كلمة فيه؛ لأنه إذا نظر إلى كلمة حجبته عن رؤية الكل، فلهذا احتاج كثير من العجم إلى التأويل؛ لأنهم ما يفهمون الكلام إلا بتركيب أفراده كلمة كلمتين ثلاثة، أما الكلام بعمومه ليس عندهم من فهم إلا بفهم مفرداته، مثل عندما تأتي تدرس مثلا اللغة الإنجليزية أو تدرس لغة أخرى، حتى تفهم الجملة لابد تحللها، تقول هذه معناها كذا وهذه معناها كذا ثم تتصور الجميع، العربي الذي يفهم العربية لا يحتاج إلى أن يحلل الألفاظ، وإنما يفهمه جميعا بفهم واحد وهو المسمّى: الظاهر التركيبي.
فإذن الظاهر يكون ظاهر الكلام بتركيبه وهو الذي يُفهم منه وهذا لا يُحتاج معه إلى التأويل.
مثاله أيضا قول الله جل وعلا ?وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?[البقرة:115]، ظاهر هذه الآية واضح في أنها ليست من آيات الصفات وإنما المقصود بها الكلام عن القبلة، (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) يعني الوُجْهَة؛ وُجْهَة الله وهي القبلة.(38/146)
ومثال ذلك أيضا قوله جل وعلا في سورة النحل ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ?[النحل:26]، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) يعني أتاه الله جل وعلا بعذابه بقدرته من القواعد وليس في الآية كما يفهمها أي عربي صحيح العربية أنّ المقصود منها إتيان الله جل وعلا بذاته إلى ذلك المكان إلى قواعده فيهدمه جل وعلا بإتيانه بذاته من القواعد، ليس هذا هو ظاهر الكلام؛ لأن ظاهر الكلام (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ) المقصود هنا الإتيان بالصفات ليس إتيان الذات، هذا واضح من ظاهر الكلام، ولهذا لا أحد لا من السلف ولا من الخلف يقول هنا تأويلها أن المراد هنا بالإتيان إتيان الله وتأويلها هو كذا وكذا وإنما المقصود هو الإتيان بالصفات.
وهذا بخلاف قول الله جل وعلا، قالوا –يعين أهل التأويل- ?وَجَاءَ رَبُّكَ?[الفجر:22]، وجاء أمر ربك، فتلحظ من الكلام أنه على هذا التأويل ظاهر الكلام يضطرب ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]، يصبح المعنى وجاء أمر ربك والملك صفا صفا، هذا تلحظ أن المعنى اختلّ بهذا، ولهذا نقول الظاهر هنا –ما يفهم من ظاهر الكلام- هذا غير ما أولوا به وإنما هو على ظاهره من أن المجيء هو صفة وهكذا.
فإذن المقصود هنا أنّ الظاهر تارة يُفهم بكلمة، وتارة يفهم من تركيب، فما أُدعي فيه التأويل من المواطن التي أُحتيج فيها إلى التأويل مثل الأمثلة التي ذكرنا، فإنه نقول ليس ثم تأويل فيها هنا على اصطلاحكم، وإنما هذا ظاهر فالكلام لم يزل باقيا على ظاهره، والمقصود به الكلام التركيبي.(38/147)
فتحصلنا من هذا البحث -وله طول تراجعونه في مظانه- أنَّ التأويل صار له ثلاث استعمالات: اثنان منها جاءت في الكتاب والسنة، وواحد في اصطلاح المتأخرين وهو الذي حملوا آيات الصفات عليه وهذا باطل لأنه:
أولا: لفظ محدث اصطلاحي فلا تحكم الاصطلاحات على النصوص.
وثانيا: ما ذكرنا من أن ذلك يُبطل دِلالة الأخبار الغيبية، وهذا باطل أيضا.
([41]) كلام ابن عباس هذا ظاهر ومعنى قوله وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل فمن ادعى علمه فهو كاذب، المقصود به حقيقة الغيبيات التي انفرد الله بها وهو الكيفية.
([42]) وتدبر القرآن جميعا بقوله ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ?[المؤمنون:68]، ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?[محمد:24]، ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82]، ونحو ذلك من الآيات، تدبر القرآن جميعا هو الذي أُمرنا به، تدبر القرآن جميعا يوجب أن يرد المتشابه منه إلى المحكم كما قال جل وعلا ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، فالكتاب؛ القرآن منه متشابه ومنه محكم، فمن تدبر القرآن كله كما أمر الله جل وعلا ردّ ما تشابه منه إلى المحكم فخَلَصَ من الإشكال، وكل زائغ عن الحق فاته تدبر القرآن جميعا، فإنه قد يتدبر بعضه، الخوارج تدبروا بعض القرآن وتركوا تدبُّر بعضه، المرجئة كذلك، القدرية كذلك، الأشاعرة، الماتريدية، المعتزلة، الجهمية، جميع الفئات، ضُلاّل الصوفية وهكذا، لكن أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح رحمهم الله تعالى وأجزل لهم المثوبة، هؤلاء تدبروا القرآن كلَّه فما تشابه في موضع ردّوه إلى المحكمات فاتضح لهم الشبيه، اتضح لهم المعنى، سواء ذلك في باب الأسماء أو في باب الأحكام أو في باب المغيبات.(38/148)
([43]) ما سبق كما ذكر إنما هو أصول لتُعْلَم القواعد التي بنى عليها السلف مذهبهم، والقواعد التي بنى عليها المبتدعة مذاهبهم، وتقاسيم المبتدعة في ذلك، وهذه الرسالة مصنفة لبيان مذهب السلف، ولهذا ما سيأتي في الفصل نُقُول كثيرة طويلة عن السلف، وعن من صنف في عقيدة السلف في هذا الباب، ما ينبئ عن معتقدهم في الصفات، وفي الإيمان، وفي الغيبيات، وفي أشباه ذلك، والمخالفون –كما ذكر- هم يعتمدون العقل ويجعلون السمع تابعا للعقل، هذا أصل من أصول الضلال، وإن المتكلمين جميعا اتفقوا على تقديم العقل على النقل، اتفقوا على أن النقل هو القاضي المحكَّم، وأما السمع الشرع، النقل فإنه شاهد من الشواهد، فإن زكاه العقل قُبِل وإلا رُدّ وهذا جعل الجهمية والمعتزلة والكُّلابية والأشاعرة والماتريدية والإكرامية وأصناف الضالين في هذا الباب، جعلهم فرقة واحدة.
فهذا الأصل يجعل كل من تفرَّع بل كل من قال به يجعله جهميا؛ لأن الجهمية والمعتزلة هم الذين أصلوا هذا الأصل، وأن النصوص تابعة للعقل وليس العقل تابعا للنصوص، ولهذا السلف كل من خالف في هذا الباب يعدونه جهميا، قد لا يكون جهميا من جهة تفاصيل المذهب؛ ولكنه جهمي إذْ تبعهم في الأصل الذي أصلوه وهو أن العقل مقدم على النقل، وأنَّ النقل إذا خالف العقل أو لم يدلَّ عليه العقل فإنه لابد من تأويله أو ردّه.
فإذن كل من خالف منهج السلف فيُعزى إلى الجهمية من هذه الجهة، وقد يُعزى كلٌّ إلى مذهبه باعتبار النسبة الأخص، فالنسبة العامة للمبتدعة في أبواب الصفات والغيبيات: الجهمية، والنسبة الخاصة كلٌّ إلى مذهبه المعتزلي ينسب إلى قومه، والأشعري أشعري وهكذا.
هذا الفصل فيه ذَكَرَ نُقول عن السلف وعمّن نقل مذهبهم وهي مهمة في هذا تأصيلا وتفريعا.(38/149)
([44]) وكون الله جل وعلا فوق العرش دليله النقل؛ السمع، أما العقل فلا يدل عليه، ولهذا قال أهل العلم: العلو يدل عليه النقل والعقل، وأما الاستواء على العرش فدليله السمع.
([45]) إذن قول السلف (أمرّوها كما جاءت) وفي رواية لبعضهم (أمروها كما جاءت بلا كيف)، قوله (أمروها كما جاءت) يعني بما دلّ عليها ظاهرها، وظاهرها يدل على إثبات الصفة، لهذا قال (أمرّوها كما جاءت ردّ على المعطلة) لأن المعطلة هم نفاة الصفات الذين يُخلون الله عز وجل من صفات الجلال والجمال، فقوله (أمروها كما جاءت) ردّ على هؤلاء المعطلة؛ لأن قوله (كما جاءت) يعني على ظاهرها وظاهرها إثبات الصفات.
وقوله (بلا كيف) حتى لا يتوهم أن ظاهرها فيه الكيفية كما في قوله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، لأن اليدين لهما كفيفة معينة وكذلك ?فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?[الطور:48]، ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:46]، وأشباه ذلك، كيفية السمع، كيفية البصر، كيفية العينين كذلك ?يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ?[القلم42] التي هي ساق الرحمن جل وعلا، كذلك لما جاء في الأحاديث «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا آخر كل ليلة» في رواية «في الثلث الأخير» في رواية «في النصف الأخير» كيف ينزل؟ ، و(وإن الله استوى على العرش) ، ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، كيف استوى؟ ، هذا كله ليس مرادا، فإثبات الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية، مع وجوب أن يقطع الموحِّد الطمع في إدراك الكيفية، لا يمكن لأحد مهما أجال ذهنه أن يدرك الكيفية، مهما فكر وفكر وفكر لا يمكن أن يدرك ولا أن يعلم ولا أن يأتي على ذهنه أصلا كيفية اتصاف الرحمن بصفاته، لا من جهة الصواب في ذلك، ولا من جهة مقاربته، يعني أن كيفية اتصاف الله جل وعلا بصفاته لا يحوم حوله ذهن بشر مطلقا، حتى ولو فكَّر فكل الأوهام والتفكيرات لن يكون منها كيفية اتصاف الله جل وعلا بصفاته.(38/150)
قال أهل العلم ذلك لأن عقل البشر إنما يدور فيه أحد ثلاثة أشياء:
الأول: أن يدور فيه ما رآه، واحد شفته فيأتي في الذهن صورة هذا المرئي، بناء رأيته إذا أدرت في ذهنك أتى في ذهنك صورة هذا المرئي، وهذا واضح، والله جل وعلا لم يُرَ، فلا يمكن أن يدور في الذهن ذلك.
الثاني: أن يدور في الذهن رؤيةُ مثيله، مثل ما ترى إنسان فتقول أنا رأيت أحدا سُعوديا، والثاني يقول وأنا أيضا رأيت سعوديا، هذا وهذا مثيلان تكوّن صورة من جهة اللباس والهيئة إلى آخره لأنه رأى مثيلا له، رأيت البِناء الفلاني هذا يقول أنا رأيت مثل ذلك، فيتصور هذا ما عند ذاك، وذاك ما عند هذا باعتبار رؤية المثيل، فرؤية المثيل تجعل الصورة والكيفية في الذهن.
النوع الثالث: مما يدور في الذهن ما يكون داخلا ضمن تفريع الجزئي عن الكلي وهو القياس؛ يعني يدور في الذهن من تصور الشيء من جهة الكيفية ما يقاس عليه، مثلا لو أتى أحد وقال لك: هناك خبز في الصين من صفته أنه مستطيل ثم يكون مدوّرا ثم يكون مستقيما، يعني اختلف شكله؛ لكن لمعرفتك بالخبز يمكن أن تتصور كيفية ذلك الخبز لاشتراكه معه في الجنس.
وهذا من جهة التنظير، فإذن الذهن يمكن أن يدور فيه رؤية الشيء أو رؤية مثيل له أو رؤية ما يقاس عليه، وأما غير ذلك فلا يدور في الذهن كيفية شيء أصلا لم يره ولم ير مثيلا له ولاما يقاس عليه، كيف يأتي للذهن؟ فهذا واقع في اتصاف الله جل وعلا بصفاته، فإن اتصافه سبحانه وتعالى وجل وتقدس وتعاظم بصفاته له المعنى وله الكيفية، لنا من ذلك العلم بالمعاني، والعلم بأصل المعنى دون كماله أيضا.
وأما الكيفية فلا يمكن أن تحوم لأحد من البشر على بال، في هذا في يوم القيامة يأتيهم الله جل وعلا في صورة حتى يعرفه خاصة عباده.(38/151)
فإذن الكيفية مقطوع الطمع عن إدراكها، لهذا قال بعض أهل العلم: كل ما دار بذهنك فالله جل وعلا بخلافه؛ لأنه لا يمكن أن تتصور ذلك، لا يمكن أن يأتي للذهن شيء؛ لأن العقل إنما تأتيه المعرفة لرؤية الشيء أو رؤية مثيله أو رؤية ما يقاس عليه، لهذا كلمة السلف هذه عظيمة جدا (أمروها كما جاءت بلا كيف) وإمرارها كما جاءت ليس تعطيلا لها عن المعنى كما يقول المفوضة.
.. السلف حين قالوا أمروها كما جاءت بلا كيف أرادوا صفات الرب جل وعلا، أما الأمور الغيبية فلا، ليست كل الأمور الغيبية، مثلا الميزان أمر غبي؛ لكن رأينا ميزان فيمكن أن نتصور الميزان في الآخرة من جهة ما يقاس عليه، لكن الله جل جلاله لا يمكن، الجنة رأينا في الدنيا بعض النعيم فيمكن أن نتصور نعيم الجنة؛ لكن على كماله وكيفيته التامة؟ لا، لكن أصول الكيفية يمكن أن نتصورها، وكذلك عذاب أهل النار يمكن أن نتصوره لأننا رأينا مثالا له، فالدنيا هذه جعل الله جل وعلا فيها أمثلة للجنة وأمثلة للنار؛ بل ما من شيء إلا وهو مثال لما في الجنة أو ما في النار، ما من شيء إلا وهو مثال لهذه أو هذه، لهذا قال بعض أهل العلم: إن جميع المؤنسات في الدنيا؛ جهة المنظر ما يؤنس العين، أو ما تلذ له الأذن، أو ما يلذ له المتكلم، أو يلذ له البدن داخل البدن أو خارج البدن، لكل ما في الدنيا، إنما هو مثال يذكرك بالجنة، إذا رأيت شيئا مؤنسا، صاحب القلب الحي يتذكر الجنة مباشرة هذا نعيم جُعل في الدنيا لأهلها نعمة من الله جل وعلا وهو يُذكِّر بالجنة، وكذلك إذا رأيت أي مؤذٍ في الدنيا بجميع أنواع المؤذيات من البشر، ومن الجمادات التي تؤذي، ومن الحشرات والطيور والكواسر والسباع وأشباه ذلك، فإن هذا مثال للمؤذيات.(38/152)
لهذا لما ذكر بعضهم وجود المؤذيات من الحشرات وأشباه ذلك مما يؤذي، فأجابه بعض أهل العلم بقوله: لتتذكر النار. قال وجود العقارب، وجود الحيات، وجود كذا وكذا وجود السباع وهذا يهجم، قال: هذا لتتذكر النار.
وهذا من توفيق الله لهذا العالم هذا الرد الجميل، هذا واقع، فإن من حب الله جل وعلا في وجود ما تستلذ له وما لا ترغب في رؤيته، أو ما يؤذي، سواء آذاك أو آذى غيرك أنك تتذكر العذاب، تتذكر النار.
فإذن الحجة قامت على العباد بالقرآن، وبآيات الله في الآفاق وفي الأنفس وفي ما حولك، ما من شيء إلا يذكرك بما أخبر الله به، فالعباد إذن كما قال الله جل وعلا ?لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك:10-11]، هذا باب واسع. نعم
([46]) مُطَرِّف بن عبد الله الشِّخِّير.
([47]) إذن لقالوا الاستواء مجهول، لو كانوا يجهلون كالمفوضة، لو كان السلف يجهلون المعنى لقالوا الاستواء مجهول، لكن ما قالوا الاستواء غير مجهول وفي بعض ألفاظها الاستواء معلوم هذا يدل على أن معنى الاستواء على العرش يعلمونه هذا فيه رد على هؤلاء. نعم.
([48]) [انتهى الشريط الثالث].(38/153)
([49])هذا واضح تمام الوضوح، وهو قول السلف (أمروها كما جاءت) فيه إثبات المعنى، وقولهم (بلا كيف) دليل آخر على أنهم يثبتون المعنى؛ لأن من لا يثبت المعنى لا يحتاج أن يقول (بلا كيف)، وإنما الذي يحتاج إلى أن ينفي الكيفية لم يثبت المعنى، فلما نفي السلف الكيفية في إثبات الصفات دلّ ذلك على أنهم يثبتون المعنى، ولكن ينفون العلم بالكيفية، وهذا ظاهر أيضا في قول ربيعة ومالك (الاستواء غير مجهول) يعني علمه، فإن الاستواء في لغة العرب يدل على العلو، يقول العربي إذا كان مرتفعا استوي إلي يعني ارتفع، إلي استوى على الدابة يعني أُعْلُ عليها، استوي على الكرسي يعني أُعْلُ عليه، وعلى هذا قول الله جل وعلا ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني علوتم على الفلك واستقررتم عليها.
([50]) (عظمته) مفعول به للفاعل (العقول)، العقول هي الواردة (وردت عظمتَه العقولُ) يعني العقول دخلت ووردت لعظمة الله جل وعلا لتفهم كيف هي عظمته، فرجعت خاسئة، أما المعنى معنى عظمته ومعنى صفاته فهو معلوم. نعم
([51]) الكلام السابق في كلام ابن الماجشون رحمه الله تعالى تفصيل للقاعدة المعروفة؛ أنّ الكلام في الصفات باب واحد، وأنّ بعض الصفات مثل بعض من جهة الإثبات والإيمان، وأنَّ الحق أنه لا يفرق بين صفة وصفة من جهة التعامل معها؛ أعني العلم والإيمان، فكل صفات الله جل وعلا حق كما وصف بها نفسه جل وعلا وكما وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فصفة الاستواء مثل صفة السمع والبصر، مثل صفة الاستواء مثل صفة الضحك، مثل صفة امكان رؤية الرب جل وعلا يوم القيامة، أو حصول رؤية الرب جل وعلا للمؤمنين في الجنة و في العرصات وأشباه ذلك.
فهذه الصفات الباب فيها باب واحد، ما نقول إن بعض الصفات يُدخل فيه بالعقل فيقبل المجاز والتأويل وبعضها لا يقبل، مثل ما ذهب إليه طائفة من المتأخرين كالخطَّابي والبيهقي وجماعة.(38/154)
بل الحق الذي عليه السلف أن هذا الباب باب واحد لا يختلف، ولا نتجاوز فيه ما حُدَّ لنا نؤمن به، فصفة الضحك، وصفة الاستواء، وصفة النظر إلى وجه الله الكريم يعني أن الله جل وعلا ينظر إليه، وصفة السمع والبصر، هذه الصفات كلها شيء واحد من جهة أنها صفات، لا نقول هذه صفة ذاتية فنتعامل معها بكيت وكيت، وصفات فعلية فيدخلها التأويل، وأشباه هذا.
لهذا قعّد العلماء في هذا عدة قواعد ذكرها شيخ الإسلام في التدمرية:
منها أن الكلام في الصفات كالكلام في بعض.
منها أن الكلام في الصفات الكلام في الذات يحتذا فيها على حذوه وينهج فيه على منواله.
ومنها أن إثبات الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية وأشباه ذلك.
فإذا كان كذلك لا نفرّق إذن بين صفة وصفة، فالعقول هي وردت إلى عظمة الله جل وعلا وأرادت أن تتصور كيف يتصف الرب جل وعلا بهذه الصفات رجعت خاسئة حسيرة فيما أرادت؛ بل الواجب التسليم.
والمؤولة أنواع:
منهم من أوّل الجميع؛ جميع الصفات.
ومنهم من أوّل جميع الصفات إلا ثلاثا المعتزلة.
ومنهم من أوّل جميع الصفات إلا سبعا الكلابية والأشاعرة.
ومنهم من أوّل جميع الصفات إلا ثمان الماتريدية.
ومنهم من أوّل جميع الصفات الفعلية وأثبت الصفات الذاتية كطائفة من المنتسبين إلى الحديث كالبيهقي والخطَّابي وأشباه هؤلاء.
ومنهم من لم يلتزم في هذا شيئا واحدا بل أوّل بما يدخل بعقله وأثبت في بعض الأشياء دون بعض كابن حجر وأشباه هؤلاء وابن الجوزي وجماعة، تناقضوا.(38/155)
فالمؤولة لم يجعلوا الباب بابا واحدا وهم أصناف وطبقات يمكن أن تقسمهم إلى خمس أو ست طبقات، والواجب طريقة السلف هي لا يفرقون في هذا الباب بين وصف ووصف، فإذا تكلموا على صفة الحياء فهو من جنس كلامهم على صفة الاستواء، هو من جنس كلامهم على صفة العلو، الإثبات بلا تكييف ولاتمثيل للرب جل وعلا بخلقه، هوإثبات للمعنى للصفة مع قطع الطمع لإدراك الكيفية والمثلية، جل ربنا وعظم وتقدس سبحانه.
([52]) هذا كما قال الأئمة: لا نتجاوز القرآن والحديث، ابن الماجشون رحمه الله توسع بعبارات للتأثير، القواعد العامة فهذا الكلام، (وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في الحديث عن نبيك عليه الصلاة والسلام فلا تكلفن عمله بعقلك) إلى آخره هذا كقولهم (لا تتجاوز القرآن والحديث). نعم.
([53]) قال المجسمة الذين تجاوزوا القرآن والحديث وجعلوا الله جل وعلا جسما كالأجسام، فإثبات بعض الصفات عندهم دال على صفات أخر، فإثبات القدم دال على وجود الأصابع عندهم، وإثبات الساق دال على وجود الفخذ، وإثبات اليد دال على وجود الساعد والعضد، وإثبات الضحك دال على وجود اللهوات، وإثبات السمع دال على وجود الأذن، وهكذا.
فإذن هناك من عطّل كمن زاد على ما جاء في القرآن والحديث فجعل كل صفة أثبتت دالة على صفة لم ترد باعتبار الالتزام، فجعلوه جل وعلا جسما كالأجسام، لهذا هؤلاء أثبتوا أن الله جل وعلا جسم كالأجسام، وأيدوا ذلك بزعمهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «رأيت البارحة ربي بأحسن صورة»، وفي بعضها إن كانت لا تصح «على صورة شاب[قطط]» إلى آخره، فهذا باطل لأنه تجاوز، فالمجسمة غلوا وتجاوزوا، والمعطلة جفوا ونقصوا، والحق ما بين هذا وهذا أن لا نتجاوز القرآن والحديث نثبت ما أثبته الله جدل وعلا عن نفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.(38/156)
([54]) الجسم هو ما يقبل الحركة عندهم، الكلام، الكلام في الصفات يبحثون في هذه الأمور يقسمون الحديث في الصفات، وغيرها إلى قسمين:
دليل الكلام.
ودقيق الكلام.
دليل الكلام: هذا يتكلمون فيها عن الصفات العامة.
ودقيق الكلام: يتكلون فيها عن التعريفات تعريفات الألفاظ.
فالجسم -عندهم- ما يقبل الحركة، والعَرَض ما لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالجسم، فالعَرَض مثل الألوان، مثل الأحوال الأربعة: الرطوبة، الجفاف، الحرارة والبرودة وأشباه ذلك.
لماذا ذكر الجسم والعَرَض هنا؟
قال (كما تقوله الجهمية أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون محدثا) هذا لأن جهم أثبت وجود الله جل وعلا عن طريق حدوث الأجسام، وأثبت حدوث الأجسام عن طريق حدوث الأعراض في الأجسام فكانت هذه الأشياء محدثة عنده عن طريق برهان الجسم والعرض، لهذا ذكر هنا قال (كما تقوله الجهمية أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون محدثا) لأنهم ما أثبتوا المحدثات إلا عن طريق الأجسام والأعراض.
وذلك أن جهم قال لما ناظرته السُّمنيَّة، طائفة من التناسخية في الهند، ناظرته وقالوا له: أثبت لنا وجود ربك. وشككوه فتأمل مدة، وكان من الفقهاء جهم بن صفوان الترمذي كان فقيها، وكان عنده علم بالشريعة وبالنصوص، فنظر كيف يقنع السُّمينة بإثبات وجود الله جل وعلا، فتأمل تأمل في العقليات، فوجد أن البرهان الصحيح هو حدوث الأعراض في الأجسام، فالعَرَض باتفاق بينه وبينهم أنه لا يقوم بنفسه –حرارة، برودة، لون، رطوبة، جفاف- هذه أشياء لا تقوم بنفسها، غير محسوسة، وإنما توجد في غيرها.
فنظر فإذا الجسم تحله الحرارة، تحله البرودة، تحله الألوان المختلفة، الجفاف، والرطوبة، فقال: الجسم حلَّت فيه هذه الأشياء، فدل على أنه مكان للتغيُّر، ومكان لحلول الأعراض فيه، والعرض لا يوجِد نفسَه بالاتفاق، وإنما يُوجَد.(38/157)
فإذن الجسم أُوجد فيه؛ جُعل فيه العرض؛ أُحدث فيه العرض، فمعناه أن الجسم لابد له من عرض؛ يعني لا يبقى بلا عرض لا يمكن أن لا يكون له لون ولا يمكن أن لا يكون له صفة من الصفات الأرض حرارة برودة رطوبة ويبوسة.
فإذا كان كذلك، فلابدّ من إيجاده، فمن الذي أوجده؟ فقال: إذن هنا الجسم لما كان يقبَل إحداث العرض فيه دل على أنه محدث؛ لأن الجسم لا يكون إلا بعرض؛ لابد له من عرض، فالجسم حقيقته ما يقبل الحركة والعرض فيه، والعرض لا يوجد بنفسه، والأجسام تتغير الأعراض فيها، فدلّ أن الجسم لا يوجد العرض بنفسه، فإذا كان العرض محدث في الجسم، فدل على أن ما حل فيه ذلك المحدث ذلك المتغير محدَث.
فسلموا له هذه القضية، فقالوا: دل ذلك على أن الأجسام محدثة. فقال لهم: فالمحدث لها هو الله جل وعلا.
ثم قالوا له: ما صفة ربك؟ لأنهم هم بالهند كل إله له كذا الآلهة لها صفات، فقالوا ما صفة ربك؟ فنظر فإذا هم أمام مشكلة كبيرة، وهي أنه إذا أثبت ما جاء في الكتاب من الصفات فسيعود ذلك الإثبات إلى برهانه الذي برهنه بالإبطال؛ لأنّ عندنا صفات لا تقوم بنفسها مثل صفة مثلا الإتيان، الإتيان هذا على حسب تعريفهم عَرَض ليس جسم يقبل الحركة هو بنفسه، الإتيان شيء يكون في الموصوف، صحيح؟ مثل مثلا الاستواء، مثل الرحمة، الرأفة، الغضب، الرضا، فوجد صفات كثيرة إن أثبتها كما جاء في القرآن صارت جميعا أشياء غير موجودة بنفسها وإنما توجد في شيء ، الوجه ، اليدين إلى آخره، فوجد أنه لا يستقيم له صفة إلا صفة واحدة لا تطعن على برهانه في وجود الله بالإبطال وهي صفة الوجود، ولهذا قال لا نصف الله جل وعلا إلا بالوجود الأعظم فقط. وما جاء في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات يؤولها بمخلوقات منفصلة عن الرب جل وعلا.
المعتزلة سلموا بهذا البرهان ولكن قالوا العقل دليل رابع على إثبات ثلاث صفات، فالبرهان سليم ولكن ثمّ ثلاث صفات دلّ العقل على إيجادها فأثبتوا ثلاثة.(38/158)
الكلابية قالوا البرهان صحيح والعقل دلّ على إثبات سبعة فزادوا بهذا.
الماتريدية قالوا البرهان صحيح لكن دل العقل على زيادة الثامن وهو صفة التكوين؛ لأنه محدِث فلا بد أن يكون موصوف بالتكوين إلى آخره.
هذا كله يبين لك أن كل من نفى الصفات فهو جهمي؛ لأنه ما نفى الصفة إلا لتسليمه ببرهان جهم في وجود الله جل وعلا، ولهذا إذا كان ثَم حاذق في طريقة الأشاعرة والماتريدية فإذا زُلزل عن هذا البرهان صار ما بعده أسهل؛ لهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كرر نقض هذا البرهان الجهمي على وجود الله جل وعلا يعني إبطاله من أوجه كثيرة في كل كتبيه: في منهاج السنة عرض له بالتفصيل، في النبوات عرض له بالتفصيل، في درء تعارض العقل والنقل عرض له بالتفصيل، في الجواب الصحيح عرض له بالتفصيل، في كل موضع يأتي بهذا الكلام، في الرد على الرازي؛ الرد المطول أيضا عرض له بالتفصيل وهكذا.
فإذن هذه الكلمة فيها إشعار بهذا، فكل من نفى صفة من الصفات فإنما كان عن هذا الطريق، لقوله هنا (كيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها -يعني على حسب قولهم –كذا وكذا كما تقوله الجهمية أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون محدثا).
هذه كلمة مُهمة مهمة، ولها تفاصيل وفهم مسيرة الانحراف في أقوال الناس في الصفات نابع من هذه المسألة.
فإذا فهمت هذه المسألة جيدا فهمت قدر تفرع الفرق إلى أقوال، ليش قال المعتزلة ثلاث صفات؟ وليش قال الأشاعرة سبع؟ والماتريدية ثمان؟ والكرامية قالوا كذا؟ السالمية لماذا قالوا كذا؟ والمرجئة إلى آخره، كلها مبنية على هذه المسألة.
([55])لا توالي أحدا دون أحد يعني من الصحابة.
([56]) (ولأنْ يَفْقَهَ الرجلُ ) اللام هذه واقعة في جواب القسم تسمى المواطئة، مفتوحة وليست مكسورة (ولأَن).
([57]) الواقف الذي لا يثبت ولا ينفي، ما يدري، لا يقول كذا ولا كذا، هذا يسمى الواقف.(38/159)
([58]) كتاب الفقه الكبر -لأبي حنيفة النعمان بن ثابت أحد العلماء الكبار المتبوعين في الفقه- كتاب اشتمل على كثير من مسائل الاعتقاد وسماه الفقه الأكبر مقابلة بالأصغر، وكما سمعت حثّ فيه على العلم النافع، وقال (لأن يفقه الرجل كيف يعبد ربّه خير له من يستزيد ويكثر في العلم) لأن العلم نوعان علم مقصود للعمل وعلم غير مقصود للعمل، وإذا كان العبد يكثر من العمل الذي لا يقصد للعمل وهو جاهل أو ينقصه كثير والأكثر فيما يحتاجه للعمل، هذا لا شك أنه من جهله وعدم معرفته بغاية العلم، فالعلم الغاية منه العمل؛ والعمل -عمل قلب وعمل الجوارح- هذا يكون بالعلم بالتوحيد وبالعقيدة الصحيحة، وكذلك بالعمل بالفرائض وفقه ذلك.
والاستزادة بالفنون المختلفة هذا ما يجري على أصحابه شيئا من جهة الفقه الصحيح والأجر والثواب إلا إذا كانوا على علم بما يعبدون ربهم به وفيما يتعاملون به، فإذا كان يبتاع ويشتري يعرف كيف يبتاع وكيف يشتري، وإذا كان له زوجة يعرف كيف يعامل أهله المعاملة الشرعية الصحيحة ويعاشرها بما أمر الله جل وعلا به، وإذا كان له أكثر من زوجة يعرف كيف يعامل هذه وهذه، وإذا كان له أصحاب يعرف كيف يعاملهم بالشرع وهكذا.
فإذا كان في نوع من تعامله يحتاج إلى الشرع؛ إلى معرفة حكم الشرع فيه ولم يطلب علم الشرع فيه، وطلب علم آخر لا يحتاجه من جهة العمل، فهو مقصر ويلحقه الإثم بذلك.
مثل بعض الناس يتوسع في علوم ليست مرادة من جهة العمل مثل التوسع في معرفة السيرة أو التراجم، أو في تخريج الأحاديث، أو في المصطلح، أو في النحو، أو في أصول الفقه، فيفوته العلم بنصوص الكتاب والسنة والعلم بالفقه والعقيدة الصحيحة والتوحيد، وهو يتوسع في علوم -كما يقال- على حساب العلوم الأصلية هذا لاشك أنه خلاف المقصود شرعا، وذكر لك هذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى.(38/160)
أيضا ذكر في هذا الكتاب مسائل كثيرة تتعلق بالاعتقاد، وهذا الكتاب له أكثر من رواية منها رواية أبي مطيع البلخي التي نقل عنها شيخ الإسلام هنا، فهي الرواية المعتمدة عند أصحابه، وله روايات أخر وعند الحنفية من تفصيل هذه الروايات والفروق بينها شيء كثير.
الكتاب عليه مؤاخذات في بعض المواضع مخالف فيها لعقيدة السلف، وهذا يطلب في مكانه في وقت آخر إن شاء الله.
ذكر فيما سمعت: الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذِكره له لغرض مخالفة الخوارج، فإن الخوارج وأشباه الخوارج في ذلك الزمان احتجوا على خروجهم عن طاعة الإمام بنصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبيّن أنه لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر بجماعة تخرج عن الإمام، تخرج عن الطاعة بالسيف أو بغيره؛ لأن هذا كما قال: إنهم ما يفسدون أكثر مما يصلحون. وهذا واقع فإنه ما خرج أحد في تاريخ الإسلام على طاعة الإمام الحق إلا وكان ما يفسد أكثر مما يصلح، ويروم الصلاح ويروم الإصلاح ولكن يحصل من الفساد أكثر مما أراد من الإصلاح.
وهذا ذكره شيخ الإسلام في مواضع كثيرة، وقد أطال في هذا الموضع -يعني في بيان الأمر والنهي- في رسالته المعروفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيّن أوجه الصلاح الباقية في طاعة الإمام، وأوجه الفساد في الخروج عنه، وحال الفرق المخالفة.(38/161)
كذلك ذكر مسألة العلو لله جل وعلا والاستواء على العرش، ومن كذّب وأنكر أن الله جل وعلا في السماء مثل ما قال أبو حنيفة فهو كافر إلا أن يكون له تأويل مستساغ، ولهذا كثير من أهل العلم كفروا الذين ينفون علو الذات لله جل جلاله، والصواب في ذلك أنه لا يقطع في تكفيرهم؛ لأنه قد يكون لهم تأويل فلابد من إقامة الحجة عليهم؛ لأنه وقع في ذلك كثير من علماء كبار في الأمة، ولم ينص المحققون والأئمة على تكفيرهم، فيقال بالكفر من جهة الوعيد والتخويف لكن من جهة التطبيق فلا نعلم أنه طُبق على من أنكر علو الذات من العلماء؛ لأن علماء الأشاعرة والماتريدية هؤلاء يُنكرون علو الذات لله جل وعلا وأن الله مستو على عرشه كما يليق بجلاله جل جلاله، بل يقولون الاستواء بمعنى الاستيلاء والقهر، ويقول العلو بمعنى علو القهر والقدر وليس بعلو الذات.
الاستواء دليله سمعي؛ دليله القرآن والسنة، والعلو دليله فطري مع الكتاب والسنة والإجماع، ففرق بين المسألتين، شيخ الإسلام فيما سمعت قال لك (وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية) لا يقصد بها الاستواء والعلو وإنما يقصد بها العلو واتجاه الداعي، جهة الدعاء؛ يعني الداعي يدعو من أعلى لا من أسفل، يتجه إلى العلو في دعائه، وهذا الاتجاه ليس لأن العلو قبلة الدعاء والسماء قبلة الدعاء كما تقوله المبتدعة، إنما اتجاه إلى المدعو، الله جل جلاله في السماء وهذا فطري قد أجمع عليه الناس: المسلمون والكفار والمشركون؛ بل وحتى الذين لا يعرفون الله جل جلاله، كما ذكر ذلك بعض أصحاب الرحلات قالوا ذهبنا –تسمى برحلة [ابن طبلان] المعروفة- قال ذهبنا إلى قوم ليس لهم دين ولا يعرفون الله؛ ولكن كانوا إذا أصابتهم شدة وقحط أو بلاء أومصيبة خرجوا إلى الصحراء خرجوا إلى خارج البلد فتوجهوا إلى السماء بأدعية وهذا مما ورثوه ممن قبلهم أو هو فطري في الأنفس، وهذا بين واضح.(38/162)
فإذن الاستواء ليس دليله فطريا، ليس دليله عقليا وإنما دليله السمع، أما الدليل الفطري العقلي فهو في العلو وفي اتجاه الداعي، اتجاه الداعي أنه يدعو متجها إلى العلو طلبا للمدعو جل جلاله هذا فطري، وعلو الله جل وعلا هذا على خلقه علو الذات هذا أيضا عقلي.
فلهذا إذن نقول دليل العلو الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
فما دل عليه الإمام أبي حنيفة ظاهر من كون الله جل جلاله فوق سمواته مستو على عرشه كما يليق بجلاله وأن إنكار ذلك كفر؛ لأنه جل وعلا أثبت ذلك بقوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5] سبحانه وتعالى.
([59]) لأن الفرق بين الجهمية وغيرهم القول بالحد، القول بالحد هو الفرق، القول (بائن من خلقه) هذا هو التفريق، ولهذا نص كثير من الأئمة قال بحدٍّ، وهذه كلمة لم ترد في الكتاب والسنة؛ لكن لأجل التفريق ما بين الذين ينكرون العلو، علو الذات والاستواء على العرش وبين المقرين به؛ لأنه قد يقول أقرّ بأن الله على العرش استوى ويعني به مستول، أو يعني به معنى آخر في ذهنه، أو يقول لا أدري –أيضا في نفسه- ما معنى استوى؟ لكن إذا قال بحد، أو بائن من خلقه هنا صار المعنى استواء الذات وعلو الذات.
ولهذا دخل كثير من الأئمة في لفظ الحد وألفاظ غير واردة في الكتاب والسنة لأجل الفصل ما بين قول المبتدعة وقول غيرهم، فاتخذوا هذه الألفاظ حتى لا يضيع الحق فيما بين ألفاظ المبتدعة، فاحتاجوا إليها احتياجا حتى يُفرق بين أقوال أهل البدع وأقوال أهل الحق. [انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع]
([60]) يعني يقول في كل مكان، هذا المعنى، (يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان) يعني يقول الله في كل مكان, أو يخلط منه الذات بالأقدار والأنتان يعني يقول الله في كل مكان والعياذ بالله.(38/163)
في مكة، في السنة هذه، في رمضان، في الحرم فيه ثلاثة يتكلمون واحد يقول – يبدو واحد من الشباب يناقش مسألة العلو– وأغلظ عليه وشدد، ولا تحتج بقول علماء الأزهر، وهذا الشاب يبدو أنه قال أن هؤلاء علماء الأزهر لا يفقهون شيئا، وأنا أفهم منهم وهؤلاء كذا وكذا فأخذتهم الحمية، هم يتكلمون, أنا أمشي أسمعهم، قال واحد منهم كيف يقول الناس أنَّ الله استوى على عرشه, هو على عرشه يعني في كل مكان, أنا سمعتها من الدكتور عبد الحليم محمود, كان يرددها, كيف هذا.
الشاهد من هذا أن إضلال الناس وقع في هذه المسائل بأقوال العلماء, علماء الظلال أو العلماء المخالفين أوقعوا في الناس خلاف ما دل عليه النص, لهذا بعض الناس يقول أكثر الأمة أشاعرة, هذا غلط وباطل؛ بل أكثر الأمة على السنة في الصفات؛ إلا إذا أتاهم مبتدع يعلمهم غير العقيدة الصحيحة، هنا ينتقلون، أما فطرتهم ما عليه, يسمع ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ما يأتي في ذهنه المعنى الباطل إلا بالتعليم إنما يأتي في ذهنه التسليم (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) سبحانه وتعالى، فيأتي من يقرر له خلاف العقيدة الصحيحة بالتعليم.(38/164)
ولهذا نقول أكثر هذه الأمة في الصفات على الفطرة، يعني على التسليم؛ إلا إذا أتاهم من يعلمهم العقيدة الأشعرية أو يقرر لهم العقيدة الماتوريدبة، فإنهم يخرجون عن ذلك وتقر في أذهانهم الأقوال المبتدعة؛ لأن العامي ما يعرف كيف يصرف لفظ الكتاب والسنة إلى التأويل، أو إلى المجاز، أو ينفي الحقائق التي دلت عليها النصوص، وإنما هذا بفعل علماء الظلال، الذين أظلوا الأمة، وهذا من المصائب الكبيرة. يأتي من يحتج بقول عالم, هذا كيف تقنعه, لذلك مثلا شاب أو طالب علم صغير يناقش واحد كبير، يقول أنا سمعت من العالم الفلاني الذي فيه كذا وكذا أنه قال كذا أو ذكره في كتابه كذا, كيف تناقض هذا القول، أنت أفهم من فلان, أنت أعلم من فلان, فيذهب في القول في المسألة بالترجيح بقول الرجال، بقول العلماء هذا قال كذا وكذا, لكن أنظر إلى النصوص، فإذا احتجت إلى مناقشة من عنده شبهات في العقيدة وفي التوحيد فلا تدخل في الحكم على القائل؛ لأن الحكم على القائل يصرف ذهن ويصرف قلب المناقَش إلى الدفاع عن هذا المتهم, أو هذا المقدوح فيه, تقول العلم هذا فيه كذا وكذا وكذا، خلاص ينصرف عن أصل المسألة وتأخذه الحمية للدفاع عن[......] من يعظِّمهم يُحدث من الفرقة ما يحدثه الخروج عن الإمام.
لهذا ترى شيخ الإسلام لما كتب الوصية الكبرى عظّم عدي بن مسافر وبين أنه كذا ومقامه في السنة, لما أتى يتكلم شرح كلمات في نصوص الغيب عظّم عبد القادر الجيلاني وما قدح فيه بشيء؛ لأن هؤلاء أئمة طرق صوفية، فقال هؤلاء فيهم وفيهم وذكر النصوص عنهم في رجوعهم للسنة ومحبتهم للسنة ومحبتهم لأهل الحق, فهذا أصل في أنك عند نقاش المخالف لا يستجرك الخلاف إلى أن تتكلم في الشخص؛ لأنه يصد عن قبول الحق، يصبح هناك تعصب هو يتعصب للشخص وأنت تتعصب عليه، فيحجز ذلك عن قبول الحق في المسألة.(38/165)
المقصود ليس الكلام في العلماء, العلماء أدوات لنقل الشريعة, فإن نقلوها على الصواب فذلك من كرامة الله لهم, وإن نقلوها على الغلط فلا يتبع العالم بزلته و لا يقدح فيه بزلته، إلا إذا احتيج إلى ذلك في مقامات, أما في النقاش تنتبه إلى أنك تقرر الحق وتصبر مهما بالغ في مدح العالم لا تقدح فيه، حتى لا يكون في قلب المتحدث معه حاجزا عن قبول الحق الذي تأتي به؛ لأن النفوس جبلت على تعظيم الأشخاص، فإذا تقدح فيه ولو كان كلامه حقا لكن يؤخر بعض الحق في مصلحة راجحة ويبين الحق في نفسه حتى يقبل.
وهذا هو الذي عمله علماء الملة وأئمة المتقين، فإذا نظرت شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه ما تكلم بالأئمة شيء ولو كان عندهم بعض المخالفات، مثل أبي حنيفة رحمه الله, بل جعله من الأئمة الأعلام، كما في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وأتى من أتى وقال أبوا حنيفة ذها فيه وفيه وقد وقدحوا، وهكذا.
أئمة الدعوة رحمهم الله ما قدحوا في الأئمة الذين حصلت عندهم مخالفات، ما قدحوا في ابن قدامة ولا في النووي مع أنهم أوردوا بعض القصص التي استدل بها المبتدعة، وما قدحوا في ابن حجر ولا في العلماء الذين شرحوا كتب الحديث والمفكرين، وإنما أخذوا منهم ونقلوا الحق، وتركوا ذلك ولم يتعرضوا له.
إذا احتاجوا للتبيين في موقع وأتى نقل مثل نقل للنووي فيه التأويل قال مثلا: والنووي رحمه الله كان يتأول الصفات وكان كذا وينهج منهج كذا وهذا من الغلط، ففرق ما بين الرد على المقالات الباطلة، وما بين القدح في العلماء السابقين الأئمة الذين لهم مقام في الدين.
وتحتاج إلى هذا كثيرا في النقاش و الجدال ومع أتباع المعظمين، فإنه لا يسوغ الخوض في القدح في أولئك المعظمين؛ لأنه يحجب عن قبول الحق إلا إذا احتيج إليه في موضعه، ولكل مقام مقال إذا صُرف عنه [استحال]. نعم.
([61])هذا وعيد (فعليه لعنة الله) لعنة لغير معين، أما لعن المعين فلا يجوز؛ لأن «لعن المؤمن كقتله».(38/166)
ولعن الكافر فيه قولان لأهل العلم، أصحهما أنه لا يلعن إلا لحاجة؛ لأن المؤمن ليس باللعان، فلعن الجنس غير لعن المعين، مثلا في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح في النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات قال في أحد الروايات «أينما لقيتموهن فالعنوهن فإنهن ملعونات» هذا يُقصد به لعن الجنس لا لعن المعينة من النساء؛ فإن لعن المعين من المسلمين لا يجوز، لأن «لعن المؤمن كقتله»، ففرق ما بين لعنة الجنس ولعنة المعين على التفصيل الذي ذكرته، مثل ما قال هنا (ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله) هذا حتى يحذر من هذا العمل ويخاف منه. نكتفي بهذا.
.. «لعن المؤمن كقتله»، الذي أحفظه أنه حديث.
([62])هذا الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من النقول، دال على الأصل الذي أصله من أن طريقة أئمة أهل الحديث والأثر والسلف أنهم يثبتون ما جاء في النصوص، وأن لا يتجاوزا ذلك، وأنه لولا أن صفة الرحمن جل وعلا جاءت في النصوص لأمسكوا عن ذلك، وهذا قاعدة عامة عندهم؛ بأنهم لا يصفون الله جل وعلا إلا بما دلت عليه النصوص، لا يخرجون عنه.(38/167)
كذلك فيما ذكر الفرقان ما بين أهل البدع من الجهمية ومن نحى نحوهم وبين أهل السنة في أن الله جل و علا في السماء، فالجهمية وأتباع بشر المريسي وأشباه هؤلاء يصفون الله جل وعلا -كما هو معلوم- بالمنفيات يجعلون السَّلب مفصلا ويجعلون النفي مفصلا، فيقولون إن الله جل وعلا ليس بـ-يعني في الصفات- ليس في السماء ولا ينزل، وليس بجسم، وليس بذي أعضاء، وليس بكذا وليس بكذا، إلى آخره، فيجعلون معرفة الرب جل وعلا من جهة نفي ما لا يليق به جل وعلا، هذا هو طريقتهم حتى إنهم يصلون بنفي جميع الصفات إلى أنه جل وعلا معدوما، فيرجع قولهم إلى أنه معدوم أو يرجع قولهم إلى أنه جل وعلا ليس له وجود في الحقيقة إلا في أذهان المؤمنين به جل وعلا، ولهذا صار حقيقة قولهم نفي أن يكون الله جل وعلا في السماء، وأنه سبحانه وتعالى في الأرض كما يزعمون، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
الذي دلت عليه النصوص وإجماع السلف أن الله جل وعلا في السماء كما قال سبحانه ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، وكما في قوله ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ?[الأنعام:3]، وكما في قوله جل وعلا ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:84]، وأشباه هذه الآيات، فالله سبحانه وتعالى في السماء كما دلت على ذلك النصوص، ومعنى كونه (فِي السَّمَاءِ) أنه على السماء، لا أن السماء ظرف له تحيط به. ومعنى (فِي) هنا بمعنى على فيكون قوله (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) يعني على السماء.
فنحن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى على سمائه بائن من خلقه سبحانه وتعالى وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلال عظمته وعظيم سلطانه سبحانه.(38/168)
فالإثبات عندنا مفصل والنفي مجمل بخلاف الجهمية وأرباب البدع، فإنّ عندهم النفي مفصل ليس بكذا وليس بكذا إلى آخره، وأما الإثبات عندهم فإنما يثبتون صفة واحدة وهي صفة الوجود المطلق غير المقيد.
وما ساقه عن ابن أبي زمنين في كتابه السنة واضح في الإيمان بعرش الرحمن جل وعلا، وهذا حق كما دلت عليه النصوص، فالعرش مأخوذة مادته من الارتفاع، ولهذا جعله الله جل وعلا مرتفعا، وله علو على جميع المخلوقات، حتى الجنة فإن عرش الرحمن فوقُها؛ يعني سقفها، فله ارتفاع وعلو خاص على جميع المخلوقات يعني العرش، والله جل وعلا إستوى على العرش، يعني ارتفع عليه وعلا عليه علوا خاصا، عبَّر عنه بعض السلف بأنه جل وعلا استقر عليه سبحانه وتعالى وأشباه ذلك.
فإذن العرش مادته مأخوذة من الارتفاع والعلو، والاستواء عليه أيضا ارتفاع وعلو خاص، فهذا يقضي من الجهتين على أن الله جل وعلا مستو على عرشه سبحانه؛ يعني أنه عالٍ عليه وعلوه عليه، وعلو على جميع المخلوقات، هذا بخلاف من زعم أنه سبحانه في كل مكان فإن مادة العرش تنافي ذلك، فلو آمن بالعرش لآمن بأن الله جل وعلا لابد أن يكون عاليا على العرش، وأن الاستيلاء لا يناسب؛ لأنه لابد أن يكون عاليا على جميع المخلوقات سبحانه وتعالى. نكتفي بهذا.
([63]) الزهري هذا من هو؟ يراجع، إذا كان أبو مصعب الزهري راوي الموطأ، ماشي لكن يقال له أبو مصعب ما يقال له الزهري، إذن فالزهري هذا هو أبو مصعب تلميذ مالك راوي الموطأ. ماشي.
([64])هذا النقل عن ابن زمنين واضحا في أن طريقة السلف من الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم هي أنهم يقرون بما جاء في النصوص على ما تقتضيه اللغة، وأن الإيمان بالظاهر هو الإيمان بما تدل عليه اللغة، والكرسي كرسي الرحمن جل وعلا جاء تفسيره عن ابن عباس بأنه موضع قدمين.(38/169)
واشتقاقه؛ الكرسي اشتقاقه من الجمع؛ لأن مادة (كَرَسَ) هذه راجعة إلى الجمع، فقيل للأوراق المجتمعة كراسة؛ لأنها جمعت، وقيل للكرسي كرسي لأنه أعواد تجمع فيجلس عليه، وقيل أيضا للعلماء كراسي العالَم في اللغة؛ لأنهم جمعوا العلم فأصبحوا يُرجع إليهم، وأما من قال مادة الكرسي راجعة إلى العلم هذا غلط والرواية به عن ابن عباس أيضا مرجوحة أو غلط.
والصواب أن الكرسي خلاف العلم، وأن كرسي الرحمن جل وعلا هو موضع القدمين منه جل وعلا، وهذا الكرسي وسع السموات والأرض، كما قال سبحانه ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ?[البقرة:255], وأهل السنة متفقون على أن الكرسي موضع القدمين، وأن الرواية عن ابن عباس هذه الموثوقة حجة وأنها لها حكم المرفوع، وأنّ الكرسي بين يدي العرش كالمرقاة يعني أنه بين يديه ليس بعيدا عنه وأنه كالمرقاة إليه ليس مرقاة إليه؛ لكن كالمرقاة إليه؛ يعني كما تضع شيئا أمام شيء، فهو بالنسبة للعرش صغير جدا، وهو موضع قدمي الرحمن جل وعلا, هذا الذي جرى عليه اتفاق أهل السنة في مسألة الكرسي.
وذكر مسألة النزول, والنزول يقولون به على ظاهر ما جاء في الأحاديث, ينزل ربنا آخر كل ليلة إلى سماء الدنيا وهذا النزول بغير حد يحده, ولا يتكلمون في النزول بأكثر مما دل عليه ظاهره؛ بل يمرونها كما جاءت، فلا يقولون نزول مع خلو العرش، ولا نزول بلا خلو العرش ولا يقولون نزول يكون في زمان كذا وفي زمان كذا، وإنما يقرون بظاهر الصفة ولا يدخلون في التفصيل, ولا يحدون حدا للصفات, صفات الرحمن جل وعلا، لا من جهة الكيفية ولا من جهة استغراق المعنى, بل يمرونها كما جاءت على ما دلَّت عليه اللغة، وهذا مهم في العلم بمذهبهم فإنهم يتركون التفسير لا لأجل أنَّ التفسير باللغة غير وارد عندهم ولكن لأجل أن التفسير في اللغة معلوم.(38/170)
لهذا قال مالك رحمه الله تعالى: الاستواء معلوم يعني في اللغة, يعلمه أهل اللسان فلا يحتاج إلى تفسيره، وفي رواية, الاستواء غير مجهول يعني في اللغة, والكيف غير معقول. وذكر الترمذي رحمه الله في الجامع: أن العلماء يقولون كلمة مالك في النزول، فيقولون: النزول غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة, يعني عن كيفيته وحدِّه.
([65]) البطون كمال مع العلو، الله جل وعلا قال (هُوَ الْأَوَّلُ)........... فليس فوق ذاته ذات وهو جل وعلا مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك هو الظاهر فوق كل شيء من صفاته سبحانه كما فسرها عليه الصلاة والسلام، وأما البطون فإنه يفسر ببطون العلم، وبطون الإحاطة والقدرة، فالبطون بطون صفات لا بطون ذات، ومن قال: إن البطون بطون ذات فهذا يناقض أنه جل وعلا ظاهر ليس فوقه شيء، وهو قول الأشاعرة والحلولية الذين يقولون إن الله في كل مكان، إما من جهة الحلول أو من جهة الوحدة أو من جهة عدم التمُّيز.
فإذن البطون كلمة «الباطن فليس دونه شيء» السلف يفسرونها ببطون الصفات، وهو أن الله جل وعلا أقرب لأحدنا من حبل الوريد، وأقرب إلينا من عنق الراحلة، وأقرب إلينا من أي شيء بصفاته سبحانه؛ لأنَّ القرب قرب العلم هذا هو المراد بالبطون، فهنا قال (بَطُنَ علمُه) هذا التفسير صحيح وافق تفاسير السلف للباطن.
فإذن قوله جل وعلا (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) فسره عليه الصلاة والسلام بقوله «أنت الباطن فليس دونك شيء»، (ليس دونك شيء) يعني أنه الله جل وعلا أقرب الأشياء إلى العبد، أقرب الأشياء إلى المخلوق من جهة قرب صفاته سبحانه، (فليس دونه شيء) فهو أقرب ما يكون، أقرب حتى من النفس جل وعلا لعلمه بما بخلقه وإحاطته التامة، والله بكل شيء محيط سبحانه.
([66]) هذا من كلام علي رضي الله عنه، قيل له: أتؤمن ولم تر ربك؟ قال: إن لم تره العيون فقد رأته القلوب بحقائق الإيمان. [انتهى الشريط الرابع](38/171)
([67])هذا كلام الخطابي أصل، واعتمد شيخ الإسلام في التدمرية في أحد القواعد أن الكلام في الصفات كالكلام على الذات يحتذا فيه حذوه وينهج فيه على منواله. وعلى منواله.
والخطَّابي رحمه الله في الجملة على طريقة السلف؛ لكن له بعض التأويلات رحمه الله تعالى، له اجتهاد في ذلك، وهو معذور في هذا رحمه الله، فهو من أئمة الدين، والعلماء الربانيين، ألف في التوحيد والصفات، وألف في السنة، وله مؤلفات متنوعة في نصرة علوم الكتاب والسنة.
ما ذكره هنا من أننا لا نقول اليد بمعنى القدرة والنعمة؛ لأن هذا هو قول المبتدعة، هذا معنى هو قول من قال من الأئمة الشافعي وأحمد وجماعة نقول الصفات بلا كيف ولا معنى، يعني لا كيف كما يقوله المجسمة، ولا معنى كما يقوله المؤولة، وهنا ذكر أنه غلا فيها قوم فحققوها فخرجوا بها إلى ضرب من التشبيه وجفا قوم فتأولوها أو عطلوها.
والصواب ما بين هذين وأنه إثبات بلا تكييف يليق بجلاله وعظمته كما قال سبحانه ?يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64]، وكما قال?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وكذلك وجهه سبحانه حق على حقيقته صفة له ذاتية ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?[القصص:88]، وكذلك سمعه وبصره وكلامه وتكليمه وعزته وقوته وإرادته ورحمته كل هذا من باب واحد، فكما أن إثبات الصفات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فإنك لو سألت كل مؤمن بوجود الله جل وعلا، ما كيفية ذاته فإنه لا يمثلها ولا يكيفها لأنه يعرف إلا أن يكون مجسما.
فكذلك نقول إثبات الصفات وجود لا إثبات كيفية، فعندك أهل الاعتزال حينما أثبتوا ثلاث صفات وزاد عليهم الأشاعرة أربعا فأثبتوا سبع صفات، والماتريدية ثمان صفات، ثم محققوهم إلى عشرون صفة، قسموها إلى صفات ذاتية وسلبية ومعاني ومعنوية إلى آخره، كل هذا على أصولهم أن إثبات الذات وجود الذات أنه إثبات وجود لا إثبات كيفية.(38/172)
فكذلك يقال لهم طريقة السلف الصالح في إثبات الصفات إثبات وجود بلا كيفية.
فنقول: كما أنكم أقررتم في صفة السمع وأنكرتم على المعتزلة يا أشاعرة، بأنَّ السمع ليس هو العلم، والبصر ليس هو العلم، فقولوا كذلك في الرحمة أنها ليست الإرادة، وقولوا كذلك في الغضب أنه ليس إرادة الانتقام، وهكذا، فيلزمكم فيما فررتم منه؛ فيما أثبتم ما فررتم منه، يلزمكم فيما رددتم به على الأشاعرة أن تردوا على أنفسكم به، القاعدة مطردة مأخوذة من قول الخطابي، الكلام على الصفات كالكلام على الذات، أو فرع على الكلام عن الذات، فكلٌّ مثبت لبعض الصفات تطعنه بهذه القاعدة كل بحسبه.
فإذا قال لك الجهمي: أنا أُومن بوجود مطلق بشرط الإطلاق بلا صفة.
فقل له: لم؟
فلابد أن يقول: لأن الصفات الأخر المخلوقات متصفة بها، وأنا أنزه الله جل وعلا عن أن يشابه خلقه.
فقل له: ما من مخلوق من مخلوقات الله إلا له صفة الوجود، فإذن ثَمَّ اشتراك.
فسيقول: قلت أنا إن صفة الله موجود المطلق بشرط الإطلاق.
فنقول له: قل كذلك: صفة الله جل وعلا أو من صفاته اليدان بشرط عدم التكييف، وقل كذلك: صفة الله اليدان بشرط عدم التكييف، فكما أنك اشترطت في الوجود الإطلاق حتى لا يشابه وجوده جل وعلا وجود مخلوقاته، فكذلك قل في كل الصفات ما يخرجها عن مماثلة مخلوقاته.
كذلك المعتزلي يؤمن ببعض الصفات، فألزمه فيما أثبت المماثلة أو المشابهة.
فإنه يقول: أنا لا أشبِّه الله بخلقه.
قل: إثباتك لهذه الصفات فيها تشبيه؛ لأن هذه الصفات عند المخلوق، فالإرادة؛ المخلوق عنده الإرادة، الحياة؛ المخلوق فيه حياة، فلم إذن ما نفيت هذه الصفات لوجود المماثلة؟
فسيقول: هذه لابد لما دل عليها بالعقل، وإذا كان لابد منها فلا يمكن لي أن أتأولها.(38/173)
فإذن نقول له: إذن قاعدتك في المماثلة أنَّ إثبات الصفة فيه مماثلة، هذه ليست جيدة؛ لأنه لابد أن يخرج شيء عن هذه القاعدة، فإذا أخرجت هذه الثلاث صفات، فأخرج الصفات الأخر؛ لأن الكتاب والسنة دل عليها، وانْفِ عن الرحمن جل وعلا مماثلة المخلوق.
كذلك الأشاعرة يثبتون سبع وينفون البقية، يلزمهم فيما نفوا نظير ما لزم الأولين؛ لأن القاعدة عندهم نفي المشابهة والمماثلة، ودرج عليها الجميع وهي تلزمهم فيما أثبتوا.
المقصود من ذلك أن هذه القاعدة مهمة جدا، وأنه يحتاج إليها المناظر.
والمناظر للمبتدعة إذا حباه الله جل وعلا:
فقها في النصوص، ومعرفة بكلام السلف عليها في الصفات.
ثم معرفة باللغة وأوجه التوجيه اللغوي.
والثالث حسن إلزام ومجادلة ومعرفة لمذاهبهم.
فإنه لاشك سيكون غالبا، كما قال جل وعلا ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ?[الأنبياء:18].
وإنما يؤتى من يناظر القوم أو من يتكلم معهم من جهله بهذه الثلاثة جميعا أو بأحد منها، فإنه إذا لم يعلم النصوص ودلالة النصوص على فهم السلف الصالح ربما خانته الحجة، ثم إذا لم يعلم اللغة ربما خانته الحجة؛ لأن ذاك يقول هذا في اللغة كذا، مثل الكرسي الذي مرّ معنا، يقول الكرسي في اللغة العلم، وليس ثَمّ مخلوق محسوس يقال له كرسي، وأنه موضع القدمين، وإنما الكرسي العلم مثل ما جاء عن ابن عباس في أن الكرسي العلم، وفي اللغة العلماء يقال لهم الكراسي؛ لأن الكرسي هو العلم، مثل ما ذكره ابن جرير في تفسيره عند الآية وأطال عليها، ويأتي المحقق في اللغة فيقول الكرسي بمعنى العلم ليس معنى أصليا، وإنما صار العالم كرسيا لجمعه للعلم، فيقول قال الشاعر في وصف قانص.
فلما احتازها –يعني حاز الصيد، رماه السهم فاحتازه؛ يعني أمسكه-.
قال:
فلما احتازها تكرَّس ....................
قال تكرس هنا علم بأنه صاده، يفسرونها بأنه علم بأنه صاده.(38/174)
وعند أهل العلم بالتوحيد هنا تكرّس يعني جمع (عندما احتازها كان بها بقية حياة فجمعها إليه حتى لا تنفلت).
فيكون إذن حتى ما يريدونه عند من يعلم اللغة يكون حجة عليه.
كذلك مثلا إذا قال اليد تأتي في اللغة ويراد بها النعمة، ويقال فلان له علي يد؛ يعني نعمة وفضل، نقول هذا صحيح في أنه يقال هذا؛ لأن الناس إنما يعطون باليد، فقيل لفلان عليّ يد للقطع عن الإضافة لأنه استعلى حين أعطاه بيده، أما عند الإضافة فلا يمكن أن تكون بمعنى النعمة، فلا يقول قائل من العرب: يد فلان عليَّ. ويعني بها النعمة، ولا يأتي أحد من العرب ويقول لفلان يدان عليَّ، أو عليّ منه يدان. ويقصد بها نعمتين، هذا لا أصل له في اللغة، وأشباه ذلك.
والبيهقي وجماعة ومنهم الخطابي راج عليهم بعض الشبهات اللغوية فما تتخلصوا منها، هذا هو النوع الثاني مما يحتاجه طالب العلم المحقق في العقيدة في اللغة وفي الشواهد وكلام أئمة التفسير عليها وكلام السلف معاني الصفات.
الثالث أن يكون عنده علم بمذاهب القوم ومواقع الحجاج؛ لأنَّ عندهم ثغرات كبيرة في مذاهبهم حتى على أصولهم؛ لأنه ما من أحد يخالف الحق إلا وله نصيب من التناقض، لابد له نصيب من أنه يتناقض، فيقولون بالإثبات مرة، بالتأويل مرة، بالتفويض مرة، وهكذا، فيلزم طالب العلم أن المبتدعة بما يكون معه حجته أقوى وبرهانه أمضى.
نكتفي بهذا القدر، وفقكم الله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
([68]) أليس إسماعيل هو؟ أبو إسماعيل! راجعوها، هو إسماعيل الهروي، راجعوها، هو صاحب كتاب منازل السائرين الذي شرحه ابن القيم في مدارج السالكين. [هو: أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي توفي سنة 481 هـ، قاله المفرغ](38/175)
([69])(بائن من خلقه وهم بائنون منه) فسَّرها بقوله (لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم) هذا التفسير صحيح؛ فإن قول السلف بائن من خلقه يعني عدم الحلول وعدم الامتزاج، لهذا فسرها بعضهم بقوله بحد (بائن من خلقه بحد)، يعني أن هناك حدا يمنع حلوله جل وعلا في خلقه أو اختلاطه في خلقه؛ بل هو جل وعلا بائن منه، لا يختلط بهم جل وعلا، ذاته لا تختلط بذواتهم، ولا يحل جل وعلا في شيء منهم، والحلول هنا منفي ما يشمل نوعي الحول العام والخاص. نعم.
([70]) هذا النقل مشتمل على إثبات استواء الله على عرشه وأنه ليس بمعنى الاستيلاء، وأن قول الجهمية إن العرش ليس عليه استواء من الرحمن جل وعلا وإنما هو سبحانه في كل مكان، وهذا باطل؛ لأن استوى في اللغة بمعنى علا وارتفع ارتفاعا خاصا.
ويكون معناه أيضا علا وارتفع واستقر وجلس كما في قوله جل وعلا ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني إذا علوتم عليه وارتفعت ثم استقررتم عليه وجلستم، فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك، استوى عليه يعني ارتفع عليه.
وهذا يعني الاستواء على العرش دلت عليه الآيات الكثيرة، والأحاديث الكثيرة.
والكرسي، كرسي الرحمن جل وعلا غير العلم، وغير العرش.
فمن فسر الكرسي بأنه العلم فهو من أهل البدع، بخلاف من فسر الكرسي بأنه العرش فإن هذا غلط؛ لأنه منقول عن بعض السلف؛ لكنه غلط فإن الكرسي غير العرش؛ لأن:
مادة الكرسي مأخوذة من الجمع، وأما العرش فمأخوذة من الارتفاع.
كذلك ما دلت عليه السنة من أن العرش يستوي عليه الرحمن جل وعلا، والكرسي موضع قدمي الرب جل وعلا.
فإذا نقول الصحيح أنَّ الكرسي غير العرش، وأن الكرسي؛ كرسي الرحمن جل وعلا مخلوق عظيم وسع السموات والأرض.(38/176)
([71]) هذا الكلام مشتمل على تقرير عقيدة كبار أئمة التصوف في الزمان الأول، فإنهم كانوا في الصفات على منهج أهل السنة، ولم يكن بينهم وبين أهل السنة فرق كما هو مقرر في كتاب الإمام [الكلابادي] رحمه الله التعرف على أقوال أهل التصوف أو ما شبه ذلك أو نحو هذا العنوان، وهو مطبوع ذكر فيه اعتقاد أئمة الصوفية وهو مشتمل على ما يوافق اعتقاد السلف في جل المسائل.
وهذا النقل واضح في مسألتين عظيمتين خالف فيهما الجهمية أهل السنة، وهما الاستواء ومسألة النزول؛ فإن الاستواء فرقان وكذلك النزول فرقان، فنبه على أن الاستواء معقول؛ يعني معقول معناه كما قال الإمام مالك الاستواء غير مجهول يعني المعنى في اللغة، كذلك قوله الكيف مجهول؛ يعني أن إثبات الاستواء إثبات معنى لا إثبات كيفية بلا تشبيه، والتشبيه يستعمله الأئمة المتقدمون بمعنى التمثيل؛ لأن المشبهة في زمانهم هم الذين جعلوا الله جل وعلا يُمثل بالأجسام وله كصفات الأجسام فإذا قالوا بلا تمثيل. يعنون التشبيه الكامل وإذا قالوا بلا تشبيه. فيعنون بذلك التمثيل.
.. وهو سبحانه (فرد)، ولكنه ليس من الأسماء الحسنى، وهو وصف عن الله جل وعلا بأنه (فرد)؛ لكن ليس من الأسماء الحسنى التي ثبتت في الكتاب والسنة ويدعا بها الله جل وعلا؛ لأنه مشتمل على احتمال نقص كلمة (الفرد) تحتمل نقصا، فلهذا لا تدخل في الأسماء الحسنى، نعم.... يعني من جهة أنه ليس بمتعدٍّ؛ لأنه إذا أطلق فلان فرد يعني له ضعف، يعني كأنه ضعيف. نعم.(38/177)
.. لا هو ما يرد من النفي المفصل في كلام السلف حق، وليس مخالفا للقاعدة؛ لأنه ردّ على أهل البدع، وهناك فرق ما بين الإثبات؛ إثبات الصفات ابتداء وما بين نفي أقوال أهل البدع، فإذا أردت أن تنفي أقوال أهل البدع فلك أن تنفيها مفصلا، وليس هذا من جهة الوصف، ولكن من جهة إثبات الوصف؛ وصف الله جل وعلا بالتفصيل، والنفي يكون لأقوال أهل البدع، فنقول مثلا في قاعدتنا الله جل وعلا ليس بحال في الأمكنة، ولا بممازج، ولا بمخالط، وليس هو جل وعلا مشبها بخلقه، وليس هو جل وعلا معطلا عن صفاته، وأشباه ذلك، هذا رد على أهل البدع جائز، هذا، هذا لا يخالف منهج السلف لأنه يجامع التفصيل في الإثبات. نعم
([72]) يكثر هنا رحمه الله من تسمية شيخ الإسلام، شيخ الإسلام الهروي، شيخ الإسلام الأصبهاني، شيخ الإسلام كذا، وهذه كلمة درجت في تلك الأزمنة على من كان حجة في علومه، فمن كان حجة في علمه وجمع علما كثيرا فيقال له شيخ الإسلام، يعني في العلم الشرعي، فهي تطلق على العملاء في الشرع الذين بلغ علمهم مبلغا عظيما وصاروا أئمة وحجة.
وأول من أطلقت عليه كلمة شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك من السلف؛ يعني بهذا المعنى.
أما من جهة الإطلاق فإنها أطلقت أبي بكر الصديق وعلى عمر في حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «هما شيخا الإسلام»، وهذا جاء في حديث، لكن المعنى الاصطلاحي هو ما ذكرت لك، وأول من قيلت فيه هو ابن المبارك رحمه الله تعالى، فتوسع الناس فيها حتى صارت منصبا دينيا، في الخلافة أو في الدولة العثمانية صارت منصبا دينيا، يقال منصب شيخ الإسلام يعني كالمفتي، ومشيخة الإسلام دار مثل دار الفتوى، يقال هذا شيخ الإسلام هذا وكيل شيخ الإسلام، إلى آخره، ومعناها على ما ذكرنا.
والإمام لمن كان قدوة مع كونه حجة، وكلمة شيخ الإسلام هذه لجمع العلوم ولو لم يتبع الإمام يزيد عليه بأنه أُتبع وأهل بأن يقتدى به.(38/178)
([73]) على كل حال الجملة الأخيرة تحتاج إلى بحث لغوي ( مباحثة التنفير ومناسبة التنقير) كأنها غير مستقيمة.
هذا الكلام مشتمل على عدة مسائل:
فمنها أنَّ ما توهمه خيال المرء أو حلم عليه ذكره في صفة الرب جل وعلا؛ يعني في كيفية اتصافه أو دار بخياله، فليعلم بأن الله جل وعلا على خلافه، وهذا لأن كسب المعارف إنما يكون في رؤية الشيء أو مثيله أو بما يقاس عليه، فتتصور شيئا ما في ذهنك إذا رأيته فذُكِّرت به، أو رأيت مثيلا له فذكرت بمثيله، فقلت هذا مثل هذا, مثل هذا بيت مثل بيت, وخبز مثل خبز وأشباه ذلك، أو ما يقاس عليه, يعني ما يمكن أن يجمع بينهما قياس فيكون هذا مع هذا مشترك في الكيفية في شيء، فيمكن أن نتصور ونتوهم ما دلَّت عليه الرؤية أو دل عليه التمثيل أو دل عليه القياس، والله سبحانه وتعالى لم تُرَ ذاته العلية الجليلة، ولم ير مثل له سبحانه وتعالى، ولم ير شيء يقاس عليه.
فإذن لا يمكن أن يتصور الذهن صفة الرب جل وعلا من جهة الكيفية، لا يمكن؛ لأن الذهن لا يكتسب أو القلب لا يكتسب المعرفة وتصور صورة الشيء إلا بهذه الثلاث لا غير.
أما إذا لم يكن ثَم مثيل، ولا ما يقاس عليه أو لم ير الشيء، فإنه لا تأتي الصورة إلى الذهن، وإن أتت صورة، فالصورة من نسج الخيال ليست على جهة الواقع والحقيقة.
ولهذا قال العلماء ما دار في ذهنك فالله سبحانه وتعالى بخلافه؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد سبحانه وتعالى.
وما بقي من الكلام واضح، إلا أنه ذكر مسألة أسماء الله جل وعلا وصفاته، وأنه سبحانه كان متسميا بالأسماء متصفا بالصفات قبل أن يفعلها، فقال (خالقا سيخلق، ورازقا سيرزق، وجائيا سيجيء، ومستويا على عرشه سيستوي) وأشباه ذلك، وهذه الكلمة مجملة تحتاج إلى استفصال، فإنها رد على كلام المعتزلة.
وهذه الكلمة التي قالها قد تكون من مذهب السلف وأهل الحديث، وقد لا تكون؛ يعني تكون على مذهب أو على رأي الأشاعرة.(38/179)
فأما كونها على رأي الأشاعرة، فهذا يحصل بتقرير أهل في هذا الباب، وهو أن المعتزلة قالوا: إن الله جل وعلا لم يستفد اسم الخالق إلا من الخلق، ولم يستفد اسم الرازق إلا من الرزق، ولم يستفد اسم المحيي إلا من الإحياء، ولم يستفد اسم المميت إلا من الإماتة، وهكذا، ولا المصور إلا من التصوير، ولا البارئ إلا من البرء، فقبل أن يخلق ليس له اسم الخلق، وقبل أن يرزق، ليس له اسم الرازق إلى آخره، وهذا كلام المعتزلة، وهو باطل.
فإنّ الله جل وعلا لم يزل متسميا بهذه الأسماء.
الأشاعرة يقولون إنه جل وعلا كانت له هذه الأسماء؛ ولكن لم يشأ أن يظهر أثر الاسم في خلقه، فكان اسمه الخالق ولم يخلق شيئا حتى ابتدأ خلق هذا العلم، وكان اسمه الرازق والرزاق ولم يرزق أحدا وأشباه هذا.
وهذا القول يحوم حوله الكلام الذي سمعتم، وبهذا نقول: إن كان مراده هذا الكلام فهذا غير صحيح؛ بل هو مخالف لمنهج ما عليه أهل الحديث والأثر في أن الله جل وعلا له هذه الأسماء الحسنى، وهذه الأسماء الحسنى والصفات لابد لها من أثرٍ، لابد لها من أثر، والله سبحانه وتعالى لم يزل خالقا عليما قديرا رزَّاقا سبحانه وتعالى، فعالا لما يريد، لم يزل سبحانه يفعل ما يريد. [انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس].
فإذن هو جل وعلا يفعل ما يريد، حي خالق رازق قبل خلق هذا العالم، ولا يجوز أن يعتقد أن الله جل وعلا مُتَسَمٍّ بهذه الأسماء دون ظهور أثر هذه الأسماء في خلقه؛ بل هو سبحانه لابد من ظهور آثار أسمائه وصفاته في ملكوته، والملكوت لا يقصد به هذا الملكوت المرئي السموات والأرض إلى آخره؛ بل هو سبحانه له الملكوت كله؛ ما علمنا منه وما لم نعلم، ما سبق هذا المرئي وما سيخلقه.
فإذن نقول إنه سبحانه وتعالى خالق ظهر أثر خلقه ورزاق ظهر أثر رَزقه، ولا بد.(38/180)
وكلمته أنه (خالق سيخلق) إن أراد بها هذا الملكوت فهذا يوافق قول الأشاعرة، وإن أراد بها جنس المخلوقات، خالق يعني أنه سبحانه وتعالى خالق سيخلق جنس مخلوقات في الأزل أو في القديم فهذا مستقيم، فإذن تعلق الخلق، بأي شيء؟
فإن كان تعلقه بهذا العلم هذا من قول الأشاعرة.
وإن كان تعلقه بجنس المخلوقات بما لا نعلم فإن هذا متفق مع قول أهل الحديث.
.. لا، الأشاعرة ما يقولون بتعطيل الأسماء والصفات، هم ما يلزمهم، هم يقولون متصف لم يظهر أثر اتصافه، لم يظهر أثر فيه، لأنه لا مخلوق.(38/181)
.. خالف منهج أهل السنة؟ بل وافقهم، بل هو رحمه الله وافق قول أهل السنة في المسألة، شيخ الإسلام قرر منهج أهل الحديث العام، ما نصّوا عليها، لكن مخالفتهم للمعتزلة وللأشاعرة في المسألة وتقريرهم خلاف ما قالوا، علمنا مذهبهم؛ وهو أن الله سبحانه وتعالى حي لم يزل حيا، قدير لم يزل قديرا فعال لما يريد، لم يزل سبحانه وتعالى فعال لما يريد، ولابد أن يكون لهذا أثر، فامتناع الرب جل وعلا عن الفعل زمنا طويلا جدا حتى خلق هذا العالم، يعني أن صفات الرب جل وعلا لم تظهر آثارها في شيء من بريته، هذا ممتنع؛ لأن معنى هذا أنه سبحانه وتعالى متصف بصفات ولا أثر لهذا الاتصاف، فهو سبحانه محيي بلا إحياء على هذا القول، مميت بلا إماتة، خالق بلا خلق، هذا ممتنع، لا شك أنه لابد أن ثَمة ابتداء للخلق في زمان، لاشك أنه لابد لابتداء الخلق في زمان، لكن الزمان محدَث، والزمان نسبي فهل الزمان ابتدأ مع خلق السموات والأرض؛ لأن الزمان زمن يتكرر بشيء، هل ابتدأ مع خلق السموات والأرض وخلق الشمس؛ صار اليوم هو كذا، أو صار اليوم بالنسبة اليوم عند الله جل وعلا كألف سنة مما نعد؟ واليوم في مكان آخر في المريخ يختلف، واليوم في مكان آخر يخنلف، فالزمان كله نسبي ، ثلث الليل ، نصف الليل، هذا نسبي، منسوب يعني منسوب إلى أهل، فالزمان مخلوق، كما أن المكان مخلوق، فالزمان مخلوق، فلهذا لابد للزمان من ابتداء.
الإنسان لا يتصور خلاف الزمان؛ لأنه في معارفه لم يكتسب بالنسبة شيء إلى شيء بالتقدم أو التأخر إلا من جهة الزمن.
فإذن نسبت الأشياء عنده من حيث أن هذا قبل هذا من جهة الزمان، رأى أن فيه هذا قبل هذا أو علم فيه أن هذا قبل هذا، ومعلوم أن هذا من جهة كسب المعارف.(38/182)
فنظرية المعرفة المعروفة إنما هي قائمة على النسبية، كما قال جل وعلا ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[النحل:78]، فهو سبحانه أخرجنا لا نعلم شيئا، فكل معلومة اكتسبها الإنسان فهي منسوبة، فليس عند الإنسان علم مطلق، وإنما كل شيء ينسبه؛ هذا كبير لأنه رأى أصغر منه، وهذا عالم لأنه رأى أجهل منه، وهذا زمن لأنه احتاج أن يقيم شيئا من جهة حصوله، فهو يوم وراءه يوم؛ لأنه رأى التكرر، شمس شهر، رأى التكرر، سنة، رأى التكرر.
يمكن يعني من جهة النظر لا من جهة الواقع والشرع؛ يمكن أن نصطلح على أن كل عشر سنين أن نسميها سنة، وهذا اصطلاح، فتجعل كل عشرة أشهر شهر يعني ما ممضى من رمضان إلى رمضان، نجعلها شهر، ونجعل رمضان أسبوع؛ يعني من حيث الاصطلاح لا يمنع، يعني كل شيء منسوب عند الإنسان.
ويأتي غلط الإنسان أنه يقيس العالم فيما قبل هذه النسب بالعالم المنسوب، فيأتي ويقول إنما قبل خلق السموات والأرض هو مثل ما بعد خلق السموات والأرض من جهة الزمان، وهذا غير وارد؛ لأن ما بعد خلق السموات والأرض صار الزمن منسوبا إلى علامات حدوث الزمن بما في السموات والأرض؛ يعني الشمس، القمر، الأرض، الحركات إلى آخره، وما قبل ذلك فلا تنسبه إلى الزمن هذا الذي حصل بعد خلق السموات والأرض، أو هذا قائم على أن كل علم يكتسبه الإنسان فهو منسوب إلى شيء، ولهذا غاية ما عند الإنسان من العلم محدودة؛ لأنها منسوبة، فجميع ما يمكن أن يحصله من المعارف منسوب إلى الأشياء التي حوله، والأشياء التي حوله محدودة، فيبقى علمه محدودا.(38/183)
ولهذا يجب تنزيه الرب جل وعلا عن أن يكون اتصافه بصفاته أو تسميه جل وعلا بأسمائه مقيدا بزمان هو عندنا زمان، أو مقيد بمكان هو عندنا مكان؛ لأن هذا كله راجع إلى ما نكتسبه من المعارف أومن المعلومات، والله سبحانه وتعالى هو العليم بكل شيء المتوحد في الجلال بكمال الجمال.
فإذن أهل السنة والحديث يرون في مقتضى كلامهم حيث خالفوا الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الأسماء؛ أسماء الرب حل وعلا والصفات: أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد سبحانه، ولا نحد ذلك بحد ولا نقول ابتدأ خلقه بخلق السموات والأرض، أو ما أشبه ذلك؛ فإنه سبحانه له أن يتصرف وأن يفعل كما يشاء لا معقب لحكمه وراد ما يريد جل وعلا.
والإنسان يصل بحد ينتهي فيه تصورُه، يعني إذا امتد في تصوره أن هذه الأشياء سينقطع إما بانقطاع الزمن أو بانقطاع المكان في حسب رأيه، فإذا انقطع الزمن وانقطع المكان انقطع هو، فإنه يمكن أن يبدأ في ذهنه ويمشي إلى أزمان، أزمان، أزمان، ثم يقول ما بعد ذلك؟ يقول إيش بعد هذا؟ أو إيش قبل هذا؟ من الزمن؟ فينتهي تصوره، لم؟ لأنه لا يمكن أن يدرك شيئا غير الزمان، هو لا يعرف إلا الزمن ينسب إليه الأشياء، والزمن هذا أبتدئ، الزمن مخلوق أبتدئ.
فإذن هو سيصل، سيصل لو قدّر أنه يصل إلى ابتداء الزمن، وابتداء الزمن لا يمكن أن نحد به صفات الرب جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء.
فإذن غلط الذين غلِطوا من المعتزلة والأشاعرة وأشباه هؤلاء في هذه المسألة العظيمة، أنهم نظروا إلى الزمان وإلى هذا العالم، فجاء الغلط من هاتين الجهتين:
? النظر إلى أن هذا العالم هو الذي خُلق ليس قبله عوالم.
?ومن جهة الزمن أن الزمن محدود بابتداء هذا العالم وهذا أيضا منسوب لا ندري هل هو صحيح أم غير صحيح.
والله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء من الأزمنة والأمكنة، إلى غير ذلك.(38/184)
في الجنة الزمن يختلف، اليوم يختلف على ما قد يختلف مروره، يوم القيامة يوم ألف سنة هو يوم واحد، إذن الشمس تدنو من الخلائق، إلى آخره.
فإذن كل هذه الأزمان منسوبة، نسب، الناس يعيشون بنسب تعارفوا عليها، واصطلحوا عليها، وجاءت الشرائع بتقريرها لإصلاح حالهم ?يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ?[البقرة:189]، ?إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ?[التوبة:36]، يعني جعل الله جل وعلا لما خلق السموات والأرض جعل القمر عَوْدُه دلالة على شهر لأنه يحصل به الظهور والاشتهار، واثنا عشرة شهرا فيها ترجع الشمس إلى موضعها الأول، فصار هذا بعد خلق السموات والأرض هو ما يُنسب إليه الأزمنة الشهرية والأزمنة السنوية واليوم إلى آخره.
فهذا نسبي للإنسان، وأما الزمن المطلق فلا نعلمه، مثل ما تقول: الآن نحن أعلى. نحن الآن أعلى أو أسفل؟ ما فيه شيء اسمه أعلا أو أسفل، أما بالنسبة لمن تحتنا في الجوف فنحن أرفع منهم، أما بالنسبة لمن في السطح فنحن أسفل، ما فيه شيء أعلا مطلقا أو أسفل مطلقا، لابد من شيء ينسب إليه، ولهذا غلط من غلط في حديث النزول في قوله «ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر» فقال ثلث الليل يمتد الأرض كلها، فهل يعني ذلك أن الله جل وعلا نازل كل الليل، نظر إلى أن فعل الله جل وعلا في الزمن هو كالزمن الذي ينسبه إلى نفسه، الزمن المنسوب، وهذا تشبيه لصفات الله جل وعلا بصفات خلقه فإن الإنسان هو الذي يبقى إذا كان في الثلث بقي مع الزمان خلاص استغرق هذا الزمان.
الله جل وعلا ليست هذه صفته ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، بل هو سبحانه ينزل كيف يشاء على الصفة التي شاء جل وعلا.(38/185)
المقصود أن هذه المسألة مهمّة مهمة جدا للغاية وهي أن المعارف نسبية، وهذه تجيب على جميع الإشكالات التي ترِد على الغيبيات، الغيبيات إذا استشكل شيء منها فيطرد بهذه القاعدة؛ قاعدة النسبي والمطلق، فإذا فهمتها حصّلت خيرا كثيرا.
([74]) الكلام الذي سبق نقله كلام في الجملة موافق لكلام السلف رحمهم الله تعالى، إلا أن قوله (من غير ممازجة أو يلاصق به) كلمة (يلاصق به) هذا نفي أو تنزيه لما لم يرد، أما أن يحل أو يمازج فهذه واضحة؛ لأن الله جل وعلا مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه.
أما الملاصقة به بجسم فهذه تحتاج إلى نظر والأشبه عدم جواز قولها؛ لأن الله سبحانه وتعالى غرس جنة عدن بيديه ولأنه سبحانه خلق آدم بيده، ولأنه سبحانه كتب لموسى الألواح بيده، وأشبه ذلك، ولأنه سبحانه مستو على عرشه بذاته، وهذا يدل على بقاء هذه الأشياء على ظاهرها، فلا يسوغ أن ننفي هذه الكلمة؛ لأنه قد يكون النفي حقا وقد يكون باطلا، ومعلوم أننا في الإثبات نتوقف على النصوص وكذلك في النفي نتوقف على ما جاء أيضا في النصوص.
فهذه لم يرد نفيها وهي محتملة، فلا ينبغي الإثبات ولا النفي، وبعض السلف بعض الأئمة أثبت المسيس، وهذا له محل بحث.
([75]) فهذا الكلام الذي سمعت قاله الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى وهو صحيح، لأن النسخ إنما في الأحكام في الإنشاءات فإن كلام الله جل وعلا منقسم: إلى أخبار وإلى إنشاءات.
والخبر: هو ما يكون قابلا للتصديق وللتكذيب.
والإنشاء: هو الأمر والنهي وما يدل عليهما.
فهذا يعني الإنشاء فيه الامتثال، وأما الأخبار ففيها التصديق أو التكذيب من الخلق، فالأحكام والإنشاءات هي التي يجوز أن تنسخ كما قال جل وعلا ?مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[البقرة:106]، يعني في الأحكام.(38/186)
أما الخبر عن الغيب؛ عن الجنة أو عن النار أو عن الملائكة أو عن صفات الله جل وعلا أو أسمائه أو عن الأمم الماضية فهذه لا يجوز أن يدخلها النسخ، ولا أن يعتقد في الآية المتأخرة أنها ناسخة للآية المتقدمة، كما ذهب إليه قوم من الضُّلال من الرافضة والملاحدة وأشباه هؤلاء، فإن هؤلاء ظنوا أن النسخ يكون في الأخبار ويكون في الإنشاءات، وهذا غلط عظيم؛ لأن الخبر يَدخله التصديق أو التكذيب، والخبر كيف يُنسخ؟ إذا قيل بجواز نسخ الخبر، معنى ذلك أن الأول ليس بصدق، والله جل وعلا كلامه حق وصدق كما قال سبحانه ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا?[النساء:22]، وكقوله ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا?[النساء:87].
ولهذا لا يجوز أن يقال إن هذه الآية في الأخبار هذه الآية نسخت ما قبلها، بمعنى أزالت الحكم.(38/187)
أما النسخ الذي هو بمعنى إيضاح للمجمل الذي قد يستعمله السلف بمعنى النسخ؛ يعني أن هذه الآية أوضحت مجملا في الآية الأخرى في الغيبيات، فهذا لا بأس أن يكون في الأخبار؛ لأنه من قبيل البيان ليس من قبيل إزالة خبر وإتيان بخبر جديد يقوم مقامه، فكل ما أخبر الله جل وعلا به حق، والعلم علم الله جل وعلا أوّل فهو سبحانه وتعالى لم يزل عالما وعلمه في خلقه يظهر، كما قال سبحانه ?وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ?[البقرة:143]، وفي قوله تعالى في آية محمد ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ?[محمد:31]، هنا في قوله (لِنَعْلَمَ)، و(حَتَّى نَعْلَمَ) مثل ما ذكر لك الحارث في آخر الكلام وهو قول السلف أن معناها حتى يظهر علمنا فيها، (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ) يعني حتى يظهر علمنا السابق في المجاهدين، (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) يعني إلا ليظهر علمُنا فيكون حجة على الناس حجة على الموافق والمخالف على المطيع والعاصي.
وهذا يجرُّ تبعا للأصل أن الله جل وعلا لا يستأنف علما لم يكن علمه قبل؛ بل هو سبحانه وتعالى لم يزل عالما سبحانه قبل أن يخلق الخلق ويعلم أحوالهم على التفصيل والإجمال سبحانه وتعالى، يعلم الكليات والجزئيات، يعلم الظاهر ويعلم الباطن؛ إذْ هو جل وعلا بكل شيء عليم.
فصفات الله جل وعلا وأسماؤه والأخبار الغيبية هذه كلها من قبيل الأخبار، لا يجوز عليها النسخ، ولا يستأنف سبحانه وتعالى شيئا منها لم يكن عليه؛ بل هو سبحانه لم يزل في صفاته جل وعلا.(38/188)
([76])هو يريد الكلام على قوله ?إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ?[الشعراء:15] أنه ليس بتكلف؛ يعني مستمع قد يفهم منها الإصغاء، قد يفهم منها تكلف السماع، والله سبحانه وتعالى سميع بالغ في السمع نهاية هذه الصفة من الجمال والجلال لا يتكلف شيئا؛ بل هو سبحانه وتعالى يسمع دبيب النملة السوداء على [الصخرة الصماء] سبحانه وتعالى، ويعلم السر وأخفى، بل حديث المرء في نفسه يعلمه سبحانه وتعالى دون عناء ودون مشقة، فلا يفهم من قوله (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أن هذا بكلفة ومشقة، بل هو سبحانه كامل في صفاته وكل شيء هيِّن عليه جل وعلا، وسع سمعه الأصوات سبحانه وتعالى.
([77])هو هذا الكلام في الحقيقة ليس على الجادة؛ لكن يمكن أن يفسر بتفسير صحيح؛ لأن شيخ الإسلام لما نقله لعله أراد ما اشتمل عليه من إثبات الصفات وما ذكره من الكلام –يعني الحارث – فيه بعض ما لا يتفق مع طريقة السلف في تقرير الصفات، ويمكن أن يحمل على محمل صحيح، ففي آخره جعل السمع والبصر مثل العلم، وهذا ليس كذلك، فالعلم علم الرحمن جل وعلا هو سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها.
أما السمع فهو سبحانه يسمع الأصوات بعد صدورها من أهلها، أو صدورها من الأشياء، ويرى المبصرات بعد وجودها كونا، مثل ما قال في أول الكلام (يحدث شيئا فيراه كونا فإذا أحدثه جل وعلا رآه) واقترانه أو قرنه السمع والبصر بالعلم في هذا الباب ليس بجيد؛ لأن العلم للأشياء قبل أن تكون، أما السمع والبصر للأشياء فإنها بعد أن تكون، فتعلق العلم عند أهل السنة، متعلق العلم غير متعلق السمع والبصر؛ لكن يحمل على تفسير صحيح وهو أنه أراد الرد على من قالوا بأنه جل وعلا يستأنف علما أو يستأنف سمعا أو يستأنف بصرا وهذا المراد صحيح.
([78]) حش: مكان قضاء الحاجة.(38/189)
([79]) [انتهى الشريط الخامس] الحارث المحاسبي في هذا الكلام الطويل يريد الرد على طوائف أساءت فهم القرآن، وكتابه فهم القرآن أو تفهيم القرآن مبني على الرد على من أساء فهم القرآن سواء في الأصول أو في الصفات أو في السلوك أو غير ذلك، والكتاب مطبوع، والطوائف التي ظلت في فهم القرآن أصناف منهم من ظلوا في باب التوحيد، وهذا النقل كله مختص بهذا، فمنهم المعتقدون بالحلول وأن الله جل وعلا في كل مكان بذاته في الأماكن الطاهرة وفي الأماكن النجسة في الحش وفي المسجد وفي الشارع وفي كل مكان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، احتجوا ببعض الأدلة كقوله جل وعلا ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ?[الأنعام:3]، وكقوله جل وعلا ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، وردّوا على بعض الأدلة التي يُرد بها عليهم كقوله ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، لأن هذا فيه فصل ثم فيه استئناف وأشباه ذلك مما سمعت من الاحتجاج والرد عليهم.(38/190)
وحجة أهل السنة واضحة وما قرره الحارث في هذا جيد وواضح، فإن قوله مثلا في آخر الكلام (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) يعني هو جل وعلا الذي يُعبد في السماء وهو الذي يُعبد في الأرض، مع كونه جل وعلا على عرشه مستوٍ عليه كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه، كما يقول القائل فلان أمير في كذا وأمير في كذا وأمير في كذا، أو هو الأمير في كذا وكذا وهو في مكان واحد، وإنما يصدر أمره في هذه جميعا، ويطاع في ذلك، فقوله ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:84] هذا معناه وهو المعبود في السماء وهو المعبود في الأرض، فلا معبود غيره في السماء ولا معبود غيره في الأرض، وأما آية الأنعام ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ?[الأنعام:3]، فإن تفسيرها فيه أوجه منها:
?أن قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) يعني على السموات؛ يعني هو جل وعلا في السموات يعني على السموات، (فِي) هنا بمعنى (على) كقوله ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71]، يعني على جذوع النخل ثم تستأنف وتقول (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).
? القول الثاني أن الوقف على (وَفِي الْأَرْضِ) يعني (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) هذا الوقف، ثم تقول (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) فيكون المعنى وهو المعبود الحق في السموات وهو المعبود في الأرض إذْ إنّ لفظ الجلالة علم على المعبود بحق.
? أو تصلُها جميعا الآية فتقول (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).(38/191)
والوجه الأول أظهر هذه الأوجه، والثاني أيضا ظاهر والثالث بين، فيقرأ القارئ يقول (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِص وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) يعني أنه سبحانه على السموات وفي الأرض يعلم فعلمه مع خلقه أو تقول (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) يعني وهو المعبود سبحانه في السموات وهو المعبود في الأرض كآية الزخرف (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ).
هو يريد الردّ -يعني الحارث المحاسبي- على أصحاب الحلول والوحدة النافية لصفات الله جل وعلا.
نكتفي بهذا القدر.
([80]) (هوى حسن النفس المستخرجة) هذه هي الأحكام؛ وصار معلوم لهم على الأحكام المستخرجة من سوء الظن، والأحكام هذه هي أحكام هوى النفس، أو هوى حسن النفس؛ يعني تحسين النفس، ماشي، كلها صحيحة (على الأحكام هوى حسن النفس المستخرجة) يعني هوى تحسين النفس؛ يعني هوى مصدره تحسين النفس، يعني حسن النفس ما تراه النفس حسنة، والمستخرجة هي الأحكام.
([81]) (معرفةُ) هذه وأشباهها تضبطها بأن تسندها إلى ياء المتكلم، فإذا أسندتها إلى ياء المتكلم فالياء مفعول وما بعدها فاعل، تقول مثلا (لزم محمدا القراءةُ), (يلزمني القراءةُ), (كفى محمدا العلمُ), لأنك تقول:كفاني العلمُ، سرني الخبرُ، يسرني علمُك، وأشباه ذلك، فالأفعال من هذا تضبطها ما يشتبه فيها الفاعل بالمفعول، تشتبه على القارئ.
فما أسند إلى ياء المتكلم هذا يكون ما بعده فاعل؛ يعني الياء مفعول وذاك فاعل، تقول سرَّني الخبر؛ يعني سرّ الخبر إياي، كفى محمدا العلم، لأنك تقول كفاني العلم، كفاني المال، وأشباه ذلك.
([82]) ما سبق إيراده من خطبة كتاب التوحيد لأبي عبد الله الخطيب هذا مشتمل على تأصيل منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة.(38/192)
وهذا المنهج مأخوذ من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين في فهم الكتاب والسنة، والتابعون لا يستقلون بأحكام التوحيد؛ بل إنما هم مقرّرون لما جاء في النصوص، فلو جاء عن أحد منهم شيء لم يكن في النصوص -يعني عن التابعين- لكان هذا على عهدة قائله ولا يكون عقيدة ولو تبعه عليها بعض من بعده.
فشرط الاعتقاد الصحيح أن يكون جائيا في الكتاب أو السنة وكان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا هو قيد الاعتقاد الصحيح وقيد مصدر تلقيه.
فهذا هو الذي أجمع عليه السلف بإجماع المهاجرين والأنصار على ذلك فمن بعدهم.
ثم إن العقل لا مأخذ له في الغيبيات، العقل وتحسين النفوس ورؤية الصواب من جهة عقلية في الأمور الغيبية ليست واردة وليست من مواد التلقي أو من مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة؛ بل التلقي إنما يكون كما ذكرنا من النصوص وما عليه السلف الصالح يعني بما أجمعوا عليه، والعقل إنما هو لفهم النصوص.
فالأمور الغيبية العقلُ لا يحسنها؛ لأن العقل راجع في إدراكه وفي تصوراته إلى قياس الأمور بعضها مع بعض، فهذا هو الذي قرره العقلاء في الكلام في ما يسمى نظرية المعرفة وما يكتسبه الناس من المعارف كيف يكون؟
والأصل في اكتساب الناس المعارف إنما هو بالأقيسة على الضروريات، فالضروريات التي شاهدوها بأعينهم أو سمعوها أو ذاقوها أو لمسوها يقيسون المعارف على ما شاهدوا فتنتج لهم المعارف، وتنتج لهم الأقيسة العقلية والإدراكات العقلية.
ففي ما هو معلوم في المنطق وفي الفلسفة بعامة ما يسمى بنظرية المعرفة؛ يعني ما به تكون معرفة الأشياء فيه:(38/193)
أولا: الضروريات كما قال جل وعلا?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[النحل:78]، فجعل الأبصار، فجعل الأفئدة، جعل السمع ، قبل ذلك لم؟ لأن هذه هي وسائل التحصيل، فما كان مأخوذا من هذه الحواس فيسمى عندهم ضروري؛ يعني لا يحتاج إلى استدلال نظري لإثباته، بل نقول هذا هو أمامي لمسته سمعته أسمعك الآن لا يحتاج إلى إثبات، ومن احتاج إلى إثبات الضروريات هؤلاء قوم أهل بدع يقال لهم السفسطائية الذين يجادلون حتى في الضروريات.
المقصود أن العقل يدرك المعارف بعد تحصيل الضروريات بقياس ما لم يره على ما رآه، بقياس ما لم يسمعه على ما سمعه، ومعلوم أن المعارف إنما حُصِّلت بأشياء دنيوية، بأشياء مرئية، بأشياء مسموعة بعالم الشهادة.
وقياس عالم الغيب على عالم الشهادة وإدخال العقل في ذلك هذا من مناهج أهل الضلال.
وعندنا -عند أهل السنة والجماعة- أن قياس الغيب على الشهادة باطل شرعا، كما أنه باطل عقلا عند العقل الصريح؛ لأن الأقيسة هذه العقلية مبنية على المدارك الضرورية، والمدارك الضرورية الدنيوية مشهودة، فكونك تقيس غير المشهود على المشهود هذا فيه بطلان في تحكيم حتى القواعد العقلية.
فخلصنا من ذلك: أن قياس عالم الغيب سواء في صفات الله جل وعلا وأسمائه أو في صفة الجنة والنار أو في الميزان أو في الصراط المنصوب على متن جهنم، أو في عالم الملائكة، أو في أي أمر غيبي يأتي في النصوص إثباته، فإن الخوض فيه بدلالة عقلية بمخالفة ظاهر ما دلت عليه النصوص، هذا راجع إلى الأصل الذي ذكرنا، وهو إعمال العقل في قياس عالم العقل على عالم الشهادة، وهذا خلف من القول وباطل من التقرير بل الغيب له قواعده وأقيسته العقلية الصحيحة، والشهادة لها قواعدها وأقيستها الصحيحة فجعل هذا لذاك أو ذاك لهذا لا يصح.(38/194)
نخلص من ذلك إلى أن العقل التفكير في النصوص في الثواب في العقاب في الغيبيات هذا من الباطل.
([83]) هذا النقل والكلام فيه ذكر صفة النفس لله جل وعلا، والنفس له سبحانه فسرت بتفسيرين:
الأول أن النفس بمعنى الذات يعني انه جل وعلا له ذات؛ لأنه يقال في اللغة النفس بمعنى الذات، كما في قول القائل: جاءني خالد نفسُه؛ يعني ذاته من جهة التأكيد؛ يعني لم يأتِ رسول منه ولم يأت كتاب منه وإنما أتى خالد نفسه يعني بذاته.
وتأتي النفس ويراد بها في المخلوق الروح, الروح كما في أدلة كثيرة منها: قول الرجل في الحديث الصحيح (إِنّ أُمّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا) يعني روحها، ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ?[ التوبة:111] يعني أرواحهم، وأشباه ذلك.
وفي صفة الله جل وعلا صفة النفس:
?منهم من أهل العلم من قال: النفس بمعنى الذات. يعني من أهل السنة.
?ومنهم من قال النفس يعني له جل وعلا نفسا خاصة، ونثبت اللفظ ولا نقول هم بمعنى الذات فقط؛ بل نقول له سبحانه وتعالى نفس وهو جل وعلا له ذات ،كما أن له صفات وأفعال والصفات قائمة بالذات.
وقوله جل وعلا ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ?[المائدة:116]، هذا ظاهر في إثبات النفس لله جل وعلا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «سبحان الله رضا نفسه» وأشباه ذلك.
ومنهم من قال في الآية إن هذه بمعنى الذات لأنه (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) هذا يعني ما تعلمه أنت ذاتُك.
? لكن بقاء النص على ظاهره، بدون الدخول في تفسير أحد الاحتمالين أولى، فنقول: إن النفس قد يكون المراد بها الذات، وقد يراد به صفة خاصة هي النفس، وقد يكون المراد الاثنين جميعا، وهذا الثالث أولى لأنه ظاهر الكلام لغة، فنقول إذن الأولى أن يقال (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) يعني فيها إثبات صفة النفس للذات.(38/195)
([84]) ذكر صفة النور لله جل وعلا، والنور المضاف إليه جل وعلا نوعان:
نور هو صفته سبحانه فهو جل وعلا نور، ومن أسمائه النور جل وعلا، وهذا النور من صفاته غير مخلوق؛ صفة من صفاته، كما جاء في الحديث «لو كشفه لأحرقت سَبُحات وجهه -أو سُبُحات وجهه- ما انتهى إليه بصره من خلقه» والسُّبحات هي الأنوار، وهذا صفة من صفاته سبحانه.
والثاني نور مخلوق، وهذا النور المخلوق يبتدئ من الحجاب قال «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه» فالحجاب نوره هذا مخلوق فيه، وتعالى الله جل وعلا وتقدس، وكذلك نور السموات والأرض ما فيها هذا نور مخلوق، كما قال جل وعلا ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[النور:35]، معناها نوّر السموات والأرض كما في القراءة الأخرى (اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) يعني هذا النور المخلوق، بل قال ابن عباس وجماعة في الآية؛ آية سورة النور: إنَّ النور هنا مثل ضربه الله جل وعلا لنور الهداية في قلوب أهل الإيمان، لهذا قال في آخرها ?يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ?[النور:35]، (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) يعني مثل نور هداية في قلوب عابديه (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) الآية.
فإذن تقرر أنَّ النور منه ما هو صفة ومنه ما هو مخلوق، والنور المضاف إلى الله جل وعلا على هذين القسمين.(38/196)
ونور السموات والأرض هذا نور مخلوق، ليس هو نور وجه الحق جل وعلا؛ لأنه سبحانه لو كشف الحجاب لتدكدك ما انتهى إليه بصره [انتهى الوجه الأول من الشريط السادس] من خلقه، ولما قال موسى عليه السلام لربه ?رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ?[الأعراف:143] (تَجَلَّى) أي أزيل الحجاب فوصل نور الحق جل وعلا إلى الجبل جعله دكا؛ يعني من قوة أثر النور.
بل كان السلف يقولون -كسفيان وجماعة وهو مأثور عمن قبلهم ويروى مرفوعا-: أن الحق جل جلاله وتقدست أسماؤه كشف من الحجاب قدر هذه, وأشاروا إلى الخنصر بالأنملة العليا، قدر هذه، قالوا كشف قدر هذه فتدككك الجبل ?فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا?[الأعراف:143]، يعني من قوة النور الذي رآه في لحظة.
المقصود من هذا أن الله جل وعلا موصوف بصفة النور، فنوره سبحانه من صفاته، وله نور مخلوق جل وعلا يضاف إليه إضافة المخلوقات تشريفا وتعظيما.
[سؤال: شيخ النور الذي يدل عليه الحديث هل هو نور الله «نُورٌ فأَنّىَ أَرَاهُ»؟]
..لا، «نُورٌ فأَنّىَ أَرَاهُ» هذا معناه رأيت نورا مثل ما جاء في الروايات الأخرى «نُورٌ أَنّىَ أَرَاهُ» يعني هناك نور وهو نور الحجاب فكيف أراه وبيني وبينه حجاب النور؟ مثل ما جاء في الرواية الأخرى قال «رأيت نوراً» هَلْ رَأَيْتَ رَبّكَ؟ قَالَ «رأيت نوراً» يعني نور الحجاب (حجابه النور) جل وعلا.(38/197)
..?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[النور:35]، ?اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ?[النور:35]، تفسير القرآن بالقرآن قراءة السبعية المتواترة (اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) فمن فسرها الله مُنَوِّر السموات والأرض على هذه القراءة (اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) هي قراءة سبعية وأعلى ما يفسر به القرآن القرآن، فمن قال الله منور السموات والأرض صحيح، الله نوّر على القراءة الثانية المتواترة، هذا أجود الله نوّر السموات والأرض.
.. ?نُورٌ عَلَى نُورٍ?، لا هذا ?كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ?[النور:35].
.. الآن عندك:
نور على نور. هذا واحد.
أنت نور السموات وأرض. هذا اثنين.
الثالث لأحرقت سَبُحات وجهه. هذا ثلاثة
قول ابن مسعود: نُور السموات والأرض نُور وجهه. هذا فيه إثبات صفة النور في الوجه.
([85]) هذه كلها، الآن عندك:
نور على نور. هذا واحد.
أنت نور السموات وأرض. هذا اثنين.
الثالث لأحرقت سَبُحات وجهه. هذا ثلاثة
قول ابن مسعود: نُور السموات والأرض نُور وجهه. هذا فيه إثبات صفة النور في الوجه.
([86]) رجلَه؛ لأن الغلط في الإعراب في الصفات أو في أسماء الله جل وعلا يغيِّر المعنى.
([87]) ذكر عدة صفات سواء من الصفات الذاتية أو من الصفات الفعلية له جل وعلا.
ومن صفاته الذاتية أنه سبحانه وتعالى حيّ، وأنه جل وعلا له صفة اليدين، وله صفة القدمين، أو الرجل له جل وعلا، كل هذا ثابت في الأحاديث، هذا، والسمع والبصر وإلى آخره.(38/198)
وهذا هو قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته «إنَّ الله خلق آدم على صورته» فالله جل وعلا خلق آدم على صورة الرحمن سبحانه وتعالى؛ يعني على صفاته سبحانه، فخصَّ آدم من بين المخلوقات بأنَّ له من الصفات من جنس صفات الحق سبحانه وتعالى؛ يعني أن الله سبحانه وتعالى له وجه وجعل لآدم وجها، وله سمع وجعل لآدم سمعا، وله بصر وجعل لآدم بصرا، وله أصابع سبحانه وجعل لآدم أصابعا، وله جل وعلا قدمان وجعل لآدم قدمين، وله سبحانه ساق وجعل لآدم ساقا، إلى آخر ذلك.
فهذا اشتراك في الصفة، والاشتراك في الصفة لا يعني الاشتراك في الكيفية؛ لأن هذا باطل، فالله سبحانه وتعالى جعل لآدم من الصفات مثل الصفات التي ذكرنا؛ يعني الصفات سواء الذاتية أو الصفة القوة والغضب والرضا والكلام إلى آخره، هذه الصفات جعل صفات آدم على صفات الرحمن سبحانه وتعالى وكما جاء في الحديث هذا «خلق الله آدم على صورته» و(على) ليست للتمثيل وليست للتشبيه، وإنما هي في اللغة للاشتراك، وهذا الاشتراك حاصل بدلالة النصوص.
فما فصل في هذا الموضع مما ينقله العلماء أجمل في قوله عليه الصلاة والسلام «خلق الله آدم على صورته» فقوله (على) يقتضي -كما ذكرت لك- الاشتراك ولا يقتضي المشابهة ولا المماثلة في الكيفية ولا في الصفة؛ يعني في غاية الصفة، وإنما هو اشتراك في جنس الصفة؛ في أصل معناها.
والصورة في اللغة، الصورة في اللغة هي الصفة، قال هذه صورة الشيء يعني هذه صفته، كما جاء في الحديث المتفق على صحته وقوله عليه الصلاة والسلام «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة البدر ليلة التمام» فقوله (على صورة البدر) يعني على صفة البدر ليلة التمام.
فهذا الحديث فيه كما ذكرت الاشتراك في الصفات.(38/199)
وكذلك من الصفات التي جاءت في الأحاديث أن لله جل وعلا صورة خاصة، والصورة الخاصة غير الصورة العامة، الصورة العامة يعني الصفات، والصورة الخاصة التي هي هيئة اجتماع الصفات، والله جل وعلا له صورة ليست كصورة المخلوق، وهذا بمعنى الصورة الخاصة، وهو جل وعلا له صورة يعني له صفات، وجعل المخلوق له من الصفات على صفات الرحمن سبحانه «خلق الله آدم على صورته» وهذا خاص بآدم؛ يعني لو تأملت كل المخلوقات ما تجد أنها مثل الإنسان في الاشتراك فيما بين صفاته وصفات الرحمن جل وعلا، فصفات الرحمن سبحانه وتعالى تجد معانيها في الإنسان بما يناسب ذات الإنسان.
وهذا هو التحقيق في معنى الحديث، خلافا لمن فهموا منه التمثيل أو التشبيه أو الذين ردوه أو الذين جعلوا معنى الصورة الصورة الخاصة، وليست الصورة العامة التي هي بمعنى الصفات.
[سؤال: ما الفرق بين الصورة الخاصة والصورة العامة]
.. مثل ما الفرق بين الإسلام الخاص والإسلام العام، الإسلام ثلاث مراتب إسلام وإيمان وإحسان، هذه ألفاظ في اللغة يكون اللفظ عاما ويدخل في تقاسيمه خاص هو نفس اللفظ، فالصورة هيئة اجتماع الصفات هذه صورة، الصفات صورة، مثل ما ذكرت لك في الحديث الذي في الصحيحين «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة البدر» يعني على صفته في الوضاءة والضياء والكمال كما أجمع عليه الشراح. هذا هو دِلالة اللغة ودلالة موارد الكلمة في الأحاديث.
الله سبحانه له صورة مثل ما جاء في أحاديث كثيرة غير أحاديث الصورة هذا، كما جاء مثلا في قوله «سيأتيهم في غير الصورة التي رأوه عليها أولا، فيقول لهم أنا ربكم، فيقولون له: لا نزال هنا حتى يأتي ربنا. قال: هل بينكم وبينه آية؟ قالوا نعم الساق. فيكشف ربنا عن ساقه فيخر...» إلى آخره.(38/200)
فجاء في الأحاديث إثبات الصورة لله جل وعلا، وهذه مثل ما قلنا لكم الصورة الخاصة؛ يعني الصورة التي معناها هيئة اجتماع الصفات فالله سبحانه وتعال له صورة تليق بجلاله وعظمته، واجتماع صفاته سبحانه ليست كاجتماع صفات المخلوق، فما خطر في بالك، فإن الله جل وعلا بخلافه، فالمخلوق اجتمع صفة الأصابع مع صفة اليد فيه مع صفة الوجه مع صفة القدمين على هذا النحو الذي أمامك في الإنسان، فالله سبحانه اجتماع صفاته في صورة لا يجوز أن نجعل هذه الصورة كصورة الإنسان؛ لأن هذا تمثيل والقاعدة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
والحديث هذا «إن الله خلق آدم على صورته» لفظة (على) تقتضي الاشتراك والمطابقة في الصفات؛ لكن لا تقتضي المماثلة، فالله جل وعلا عُدْ من صفاته سواء الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية تجد أن الله جل وعلا خلق آدم على صفاته سبحانه: فالوجه والعينان والسمع والبصر والقوة والإرادة والمشيئة والمحبة والرضا والغضب، والصفات الذاتية: الأصابع والقدم والساق إلى آخره والنفس -يعني عُدْ الصفات-، العلو الاستواء المجيء الإتيان، خذ، لكن هذه الصفات هي معنى قوله «خلق الله آدم على صورته» يعني على صورة الرحمن، فليس في الحديث على هذا شيء جديد، الحديث إجمال تفصيله في الأحاديث الأخرى، فليس فيه جديد هذا الحديث.
وهذا أشار إليه ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث قال: استعظموا هذا الحديث لعدم إِلْفِهِم له ولعدم سماعهم له، وإلا فليس هو أعجب من نصوص إثبات الصفات كقوله ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، وكقوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ?[الرحمن:27]، وكقوله ?وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى?[طه:81]، والآيات يعني في الصفات، هذا وهذا الباب واحد ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] سبحانه وتعالى.(38/201)
.. لا، الحديث الذي في الصحيحين جاء بألفاظ مختلفة «خلق الله آدم على صورته»:
فمرة جاء في بدأ خلق آدم «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا في السماء، فقال له ائتي هؤلاء النفر من الملائكة فانظر بما يحيونك» إلى آخر الحديث، هذا واحد.
الثاني الذي رواه مسلم «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته»، بعضهم قال على صورته يعني على صورة المضروب.
وفيه مستقل بدون هذا وهذا «خلق الله آدم على صورته».
وفيه «خلق الله آدم على صورة الرحمن»، هذا الحديث الذي صححه الإمام أحمد وإسحاق وجماعة من أهل السنة.
أما من أرجع الضمير إلى آدم فهذا قول الجهمية؛ لأن آدم لم تكن له صورة قبل أن يُخلق، كما قال الإمام أحمد قيل له: فلان يقول على صورته يعني على صورة آدم. فقال: وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق، هذا قول الجهمية. يعني قول الذين يريدون نفي الصفات؛ يعني معنى على صورته يعني على الصفات، الإمام أحمد يعلم أن على صورته وكذلك أهل اللغة في زمانه -وحتى الجهمية- يعلمون على صورته يعني على صفاته، فإذا قالوا على صورته يعني على صورة الرحمن على صفاته اضطروا إلى إثبات تفصيلاتها في النصوص، ولكن لما أرجعوا الضمير إلى آدم صار المقصود منتفيا، فصار ليس في الحديث إثبات الصفات أصلا.
الحديث هذا يدمغ المؤولة والمشبهة والمعطلة؛ لكن الشأن في فهمه كيف يُفهم.(38/202)
وأنا أعجب كثير من بعض من ينتسب إلى العلم، ويظن أن الحديث فيه تمثيل أو فيه تشبيه، وهذا لأجل فساد اللغة؛ فإن (على) في اللغة ليست بمعنى (مثل) بالاتفاق؛ (على) ليست بمعنى المثلية، خلق آدم على صورته، على صورة الرحمن، ليس معناه مثل صورة الرحمن، نقول هذا أخلاقه على أخلاق فلان، هذا عمله على عمل فلان؛ يعني أنه يتصف بصفات عمله؛ يشترك معه؛ لكن إذا أتيت إلى الكيفية إلى مقدار العمل لا يقتضي المماثلة في ذلك، قد يقتضي المشابهة (على) قد تقتضي التشابه والتشابه في أصل المعنى لا ننفيه، إنما ننفي التشابه في تمام المعنى يعني في كماله أو في الكيفية.
لهذا شيخ الإسلام أطال جدا في بحثه على هذا الحديث ورد على ابن خزيمة على تضعيفه لحديث «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» ونفيه لمعنى الصورة مما زلَّ فيه ابن خزيمة رحمه الله، في بحث معروف رد عليه في نحو خمسين ستين صفحة كبيرة في بحث من أحسن ما كتب على ذلك، في كتابه بيان تلبيس الجهمية، وفي الرد على الرازي في الجزء الذي لم يطبع.
.. كل صفات الله جل وعلا غير مخلوقة، إذا قلنا صفة معناه أنها غير مخلوقة، لكن النور أضيف إلى الله جل وعلا، فهذا النور الذي أضيف إلى المولى جل وعلا ينقسم إلى قسمين:
نور مخلوق.
ونور غير مخلوق.
النور المخلوق هذا من جملة المخلوقات يضاف إليه كما يضاف إليه بيت الله وناقة الله إلى آخره.
والنور الذي هو صفة إضافته إليه إضافة صفة إلى موصوف.
.. نور الهداية مخلوق، ما فيه شك
.. النور من التسعة والتسعين في الحديث المعروف.
([88]) لعله يكون أصلُه، أو فيكون أصلَ التصديق، لكن التصديق ما يستعمل مع كلمة أصل، أصلُ التصديق هذه العبارة ما يستعملها العلماء أصلُ التصديق والإقرار، وإنما يقال التصديق والإقرار.
على كل حال المقصود أن الإيمان هو التصديق والإقرار والأعمال؛ يعني تصديق القلب وإقرار اللسان أعمال الجوارح.(38/203)
([89]) الجمل يعني المجملة، الأحكام المجملة من العقيدة، هذه العبارة كانت عند العلماء.
([90]) العقود جمع عقد وهي العقيدة، عقد القلب على شيء يقال له عقد، تعاقد بينك وبين فلان عقد وبينك وبين الله جل وعلا عقد يعني العقيدة، وجمعها عُقود.
([91]) [انتهى الشريط السادس]
([92]) هذه مسألة (المقتول قُتل بأجله)، خلاف ما بين أهل السنة والمعتزلة القدرية فيها معروف، وهي فرع عن مسألة؛ مسألة كبيرة في القدر ويأتي تقريرها إن شاء الله؛ لكن عندنا أن المقتول قتل بأجله، وعندهم لا، هذا القاتل قطع عليه أجله؛ وذلك لأن الأفعال عندهم خلْق الإنسان غير مخلوقة لله جل وعلا، الأسباب عندهم خلْق الإنسان، فالقدر واحد لا يدخل فيه الأسباب ولا أفعال العبد، والقتل ظلم أو اعتداء، والأسباب التي أدت إليه من فعل الإنسان فخرجت عن القدر، والقدر هو أن أجله كذا، لهذا قالوا المسألة كان يبتلى بها الناس كانت مسألة من المسائل التي يكثر الكلام فيها بين المعتزلة وأهل السنة، في هل المقتول قُتل بأجله أم قُطع أجله، والأجل واحد؟
تقرير مذهب أهل السنة أن المقدَّر هو الأجل مع السبب، السبب الذي يكون به موت الإنسان أيضا مقدَّر، وهو من خلق الله جل وعلا، والله جل وعلا هو الذي خلق العباد، وهو الذي خلق الأسباب، وهو الذي خلق المسببات، فما تغلب قدرة الإنسان قدرة الله وإرادة الإنسان إرادة الله جل وعلا، هؤلاء يقولون إن كان عمره بأجل الثمانين وقتل وهو أبو عشر سنين يقول هذا قطع المخلوق؛ القاتل على المقتول أجله، ولو لم يقتله لعاش ثمانين سنة، لكنه اعتدى فقطع عليه أجله، وهذا خلوص منهم إلى نفي الظلم على الله جل وعلا بالقاعدة التي يقعدها أهل الاعتزال.(38/204)
المقصود هو أشار إلى هذه لأنها من المسائل التي كان يكثر فيها الحجاج والأخذ والرد بين أهل السنة والقدرية المعتزلة، وهي مبناها على مسألة الظلم وعلى مسألة الأسباب، الأسباب هل الله خالقها؟ ثم الظلم المنفي عن الله ما هو؟
([93]) ليلة النصف من شعبان جاء فيها أحاديث أثبتها بعض العلماء بأن فيها فضلا، والظاهر أن أصل الفضل فيها ثابت، وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الليلة النصف من شعبان هي الليلة التي يكون إنهاء الآجال والتقديرات استعدادا ليلة القدر في رمضان، ولهذا كان عدد من السلف يُحيون هذه الليلة يقومون فيها لما ورد فيها من الفضل.
والمحققون يقولون إن ورود الفضل فيها لا يعني أن تُخَصَّ بقيام أو بصيام أو ما أشبه ذلك؛ يعني بقيام من بين الليالي وصيام من بين الأيام لأجل أنها –ليلة النصف أو يوم النصف- فيها فضل ليلة النصف من شعبان؛ لكن هذا الفضل من أجل التقدير ما يحصل فيها من أجل التقدير، والله أعلم بحقيقة ذلك.
([94]) وقوله في السلطان: الصبر على السلطان إذا كان من قريش. هذا لأجل ما جاء في الأحاديث من أن الأئمة من قريش، فالوِلاية ولاية المسلمين العامة والاختيارية ينبغي أن تكون في قريش؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الأئمة من قريش ما بقي من الناس اثنان» يعني حين الاختيار، أما إذا حصل تغلب من إمام ودعا الناس إلى بيعته وتغلب بسيفه فهذه تسمى عند العلماء بيعة غلبة ليست بيعة اختيار، وللإمام هذا جميع حقوق الأئمة من قريش لما جاء من الأحاديث لقوله عليه الصلاة والسلام «وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زُبيبة». نعم
([95]) (الشهادة والبراءة بدعة) لأنها معتقد الرافضة يقولون لا ولاء إلا ببراء، ولا شهادة -يعني لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله- إلا ببراءة.(38/205)
ويعنون بالولاء؛ لا ولاء إلا ببراء: يعني لا مولاة لعلي وآله إلا بالبراءة من جمع الصحابة عدى النفر صاروا مع علي، فلا يصح عندهم موالاة لعلي إلا بالتبري من الصحابة الآخرين.
كذلك الشهادة عندهم لا شهادة لعلي بأنه على الحق، ولا شهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله نافعة إلا بالبراءة، فعندهم البراءة أصل في هذا.
ولا شك أن الولاء والبراء أو الشهادة والبراءة بهذا المعنى بدعة؛ بل الولاء والبراء في النصوص ليس المقصود منه البراءة من الصحابة؛ بل البراءة من الشرك وأهله. نعم
([96]) يعني لا يشهد لأحد بجنة أو نار إلا من شهد له أو عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما الكفار الأصليين؛ مشرك أصلي مات على الشرك، أو يهودي أو نصراني، هذا ما يدخل في هذا الكلام بل إذا مات وقد أقيمت عليه الحجة فيبشر بالنار، ويشهد عليه بمعينا، كما جاء في الحديث الصحيح «حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» وقوله عليه الصلاة والسلام «أبي وأبوك في النار».
وهذا خارج عن قول أهل العلم لا نشهد لمعين بجنة ولا نار إلا من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يقصدون المعين من أهل القبلة، فلا نقول هذا سيعذب بالنار، أو هذا من أهل الجنة قطعا ولا هذا سيعذب في النار قطعا؛ لأننا لا نشهد إلا بالعلم، وهذا لا علم لنا به.
وهذا بالاتفاق بين أهل السنة.
وثَمة مسألة متصلة بهذا فيها اختلاف بين أهل السنة وهي: هل يشهد لغير من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ اختلفوا:
فقال طائفة من أهل السنة وهم الأكثر لا يشهد لأحد على هذا الإطلاق.(38/206)
وقال آخرون يشهد لمن تواتر فضله وإيمانه، وشهد له المسلمون جميعا؛ يعني استفاض خيره وإيمانه وتقواه، وشُهد له بذلك، فمثل هذا يُشهد له بالجنة عند أصحاب هذا القول، كعمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكالشافعي، والإمام أحمد وأشباه هؤلاء، وإلى هذا القول كان يميل شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن هؤلاء يشهد لهم، أستدل له بحديث أنه مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال «وجبت»، ثم مرّ بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرا فقال «وجبت» قالوا يا رسول الله ما وجبت؟ فقال«تلك مرّت فأثنيتم عليها خيرا فوجبت لها الجنة، وهذه مرت فأثنيتم عليها شرا فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه» يستفاد من هذا أن من استفاض بين المسلمين أنه من أهل الإيمان وكان من السابقين في دينهم بما يعلمه الناس فشهدوا له بذلك أنه يجوز الشهادة له بالجنة على هذا القول.
ولا شك أن الأسلم عدم الخوض في ذلك؛ لأن الله جل وعلا أعلم بخاتمته، وكل من المسلمين يُرجى له، وأهل الإيمان والمقامات العالية نرجوا لهم أعظم؛ لأن الله جل وعلا قوله الحق ووعده الصدق.
([97]) عائشة بالذات لأن الرافضة يتبرؤون منها، ولأن بعض الذين لم يلزموا أنفسهم السنة ربما تكلم في عائشة لما حصل في وقعة الجمل ودخولها في ذلك.(38/207)
فعائشة رضي الله عنها حينما ذهبت إنما ذهبت للصلح، ذهبت لتحقن الدماء رضي الله عنها، فكانت غايتها أعظم غاية لقول الله سبحانه ?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ?[الأنفال:1]، فكانت ساعية في تقوى الله لإصلاح ذات البين وكف الشجار بين المؤمنين والتوفيق بين علي رضي الله عنه وبين المخالفين؛ لكن حصلت الحرب والقتال لا باختيار عائشة رضي الله عنها فإنها قيل لها لو ذهبت لهاب الناس مجيئك وقبلوا ما تقولين وسارت على جملها وقيل لهم هذه عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحب نسائه إليه بعد خديجة، فإيتوها فإنها تطلب أن لا تريقوا الدماء.
فالخوارج الذين صحبوا عليا ضد معاوية هم الذين أثاروا المقتلة، فسعوا في الفتنة ما بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا لمن مع عائشة إن عليا ومن معه سيصبِّحونكم بالقتال، وذهبوا إلى أولئك وقالوا لهؤلاء إن أولئك سيأتونكم على غرة منتصرين لمعاوية ومن معه، فحصل ما حصل من الوشاية العظيمة هذه، فحصلت المقتلة بغير اختيار علي رضي الله عنه وطلحة والزبير ومن معهم، ولا باختيار عائشة رضي الله عنها، فالجميع لم يكن يختارون مثل هذا الأمر، ولكن وقع بفعل الوشاية.
ولهذا نترحم على الجميع ونترضى عن الجميع، نعلم أن الجميع رجال صدق، وأنهم كما أثنى الله جل وعلا عليهم، ونتولاهم جميعا، وإنما حصلت الفتنة من أهل الفتنة، وأما الصحابة فإنما وقعوا فيها بغير اختيار، ولا رغبة في ذلك، ولكن وقعت بفعل أهل الشر الذين قادوهم لذلك ولا مناص لهم من هذا الأمر.
.. عدم الترضي على الصحابة ليس كفرا، سب الصحابة له أحوال:
إذا سب الصحابة جميعا فهو كفر جميعا بلا استثناء.
وإذا سب طائفة منهم ولو كانوا الأكثر فهنا:
o إن سبّ تدينا؛ تدينا يعني متأولا فلا يُكَفَّر.
o وإن سبَّ تغيضا بغضا لهم، بغضا لنصرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا كفر، لقوله جل وعلا ?لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ?[الفتح:29].(38/208)
o وإن سب ولعن تنقصا لهم في دينهم فهذا أيضا ليس بكفر؛ لأنه قد يكون جاءه شبهة، هذا مثلا يقول معاوية كذا وكذا من السب رضي الله عن معاوية لأجل مثلا أنه طلب الملك أو لأنه فعل، هذا ليس بكفر وإنما هو فسق من صاحبه، وحرام عليه وكبيرة من الكبائر، «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده فلو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه».
فيه تفاصيل معروفة، خمسة أقوال في السب.
وأما عائشة فمن سبها من جهة عرضها فهو كافر؛ لأنه مكذِّب للقرآن، تنقَّصها في عرضها فهو كافر لأنه مكذب بالقرآن؛ لأن الله أنزل براءتها من فوق سبع سموات، وأما إذا لما حصل منها يوم الجمل وأشباه ذلك، لا لأجل العِرض هذا له حكم سب الصحابة، على التفصيل السابق الذي هو تغيض أو هو تدين.
([98]) اللفظ والملفوظ؛ يعني هل اللفظ بالقرآن مخلوق أو لا؟ هل يجوز أن يقول القائل لفظي بالقرآن مخلوق؟ لما قَوِيَ أهل السنة صارت هذه الكلمة لفظي بالقرآن مخلوق لا يقولها إلا جهمي؛ لأنه يريد أن يهرب من إلزامه بشيء.
فاللفظ مصدر:
يُعنى به تارة التلفظ.
ويُعنى به تارة الملفوظ.
مثل (خَلْقٌ) يعني به التخليق، ويُعنى به المخلوق، نقول هذا خلق الله، يعني تخليقه سبحانه الذي هو فعله، أو ما انفصل عن فعله وهو المخلوق.
وهذا كثير في المصادر التي على وزن فعل، إما يعنى به الحدث وإما يعنى بها المحدث.
فاللفظ، تقول لفظي هل تعني به التلفظ أو تعني به الملفوظ هل هو الملفوظ الخارج أو حركة اللسان التلفظ؟
معلوم أنه إن أريد الأول وهو التلفظ: فالتلفظ من أفعال العبد، وأفعال العباد مخلوقة.
وإن عُني باللفظ الملفوظ فالملفوظ هو القرآن.
لهذا صارت الكلمة محتملة، واستعمال المحتملات في العقيدة بدعة؛ فإنه لا يجوز أن تستعمل مثل هذه العبارة التي قد تحتمل شيئا آخر فيفهم الناس منها فهم غير سليم.(38/209)
ولهذا كان الإمام أحمد يقول من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع أيضا؛ لأنها تحتمل هذه وهذه والإطلاق سكت عنه السلف، قد قال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا?[البقرة:104]، كلمة (رَاعِنَا) من المراعاة كلمة طيبة؛ لكن يستعملها اليهود من الرُّعُونة، ولهذا نهي عنها للاحتمال، فأخذ أهل السنة من هذا أصلا عظيما وهو: أنَّ الألفاظ المحتملة فيما يتصل بذات الله جل وعلا أو صفاته أو أفعاله أو أمور العقيدة والغيبيات لا يجوز استعمالها، فينهى عنه، فاستعمال مع بقاء الاحتمال والإجمال بدعة.
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
فعليك بالتفصيل والتبيين فالإجمال والإطلاق دون بيان قد أفسدا هذا الوجود.
فالمجملات والمحتملات لا يستعملها السلف في العقيدة، كلامهم واضح فيها لأن المقام مقام وضوح.
أما الاسم والمسمى، فهذا متعلق بشيئين إما بأسماء الله جل وعلا؛ يعني هل الاسم هو عين المسمى؟ أو هو غيره؟ هل اسم الله الديان أو اسم الله الرحيم هل هو عين الله؟ أو هو غير الله؟ محتملة:
إن قلنا الاسم هو عين المسمى فهذا صحيح باعتبار؛ لأن اسم الله جل وعلا دال على ذلك، فالرحيم هو الله جل وعلا، والقدير هو الله جل وعلا، فالاسم دال على المسمى.
وإن قلنا هنا الاسم غير المسمى فأيضا صحيح؛ لأن الاسم زائد على الذات.
الأسماء والصفات زائدة على الذات، فالاسم مشتمل على صفة، وصفات الله جل وعلا قائمة بذاته، فهي ليست هي الذات ولا غير الذات يعني باعتبار؛ ليست هي الذات باعتبار، ولا هي غير الذات باعتبار آخر، لهذا صار المقام يحتاج إلى تفصيل.
فمن أهل البدع من قال الاسم هو عين المسمى، ومنهم من قال: لا، الاسم ليس عين المسمى.(38/210)
وأهل السنة لا يطلقون لا هذا ولا هذا؛ يعني في أكثر أقوالهم أو جمهورهم لا يطلقون هذا ولا هذا؛ لأن هذه من المسائل المحدثة؛ ولأنها محتملة، قد يعنى به وقد يعنى به هذا، وفي كل مقام له حكم.
وأيضا يعنى بالاسم والمسمى مسألة الأسماء والأحكام؛ يعني المسلم والإسلام، والمؤمن والإيمان، فالاسم الإسلام والمسمى به المسلم، والاسم الإيمان والمسمى به المؤمن، والاسم الفسوق والمسمى به الفاسق، والاسم الكفر والمسمى به الكافر، والاسم البدعة والمسمى به المبتدع، وهكذا.
وعندهم هناك الثنائية لا يلزم من وجود الكفر أن يكون كافرا، ولا وجود البدعة أن يكون مبتدعا، ولا يدخلون في أمثال ذلك؛ لكن المسلم من حقق الإسلام فهو مسلم، يطلق عليه هذا، ولا نقول هو مسلم إن شاء الله باعتبار الحال؛ بل نقول هو مسلم، الآن، وباعتبار المآل يجوز أن نقول إن شاء الله، هو مؤمن مادام معه إيمان فهو مؤمن بلا استثناء، وباعتبار المآل -يعني ما يموت عليه- نقول مؤمن إن شاء الله يعني إن شاء الله يموت على الإيمان وهكذا.
والظاهر أنه يعني بالاسم والمسمى المسألة الأولى المتعلقة بالصفات؛ لأن الأكثر يستعمل كلمة الاسم في الأسماء والأحكام أو الاسم والحكم على الصورة الثانية التي ذكرتها.
([99]) هذا الكلام من أوله إلى هذا الموطن: فيه ذكر بعض حال الصوفية الذين سئل عنهم، والأوائل منهم توسعوا في الألفاظ وجعلوها رموزا وإشارات لمعاني يريدونها، ولمصطلح خاص لهم، وتوسع من بعدهم في ذلك حتى وصلوا إلى ألفاظ منكرة ظاهرها الكفر.
واعتذار ابن جرير عنهم محمول على حال الأولين الذين سبقوا وقته رحمه الله، وذكر مثل قولهم: رأيت الله يقول، أو بعضهم يقول رأيت الله يعني بها الأوائل الرؤية العلمية، وهذا جهله من بعدهم، فجعلوا رؤية الله جل وعلا البصرية ممكنة فمنهم من قال أنه كشفت عنه الحجب حتى أصبح يرى الله عيانا إلى آخر ما هو مخالف للشرع عندهم.(38/211)
عندهم ألفاظ كثيرة أحدثوها باطلة مخالفة للشرع ولا يجوز أن تحمل على اصطلاح خاص، ومنها ما يجوز أن تحمل على اصطلاح خاص، فصار الأمر إلى أن ألفاظ الصوفية المحدثة سواء في ذلك المتقدمون منهم أو المتأخرون على قسمين:
منها ما يمكن حمله على معنى خاص.
ومنها ما لا يمكن حمله
وما يمكن حمله على معنى خاص هو ما وضح فيه الاصطلاح. وصنف المؤلفون في اصطلاحات الصوفية كالقشيري والسلمي وجماعات.
ومنها ما ليس لهم اصطلاح فيه غلا القول بالظاهر والباطن -والعياذ بالله- حتى صار من ألفاظ بعض كبارهم ما هو كفر في نفسه.
اعتبر أتباعهم عنهم بأن هذا من باب الاصطلاح الخاص كاعتذار القاساني لابن العربي الطائي وابن الفارض وأشباه هؤلاء.
والصواب أن ألفاظهم منها ما يحمل على اصطلاح خاص ومنا ما لا يجوز حمله.
من الألفاظ التي أحدثها الصوفية العشق مثل ما ذكر لك، وقال إن العشق لا يجوز إطلاقه على الرب جل وعلا؛ يعني لا يجوز أن يقول قائل أنا أعشق الله، أو الله معشوقي؛ بل يكتفى بما ورد في الكتاب والسنة من محبة الله جل وعلا أو الخلة وهي أعظم درجات المحبة.
وسبب منع كلمة العشق في حق الله جل وعلا؛ أعشق الله، معشوقي الله وما اشتق من ذلك لأمرين:
الأول: عدم ورودها وهذا الذي علل به فيما سمعتم؛ لأنها لم ترد في الكتاب والسنة فنقتصر على اللفظ الوراد، والعشق نوع من أنواع المحبة، ولكن لكن المحبة وردت والخلة وردت؛ لكن لم يرد العشق هذا يدل على عدم جواز استعماله.(38/212)
والثاني: هو تعليل لسبب المنع وسبب عدم الورود بالكتاب والسنة، أنَّ العشق فيه تعدٍّ وهو غير المحبة فإن العاشق يتعدى في عشقه على نفسه وعلى معشوقه، فالعشق من درجات المحبة لكن فيها التعدي على النفس، ولهذا كلمة عَشَقَ وعِشْقٌ تدل على تعد حتى في اللغة فيما استعملت فيه، ولهذا لا يجوز أن يقال إن أحدا تعدى في حبه لله على نفسه؛ إذْ محبة الله جل وعلا حق وكذلك لا يجوز أن يتعدى على الرب جل وعلا في حبه له لأن محبة الله جل وعلا له حق؛ لكن عشق العبد لربه هذا فيه تعدٍّ؛ لأن العاشق من غلبه هواه أو من غلبته محبته حتى جعلته يتصرف بعقله أو يتصرف بعلاقته بمحبوبه على غير ما يقتضيه الصواب.
فلهذا منع لفظ العشق فإن لفظ معشوقي وعشق وما اشتق منها لا يجوز لهذين الأمرين؛ لعدم الورد والثاني للتعدي وما أوضحت لكم من التعليل.
.. (رأيت الله يقول) سوء في التعبير هو ما رآه، (رأيت الله يقول) هذا ما رآه، علمت الله يقول، مثل ما تقول رأيت في الكتاب الفلاني كذا أو رأيت الحق في المسألة كذا، هم استعملوا رأيت الله على معنى عندهم يعني أنه صار هذا القول حقا كمقام الرؤية، ففهمها من بعدهم على غير مرادهم بأنهم رأوا الله عيانا، فهم غلطوا في التعبير فقط، رأيت الله يقول يعني علمت الله يقول علما يقينيا هو في مقام الرؤية، فعبروا بتعبير أوقع في الالتباس.
.. التتيم ما يجوز في حق الله لأنه فيه تعدٍّ، ذكر شارح الطحاوية نقلا عن ابن القيم في روضة المحبين ذكر مراتب المحبة عشرة ابتدأها من أولها إلى آخرها، وبين فيها ما يجوز وما لا يجوز.
([100]) يعني هذه المسائل معروفة في العقيدة، المسائل التي مرت، يعني الكلام في القرآن والحلول والاستواء والرؤية والخلة يعني هذه مرّت.
([101]) هذه المسالة كثرت في زمان القرن الثالث الهجري وما بعده.(38/213)
وهي مسألة التكسب بالتجارة، وأن التجارة أصابها ما أصابها ودخول الحرام فيها، وأن التوكل بترك السبب أفضل، وهذا شاع عند الصوفية، وأحد المسألتين قادت إلى الأخرى، يعني مسألة دخل إلى التجارة أو ما دخلها تركوها، وعللوا ذلك أيضا بحسن التوكل على الله جل وعلا وصنف فيها عدد من أهل العلم مصنفات في الحث على التجارة والصناعة والعمل، ككتاب الخلال، وأيضا للجاحظ رسالة في ذلك التبصر بالتجارة، وكله رد على هذه الطائفة التي زعمت أن ترك العمل أفضل، وأن التوكل على الله جل وعلا بعدم ملابسة الأسباب أفضل، وهذا باطل بل التكسب أفضل، وهو صنيع الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، وأطيب ما كسب المرء من عمل يده، هذا أطيب ما كسب المرء، فما يأتيه من الصدقات وما يأتيه من العطيات ليس في الطيب مثل كسبه بيده، وأحل ما يكسبه المرء وأنفعه له ما كسبه بيده.
كذلك المسألة الثانية التي ذكرها: وهي مسألة ضيق الحلال، هذه أيضا كان فيها اعتقاد بأن الحلال عدم، وأنه لا يوجد أكل حلال؛ لأن مثلا في العراق في ذلك الوقت أو في الشام الأراضي فتحت وأصبحت أرض خراجية فأعتدي عليها بالإقطاع وبغيره، فصارت بدلا أن تكون ملكا عاما أصبحت ملكا خاصا، فأصبحت إذن مخصوبة وما يخرج منها له حكم الغصب وإلى آخر هذه التدرجات، فأصبح كثيرون من الصوفية يتركون الأكل تماما من كل ما يوجد في السوق لأجل الاشتباه، اشتباه ما يخرج من الثمرات من الأرض المغصوبة.
كما يحكى أيضا حتى عن بعض المتأخرين النووي أنه كان لا يأكل مما تخرجه مزارع دمشق لأجل هذا.(38/214)
وهذا في الواقع ليس بصحيح، وليس بسائغ شرعا؛ لأن من اعتقد أن الحلال عُدم تماما، فإن هذا اعتقاد بأن الله جل وعلا أحل على عباده شيء ثم عدمه سبحانه، أو حرم عليهم شيء وجعله هو المتعين أزمانا متطاولة دون غيره، وهذا لا يجوز، فالله جل وعلا جعل الحلال موجودا في كل مكان وفي كل زمان لكن يقل ويكثر، نعم قد يقل في موطن ويكثر في موطن، ويقل الحرام في موطن ويكثر في موطن، أما أن يعدم بالكلية في مكان، فهذا لا يقول به فقيه ولا عالم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله.
الصوفية في جهة الورع زادوا في هذه المسائل زادوا حتى كان بعضهم لا يأكل إلا صيده، وكان بعضهم لا يأكل إلا شيئا أنبته في بيته، وأشباه هذه الأفعال التي هي من الورع المذموم.
.. لا يوصف الله جل وعلا بالتردد سبحانه وتعالى؟ الحديث على ظاهره[انتهى الوجه الأول من الشريط السابع] «وما ترددت في شيء ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته».
التردد:
إما أن يكون ناتجا عن عدم العلم أو الجهل بالعاقبة فهذا مذموم.
وإما أن يكون التردد للإكرام، لا للجهل إنما تردد إكرام، ما تدري والله تذبح له ذبيحة أو ثنتين، هذا تردد إكرام، ليس ناتج عن عجز أو جهل ولكن بما يكرم به، تردد هل تهدي له كتاب أو كتابين ليس عجزا ولا جهلا ولكن من جهة المناسب.(38/215)
فالله جل وعلا أكرم عبده المؤمن، ومن أجل إكرامه له تردد فيما يكرمه به، ومعلوم أن التردد إما أن يكون فضلا وإما أن يكون عدلا، فليس التردد فيه للأفعال لجهل عاقبتها وعدم معرفة ما يناسبها؛ بل هذا احتمال أمرين إما الفضل أو العدل والله جل وعلا، قد يتفضل على عباده، وقد يعاملهم بالعدل، وفي كل منهما هو سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، فلا يوصف الله جل وعلا بالتردد لا مطلق ولا مقيد، لا تردد بالاتفاق مطلق، ولا أيضا مقيد يتردد في قبض النفس أيضا لا يوصف لا هذا ولا هذا، لأن معنى التردد هنا غير المعنى الذي يفيده كلمة تردد في غير هذا السياق.
([102]) المسألة الأولى ذكر فيها توقي من مكسبه حرام وأن الأصل في المسلم السلامة فلا يُتورع في معاملة المسلم الذي ظاهره السلامة، وهذا الذي ذكره هو الصحيح في انقسام المسألة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: معاملة عامة المسلمين الذين لم يظهر من مكاسبهم الريبة، فهذا الصنف وهذا القسم التورع في التعامل معه بدعة، وخلاف هدي السلف، لأن الأصل في المسلم السلامة، ولم يظهر على هذا ما يدل على مكسب خبيث، فإذا تورع لأجل قد يكون عنده مكاسب خبيثة، فهذا بدعة وغلو في التوقي.
والقسم الثاني: من يخالط الظلمة الذين يظلمون الناس في أكل الأموال بالباطل، أو في التعدي على الحقوق، أو بالتعدي على ممتلكاتهم، أو ما أشبه ذلك، وكان ذلك شائعا في الدولة العباسية بكثرة، حتى قيل إن أكثر بغداد أنها منتزعة من أصحابها، حتى قيل أن أكثر دمشق منتزعة من أصحابها؛ يعني من أملاك كانت للناس فنزعت منهم لغيرهم.(38/216)
فهذا الصنف من عُلم منه أنه يخالط من يأكل أموال الناس بالباطل فيكون عنده المال الحرام، فهذا يسمى صاحب المال مختلط، وصاحب المال المختلط الأقوال فيه أربعة لأهل العلم، والتحقيق أنه لا يجب ترك الأكل مما يقدمه أو يضيف به أضيافه، أو يهديه إلى آخره، أنه لا يجب تركه؛ لأن المال لم تعين للحرام بل المال مختلط من هذا وهذا، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: كل والحرام عليه.
وهذا يدل على أن من لم يتمحض ماله للحرام فإنه لا يجب ترك ماله؛ ترك الأكل من ماله، أو ترك أخذ ماله إلى آخره أو ما أشبه ذلك.
ولكن يستحب -وهذا هو الذي ذكره هنا أنه يستحب من جهة الورع- يعني من استطاع ذلك فإنه يستحب له ذلك، وبعض أهل العلم يرى أن هذا ليس من جهة الاستحباب؛ لكن من جهة التورع فإن تورع فهو أفضل، وإلا فلا يستحب لأن الصحابة كثير منهم لم يتورعوا هذا التورع.
والقسم الثالث: من الأقسام من ماله حرام، يُعلم أن مكاسبه حرام؛ يعني كل ماله حرام، فهذا لا يجوز الأكل من ماله عند جمهور أهل العلم، ما يجوز الأكل من أكله، ولا من ماله؛ لأنك تعلم أنه اكتسبه على وجه محرم، وهذا الحقيقة نادر من جهة الوقوع؛ لأن من هو في الناس لا مكسب له إلا من الحرام هذا نادر.
وأكثر المسلمين أموالهم مختلطة يعني قد يغلب الحرام وقد يغلب الحلال، فأكثر المسلمين؛ بل جل المسلمين من القسم الثاني من يختلط فيه هذا وهذا يعني ممن مكسبه حرام، ولكن الأصل في المسلمين هو الأول -كما ذكرنا أن الأصل السلامة- إلا إذا عُرف؛ لكن من يكسبون مالا حراما فإن الأصل فيهم أنهم خلطوا أموالهم، فلهم حكم من اختلط ماله الحرام بمال حلال.
ولهذا نقول إنه إذا عُلم أن الشيء من مال حرام بعينه؛ يعني أُشتري شيء بمال حرام بعينه فإنه لا يؤكل منه.
ومعلوم أن مسألة الهبات غير مسألة الأكل، الأكل هو أشدُّها، وأما مسألة الهبة فهذه فيها تفصيل، هل الكسب بظلم وتعدي أم هو حرام بلا ظلم.(38/217)
.. لا، الكافر النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من طعام اليهود وهم أكلة الأموال بالباطل، لا هذا في المسلم بس.
..الكافر لا يضر الأكل من عنده، لكن بخلاف التعدي ظلم بهذا بعينه، مثل ما قلت لك، المال الذي كسب بالتعدي، غير الذي كسب بالرضا ولكنه حرام؛ يعني هل الحرمة وصف عارض أو وصف ملازم، هذا فيه بحث، إذا كان عارضا هذا له حكم وإذا كان ملازما له حكم، يعني في الكافر.
([103]) هذه المسائل الثلاث تكلم فيها عن حال غلاة المتصوفة فإن منهم من قال: أنا أعبد الله لا خوفا من عقابه، ولا طمعا في ثوابه، ولكن محبة له، كما يقوله طائفة من كبارهم، فيقول إنَّ العبد ما دام أن أحكام هذه الدار يعني الدنيا جارية عليه فإنه لابد أن يعيش بين الخوف والرجاء؛ خوف عبادة ورجاء عبادة، فيرجو رضا الله ويرجو الجنة ويخاف من عقاب الله من النار وعذابه، هذا هو الإيمان.
وأما من قال أنا أعبد بالمحبة لا بالخوف والرجاء فهذا باطل، ويدل على نوع زندقة وخروج عن طريقة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، والخوف والرجاء يجب أن يجتمعا في القلب.
وهل يغلب الخوف الرجاء، أو يغلب الرجاء الخوف؟ فيه تفصيل:
أما عامة الناس وأكثرهم ظالم لنفسه، فهذا يجب عليه في حال حياته أن يُغلِّب جانب الخوف على الرجاء، فيُعظم الخوف أكثر من الرجاء حتى ينيب ويُقلع عن ظلمه وعن معاصيه.
والخاصة المقتصدون أو السابقون بالخيرات فهؤلاء يقومون على استواء الخوف والرجاء في قلوبهم، الخوف والرجاء يكونان متساوين؛ لا يغلِّب جانب الرجاء فيترك العمل ولا يغلِّب جانب الخوف فيقنط.(38/218)
والحال الثالثة حال أهل المرض -الذين يظن أن مرضهم مرض هلكة- فهذا يجتمع في قلبه الرجاء والخوف، ويعظم خوفه ويعظم رجاؤه، ولكن يكون رجاؤه أعظم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال «لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه»، وقال «قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء»، فإذا كان في مرض فإنه يجتمع في قلبه الخوف والرجاء، ويعظم عنده الخوف ويعظم الرجاء؛ لكن يزيد في الرجاء لأن الله جل وعلا أمر بإحسان الظن به وأنه رحيم بعباده.
هذا تحقيق المقام في الجمع ما بين الخوف والرجاء.
وعبارات العلماء والأئمة بعضهم أطلق تغليب الرجاء، بعضهم أطلق تغليب الخوف، بعضهم قال بالتساوي، حتى عن الإمام الواحد كالإمام أحمد نقل طائفة من أصحابه عنه تغليب الخوف ونقل آخرون تغليب الرجاء، والتحقيق أن لكل مقام ما يناسبه على هذا التفصيل الذي ذكرت لك، فمن قال نغلب الرجاء فقط حق، ومن قال يغلب حق، ومن قال يتساويان حق كل بما يصلح له من الحالات.
من حالات الصوفية الغلاة أنهم مع انسلاخهم عن الخوف والرجاء يقولون تخلصنا من أمور العبادة إلى مشاهدة الأحدية السرمدية؛ يعني إلى الفناء في الربوبية ومشاهدة تصرف الله في الملكوت يعني ارتفعت عنهم التكاليف، وهذه زندقة وردة؛ لأنه إذا اعتقد أحد أنه وسعه الخروج من شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى فإنه مرتد، كل من اعتقد أنه يجوز أن لا يلتزم بأحكام الشريعة وأنَّ أحكام الشريعة لطائفة من الناس وأنه لا يخصهم الخطاب لارتفاع التكاليف عنه وعدم التزامه بالتكاليف، وهذا أيضا ردة وزندقة، مثل ما هو حاصل مع غلاة المتصوفة.
والمسألة الثالثة: هذه أحوال أيضا لغلاة المتصوفة الذين ادعوا أنهم كشفت لهم الحجب فأصبحوا يعلمون الغيب، يعلمون الغيب من جهة أحوال الناس ومقاماتهم، وما سيؤول إليه أمرهم سواء في أمور الدنيا أو أمور الآخرة.(38/219)
فكل هذه الثلاث أنواع من الزندقة التي هي عند بعض غلاة المتصوفة.
([104]) هاتان مسألتان، كل هذه المسائل عظيمة ومهمة الفِراسة ذكرنا لكم في درس سابق أنواع الفراسة الثلاثة وأنها:
فِراسة خَلْقِية.
وفراسة إيمانية.
وفراسة رياضية؛ والرياضية يعني مما يدخل فيها القياسة وأشباها.
والفراسة الإيمانية التي جاء فيها الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، ذكرت لكم تفاصيل ذلك في كلامنا على الفرقان.
أما المسألة الثانية التي ذكرها بعد الفِراسة هي الحلول هذه وقع فيها طائفة من بداية القرن الثالث الهجري.
والحلول والإتحاد لفظان متباينان، فالحلول شيء والاتحاد شيء آخر.
والحلول ينقسم إلى حلول عام وحلول خاص.
والإتحاد ينقسم إلى اتحاد عام واتحاد خاص.
فالفرق بين الحلول والاتحاد أن الحلول يقبل الانفصال والإتحاد لا يقبل الانفصال.
مثاله أنك لو وضعت سكرا في ماء فحركته، صار حلولا أو اتحادا ؟ صار اتحادا؛ لأن هذا لا يقبل أن ينفصل مرة أخرى، أما لو وضعت في الماء شيئا من الأشياء -حصاة أو وضعت ورقة فصارت في داخله- فهذا يسمى حلول لأنها أصبحت هي والماء شيء واحد.
مثل لو وضعت ورقة الشاي يعمي مثلا (ليبتون) أو غيره في كأس ماء، هنا اجتمع حلول واتحاد أما الحلول فوجود هذه الورقة التي تستطيع أن ترفعها، والإتحاد؛ الشاي هذا الذي بعد أن كان الماء لا لون له أصبح اتحد بالشاي وتغير لونه، هو ماء وتعرف أنه ماء ودخله شيء آخر وهو الشاي فتغير فاتحدا.
لهذا القائلون بالحلول غير القائلين بالاتحاد، والحلول قسمان عام وخاص، والاتحاد قسمان عام وخاص(38/220)
فالحلول العام: هو قول من يقول هو حل في كل شيء، لكن حلوله من قبيل حلول اللاهوت في المخلوق، يمكن أن يبقى للمخلوق صفة المخلوق ويبقى لللاهوت صفة الإله، مثل من يعتقد في حلوله في الصور الجميلة في كل صورة جميلة يقول انحل فيها الإله، أو حلول الرب جل وعلا في كل مكان، حيث إنه ليس مندمجا في الذات، ولكن فيه تَبَايُن، حالٌّ في كل مكان مع الانفصال.
والحلول الخاص: هو أنه يحل في بعض الأشخاص، مثل ما يقول الصوفية، بعض الصوفية يقول ما في الجبة إلا الله يعني حلول خاص فيه، أو قول النصارى إن الله جل وعلا حل في عيسى فصار عيسى له صفتان صفة الناسوتية البشرية في جثمانه وصفة الإلهية في ما حل فيه، ومثل قول القرامطة والإسماعيلية إن الله جل وعلا حل في الحاكم أو في فلان أو فلان من الناس، هذا حلول خاص.
أما الاتحاد مثل ما ذكرنا لك فهو اتحاد عام وخاص:
أما الاتحاد العام: فهو أن يكون الوجود هو عين الله جل وعلا، الوجود هو عينه، الوجود الذي تراه وجود الأشياء هو وجود الله، وصفة الأشياء هي صفة الله، فهذا يسمى اتحاد، اتحاد بكل شيء وهو قول الاتحادية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض إلى آخره، مثل ما قال ابن الفارض قبحه الله
لك صلاتي في المقام أقيمها وأشهد أنها لي صلت
فله صلاته، ولنفسه صلت لأجل اتحاده بالخلق، هذا قول أصحاب وحدة والوجود، وحدة الوجود اتحادية لا حلولية؛ لأنهم يقولون الوجود واحد، هو عين وجود الحق جل وعلا، يعني لهم بحوث تفصيلية في هذا.
أو الاتحاد القسم الثاني اتحاد خاص: اتحد ببعض المخلوقات دون بعض، فلم يتحد بكل شيء، نزهوه عن الاتحاد بالأشياء القذرة الأشياء القبيحة، ولكن اتحد ببعض الأشياء دون بعض، فاتحد بالأولياء، اتحد بالصالحين، اتحد بالأنبياء، اتحد بالفلاسفة، فصاروا هم عين وجود الله جل وعلا.
وهذا لاشك جميع الأقوال هذه كفرية، فمن قال بالحلول أي نوع أو الاتحاد أي نوع فهو كافر بالله جل وعلا.(38/221)
([105]) أما الأرواح فالروح التي أضافها الله جل وعلا لنفسه هي روح مخلوقة، وأضافها الله جل وعلا لنفسه تشريفا، قال سبحانه ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ?[الحجر:29]، من روحه الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه؛ لأن الروح مخلوقة، وإضافة المخلوق إلى الخالق تقتضي التشريف مثل? فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى?[النجم:10]، تشريف العبد ?نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا?[الشمس:13]، الناقة تشريف لها، «بيت الله» تشريف لهذا البيت إلى آخره، وكذلك الروح، طائفة ظنوا أن إضافة الروح لله جل وعلا إضافة صفة إلى موصوف، وهذا غلط وهو الذي به ضلت النصارى، فظنوا أنه لما نفخ الله جل وعلا فيه من روحه أنه حلت فيه اللاهوتية، حل فيه الإله، ولهذا قال ضاهى قول النصارى النسطورية طائفة من النصارى.
([106]) صفة الكلام والقرآن.
القرآن كلام الله ليس بمخلوق، هذا اعتقاد السلف الصالح من أولهم إلى آخرهم منه بدأ جل وعلا قوله وإليه يعود سبحانه وتعالى، وهو كلام الله إذا تلي، وهو كلام الله إذا كتب، وهو كلام الله جل وعلا إذا حفظ، ففي أي صفة كان تناوله العبد فهو كلام الله ليس بمخلوق.
ومعلوم أنه ثم فرق ما بين التلاوة وبين المتلو، وما بين الدراسة والمدروس، وما بين القراءة والمقروء، فكما قال أئمة السلف: الصوت صوت القاري والكلام كلام الباري جل وعلا، فالجهة منفكة لا تلازم بين التلاوة والمتلو؛ لأن التلاوة فعل العبد والمتلو كلام الله جل وعلا، ولهذا بدَّع السلف من قال لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأن كلمة لفظي تحتمل أن يكون المراد التلفظ الذي هو عمل العبد فتكون الكلمة صحيحة، تلفظ العبد مخلوق لأن أعمال العباد مخلوقة، وما بين اللفظ الذي هو الملفوظ؛ لأن (فعل) تأتي بمعنى المصدر وتأتي بمعنى المفعول خلْق بمعنى المخلوق ، لفْظ بمعنى الملفوظ وهكذا.(38/222)
فـ(لفظ) تأتي بمعنى الملفوظ، فالملفوظ هو كلام الحق جل وعلا ليس بمخلوق، فمن قال لفظي بالقرآن مخلوق هو مبتدع؛ لأن هذه الكلمة لا تجوز أن تقال لاحتمال أن يكون المراد باللفظ المصدر أو يكون المراد باللفظ الملفوظ.
فإن كان المراد بالمصدر فهو صحيح أن فعل العبد وتلفظه مخلوق.
وإن كان المراد بالمصدر الملفوظ فالملفوظ كلام الحق جل وعلا ليس بمخلوق.
لكن استعمل هذه اللفظة بعض أهل البدع والاعتزال والجهمية ليستروا قولهم بخلق القرآن، فاستعملوا قولا محتملا حتى لا يؤخذ على أيديهم.
فاستعمال هذا اللفظ لا يجوز.
فإذن مثل ما قال لك هناك فلاق بين التلفظ والملفوظ، وما بين المتلو والتلاوة، والدرس والمدروس إلى آخره.
([107]) مثل أيْشٍ، أيش يعني هذه مختصر أي شيء عربية فصيحة، أيش مختصر أيُّ شيء وتسمى منحوتة.
([108]) هذا الكلام مما يحتاج إلى تفصيل وعناية، وهو تكلم على مسألة المعازف والغناء وسماع الألحان من غير المعازف والقصائد، والقصائد الرُّبعية وأشباه ذلك.
وذكر أن الأشعار أيضا تنقسم إلى قسمين، وهذا كله مبني على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح» ولا شك أن ما كان من الشعر في وصف الله جل وعلا وصف آلائه، ووصف الصالحين، والتذكير بالدار الآخرة، والجهاد وأشباه ذلك من المعاني الإسلامية والدينية العظيمة، فإن هذا مما أمر به؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أنشدت الأشعار بين يديه، وقال عليه الصلاة والسلام لحسّان بن ثابت «أهجهم وروح القُدُس معك» وهذا أمر ثابت متفق عليه بين أهل العلم.
لكن التشاغل به عن غيره أيضا من العلم الواجب أو من العلم المستحب هذا لا ينبغي؛ بل الانشغال بالعلم الواجب والمستحب هذا لا شك أولى بل آثر أن ينشغل عنه بإنشاد الأشعار في المعاني الإسلامية العامة.(38/223)
وأما الأشعار التي في اللهو والمجون وأشباه ذلك، فهذه لا تجوز، ولا يجوز نشرها أيضا من أن ما كان وسيلة إلى الشيء فله حكمه، فالأشعار التي فيها وصف النساء أو وصف الخنا والفجور أو وصف الخمر شرب الخمر ونحو ذلك، نشرها بين الناس يعني إذاعتها أو إقرارها وأشباه ذلك، هذا لا يجوز لأنه وسيلة على الشر.
لكن قد يتناقل العلماء من هذه الأشعار أشياء في الشواهد أو أشياء في الوصف وبيان بعض معاني اللغة وبيان بعض البلاغة تشبيه فهذا، إذا كان بقدره فلا حرج منه، فقد نقل العلماء كثيرا من الأشعار في كتبهم من التفسير وفي شروح الأحاديث ببيان معاني كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعضها ما ينكر؛ لأن ذلك ليس مقصودا به المنكر، وإنما المقصود به [حقيقة..].
أما المسالة التي ذكرها من سماع الألحان المطربة والقصائد الزهديات بالألحان فهذا هو الذي كان يسمى في العصر الأول بالتغبير، والتغبير كان بنوع ضرب على الجلود وقد يكون بالدفوف أيضا، وفيه إنشاد للقصائد الزهدية، استعمله طائفة من المتصوفة لأجل إشغال الناس بالقصائد التي تحث على الدار الآخرة، وتزهد في الدنيا، عن الغناء والفجور وأشباه ذلك.
والعلماء أنكروا التغبير وأنكروا سماع القصائد الملحنة يعني بألحان مبتدعة؛ الألحان التي يستخدمها أهل التصوف، بما يشبه الرنة، وعدوا ذلك من البدع المحدثة. ووجه كونه بدعة ظاهر، وذلك أنه يقصد بذلك التقرب إلى الله، ومعلوم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرع، وهذه القصائد على هذا النحو التي كان يلقى في الماضي، ويلقيه المتصوفة في الحاضر، هذا مبتدع محدث لا يجوز ترقيق القلوب به.
أيضا من سماع الألحان ما يتصل بالتعبد بها، وهذا لاشك أنه كفر، مثل ما ذَكَرَ لك بأن سماعها واستماع ذلك تعبدا كفر؛ لأنه:
جَعَل من الدين ما لم يأذن به الله جل وعلا هذه واحدة.(38/224)
وجعل أن الله جل وعلا شرع هذا ورضيه ودل عليه وبه يحصل توحيده، كما يعتقده المتصوفة.
فأصل الاستماع استماع الألحان استماع الغناء أصله فسق إذا كان يصحبه معازف، وإذا كان لا يصحبه معازف فهو بحسب الحال وقد يكون فسقا في بعض الأمور كحال الصوفية [انتهى الشريط السابع]
... أن هذا الاستماع عبادة، استماع هذه الألحان المطربة والغناء وأشباه ذلك عبادة، وهذا فسق، وهو عند طائفة كفر.
والثاني أنهم يعتقدون أن الله جل وعلا يستمع هذا اللحن ويرضى به، وهذا كفر؛ لأن الله جل وعلا لا يجوز نسبته إلى الرضا بالفسوق والفجور، تعالى الله جل وعلا عن قولهم.
هذا ما يمكن حمل كلام من نقل عنه شيخ الإسلام هنا بقوله في أكثر من موضع (فاستماع هذا كفر) أو (استماعه على الله كفر في هذا الحال)؛ لأنهم يعنون به تعبد الذي يعتقدون معه أنَّ الله جل وعلا يستمع لهذا ويرضى به، كما قال في أوله فاستماع ذلك على الله كفر؛ يعني اعتقاد أنَّ الله يرضى بهذا ويستمع إليه وينصت إليه سبحانه وتعالى كما يعتقد طائفة من غلاة المتصوفة والجهلة، هذا كفر إذ فيه وصف الله جل وعلا بما يتنزه عنه.
وهذا معنى قوله فيما يظهر، وإلا فالعبارة مشكلة (فكل من جهل ذلك وقصد استماعه على الله على غير تفصيله فهو كفر) يحمل على ما ذكرته لك من الحالين، وهذا يعرف معناه بمعرفة حال أهل التصوف.
ذكرتُ وجهين:(38/225)
الوجه الأول: أن التقرب إلى الله جل وعلا عبادة، وجعلوه عبادة أذن الله بها ورضيها، وهذا كما قلت لك عند طائفة كفر؛ لأن الله جل وعلا لم يأذن لأحد أن يجعل عبادة يخترعها جديدة بأمر منكر، فيتعبد بالحرام، تعبده بالحرام كفر عند جماهير أهل العلم؛ يعني يفعل حراما ويقول أتعبد الله به، ينظر إلى النساء ويقول أتعبد الله بالرؤية –ما له دخل الاستحلال قد يكون استحلال وقد يكون شيء آخر-؛ المقصود أنه تعبد الله بالحرام، يعني أمر محرم تقرب إلى الله بهذا المحرم، معلوم أن هذا جماهير أهل العلم على رده يعني السماع المحدث، ولذلك قلت لك أنه قول طائفة من العلماء أنه كفر.
والثاني وهو واضح: أنهم يعتقدون أن هذه الألحان التي تقرب إلى الله جل وعلا أن الله رضيها، وأنه يستمع ذلك؛ بل ويقصد الله إلى سماعه، وهذا وصف الله جل وعلا بما لا يجوز أن يوصف به، وهذا كفر.
هذا تخريج لكلامه وإلا كما ذكرت لك فالكلام مشكل.
.. هي عبارته مشكلة لكن بما أوضحته لك ما يصير فيه إن شاء الله إشكال، قال(وقصد استماعه على الله) ، ( فاستماع ذلك على الله كفر).(38/226)
.. الاستماع في نفسه بدعة محدثة، عند هذا الناقل قد يكون كفرا في المواطن التي ذكرها، طبعا إذا جاءتك المواطن المشكلة من كلام العلماء فإن كلام العلماء فيه متشابه، ما نأخذها بالتسليم إلا بعد رده إلى المحكم، فإذا رددناه إلى المحكم في قواعد التكفير، رجعنا إلى أنه لا يكفر المستمع إلا بأحد الصفتين التي ذكرت لك، إما بالتقرب على الله بالحرام، وهذا عند طائفة كفر حتى حكى العلماء، أن من زنى وقال في أوله بسم الله وعلى بركة الله أنه يكفر بالإجماع -نقل بعض العلماء الإجماع عليه- وإن كان لا يُسلم –لأنه ما أعرف من قال بالإجماع من المتقدمين-، لكن من قال بسم الله على بركة الله فإنه يكفر؛ لأنه هنا يريد الاستعانة بالله هذا الأمر المحرم، ويطلب البركة في هذا الأمر المحرم، كذلك من أراد التعبد بالحرام كالذين قال جل وعلا فيهم ?وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?[الأعراف:28]، هذا يمكن الرجوع إليه؛ لأنه من تعبد بالحرام تقرب إلى الله بما حرَّم هذا عند طائفة من العلماء؛ بل عند الجمهور كفر.
والثاني أنه جل وعلا يرضى بهذا ويستمع إليه وينصت إليه فإن هذا أيضا كفر؛ لأن الله جل وعلا لا يستمع إلى الفسق والفجور ويرضى به.
.. هذا ما فيه كلام الله سبحانه وتعالى يسمع كل شيء.
.. نحن نخرّج كلامه على وفق الأصول، ما نقرر ما يقوله.
([109]) كلام الحافظ أبي عمر بن عبد البر صاحب كتاب التمهيد والاستذكار وغيرهما كلام عظيم تأصيلي مهم في هذا الباب، وهو تقرير لما سبق إيراده وتقريره.
قوله رحمه الله تعالى (إن السلف تتابعوا على أنه في الصفات نمرها كما جاءت بلا كيف) هذا مما اتفق عليه السلف من أئمة في الدين وعلماء المسلمين أمروها كما جاءت وهذا معناه على وجهين:(38/227)
الوجه الأول: أن قولهم أمروها كما جاءت يعني بلا تفسير، فالأصل أنّ أحاديث الصفات والآيات في ذلك لا تفسر؛ بل تُمر كما جاءت؛ يعني قال فيها وصف الله جل وعلا بكذا، ولا يقال معنى هذا كذا؛ لأن المعاني معلومة عند المستمع، فمعنى قول الله جل وعلا ?الرحمن الرحيم? معلوم من صفة الرحمة، و?غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ?[المجادلة:14]، معلوم صفة الغضب، ? بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ?[الصافات:12] على القراءة المعروفة، العجب ?وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ?[الرعد:5]، معروف صفة العجب إلى آخر ذلك، فلا يدخل في هذا بتفسير، إن الله ? اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا?[البقرة:26]، أيضا صفة الاستحياء معروفة، فهذا يكتفى بإمراره، بذكر ما جاء فيه بدون أن يخاض فيه بتفسير؛ لأن هذه المعاني معلومة، كذلك صفة الوجه صفة اليدين، إلى غير ذلك من الصفات في القرآن وفي السنة.(38/228)
والوجه الثاني: في معنى قوله أمروها كما جاءت: أن هذا الإمرار وعدم الدخول في الكيفية ولا في بحث المعاني التي ادَّعاها المبتدعة، ولهذا قال طائفة من أهل العلم: أمروها كما جاءت لا كيف ولا معنى، وهذا القول -أمروها كما جاءت لا كيف ولا معنى- موافق لأمروها كما جاءت؛ لأن نفي الكيفية يراد به الكيفية التي ادعاها المجسمة في نصوص الصفات، ونفي المعنى لا كيف ولا معنى هو المعنى التأويلي الذي صرف معاني الصفات إليه أهل البدع، فقولهم لا كيف ولا معنى يعني لا كيف كما كَيَّفَهُ المجسمة ولا معنى كما ادعاه المؤولة، وهو موافق لقولهم أمروها كما جاءت، وبهذا قال طائفة أيضا من الأئمة تفسيرها تلاوتها، فنفس التلاوة تفسير لها؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما خاضوا في آيات الصفات بتفسير كما تكلموا بآيات العلم والفقه، وإنما في آيات وصف الله جل وعلا أو في الأحاديث ذكروها وأمروها كما جاءت بلا شيء زائد عن ذلك، فأيقنوا بما وصف الله به نفسه باستوائه على العرش، وهم يعلمون معنى الاستواء في اللغة، لهذا لا حاجة لهم في تفسيره، وكذلك في حديث النزول «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا آخر كل ليلة» أو «في الثلث الأخير من الليل» أو «في النصف الأخير من الليل» أو «حين يبقى ثلث الليل الآخر»، أو الأحاديث الجائية في هذا، وهذا كله يقال به ويمر كما جاء، فلا يجوز الخوض فيه بزيادة عن ذلك، إلا بحالة واحدة وهي في حالة الرد على الخصوم.
ولهذا يخطئ بعض المنتسبين إلى طريقة السلف وإلى السنة في أنهم يحدثون العامة بأحاديث الصفات ويفسرونها لهم، هذا ليس هو طريقة السلف طريقة السلف، أن تتلى عليهم الآيات والأحاديث في هذا الباب، وأن يمر كما جاء وأن لا تفسر لهم وإنما يقال لهم إن الله استوى على العرش يؤتى بالآيات في هذا، علو الله على خلقه، الآيات والأحاديث في هذا، يذكر صفات الله سبحانه وتعالى؛ لأنها معلومة يدركها المرء بلغته وبفطرته.(38/229)
([110]) يجوز أن تقول: سَحَّاءُ الليلِ والنهار أو تقول: سحَّاءُ الليلَ والنهار، فيكون الليل والنهار هذا ظرف، أو سحاءُ الليلِ والنهار على الإضافة، وجهان في رواية الحديث.
([111]) البيهقي رحمه الله من علماء الحديث المعروفين، له كتاب السنن الكبرى والسنن الوسطى والسنن الصغرى، وكتب كثيرة في الحديث، وله كتاب الأسماء والصفات، وطريقته في العقيدة -في الأسماء والصفات بخصوصها- هي طريقة الخطّابي وأشباه هؤلاء، وهم في أعلى طبقات الأشاعرة؛ لأن عندهم دفاع عن المتكلمين، ولأن عندهم كثيرا من التأويل؛ لكنهم أخفُّ من غيرهم.
شيخ الإسلام في موضع له قسم الأشاعرة إلى خمس طبقات، وجعل البيهقي والخطابي وأشباه هذين من الطبقة العليا من الأشاعرة؛ يعني أن ما تأولوه قليل، أو أنهم الأصل عندهم الإثبات بخلاف قومهم؛ فلم يجعلوا هؤلاء كالبيهقي لم يجعلوا القاطع العقلي فيما يزعمون حكما على النصوص، بل نظروا في اللغة وتأولوا تأويلات من جهة اللغة كما هو ظاهر في كتابه الأسماء والصفات.
والبيهقي في الأسماء والصفات تارة يقول باب إثبات يدي للرحمن، أو باب ما جاء في إثبات كذا، وتارة يقول باب ما جاء في كذا، أو باب ما يذكر في كذا ولا يذكر الإثبات، لهذا قال بعض أهل العلم: إنه يثبت الصفات الذاتية كالوجه واليدين وأشباه ذلك، وأما الصفات الفعلية فيتأولها.
وكتابه من الكتب التي اشتملت على أدلة كثيرة في الصفات، واشتملت في كثير من ذلك على تأويلات باطلة، وهو يدافع عن المتكلمين، وينقل كلامهم.
نسأل الله جل وعلا له العفو والرحمة؛ لما له من قدم راسخة في نشر السنة، ورواية الحديث وتدوين ذلك، والاجتهاد، نرجو أن يكون مجتهدا أخطأ في اجتهاده؛ لكنه آثم بما خرج عن طريقة السلف الصالح.(38/230)
مما ذكر: صفة اليدين لله جل وعلا وصفة الوجه وكل هذا الباب الذي ذكره راجع إلى إثبات صفة اليدين للحق جل وعلا، وهذه الصفة كثيرة النصوص فيها في الكتاب والسنة، وأجمع عليها السلف، والله جل وعلا له يدان وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه وتعالى متصف فيهما بصفة الكمال.
والمؤولة أوَّلوا اليدين إلى أنواع من التأويل، ذكرناها لكم في عدة مواضع؛ منها تأويل اليدين بأنها القدرة أو بالنعمة أو ما شاكل ذلك.
وإضافة اليد إلى الله جل وعلا إضافة صفة، واليد هي اليد الحقيقية المعروفة، والله جل وعلا لا يقال في حقه إنه متصف بها على نحو كيف وكيف؛ لأنه ما دار في البال فالله جل وعلا بخلافه.
قد ذكرنا القواعد في هذا وتقرير منهج أهل السنة في شرح الواسطية وفي غيره.
المقصود من هذا أن قول البيهقي فيما ذكر كلامه جيد وصواب في نقله للنصوص وتقرير هذه الصفة، وكل الصفات على هذا النحو الذي ذكره في كثرة النصوص فيها، وفي أنها لا يخاض فيها بتأويل.
ومما ذكر أن السلف لم يخوضوا في تفسيرها، إذا جاءت صفة اليدين في كتب التفسير القديمة وفي كلام السلف لا تجد أنه يقول اليدان هما كذا؛ بل معروف اليدان هما اليدان، والله جل وعلا متصف بذلك. نكتفي بهذا.
([112]) كلام أبي يعلى في كتاب إبطال التأويل: تأصيل لرد أنواع التأويل لآيات الصفات والأمور الغيبية. وكتاب إبطال التأويلات ليس من كتب تقرير الاعتقاد الحق في الصفات من كل وجه؛ لكن يستفاد منه ما نقله شيخ الإسلام عنه في تأصيله في رد التأويل؛ لأن أبا يعلى وجماعة من المنتسبين لمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى ذهبوا إلى الإثبات فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا أشياء لم يصح بها الدليل أو لم يرد بها الدليل أصلا؛ ولكن الكتاب معقود لإبطال التأويل في أخبار الصفات، وهذا القدر أورد عليه أدلة كثيرة وأبطل تأويل المبطلين.(38/231)
ذكر فيه أن الذي يجب: أن يؤمن بظاهر النصوص التي فيها الإخبار عن الله جل وعلا وعن أسمائه وصفاته، وأنه لا يجوز التشاغل بردها ولا بتأويلها، ولا بصرفها عن ظواهرها، بل الواجب حملها على ظاهرها، وهذا حق.
وإذا قلنا الواجب حملها على ظاهرها، فإن الظاهر كما هو معلوم يقابله التأويل، والمجاز يقابله الحقيقة.
فعندنا فيما تحمل عليه آيات الصفات وأحاديث الصفات بل آيات وأحاديث الأمور الغيبية بعامة، أنه يجب حملها على ظاهرها وعلى حقائقها، ولا يجوز حملها على التأويل ولا على المجاز.
والظاهر قسمان كما أن الحقيقة قسمان، فنحمل الآيات والأحاديث على الظاهر، والظاهر للآيات والأحاديث على قسمين:
منها ظاهر للألفاظ بمفردها، وهذا يسمى الظاهر الإفرادي، الظاهر للمفردات، فهذا يُفهم الكلام على ظاهره في اللفظ، ولا يجوز أن يحال اللفظ عن ظاهره إلى شيء آخر.(38/232)
وذلك لأن تعريف التأويل عندهم: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، وسبب الصرف -أنهم صرفوه عن ظاهره-، أنه لا يجوز نسبة هذا الظاهر إلى المنسوب إليه، وهذه مقدمة هي الدعوة، هي الدعوة جعلوها مقدمة، لماذا صرفوا اللفظ عن ظاهره؟ قالوا لأنه لا يجوز أن يوصف الله بصفات الأجسام، فجعلوا الدعوى هي البرهان، ولذلك باطل أن يسلط التأويل على الظاهر؛ ظاهر الألفاظ كما في قوله مثلا ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ?[التوبة:6]، ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا?[النساء:164] وأشباه ذلك، ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ?[الفرقان:59]، فهذه ظواهر، ظواهر هذه الآيات فيها إثبات الصفة على ما دل عليه معنى الصفة في اللغة، فاليد في اللغة ليست هي القدرة؛ لأن القدرة إذا أريد باليد القدرة أو النعمة فإنها لا تضاف بل تقطع عن الإضافة، فتقول مثلا لفلان علي يدٌ، أو عندي لفلان يدٌ، هذا جاء في كلام العرب وأرادوا بها النعمة؛ لأن النعمة تسدى باليد، ولكن لا يقال يد فلان عليَّ ويراد بها النعمة، أو يدا فلان عليَّ ويراد بها النعمة، فإذا ثنيت وأضيفت فإنه لا يمكن بحال أن يراد بظاهرها هذا المعنى الذي ذهبوا إليه، فيكون الذي ذهبوا إليه غلطا في اللغة، وأيضا فيه تأويل والتأويل لا يجوز لهذا لأنه لا برهان عليه.
إذا تبين ذلك فهذا الظاهر نفهم الآيات على ظاهرها، يعني اللفظ هذا ظاهره فنؤمن به على ما دل به ظاهره، ولا نتشاغل بتأويله ولا برده، ولا بضرب الأمثلة إلى آخره بل نؤمن، والله جل وعلا وصف نفسه بذلك، نؤمن بذلك ولا نخوض فيه.
النوع الثاني من الظاهر: ظاهر الجمل الظاهر التركيبي، والظاهر التركيبي أو ظاهر الجمل، هذا معناه ما يفهم من ظاهر الكلام بمجموعه لا بمفرداته.(38/233)
فإن المقصود من الكلام إفهام المتكلم المخاطَب بما يريد، وقد يُفهم المخاطِبُ المخاطَبَ بمفردات يعني المفرد، وقد يفهمه بمجموع الكلام فإذا ظهر المراد بمجموع الكلام سمي ذلك ظاهرا تركيبيا، والأول ظاهر أفرادي أو لفظي.
والظاهر التركيبي هذا مثلا في قوله جل وعلا ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]، لم يفهم منها أحد أن فيها إثبات صفة إتيان الله بنيان الكفار من القواعد؛ لأن المراد هنا بالتركيب ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ?[النحل:26] المراد أنه إتيان عذاب الله جل وعلا بقدرته سبحانه، هذا يفهم من ظاهر التركيب -تركيب الجمل-، وإذا أتيت إلى قوله (فَأَتَى اللَّهُ) لقلنا فيه إثبات صفة الإتيان لكن هذا غير مراد؛ لأن (فَأَتَى اللَّهُ) هنا نفهمها مع الجملة.
بخلاف قوله مثل في آية البقرة أو في آية الفجر ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22] وهذا واضح أن الظاهر منها الظاهر الإفرادي نفسه الظاهر التركيبي.
كذلك في قوله ?أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[البقرة:115]، (أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّك) هل فيه إثبات رؤية الله بالأوصاف كما يدعيه الصوفية يعني غلاة الصوفية؟ لا، هنا المراد الظاهر التركيبي (أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) فظاهر الآية التركيبي دلّ على أن المراد برؤية الله جل وعلا هنا رؤية آثار ربوبيته في خلقه، ولهذا قال ?كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا?[الفرقان:45].(38/234)
ولهذا لما قيل لشيخ الإسلام إن هناك آية أجمع السلف على تأويلها -وهي قوله جل وعلا في سورة البقرة ?وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?[البقرة:115]-، فقال: أعلم ما تريدون، تريدون قوله تعالى هذه الآية أصلا ليست من آيات الصفات حتى يقال إن السلف أولوا آيات الصفات؛ بل هذه الآية تركيبها المراد بالوجه هنا الوِجهة، وليس المراد بالوجه الذي هو صفة الله جل وعلا، قال (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) يعني فثم القبلة، فثم الوِجهة وِجهة الله التي أمركم بالتوجه إليها دل عليها قوله قبلها (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) سبحانه وتعالى.
كذلك الحقيقة منقسمة إلى حقيقة إفرادية وإلى حقيقة تركيبية.
وهذا البحث أجاد فيه شيخ الإسلام في أوائل المجلد الثالث من رده على الرازي وهو لم يطبع بعد؛ لأن الرازي ذكر تأويل الآيات والأحاديث، فأصل شيخ الإسلام تأصيلا عميقا قويا كعادته رحمه الله في بيان الظاهر والتأويل وأقسام الظاهر والحقيقة وهذه المباحث.
المقصود أن هذا الذي ذكر أن نؤمن بالظاهر ولا نتشاغل بالتأويل، هذا هو الحق، والظاهر على قسمين والحقيقة على قسمين.
نقل أيضا عن أبي الحسن الأشعري صاحب الطريقة المنسوبة إليه والمعروفة، الكلام الذي نقله في أول عقيدة أهل السنة والحديث واضح: الإقرار بالله وملائكته والإيمان بالصفات، كل هذا واضح.
لكن نحتاج إلى التعليق على قوله (وإن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج) أسماء الله جل وعلا سمَّى بها الله سبحانه وتعالى نفسه، وأسماؤه مترادفة متباينة، أما ترادفها فباعتبار الذات، كلها تدل على نفس الله جل وعلا وذاته سبحانه وتعالى، فالعليم هو ذات القدير هو ذات الرحيم إلى آخره.(38/235)
وهي متباينة باعتبار أن كل اسم فيه صفة ليست في الاسم الآخر، فالقدير فيه صفة القدرة، والرحيم فيه صفة الرحمة إلى آخره.
والله جل وعلا لم يزل متسميا بهذه الأسماء قبل أن يخلق الخلق.
والمعتزلة يرون أن أسماء الله جل وعلا سمَّاه بها الخلق، فلم يكتسب اسم الخالق إلا بعد أن خلق الخلق، ولا اسم القدير إلا بعد أن قدر، ولا العليم إلا بعد أن وجد شيئا يعلمه إلى آخره، فالخلق هم الذين كسوه بهذه الأسماء بحسب ما رأوا من صفاته أو من آثاره أو من خلقه إلى آخره.
فعندهم على هذا الأسماء تكون مخلوقة، وهي على هذا عندهم غير الله جل وعلا.
وأهل السنة يردون هذا ويقولون إن أسماء الله جل وعلا سمَّى بها نفسه قبل أن يخلق الخلق سبحانه وتعالى «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» وهذا ليس من صُنع الخلق؛ بل هو من تسمية الله جل وعلا لنفسه، فهي الأسماء الحسنى له سبحانه وتعالى.
إذا كان كذلك فأسماء الله لا يجوز أن يقال إنها مخلوقة.
والثاني إن أسماء الله جل وعلا لا يجوز أن يقال [انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن] أنَّ الصفات تفسر بمخلوقات منفصلة؛ لأن الله جل وعلا ما قام به ذات واحدة ليست صفاته سبحانه وتعالى منفكة عن ذاته؛ يعني صفاته الذاتية أو صفاته الاختيارية حين تقوم به جل وعلا، ليست منفكة عن ذاته.
فكلمة (غير) تفهم الانفصال، وهذا يوافق معتقد الجهمية والمعتزلة الذين يفسرون الأسماء والصفات التي لا يقرون بها بمخلوقات منفصلة، ولذلك يستعملون كلمة (غير).
إذن هنا في قوله (وإن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله) على ما ذكرت لك من مبادئ البحث فيها، كذلك لا يقال إنها مخلوقة، فالغيرية ممتنعة بل هو قول المعتزلة والخوارج، كذلك قول بأنها مخلوقة كذلك من فروع قول بأنها غير الله.(38/236)
سبق أظن أن مر معنا الكلام على اللفظ والملفوظ، من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع؛ لأن كلمة لفظ تشتمل على لفظ مصدر، اللفظ مصدر، قد يكون المراد به تلفظ، وقد يراد به الملفوظ، فلما احتمل هذا وهذا، صار إطلاق قول القائل لفظي بالقرآن مخلوق بدعة؛ لأن كلمة لفظ تحتمل أن يكون المراد بها التلفظ، والتلفظ الذي هو عمل الإنسان، هذا مخلوق ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ?[الصافات:96].
وإن كان قصد باللفظ الملفوظ، فالملفوظ كلام الله جل وعلا، فلا يجوز أن يقول كلام الله ملفوظ.
فإذن قول القائل ما ذكر إن اللفظ مخلوق مثل ما قال (والكلام في اللفظ والوقف، من قال بالوقف واللفظ فهو مبتدع)، فمن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ومن قال لا أقول لفظي بالقرآن مخلوق ولا أقول ليس لفظي بالقرآن مخلوق بل أتوقف لا أعلم هذا أيضا بدعة، أو أتوقف وأقول القرآن مخلوق أو غير مخلوق فهذا بدعة؛ بل الواجب أن نقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن اللفظ قول القائل لفظي بالقرآن مخلوق، هذا لا يجوز أن يقال لأنه يحتمل، مثل ما قال السلف من قال أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ومن توقف هجروه.
البخاري رحمه الله تعالى هجره محمد بن يحيى الزهري، ومسلم وأبو حاتم، وأبو زرعة، لما أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق، كما قيل في الرواية.
والبخاري أراد شيئا حقا لكنهم من شدة تمسكهم بالسنة ما اكتفوا منه باللفظ الغير واضح فأطلقوا أنه مبتدع، ولذلك تركوا التحديث عنه حتى مات رحمه الله تعالى.
ترك المجلس وذهب إلى بلده فاستقر فيه مدة، ثم توفي.
لهذا تجد في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ترجم للبخاري قال: محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبد الله تركه أبي وأبو زرعة لما أظهر عندهم مسألة اللفظ. يعني متروك.(38/237)
ومسلم أيضا دافع عن البخاري في هذه المسألة وانحرف عنه بعد ذلك؛ لأنه من تلامذته الخاصين فلما ترجم له ابن أبي حاتم -وهو من أئمة السنة هو وأبوه وأيضا أبو زرعة- قال لما ترجم لمسلم: مسلم بن حجاج النيسابوري صدوق. لأجل هذه المسألة.
فإذن ينبغي إلى الذين ينظرون في التراجم، طلاب العلم، والذين يخرِّجون ويستخرجون أقوال في الجرح والتعديل، أن لا يأخذوا ظاهر اللفظ دون أن يعلموا تواريخ الرواة، وما حصل من الفتن التي حصلت ووأثرها على الناس.
يحيى بن معين أيضا تركه علي بن المديني وحصل ما حصل؛ لأنهم أجابوا في المسألة أو توقفوا فيها؛ يعني فتنة عظيمة حصلت فيمن تقدم وفيمن بعدهم. والله المستعان.
([113]) قوله هنا (وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16])
الصحيح هنا في قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أن المراد به قرب الملائكة؛ لأن القربة نوعان: قرب عام وقرب خاص.
والقرب الذي يوصف الله جل وعلا به هو القرب الخاص؛ قرب خاص من خاصة خلقه؛ من الداعي «الله أقرب من أحدكم من عنق راحلته» وأشباه ذلك.
أما عامة الخلق فإن قرب الله جل وعلا منهم إنما هو قرب بصفاته العظيمة سبحانه وتعالى، فهو يقرب من خلقه كيف شاء سبحانه وتعالى؛ يعني إما قرب الذات أو قرب الصفات فهو سبحانه وتعالى كيف شاء في ذلك.
فالقرب الذي يوصف فالله جل وعلا به هو القرب الخاص أما القرب العام فهو قرب الملائكة من عباد الله جل وعلا كما في هذه الآية (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يعني حين الوفاة بقرب الملائكة ?إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَن الْيَمِينِ وَعَن الشِّمَالِ قَعِيدٌ?[ق:17].
وقد أوضحت هذا فيما أذكر مفصلا، ومسألة القرب تقتضي بحثا طويلا في شرح الواسطية فيرجع إليه هناك. نعم(38/238)
([114]) هذا من أعظم الصفات التي ينبغي أن يكون عليها أهل السنة في سلوكهم، فأهل السنة وأهل الحديث وأهل الأثر وأتباع السلف ليسوا متكلمين بأقوال لا عمل معها ولا سكينة ولا خشوع ولا تواضع؛ بل هم يأمرون بعقيدة صحيحة معها إتباع، ومعها استكانة، ومعها خضوع.
فالسلوك جزء من عقيدتهم لهذا ترى في آخر الواسطية كما مرّ معنا ذكر شيخ الإسلام فصل؛ لأن أهل السنة والجماعة يأمرون مع ذلك بقيام الليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة إلى آخره.
وهنا ذكر الأشعري رحمه الله بعض صفاتهم التي عرفهم الناس بها، فهم يجانبون كل داع إلى بدعة، لا يقولون بالبدع ولا يحبون أهلها ويجانبونها، كذلك يتشاغلون عن القيل والقال بقراءة القرآن وبكتابة الآثار وبالنظر في فقه الأثر؛ فقه السنة، وفي ذلك ليسوا متكبرين على الخلق بل أهل استكانة وتواضع، هذه صفة أهل العلم الراسخين فيه المتبعين للسلف أنهم أهل استكانة وتواضع، أما إذا رأيت الذين يتكبرون تعلم أنهم فقدوا بعض صفات السلف الصالح، حتى ولو كانوا منتسبين إلى طريقة السلف، فطريقة السلف كاملة، فطريقة السلف كاملة، وإنما الشأن في بعض أتباعهم إذا تكبروا أو اغتابوا أو نَمُّوا أو سعوا في الأرض لغير هدي السلف.(38/239)
فأهل السنة أهل الحديث أهل الأثر أتباع السلف الصالح فيهم خشوع في قلوبهم، خشوع في أقوالهم، خشوع واستكانة وتواضع لله جل وعلا في أحوالهم مع الخلق، ينفعون الخلق ويبعدون المضرة عنهم، ويسعون في نفعهم، ويأبون أن يضروهم بشيء، وكذلك في عباداتهم لهم الهدي، وفي فقهم وفي نظرهم يتبعون الآثار ولا يخرجون عن ذلك، ومعهم حسن خلق مع الناس، وبذل للمعروف وسعي في مصالح الله جل وعلا، وكذلك يكون الأذى أذاهم لا يصل، كما قال عليه الصلاة والسلام «المسلم من سلم المسلون من لسانه ويده» هم يكفون الأذى، ويبذلون الندى، ويحسنون خلقهم مع الناس، ويتركون آفات اللسان من الغيبة والقيل والقال والنميمة والخوف من عباد الله جل وعلا.
بل كلامهم كلام دائما فيه خير، فيه معروف، فيه صلاح، وإذا لم يأت الكلام الصالح سكتوا فهو خير لهم.
هذه صفة أهل العلم صفة أتباه السلف الصالح وهي التي يجب أن نصابر ونصبر على امتثالها، قد يغلط المرء قد يصيبه بعض الغفلة؛ لكن يجب عليه أن يوطن نفسه وأن يطبّع نفسه على الصفات المحمودة، وخاصة في حال قلبه بخشوعه واستكانته، وحال لسانه فيما يتكلم به وما يذر وفي بذله بجوارحه للناس الخير وكف الأذى.
فهذه من كمُلت له كان صالحا، والصالح من عباد الله من قام بحق الله وأتى بحق الله الواجب، وقام بحق المخلوق الواجب، فمن أدى حق الله وأدى حق المخلوقين فهو الصالح من عباد الله، ومن فرّط نقص من صلاحه أو ظهر فيه فساد بقدر ذلك. والله المستعان.
والكلمة هذه الأخيرة التي قالها (وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب) أستدل بها على أن الأشعري ترك المقالة المعروفة عنه؛ لأن الأشعرية له مرحلتان:
المرحلة الأولى التي كان فيها معتزليا؛ لأنه نشأ في حجر الجُبَّائي المعتزلي، وبعد أن عرف مذهب الاعتزال رجع حيث أقام عليه أربعين سنة، رجع إلى مذهب آخر خلط فيه ما بين قول أهل الاعتزال وقول الكلابية، مال إلى أتباع ابن كُلاّب فقال بقولهم.(38/240)
قالوا وفي آخر أمره صنّف ثلاثة مصنفات ترك فيها المصنفات التي صنفها على مذهب الكلابية، وهذه المصنفات الثلاث هي مقالات الإسلاميين هذه التي نقل عنها شيخ الإسلام هذا النقل، فيه أنه ذكر في هذا الموضع بعد الفصل مقالة أهل الحديث والسنة قال (وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب) والثاني كتابه الإبانة المعروف، والثالث كتابه رسائل أهل الثغر. وهذه الثلاث كلها مطبوعة لبيان منهج أو طريقة أهل السنة في الجملة.
أتباعه -أتباع الأشعري- على مذهبه الذي رجع عنه، يقولون هذه الكلمات التي في مقالات الإسلاميين مدسوسة عليه، كعادة أهل الأهواء في رد الحق، وكتاب الإبانة أيضا لا تصح نسبته إليه وكتاب رسائل أهل الثغر لا تصح نسبتها إليه، وهذا باطل؛ لأن كل هذه الكتب والألفاظ التي فيها تناقلها العلماء من بعد الأشعري إلى وقتنا هذا.
ولهذا كان الحنايلة والأشاعرة بعد الأشعري كان الحنابلة والأشاعرة متفقين غير مختلفين إلى أن حديث فتنة ابن القشيري المعروفة في بغداد في أواخر المائة الخامسة يعني في أربعمائة و في أواخر المائة الخامسة فتفرق الحنابلة والأشاعرة؛ لأن الأشاعرة أخذوا المذهب المتوسط وردوا قول الأشعري في نصرة اهل السنة والحديث وافترقوا واتضح الافتراق إلى وقتنا هذا. نكتفي بهذا القدر.(38/241)
([115]) قوله في أول الكلام (قال أهل السنة وأصحاب الحديث إن الله ليس بجسم) هذه النسبة لأهل السنة ولأهل الحديث ليست بصحيحة بل أهل السنة وأهل الحديث لا يجاوزون في الإثبات والنفي ما جاء به القرآن والحديث على القاعدة المقررة عندهم؛ أنه لا يتجاوز في صفات الله تعالى القرآن والحديث، فلا نثبت ما لم يثبت في القرآن والحديث بالأقيسة ولا ننفي ما لم يُنف في القرآن والحديث بالأقيسة؛ لأن المنفي له جهات كثيرة، ولفظ هنا الجسم المنفي وأنه ليس بجسم هذا لا يستعمل هذه العبارة أهل السنة ولا يقولون إن الله تعالى جسم لا كالأجسام ولا يقولون أيضا ليس بجسم؛ لأن هذا لم يرد وهذا لم يرد.
ولفظ الجسم هذا يحتمل المراد منه إلى أن الجسم هنا ما له صفات مختلفة ذاتية ومعنوية متشكلة على هيئة صورة، أو الجسم المراد به الأجسام المعهودة المخلوقة.
إذن نريد بالجسم ما له صفات ذاتية معنوية صفات ذاتية وصفات أفعال على هيئة صورة اجتماعها يشكل صورة، فإن الله جل وعلا له صورة سبحانه وتعالى كما ثبت في ذلك في الأحاديث الصحيحة، وصفاته جل وعلا باجتماعها بها يكون صورة الرب جل وعلا، لهذا في الحديث المعروف بعرصات القيامة «قال: هل تعرفون ربكم؟ قالوا: نعم. قال: فيأتيهم في صورة غير التي عرفوها أو رأوه عليها، فيقول: أنا ربكم فاسجدوا لي، فيقولون: لا نسجد إلا لربنا، حتى يأتينا ربنا، قال: هل بينكم وبينه آية؟ قالوا: نعم الساق، فيكشف ربنا عن ساقه، فيخر من كان يسجد له في الدنيا، ويبقى من كان لا يسجد له -يعني من المنافقين-، فيريد أن يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا» الحديث المعروف الصحيح المقصود من هذا أن لفظ الجسم هذا لم يرد، فلا يصح أن ينسب لأهل السنة والحديث نفيا للجسمية ولا إثبات الجسمية فهذا ليس بمثبت ولا بمنفي.
مقصود شيخ الإسلام بهذه النقول مقصود جملة الكلام، ما يقصد منها تحقيقها هو حققها في التدمرية هذه المباحث.(38/242)
هذا التعليق من شيخ الإسلام، هذا التعليق من كلامه، هو الذي علمنا هذا رحمه الله.
.. نقول الألفاظ المجملة إن فسرت بمعنى صحيح قُبلت، فالنافي من يقول ليس بجسم نقول ماذا تريد بالجسم؟ إن قال أريد بالجسم الأجسام المخلوقة المعهودة فنقول نعم جل وعلا ليس بجسم من الأجسام المعهودة المخلوقة.
وإذا أراد بالجسم صفات الله جل وعلا من أن له جل وعلا وجها وله عينين سبحانه وله سبحانه وتعالى يدان وله عينان وله قدم إلى آخر ذلك، وله صورة سبحانه وتعالى، وله صفات سمع وقوة إلى آخره، قال أنا أريد بنفي الجسم هذا نفي الصورة، وأن الصفات هذه مجتمعة على هيئة صورة فنقول هذا باطل إلى آخره.
مثل ما تفضلت الألفاظ المجملة التي تحتمل معنيين يعني تحتمل هذا وتحتمل هذا هذه لا يطلق إثباتها؛ لأنها أصل لم ترد ولا في القرآن كلها سواء ولله الحمد؛ لأن المقام مقام إيضاح لصفات الرب سبحانه.
.. السّفّاريني له أغلاط في عقيدته، له أغلاط متعددة، سواء في المتن أو في المنظومة أو في الشرح؛ لوامع الأنوار، له فيها أغلاط كبيرة علق على بعضها أئمة الدعوة منهم الشيخ أبا الطين والشيخ سلمان بن سحمان، وتركوا أشياء أيضا لم يعلقوا عليها، مثل قوله ........... أهل الحديث والأشاعرة والماتريدية وأشياء كثيرة من هذا، عنده أغلاط فيها.......رحمه الله تعالى، وهذا الذي أداه إليه اجتهاده في هذه المسائل التي في عصره ما كان أحد يفهمها يعني، في عصره ما كان أحد يفهم مثل فهمه، هو اجتهد وجمع من كلام شيخ الإسلام وكلام الأئمة ما ظن أنه الصواب هو مأجور على ذلك؛ لأن اجتهاد الحاكم يدخل في المسائل العلمية والعملية، فإن لم يستطع غير هذا ولم يعرف غير هذا فهذه قدرته.(38/243)
([116]) هذا واضح سبق إيضاحه في الشروح المختصرة والمطولة، الإسلام أوسع من الإيمان هذا صحيح؛ لأن أوامر الإسلام ومن ينطبق عليه لفظ الإسلام أو خصال الإسلام، هذا أكثر من خصال الإيمان، والمؤمن أخص من المسلم كما هو معروف، فلهذا اختلف أهل العلم في تمثيل الدوائر في حديث عمر المعروف، قال«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» إلى آخره «والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» الدائرة الكبرى ما هي؟ والدائرة الصغرى ما هي؟
بعضهم قال الدائرة الكبرى هي الإسلام، والصغرى هي الإيمان التي في داخلها، على اعتبار أن الإسلام أوسع من الإيمان.
وبعضهم عكس الكبرى هي الإيمان، والصغرى هي الإسلام.
هنا نظر من قال الإيمان والإسلام أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم ليس بمؤمن[ الشيخ يريد: ليس كل مسلم بمؤمن، المفرَّغ]؛ لأن الإيمان أخص من الإسلام، لهذا إذا نظرت إلى أهل الإسلام وأهل الإيمان فأهل الإسلام في أهل الإيمان أكثر؛ لأنهم أخذوا بالإسلام صار أوسع من هذه الجهة، فصارت الدائرة الكبرى دائرة الإسلام والدائرة الصغرى دائرة الإيمان.
ومن نظر إلى أن الإيمان والإسلام يشتركان في شيء فقال الدائرة الصغرى هي دائرة الإسلام والدائرة الكبرى هي دائرة الإيمان؛ لأنه ليس كل مسلم مؤمنا، وهذه تنتبه لها كثيرا يحصل فيها الاختلاف باختلاف الاعتبار.
فيصح أن تجعل الكرة الإسلام داخلها الإيمان باعتبار أوامر الإسلام؛ الإسلام في نفسه لا في أهله أوسع من الإيمان، وإذا عكست ونظرت على أهل الإيمان كل مؤمن مسلم نرسم دائرة الإسلام في داخلها داخل دائرة الإيمان، فهذه صحيحة وهذه صحيحة.
وقوله الإسلام أوسع من الإيمان وهذا صحيح، والمسلمين أكثر من المؤمنين هذا صحيح، من ثمرات هذا الكلام، وإذا قلنا الإيمان أخص من الإسلام هذا صحيح، وإذا قلت الإيمان يشمل الإسلام زيادة يشمل الإسلام وزيادة يعني يصبح الإسلام داخل الإيمان فهذا أيضا صحيح.(38/244)
فإذن الاعتبارات مختلفة في هذه المسألة تداخل الإسلام والإيمان، حصل فيها النقاش المعروف والبحث المعروف عند السلف، وأئمة كثيرون مثل مالك والبخاري وغيره ممن لهم آراء مختلفة في تداخل الإيمان والإسلام.
[ سؤال: منهج أهل السنة يا شيخ أنهم ينفون نفيا مجملا كيف الجواب عن قولهم أن ....]
النفي عندهم ليس بكمال، فتقول مثلا فلان ليس بكاتب ولا قارئ ولا ذكي ولا عالم ولا صانع، هذا ما فيه شيء، النفي المحض ليس كمالا، النفي المحض ما يدل على شيء، يدل على ضعف المنفي عنه، إلا في حالة واحدة وهي أنك أردت بالنفي كمال ضد المنفي عنه، فتنفي عنه خصالا تريد بها إثبات ضدها، فمثلا يتكلم واحد عن غلط عالم فيقول: فلان غلط. فيأتي واحد ويقول العلام الفلاني ليس بجاهل. لا يقصد في الحقيقة نفي الجهل عنه لأنه عالم هو يقصد أنه ليس بجاهل بل هو عالم في هذه المسألة وفي غيرها، فكيف تُغَلِّطه؟ ففي صفات الله جل وعلا أن النفي يراد منه إثبات كمال الضد يراد منه المدح.(38/245)
فكل نفي في القرآن أو في السنة متعلق بالله جل وعلا أو بصفاته سبحانه فإنما يراد منه إثبات الصفات، النفي يرجع إلى الإثبات، فقوله سبحانه وتعالى ?اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ?[الإخلاص:2-3] هذا نفي ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4]، المراد من النفي هنا إثبات كمال غناه سبحانه وتعالى وكمال أحديته. كذلك ?لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ?[البقرة:255]، المراد كمال غناه وكمال قيوميته وكمال حياته وقدرته سبحانه وكذلك قوله ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ?[فصلت:46]، لكمال عدله سبحانه، وكذلك قوله هنا ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91]، الآية التي هنا ?مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا?[الجن:3]، كل هذا المراد منه إثبات ضد هذه الصفات؛ لأن هذه في المخلوق اتخاذ الصفة والولد، ليش يتخذ المخلوق الصاحبة والولد؟ لحاجته للصاحبة لتخدمه ويسكن إليها وحاجته للأولاد، لإبقاء اسمه وإبقاء ذكره حتى لا ينقطع، أما الله جل وعلا فهو ذو الغنى الكامل سبحانه وتعالى، لا يحتاج إلى أن يلد ولا أن يولد، ولا أن يتخذ الصاحبة، سبحانه وتعالى من إله عظيم سبحانه وتعالى ربنا وتقدس وتعالى.(38/246)
.. هم لماذا رجعوا إلى النفي؟ لأنهم لا يثبتون الصفات، هم أصلا لا يثبتون الصفات ففروا من الإثبات إلى النفي، فتعرفوا إلى الله جل وعلا بالنفي، لذلك تجد في كتب المتكلمين صفحة كاملة في صفات الله فيها نفي، وما يأتي يثبت، ما يثبت إلا صفة واحدة أو ثلاث صفات أو سبع بحسب مذاهبهم، ولهذا لا يقولون إن النفي نريد بكل نفي إثبات صفات، لو قالوا ذلك ليكون جمعوا جميع المنفيات؛ لكن هم ما يقولون هذا لأنه يأتي للمنفيات المفصلة في النفي، ما ينفون نفيا مجملا ?مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا?[الجن:3]، هذا نفي مجمل مو مفصل، يعني هو مفصل من جهة ولكنه مجمل من جهة الصاحبة والولد، لكن أولئك ماذا يقولون هو ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عَرَض ولا دم ولا أبعاض وليس أعلى ولا أسفل ولا يمين ولا شمال وقدّام ولا خلف وليس وليس في صفحة كاملة أو أكثر يذكرون مثل هذه، يعني كل ما يتعلق بالصفات أو يوهم عندهم شيئا نفوه.
فإذن هم لا يريدون بالنفي إثبات صفة، ولو أرادوا لقلنا يرجع نفيهم إلى نفي مجمل، ويكونون موافقون لأهل السنة ولكنهم لا يقرون بهذا.
([117]) العدل يراد به هنا الثقة، يعني العدل الضابط، ما يطلق العدل ويراد به العدالة بالسلامة من خوارم المروءة دون الضبط، إذا أطلق لفظ العدل في مثل هذا فيراد به الثقة، وإلا فمعلوم أن العدالة وحدها لا تكفي في صحة الإسناد لابد أن ينظم إلى العدالة الضبط؛ لأنهم عرَّفوا الحديث الصحيح أنه ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط عن مثله إلى منتهاه من غير ما شذوذ ولا علة، فقد يستعمل الأولون لفظ العدل ولا يريدون به السلامة من خوارم المروءة أو من البدع فقط، يريدون به العدل الضابط السالم الضابط يعني الثقة، ما عبَّر عنه المتأخرون الثقة، بنقل ثقة عن ثقة.(38/247)
([118]).?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22] يعني وجاء ربك، وحالة الملائكة أنهم صفا صفا، وليس أنه الملائكة يجيئون صفا صفا؛ لأن الملائكة تنزل قبل ويصفون صفوفا، كما قال سبحانه في سورة الفرقان ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا(25)الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ?[الفرقان:25-26]، الملائكة ينزلون في ضلل من الغمام، والله سبحانه وتعالى يجيء يوم القيامة يصف الملائكة صفوفا، بعد ذلك ينزل الرب جل وعلا على عرشه سبحانه.
([119])ذكر أدلة الاستواء المختلفة المعروفة: من القرآن أدلة متنوعة في علو الله جل وعلا واستوائه على عرشه وذلك دليل الفطرة في علو الله جل وعلا.
ومسألة العلو في الاستدلال غير مسألة الاستواء، العلو أوضح، العلو ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع، وأما الاستواء؛ الاستواء على العرش فهو ثابت بالسمع بالكتاب والسنة وليس مما مصيره العقل أوالفطرة، ولكن علو الله جل وعلا هذا واضح لذلك هو أدخل أدلة الاستواء في أدلة العلو، فانتبه لفرق ما بين أدلة هذا وأدلة هذا، ودليل الفطرة راجع إلى العلو مثل ما ذكره الأخير، الذي يدعو يتوجه إلى السماء، يتوجه إلى العلو هذا لأجل الفطرة التي في قلبه، هذا يصلح دليلا للعلو لا للاستواء على العرش؛ لكن الاستواء على العرش هو علو خاص كما هو معلوم.
.. في الصلاة، لا؛ في الصلاة لا يجوز أن يرفع البصر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعا في الاستسقاء رفع يديه حتى وصل بها إلى وجهه عليه الصلاة والسلام حتى رئي بياض إبطه رفع يديه هكذا وعينيه للسماء لا بأس في ذلك، لكن في الصلاة لا، الصلاة فيها خشوع والبصر السنة فيه يكون موضع السجود.(38/248)
.. قال (لَعَلِّي [أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَـ]أَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) أتعرف ليش ذهب يبحث عنه في السماء؟ الكذب يرجع إلى الشيئين وجود إله وكون هذا الإله في السماء، لذلك هو طلب إله في العلو، فالكذب يرجع إلى قوله [انتهى الشريط الثامن].....
.. السنة إذا استسقى الإمام في الجمعة أن يرفع يديه، وأن يرفع الناس أيديهم كما ثبت في البخاري من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى يوم الجمعة فرفع يديه عليه الصلاة والسلام ورفع الناس أيديهم، فالإمام إذا استسقى يوم الجمعة يرفع يديه.
والدعاء السنة فيه أن يرفع يديه إلى صدره هكذا، هذه سنة الدعاء، هكذا إلى صدرك، هكذا كان عليه الصلاة والسلام يدعو، إلا في الاستسقاء فإنه تُرفع، ومن شدة الرفع قال بعضهم إنه جعل ظهور كفيه إلى السماء، بعضهم قال جعل بطن كفيه إلى السماء، من شدة الرفع اشتبهت على بعض الرواة، لهذا قال بعضهم –بعض أهل العلم- يجعل ظهور كفيه إلى السماء يدعو، يعني يدعو هكذا، يجعل ظهور كفيه على السماء؛ لكن هذا ليس بجيد بل هذا؛ دعاء الاستسقاء مثل غيره لكن يشتد الرفع بحيث أنه قد تشتبه.
.. رفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه ورفع الناس أيديهم، هذا في الاستسقاء، خاص به. يرفع يديه إلى وجهه، الدعاء العادي هكذا هذه السنة، الناس اتبعوا العادة في الدعاء المعتاد هكذا، تضعها في وجهك؟ لا، هذا خلاف السنة ملتصقة أو قريبة بعضها من بعض، ليست متفرقة كهيئة المستطعم المسكين، مثل ما جاء في دعاء عرفة يدعو كهيئة المستطعم المسكين...(38/249)
.. هذا مذكور عن مجاهد جاءت فيه بعض الآثار يثبتها أهل السنة في الجملة لأجل إثبات الاستواء لكن ما جاءت به أحاديث مرفوعة، هذا ليس مما فيه الاجتهاد.. .. لا، مثل هذا الحديث مثل هذا الأثر أثر مجاهد في قوله تعالى ?عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا?[الإسراء:79] وأن يجلسه تعالى على عرشه هذا كان الناس يمتحنون به في زمن الفتنة في القرن الثاني والثالث لما حصلت فتنة خلق القرآن وقبل ذلك كان الناس يمتحنون بهذا الأثر أثر مجاهد، ومن لم يكن من أهل السنة نفاه وقال لا أقول به، ومن كان من أهل السنة أثبته؛ لأن المراد ليس هو الإجلاس المراد منه فيه التصريح بالاستواء الذي معناه الجلوس، فأوضح الاستواء أنه بمعنى الجلوس إجلاس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الرب جل وعلا على العرش، وإلا فالإجلاس لم تثبت به السنة، ما نقول ابتداء أنه من عقيدتنا أنه يجلس عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نسكت عن ذلك لا نذكرها؛ لكن قالها مجاهد رحمه الله، وابتلي الناس بذلك لأنها تفسر معنى الاستواء، فمن رد هذا؛ لأن بعض الناس يقول أنا أقر بالاستواء ويعني بالاستواء معنى آخر، فهذا الأثر صار فارقا بين الاسم وغيره، فمن لم يقل به قيل أنه من المبتدعة في الزمن الأول، لهذا من أهل العلم طوّل عليه الكلام مثل الخلاَّل في السنة أربعين صفحة أو خمسين صفحة على هذا، وكذلك الدار قطني والطبراني ومن الآثار التي ينبغي الانتباه لمعناها، وإلا فالقاعدة عندكم أنه لا يتجاوز القرآن والحديث. نقف عند هذا.
([120]) الحشوش جمع حُشْ وهي الحمامات وأماكن قضاء الحاجة.
([121]) هذا الكلام من أبو الحسن الشعري رحمه الله كلام حق يخالف ما عليه أهل البدع من معتزلة والرافضة والخوارج والكلابية والماتريدية والأشاعرة أيضا الذين انتسبوا إلى مذهب الأشعري في مرحلته التي كان فيها على مذهب الكلابية.(38/250)
هذا الكلام واضح وحق وهو أن الاستواء ليس معناه الاستيلاء والقهر؛ وذلك استولى غير استوى، استوى مادة واستولى مادة أخرى، ثم إن الاستواء جاء مخصوصا بالعرش، استوى على العرش، واستوى إلى السماء سبحانه وتعالى، ولما كان مخصوصا الاستواء بأنه على العرش وإلى السماء دلَّ على أن هذين؛ يعني العرش والسماء خُصَّ بالاستواء إلى السماء وعلو عليها مع القصد، واستواء على العرش، وهو علو عليه علوا خاصا، وهذا يدل على أن تعميم الاستواء على الأشياء جميعا هذا غلط على القرآن وتحريف لما أنزل الله جل وعلا، فلفظ (استوى) من حيث اللغة يدل على العلو والارتفاع، وإذا عُدِّي بـ(على) فهو علو وارتفاع على الشيء الذي عُدي عليه بـ(على) كما قال سبحانه ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني علوتم وارتفعتم على الفلك، وقوله سبحانه ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? واستوى في القرآن جاءت على ثلاثة أنحاء:
جاءت معداة بـ(إِلَى) في قوله?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ?[فصلت:11].
وجاءت معداة بـ(عَلَى) (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ)، وفي قوله (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
وجاءت غير معداة بقوله الآيات التي ذكرناها لكم في التفسير ?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى?[القصص:14]، فآتيناه حكما وعلما، وفي قوله ?ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى?[النجم:6] ونحو ذلك، وكلها راجعة إلى معنى العلو.(38/251)
المقصود من ذلك أن من فسر الاستواء بالاستيلاء والقهر والملك وأشباه ذلك، فإن التخصيص عنده ممتنع؛ بل متناقض فيكون استيلاؤه جل وعلا على كل شيء، ويكون استيلاؤه على الأمكنة القذرة وعلى الأمكنة المباركة العظيمة كلها استيلاء واحد، فهو سبحانه الذي قهر الأشياء واستولى عليها من غير مغالب، وملكها سبحانه وتعالى بخلقه لها وهي راجعة إليه وأمرها سائر إليه سبحانه وتعالى، ولكن الاستواء جاء مخصوصا بالاستواء إلى السماء والاستواء على العرش، فدل على أن تعميم ذلك غلط على القرآن ومخالف فيما دلت عليه الآيات والأحاديث في ذلك.
نخلص من هذا إلى أن أقوال المبتدعة في هذا مناقضة لدلالات القرآن والسنة ولدلالة اللغة، وكذلك لدلالة العقل التي تمنع أن يكون الله جل وعلا في كل مكان، فإنّ هذا مما يأباه العقل الصريح؛ إذْ لابد أن يكون الخالق الصانع المدبر متميزا عن مخلوقه، فإذا كان المخلوق حالا في الخالق والخالق حالا في مخلوقه غير متميز عنه، فإن هذا مما تأباه والعقول والفطر السليمة.
لهذا مسألة العلو عند أهل السنة والجماعة راجعة في دليلها إلى الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، دليلها هذه الأشياء الخمسة: كتاب وسنة وإجماع وعقل صريح وفطرة سليمة، فإذا كان الأصل صريح والفطرة سليمة يرد به قول هؤلاء المبتدعة.
فمسألة الاستواء مسألة، ومسألة العلو يعني كثر الكلام فيها والتأليف فيها وفيه مصنفات كثيرة وقد قررناها لكم من جاه مختلفة.
لكن الشاهد في هذا الموضع قول الأشعري في إبطال كون الله حالاًّ في كل مكان هو أن الاستواء يكون استيلاء وقهرا لكل شيء؛ لأن هذا يمنعه تخصيص الاستواء في القرآن بالعرش وبالسماء.
.. [ سؤال: من قال إن الله استولى على الأشياء كلها، هل يقال أن الله مستولٍ على الأشياء كلها؟](38/252)
من غير مغالبة، إذا كان المقصود من غير مغالبة فما فيه إشكال، هو مستول على الأشياء سبحانه وتعالى من غير مغالبة، ولفظ هذا الاشتقاق استفعل واستولى قد تكون من طرفين، وقد تكون من طرف واحد في اللغة أصلا، ولا يلزم من استولى وجود طرفين متنازعين، ولهذا نقول في بيان المعنى نقول استولى من غير مغالبة ولا منازعة، فملك الأشياء وقهرها سبحانه وهي في ملكه مذ خلقها، فاستيلاؤه سبحانه وتعالى على كل شيء؛ يعني أن كل شيء تحت حكمه وقهره وأمره وتدبيره لقيوميته عليه وولايته سبحانه عليه ?أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ?[الرعد:33]، ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255].
جاء الاشتباه من لفظة استولى، استولى هي استفعل من وَلِيَ الشيء، أصلها وَلِيَ فاستولى فيها الألف والسين والتاء هذه من استفعل فأصل المادة هي ولي، فيفهم من استولى أنه طلب الوِلاية؛ يعني طلب ملكها، وطلبها قالوا أنه يكون لأن ثم منازعا فيها، وهذا غير دقيق الكلام هذا؛ لأنه راجع إلى أظن أن كلمة استفعل ترجع إلى طَلَبَ، هذا غير صحيح بل استفعل في اللغة قد تكون للطلب وقد تكون لتحقق الصفة فيها، كما في قوله ?وَاسْتَغْنَى اللَّهُ?[التغابن:6]، (اسْتَغْنَى اللَّهُ) غني فصار الغنى وصفا لازما له سبحانه، ما طلب الغنى مثل استوى واستولى وكل هذه، ما طلب ذلك لكن كانت صفة له سبحانه وتعالى في غاية ما يكون الوصف.
([122]) صفة اليدين لله جل وعلا ثابت بالكتاب والسنة والأدلة عليها كثيرة، فجاء وصف الله جل وعلا باليد وباليدين وبالأيدي.
والمقصود من الجميع أن الله جل وعلا له يدان؛ لأن المثنى في اللغة وعند الأصول نص في دلالته، خلاف المفرد فإنه قد يراد به الجنس، والجمع أيضا قد يراد به المثنى.(38/253)
فالمفرد يطلق ويراد به أكثر من واحد في بعض الأحيان، فدلالة المفرد على فرد بخصوصه ليست نصية بل ولا ظاهرة؛ بل قد يكون المراد في الدلالة على واحد ويكون المراد على اثنين أو ثلاثة أو أكثر بحسب الحال؛ لأنه يراد بالمفرد في مواضع الجنس، وهذا يحكمه السياق.
كذلك الجمع؛ الجمع قد يراد به المثنى، ويعبر بالجمع للإضافة إلى ضمير تثنية أو جمع، وقد يراد منه الجمع: ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فلما جاء وصف الله جل وعلا باليد والأيدي وباليدين علمنا أن النص الصريح راجع إلى اليدين كما قال سبحانه ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) هذا وصف لله فله يدان وليست بثلاثة.
وقوله جل وعلا ?مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا?[يس:71] جمع الأيدي؛ لأن القاعدة العربية أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو جمع فإنه يجمع المثنى لأجل سهولة الكلام، كما في قوله سبحانه ?إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا?[التحريم:4]، (إِنْ تَتُوبَا) يعني المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ولكل واحدة منها قلب واحد، فجمع القلبين على قلوب؛ لأجل أنه أضافه إلى ضمير التثنية.
فرجع الكلام إلى أن ذكر اليدين الثنتين نص فيهما لا يقبل التأويل، النص لا يقبل التأويل بالإجماع، أما الذي يقبل التأويل؟ الظاهر والمجمل وأشباه ذلك؛ لكن النص الصريح هذا لا يقبل التأويل لأنه نص في دلالته، ومن ذلك الأعداد يعني الدلالات النصية عند الأصوليين كثيرة متعددة، تأتي الدلالة النصية في عشرة أنواع منها الأعداد ومنه التثنية.(38/254)
فقوله سبحانه (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) يدل على أنهما اثنتان، كذلك قوله جل وعلا لعدوه إبليس ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، هذا دال على أنه من الله جل وعلا خلق آدم بيديه الثنتين، فما جاء في الحديث إن الله خلق آدم بيده المقصود منه الجنس يعني بيديه.
ومن أول اليدين أنه المراد منهما القدرة إنما هو قول طائفة من المبتدعة وأهل الكلام، أو أولوا اليدين أن المراد بهما النعمة، فنقول: هذا غلط وهذا غلط.
فأولا اليد في اللغة إذا أضيفت إلى المتكلم فإنها لا تأتي بمعنى القدرة ولا بمعنى النعمة وإنما يُراد بها الصفة.
والثاني أن قوله ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، لما فسروها بالقدرة أو فسروها بالنعمة بطل إذ قدرة الله جل وعلا ليست قدرتين؛ بل إنما أنها هي قدرة عظيمة واحدة تدخل فيها جميع أنواع القُدَر، أو هي قُدَر كثيرة كثيرة جدا، كون آدم خلق بقدرتين هذا باطل وخُلْفٌ من القول وكلام لا معنى له، وكذلك نقول خُلق بنعمتين فآدم خلقه الله جل وعلا بنعم كثيرة عليه، فكل ما في آدم من خلقه منة من الله جل وعلا عليه.
وهذا التأويل يؤولون به ترويجا على الجهال في آية صورة ص ? مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، ولكنهم [يَشْرقون] إذا جاءت الآية ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64]، هذه لا تحتمل قدرتين ولا تحتمل نعمتين.
الوجه الثالث فيما قرره الأشعري هنا أن اليد ربما أتت في لغة العرب بمعنى النعمة لكن تأتي بمعنى النعمة بشرطين:
الأول: أن تكون نكرة وليست بمعرفة.
والثاني: أن تقطع عن الإضافة.
فلا تقول العرب هذه اليد لفلان عليّ؛ يعني هذه النعمة، وإنما تقول هذه أو لفلان عليّ يدٌ، هذه التي تقولها العرب فتعبِّر بالنكرة.(38/255)
والثاني أنها تقطعها من الإضافة وتنون، ولا تقول العرب: يد فلان عليّ، يد محمد عليّ، تريد به نعمة محمد، لا، إذا أرادت النعمة قطعت فقالت: لمحمد عليَّ يدٌ، يعني نعمة أو لمحمد عليَّ إصبعٌ، أيضا، إذا كانت نعمة قليلة إذا كانت نعمة كبيرة قالوا لفلان يدٌ فيقطعونها عن الإضافة ويُنَكِّرون. هذا جاء.
وهذا من قبيل المقاربة؛ لأن اليد هي وسيلة الإعطاء؛ إعطاء النعمة وإيصال النعمة إلى المنعم عليه باليد، فقالوا لفلان عليَّ يدٌ؛ لأن الأصل في اليد المعروفة هي اليد المعروفة لفلان عليُّ يد وعنوا بها النعمة؛ لأنَّ النعمة لا تصل إلا باليد يد المرسل أو يد من أنابه، فإكراما له قالوا عن نعمته: إن له عليهم يد، إكراما ليده وإعلاء لها، هذا سائغ في اللغة.
أما التعبير بأن يد فلان علي أو يداه علي فهذا لاشك أنه غلط على العربية وعلى لسان العرب.
فتحصَّل من هذا أن لله جل وعلا يدين سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته لا تماثل يد المخلوق، وإنما هي يد عظيمة تليق به جل وعلا، وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى.
وأما تفسير من فسر اليد بالنعمة أو بالقدرة هذا من تفاسير المبتدعة الضلال وأهل الكلام ومن شايعهم.
([123]) البَاقِلاَني بالتخفيف، نسبة إلى بيع البَاقِلاَء، بالتخفيف، وإذا شددت تقول: البَاقِلِّي. فالباقلاني هي بالتخفيف لا بالتشديد.
([124]) هذا الكلام واضح سبق تقريره في إثبات صفة الوجه لله جل جلاله وإثبات صفة اليدين.(38/256)
وذكر هنا قاعدة مرّ تقريرها: وهي أن إثبات الصفات لله جل وعلا -إثبات الوجه واليدين والقدم وسائر صفات الحق سبحانه- إثبات للصفة، لا من جهة كونها جارحة؛ يعني لا من جهة كونها عضو كالأعضاء التي معنا؛ لأننا لا نعقل في الإنسان؛ في مخلوق إلا هذا، فنثبت لله جل وعلا ما عَقَلْناه فقط، لا شك أن هذا باطل فإن إثبات الصفة لله إنما هو من جهة الإثبات أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أثبتها، وليس عَقْلُنا أن الصفة هذه لا ترد أو لا نعقلها في المخلوقات فيما رأينا إلا جارحة أن نثبت لله صفة من حيث كونها جارحة.
بل نقول نثبت لله صفة من حيث هي والله أعلم كيف يتصف بصفاته، فنحن نصدق القرآن والحديث ولا نتجاوز القرآن والحديث، ولا ندخل في ذلك بآرائنا، نحن لا نعقل في الحياة الدنيا إلا أشياء، نعقل أشياء من الوصف؛ لكن لا يعني ذلك أن كل الاحتمالات والأنحاء هي فيما رأينا، بل الله جل وعلا أظهر لنا بعض خلقه، فرأينا بعضه، وبعض خلقه لم نره فكيف بذاته سبحانه وتعالى.
فإذن لا يجوز أن نقيس عالم الغيب على عالم الشهادة؛ بل عالم الغيب مستقل بنفسه في مخلوقات الله في الجنة والنار والملائكة، فكما أنه لا يقاس فما في الجنة على ما في الدنيا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من الجنة في دنياكم إلا الأسماء. في الجنة أنهار وفي الدنيا أنهار وليست الأنهار كالأنهار، وفي الجنة شجر وطير وأكل ونساء وليس كطير وأكل وشرب الدنيا، فكيف، هذه صفات مخلوقات الله، الملائكة لها أجنحة مثنى وثلاث ورباع فهل هي مثل أجنحة الطير، وأنواع ذلك، ليس الأمر كذلك، فكيف إذن -إذا كان في الصفات الغيبية في المخلوقات لا تشارك فيما نراه بحقيقة الاتصاف- فكيف بصفات الحق جل جلاله وتقدست أسماؤه؟(38/257)
فإذن إثباتنا للصفات يعني إثبات لها من حيث الوجود، أما الكيفية فالله أعلم بها، والإنسان لا يبني على ما رآه على أنَّ كل شيء محتمل، لا، هناك أشياء أخرى محتملة لا نعلمها، من حيث الاحتمال من حيث هو، وكذلك من وجود أنواع المخلوقات التي نراها، فدلَّ ذلك على أن الله جل وعلا لا يجوز أن يقاس اتصافه باتصاف خلقه فيما أخبر به عن نفسه أو أخير به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الذي قرره الباقلاني رحمه الله. نعم
([125]) هذا التمثيل الذي مثله الباقلاني؛ ذكر عددا من الصفات واختياره لها موفق، وذكر الصفات التي يثبتها الأشاعرة الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة، وذكر الصفات التي يؤولونها وينكرونها الصفات الذاتية والصفات الاختيارية، وذكر بعد ذلك الوجه وذكر العينين واليدين وذكر الغضب والرضا، الوجه والعينان واليدان صفات ذاتية والغضب والرضا صفات اختيارية فعلية، فجمع بين ما يقرره الأشاعرة وما يقرره أهل السنة في صفات الذات وفي صفات الأفعال.
وفي هذا الذي ذكر رد على كل الطوائف، على المعتزلة والجهمية والأشاعرة والكلابية والماتريدية بهذه الصفات التي ذكر، فكان تمثيلا موفقا.
([126])هذا وصف لأهل البدع جميعا، فإنهم يتعصبون للأشخاص وينتصرون لهم، ولا ينتصرون لدلالات الوحي من الكتاب والسنة، هذا وصف كل أهل الأهواء على هذا النحو، إذا قالت الرجال قدموها والنصوص عندهم فيها نظر.
ولهذا شيخ الإسلام أطال من النقول في هذا الكتاب عن العلماء السابقين في تقرير الصفات والعقيدة الصحيحة ليكون في ذلك أبلغ تأثير والرد على المخالفين.(38/258)
ولاشك أن هذه الصفة من صفة أهل الأهواء، فإن أهل الأهواء دائما إنما يتعلقون بمعظميهم، وإذا أتاهم معظمهم بشيء من الكلام قبلوه، فربما جادلوا في دلالة الكتاب والسنة، ثم إذا قلت قاله فلان من معظميهم، قال قاله؟ فيقبله؛ لأن إمامه أو لأن متبوعه أو كبيره قالها، وهذا من علامات سوء النظر، ومن علامات عدم التوفيق الخذلان.
نعم يحتاج إلى قول الأئمة إذا كانت دلالة الدليل محتملة، فنأخذ، نحتاج إلى كلام العالم والإمام لتبيين المعنى؛ لكن إذا كان المعنى واضحا إذا كان المعنى نصا يشترك الجميع في فهمه كذكر صفات الله جل وعلا وذكر العقيدة الصحيحة، فإن هذا مما لا يتنازع الناس في فهمه؛ بل هذا واضح لكثرة الأدلة الدالة عليه، فهي دلالة نصية لا تحتمل تأويلا ولا تحتمل أوجها، فإنما دلالتها على ما دلت عليه نصية قاطعة.
وهذه ينبغي أن يحذر منها كل صاحب اتِّباع، أن يحذر من أن يرد الحق لقول أحد، أن يحذر من أن يترك دلالة الوحي لقول أحد؛ بل يجب عليه أن يجعل كلام الناس تبعا لكلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إذا كانت الدلالة ظاهرة أو نصا فإنه لا يلتفت بعدها إلى قول أحد، وإذا كنت محتملة فيها فهم تعارض في الآيات محكم ومتشابه أو عام وخاص أو مطلق ومقيد واشتبه عليه الأمر، فيرجع في فهم ذلك ولا شك إلى أهل العلم فيكون قول العالم مريحا له، بأن فهمه صواب أو أن فهمه غير صحيح.(38/259)
فأهل السنة لا يعظمون أئمتهم ويغلون فيهم بحيث يجعلون كلامهم حكما على النصوص، ولا يجفون بحيث يجتهدون في الفهم دون مرجع ومرجعية يرجعون إليها في فهم الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح والطريقة والقواعد المقررة في الملة؛ بل يكونون على وسط في ذلك؛ فهم يعظمون أهل العلم ويحبونهم وتولونهم ويدافعون عنهم وينصرونهم، ويعلمون أن أهل العلم إنما هم فضلهم الله جل وعلا بفهم الكتاب والسنة فهم الوحي، فإذن هم وسطاء وأدلاء في فهم دلالة النصوص؛ يشرحون للناس معنى ما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يشرحون للناس ما فهموه من الشريعة ما فهموه من الوحي، وأما أن يكون العالم مستقلا بفهم أو تشريع أو تقعيد أو نحو ذلك فهذا لا يقبل منه، وهذا لاشك أنه بلاء كبير، فنحن لا نغلوا ولا نجفوا ونترك أقوال أهل العلم ونقول نستقل بفهم النصوص ونترك العلماء، ولا نقول نأخذ بكلامهم حرفيا في كل ما قالوه من العلماء المتقدمين والمتأخرين؛ بل نأخذ بكلامهم في دلالتنا لفهم النصوص لفهم الوحي؛ لأنا متعبدون باتباع الوحي والعلماء من أراد جعلهم الله أدلاء لفهم الوحي وكفى بها منزلة، والمعطوف على المرفوع مرفوع.
.. اليد هل هي يمين أو شمال؟ هذا ليس خلافا في العقيدة، العقيدة أن لله جل وعلا يدين هذا بالاتفاق؛ لكن النصوص تعارضت، ففي الحديث الذي في النصوص قال «إن المقسطين على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» إلى آخر الحديث، فهذا يدل على أن لله جل وعلا يدين، وعلى أنَّ يديه سبحانه يمين، وجاء في مسلم أيضا أنَّ الله جل وعلا يأخذ بشماله القسط يخفضه ويرفعه قال.
المقصود فيها ذكر الشمال الذي رواه مسلم في الصحيح ومن أهل العلم من ضعفها وفي الواقع تفرد بها أحد الضعفاء راح من بالي لفظ الحديث ....[انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع](38/260)
...ومن قال فيه إثبات الشمال لله جل وعلا قال: قوله (كلتا يديه يمين) في الخير، (كلتا يديه يمين) في الوصف؛ لأن المخلوق تعارف على أنه اليمنى أشرف من اليسرى، اليمنى يأكل بها الشريف من الأشياء، واليسرى أو الشمال للأشياء المستكرهة، فاليمنى مشرَّفة.
فقال (كلتا يديه يمين) يعني أن يدي الرحمان جل وعلا كلا منهما فيها الخير والوصف الكامل وأنه لا يعترى أحد يديه نقص؛ بل كلها في الوصف واحدة بل كلها في الكمال واحدة، فليست إحداهما أكمل من الأخرى.
فهذا الخلاف ليس خلافا في العقيدة هذا خلاف في فهم الأدلة، هذا الدليل أصح دلالته أو هذا دلالته أصح؛ لكن العقيدة كلتا يدي الرحمان جل وعلا يمين.
والصحيح عندي أنه لا يقال إن لله جل وعلا شمالا لأن الحديث الذي فيه الشمال إسناده ضعيف، مع أنه أثبتها بعض الأئمة كإمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر كتاب التوحيد، وذكر في المسائل قوله إثبات اليدين لله جل وعلا، وبعد هذا قال التصريح بالأخرى أنها الشمال، وهذا معروف، وإليه يميل بعض مشايخنا الموجودين الآن حفظ الله الجميع ورحم الأموات.
المقصود هذه مسألة راجع إلى النصوص ليست خلافا في الاعتقاد، ولذلك حتى لما ذكر حتى الأولون هذه المسألة لم يذكروها خلافا. نكتفي بهذا
([127]) الرسالة النظامية مطبوعة باسم العقيدة النِّظامية، وصنفها لوزير نظام الملك، سميت نظامية نسبة إلى من صنفت لنظام الملك، أو للمدرسة النظامية أيضا التي نسبت أيضا للوزير نفسه الذي هو نظام الملك.
([128]) نقل فيما سمعتم نقلا عن العقيدة النظامية للجويني، وهو آخر النقول التي يريد منها شيخ الإسلام رحمه الله تقرير تتابع العلماء على نفي التأويل وعلى الإثبات.
والعقيدة النظامية على طريقة الأشاعرة، والأشاعرة في آيات الصفات والغيبيات على فرقتين: منهم من يؤول، ومنهم من يفوِّض المعنى. والمؤولة من الأشاعرة، والمفوضة أيضا من الأشاعرة.(38/261)
وفي هذا الكتاب أو في هذه العقيدة النظامية أو الرسالة النظامية جرى فيها على التفويض؛ تفويض المعنى، ويَظن أن هذا هو مذهب السلف.
وهذا كثير في المتكلمين الذين تابوا وتركوا طريقة أهل البدع والكلام إلى ما يظنونه طريقة أهل الحديث والسنة، يظنون أن طريقة السلف هي تفويض المعاني وترك التعرض لها، وأننا نثبت استواء لا نعلم معناه، ونؤمن باستواء لا نعلم معناه، ونزول لا نعلم معناه وهكذا في نظائرها، ويدان لا نعلم معناها، وهذا لاشك أنه شرٌّ من التأويل، التفويض شر من التأويل، لأن:
المؤول قال إن هذه الكلمات نزلت بلسان عربي ونفهمها باللسان العربي واللسان العربي أدى إلى هذا التأويل، فيكون غلِط من جهة أنه حمل اللسان العربي ما لم يحتمله، وأوَّل مع عدم ورود التأويل لغة أو جوازه شرعا.
وأما المفوض -مفوض المعنى- فإنه يزعم أن هذه الصفات الكثيرة جدا في القرآن والسنة أنه لا يعلم معناها، لها ألفاظ لا يعلم معناها، فهم داخلون في فرقة أهل التجهيل الذين يقولون نجهل المعاني، فعندهم أكثر القرآن مجهول المعنى، هذا فيه إبطال بما يلزم وإن لم يلتزموه، إبطال للاحتجاج بالقرآن ولكونه قائما على وصف الرب جل وعلا ووصف ما يستحقه سبحانه وذكر الغيبيات والجهة والنار وذكر الملائكة والأنبياء إلى آخره.
فإذن العقيدة النظامية هذه هذا على حالها، ولذلك طبعها وتحمس لها أول ما طُبعت الكوثري لاشتمالها على ما يُظن أنه مذهب السلف؛ ولكنه هو في الواقع مذهب أهل البدع قد قال قائلهم في جوهرته:
وكل نص أوهم التشبيه أوِّله أو فوِّض ورُم تنزيها
التأويل والتفويض كلاهما من مذاهب المبتدعة، من مذاهب المتكلمة، من مذاهب الأشاعرة وأشباههم.(38/262)
فتفويض المعنى ضد مذهب السلف، مذهب السلف يجرون الظواهر ويؤمنون بها على مواردها مثل ما قال؛ لكن لا يفوضون المعنى، الإيمان بها على مواردها يعني على ما وردت في اللغة، وهذا صحيح، ومعلوم أن ما يستحق الرب جل وعلا من الصفة التي وردت في الكتاب والسنة على كمالها وشمولها مع عدم مماثلته سبحانه لخلقه في اتصاف الصفة كيفية وتمام صفة وكمال معنى، فله من الصفات ما يستحقه سبحانه، وللناس للمخلوق ما يناسب ذاتهم الوضيعة.
لما فرغ شيخ الإسلام من هذا الأصل الهام، وهو كثرة إيراد النقول عن العلماء للتدليل على إبطال التأويل وعلى الإثبات، وأن القول في أمور الصفات وأمور العقيدة راجع إلى الأخذ من الكتاب والسنة وعدم التعرض لها بتأويل، وأن موردها مورد واحد لا يتعدد، وأن العقل ما هو أعلى بالفهم، وليس مصدرا لإبداء الحق، وإنما الحق في القرآن والسنة دون غيره، النقول التي من أول قرأنا إلى الآن علق عليها بعد ذلك، وختم هذه الرسالة بتأصيل المنهج العام للسلف في الاعتقاد بما نسمعه إن شاء الله.
([129]) وهذا منهج عام لإقامة الحجة وإيضاح المحجة في أبواب الدين كله، وهو أنه لا يلزم من نقل الناقل عن كتاب أنه يزكيه مطلقا، وقد ينقل عنه ما وافق فيه الحق تأييدا للحق وإن كان خالف الحق في غير ذلك، فلا يُعاب على من نقل من كتاب اشتمل على حق وباطل، إذا نقل ما اشتمل عليه من الحق.
وأيضا تكثير النقول عن الناس على اختلاف مذاهبهم هذا يفيد في أن الحق ليس غامضا؛ بل هو كثير، شائع، بيِّن.
وأيضا لا يلزم من اختلاف الناقل مع المنقول عنه أن يترك الاستفادة مما قاله.(38/263)
لهذا ينقل علماؤنا عن بعض المتكلمين، وعن بعض المفسرين الذين عليهم ملاحظات، كـ: ما ينقلون عن أبي السعود مثلا، وعن الرازي وعن القرطبي، وأشباه هؤلاء، الذين عليهم ما عليهم من ملاحظات في العقيدة؛ لكن ينقلون ما أصابوا فيه، فإذا أصاب القائل فإنه يُنقل عنه إذا احتيج إلى ذلك في تقرير الحق في مسألة ما، كما فعل شيخ الإسلام ها هنا.
فيقبل الحق ممن جاء به ولو كان كافرا.
كما قُبِل الحق من الشيطان في قصة أبي هريرة مع الشيطان في صدقة الفطر المعروفة، حيث جاء يأخذ فمسكه أبو هريرة، ثم جاء يأخذ فمسكه، ثم جاء يأخذ فمسك، ثم قال له: ألا أدلك على كلمة إذا قلتها كنت في أمان، أو عصمتك ليلتك كلها؟ إقرأ آية الكرسي كل ليلة فإنه لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح. فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام «صدقك وهو كذوب» سَلِم بهذا التعليم، وأخذ به مع أنه من الشيطان.
كذلك النبي عليه الصلاة والسلام أقر إفادة اليهود والنصارى لنا بما فيه تنزيه رب العالمين وعدم التشريك به في قول من قال ما شاء الله وشاء محمد، فقال عليه الصلاة والسلام «قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد»؛ لأن اليهود قالوا: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تنددون.
كذلك قالت طائفة من النصارى: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تنددون. تنددون يعني بقول ما شاء الله وشاء محمد، فأخذنا هذا منهم مع أنهم ليسوا بأهل توحيد، هم أهل شرك وهم أهل التنديد الأعظم بالله؛ لكن ينطق الله بعض عباده بالحق وإن كان على الباطل في بعض أموره.
لهذا ذكر الأئمة -أئمة الدعوة رحمهم الله- وخاصة الشيخ محمد رحمه الله في مسائل كتاب التوحيد: أنّ صاحب الهوى يكون له فهم فيؤخذ من فهمه، فلهم ذكاء فيؤخذ من ذكائهم ما أصابوا فيه.
وهذه قاعدة عامة في طريقة الأئمة.(38/264)
فإذن فهذه النقول الكبيرة من مخالفين في العقيدة، ومن متكلمين، ومن أشاعرة فيما نقل شيخ الإسلام في هذه العقيدة الحموية تدلُّ على أن النقل لإقامة الحجة وللتكثير والإفادة منه عن من عليه نزعة اعتقاد باطل أنه لا بأس به إذا كانت الحاجة للنقل عنه قائمةً: إما في إقامة الحجة أو في تكثير من قال بهذا القول أو لغرض شرعي صحيح.
.. كلامي واضح؟، لا تبني على شيء في ذهنك، خذ الكلام مستقلا.
.. مرَّ معنا من هذا كثير، فيه إطلاقات!! هو لا يريد أن كل ما نقل صواب، هو مجمل ما نقل هو الرجوع إلى مذهب السلف، هذا بالاتفاق لكن فهمه هو لمنهج السلف هو الذي أخطأ فيه؛ لكن الاتفاق من كل من نقل عنهم شيخ الإسلام أن الرجوع إلى مذهب السلف هو الحق وهو الذي يجب، وعدم الخوض فيما لم يخض به السلف، هذه القاعدة الكلية للأمور الغيبية، أما فهمه هو لمذهب السلف، فهذا غلط منه لا يعود على القاعدة بالإبطال؛ مثل من يقول قاعدة حق ثم إذا جاء لتفسيرها أخطأ، هذا القاعدة تكون مقبولة وتفسيره يُرد، هذا مر معنا كثير، تعقبنا ما أورده أو ما نقل شيخ الإسلام في مواضع كثيرة أخطؤوا، فيه أغلاط في العقيدة وأغلاط في... نعم
([130]) فالظاهر أنه كتب رحمه الله تعالى كتب كتبا في ذلك، فمن أعظمها وأجلها قدرا في هذه المسائل كتاب درء تعارض العقل والنقل، أو كتاب العقل والنقل الذي قال فيه ابن القيم رحمه الله لما عدد كتب شيخ الإسلام، قال:
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له مثيل ثاني
يعني في وجود في زمان شيخ الإسلام من الكتب المؤلفة
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له مثيل ثاني
فرد فيه على أهل البدع على اختلاف أقوالهم على الفلاسفة وعلى الباطنية يعني في أصول مذهبهم وعلى المبتدعة وعلى نفاة الصفات وأمثال هؤلاء.(38/265)
كذلك كتاب الرد على الرازي في كتاب تأسيس التقديس؛ فإنه أيضا من الكتب العظيمة جدا في هذا الباب، فهو وكتاب درء تعارض العقل والنقل أعظم ما ألف في أبواب الصفات والغيبيات والعقائد بجملتها.
([131]) هذا شروع من شيخ الإسلام في رد الشبه على مذهب السلف.
فإن من الشبه التي وردت على مذهب السلف أن طريقة السلف في ذلك تؤول إلى التناقض، تؤول إلى أن بعضها ينقض بعضا ويخالف بعضا، وأن إثبات الظواهر لا يستقيم مع العقل، فبعضها يخالف بعضا من أساسه.
مثل الاستواء والمعية؛ فإذا قلنا الاستواء على عرشه، ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ?[الحديد:4]، فهذا وهذا مخالف، وإن الله قبل وجهك، ?فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?[البقرة:115]، وأشباه ذلك. فيقولون هذا تناقض لو أثبتنا الاستواء لتناقضنا مع الآيات الأخرى، فعندهم أن الإثبات والإيمان بالظاهر يؤول على التناقض، وهذه من أعظم ما أُدْلِي به على مذهب السلف، وردها في هذه الرسالة وفي غيرها.
([132])هذا ظاهر الخطاب وحقيقته في هذا الموضع، أنها معية علم ليست معية ذات، نعم، وهو سبحانه مع خلقه جميعا بعلمه وإحاطته وإطلاعه وقدرته إلى غير ذلك من مقتضيات المعية العامة.
وكذلك هو مع المؤمنين والمحسنين والمتقين وأهل البر والإحسان، ومع أهل الصلاح، ومع أهل الإيمان بعامة بحسب مراتبهم في ذلك، للتوفيق والتأييد وما تقتضيه المعية الخاصة.(38/266)
ويدل على تأصيل المسألة بما ذكره شيخ الإسلام عليه رحمه الله أنَّ كلمة (مع) إنما تقتضي المقارنة المطلقة، ولو كان ثم بعد في الذوات، فالله سبحانه قال لعباده المؤمنين ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة:119]، (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يعني في صفاتهم، أخلاقهم؛ الصدق في الإيمان، الصدق في الإخلاص، الصدق في العبادة، الصدق في السلوك، الصدق في امتثال الشرع، كونوا معهم؛ يعني مقارنين لهم في تلك الصفات، وإن لم يكونوا معهم بذواتهم، فإن كان معتزلا على رأس جبل فكن مع الصادقين.
وهذا يدل على أن المعية لا تقتضي مقارنة الذات للذات، لا تقتضي اختلاط الذات بالذات، وإنما تقتضي المقارنة.
ويقال أيضا فلان معه زوجه، وفلانة معها زوجها إذا كان عقد الزوجية باقيا، وإن كانت هي في بلد وهو في بلد؛ لأن المراد ما تقتضيه المعية من المقارنة في كل مقام بحسبه.
وهذا التفصيل العام لا بد أن تلحظه في كل مسائل الصفات، والمسائل الغيبية في الرجوع إلى المعنى اللغوي العام، والمعاني اللغوية العامة قد يمكن تفسيرها، وأحيانا لا يمكن لكل أحد أن يفسرها؛ لأن المعنى العام الكلي ليس له وجود في الخارج، إنما يوجد كليا في الأذهان، وفي الخارج يوجد مخصصا مضافا؛ يعني في الواقع يوجد مخصصا مضافا.
وإذا كان كذلك فتفسيره يغلب على ذهن الأكثرين حتى من أهل اللغة أن يفسره بما في الخارج لغرض التقريب؛ ولكن المعنى الكلي الذي يصدق على ما تراه وما لا تراه، هذا قد لا يوفق إليه كل أحد، ولهذا إذا جاء بعض الناس فتكلم في معنى الرحمة أو في معنى النزول أو في معنى الغضب أو في معنى الرضا أو في معنى الأسف أو في ما أشبه ذلك، ربما فسرها بما يراه في الخارج، فيغلبه الحس الذي يراه؛ ما يحسه وما اكتسبه من معارف على الأمر الكلي النظري الذي لا يوجد إلا في الذهن.(38/267)
ومعلوم أن الله جل وعلا في اتصافه بالصفات وما أثبت لنفسه في كتابه أو في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام فإنه له أكمل المعنى سبحانه، أكمل المعنى للصفة، وأشمل المعنى وأعظمه وأنزهه، وهذا ما لا يمكن كل أحد أن يعبر عنه لغلبة النظر إلى الخارج خارج الذهن في التعبير عن المعاني.
هذا تنتبه له كثيرا لأن بعضهم يأتي إلى أفراد أهل السنة ممن ليسوا بمحققين أو ليسوا بمتمكنين بالعلم، فإذا اراد أن يثبت الصفة قال بيِّن لي معنى الغضب، بيِّن لي معنى الرضا، بيّن لي معنى المعية، فإذا أخذ في البيان ربما عجز لأنه لا يعرف القواعد الكلية للغة في تفسير الألفاظ، ولا المعنى الكلي المجرد عن الإضافة والتخصيص.
وهذا مما ينبغي التنبه له، وهذا مثال أورده شيخ الإسلام على ما يدخل ضمن هذه القاعدة في كلمة (مع)، فإن (مع) لا تقتضي في اللغة إلا اقترانا، وقد يكون اقتران ذات بذات، وقد يكون اقتران ذات بصفات، واقتران الذات بالذات قد يكون مع قربها، وقد يكون مع بعدها، وقد يكون مع اتصالها، وقد يكون مع انفصالها؛ لأنه هو الاقتران المطلق، مطلق الاقتران، مثل ما تقول سرت والقمر معنا والنجوم معنا إلى آخره، مع ديمومة ما بينك وبينه.
إذن فالرجوع إلى المعنى الكلي بشرط كونه كليا، هذا من أعظم الحجج في رد التأويل؛ لأن الخارج خصص وأضاف، والمعنى الكلي يضاف على الله جل وعلا بما تستحقه ذاته على قاعدة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
وعلى العموم هذه المسائل لها إن شاء الله بسط آخر في موضعه، وتحتاج إلى بصر عميق في اللغة في دلالاتها دلالات الأفراد والمعاني الكلية ودلالة الوضع وأشباه هذه العلوم.(38/268)
.. أنا ما أعلم كتابا من كتب اللغة تكلم على الكليات بشرط كونها كليات، ما فيه؛ لأنهم يريدون أهل اللغة إيضاح المعاني التي يستعملها الناس، والناس إنما يستعملون كلامهم، ويستعملون في أشعارهم وخطبهم، وجاء أيضا في كلام العرب الأولين وفي كلام الناس المتأخرين جاء في كلامهم ما هو في الخارج، ما هو واقع أمامهم؛ يعني المعاني المضافة المخصصة، فلذلك يأتي التفسير للمعاني المضافة المخصصة؛ لكن الفقيه في اللغة قد يأخذ من أصل الاشتقاق معنى كلي.
والكتب المؤلفة في هذا الباب في اللغة بعضها يصيب في المعنى العام، وبعضها يغلب عليه التخصيص مثل ما ذكرت لك لأجل الإفادة، لأن المعنى العام نظري، فتحديده لا حاجة إليه، والإيمان بصفات الله جل وعلا إيمان لما اشتملت عليه من المعنى الذي تعرف مطلقه، أما المعنى المطلق الكامل فهذا كلي، البيان له يحتاج إلى علوم كثيرة.
.. نحن الآن رجعنا للخارج؛ لكن المعنى الكلي يمكن أن يُفسر، لكن يصعب على الأكثرين أن يفسروه، أما تفسيره هو كلمة [...] لابد لها معنى –واضح؟- لابد أن يكون لها معنى عام.
.. المضادة ما هي تفسير، المضادة ليست بتفسير.(38/269)
يزيد الإشكال في المعاني الكلية إذا كان بحثا عن الصفات النفسية في الإنسان، إذا كان -ليست الصفات الظاهرة- يعني التي يُرى أثرها مثل ما ذكرت ولا ترى فيها؛ يعني مثل اليد الأصابع مثل النزول، مثل الاستواء، مثل الهرولة إلى آخره، مثل السمع والبصر هذه كلها، القدرة الكلام هذه كلها يمكن تفسيرها بوضوح؛ لكن قد لا يمكن كل أحد تفسيرها بالمعنى الكلي؛ لكن المعاني القلبية في الإنسان، المعاني النفسية في الإنسان، إخراج معنى كلي يشمل المعنى بشرط كونه كليا مطلقا هذا صعب على الأفراد، لكن ما يقال ما لها تفسير لها معنى، الغضب، تكون أنت من نفسك تعرف الغضب وتعرف أنك غضبت، ثم تظهر آثار الغضب، فهذا الغضب الذي تعرفه من نفسك قبل ظهور آثاره هو أصله الذي يناسب المخلوق، ولله جل وعلا كمال ذلك بغير مماثلة للمخلوق، وهذا تفسير بالواقع؛ يعني إرجاعه لما يعرفه من نفسه، أما بالتفسير اللفظي الغضب والرضا وإلى آخره، الذين فسروه، فسروه بأشياء ترجع إلى الخارج، والخارج كما هو معلوم بما رأوا، والله جل وعلا لم يروه ولم يعرفوا كيف يتصف بصفاته، لذلك لم يفسروا هذه الألفاظ نعني علماء اللغة.
الآن يذكر شيخ الإسلام تفصيل لهذا.
([133])هذا إرجاع كلمة الربوبية إلى التربية.
وهذا أحد وجهي التفسير لها أن الرب هو الذي ربَّى الخلق بنعمه.
والتفسير الثاني المشهور أن الرب هو السيد المطاع، فالرب هو المالك هو السيد المطاع.(38/270)
.. دائما في الإنسان تكثر، حتى في أمورك العادية، من ليس دقيقا يرى حالة فيعممها وهذه كثيرة، قد يكون التعميم مع سلامة قصد، وقد يكون تجني يرى حالة حالتين يقول هذا كذا أو باين كذا أو أكيد كذا وأنه رأى مرة أو مرتين، مع أن النظر المطلق النظر الكامل يقتضي احتمالات أكثر من هذا، فلا يسوغ تعميم شيء برؤية بعض أفراده حتى يكون الاستقراء تاما أو أغلبيا؛ لأن الاستقراء حجة إذا كان تاما أو أغلبيا؛ لأنه ما من قاعدة إلا ولها شواذ يعني واحدة ثنتين ثلاث تخرج عنها. فإذا كان ثَم استقراء تام أو أغلبي يمكنك أن تقول: هذا كذا أو هذا داخل في كذا إلى آخره، أما إذا كانت واحدة أو ثنتين أو جاء إلى الذهن أو غلب على الظن حالة معينة، ويريد أن يؤول المعنى لها أو يحوِّل الوجهة لها، فهذا ولا شك أنه تجني، وهذا من التجني العلمي، وهذا يؤدي إلى اختلاط العلم بالجهل، كثير من الأخطاء التي أخطأ فيها الناس من أحكام وفي الرقى وفي أحوالهم جاءت من هذا القبيل، يتبادر إلى الذهن حالة معينة أو احتمال، فيعمم هذا الاحتمال يجعله واحدا، يجعله أكيدا، يجعله قطعيا، ثم تنتهي إليه.(38/271)
وإنما العاقل ينظر إلى احتمالات كبيرة، ولهذا يأتي نظر المتبصر في كل فن بفنه، المتبصر باللغة يكون نظره واسعا عن من لم يكن متبصرا باللغة، الفقيه يكون نظره أوسع من المتفقه الذي عرف مسألة مسألتين عشرة مائة، يظن أنها هكذا؛ لكن ذاك يأتي في مسألة تصير واسعة عنده يعني واسعة النظر، فيقارن بين هذه وهذه يجمع بين هذه وهذه، ويفرق، يأخذ بالقواعد إلى آخره؛ يعني أن صاحب الاختصاص يتسع أفقه في النظر إلى الشيء، في النظر إلى مسألة، بحيث إنه عند غيره لا يخطر له على بال أن تكون المسألة بهذه السعة كلها، ولهذا طالب العلم على العموم يكون دقيقا في تعبيره عن العلم، هذه دائما أوصيكم بها أن تكون في تعبيرك عن العلم دقيقا، وأن لا تعبر عن العلم بما تحسه من نفسك، حتى تكون عندك عليه حجة، ودائما تنظر إلى المطلقات العامة حتى يسع كلامك الزمان الذي أنت فيه والزمان الذي يأتي، لا تخصص شيئا بغير تخصيص جازم له، تقول هذا هو كذا، لا في المكتشفات ولا في الأمور العادية، يكون المرء أوسع، فلا يتكلم بشيء إلا بحجة واضحة، لا يقيد حتى يأتيه حجة في التقييد؛ لأن المؤمن بل لأنّ طالب العلم أو العالم ربما أُخذ كلامه على أنه حجة للشريعة أو على الشريعة، فقد يقال: هذا شوف كلامه. مثل ما قيل في أزمنة مضت بعيدة وقريبة في أشياء كثيرة.
فطالب العلم دائما ينظر إلى الأمور المطلقة من حيث هي، سواء في الصفات التي يعرفها أو في الصفات التي لا يعرفها، ينظر لها مطلقة، ثم بعد ذلك ينزل منها إلى التخصيص، ويفهم أن هذا التخصيص لا يعارض الإطلاق؛ بل هو بعضه، [انتهى الشريط التاسع] فيقيد في كلامه يعرف أنه ما تجاوز القدر العلمي الحق في نفسه؛ لأنك إذا كنت متجردا لم يصاحبك في نظرك إلى العلم هوى أو عجلة فإنك تصيب، أما إذا صاحبك في نظرك للعلم هوى أو تعجُّل فإنك تخطئ العلم ولا بد، سواء من ذلك المسائل النظرية أو المسائل العملية.(38/272)
فينتبه طالب العلم لهذا دائما في أن يكون نظره وأفقه واسعا في النظر للمسائل العلمية والمسائل العملية، ولا يحكم بشيء إلا بحجة.
ولهذا يكثر من الأئمة تكثر الوصية بالاحتجاج بالكتاب والسنة والرجوع إلى القرآن والسنة فهو من الحق المطلق الذي لا يخطئ من استدل به؛ لأن فيها الحق الذي هو الحق، أما إذا أتى نظر الناس وعقل الناس إذا كان مستقلا فإنه لابد أن يخطئ، وإذا كان راجعا للكتاب والسنة بفهمها فإنه يصيب في ذلك.
على العموم هذه مسائل نظرية فتحها الأخ عبد الرحمن -جزاه الله خيرا- ينبغي الانتباه لها؛ الدقة في الألفاظ، طالب العلم لا يقول شيء إلا وهو مفكر فيه، في دلالته أبعاده بقدر الإمكان، ولابد أن يخطئ مع ذلك لأن البشر لابد أن يخطئ؛ لكن يكون خطؤه قليلا، أما إذا توسع كل ما جاء في باله قاله بدون قواعد عقلية وقواعد نظرية ولا حجج، هنا يصير الخلاف كثير وتكثر الأقوال في الشريعة.
لهذا قال ابن الجوزي أو قال غيره: لو سكت من لا يعلم لقلَّ الخلاف، لو سكت من لا يعلم من أول الزمن إلى يومنا هذا، لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، يصير الخلاف محدودا لأن الميدان الذي يمكن فيه الخلاف قليل جدا المسائل التي يمكن فيها الخلاف قليل؛ لكن خاض من لا يعلم فاتسع الخلاف، سواء في ذلك المسائل الفلسفية العقلية المجردة، أو المسائل الحياتية أو المسائل الشرعية، إلى آخره.
([134]) الألفاظ دلالتها على معانيها -يعني عند أهل اللغة مع تنازع فيما سأذكر- راجعة في كلامهم إلى: تواطؤ ترادف تخالف مشتركة، هذه: متواطئة مترادفة متخالفة مشتركة.
وفي المتواطئ يدخل المشككة هذه أربع بس، تواطؤ ترادف تخالف تشارك إلى آخره، فيه منازعة فيها منازعة تحقيقية لغوية. نذكرها بَعْدِين.
تذكر هذه الأربع في مقدمات أصول الفقه تذكر هذه الأربع والفرق بينها إلى آخره.(38/273)
([135]) وهذا صحيح هذا تحقيق وهذا هو التحقيق، الترادف غير موجود، والاشتراك قليل، والتواطؤ غالب، هذا هو التحقيق في الألفاظ.
.. متواطئة في اللفظ، اللفظ واحد لكن المعنى مخصص.
([136]) سبحان الله العظيم، الأرض بالنسبة للسماوات كما هو معلوم صغيرة، كل سماء تحيط بالأرض، سماء الدنيا تحيط بالأرض، ثم السماء التي بعدها طبقة فوقها، ثم السماء التي بعدها طبقة فوقها، فهي طباق، والسموات والأرض وسعها الكرسي ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ?[البقرة:255]، وهي كحلقة ملقاة في ترس، أو كحلقة ملقاة في فلاة، والسموات السبع بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة، يعني تناهي في الصغر، مثل ما تأتي إلى نقطة صغيرة وتحطها وسط كرة كبيرة، فهي الكرة لو كانت بعيدة عنها، مثلك أنت الآن السماء، الآن السماء أمامك ولكنك أنت متناهي في الصغر، وين رحت السماء أمامك، رحت يمين السماء أمامك، رحت شمال السماء أمامك، وهذا مثل من مخلوقات الله جل وعلا ولله المثل الأعلى في ذلك.
يبين لك أن هذه الحقائق التي جاءت في النصوص حق على ظاهرها؛ لكن مشكلة البشر أنهم لا يعقلون من الحقائق إلا ما أدركوه بحواسهم، هذا يعطل باب الإيمان بالغيبيات، الغيبيات مطلقة والحواس مقيدة، فلا يجوز الحكم على المطلق بالمقيد في هذه الأمور، ما أطلق شيء ماله حدود، كيف تقيده بما له حدود، فإذن الأرض كلها صغيرة بالنسبة للسموات صغيرة بالنسبة للكرسي، والكرسي بالنسبة للعرش كيف مقامه والله جل وعلا قدرته وعظمته، فإذن صارت الأرض بمن عليها متناهي في الصغر.
.. لا، هذا يقول إنّ عرشه على سمواته بس، قال: ويحك أنظر ما تقول، شأن الله أعظم من ذلك، إنّ عرشه على سمواته كمثل القبة وأشار أو هكذا، قال إن عرشه على سمواته هكذا، وأشار بيديه، لهذا العرش على السموات وأشار.(38/274)
ظاهر الحديث ضعيف، الحديث مضطرب فيه اضطراب؛ لكن المعنى هو هذا، لذلك العلماء يقولون في العقائد العرش على السموات كالقبة، العرش على السموات كالقبة، طبعا لا يعني كالقبة أنها أصغر منها، لا، الآن السماء على الأرض قبة يعني بمعنى أنها هكذا، والأرض بالنسبة للسماء صغيرة، يعني لا يفهم من كون العرش على السموات كالقبة، أن السموات أكبر منه، لا، أو أن القبة صغيرة، لا، هذا شكله؛ شكله كالقبة. نكتفي بهذا القدر، وفقكم الله، لما يحبه ويرضى.
([137]) هذا الموضع وهو الكلام على المعية، أو الكلام على ما يصح أن يُقَرَّبَ به وصف الله جل وعلا -والله سبحانه له النعت الأعلى- يمكن أن تَضرب له كثيرا من الأمثلة على ما جاء في الكتاب والسنة، فإنّ الله سبحانه ضرب الأمثلة العامة التي تقرب صفاته سبحانه سواء كانت صفات الربوبية أو الألوهية أو الأسماء والصفات بعامة.
وهنا قال (لله المثل الأعلى) وهذا منزع من الآية فإن الله سبحانه وتعالى ?لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى?[الروم:27]، ومعنى المثل الوصف والنعت الأعلى فالله سبحانه له المثل الأعلى يعني الوصف الأعلى والنعت الأعلى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب الأمثال، والله له المثل الأعلى، وهذه ينبغي إذا قُرِّبَ شيء من ذلك مما يتعلق بحق الله جل وعلا فيقال له سبحانه ولله المثل الأعلى في ذلك، تنزيها له سبحانه عن أن يكون ثم مثل أو وصف يطابق ما هو عليه سبحانه من كل جهة، ولهذا قال سبحانه ?ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ?[الروم:28] إلى آخر الآية.(38/275)
وقال سبحانه ? فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?[النحل:74] فالأصل أن ضرب الأمثلة يعني الأوصاف التي تقرب ما لله جل وعلا من ربوبية وألوهية وأسماء وصفات وأشباه ذلك أنه لله جل وعلا ولرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قال (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لكن يسوغ لأهل العلم العالمين بالله جل وعلا وبما يستحق أن يضربوا مثلا في ذلك زائدا عما جاء في النص في أمثلة الكتاب والسنة إذا كان ذلك ظاهرا في ..... عندهم إذا كانوا من العلماء الراسخين في الدين.
وهذه الكلمة (ولله المثل الأعلى) المثل الأعلى يعني الوصف الأعلى، إذا كان كذلك فلا يجوز أن يُطلق أحد أنه مثل أعلى لك، لا في أمورك ولا في سلوكك، مثلا يقال من مثلك الأعلى؟ فيقال مثلي الأعلى فلان من الصحابة، أو من العلماء أو نحو ذلك المثل الأعلى هو الله جل وعلا، فلا يجوز أن يقال فلان هو المثل الأعلى؛ لأن الأعلى هو الرب سبحانه، والوصف الأعلى هو وصف الرب جل وعلا، فلله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وهذا هو الصحيح في إطلاق مثل هذه الكلمة.
المقصود ليس هذا، المقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب لنا أمثلة في ذلك، منها قوله عليه الصلاة والسلام في رؤية القمر «ما منكم من أحد إلا وسيرى ربه كما يرى أحدكم القمر ليلة التمام» هذا في روايات مختلفة ساقها ابن تيمية هنا بعض الألفاظ فيها.
فإذن المثل هنا تعلق للرؤية، شبّه المقال الرؤية بالرؤية، وإن كان المرئي غير مشبه بالمرئي.(38/276)
وهذا يُقَرِّب لك مسألة المعية التي غلط الناس فيها، كذلك في الصفات جميعا، فإنّ المعية لا تقتضي إذا قلنا إنّ الله جل وعلا معنا سبحانه حقيقة لا تقتضي أن تكون معية ذاتية، ولا أن تكون معية كمعية الفرد للفرد؛ لأن القمر مع المسافر وغيره؛ ولأن الرب سبحانه سيُرى يوم القيامة كما يرى القمر يشترك فيه الجميع مع علوه سبحانه وتعالى في الرؤية، وكذلك علوه سبحانه وتعالى في المعية.
المقصود من هذا أن المعية إذا أثبتت فإنها تثبت على ما دل عليه معناها في لغة العرب، ومعناها في لغة العرب لا يدل على اختلاط، ولا على مماسة، ولا على قدر زائد عن الاشتراك أو الاقتران، والاقتران هذا يكون كما ذكرنا اقترانا في الصفات كما قررناه لكم سابقا.
كذلك في غير المعية مثل الرؤية التي أنكرها المعتزلة أصلا، أو أنكر كونها في جهة الأشاعرة، فإن التمثيل كان تمثيلا للرؤية بالرؤية، وتمثيل الرؤية بالرؤية هذا يقتضي أن الرؤية حق وأنها في جهة، وأن ذلك كما يليق بالحق جل وعلا «ما منكم من أحد إلا وسيرى ربه»، وقال «سترون ربكم كما ترون البدر ليلة التمام لا تضامون في رؤيته» وأشباه ذلك.
([138]) (أحدا) لأنها مفعول به، وهذه كلام شيخ الإسلام غريبة، فما يمكن أحدا نقل، مثل ما تقول ما يمكنني فعل ذلك، لا يمكنني فعل كذا، الاسم الظاهر أو الضمير إذا اتصل بيمكن فإنه يكون مفعولا به ثم الفاعل يأتي بالمصدر.
([139])لم تَدُلَّ إذا جاء الفعل المشدد الآخر ودخل عليه جازم فيفتح تقول لم تقرَّ قرَّ دخلت عليها لم؛ لم تقرَّ أعين الأعداء، لم تدلّ الأدلة، علَّ؛ لم تعُلَّ، نصَّ؛ لم ينصَّ أحد من أهل العلم على ذلك، الفعل المشدد الآخر إذا أدخلت عليه جازما يعني جازما من أنواع الجوازم لم إلى آخره كل هذا يفتح فهو يفتح لالتقاء الساكنين فهو لم يضم لأنه لو ضم نفى دخول الجازم ولم يكسر لأن الفعل لا يدخله الكسر والسكون ممتنع، فلجؤوا إلى الفتح ولأنها أخف الحركات.(38/277)
([140]) هذا الكلام يحتاج إلى بسط طويل وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى أجمل وفصل هذا في مواضع كثيرة من كتبه كما فصله قبله أئمة أهل العلم.
وتقرير هذا الموضع أنّ الكلام في الظاهر من نصوص الصفات ما هو؟ وقول من قال من الناس: مذهب السلف إمرارها أو إقرارها على ما جاءت مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وبيان ما في هذا القول من المنافاة لمذهب السلف، وذلك لما فيه من الإجمال أو الغلط، هذه كلها مسائل تحتاج إلى بيان طويل.
لكن خلاصة ذلك أن تنتبه إلى أصل هذه المسألة، وأصلها راجع إلى دلالات الألفاظ في اللغة، ودلالات اللفظ في اللغة على ثلاثة أقسام:
إما أن يدل اللفظ على المعنى بلا تخلف لأي فرد من الأفراد، هذا يسمى النص.
وإما أن يكون دلالة اللفظ على المعنى أو على أفراد المعنى ظاهرة، وهذه قد يتخلف فيها بعض الأفراد؛ يعني احتمالا لغويا، هذا الذي يسمى عندهم حقيقة اللفظ وظاهر اللفظ، والحقيقة يقابلها المجاز، والظاهر يقابله عندهم -يعني عند المتأخرين- التأويل.
والثالث المجمل الذي لم يستبن معناه، يحتمل هذا ويحتمل هذا ويسمى مجملا.
فإذن الألفاظ:
إما أن تكون نصا.
وإما أن تكون ظاهرة، وهذا الظاهر الثاني قد يكون حقيقة التي يقابلها المجاز، وقد يكون ظاهرا الذي يقابله التأويل.
والثالث قد تكون مجملة.
والصفات صفات الله جل وعلا دائرة ما بين كونها نصا وما بين كونها ظاهرا، فبعضها نص لا يحتمل التأويل، واستفادة التنصيص قد يكون من دليل واحد وقد يكون من مجموع أدلة:
فمثال الدليل الواحد كقوله سبحانه ?اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:59، 65، 73، 75، هود:50، 61، 84، المؤمنون:23، 32]، هذا نص صريح في عموم بطلان الآلهة جميعا بلا استثناء، وإثبات العبادة الحقة في الله جل وعلا، هذا إذا كانت من دليل واحد.(38/278)
إذا كانت من مجموع أدلة مثل صفة العلو لله سبحانه، ومن مثل صفة اليدين لله جل وعلا، وجميع الصفات الذاتية، الرحمة صفة الوجه وأشباه ذلك لله جل وعلا، فإن هذه تنصيصية لا تحتمل غيرها؛ لأنها جاءت بها أدلة كثيرة تنفي الاحتمال الذي قد يعرض -طبعا نعني بالاحتمال الاحتمال اللغوي، لا الاحتمال العقلي- تنفيه وتحدد المراد لو كان ثم احتمال في اللغة.
فهذا وجه مجيء التنصيص أو كيف نعرف أنها نص ولذلك من أنكر ما نُصَّ عليه، وقولنا نُصَّ عليه يعني ما صار اللفظ دالا على مراده بالنصية فإنه كافر، إلا إذا كان ثم شبهة قوية عرضت، مثل ما عرض لنفاة العلو ما عرض، وكثير من أهل العلم يكفر من أنكر علو الرحمن جل وعلا على خلقه.
والثاني من الألفاظ؛ الألفاظ التي دلت على المعنى لما هو دون النص وهو الظاهر، وهذا -كما ذكرت لك- قد يكون من جهة –يعني عند المتأخرين– جهة الحقيقة، قد يكون من جهة الظاهر، وتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وظاهر ومؤول، هذا اصطلاح حادث وإلا فكلام العرب يدل على معناه إما بنصية وإما بظهور، وهذا الظهور قد يكون من جهة الحقيقة وقد يكون من جهة الظاهرية، كما أن النص يكون حقيقة لا غير.
إذا تبين لك ذلك، فالظهور هنا إذا قلنا دل ظاهر المعنى على كذا فإن كلام العرب دال على ما اشتمل عليه المعنى بظاهره وبحقيقته، ولكن الحقيقة والظاهر تنقسم إلى حقيقة إفرادية وحقيقة تركيبية، وكذلك الظاهر إلى ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي؛ يعني ما نستفيد منه المعنى يعني من الألفاظ بلفظ واحد، فهذا يسمى حقيقة إفرادية، وبالسياق أو بأدلة مختلفة فهذه تكون تركيبية.(38/279)
كذلك الظاهر كقوله مثلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45]. (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) هنا (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) هذا فيه إضافة الرؤية إليك توجه إلى الرب جل وعلا، ومعلوم أن ذلك غير مراد، وهذا لا يعني تأويلا أو صرفا عن الظاهر؛ بل ظاهر الكلام أن المراد، ظاهر الآية أن المراد هو رؤية قدرة الله جل وعلا وآثار صنعته في خلقه، لأنه قال بعدها (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وكقوله جل وعلا في آية النحل ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26] ليست هذه من آيات الصفات فيها الإتيان؛ لأن المقصود هنا إتيان صفات الله إتيان قدرة الله جل وعلا لقوله بعدها (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) هذا يقال له حقيقة تركيبية أو الظاهر المركب وهو الظاهر الذي يفهم من السياق.
فكلام العرب يفهم على حقيقته يفهم على ظاهره والظاهر معناه المعنى الذي دل عليه اللفظ على ما ذكرت لك، وهذا كما ذكرت يحتاج إلى تفصيل طويل في شرحه وبيانه؛ لأنه يجمع ما بين العقيدة والأصول.
التنبيه الذي يلي هذا على هذه المسألة التي تكلم عليها شيخ الإسلام أن من تكلم في أن الظاهر غير مراد نظر إلى المعنى الإضافي، فقال إن الظاهر غير مراد. والآيات التي في الصفات والأحاديث التي في الصفات أو في الغيبيات عموما لا يُنظر فيها إلى المعاني الإضافية؛ لأنه إذا نظر فيها إلى المعاني الإضافية كان ثم تمثيل أو تشبيه مذموم، وإنما ينظر فيه إلى المعنى الكلي الذي لا يدخله التخصيص أو لا تدخله الإضافة، فإذا نُظر إلى المعنى الكلي لظهوره أضيف إلى الرب جل وعلا ما يليق به سبحانه وتعالى وتقدس وتعاظم ربنا.
وهذا المعنى الأصلي أو الكلي قد يكون بالوضع معروفا، وقد يكون بكلية تقعيدية في اللغة يُنَصُّ عليها، والوضع الأول كما هو معلوم الوضع الأول هو الأصل في اللغة، والوضع الأول على قسمين:(38/280)
وضع أسماء وهذه قد علمها الله جل وعلا آدم في أصل اللغة التي تكلم بها آدم، ثم تشعبت إلى لغات أهل الأرض على اختلاف بينهم في الألفاظ؛ لكن على اشتراك في الدلالات ?وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا?[البقرة:31].
ثم المعاني والاشتقاقات والأفعال والمصادر وتنوع الدلالات فهذا يختلف باختلاف أهل الأرض في لغاتهم وقواعدهم ولهجاتهم إلى آخره.
فإذن الوضع الأول من جهة الأسماء يمكن أن يُعقل؛ لكن من جهة المعاني فإنه -كما ذكرت لك- مبني على أن المعاني لم تُعَلَّم، فإذن صارت راجعة إلى الناس في مواضعتها، والناس فيها توضعوا عليه يرجعون فيما تواضعوا عليه إلى ما أدركوه؛ يعني إلى ما جعلوه مضافا مخصصا بخلاف المعاني الكلية فإنهم لا يدركونها، ولهذا صار هناك فرق ما بين الأسماء والمعاني فيقع الاختلاف في المعاني كثيرا، وأما في الأسماء فيقل الاختلاف.
فإذا ذكر الوجه وذكرت اليدين وأشباه ذلك من الصفات التي هي راجعة إلى الأسماء -يعني أسماء أشياء ليست مصادر ولا معاني- فهذه تجد أن الخلاف فيها -يعني حتى مع المخالفين الخلاف فيها مع المخالفين قليل-؛ لأن هناك من يثبتها وإنما يأتي الكلام في المعاني، مثل صفة الرحمة والغضب والرضا والنزول والاستواء إلى غير ذلك من الصفات، وهذا سببه كما ذكرت لك أن المعاني كلية ينظرون فيها إلى ما تواضع عليه طائفة من أهل اللغة أو من الناس أو من العرب المتقدمين مع أن كلامهم إذا ورد فإنه يرد مخصصا مضافا وقد يرد أمثلة من المعاني الكلية تستنبطها.(38/281)
نذكر مثالا لذلك: مثل لفظ الجناح كلمة جَناح هذه جعلها المتأخرون أصلا في الطاهر قالوا الجناح حقيقة في الطائر؛ لأنه هو الذي له الجناح، وأما الإنسان فتشبه يده بالجناح أنها كجناح الطائر من جهة الاستعارة، ويجعلون قوله تعالى ?وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ?[الإسراء:24] الجناح هو اليد أو اليدين هذا على جهة الاستعارة، وذلك لأنهم جعلوا الجناح الذي هو من الأسماء ولكنه في الأصل معنى جعلوه صادقا على الطائر دون غيره.
وفي الحقيقة هو راجع إلى المعنى لا إلى الاسم، وذلك لأن لفظ جَنَحَ يَجنح جنوحا والاسم منه الجَناح والجُناح هذا كله راجع إلى الميل.
فالمعنى الكلي الذي يتفرع منه بأنواع الإضافة والتخصيص وما يناسب الأعيان المختلفة هذا راجع إلى الميل فقال جل وعلا ? وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ?[الأنفال:61] يعني مالوا إليه ?لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ?[الممتحنة:10] يعني لا ميل عن الشريعة، لا ميل عن طاعة الله، لا إثم عليكم في ذلك لاحظنا هذا من جهة المعنى.
فجاء من جهة الاسم أطلق على ما كان يميل من أعضاء المخلوق، أطلق عليه جناح في الطائر، لأن بدن الطائر الأصل فيه الاستقامة ولا يميل نفس البدن، وهذا الجسم الذي يميل يذهب ويجيء سمي جناحا في الطائر، وأيضا في الإنسان ويصدق عليه هذا الاسم فهو جناح، جناح فيه، ولهذا قال جل وعلا لموسى ?وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ?[القصص:32] فسمَّى اليد جناحا، وقال في موضع آخر ?وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ?[طه:22] يعني إلى جنبك وأشباه ذلك فهذا كله راجع إلى أصل المعنى.(38/282)
فإذن تنتبه إلى أن هناك أسماء قد تكون أسماء من جهة اللغة؛ لكنها من جهة الاشتقاق جُعلت أسماء برؤية المعاني، وهذا يبين لك أن [انتهى الوجه الأول من الشريط العاشر] قاعدة الحقيقة والظاهر هو الأصل عندنا في جميع ما يفهم من اللغة وفي التفسير، وهذا يرجع إلى انقسامها إلى أسماء مما علَّمها ربنا جل وعلا آدم، وأنه علمه بلغة غير اللغة العربية كما هو معروف؛ لكن نقول من حيث الألفاظ تغيرت؛ لكن من حيث الدلالات دلالات الأسماء بقيت لأن المسميات موجودة لكن الألفاظ التي يعبر بها عن المسميات اختلفت، ثم المعاني التي اشتقت للأشياء، اشتقت للأسماء؛ المصادر، أسماء اشتقت من المعاني يعني معناه أنها ليست أسماء جامدة.
وهذا موضع يحتاج أيضا منك إلى توسع فيه لأنه هو العمدة في فهم إبطال التأويل، هو العمدة في إبطال المجاز، هو العمدة في إبطال دعوى من قال إنَّ الوضع الأول هو كذا؛ لأن الوضع الأول لا يُعلم، إن كان معاني كلية وفُسِّرت بالتخصيص والإضافة، فنعلم أنها ليست الوضع الأول، الوضع الأول فيها غير مسلم به، وإن كانت من جهة الأسماء التي لا يدخلها اشتقاق، عرفنا أن هذه تدخل فيما علمه الله جل وعلا آدم على اختلاف في ذلك.
إذا تقرر لك هذا، فإن قول من قال ظاهر الآيات والأحاديث غير مراد، فهذه الكلمة محتملة إن قال ظاهرها غير مراد ويريد بهذا الطائر الذي هو غير مراد بالتمثيل فإن هذا صحيح، ظاهرها الذي يبدو للأذهان السقيمة من أن ثم فيها تمثيل صفات الله بصفات خلقه، فإن هذا لاشك أنه غير مراد، وإذا قلنا قال الله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، فتصور أن الظاهر من يدي الرحمن جل وعلا كيدي المخلوقات فهذا باطل قطعا، نقول ظاهرها غير مراد قطعا؛ لأن الرب سبحانه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، كذلك في صفة الوجه وفي غيرها من الصفات للرب جل وعلا.(38/283)
وإن كان المراد من تلك المقالة أن الظاهر غير مراد يعني أن الظاهر الذي فيه إثبات الصفة غير مراد حتى تُؤوَّل، فلاشك أن هذا لا يجوز أن ينسب للسلف، ولا أن يحكى عن السلف أصلا؛ لأن السلف أثبتوا ما دلت عليه الآيات والأحاديث دون دخول في التفسير الذي يخرجها عن معناها الظاهر.
وبالجملة وكما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله -فيما سمعتم- هذه المقالة مقالة خاطئة ولا يسوغ أن تستأنف لقول القائل ظاهرها غير مراد؛ لأنّ الظاهر مراد، والظاهر ليس الذي فيه التمثيل؛ لأن الله الذي وصف نفسه بهذه الصفات هو الذي قال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]. فمن صرفها عن ظاهرها فلأجل سوء في فهمه وسوء في عقيدته؛ لأنه أولا مثَّل وشبَّه ثم بعد ذلك أوّل وصرف عن الظاهر.
وكذلك الحقيقة كل نص فهو حقيقة وظاهر في الدلالة على معناه، وظاهرها مراد، وقول القائل وظاهرها غير مراد هذا غلط ولا يصح أن ينسب إلى السلف.
ومن أجله قال من قال إنه لا فرق ما بين التأويل والتفويض، لا فرق ما بين مذهب المؤولة ومذهب السلف -كما يزعمون-؛ لظنهم أن مذهب السلف أيضا أنه ينفي المعنى اللائق بالله جل وعلا ويكون المعنى غير مراد وكذلك أهل التأويل يقولون المعنى غير مراد على ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.(38/284)
المقصود من هذا أن هذه المسألة كبيرة جدا، وهي أصل باب الكلام في الصفات، وأصل الكلام مع المخالفين، وهي مرتبطة بمباحث لغوية وأصولية وعقدية والجمع بينها يحرر المقام ويتَّضح به حقيقة قول السلف وقوة قول السلف رحمهم الله، وضعف قول المخالفين في المسائل، لا من جهة لغوية، ولا من جهة أصولية؛ ولكن على التحقيق، ولكن جاء الخلط والغلط من جهة أن المتأخرين درجوا على فنون وعلوم أصلوها وجعلوا لها ألفاظا ومصطلحات وصاروا يحملون الشريعة أو يحملون لغة العرب -التي هي قبل ورود هذه العلوم والمصطلحات- يحملونها على قول من تأخر في اصطلاحاتهم فيجعلون كلام العرب منقسم إلى حقيقة ومجاز وظاهر ومؤول إلى آخره، بناء على تقسيماتهم، مع أن كلام العرب كان قبل هذه التقسيمات ولم يخطر ببالهم أصلا أن ثم مثل هذه التقسيمات حين تكلموا بما تكلموا.
وهذا كثير في استعمالاتهم مثل كلام في الوضع الأول هو كذا، وهذا استعارة لأن أصل المعنى هو كذا، ويمكنك أن تنازع في كل موضع يخالف ما عليه أهل التحقيق في أصل ما قالوه بقولك: من قال هذا؟ قالوا والوضع الأول كذا، من قال لك إن الوضع الأول كذا؟ ما فيه دليل عنده إلا نقل، الوضع الأول يعني ما تواضع عليه الناس ما تواضع عليه العرب ما تواضع عليه أهل اللغة، وهل أهل اللغة اجتمعوا في مؤتمر -يعني في الزمن الأول- اجتمعوا في مؤتمر أو في مجتمع عام وقالوا نضع لهذا المعنى كذا ونضع لهذا المعنى كذا يعني مما لا يتصور، وإنما انتشر في اللغة هكذا بمعاني كلية موجودة في الأذهان لكن تخرج بحسب ما يحتاج إليه، تخرج بحسب ما يضاف إليه تلك المعاني.
المعاني الكلية قد لا تجد تفسيرها لأنها كلية لا وجود لها في الخارج ولكنها موجودة في لَمِّ شتات المعاني.
هذه مسألة كبيرة لكن ذكرت لك بعض ما يفتح لك الباب في فهمها، فتنتبه لعظم هذه المسألة.
....أولا قولهم يعني إذا قيل فلان أسد، محمد أسد، فهذا غلط من جهات أن هذا مجاز.(38/285)
أولا المجاز عرَّفوه: بأنه نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما رجع إلى نقل عن الوضع الأول. فإذا كان كذلك فنقول: من قال إن الوضع الأول للفظ الأسد والعرب هو أنه على الحيوان المفترس؟ هذه تحتاج إلى نص وإلى دليل، ولا دليل يثبت ذلك، إلا أن يقول: هذا معروف.
وكل موضع أدعي فالمجاز فارجع فيه إلى التعريف: نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما. فقل: من قال إن هذا الوضع الأول؟ من قال إن هذا –مثل الجناح قالوا الجناح هذا حد الطائر- من قال لك إن الأسد هذا في الوضع الأول هو الحيوان المفترس؟ كما ذكرنا لك أنه يكون ثم معنى كلي، فبالتخصيص يختلف.
فلفظ الأسد -من جهة المعنى الكلي هذا- يدخل في كل -يعني المعنى الكلي له- كل من بلغ القوة والقهر لغيره، فهذا يطلق عليه أسد، فما كان من الحيوانات الذي يقهر غيره هو أسد، وعند العرب أسد غير الأسد عندك، الأسد الآن الحيوان المعروف، لكن عند العرب الأسد أوسع، أوسع في الدلالة وكل حيوان قهر غيره التي تفرس هذه يدخلونها في الأسد، فالأسد المعروف أسد، والنمر أسد عندهم، والفهد أسد إلى آخر ذلك، هذا شيء.
الشيء الثاني أن يقال إن القول بالمجاز بالاتفاق باتفاق أهله: أن كل مجاز يصح نفيه، كل مجاز يصح نفيه على اعتبار النفي سُلط على الوضع الأول، فإذا قلت فلان أسد، يصح أن تقول بعدها ولكنه ليس بأسد، وهذا إذا دخلنا في صفات الله جل وعلا فإنه تَجَرُّؤ وتكذيب أيضا.
إذا قلت مثلا في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) لكنه لم يستوِ، هذه قاعدة في المجاز باتفاق أهله.
تقول (الرحمن الرحيم) ولكنه ليس بذي رحمة.
وأشباه ذلك في كل موضع أدعي فيه المجاز فإن ضابط المجاز أنه يصح نفيه، على اعتبار نفي الوضع الأول والانصراف للثاني.
رأيت أسدا فكلمني ولكنه ليس بأسد. هذا جناحك اخفضه ولكنه ليس بجناح، في نظائر ذلك.(38/286)
الثالث مما يبطل القول بالمجاز في مثل ما ذكرت أن المجاز في كلام العرب إذا وجد فهو موجود بلا اسم مجاز -واضح؟- موجود هكذا في لغتهم ولا اسم له عندهم ولم يضعوا له اسما يعنونون لذلك كصنيع المتأخرين من جهة فنية.
وإذا كان كذلك، فإن قول القائل هذا مجاز يحتمل أن يكون:
فيفرع عليه أحكاما وقوانين للمجاز أصَّلَها قبل استقراء كلام العرب وهذا باطل؛ لأنه تحكيم لقوانين متأخرة على وضعٍ قبل ذلك.
والثاني أن يكون سماه مجازا ولكن لن يزيد فيه على ما ورد.
وإذا كان هذا الثاني فنقول هذا صحيح لك أن تسميه مجازا لكن لا تجري عليه قوانين أهل المجاز، لذلك بعض العلماء المتقدين سموا كتبهم بالمجاز مثل أبي عبيدة معمر بن مثنى سمى كتابه مجاز القرآن يعني ما جاز في اللغة من التفسير، وهنا لم يجر عليه قوانين أهل العقائد أو أهل الأصول المعتزلة وغيرهم في ذكر المجاز وتعريفه، لا، ولكنه اعتبر أن هذا جاء عن العرب في موضع كذا، وجاء عنهم في الموضع الثاني كذا فهذا مما يجوز في لسان العرب أن تفسر هذه بهذه.
وثَم فرق ما بين إجراء كلام العرب على المجاز اصطناعيا يعني على جهة أهل الاصطلاح المتأخرين.
والقول الثاني الذي يسمى مجاز دون إرجاع إلى قواعدهم. والفرق بينهما أن صاحب القانون الذي عرف المجاز عرفه بتعريف سيطبقه على كلام العرب، سيطبقه على كلام المتقدمين، سيطبقه على كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تحكم في الحقيقة لأنه قَنَّنَ قانونا ثم أراد أن يجري عليه كل الكلام.
لكن نقول الذي يقضي به البرهان الصحيح السليم من الهوى أن يقال كل موضع استعملته العرب في كلامها فهو حقيقة وظاهر ومجاز أيضا، هو حقيقة باعتبار ما دل عليه، وظاهر باعتبار دلالة المعنى دلالة ظاهر اللفظ على معناه، ومجاز يعني بمعنى أنه يجوز في لغتها.
هذه الثلاث حقيقة وظاهر ومجاز إلى آخره إذا استعملتها فهي ألفاظ لا تؤول إلى كلام المتأخرين.(38/287)
فنرجع من هذا كله إلى أن كلام العرب حجة، والله جل وعلا أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فما استعمل في كلام العرب صار حجة سمِّه حقيقة، سمِّه مجازا، سمِّه ما شئت؛ لكن لا على قوانين أهل الاصطلاح، فإذا قلت هذا حقيقته كذا، هذا ظاهره كذا، هذا مجازه كذا، باعتبار ما يجوز وما يظهر وحقيقة اللفظ كونه دليلا على حقيقة الأمر، فهذا لا شيء فيه.
لكن الإشكال جاء من كونهم قننوا القوانين ثم حكموها على اللغة، وقولنا سمه ما شئت هذا يجعل الدائرة ضيقة، إذْ يخرج هذا الباب عن الأقيسة يخرج هذا الباب عن القياس، وأما القول بالقوانين فإنه يدخل ما لم يرد في كلام العرب -مما يجوز- يدخله في التأويل أو في صرف الحقيقة عن ما هي عليه لأجل القانون.
فتلحظ أنه إذا اقتصرنا على كلام العرب سميناه مجازا، سميناه حقيقة، ظاهرا فإن الدائرة تكون ضيقة، وإذا سلطنا اصطلاح المتأخرين فإنه سيصرف اللفظ عن ظاهره، سيصرف اللفظ عن حقيقته بالقانون، وإن لم يرد ثم استعمال لكلام العربي به، وإن لم يرد استعمال يقال: لا، هذا غير مراد.
وفي الحقيقة إذا قلنا: صرف اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما. أو في تعريف التأويل صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، هذا القرينة ما هي باتفاق أنها قرينة عقلية، العلاقة ما هي؟ العلاقة منها علاقة لغوية ومنها علاقة عقلية.(38/288)
إذا كان كذلك فكل واحد يمكن أن يقول: عقلي يصرف هذا اللفظ عن ظاهره، عقلي ينقل هذا اللفظ عن حقيقته، في الأمور الغيبية التي لم ير أمثالها، أما التي رأى أمثالها هذه يقرب الناس فيها؛ لأنه لو قال عقلي يخالفه يكذبه الحس؛ لكن في الأمور الغيبية سيأتي كل أحد يدعي أن عقله ينفي ذلك، هذا معناه أن يرجع القانون إلى أمر غير منضبط، وهذا باتفاق أهل المنطق وأهل الحدود أنه يرجع على القانون بالإبطال، فكل ضابط في قانون أو في حد أو في تعريف لا ينضبط لكون حد فيه أو جملة فيه لا تنضبط فإنه لا يصح أن يكون تعريفا.
ولذلك نحن ننازع أصلا في التعريفات هذه، تعريف التأويل ننازع، تعريف المجاز ننازع إلى آخره، في هذه الأشياء التي أحدثت البلبلة في العقيدة، وأحدثت البلبلة في الغيبيات، وفرقت الأمة وكل ذلك من جراء أهل البدع؛ لأنهم اعتقدوا اعتقادات ثم سعوا في العلوم ما يؤصلها، لذلك ما تجد عند أهل السنة هذه التعريفات، ما تجدها، والعلوم ما فسدت إلا لما دخلتها التعريفات، من جميع الفنون، التعريفات على صناعة المناطقة والحدود إذا دخلت خلاص لن تفهمها، إذا انشغلت بالتعريفات الأصولية فلن تفهم الأصول، إذا انشغلت بالتعريفات البلاغية فلن تفهم البلاغة، ولذلك جاء مثلا الذين اشتغلوا بالتعاريف البلاغية السَّكَّاكي والخطيب القديم لأنه معتمد على السكاكي وأشباه هؤلاء، هؤلاء تركوا البلاغة التي هي كلام العرب صرفوها على ما هي عليه على قوانين اصطلاحية يطبقها العجمي مثل ما يطبق واحد زائد واحد يساوي اثنين، لا، لغة العرب تذوق، لغة العرب فهم، لغة العرب إحساس، ليست قانونا، العرب ما اجتمعت وقالت واحد زائد واحد يساوي، الكلمة هذه زائد الكلمة هذه تطلِّع لنا استعارة تخيلية، الكلمة هذه تطلع لنا، هذا كله ليس مرادا.(38/289)
فدخلت التعاريف فأفسدتها، ولذلك أجمع أهل البلاغة على أن بلاغة أبي القاسم، وعلى أن بلاغة من تقدم مثل العسكري في الصناعتين، والجاحظ وأشباه هؤلاء ومن لم يدخلوا في التعاريف هذه الصناعية، لا شك أنها هي الأولى لأن المتأخرين انصرفوا عن المعاني إلى قوانين فأفسدت الفن.
وهذه لها أمثلة كثيرة:
حتى في مصطلح الحديث: مصطلح الحديث أيضا تجد أن من تعلق بألفاظ المتأخرين في التعريفات لم يطبق عليها أقوال المتقدمين مائة في المائة، يقرب و يجد ما يخالفها.
حتى في اللغة العربية: التعريفات أنظر إلى تعريف نائب الفاعل، نفس تقسيم الفعل إلى ماضي وأمر ومضارع إلى آخره، هذا يسبب إشكال، فيه إشكال معروف في موضعه أيضا، قول هذا نعت وهذا صفة النعت عندهم غير الصفة، النعت عندهم الذي هو من التوابع، والصفة ما كانت راجعة إلى المبنى، مثل اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة لاسم الفاعل، هذه الثلاث فقط التي يطلق عليها صفة، النعت عندهم..؛ لكن في اللغة عندنا وصف الله جل وعلا هو نعته سبحانه، نعت الله هو وصفه.
مثلا عندك في (مَنْ) ترجع لكتب اللغة جميعا تقول (مَن) اسم موصول لمن يعقل أو للعاقل، و(مَا) اسم موصول لغير العاقل، وهذا باطل؛ لأن هذا التعريف يدرج عليه الجميع، فالله جل وعلا يعبر عنه بـ(من) ويعبر عنه بـ(ما)، فمن يقال أنها للعاقل والله ليس في صفاته عاقل ولهذا صار من اسم لمن يعلم لا لمن يعقل.
هذا لو ندخل في الفنون كلها سنجد خلطا كبيرا خلطا في الفنون بعد زمان السلف، وهذا يعلم بعد التحقيق والنظر ومعرفة كيف مشى كل علم؟ كيف توسعت مؤلفاته؟ وكيف تحرك وتحرك أهله وكيف بنى المتأخر على قول من تقدمه؟ ثم يكون من تقدم أحسن التصنيف فأعتمد فصارت مدرسة كبيرة، قد يُنظر إلى من يرجع الناس في المدرسة إلى طريقة الأولين قبل حدوث هذه المدارس أنه ينهى عن العلم إلى آخره.(38/290)
وهذا يطول الكلام عليه؛ لكن ينبغي لطالب العلم أن يكون عنده بعد نظره في العلوم وفهمه للعلوم -سواء العلوم المساعدة الصناعية الأصول أو مصطلح أو لغة إلى آخره- أن يتعدى بعد فهمها أو إحكامها على طريقة المتأخرين، أن يتعدى اصطلاحاتهم إلى الزمن الأول.
ولذلك إذا نظرت إلى كتاب سيبويه مثلا في النحو هو أفضل مائة مرة؛ هو أفضل بما لا حد له من كتب المتأخرين من شروح الألفية وإلى آخره لأن ذاك ما فيه التقييدات المنطقية التي وردت في كتب المتأخرين، وفيه سعة، وفيه تذوق للنحو جعل النحو مع البلاغة جمع بينهما، جعل النحو والصرف والبلاغة تمشي جميعا؛ بينما المتأخرين جعلوا هذا وهذا للتوضيح، لكن إذا أتى طالب العلم فأحكم يرجع إلى كليات كلام المتقدمين الذي هو اللغة، كذلك في التعريفات المختلفة.
المقصود من هذا أن جناية الانحراف في العلوم بتعريفات لا تنطبق على التحقيق، هذا لاشك أنه أحدث غلطا كبيرا.
خذ مثلا في النحو تأتي مسائل تُجعل مسلمة ولكن هي ليست مسلمة، في النحو جعلت مسائل مسلمة وهي غير مسلمة، مسائل في الأصول جعلت مسلمة، بحيث أنك لو تقول لواحد كذا ......
قوله تعالى ?إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ?[طه:63] على القراءة الثانية (إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)، في اللغة، النحو الشائع يقضي بإيش؟ إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ، هذين اسم إن، من أين أتى؟ كلهم خاضوا الذين وجهوا هذه القراءة على إضمار الضمير يعني إنه هذان لساحران، وأشباه ذلك، جاء شيخ الإسلام وقال: أصله كلكم اعتمدتم على أن هذان تنصب بالياء؛ لأنها ملحقة بالمثنى، وترفع بالألف لأنها، من قال هذا؟ لاحظ الذهاب إلى أصل الموضوع، أحيانا تأتي أنت وتعتبر شيئا مسلما، وأصل هذا المسلم غير مسلم.
وهذه حالة نفسية قد تُرَبَّى شيء أنت ويكون مسلما وفي الحقيقة غير مسلم، عند البرهان الصحيح غير مسلم، بكثير من الأشياء النفسية والاجتماعية والعلمية.(38/291)
قال: من قال أن (هذان) أصلا أنها تنصب بالياء، هذه مبنية، لا تقال بالياء أصلا، تقول قال هذان ورأيت هذان ومررت بهذان هذه مبنية في كل الأحوال.
وقراءة من قرأ (إِنْ هَذَانِ) على البناء، و(إِنَّ هَذَانِ) على البناء، فقالوا: له أنت الآن تقول هذا الكلام فيه آية في القرآن فيها نصب. قال ما فيه، ما يوجد إلا (هَذَانِ) تبنى على الألف، و(هَاتَيْنِ) للمرأة تبنى على ?أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ?[القصص:27]، (هَاتَيْنِ) ليست منصوبة، (هَاتَيْنِ) أصلا مبنية على الياء.
وهذا مذهب الكوفيين، البناء مذهب الكوفيين؛ لكن درج الناس على مذهب البصريين.
إذن مذهب الكوفيين الذي هو أقرب إلى حقيقة النحو -من جهة السماع- من مذهب البصريين، حتى قال بعض مشايخنا في هذا: إن مذهب البصريين هو مذهب مبتدعة النحو، ومذهب الكوفيين هو مذهب سلفيي النحو. يعني من جهة اعتمادهم على النقل، وأما البصريون فاعتمدوا على الأقيسة في ذلك، وعلى الأمثلة والقوانين ثم فرعوا عليها.
يعني قال شيخ الإسلام ما قال، وهذه أعجبت ابن هشام، فجعل كلام شيخ الإسلام لخصه تماما في أحد كتبه في النحو الذي هو في أظن شرح الشذور.
المقصود من هذا أن خوض طالب العلم مع المخالفين ينبغي بل يجب أن يكون من الأسس من القواعد، وإذا ما فهمت أسس الكلام كل كلمة تِفْلاَها، تعرف ما وراءها، فإنك ستكون مقصرا بقدر ما فاتك، والذي ينبغي لك أن تفلي كل مسألة.
نعم العلم كثير واسع؛ لكن لابد، لابد لك من هذا، لو فوَّت بعض الأشياء من الفروع التفريعات حتى تضبط هذه المسألة التي حصل فيها الخلل العظيم، هذا ليس الكثير إن شاء الله؛ لأنه لو فاتك بعض الفروع فإنه إحكامك للأصول التي انطلقت منها هذه العلوم وما حصل فيها من الانحراف.
في الحقيقة جاءت هذه الكلمة، وطالت؛ لكن ربما تفتح لكم أبوابا.(38/292)
وهذه لو تكلم الإنسان لاحتاج إلى مدة طويلة لو خضنا في كل فن ما فيه، وتحقيق أهله فيه والمسائل.
مثلا عند أصول الفقه هل تجد كتاب سلفي في أصول الفقه؟ ما فيه، الرسالة للشافعي يعني بداية في أصول الفقه؛ لكن ما فيه في أصول الفقه كتاب مأمون من كل جهاته، ما فيه، مؤتمن محقق.
إذن كيف نفهم أصول الفقه؟ نفهم طبعا كلام المتأخرين ونضبطه هذه طريقة صنعة، وتأتي المرحلة التي بعد ذلك نأتي للمسائل ونقارنها بكلام المتقدمين؛ لأنك تجد مثلا أن أصول الفقه كلما تقدمت أسلم من كتب المتأخرة، وأقرب لك لإفهامك للاستنباط والخوض عن الصناعة والتعريفات والمحترزات، تأتي ساعة لتفهم التعريف، ويقول هذا مردود عليه من أوجه ثم يرد تدخل في معمعة؛ لكن لو رأيت كتب المتقدمين وجدتَّ أن أصول الفقه فيها سهلة واضحة وهي التي تنفعك في الاستنباط.
نعم كلام المتأخرين مهم لابد من فهمه لكن المحقق أو طالب العلم الذي يريد أخذ العلم بحقيقته، ينتقل بعده إلى ما تقدم حتى يحكم أصوله.
وهذا يأتي في مسائل في العقيدة واللغة وغير ذلك.
....[ سؤال: ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، الظاهر غير مراد والحقيقة مرادة؟](38/293)
هل قلنا أن الظاهر غير مراد؟ نحن نرد على الذين يقولون أن الظاهر غير مراد، هو الظاهر مراد، نعم، هذه مشكلة التأصيلات تحوز، المقصود أن الظاهر مراد، لكن بعض الناس أطلق قال: الظاهر غير مراد، مثل ما قال لك شيخ الإسلام ابن تيمية هنا، معناه التمثيل، الظاهر الذي هو أن يدي الله جل وعلا كيدي المخلوق، نقول هذا لاشك أنه غير مراد، هذا غير مراد فعلا؛ لأن إثبات الصفات على قاعدة ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تقال أصلا هذه العبارة حتى في آيات الصفات حتى لو كان المراد بها معنى صحيحا -واضح؟- ، قوله ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، الظاهر مراد بل لله يدين حقيقة سبحانه وتعالى ?يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64]، ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، الظاهر مراد إلى آخره، فنحن نبطل قول من قال الظاهر غير مراد أو من قال بالمجاز، إلى آخره.
.. هذه من كتب المتوسطين اسمها المُسَوَّدَة ليس المُسْوَدَّة، مسودة آل تيمية، هذه جمع فيها كلام والد شيخ الإسلام وجده، وكلام شيخ الإسلام وهو قليل فيها، كلام شيخ الإسلام قليل فيها، وهو من الكتب المتوسطين، جروا على اصطلاحات شيخ الإسلام له فيها بعض التحقيقات لكنها قليلة.(38/294)
.. «خلق آدم بيديه» وهنا قال ?مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا?[يس:71] ما قال خلقت، (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) ونتيجة العمل وما ينتج عنه يصدق يصدق عليه أنه عمل اليدين في اللغة، هذا عمل يدي وإن كان نتيجة له، ولهذا قال سبحانه ?وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ? التسلسل في الآثار غير ممتنع عندنا عند أهل السنة، التسلسل في العلل والمعلولات والآثار غير ممتنع فقد يكون أثر ينتج عن أثر، وأثر ينتج عن أثر، والله سبحانه وتعالى هو الذي عمل الأول سبحانه وتعالى وأجرى سنته في أن الأول ينتج الثاني والثاني ينتج الثالث إلى آخره، مثل ألان خلق آدم وخلقك أنت آدم، هو خلقه الله جل وعلا بيديه سبحانه وتعالى، والإنسان مخلوق بيدي الله سبحانه وتعالى، خلق الله سبحانه وتعالى له، وعمل اليدين ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا?[يس:71].
.. ما فيه فرق، جرينا على اصطلاحه، قلنا: نص وظاهر ومجمل. هذا الذي في اللغة، كون هذا أن الظاهر ينقسم إلى حقيقة وظاهر هذا دخلنا في الأصول، دخلنا في مباحث لغوية اصطلاحية، واضح؟ لأنّ النص الذي لا احتمال فيه، الظاهر ثَم احتمال فيه، حتى على اصطلاحهم، ومجمل محتمل لهذا وهذا، كل هذا على اصطلاحهم، لكن تقسيم الثلاث جار على اللغة بلا إشكال، تقسيم حقيقة وظاهر ومجاز ومؤول هذا يدخله البحث.
([141]) مُجَبَّرَة ومُجْبِرَة.
([142]) حشوية يعني حشو الوجود ما لهم قيمة.
([143])هذه نوابت الذي ينبت الأشياء التي تنبت ما لها قيمة، كلها ألفاظ تعني أنهم ليسوا بشيء، ألفاظ اخترعها أعداء السنة في وصف أهل الحق لتنفير الناس منهم؛ يعني بأنهم ليسوا بشيء يعني أنهم حشوية ونوابت إلى آخره.[انتهى الشريط العاشر]
([144])الوِلاية الإمارة، والوَلاية المحبة.
([145]) لعلها: وَرِأْيُهُ.(38/295)
([146]) ما سمعتم من أول الكلام إلى هذا الموطن يبحث في مسألة واحدة، واستطرد في الكلام عليها، وهي ظنُّ المتأخرين أنّ السلف والخلف اتفقوا على أن آيات الصفات وأحاديث الصفات أو الصفات الخبرية التي جاءت في الكتاب والسنة أنه لا يراد بها ظاهرُها، وقد يُعلم المراد وقد لا يُعلم، ظنوا أن الجميع اتفق على أن إيراد فضائلها ممتنع، ثم هل المعنى معروف أو غير معروف؟ على قولين، وكل هذين القولين عندهم لا يخرج على اتفاق الخلف مع السلف، ولهذا يقولون التأويل متفق عليه فالسلف لما لم يثبتوا ظاهر المعنى، وإنما قالوا لا نثبت الألفاظ نجريها على ظواهرها ولا نثبت معانيها، فإن هذا مصير منهم إلى تأويلها، ولكن إلى غير معنى محدد.
وبالتالي فإن زعمهم هذا يؤول إلى تصحيح التأويل بالاتفاق، وسواء كان التأويل إلى معنى كقول المؤولة مثلا الرحمة إرادة النعمة أو أن الغضب إرادة الانتقام وأشباه ذلك، أو أن التأويل إلى غير معناه كقول من يقول نثبت رحمة لا ندري معناها الذي هو قول مفوضة المعنى.
ولهذا جعل الأشاعرة القولين حقا، فجعلوا المفوض للمعنى أو المؤول إلى غير معنى أن هذا منهجا صحيح، وهو قول السلف وقول الخلف، أو المؤول إلى معنى دل عليه العقل أن هذا أيضا قول صحيح، ونظموه في عقائدهم كقول قائلهم:
وكل نصٍّ أوهم التشبيه أوِّله أو فوِّض ورم تنزيها
يعني أوله على معنى معروف، أو فوض المعنى إلى الله؛ يعني لا تؤمن بظاهر ما دل عليه اللفظ.(38/296)
ولهذا يزعمون أن مذهب السلف هو إثبات الصفات لا على معنى، وإثبات الأسماء لا على معنى، كما قال ابن العربي مثلا في موضع من كلامه في العارضة قال: فإن قلت فما معنى الاستواء، قلنا لك الاستواء يرد في لغة العرب على خمسة عشرة معنى -وذكرها-، ولا نعلم المراد من هذه المعاني في قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]. وكذب، فإن الاستواء في لغة العرب معروف المعنى، واحد، معناه واحد، وهو العلو والارتفاع، هذا هو معنى الاستواء ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، ?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى?[القصص:14]، كل مواردها على ذلك.
فهذا الأصل الذي أصلوه وهو أن التأويل متفق عليه بين السلف والخلف، جعلهم يذمون كل مخالف لهم، فالذين يثبتون الصفات عندهم مشبهة، سواء كان إثبات الصفات إثبات بعض الصفات أو إثبات كل الصفات، فعند المعتزلة الأشاعرة مشبهة، وعند الأشاعرة أهل السنة مشبهة، وعند الجميع أهل الحديث والأثر أهل السنة مشبهة مجسمة حشوية نوابت إلى غير ذلك من الألفاظ التي يشنعون بها.
ومسألة الألفاظ والتشنيع على أهل الحق بالألفاظ البذيئة هذه كانت من العلامات الفارقة، لذلك من صنف من أهل السنة في التوحيد أو السنة يذكر مسألة الألفاظ عند ذكر الافتراق، يقول وعلامة أهل البدع تسميتهم أهل السنة والأثر بالحشوية أو النوابت، فإذا رأيت من يطعن على أهل الحديث والأثر في شيء من هذه الألفاظ أو بأمثالها فاعلم أنه على تأسيس ضلالة؛ لأن المسألة قديمة في التشنيع عن طريقتهم بألفاظ مختلفة، مثل ما سموه في هذا العصر الوهابية وما قبله حتى ينفروا الناس منهم، وهي ألفاظ يتداولها المتأخر عن السالف بالتشنيع وبالصد عن ذكر الله وعن السنة.(38/297)
فالمقصود أن العبرة اتِّباع الكتاب والسنة وأن السلف متفقون على إمرار هذه الآيات والأحاديث على ظاهرها ومعنى ذلك إثباتها على ما دلت عليه من اللغة، وأنهم مانعون للتأويل وليسوا قائلين به، وأن الخلف الذين زعموا أن السلف أولوا إلى غير معنى، أي فوضوا، أن هذا باطل وأن طريقة الخلف مخالفة لطريقة السلف جملة وتفصيلا.
فشيخ الإسلام يدور حول هذا المبحث؛ لأنّ طائفة من المبتدعة حسّنوا بدعتهم بالتأويل، بحكايتهم اتفاق السلف على التفويض، والتفويض عندهم ضرب من التأويل.
هناك كلمات مرت في كلام المعتزلي يعني إذا أحببتم أن نذكر معناها فلا بأس (من قال أن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب وأنه مشبه لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد) هذا أصل، لأن هذا الكلام يتردد كثيرا في كتب القوم وفي كلام شيخ الإسلام أيضا يورد مقالاتهم، هذا مبني على فهم ثلاثة أشياء:
الشيء الأول: الأجسام ونوع الأجسام.
الثاني: نوع العرض ونوع الأعراض.
والثالث: معنى التركيب.
ثم نخلص من الثلاثة هذه إلى بنتيجة، هذه المقدمات الثلاث مهم أن تفهمها، حتى تفهم مثل هذا الكلام وأشباهه، مما يلي من شرح الطحاوية وكتب شيخ الإسلام.
الأول الجسم: الجسم نظروا إليه نظرا فلسفيا، كنظر اليونانيين وأشباههم، فقالوا: الأجسام مركبة من أجزاء صغيرة متناهية في الصغر، هي الجوهر الفرد، الذي يسمى الجزيئات التي لا تقبل الانقسام، فكل جسم عندهم مركب من جواهر فردة، جواهر؛ جوهر يعني لا يقبل الانقسام، الآن يسمونه الذرة أو يسمونه الخلية أو إلى آخره، يعني جزء صغير لا يقبل القسمة، نفرض عندك مائة جزء إذا فسمتها شيء واحد إلى مائة وهذا الواحد من المائة لا يمكن قسمته هذا الذي يسمى جوهرا فردا، جوهر باعتبار أنه الأصل الذي لا يقبل القسمة، وفرد يعني أنه ليس بقابل للاثنينية. الأجسام عندهم مكونة من هذه الأجزاء الصغيرة إلى آخره.(38/298)
وأهل السنة فيما حكى عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصفدية وفي النبوات وفي غير ذلك، يقولون إن الأجسام قد تتركب من جواهر فردة، وقد تتركب من جواهر مركبة؛ يعني أن الجسم قد يؤول إلى جزيء واحد لا يقبل الانفصال، وقد يؤول بتقسيمه إلى أكثر من جزيء اثنين ثلاثة مرتبطة منفصلة نظريا؛ لكنها من جهة الواقع غير قابلة للانفصال.
فإذن قول من قال إن الأجسام مبنية على ذرات منقسمة، وأن كل جسم يؤول إلى خلية واحدة، يتصور أن تكون موجودة دون غيرها، هذا ليس من أقوال أهل السنة، بل يقولون قد يكون ذلك في بعض الأجسام، وفي بعض الأجسام لا يمكن أن تكون ثَم جواهر فردة بل لابد أن تكون جواهر مركبة، يعني يؤول التقسيم إلى حقيقة تقبل الانقسام نظريا؛ لكنها واقعيا لا تقبل الانقسام.
وهذا العلم الحديث أيَّد قول أهل السنة في ذلك لأن البحوث المعاصرة الفيزيائية وغيرها تؤيد ذلك حتى في جسم الإنسان وفي الخلايا والمواد المختلفة التي لا محل لبيانها.
عندهم الأجسام هذه صفة جسمية وهي تركبها من الجواهر الفردة، ولها صفة معنوية عرضية وهي حلول الأعراض بها أو قبولها للعَرَض.
والأعراض -وهي المسألة الثانية في بحثنا أو المقدمة الثانية-: الأعراض هي ما يعرض ويزول وصف يعرض بالجسم ويزول، مثل أن يكون مرتفعا، أن يكون له طول، له عرض، له عمق، له ارتفاع، له حرارة، له رطوبة، له برودة، له صفة أخرى من الصفات المعنوية؛ عنده قدرة السمع إلى آخره، هذه كلها أعراض تعرض للجسم وتزول عنه، فهو يعرض له أن يكون طويلا ثم يزول ذلك عنه، يعرض له أن يكون حارّا ثم يزول ذلك عنه، يعرض له أن يكون سامعا ثم يزول ذلك عنه، وهذه الصفات العَرَضية راجعة في الجسم إلى الأجزاء التي تركب منها الجسم، ولذلك صار عندهم إثبات الصفات إثبات للأعراض في الأجسام ومعنى ذلك إثبات للجوهر الفرد، ومعنى ذلك إثبات للتركيب.(38/299)
فآل بهم القول بالمسألة الثالثة وهي أن القول بإثبات الصفات هو إثبات للأعراض في الأجسام، ومعنى ذلك إثبات بأن الله جل وعلا جسم ومركب؛ لأن العرض لا يحل إلا بجسم، لا يمكن أن تجد ارتفاعا بلا مرتفع بلا جسم، لا يمكن أن تجد عمق طول وعرض بغير جسم؛ يعني شيء يقال له طوله كذا وهو ما معنا شيء، هذا عرض طول عندهم صفة لابد لها من موصوف، كذلك الصفات المعنوية مثل العلم والقدرة إلى آخره كلها لابد لها من موصوف.
المقصود من ذلك أن تنتبه إلى أن هذا البحث بحث كلامي سيِّء ولكن لابد من فهمه لفهم كلام شيخ الإسلام ممعنى كلام القوم.
المسألة الثالثة مسألة التركيب: والتركيب عندهم هو تركب الجسم من جواهره الفردة، أو تركب الجسم من أعراض حلت فيه، ومعنى كونه مركبا: أنْ توجد الأشياء الصفات فيه أو الجواهر، الصفات أو الخصائص الجسمية على وجه الانفصال توجد على وجه الانفصال.
لهذا منعوا كل الصفات على هذا الأساس، ولماذا قدموا بهذه المقدمة ذكرت لكم فيما سلف أصل هذا الكلام، وهو أنهم لم يثبتوا وجود الله جل وعلا إلا عن طريق إثبات الأجسام أو الجواهر الفردة وحلول العرض في الجسم، فإنهم أثبتوا وجود الله جل وعلا عن طريق حلول الأعراض في الأجسام، فقالوا وجود العرض -الذي لا يقوم بنفسه- بالشيء، يدل على أن هذا الشيء مفعول به، وهذا من خصائص الأجسام ومعناه أنه هناك فاعلا إلى آخر السلسلة التي تكلمنا معكم بتفصيل فيها في أول الكلام أظن في الحموية أو في موضع آخر.
إذا حصل هذا فنرجع إلى نتيجة هذا كله أن إثبات صفة العلم والقدرة عندهم معناه إثبات لصفات لله جل وعلا، وهذه الصفات تعرض وتزول؛ يعني العلم والقدرة باعتبار المعين عَلِمَ هذا الشيء فلما انقضى المعلوم انتهى تعلق العلم به، فصار من جهة الأجزاء عارضا ثم زال، فصار عَرَضا.(38/300)
فإذن العرض لا يمكن أن يقوم بنفسه كما يقوم الجسم، والجسم لا يقوم إلا بجواهر فردة، فرجع الأمر إلى أن إثبات الصفات يستلزم التعدد، يستلزم عندهم التركيب، يستلزم الجسمية، لهذا قالوا عن كل مثبت للصفات أنه مجسم على حسب اعتقادهم؛ لأنه وإن لم يثبت التجسيم وإن نفى التجسيم عن نفسه فهم كل معتزلي وجهمي يقول المثبت للصفات مجسم وإن لم يقل إنه مجسم؛ لأن حقيقة أمره يؤول إلى التجسيم.
وهذا كله راجع إلى أنهم قدموا بمقدمة باطلة في النظر في الجسم والعرض والتركيب أصل هذه المقدمة بحثها بهذا الشكل غلط، وما نتج عنه جعلوه صوابا، ولاشك أن المبني على غلط يكون غلطا.
الحقيقة هم مثلوا وشبهوا الله جل وعلا بخلقه؛ لأنهم لم يتصوروا وصفا إلا على النحو الذي رأوا فجعلوا الصفات تشبيها.
وهذه المسائل يعني بسطها يعني وتحرير المقام فيها يحتاج إلى أطول من ذلك لكن هذه خلاصتها بما تفهم معه المراد.
.. تقول إثبات وجود الله جل وعلا عندهم كان عن طريق إثبات حلول الأعراض في الأجسام، هذا الأصل، فحلول الأعراض بالأجسام دلهم على أن الجسم محتاج؛ مفعول به، فدلَّهم على أن ثَم فاعل، فإذا أثبتنا الصفات صار عندهم الرب جل وعلا مفعولا به يحتاج إلى فاعل؛ لأنهم ما أثبتوا الوجود إلا عن طريق حلول الأعراض في الأجسام، واضح؟ أنت تأخذ باللازم مثل ما ذكرت أن دليل نفي الصفات هو امتناع حلول الأعراض بالأجسام، هذا الذي أصَّله جهم بن صفوان عليه من الله ما يستحق، وتبعه المعتزلة على هذا الأصل العقلي، تبعه عليه الأشاعرة كلهم يثبتون وجود الله على هذه الطريقة؛ لكن المعتزلة أثبتوا بعض الصفات للدلالات العقلية اللازمة، والأشاعرة كذلك للدلالة العقلية اللازمة، قالوا هذه ما تنافي القرآن.(38/301)
سبق أن أوضحتها لكم بالتفصيل، وهي تحتاج إلى درس خاص؛ لأنها إذا فهمت هذه المسألة كل مسائل الصفات وكلام القوم -أهل الكلام أو المعتزلة أو الأشاعرة- كلها مضبوطة بهذا الباب، إذا فهمت هذه المسألة انتهى، كل الباقي سيفهم، سواء الكلام العقلي لهم أو الألفاظ التي يستعملونها لها دائرة على هذه المقدمات الثلاث الأجسام الأعراض التركيب، إذا فهمت هذه الثلاث انتهى، نعم...
([147]) يَجري أو يَجري.
([148]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما ينفع، ونعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع.
اللهم يسر لنا الأمر كله العلم والعمل، وفيما تحب وترضى.
أما بعد: فهذا الكلام الذي ابتدا به شيخ الإسلام هذا المقطع قال فيه (وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة) وهذه الأقسام جاءت من جهة السبر والتقسيم؛ يعني أن هذه الأقسام الممكنة:
إما أن تجرى على ظاهرها.
وإما أن لا تجرى على ظاهرها.
وإما أن يسكت فلا يقال نعلم ظاهرها أو لا نعلم ظاهرها.
وكل قسم ينقسم إلى قسمين، فصارت ستة:
فالأولون هم الذين يقولون نجري هذه على ظاهرها، وهؤلاء هم المنتسبون في الجملة إلى السلف الصالح رضوان الله عليهم؛ لأن السلف أجروا الأحاديث على ظاهرها، وما فسروها بما يخالف ظاهرها؛ بل أيدوا ظاهرها [بالتفسير]، وهذا التقرير العام لـ: أن السلف مجمعون من الصحابة والتابعين على عدم صرف هذه الألفاظ عما دل عليه ظاهرها، أخذ به من بعدهم -يعني من بعد الصحابة ومن بعد التابعين- أخذ به طائفتان:(38/302)
الطائفة الأولى المجسمة: الذين فهموا من الظواهر أنها تشبيه لصفات الخالق بصفات المخلوق، وأنها مثلها اليد كاليد، والعينان كالعينين، والسمع كالسمع، والبصر كالبصر وهكذا، من حيث الكيفية، وهؤلاء هم الذين سماهم السلف المجسمة الممثلة، ووصفوا مذهبهم بالكفر.
هؤلاء أُتُوا من جهة أن إثبات الظاهر ما المراد به؟ ظاهر الألفاظ ما المراد به؟ ظنوا أن الظاهر المراد منه ما يفهمه الإنسان من هذه الكلمة من جهة المعنى والكيفية؛ لأنَّ القرآن أنزل بلسان عربي مبين، فلن يعقل منها إلا هذا وهذا يعني إلا هذا المعنى وهذه الكيفية.
فإذن جاء ضلالهم من جهة فهم معنى الظاهر فهموا الظاهر أنه مثل ما للمخلوق، والسبب أن الله وصف المخلوق بصفات ووصف نفسه الجليلة بصفات وما فرَّق من حيث دلالة الألفاظ بين هذا وهذا بكلام يصرف الكلام عن ظاهره، فجعلوا هذا وهذا سواء، وقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فسَّروه بغير تفسير المماثلة في الكيفية، وإنما فسروه بمنع المماثلة في تمام المعنى دون الكيفية.(38/303)
الطائفة الثانية: ممن قالوا بإجراء اللفظ على ظاهره هم –يعني داخلة في القسم الأول الذين يجرون الألفاظ على ظواهرها- الطائفة الثانية ممن يجرون اللفظ على ظاهره: هم المنتسبون للحديث والسنة، فهم مجمعون على أن هذه الألفاظ يجب أن تجرى ظواهرها على الوجه اللائق بالله جل وعلا، وفهموا من كلام السلف أنه يجب إجراء الألفاظ هذه على ظواهرها والإيمان بما دل عليه ظاهر اللفظ، وقالوا ظاهر اللفظ لا يدل على الكيفية ولا يدل على تمام المعنى؛ بل ظاهر اللفظ في المخلوق ما يناسب ذاته، ظاهر اللفظ بالنسبة لجلال الله جل وعلا ما يناسب ذاته، فالمخلوق له من الصفة مثل ما لذاته، والله جل وعلا له من هذه الصفات يعني من ظاهرها ما يناسب ذاته، وذاته كاملة الكمال المطلق وصفاته كذلك، لهذا أجروا القاعدة القول في الصفات كالقول في الذات، يُحتذى فيه حذوه وينهج فيه على منواله، فكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود ومعنى لا إثبات كيفية.
والأولون -المجسمة- لم يقولوا إنَّ وجود الله جل وعلا مماثل لوجود المخلوق، ولهذا كل من خالف منهج السلف فهو ملزم بالتناقض، فإنه لابد أن يتناقض بين ما أثبت وبين ما نفى، بين ما حمل عليه الألفاظ -حمل عليه الأدلة- وبين ما لم يحمل عليه الأدلة.
المنتسبون للسلف الذين أجروا الألفاظ على ظاهرها هؤلاء ينقسمون على ثلاث طوائف:
?الطائفة الأولى: هم الحقيقون بصحة الانتساب إلى مذهب السنة والحديث، وهم الذين أثبتوا الصفات ولم يخالفوا منهج الصحابة والتابعين فيها؛ بل كان إثباتهم لها إثبات وجود وإثبات معنى على ما دل عليه اللفظ، وهذا هو مذهب أهل السنة والحديث بكل الصفات.
?والطائفة الثانية: الذين قالوا نجريها على ظواهرها، وظواهرها غير معلومة لنا، ومعنى الإجراء على ظاهرها أننا نذكر اللفظ ونسكت عن المعنى، هؤلاء هم المفوضة.(38/304)
?والطائفة الثالثة: من أجروا هذه الألفاظ على ظاهرها؛ لكنهم غلوا في إجرائها على ظواهرها، بحيث فسَّروا الظواهر باللازم، فأثبتوا صفات لم ترد باللوازم، وهذا عليه طائفة من الغلاة في الإثبات من المنتسبين للحنابلة ولغيرهم، ولهذا قال شيخ الإسلام قال بعضهم: رجلان جنى عليهما أصحابهما جعفر الصادق وأحمد بن حنبل؛ فإن أصحاب جعفر -يعني الشيعة الذين انتسبوا إليه وسُموا بالجعفرية- حرفوا طريقة جعفر وكان فقيها على مذهب أهل السنة، وصرفوا ذلك ونسبوا إليه كتبا في التوحيد وفي الفقه بما يخالف ما كان عليه حقيقة، وكذلك طائفة كبيرة من أصحاب أحمد المنتسبين إليه وليسوا من فقهاء الإسلام في التوحيد وفي السنة وفي الفقه؛ بل كانوا من المنتسبين إليه ومن غير العلماء بمذهبه، غلوا في الإثبات حتى نسبوا أشياء إليه لا يصح أن تنسب إليه، فأثبتوا باللوازم الصفات، وقالوا ظاهر اللفظ لابد له من إثبات ما يلزم منه، لهذا أيدوا هذه اللوازم بالأحاديث الضعيفة الكثيرة، كما فعله طائفة من مثل أبي يعلى في كتابه إبطال التأويلات، وأشباه هؤلاء، فيجعل من لازم إثبات القدم لله جل وعلا إثبات تركب الساق عليها؛ لأن هذا هو الظاهر، ويجعل من إثبات... [انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر] وما روي ويثبتون العضد والمنكب والجنب وأمن هذا على حسب اللوازم وما أيده اللازم من أحاديث رويت في هذا فهي إما غير صحيحة وإما لها دلالة غير ما ذهبوا إليه.
المقصود من هذا أن هؤلاء أعني من أثبتوا الظاهر سواء أكانوا مجسمة أو كانوا من أهل الحديث والسنة أو كانوا من الطوائف التي ذكرنا هؤلاء الخلاف بينهم في تفسير معنى الظاهر، فتنتبه إلى أن المراد من تفسير الظاهر ما هو؟ فإذا حدد فحدد فهم هذه المذاهب.(38/305)
ساق شيخ الإسلام المثالين على أن إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وهذان المثالان ساقهما أيضا في كتابه المعروف التدمرية، وهما: مثال الجنة وما فيها، والروح. وهما واضحان في الدلالة على ما أراده رحمه الله.
.. ولا شك هو على قاعدة الإمام مالك المتفق عليها: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. فالاستواء غير مجهول المعنى، والكيف غير معقول. فثَم كيفٌ لكنه غير معقول، نحن لا ننفي الكيفية لكن ننفي أن تكون الكيفية ككيفية اتصاف المخلوق بالصفات، أما كيفية اتصاف الرب جل وعلا بصفاته فلا يعلمها إلا هو سبحانه. نعم.
([149])في الروح مذهبان:
الأول: مذهب الفلاسفة في الروح.
والثاني: مذهب أكثر أهل الكلام.
الفلاسفة عندهم أن الروح خُلقت في الأزل أو أنها موجودة في الأزل، وللبقاء هي، وأنها تهبط لتدخل الجسد الذي يلائمها، وأنها إذا دخلت الجسد فإنها شيء واحد لا يتجزأ؛ لا ينفك عن الجسد إلا إذا لم يصلح الجسد لبقاء الروح فيه فتنفصل، فإذا انفصلت ذهبت إلى جسد آخر أو حُفظت.
وهذا هو مذهب الفلاسفة المعروف عنهم، وعندهم أنها ملازمة لا تنفك، لا تذهب لا تجيء، شيء واحد غير منقسمة؛ لأنها إذا خرجت معناه أنها ذهبت الحياة.
وأهل الكلام -أعني أكثرهم- يقولون هي جزء من أجزاء البدن مثل [...]، ومثل [الهضم] في الإنسان ومثل حركة القلب ومثل، ومثل ما يجري في بني آدم أو في الكائنات الحية، فالروح والنفس مثل هذه الأشياء جزء من أجزائه، أيضا لا تنفك عنه.
وهذا وهذا لاشك أنهما مخالفان لما دلت عليه النصوص في شأن الروح.
قصده من هذا التمثيل: أن الروح إثباتها بالاتفاق إثبات وجود لا لإثبات كيفية، وكذلك الصفات؛ صفات الرب جل وعلا إثباتها إثبات وجود لا إثبات كيفية. نعم
([150]) عما علمناه يعني بالعقل.(38/306)
([151]) (والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة)، بالطريقة الثانية أو الثابتة؟ ما معنى الثابتة؟ الحقيقة ما هي واضحة. بالطريقة الثابتة كأنها الثانية لكن..، هو قسّم ست أقسام والطريقة الثانية أيدها وكأنه يريد الثانية. أنتم تأملوها.
([152]) هذان القسمان المتوسطان -يعني في التقسيم- وهم الذين قالوا إن هذه لا تجرى على ظواهرها، يقولون: إن هذه الآيات والأحاديث لها معنى باطن لها معنى في الحقيقة؛ لكن المعنى ليس هو ما دل عليه الظاهر لأن الظاهر غير مراد للشارع بدلالة قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11].
وهذا الظاهر لما ذهب المجسمة إلى فهم الآيات والأحاديث على ظاهرها في التجسيم فيجب أن ينفى دلالة هذا الظاهر، وهؤلاء فروا من شيء إلى غيره لأجل شناعة من أثبت الظاهر وهم المجسمة، ولو فهموا معنى كلام السلف لما عدلوا عنه إلى غيره.
في الحقيقة هذا القول الذي تبناه ابن كلاب وتبعه عليه الأشعري وجماعة.(38/307)
الأشعري ومن معه لم يكونوا يعرفون حقيقة مذهب السلف، ولذلك يشكل عليه في كثير من المواضع مذهب السلف، فلا يعرفونه، ولما ساق الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين، ساق مذهب السلف ومذهب أهل الحديث، وقال في آخره: وبما قال به أهل الحديث أقول، وإلى ما ذهبوا إليه أذهب. إنما ساق مذهبهم إجمالا، ما ساقه على وجه التفصيل، ولما ساق مذاهب المبتدعة من أصحاب الفرق المختلفة ساقها على مذهب التفصيل، فيفصل أقوالهم في كل مسألة، وليس عنده من العلم بكلام أئمة السنة من التابعين ممن تكلموا في الصفات والأمور الغيبية، وعلماء السنة وممن أتى بعدهم، ليس عندهم من العلم بها ما يجعله يفهم مذهب السلف، وبناء على فهمه وكلامه نشأ الأشاعرة والمتكلمون في أكثر ما ذهبوا إليه، ولهذا لا يفهمون من إثبات الظاهر إلا ما عند المجسمة، هذا أصل الضلال في هذه المسألة؛ لأن الأشعري ما فهم تفاصيل كلام السلف بل ولا علمها، وإنما علم مذهبها جملة.
ولهذا لما صنف كتاب الإبانة تصنيفه له معروف وهو في الجملة مقبول؛ لكنه أيضا فيه إجمال تكلم عن كذا مسألة وأجمل قبول ما عليه الإمام أحمد بن حنبل.
لهذا نقول: إن الذين قالوا لا تجرى على ظواهرها استحضروا لإجراء الظواهر مذهب المجسمة، فأرادوا أن يفروا منه إلى ما لا إشكال فيه، فنفوا إرادة الظاهر، وهذا لاشك أنه أصل باطل في هذا الباب.
هذا منشأ الضلال عند من قال لا تجرى على ظواهرها.(38/308)
ومنشأ الضلال الثاني أنهم جعلوا العقل أصلا وجعلوا النقل تابعا، وعندهم العقل هو القاضي والنقل هو الشاهد، ولهذا ما دلَّت دلالة العقل على منع اتصاف الرحمن به فإنهم يمنعونه ولو جاء في النص، ولهذا اختلفوا منهم من أثبت ثلاث صفات وهم المعتزلة، منهم من أثبت سبعا وهم الأشاعرة، ومنهم من أبت ثماني صفات وهم الماتريدية، ومنهم من أثبت خمسة عشر، ومنهم من قسم إلى صفات وجودية وسلبية ومعاني ومعنوية وأوصلوها إلى عشرين، إلى تقسيمات لهم منهم من أثبت الأحوال دون غيرها.
فهذه التقسيمات كلها راجع الخلاف فيها على أن دلالة العقل ما هي؟ فلما لم يتفقوا على دلالة العقل لم يتفقوا على ما يثبتون من الصفات، فتنظر مثلا إلى المسألة الكبيرة بين الأشاعرة والماتريدية -وكلهم في الغالب واحد؛ لكنهم اختلفوا في شيء وأربعين مسألة بعضها من جليل المسائل وبعضها من دقيقه فاختلفوا في إثبات الصفات فقال الأشاعرة بإثبات سبع وزاد الماتريدية صفة ثامنة وهي صفة التكوين، وقالوا صفة التكوين يعني أنه سبحانه هو الذي يكون الأشياء فيخلق ويصوِّر ويبرأ بقوله كن فيكون ففهموا من قوله ?هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ?[الحشر:24] صفة التكوين وأنه سبحانه ينشئ ما قدر وما خلق وصور بقوله كن، وكل ما يلزم لتكوين المخلوق هو داخل في ذلك فيحدثونه بأصل الصفات، وهذا الفرق بينهما لأجل أن دلالة العقل لا تمنع، فلابد بصفة خاصة بالتكوين، أما الصفات الأخرى السمع والبصر والكلام والإرادة والحياة والقدرة إلى آخر السبع -إذا كنا نسينا منها شيء- هذه لا تكفي هناك خلق، فأين صفاته؟
فإذن تجد أن الخلاف في الدلالة العقلية، وهذا مما تمسكوا به في تأويل أو تحريف كل الأسماء والصفات.
والدلالة العقلية عندهم على نوعين:(38/309)
الأول: دلالة عقلية ملازمة دائمة، وهذه هي امتناع مماثلة الله جل وعلا للمخلوق، و امتناع مشابهة، فهذه تجري عندهم في كل الصفة، امتناع المشابهة وامتناع المماثلة، هذه الدلالة العقلية تجعلهم ينفون يقولون هذه الآيات في الصفات ليست على ظاهرها.
والدلالة الثانية: العقلية ليست عامة، وإنما هي خاصة لفظية.
والأول هو المدعى في التأويل.
والثاني هو المدعى في المجاز.
فيقولون مثلا استوى بمعنى استولى، لأنه لا يُعقل من الاستواء استواء المخلوق، وهذا منفي عن الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء أو لأن الله لا يشبه المخلوقين فيحيلون عن الدلالة العامة، وكل مسألة أوَّلوا وأحالوا فيها على التأويل، فهو إحالة على الدلالة العقلية العامة؛ لأن التأويل عندهم صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، والقرينة هذه الحقيقة القرينة والعقلية العامة.
والثاني هي الدلالة العقلية الخاصة، وهي الدلالة اللفظية في المجاز فيما ادعوا فيه من الألفاظ أنه مراد به المجاز، وأنه ليس في وضعه الأول بل هو في وضعه الثاني.
وهو مختلف باختلاف الصفات، يقولون الرحمة مثلا إرادة الإنعام هذا تأويل، وإذا قالوا الرحمة هي الإنعام هذا مجاز، فإذا أحالوها صفة من الصفات السبع التي أثبتوها صار تأويلا، وإذا قالوا الرحمة هي النعمة ، مجاز عن النعمة، اليد مجاز عن القدرة وهكذا فهذا يكون مجازا؛ لأنه صار مرجعه إلى اللفظ يعني إلى الدلالة العقلية اللفظية.
وباقي الأقسام يعني فيها غموض ما نطيل الكلام فيها، أعني من قالوا أننا لا نعلم، المراد البتة هؤلاء هم أهل التجهيل، أو قالوا المراد خفي قد يكون هذا قد يكون هذا أيضا هؤلاء يدخلون في قسم أهل التجهيل.(38/310)
هذا الموضع فيه تفصيل له في أول درء التعارض، في أول درء تعارض العقل والنقل فصّل وأطال شيخ الإسلام لما ذكر مذاهب الناس في الصفات وقسمهم إلى أهل الوهم والتخييل وإلى أهل التجهيل الذين يقولون نجهل المعنى أو الذين صرفوها؛ يعني الأقسام الأربعة الأخيرة.
([153])يتوهم من المقالات المأخوذة تقليدًا، يتوهّم إيش؟ تأويلا لمعظمه؛ لأنه الآن يأخذ الأشياء بالتقليد ما يعرف ووش وراها، انخدع بالألفاظ يعني المتكلمون والضلال وضعوا اصطلاحات وضعوا ألفاظا توهم الناظر فيها أن وراءها علم لا يدركه إلا الخاصة لا يدركه إلا العلماء لا يدركه إلا الأئمة إلى آخره، إنما يؤخذ تقليدا، فتورث هذه الألفاظ تقليدا لهم؛ لأنها تعزل الناظر عن البرهان، فإذا قلدهم فيها أورثته تعظيما لمعظمه وتأويلا لمعظمه. العبارة ماشية صحيحة.
([154]) بعين القدر يعني ما قدر الله عليهم من الضلال وعدم إدراك الهدى والحيرة التي يتخبطون فيها، فانظرهم بعين القدر ترحمهم، وأنظرهم بعين الشرع تبغضهم والله المستعان.
([155]) هذه الجملة من الكلام سمعنا فيها كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وهي حرية منك بإعادة النظر وإمعانه في هذا الموطن؛ لأن الناظر في نصوص الكتاب والسنة وفي كلام السلف يُخشى عليه من شيئين:
الأول: يخشى عليه من الغلو في فهمها أو أن يسيطر عليه الشبهة فلا يفهم النصوص كما ينبغي، وهذا وقع فيه طائفة بل طوائف من هذه الأمة.(38/311)
والثانية: أن يمل من الرجوع إلى النصوص بما دلت عليه وإلى طريقة السلف، ويذهب إلى غير هذا النفي وهذه الطريقة مللا، وهذه من مكايد الشيطان أنه يُمِلُّه من هذا ويقول ما عند الآخرين فيه علم وفيه تفصيل فيعرض عن معرفة تفاصيل كلام السلف وشرحهم وبيانهم للآيات والأحاديث في هذا الباب باب العقيدة والاعتقاد في صفات الله وأسمائه وغير ذلك من أركان الإيمان، فيقبل على ما عند العقلانيين من المتكلمين والمبتدعة والضلال، فإذا نظر في كلامهم رأى في كلامهم عجبا من جهة تنوع الألفاظ وتجددها وكثرة المصطلحات، وهذه قد تغري الناظر بأن وراءها علما، وإنما وراءها كما قال شيخ الإسلام سراب لا العلم فكل الكلام والفلسفة فيه حريق وظلمة حريق للإيمان وظلمة للقلوب، وزخرفوها بالألفاظ والاصطلاحات حتى غدت عجيبة في كثرة ما يوردون وما زعموا أن طريقتهم برهانية صحيحة، فالواقع أن طريقتهم عقلية مخالفة لطريقة السلف والاعتماد على ما جاء في الكتاب والسنة.
فإذن تنتبه على أن أصل الضلال هو الذهاب إلى أحد الطريقين:
الطريق الأول: وهو أن يغلو العبد في النصوص وأن يُحَمَّلَها ما لا تحتمل أو أن تسيطر عليها الشبه فيها ولا يعلم ما دلت عليه علم الحق واليقين.
والثاني: أنه يخشى عليه من الملل؛ الملل من قراءة كتب السنة والحديث والتوحيد على طريقة السلف فيذهب إلى غيرها فيحصل عنده أولا إعجاب ثم بعد ذلك تحصل عنده شبهة ثم بعد ذلك يحصل عنده بدايات الانحراف والضلال ولهذا قال من قال من السلف: لا تصغي إلى ذي هوى بأذنيك فإنك لا تدري ما يوحي إليك.
ولا شك أنَّ كلام المتبعين للسلف قليل كثير الفائدة وأن كلام غيرهم كثير قليل الفائدة إن لم يكن كثيرٌ كثيرَ المضرة.
والمتكلمون أقل كلاما من الفلاسفة والفلاسفة أكثر كلاما من المتكلمين وكل له نصيبه من الضلال عن منهج السلف.(38/312)
فإذن الواجب علينا أن نضرع إلى الله جل وعلا دائما في أن يرينا الحق حقا، وأن يمنَّ علينا باتباعه في المسائل العظيمة وفي المسائل التي قد تبدو غير عظيمة.
فلنضرع دائما إلى الله في أن يلهمنا الحق وأن يرينا الحق حقا وأن يمن علينا باتباعه.
وأن نضرع إلى الله دائما أن يهدينا طريق عباده المتقين الذين رضيهم ورضي عنهم سبحانه وتعالى، ووصفهم الرب بقوله ?وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا(66)وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا(67)وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(68)وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا?[النساء:66-70].
إذا كان كذلك، فالاهتمام بطريقة السلف لا تنتهي، لا يقول طالب العلم أنا عرفت طريقة السلف عرفت مذهب السلف أريد أن أعرف ما عند أهل الفرق أريد أن أعرف ما عند المتكلمين، ونحو ذلك، فيأتيه النقص والضلال من هذا.
فكلام أهل العلم في الاعتقاد ينسى إذا ما حافظ عليه العبد بالترداد والقراءة، والرجوع على الأصول التي تعلمها بين حين وحين، وإذا تركه واقبل على غيره صار جناية على ما سبق أن تعلمه وانتفع به من كلام أئمة أهل الحق والدين.
أسأل الله سبحانه أن يرفع درجة شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يجزيه عن الموحدين خير الجزاء، فإن في عنق كل موحد ومتبع للسلف في عنقه لشيخ الإسلام رحمه الله منة، ولشيخ الإسلام علينا منة، فيجب علينا أن نسأل الله جل وعلا له دائما رفعة الدرجات وأن يجعله ربنا مع الصديقين ومع أهل المقامات العالية والدرجات الرفيعة.(38/313)
وأسأله سبحانه أن يمكن في قلوبنا العلم النافع، وأن يثبت ما تعلمنا منه يعني من كتب شيخ الإسلام في قلوبنا، وأن يمن علينا بالدعوة إلى ذلك وبتعليمه وبالصبر عليه، فإن في ذلك الفائدة العظيمة لنا في الدنيا والأخرى.
اللهم فثبتنا وتقبل منا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
تم بحمد الله(38/314)
شرح لُمعة الاعتقاد
الهادي إلى سبيل الرشاد
موفق الدين بن قدامة المقدسي
هذه دروس علمية قيمة بعنوان شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ والتي ألقاها في مسجد حمزة بن عبد المطلب بالدمام ابتداء من فجر الثلاثاء 28من شهر الله المحرم 1413هـ حتى فجر الخميس غرة شهر صفر 1413هـ وقد كانت هذه الدروس بإشرافٍ من مركز الدعوة والإرشاد بالدمام.
بسم الله الرحمن الرحيم
1- الحَمْدُ للهِ المحمُودِ بِكُلِّ لِسانٍ، المعبودِ في كُلِّ زَمانٍ، الَّذِي لا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكانٌ، ولا يشغَلُه شانٌ عن شانٍ، جلَّ عَنِ الأشباهِ والأنْدادِ، وتَنَزَّهَ عَنِ الصَّاحِبَةِ والأولادِ، ونَفِذَ حُكمُهُ في جميعِ العبادِ، لا تُمَثِّلُهُ العقولُ بالتفكيرِ، ولا تَتَوَهَّمُهُ القلوبُ بالتصوير، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، { لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } ([1]) والصفاتُ العُلى، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [طه:5-7]، { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق:12]، وقَهَرَ كلَّ مخلوقٍ عِزَّةً وحُكْمًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلمًا، { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه:110]، مَوْصوفٌ بما وصفَ به نفسَهُ في كتابِهِ العظيمِ، وعلى لسانِ نَبِيِّهِ الكريمِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:(39/1)
فهذه الرسالة الموسومة بلُمعة الاعتقاد من نبذ العقيدة؛ يعني من متونها المختصرة، وقد ضمّت مباحث الاعتقاد، وأثنى عليها العلماءُ بعد الموفَّق رحمه الله تعالى، وهي حقيقةٌ بأن تفصل كلماتها وجُملها، وأن تُبين مباحثُها بشيء من التفصيل، ولمّا كانت هذه الأيام الثلاث التي نستقبلها لا تكفي ولا تفي؛ بأن تُشرح هذه العقيدة شرحا وافيا، لهذا سنمرُّ عليها مرورا فيه إيضاحُ كثير من مسائلها على شكلِ ووجه الإيجاز.
وهذه الخطبة التي ذكر المؤلف بين يدي كتابه ورسالته، فيما يسميه علماء البلاغة براعة الاستهلال؛ و براعة الاستهلال يعتني بها أهل العلم، ومعناها أن يُضمِّنوا الخطبة التي بين يدي كتبهم، أو بين يدي كلامهم وخطبهم؛ يضمنونها ما سيتكلمون به أو يُفصِّلونه، فلما كان بحثُ هذا الكتاب في الاعتقاد، وفي تنزيه الله جل وعلا، وما يستحقه جل وعلا، وهذا أعلى وأعظم ما في مباحث الاعتقاد, ضمّن هذه الخطبة الثناء على الله جل وعلا، وذِكر استواءه جل وعلا على عرشه، وذِكر علمه جل وعلا واحاطته بكل شيء، وذَكر أنه جل وعلا موصوف بما وَصف به نفسه، وغير ذلك مما بيَّنه في هذه الخطبة، وأمّا خطبة الحاجة المشهورة التي وردت في حديث ابن مسعود وغيره، مِن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين يدي حاجاته ”إن الحمد لله نحمده ونستعينه...“ إلى آخره، فهذه مشروعةٌ بين يدي الحاجات وكثيرا ما كان يقولها عليه الصلاة والسلام، ولكن ليس هذا أمرا مطَّردا، ولهذا أهل العلم تارة يبدؤون كتبَهم وخطبهم ومؤلفاتهم بتلك الخطبة المعروفة بخطبة الحاجة، وتارة يجعلون خطبهم مذكورة بما يريدون ذكره في خطبتهم أو مؤلفهم أو رسالتهم، وهذا هو الذي أسلفتُ لك أنه يسمى براعة الاستهلال، ولهذا يجتهد أهل العلم في الابتداء بمثل هذا اللفظ العظيم الموجز الذي يدلّ على المراد، بل ويتنافس العلماء في أن يُضمِّنوا صدور خطبهم لكتبهم ولغيرها ما يريدون إيضاحه في كتبهم أو في(39/2)
خطبهم ونحو ذلك.
المسألة الثانية أن مباحث الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة مبنية على شرح أصول الإيمان الستة؛ ألا وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ فالإيمان بالله يشمل الإيمان بأنه جل وعلا واحد في إلهيته مستحق للعبادة دونما سواه، والإيمان بأسمائه جل وعلا وصفاته، وأنه واحد في أسمائه وصفاته لا شبيه له ولا مثيل في أسمائه وصفاته، وهذا البحث -أعني الكلام على الإيمان بالله- لم يكن في أول الإسلام -يعني في القرون الأولى-؛ لم يكن ثَمََ حاجة إلى إفراد الكلام عن توحيد الألوهية بخصوصه؛ وإنما كانوا يكتفون بالإجمال فيه لأجل عدم وقوع الشرك في هذه الأمة وعدم ظهوره، فكانت جُل مباحث الاعتقاد فيما يتصل بمبحث الإيمان بالله عن الأسماء والصفات، وغيرُها يُعرض له بشكلٍ من الإجمال، لكن لما ظهر الشركُ وفشى كان لزاما أن يفرد هذا بالتصنيف، ولهذا لا تجد في مباحث الاعتقاد التي في هذه الرسالة الكلام مفصلا عن توحيد العبادة وعن توحيد الالهية بما اعتنى به العلماء من بعد، وإنما تجد الكلام مفصلا في مباحث توحيد الأسماء والصفات، وهذا لأجل الحاجة إليه في زمن تأليف مثل تلك الرسالة، فكلَّما كانت حاجة العباد إلى إيضاح أمر أكثر كلما اعتنى به أهل العلم، وأظهرُ إذن كتبُ توحيد الإلهية توحيد العبادة مثل كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وثلاثة الأصول ونحوها من الكتب هذه فيها بيان لتوحيد الإلهية الذي هو أحد مباني العقيدة في ركنه الأول وهو الإيمان بالله. ثم يذكر الإيمان بالملائكة والكتب والرسل -كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى-، ثم الإيمان باليوم الآخر وهذا يدخل فيه الإيمان بالغيبيات، إذا أتى أهل العلم للكلام على اليوم الآخر والإيمان به فإنهم يذكرون الكلام على الغيبيات وما يجب على المسلم اعتقاده فيها، وطريقة أهل السنة والجماعة فيها المخالِفة والمنابِذة لطرق أهل الزيغ(39/3)
والضلال والبدعة، ثم الإيمان بالقدر خيره وشره، فإذا تم بيان أركان الإيمان الستة ذكروا ما يتبع ذلك من أمور الاعتقاد التي اعتنى بها أهل السنة والجماعة؛ وهي في أصلها ليست من مسائل الاعتقاد، لكنها أُدرجت في مسائل الاعتقاد لأجل الحاجة إليها من جهة أن أهل السنة والجماعة خالفوا فيها أهل الزيغ والضلال وأهل البدعة والفرقة؛ من مثل الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومن مثل الكلام في أمهات المؤمنين جميعا على المؤمنين بعامة، ومن مثل الكلام في الإمامة وما يجب من طاعة أولي الأمر في المعروف، وأن الإمامة واجبة، وأن البيعة للإمام الذي بُويع أنها متعيِّنة، ولا يجوز الخروج على الأئمة بجورهم وتجب الصلاة خلفهم والجهاد معهم، ونحو ذلك من مباحث الإمامة التي خالف بها أهل السنة والجماعة الخوارج والمعتزلة ومن شابههم, كذلك يذكرون من مباحث الاعتقاد مثل المسح على الخفين، وذلك مخالفة لمن لا يرى المسح على الخفين، كذلك يذكرون في مباحث الاعتقاد كرامات الأولياء وما يُجري الله على أيديهم من أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كما هو معلوم ويبسطون ذلك لأجل وجود من يُخالف في الأولياء وفي كراماتهم من جهة إنكارها تارة كما فعلت المعتزلة، ومن جهة الغلو في الأولياء حتى جعلتهم طائفة فوق منزلة الأنبياء، وهكذا مسائل الأخلاق تُذكر ضمن مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة.
إذن فمعتقد أهل السنة والجماعة يشمل هذه الأمور جميعا، وليس معتقد أهل السنة والجماعة خاص بالاعتقاد في الله جل وعلا وأسمائه و صفاته واليوم الآخر والقدر كما قد يُظن؛ بل معتقد أهل السنة والجماعة يشمل هذا جميعا، لأنه به فارقوا أهل البدع والزيغ الذين يردُّون النصوص، ولا يلتزمون بالسنة، ولا يخضعون لها ويحكِّمونها على أنفسهم تحكيما تاما، وبهذا التوجّه تميَّز أهل السنة بأنهم يعظمون السنة ويعظمون أهلها، وينبذون من خالفها أو خالف أئمتها.(39/4)
إذن فنحن فيما نستقبل إن شاء اللهُ تعالى سنعرض بإيجاز لهذه المباحث التي سيذكرها المؤلف بدون تطويل ولا تفصيل، مع أنه كان ينبغي أن تُفَصَّل، لكن لما كان الوقت قصيرا فإننا نكتفي بإشارات مجملة.
?????
2- وكلُّ ما جاءَ في القرآنِ أو صَحَّ عنِ المصطفى عليه السلامُ منْ صفاتِ الرحمنِ وَجَبَ الإيمانُ بِهِ وتَلَقِّيهِ بالتَّسْليمِ والقَبُولِ، وتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُ بالرَّدِّ والتَّأْويلِ، والتَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ. وما أَشْكَلَ مِنْ ذلك وَجَبَ إثْباتُه لفْظا، وتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِمعْناه، ونرُدُّ عِلْمَه إلى قائله، ونجعلُ عُهْدَتَهُ على ناقِلِه، إتِّباعا لطريقِ الرَّاسِخِين في العِلْمِ، الّذين أثْنَى اللهُ علَيْهِم في كتابِهِ المُبين بقوله سبحانَهُ وتعالى { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7]، وقالَ في ذَمِّ مُبْتَغِي التَّأْوِيلِ لمتشابِهِ تَنْزِيلِهِ { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران:7]، فَجَعَلَ ابْتِغَاءَ التَّأْويلِ علامَةً الزَّيْغِ وقَرَنَهُ بابْتِغَاءِ الفِتْنَةِ في الذَّمِّ، ثم حَجَبَهُمْ عمَّا أَمَّلُوهُ، وقَطَعَ أَطْمَاعَهُمْ عمَّا قَصَدُوهُ، بقوله تعالى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران:7].
هذا بيان للأصل الأول؛ ألا وهو أنّ أهل السنة والجماعة تميّزوا عن غيرهم بالتسليم لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القرآن العظيم ومن سنته عليه الصلاة والسلام، فسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي، والقرآن كلام الله جل وعلا، فما أتانا في الكتاب والسنة وجب اعتقاده والتسليم له، وتصديقه في الأخبار، وإتباعه في الأمر والنهي والأحكام.(39/5)
وهاهنا ذكر المؤلف أن ما أشكل من النصوص وجب الإيمان به لفظا وترك التعرض لمعناه، وهذا لأنّ أهل السنة والجماعة قالوا: إن النصوص - نصوص الكتاب والسنة- واضحة بيّنة. لأن الله جل وعلا أنزل كتابه وجعله واضحا بيِّننا بلسان عربي مبين.
o وجعله محكما كما قال جل وعلا { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1]؛ فجعل جل وعلا كتابه كله محكما؛ يعني بيّنا واضحا لا يستبهم معناه، ولا يغمض ما دل عليه على الناس.
o كذلك هو جل وعلا ذكر أن كتابه متشابه، فقال جل وعلا { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } [الزمر:23] فجعله كلّه متشابها ومعنى ذلك أنه يشبه بعضُه بعضا.
o وفي آية آل عمران جعل جل وعلا { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران:7] وهذا يعني أنّه منه ما هو واضح بيّن، ومنه ما هو مشتبه.
فكيف نجمع بين هذه الآيات الثلاث؟ المؤلف ذكر الخلاصة لكن تحتاج إلى إيضاح.
فنقول: القرآن محكم كله، ومتشابه كله، ومنه محكم ومنه متشابه:
فالإحكام بمعنى الوضوح والبيان فهو كله واضح بيّن على جنس الأمة، قد لا يكون واضحا بينا لكل أحد، لكنه واضح بيّن لجنس الأمة.
كذلك وصفه بأنه متشابه بقوله { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } [الزمر:23] يعني يشبه بعضه بعضا، فهذا أمر وهذا أمر، وهذا نهي وهذا نهي، وهذا خبر وهذا خبر، وهذا وصف للجنة وذاك للجنة، وهذه قصة لنبي من الأنبياء وهذه قصة للنبي نفسه، وهكذا بعضه يشبه بعضا.(39/6)
أمّا الثالث -يعني القسم الثالث- هو ما ذُكر في آية آل عمران بقوله { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ } [آل عمران:7] يعني بعضه محكم واضح المعنى بيِّن الدلالة، وبعضه ليس كذلك؛ مشتبه المعنى ومشتبه الدِّلالة، وهذا المشتبه المعنى والمشتبه الدِّلالة لا يوجد في القرآن ولا في السنة عند أهل السنة والجماعة بمعنى التشابه المطلق؛ يعني أن قوله تعالى { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران:7] يُعنى به التشابه النسبي الإضافي؛ يعني أنه يشتبه على بعض الناس دون بعض، أمّا التشابه المطلق بحيث يقال هذه الآية من المتشابه، أو يقال { الم } ([2]) هنا من المتشابه يعني لا أحد يعلم معناه فهذا من الخطأ، ولا يقول به أهل السنة، بل أهل السنة يقولون: إنه يُمكن أن توجد الآيات تشتبه على بعض أهل العلم فلا يُعلم معناها. لا يُعلم معناها من جهة هذا المطالع، لكن ليس من جهة الأمة بأجمعها، فيعلم بعض أهل العلم المعنى، والبعض الآخر لا يعلم المعنى، ولهذا ابن عباس لمّا تلا هذه الآية قال ”أنا ممن يعلمون تأويله“ فإذن يُقال هذه الآية من المتشابه لا يوجد المتشابه المطلق؛ يعني الذي لا يعلم أحد معناه، بل لابد أن يوجد في الأمة من يعلم معنى كل نص، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، نزل ليهتدي به الناس، كذلك السنة، فلا يوجد نص يشتبه على جميع أهل العلم وعلى الأمة, لا، وهذا القول بأنه هناك ما يشتبه على الجميع، ولا يفهم معناه الجميع، هذا إنما هو قول أهل البدع.
فإذن المؤلف هنا قسم إلى قسمين:
باعتبار بعض الناس لا باعتبار الجميع فقال (النصوص نتلقاها بالتسليم والاعتقاد من غير أن نرُدها أو نُشبِّه أو نمثل) وهذا هو في القسم الأول يعني الآيات المحكمات الواضحات.(39/7)
ما اشتبه عليك قال (وجب الإيمان به لفظا) وهذا اللفظ الذي ذكره في قوله (وجب الإيمان به لفظا) مما أُنتقد على الإمام موفق الدين بن قدامة فإنه في هذه العقيدة الموجزة اُنتقدت عليه ثلاث مسائل هذه أولها وهي قوله (وجب الإيمان به لفظا) ويمكن أن يُخَرَّجَ كلامه يعني أن يُحمل على محمل صحيح
أما الانتقاد فهو أن يُقال: إن الواجب أن نؤمن به لفظا ومعنىً، لكن إذا جهلنا المعنى نؤمن بالمعنى على مراد الله جل وعلا، أو على مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم -،كما سيأتينا من كلمة الإمام الشافعي أنه قال ”آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله“ يعني إذا جهل المعنى, فإذا جهلتَ المعنى تؤمن باللفظ والمعنى لكن المعنى على مراد من تكلم به، ووجه الانتقاد الذي اُنتقد به الإمام ابن قدامة في هذه اللفظة أنه يجب الإيمان باللفظ والمعنى، أمّا الإيمان بلفظ مجرد عن المعنى فهذا هو قول أهل البدع؛ الذين يقولون: نحن نؤمن بألفاظ الكتاب والسنة دون إيمانٍ بمعانيها لأن معانيها قد تختلف. والجواب أن هذا غلط بل معاني الكتاب والسنة هي على المعنى العربي فالقرآن نزل بلسان عربي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بلسان عربي، فلهذا وجب أن يُؤْمَنَ بالكتاب والسنة على ما تقتضيه لغة العرب، وعلى ما يدل عليه اللسان العربي، وهذا أصل من الأصول لكن إذا اشتبه عليك المعنى؛ كلمة في القرآن ما علمت معناها, حديثا إمّا في الصفات أو في الغيبيات لم تعلم معناه، نقول نؤمن به لفظا ومعنىً؛ يعني معناه مفهوم، لكن على مراد الله، ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الذي جاء في الآية حيث قال جل وعلا { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ(39/8)
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7].
هنا قال (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ماذا يُعنى بهذا التأويل؟ إذا قلنا أن كل آية لابد أن نعلم معناها وكل حديث لابد أن يوجد في الأمة من يعلم معناه فما معنى (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)؟
الجواب أن ما أنزل الله جل وعلا على قسمين:
1. إمّا أن يكون أخبارا.
2. وإمّا أن يكون أحكاما.
وتأويل الأخبار يكون بوقوعها. وتأويل الأحكام؛ الأمر والنهي يكون بإيقاعها.
فقول الله جل وعلا هنا (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) يعني تلك الأخبار ما يعلم تأويلها إلا الله، لأن الله جل وعلا هو الذي يعلم حقيقة ما تؤول إليه، أو يعلم ما تؤول إليه حقيقة تلك الألفاظ وتلك الآيات، وذلك أن التأويل في القرآن أتى بمعنيين لا ثالث لهما:
الأول: التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء وهذا كما في قوله تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } [الأعراف:53] الآية (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) يعني ما تؤول إليه حقيقة أخباره وأحكامه، فحقيقة الأخبار تؤول إلى ظهورها من الصفات والغيبيات، كذلك الأحكام حقيقتها تؤول إلى ظهور أثر من تمسك بها وامتثلها ممن عصى وخالف، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: وهو فرع عن هذا، التأويل بمعنى التفسير قال { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [يوسف:45] بتأويله يعني بتفسير الرؤيا، وهذا مرتبط بالمعنى الأول؛ يعني الحقيقة التي تؤول إليها الرؤيا في الواقع المشاهَد.(39/9)
فإذن قوله هنا (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ليس هو التأويل الحادث الذي يقوله بعض أهل الأصول؛ وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لمرجح أو لقرينة تدل عليه. لا، هذا إنما هو اصطلاح حادث، أما التأويل فهو في القرآن والسنة له معنيان لا غير.
فإذن قوله هنا (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) فإذا كان في آيات الصفات ووقفنا على هذه الآية وقلنا (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ووقفنا، فنريد بالتأويل ما تؤول إليه حقيقة الأسماء والصفات يعني الكيفية لا يعلم الكيفية؛ وهي الحقيقة التي تؤول إليها آيات الأسماء والصفات والأحاديث التي فيها الأسماء والصفات، لا يعلم كيفية اتصاف الله جل و علا بها إلا هو سبحانه، وإذا أُريد بالتأويل معنى التفسير لا الكيفية فإن الراسخين في العلم يعلمون، ولهذا طائفة من السلف يرون الوقف على كلمة (الْعِلْمِ) يقولون (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ويقف، لأن الراسخون في العلم يعلمون المعنى، لكن لا يعلمون الكيفية، فإذا كان الاشتباه واقع في المعنى كان الراسخون في العلم ممن يعلمون، وإذا كان الاشتباه وقع في الكيفية كان العلم مقصورا على ربِّ الأرض والسماوات.
وهذا معنى قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ولهذا قال ابن عباس: أنا ممن يعلم تأويلَه.
?????(39/10)
3- قالَ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ محمدٍ بنِ حنبلٍ - رضي الله عنه - في قولِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ اللهَ ينزِلُ إلى سماءِ الدُّنْيَا»و«إنَّ الله يُرى في القيامَةِ» وما أشبه هذه الأحاديثَ، قال: نؤمِنُ بها ونُصَدِّقُ بها لا كَيْفَ ولا مَعْنَى ولا نَرُدُّ شيئا منْها، ونَعْلَمُ أنَّ ما جاءَ به الرَّسولُ حقٌّ، ولا نَرُدُّ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا نَصِفُ اللهَ بأكْثَرَ مما وَصَفَ بِهِ نفسَهُ، بِلاَ حَدٍّ ولا غايَةٍ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]. ونقولُ كما قالَ، ونَصِفُهُ بما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، لا نَتَعَدَّى ذلك، ولا يَبْلُغُهُ وصفُ الواصِفِينَ، نُؤْمِنُ بالقرآنِ كُلِّهِ مُحْكَمُهُ ومُتَشَابِهُهُ ولا نُزِيلُ عَنْهُ صفةً مِنْ صفاتِه لشَنَاعَة شُنِّعَتْ، ولا نَتَعَدَّى القرآنَ والحديثَ، ولا نَعْلَمُ كيفَ كُنْهُ ذلك إلاَّ بتصديقِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - وتَثْبِيتِ القرآنِ.(39/11)
هذا الكلام من إمام أهل السنة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المتوفى سنة 241هـ الإمام الذي نصر به الله جل وعلا السنة وقمع به البدعة، وجعله جل وعلا في وقته ميزانا يوزن به الناس، يقول فيه (إننا نؤمن بما جاء من النزول-وغير ذلك من آيات الصفات- كما جاء، لا نتجاوز القرآن والحديث، قال: بلا كيف ولا معنى) وهذا الكلام منه رحمه الله تعالى رحمة واسعة، أشكل على بعضهم كيف يقول بلا كيف ولا معنى؟ وحقيقة هذا اللفظ الذي ورد عنه أنه يوافق مذهب المفوّضة، والمفوضة طائفة كانت تقول نؤمن بالألفاظ بلا معاني، يعني نفوض المعنى والكيفية جميعا، وهذا معتقد باطل وبدعة شنيعة، وإنما الواجب تفويضُ العلم بالكيفية، أما المعنى فهو ظاهر لأن القرآن أنزل بلسان عربي مبين، فإذا كان أهل السنة والجماعة يؤمنون بالألفاظ والمعاني؛ يعني بما دل عليه اللفظ من كلام العرب، فكيف إذن يُحمل كلام الإمام أحمد بقوله(بلا كيف ولا معنى) وهذه أيضا مما أُخذ على المؤلف حيث لم يُوضِح المراد من كلام الإمام أحمد.
وأهل العلم يقولون إن الإمام أحمد أراد بقوله (بلا كيف ولا معنى) الرد على طائفتين:
1. الطائفة الأولى المشبهة المجسمة رد عليهم بقوله (بلا كيف) يعني الكيفية التي تتوهمها العقول، أو وَصَفَ اللهَ جل وعلا بها المجسمة أو الممثلة.
2. وقوله (ولا معنى) ردّ بها رحمه الله على المعطلة، الذين جعلوا معاني النصوص على خلاف الظاهر المتبادر منها، فقالوا إن معنى النزول الرحمة، وقالوا إن معنى الاستواء الاستيلاء، وقالوا إن معنى الرحمة الإرادة؛ إرادة الإحسان أو إرادة الخير، وإن الغضب معناه إرادة الانتقام ونحو ذلك فهذا تأويل منه.(39/12)
فالإمام أحمد يقول (بلا كيف) الكيف الذي جعله المجسمة، (ولا معنى) الذي جعله المعطلة، يعني المعنى الباطل الذي صرف الألفاظ إليه المبتدعة المؤولة. فإذن قوله (بلا كيف ولا معنى) يريد بقوله (ولا معنى) المعنى الباطل الذي تأول به وإليه المبتدعة نصوص الصفات والنصوص الغيبية.
وهذا نأخذ منه قاعدة مهمة: وهي أن طالب العلم الذي يعتني بأمر الاعتقاد يجب عليه أن يفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة تماما، فإذا فهمه وورد بعد ذلك ألفاظ مشكلة عن الأئمة, عن التابعين, من تبع التابعين، عن بعض الأئمة فإنه بفهمه للاعتقاد الصحيح سيوجّه معناها إلى معنىً مستقيم، لأنه لا يُظن بالإمام أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة الذي حكم بالبدعة على المفوضة أنه يقول (ولا معنى) يعني ليس للآيات والأحاديث معنى يفهم بتاتا، فإذن فهمُك لأصول الاعتقاد وأصول ما كان عليه أهل السنة والجماعة، وضبطُك لذلك، به يمكنك أن تجيب على كثير من الإشكالات، ونحن في هذا الزمان ربما كتب بعض الناس كتابات في أن السلف يقرّون التأويل، وأنه وُجد التأويل للصفات في زمن الصحابة، أو وجد في زمن الصحابة من ينكر بعض الصفات، أو وجد في التابعين من يؤول، والإمام أحمد أوَّلَ، ونحو ذلك، وهذا من جرّاء عدم فهمهم لأصول أهل السنة والجماعة، وابتغاء الفتنة، وابتغاء التأويل الذي وصف الله جل وعلا به الزائغين، وإذا فهمت الصواب وفهمت المنهج الحق والاعتقاد الحق فإنه يمكن بذلك أن تجيب عن ما ورد عن بعض أئمة أهل السنة من ألفاظ ربما خالف ظاهرُها المعتقد، أو ظُن أن فيها شيء من التأويل، يمكن أن تجيب عليها بأجوبة محققة واضحة.(39/13)
وهذه قاعدة مهمة؛ مثل ما ترون من كتابات نُشرت فيما مضى، بل ربما تنشر إلى الآن، من أن الأمر في التأويل وأمر الاعتقاد، السلف اختلفوا في الاعتقاد فلا تجعلوا الاختلاف في العقيدة سبب للتفريق وسبب لكذا، ثم يَستدل ببعض أقوال الإمام أحمد، ببعض أقوال الصحابة، وبعض أقوال التابعين، وهو كأنما يتصيَّد تلك ليُلبِّس بها، ولو كان يفهم معتقد أهل السنة والجماعة فهما كاملا لأَمكَن الإجابة عن تلك بوضوح، وذلك من مثل ما يُذكر؛ بل ما ثبت عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } [القلم:42] قال (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني يكشف عن شدة، كما يقال كشفت الحرب عن ساقها يعني كشفت الحرب عن شدة وبأس, عن الشدة والبأس، قال هذا: ابن عباس لا يثبت صفة الساق لله جل وعلا. وأين هذا من المدعى؟ لاشك أن هذا خلاف ما يقتضيه العلم؛ كون هذا القول ثابتا عن ابن عباس - رضي الله عنه - لا يعني أنه ينفي صفة الساق؛ لأن صفة الساق جاءت موضَّحة في حديث أبي سعيد الخدري وفي غيره؛ حيث قال «ثم يكشف ربنا عن ساقه» فإذا أضيف لم يحتمل إلا الصفة؛ لأن الذوات إذا أضيفت فإمّا تقتضي الإضافة التشريف أو الصفة، وهذا لا يقتضي التشريف وإنما يقتضي الوصف، وأما إذا لم يضف في الآية فصحيح يمكن أن يحمل على ما فسرت به العرب من أنها تقول كُشف اليوم عن ساق يعني عن شِدّة؛ لأنه في الآية لم ترد مضافة، فاحتمل أن يكون المراد الكشف عن الشدة، ولهذا فسر ابن عباس وغيره الآية بهذا، بينما نقول إن الصحيح أن ما فسر الآية به عامة الصحابة والتابعين من أن المراد بـ(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) أنه يكشف عن ساق الله جل وعلا، لأنه دل على ذلك، وفسره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهل يؤخذ تفسير القرآن عن أحد أفهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عليه الصلاة والسلام بيَّن ذلك فيما رواه البخاري في(39/14)
صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري ورواه غيره أيضا؟.
?????
4_ قالَ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ إدريسَ الشَّافعيُّ - رضي الله عنه - ”آمنتُ باللهِ وبما جاءَ عَن اللهِ على مُرادِ اللهِ، وآمنتُ برسولِ اللهِ وبما جاءَ عَن رسولِ اللهِ على مُرادِ رسولِ اللهِ“.
5_ وعلى هذا دَرَجَ السَّلَفُ وأَئِمَّةُ الخَلَفِ - رضي الله عنهم -، كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ على الإقْرارِ، والإمْرارِ والإثْباتِ لما وَرَدَ مِن الصِّفاتِ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لتأْوِيلِهِ.
6_ وقد أُمِرْنا بالاقْتِفَاءِ لآثارِهِمْ والاهتداءِ بمنارِهِم، وحُذِّرْنا المُحْدَثاتِ، وأُخْبِرْنا أنَّها مِنَ الضَّلالاتِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «عَلَيْكُم بِسُنّتِي وَسُنّةِ الْخُلَفَاء الرّاشِدِينَ المَهْدِيّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضّوا عَلَيْهَا بِالنّوَاجِذِ, وَإِيّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ, فَإِنّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».
كلام الإمام الشافعي واضح، وقد استدل به المؤولة بأن الشافعي رحمه الله لا يعلم معاني تلك الآيات والأحاديث التي في الصفات، فقال ”آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -“ فقالوا هذا يعني أنه أحال المعنى على مراد من تكلم به، وهذا يدل على أنه لم يفهم المعنى، وهو الإمام الشافعي.(39/15)
والجواب أنه لم يُرد ذلك، وإنما هذا إيمان مجمل، فنحن نقول كما قال الإمام الشافعي: آمنا بالله وبما جاء عن الله فيما علمنا وفي ما لم نعلم على مراد الله. هذا يقتضي تمام التسليم وتمام الامتثال لما أُمرنا به، كذلك: آمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما علمنا من النصوص وما لم نعلم. فهذا إيمان مجمل، معناه أننا لا نترك شيئا مما جاء عن الله ولا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ونحن مؤمنون به ما علمنا منه وما لم نعلم كل من عند ربنا. والشافعي رحمه الله قال هذه الكلمة إتباعا لما أمر الله جل وعلا به في كتابه حيث قال { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7]، فما علمنا معناه واضح الإيمان به، وما جهلنا معناه واشتبه علينا نقول: آمنا به على مراد ربنا جل وعلا وعلى مراد رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، حتى نسأل فيه أهل العلم، فإذا سألنا فيه أهل العلم وبينوا لنا معاني الكتاب والسنة هنا نعتقد المعنى كما نعتقد في الألفاظ.(39/16)
ثم ذكر أن التأويلات هذه مُحْدَثة، وهذا ظاهر بين فإن الصحابة - رضي الله عنهم - في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقوا النصوص من الكتاب والسنة بالتسليم,([3]) بل إن هذا الأمر وهو حال الصحابة رضوان الله عليهم مع نصوص الكتاب والسنة هو الذي هدى اللهُ جل وعلا به بعض كبار الأشاعرة؛ مثل الجويني له رسالة مشهورة، وكان مما قال فيها: أنني وجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيه الأعرابي وغير الأعرابي، والذكي والبليد، والفطن وغير الفطن، فيسمعون منه الآيات المشتملة على الصفات التي يقتضي ظاهرُها التشبيه والتمثيل؛ يعني عند المؤولة، ويشمل الآيات التي تشتمل على الأمور الغيبية، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُتبع ذلك ببيان يقول فيه ولو مرة واحدة، لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص فإن لها معاني تخفى، فيأتيه الأعرابي من البادية فيسمع القرآن، ويأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمن بالكتاب، وبما يسمع من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يفهمه من معنى بلغة العرب. قال: وهذا يدل دلالة واضحة بينة على أن ظواهر هذه النصوص مُراد، وأنه لا يجوز تأويلها بحال؛ لأنه لو جاز تأويلها حيث إن ظاهرها يوهم المشابهة والمماثلة لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين ذلك للأعراب الذين يأتونه من بقاع شتى وهم على جهل وعلى عدم علم وربما توهمت أنفسهم في تلك المعاني ظاهر ما يدل عليه اللفظ. فقال: لمَّا لم يتبع ذلك ببيان دل على أن ظواهر النصوص مُرَادٌ وأن الإيمان بتلك النصوص واجب على ما ظهر من معناها على قاعدة قطع المماثلة التي ذكر الله جل وعلا في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11].(39/17)
إذن في عهد الصحابة لم يحدث تأويل ولم يحدث خلاف في الاعتقاد، وكذلك في عهد التابعين، حتى بدت في أواخر عهد التابعين الضلالات تظهر مع طوائف من الخوارج، ثم المعتزلة ثم انتشر ذلك في الأمة، وهذا يدلّك على أن التأويل والمخالفة في النصوص؛ في التسليم للنصوص أن هذا من البدع والمحدثات، والبدع والمحدثات مردودة «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» من أحدث في أمرنا هذا في الأمور العلمية ما ليس منه فهو رد، يعني مردود على صاحبه ومن أحدث في أمرنا هذا مما في الأمور العملية ما ليس منه فهو رد؛ مردود على صاحبه، وهذا يدخل فيه الأمور العلمية والعملية، وهذا كما سيأتي من كلام ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال ” اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ “.
?????
7_ وقالَ عبدُ الله بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - ”اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ“.
8_ وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ - رضي الله عنه - كلامًا معناهُ ”قِفْ حيثُ وَقَفَ القومُ، فَإِنَّهُم عَنْ عِلْمٍ وَقَفُوا، وبِبَصَرٍ نافِذٍ كَفُّوا، وَلَهُمْ عَلَى كَشْفِها كانوا أَقْوَى، وبالفَضْل لوْ كانَ فيها أَحْرَى، فَلَئِنْ قُلْتُمْ حَدَثَ بَعْدَهُم، فَمَا أَحْدَثَهُ إلا مَنْ خَالَفَ هَدْيَهُمْ، وَرَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِمْ، ولقَدْ وَصَفُوا مِنْهُ ما يُشْفِي، وتَكَلَّمُوا مِنْه بما يَكْفي، فَما فَوْقَهُم مُحَسِّرٌ، وما دونهم مُقَصِّرُ، لَقَدْ قَصُرَ عَنْهُم قَوْمٌ فَجَفَوْا، وَتَجاوَزَهُمْ آخَرُون فَغَلَوْا، وإِنَّهُمْ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مستقيمٍ“.
9_ وقالَ الإمامُ أبو عمْرٍو الأوزاعيُّ - رضي الله عنه - ”عليْكَ بآثارِ مَنْ سَلَفَ وإنْ رَفَضَكَ النّاسُ، وإيّاك وآراءَ الرِّجالِ وإنْ زَخْرَفُوهُ لَكَ بالقوْلِ“(39/18)
رضي الله عن عمر بن عبد العزيز فقد نصحنا بنصيحة شافية كافية لو كان في القلوب حياة, قال ”عليك بآثار من سبق“ ثم وصف من سبق وهم الصحابة - رضي الله عنهم -، بأنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفُّوا, فقسم حال الصحابة إلى قسمين:
الأول: أنهم وقفوا على علم؛ فهم أعلم الناس، أعلم هذه الأمة هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أحرى بالعلم من غيرهم وما بعدهم ينقص فيهم العلم، فالصحابة هم أهل العلم، وأهل الإدراك، وأهل العقول المستقيمة، وأهل الأفهام المستنيرة, هم أهل فهم الكتاب والسنة, وتفسير الكتاب والسنة إنما يؤخذ من مشكاة الصحابة رضوان الله عليهم, وصفهم عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بقوله ”فإنهم على علم وقفوا“ وقفوا على علم؛ العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو على علم علموه من الكتاب والسنة بما فهموه بما تقتضيه لغة العرب، أو بما علّمه بعضهم بعضا، فما ذكروه من المسائل ذكروه على علم وعلى بصيرة، هذا القسم الأول.
والقسم الثاني: ما كفوا عنه وسكتوا عنه قال ”وببصر نافذ كفوا“ ببصر كفوا عمّا كفُّوا عنه، فلم يدخلوا في مسائل مما دخل فيها ممن بعدهم، لأجل عجزهم؟ لا، ولكن لأجل نفوذ بصرهم وبصيرتهم وفهمهم وإدراكهم وعلمهم، فإنهم تكلموا فيما تكلموا فيه على علم وقفوا عليه، وما سكتوا عنه أو لم يدخلوا فيه فإنهم كفوا عنه ببصر وبصيرة.(39/19)
وهذا الذي يجب، فإنه يجب علينا أن ننبذ الآراء والعقول والأفهام التي تخالف ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمور الإعتقاد جميعا، بل وفي أمور الدين جميعا، فكل ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو الميزان المستقيم الذي تزن به فهمك، وتزن به الأحوال والأمور والفئات والناس، لأننا أُمرنا بالاتباع، وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أوصانا بهذه الوصية الكافية الشافية؛ بأننا نتبع الصحابة لأنهم تكلموا فيما تكلموا فيه على علم، فهدي الصحابة واجب الاتباع، سواء كان ذلك في الأمور الاعتقادية، أو كان ذلك في الأمور العملية، أو كان ذلك في الأمور السلوكية؛ يعني في أمور الأخلاق والعبادات والزهد ونحو ذلك، فما جاوز طريقتهم فهو غلو، وما قَصُرَ عن طريقتهم فهو تحسير، فما دونهم مقصر، وما زاد على ما أتوا به فهو من الغلاة والذين سيكون مآلهم إلى التقصير والحسرة.
فهذا كلام عمر بن عبد العزيز كمنهج عام، وهو الذي اتبعه الأئمة في أبواب الاعتقاد والعمل والسلوك إلى آخره، فقالوا ما جاء عن الصحابة نأخذه، فمنهاج الصحابة هو الميزان، وفهم الصحابة هو الميزان، و طريقة الصحابة هي الميزان، فهم أهل العلوم وأهل العقول وأهل الأفهام، وما حدث بعدهم فإنما حدث بالرأي، مثل ما أوصاك به أبو عمرو الأوزاعي الإمام المشهور إمام أهل الشام البيروتي حيث قال ”إياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول“ وإن زخرفوا الآراء بالأقوال، ونمّقوا القول وزخرفوه وجملوه، فإياك وإياه، لا ترغب عن السنة لأجل تحسين من حسّن رأيه بألفاظ، وخُذ بالسنة وبما جاء عن أهلها وإن كان أهلها لا يحسنون اللفظ ولا تجميله؛ لأن الميزان هو الاتباع، فمن اتبع فهو الناجي، ومن ابتدع فهو الهالك، وقانا وإياكم سُبُل الهلاك.
?????(39/20)
10_ وقالَ محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَدْرَمِيُّ لرَجُلٍ تكَلَّمَ ببدْعَةٍ وَدَعَا الناسَ إليها: هَلْ عَلِمَهَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكْرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ أوْ لَم يعلَموها؟ قال: لَم يعلَموها، قال: فَشَيْءٌ لَم يعلَمْه هؤلاء أَعلِمْتَهُ أنتَ؟ قال الرَّجلُ: فإنِّي أقولُ قدْ علِمُوها، قال: أَفَوَسِعَهُمْ أنْ لا يتَكَلَّمُوا به ولا يدْعُوا الناسَ إليه، أمْ لَم يَسَعْهُمْ؟ قال: بَلْ وَسِعْهُمْ، قال: فَشَيْءٌ وَسِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءَه، لا يَسَعُكَ أنتَ؟ فانْقَطَعَ الرَّجلُ، فقال الخليفةُ، وكان حاضِرا: لا وَسَّعَ اللهُ على مَنْ لَم يَسَعْهُ ما وَسِعَهُمْ.
11_ وهكذا مَنْ لَم يَسَعْهُ ما وَسِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه والتَّابعين لَهُم بإحسانٍ، والأئمةَ مِنْ بَعْدِهِمْ، والرّاسِخين في العِلْم، مِنْ تِلاوَةِ آيات الصِّفاتِ وقِراءَةِ أخْبارِها، وإِمْرارِها كما جاءَت، فلا وَسَّعَ اللهُ عليه.
12_ فمِمَّا جاءَ مِنْ آياتِ الصِّفاتِ قولُ الله عزّ وجل { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27]، وقولُه سبحانَهُ وتعالى { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64]، وقولُهُ تعالى إخْبارًا عنْ عيسى عليه السلامُ أنَّه قال { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [المائدة:116]، وقولُه سبحانه { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22]، وقولُه تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } [البقرة:210]، وقولُه تعالى { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [المائدة:119].
هذا شروع في ذكر آيات الصفات، أو نصوص الصفات التي اشتملت على ذكر أسماء الله جل وعلا أو ذكر صفاته، وصفات الله جل وعلا تنقسم بأحد الاعتبارات إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية.(39/21)
فالصفات الذاتية: هي التي لا تنفكّ عن الموصوف مطلقا، وهي في حق الله جل وعلا التي لم يزل الله جل وعلا متصفا بها، يعني لا يتصف بها في وقت دون وقت، بل اتصافه بها دائما؛ من مثل صفة الوجه، كما قال جل وعلا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27]، ومن مثل صفة اليدين كما قال جل وعلا { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64]، وقال جل وعلا { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75] ونحو ذلك من صفات الذات.
وقوله هنا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27] هذه أول الآيات التي ذكر، وهذه الآية صريحة في إثبات صفة الوجه لله جل وعلا، وقوله(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) وجه الدلالة منه أنه أضاف الصفة -التي هي الوجه- إلى المتصف بها؛ قال(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ).
ونحن نعلم أنه ما يُضاف إلى الله جل وعلا -وهذه قاعدة-: تارة يكون معنى، وتارة يكون ذات.
وإذا كان ذاتا: فتارة تكون ذاتا تقوم بنفسها، وتارة لا تقوم بنفسها:
1. مثال المعنى مثل الرحمة، والغضب، والرضا، فنقول رضا الله, رحمة الله ونحو ذلك، وهذا إضافة معنى إلى الله جل وعلا.(39/22)
2. أما إضافة الذات؛ يعني إلى شيء يكون ذاتا، تارة هذا الذي يكون ذاتا -يعني مستقل له معنى، يعني شيء محسوس، يعني يمكن أن تفهمه بأنه ليس وصفا بدون ذات ولكنه ذات- هذا تارة يكون قائما بنفسه مثل قوله { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } [الشمس:13] فهنا أضاف الناقة إلى نفسه جل وعلا فقال (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) والبيت بيت الله كما جاء في الحديث «ثم خرج إلى بيت من بيوت الله» أو «ثم مشى إلى بيت من بيوت الله» فهذا أضاف البيت إلى الله، ومثل القسم الثاني وجه الله, ويد الله، وساق الله, وقدم الله, وعين الله جل وعلا ونحو ذلك، فإذن إذا أضيف ما يقوم بنفسه، فهذا الأصل أنه تكون الإضافة للتشريف والتعظيم, فقوله { نَاقَة اللَّهِ } ([4]) أضاف الله جل وعلا الناقة إلى نفسه، ومعلوم أن الناقة ذات منفصلة تقوم بنفسها، فهذا يقتضي تشريف ما أضافه الله جل وعلا إلى نفسه، ويقتضي تعظيمه. الثاني مثل بيت الله كذلك, أما وجه الله, { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح:10]، { بِأَعْيُنِنَا } ([5]) ونحو ذلك، فالعين، والوجه، واليد، والقدم، والساق، ونحو ذلك، هذه ذوات لكنها لا تقوم بنفسها, يعني لا وجود وجه بدون صاحب وجه, لا توجد يد بدون صاحب يد, لا توجد عين بدون صاحب عين، فهذه إذا أُضيفت إلى الله جل وعلا أو إلى غيره فهذه تقتضي الصفة لا تقتضي التشريف بها.
فإذن تلخص هنا أن الإضافة للذوات على قسمين:
o تارة تكون إضافة للتشريف: وهو ما أضيف من الأعيان مما يقوم بنفسه.
o وتارة الإضافة تقتضي الوصف: إذا كان لا يقوم بنفسه.(39/23)
فقوله هنا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27] وجه الاستدلال أنه أضاف الوجه إلى الله جل وعلا؛ فقال عز من قائل سبحانه (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) فأضاف الوجه إلى الرب، فدل على أنه صفة له، المبتدعة يقولون وجه هنا بمعنى الذات، يعني ويبقى ربك نقول هنا قال جل وعلا(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ثم وصف الوجه بقوله { ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن:27]، ولما أراد أن يصف الرب جل وعلا قال { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن:28] فوصف الله جل وعلا في أول السورة الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام ووصف نفسه سبحانه دون اسمه في آخر السورة بقوله { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن:28], وذلك أن الله جل وعلا هو ذو الجلال والإكرام وكذلك صفاته ذات جلال وإكرام.
قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64] يداه تجرى عليها القاعدة، هذه من آيات الصفات أم لا؟ الجواب: نعم من آيات الصفات؛ لأنه أضاف ذاتا لا تقوم بنفسها إلى الله جل وعلا، أضافها إلى نفسه، فدل أنه إضافة الصفة إلى متصف بها، واليد في القرآن أتت تارة مفردة، وتارة مثنّاة، وتارة مجموعة:
¨ فأما المجموعة في قوله-يعني أيدي- { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } [يس:71]هذا واحد.
¨ اثنين قال { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]. وكما قال هنا { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64] فجعلهما اثنتين.
¨ الثالث أنه ذكر يدا واحدة فقال { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك:1].(39/24)
وهذا التعارض بين الإفراد والتثنية والجمع, وهل يوصف أن الله جل وعلا له يدا واحدة؟ أو يوصف بأن له يدين؟ أو يوصف بأن له أيديا؟ الجواب:أنه يوصف جل وعلا بأن له يدين, وأما إضافة اليد الواحدة إليه جل وعلا فهذا من إضافة الجنس، فهذا معروف؛ تضيف المفرد وتريد به الجنس, وأما الجمع في قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } [يس:71]فهنا جمع لأن العرب من لغتها أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير جمع أو تثنية فإنه يُجمع, من لغة العرب أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو جمع فإنه يُجمع لأجل خفة اللفظ؛ ممن مثل قوله تعالى { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم:4] (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) هما امرأتان, أليس كذلك؟ فخاطبهما بقوله(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) ثم قال (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)، والمرأتان لهما كم قلب؟ لهما قلبان؛ كل واحدة لها قلب واحد, فإذا كان كذلك فلما جمع؟ الجواب:لأن هذا من سَنن لسان العرب؛ أنه أضيف المثنى إلى ضمير مثنية أو جمع فإنه يجوز جمعه طلبا لخفة اللفظ، فهنا في قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } [يس:71] (أَيْدِينَا) هنا جَمَع، وليس ثم معارضة بين الجمع هنا وبين قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64]، بل جَمَعَ هنا لأنه أضاف المثنى أصلا إلى ضمير الجمع، فجَمَعَ لأجل الخفة خفة اللفظ، أصل الكلام أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت يَدَيْنَا أنعاما، ثم صارت (أَيْدِينَا)، يعني ما يقتضيه اللسان العربي، فإذن نصف الله جل وعلا بأن له يدين جل وعلا، والآيات التي فيها ذكر اليدين تدل على التثنية، وأما المفرد فلا يعارض التثنية، والجمع كذلك لا يعارض التثنية، على أن بعض أهل العلم حمل قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا(39/25)
أَنْعَامًا } [يس:71] قال هذا جمع وأقل الجمع اثنان, وهذا إحالة إلى أمر مختلف فيه، إذن بعض أهل العلم يقول إن الجمع ثلاثة، ولا يسوغ في مثل هذه المسائل المشكلة أن يُحال إلى أمر مختلف فيه، بل إلى أمر متيقن منه، وهو ما نعلمه من لغة العرب بدلالة تحفظونها، والأشعار على هذه المسألة كثيرة والشواهد كثيرة -معروفة في النحو- لكن إن تحفظ آية سورة التحريم { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم:4].
القسم الثاني: وذكر المجيء والإتيان هذه صفات فعلية، والصفات الفعلية هي التي يتصف الله جل وعلا بها بمشيئته واختياره، يعني يتصف بها بوقت دون وقت، فهو جل وعلا ليس دائما ينزل إلى السماء الدنيا، وليس دائما يجيء، وإنما يجيء إذا شاء في وقت دون وقت، وهذه تسمى الصفات الفعلية الاختيارية.
???
وقولُه تعالى { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]، وقولُه تعالى في الكفّارِ { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } ([6]) وقولُه تعالى { اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } [محمد:28] وقولُه تعالى { كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } [التوبة:46].(39/26)
هذه كلها من الصفات الفعلية؛ لأنه أضاف المعاني مثل الغضب, الرضا, الكره, السخط, هذه معاني أضافها إلى نفسه، والإضافة هذه تقتضي إضافة صفة إلى موصوف, المؤولة يتأولون مثل هذه النصوص فيقولون في مثل الرضا يقولون هو إرادة الإنعام، والغضب يقولون إرادة الانتقام. طيب، إذا سألتهم قلت لما أوّلتم الغضب مثلا بإرادة الانتقام؟ قالوا: لأن حقيقة الغضب هو ثوران أو غليان دم القلب، هذا حقيقة الغضب؛ غليان دم القلب، وهذا يجب تنزيه الله جل وعلا عنه. نقول: لاشك يجب تنزيه الله جل وعلا عن مثل هذا، ولكن هل هذا هو الغضب؟ وتلاحظ أنك في فهمك لنصوص الصفات، أو في فهمك لشبه المؤولة، لابد أن تغوص إلى أصل كلامهم وشبهتهم حتى تستطيع الرد؛ لأنه أحيانا يمكن أن يزخرف القول، لكن إذا رجعت إلى أصل الكلام وجدت أنه باطل، فمثل هذا الأشاعرة والماتريدية والكلابية قبلهم ومن نحى نحوهم يقولون: الغضب هو إرادة الانتقام، لماذا؟ قالوا لأن حقيقة الغضب هو غليان دم القلب. فنقول: الصواب أن الغضب صفة ينشأ عنها في ابن آدم غليان دم القلب؛ لأن ابن آدم أولا يغضب، ثم بعد غضبه ينتج عنه غليان دم القلب، ويظهر ذلك باحمرار الوجه والانتفاخ إلى آخره. نقول: هذا أمر ينشأ عن الغضب، وليس هو الغضب نفسَه. فإذن هم يؤولون لأنهم بنوا على مقدمات باطلة، وأصل هذا التأويل من نفي الصفات هذه؛ من رضا وغضب ونحو ذلك، أصله من جراء القول بنفي الصفات الاختيارية، وأن الله جل وعلا لا يتصف بصفة في وقت دون وقت، فإما أن يتصف بها مطلقا أو إما أن لا يتصف بها مطلقا. فلهذا يؤولونه، لما يؤولونه إلى الإرادة؟ ذلك أن الإرادة من الصفات العقلية السبع التي يثبتونها، فيؤولون الصفات غير السبع بإحدى الصفات السبع التي يثبتونها، فهم يثبتون -الأشاعرة والماتريدية ونحوهم- سبع صفات، فهم يؤولون هذه الآيات بإحدى الصفات السبع، أما المعتزلة والجهمية فتارة يجعلون الاسم أو الصفة يراد بها مخلوقا(39/27)
منفصلا؛ يعني - رضي الله عنه - الرضا بمعنى المرضي عنه الرحيم، وهو الغفور الرحيم؛ الغفور هو ما حصل لمن... يعني المغفور له، ليس هو صفة الله لكن هو صفة للعبد، فالمخلوق هو الذي يُقال الغفور الرحيم ونحو ذلك، وهو عمل الجهمية والمعتزلة، وتجدون هذا في بعض التفاسير، أما الماتريدية والأشاعرة والكلابية فهم يفسرونها بإحدى الصفات السبع، تارة يفسرونها بالإرادة في بعض الصفات، وتارة يفسرونها بالقدرة ونحو ذلك؛ مثل التوفيق والخذلان يفسرونه بالقدرة لأنهم يثبتون القدرة، فيفسرون توفيقه سبحانه لعبده وخذلانه سبحانه لعبده بالقدرة.
المقصود من هذا أننا نثبت هذه الصفات سواء كانت صفات ذاتية أو صفات فعلية اختيارية أو غير اختيارية نثبتها جميعا لله جل وعلا دون تفريق كما جاء في نصوص الكتاب والسنة. وهذا أصل من الأصول، ونقول إن هذا الاتصاف لله جل وعلا بهذه الصفات على أساس قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11] فهنا قال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) والكاف هنا:(39/28)
¨ من أهل العلم من يقول هي صلة يعني زائدة، ومعنى كونها زائدة يعني للتأكيد، فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في تقدير قولك ليس مثله شيء, ليس مثله شيء، لأن العرب تزيد حرفا أو كلمة وتريد بالزيادة تكرير الجملة؛ يعني وتأكيد الجملة, فقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على هذا القول؛ وهو أن الكاف هنا صلة يكون المعنى ليس مثله شيء, ليس مثله شيء، فهو تأكيد للجملة بتكرارها، وهذا من مثل قوله { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } [البلد:1]، { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [القيامة:1] هل هو ترك للقسم أو إثبات للقسم؟ من أهل العلم وهو القول الظاهر أنه قسم { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [القيامة:1] يعني أقسم، لكن (لا) هنا صلة لتأكيد القسم، فيكون المعنى بوجود (لا) معناه: أقسم بيوم القيامة، أقسم بيوم القيامة. وهذا من أسرار اللسان العربي الشريف.
¨ القول الآخر: أن الكاف هنا بمعنى المثل، هي حرف لكنها اسم، بمعنى مثل فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يعني (ليس مثلَ مثلِه شيء) هذا يقتضي المبالغة في نفي المثيل، وورود الكاف بمعنى مثل، معروف في اللغة من مثل قوله تعالى في سورة البقرة { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة:74] ومن مثل قول الشاعر:
لو كان في قلبي كقدر قلامة
حبا لغيرك ما أتتك رسائلي
يعني لو كان في قلبي مثل قدر القلامة لغيرك كذا وكذا.(39/29)
فإذن هنا الكاف إما أن تكون بمعنى هذا أو هذا، فقوله جل وعلا هنا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذا فيه أبلغ النفي لوجود المثيل لله جل وعلا، ثم لمّا نفى أثبت، وهذا على القاعدة المعروفة: أن النفي يكون مجملا، والإثبات يكون مفصلا. فنفى مجملا فقال (ليس مثلَ مثله شيء) ثم فَصَّل فقال (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). لما خص السمع والبصر هنا؟ وصف الله جل وعلا هنا نفسه بالسمع والبصر؛ قال بعض أهل العلم: لأن السمع والبصر من أكثر الصفات اشتراكا بين ذوات الأرواح. فالسمع يوجد في الذباب, يوجد في النمل، كذلك البصر يوجد في البعوض ويوجد في الإنسان ويوجد في الهرّ؛ يعني جميع المخلوقات -تَدَرَّجْ بها- فيها سمع وبصر. فينبهك على أنه هل سمع البعوض وبصره هل هو مثل سمع ابن آدم وبصره؟ لا, يشترك ابن آدم مع البعوض في بعض معنى السمع والبصر؛ لأن السمع ما تدرك به المسموعات، والبصر ما تدرك به المرئيات، فالبعوض له سمع وبصر يناسب ذاته, ابن آدم له سمع وبصر يناسب ذاته ولا يقارن به سمع وبصر البعوض. فنبه الله جل وعلا بهاتين الصفتين السمع والبصر لأجل اشتراكها في كثير من ذوات الأرواح؛ من أنه كما أنها لا تتماثل ذوات الأرواح في الاتصاف بهاتين الصفتين، فكذلك جل وعلا له سمع وبصر (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، مع قطع المماثلة وقطع طمع إدراك الكيفية لصفات الله جل وعلا، فله جل وعلا سمع وبصر يناسب ذاته العظيمة الجليلة جل وعلا وتقدس وتعاظم. نواصل إن شاء الله غدا أسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
13_ ومِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَنزِلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلّ ليلةٍ إلى سماءِ الدّنيا»وقولُه «يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ»، وقولُه «يَضحَكُ اللهُ إلى رجُلَين يَقُتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلانِ الجنّة».(39/30)
14- فهذا وما أشْبَهَهُ مِمّا صَحَّ سَنَدُهُ، وعُدِّلَت رُوَّاتُه، نُؤْمِنُ بِهِ، ولا نَرُدُّهُ، ولا نَجْحَدُهُ، ولا نَتَأَوَّلُهُ بِتَأْوِيلٍ يُخالِفُ ظاهِرَه، ولا نُشَبِّهُهُ بصفاتِ المخلوقين، ولا بِسِماتِ المُحْدِثِينَ، ونعلَمْ أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى لا شبيهَ لَهُ، ولا نظيرَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، وكلُّ ما تُخِيِّلَ في الذِّهْنِ أوْ خَطَرَ بالبَالِ, فإنَّ اللهَ تعالى بخلافِه.
15- ومِنْ ذَلكَ قولُه تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(39/31)
أما بعد: فلما ذكر المؤلف ابن قدامة رحمه الله تعالى أن الأصل الجامع لمذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات أنهم يُمرونها كما جاءت لإثبات ذلك لفظا ومعنى والإيمان بما اشتملت عليه لا يتجاوزون القرآن والحديث, بدأ بتفصيل الكلام على بعض الصفات، فذكر بعض الأدلة من التنزيل؛ من القرآن على بعض الصفات، كما مر معنا، ثم ذكر ما هو من الأحاديث في الصفات، فذكر حديث النزول وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ينزل ربنا كل آخر ليلة» وفي لفظ آخر «ينزل ربنا في الثلث الأخير من كل ليلة»وفي بعض الروايات «في النصف الأخير من كل ليلة، فينادي عبادَه: هل من سائل فأعطيه, هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له» وهذا نزول خاص يليق بجلال الله جل وعلا وعظمته، وليس هو كنزول المخلوقين، كما يُعلم من نزولهم، وإنما هو نزول خاص بالله جل وعلا كسائر صفاته؛ يُثبت المعنى ويُنفى العلم بالكيفية، لأن الله جل وعلا لا تتمثله العقول بالتفكير ولا تتخيله القلوب بالتصوير { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، فالنزول يثبت لله جل وعلا على معتقد أهل السنة والجماعة، وأما المبتدعة من الكلابية والأشاعرة والماتريدية، ومن قبلهم من المعتزلة ونحوهم؛ فيتأولون هذه الأحاديث إذا أثبتوها، بأن معنى النزول نزول رحمته، والجواب عن هذا التأويل من أنه:
* أولا: خلاف الأصل، والله جل وعلا أوجب علينا أن نؤمن بظاهر الآيات والأحاديث.
* والثاني: أن رحمته جل وعلا نازلة على العباد في كل حين، فتخصيص الثلث الأخير من الليل بنزول الرحمة لا معنى له؛ لأن رحمة الله جل وعلا نازلة في كل حين وأوان، بل العباد لا يخلون من رحمة الله جل وعلا، ولو أُخلوا من رحمة الله جل وعلا لفسدت معايشهم ولهلكت أنفسهم.(39/32)
وهذا تأويل باطل من أن يتأول النزول بنزول الرحمة، بل هو نزول الرب جل وعلا، وصفه بذلك نبيه عليه الصلاة والسلام، إذ لا يصف الله جل وعلا أحد من الخلق أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أكثر تنزيها وتعظيما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ذكر الصفة الثانية ألا وهي صفة العجب فذكر الحديث المشهور المعروف الذي رواه الإمام أحمد وغيره من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «عجب ربنا من شاب ليست له صبوة» يعني ليس له ميل وجنوح إلى ما يهتم به الشباب من الشهوات وغير ذلك، فقال (عجب ربنا) وهذا الحديث من جنس أحاديث الصفات فيه ذكر صفة العجب، وأن الله جل وعلا يعجب، وهذه الصفة؛ صفة العجب ذُكرت في القرآن في قول الله تعالى في سورة الصافات { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ(12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ } [الصافات:12-13] على القراءة السبعية الثانية إذْ في الآية قراءتان القراءة الأولى { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } [الصافات:12] والقراءة السبعية المتواترة الثانية { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُون } [الصافات:12]، فإذن يكون صفة العجب دل عليها القرآن والسنة، ويوصف الله جل وعلا بالعجب كما وصف به نفسه، وليس وصف الله جل وعلا بالعجب من الفعل، أو مما يعمله العبد، ليس هذا ناتج عن عدم العلم؛ بل هو من كماله جل وعلا، إذْ العجب تارة يكون عن عدم علم وتارة يكون عن علم, والعجب يقتضي رفع منزلة المُتعجَّب منه، وهذا يثبت لله جل وعلا كما قال جل وعلا (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ)، أو كما جاء في الأحاديث التي فيها إثبات صفة العجب من مثل قوله عليه الصلاة والسلام «عجب ربكم من قنوط عباده وقرب غِيَرِه ينظرون إليكم أزلين قنطين يعلم أن فرجكم قريب» وغير ذلك من الأحاديث.(39/33)
فهذه الأحاديث وأمثالها مما صح إسناده وعُدِّلت نقلته، نثبت ما جاء فيها على القاعدة المقررة من أنه إثبات بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه.
قال المؤلف رحمه الله كلمة عظيمة مهمة قال (وما خطر ببالك فإن الله جل وعلا بخلافه) إذا خطر في بال المرء أن الله جل وعلا في اتصافه بالصفة يكون على النحو الذي خطر بباله، أو تخيل صورة، فليجزم بأن الله جل وعلا بخلاف ما تخيل، وذلك لأن المرء لا يمكن أن يتخيل شيئا أو يتصور شيئا إلا إذا كان:
* قد رآه. ([7])
* الثاني: أن يكون قد رأى مثله.
* الثالث: أنه قد رأى جنسه.
* الرابع: أنه وُصف له وصف كيفية.
وهذه الأربع لا تنطبق على صفات الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا لم يُر حتى تتخيله القلوب بالتصوير، ولم يُر جنسه، وكذلك لم يوصف وصف كيفية، فلهذا كل ما خطر بعقلك أو تصوره قلبُك فلتجزم بأنه الله جل وعلا بخلاف ذلك، فهذه قاعدة عظيمة، والشيطان وإبليس يأتي للمؤمن فيجعله يتصور، ويُصَوِّر له ربه جل وعلا على نحو من الصور، وهذا لأجل أن يُشغل العبد عن تنزيه الله جل وعلا، وعن إثبات الصفات لله جل وعلا على ما يجب له سبحانه وتعالى، وليدخله في نوع من الضلالات من التجسيم و التشبيه والتمثيل ونحو ذلك.
فذكر المؤلف القاعدة العظيمة في هذا؛ وهو أنّه ما خطر ببالك أو تصوره بقلبك فاعلم بأن الله جل وعلا بخلافه.
?????
وقولُه تعالى { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16]، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - «رَبُّنَا الله الّذِي في السّماءِ تَقَدّسَ اسْمُكَ» وقال للجاريَّة «أيْنَ الله؟» قالتْ: في السَّماءِ قال «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». رواه مالكُ بنُ أنَسٍ ومسلمٌ وغيرُهما مِنَ الأئمة.(39/34)
16- وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِحُصَيْنٍ«كَمْ إلهًا تَعْبُدُ؟» قال: سبْعةً؛ سِتَّةً في الأرضِ وواحِدًا في السَّماءِ، قالَ «مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟» قالَ: الّذي في السَّماء، قالَ«فَاتْرُكْ السِّتَّةَ وَاعْبُدْ الذِي في السَّماءِ وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْن»فَأَسْلَمَ وَعَلَّمَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ«اللَّهُمَّ ألْهِمْنيِ رُشْدِي وَقِنيِ شَرَّ نَفْسِي».
17_وَفيمَا نُقِلَ مِنْ عَلاماتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأصحابِهِ في الكُتُبِ المتقدِّمةِ أنَّهم يَسْجُدون بالأرْضِ، ويَزْعُمون أنَّ إلهَهمْ في السَّماءِ.
18_ وَرَوَى أبو داودَ في سُننه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ «إنَّ مَا بَيْنَ سمَاءٍ إلىَ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ كذَا وَكذَا -وذَكَرَ الخَبَرَ إلى قَوْلهِ- وَفَوْقَ ذَلِكَ العَرْشُ وَالله سُبْحَانَهُ فَوْقَ ذَلِكَ».
19_ فَهَذَا وَمَا أشْبَهَهُ مِمَّا أَجْمَعَ السَّلَفُ رَحِمَهم اللهُ على نَقْلِهِ وقَبُولِهِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِرَدِّهِ ولا تَأْوِيلِهِ ولا تَشْبِيهِهِ ولا تَمْثِيلِه.
20_ سُئِلَ الإمامُ مالك بنُ أنسٍ رَحمه اللهُ فَقِيلَ: يا أبَا عبدِ الله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] كيْف استوى؟ فقال: الاسْتِواءُ غيْرُ مجهولٍ، والكيْفُ غيْرُ معْقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ والسُّؤالُ عنْه بدعةٌ، ثُمّ أَمَرَ بالرَّجُلِ فأُخْرِجَ.
هذه الجمل فيها إثبات لصفة العلو لله جل وعلا، فذكر استواء الله جل وعلا على العرش، ثم ذكر صفة العلو، واستدل لها بقوله { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء } [الملك:16]، وبحديث حُصين المعروف، وبوصف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الكتب المتقدمة.(39/35)
وصفة العلو لله جل وعلا ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع وبدلالة الفطرة على ذلك؛ فإن علو الله جل وعلا مركوز في الفطر، وقد جاء من الأدلة في كتاب الله وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يزيد على ألف دليل يدلّ على أن الله جل وعلا عالٍ على خلقه، والعلو ثلاثة أقسام:
¨ علو الذّات.
¨ وعلو القَهْر.
¨ وعلو القَدْر.
وأهل السنة والجماعة يثبتون علو الله جل وعلا بأقسامه الثلاثة؛ فهو جل وعلا عالٍ على خلقه بذاته، كما أنه جل وعلا عالٍ على خلقه بقدره، كما أنه جل وعلا عالٍ على خلقه بقهره وبجبروته.
وأما المبتدعة فإنهم يؤولون العلو بعلو القهر والقدر، وينفون علو الذات.
وهذه المسألة من المسائل العظيمة التي يجري فيها الامتحان بين أهل السنة والجماعة وبين المبتدعة الضُّلاَّل، فمن أنكر العلو فهذا من أهل الضلال ومن أهل الزيغ؛ بل قد حكم طائفة من أهل العلم بكفره لأنه ينفي ما دل القرآن عليه ودلت نصوص السنة عليه بأكثر من دليل، فمسألة العلو هي من أظهر مسائل الصفات، فمن أنكر العلو فهو على شفير هلكة، ومبتدع بدعة مغلظة، وهذا إن لم يصل به الأمر إلى الكفر بالله جل وعلا.(39/36)
قول النبي عليه الصلاة والسلام للجارية أين الله؟ قالت: في السماء, فيما رواه مسلم في الصحيح، وكذلك قوله تعالى { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] (فِي) هنا الصحيح أنها بمعنى (على) { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] يعني من على السماء، فهذا فيه إثبات العلو ومجيء (في) بمعنى (على) ثابت معروف في لغة العرب، وجاء استعمال ذلك في القرآن؛ أرأيت قول الله جل وعلا { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [طه:71] ومعلوم أن التصليب يكون على الجذوع لا أن تُجعل الجذوع ضلفا للمصلبين؛ يعني أنهم يصلبون عليها، وقوله تعالى { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] يعني مَنْ على السماء؛ وذلك أن السماء تُفَسَّر تارة بالعلو، فإن السماء اسم لما علا, فالعلو يُطلق عليه السماء، فكل ما علا يُطلق عليه السماء، والعلو المطلق يطلق عليه السماء، وسميت السماوات بهذا الاسم لعلوها، وكذلك سمي المطر سماءً لأجل علوه، قال الشاعر:
إذا نزلَ السماءُ بأرضِ قومٍ
رأيناهُ وإنْ كانوا غِضابا
ويعني بالسماء المطر وهذا لأنه يأتي من جهة العلو، فالسماء بمعنى العلو.
قال بعض أهل العلم: المراد هنا بالسماء ليس هو العلو ولكن جنس السماوات السبع. فيكون المعنى من على السماوات، وذلك أن الله جل وعلا مُتصف بأنه مستوٍ على عرشه العظيم.(39/37)
أخصّ من العلو الاستواء على العرش، والعرش في اللغة هو سرير الملك، وهو مشتق من الارتفاع، فسُمِّي العرش عرشا لارتفاعه ولعلوه { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } [الأنعام:141]، { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل:68], ونحو ذلك، هذا كله فيه معنى الارتفاع والعلو، فالله جل وعلا استوى على عرشه وهو سرير ملكه جل وعلا استواءً يليق بجلاله وعظمته، والاستواء معناه في اللغة: العلو؛ استوى بمعنى علا، قال جل وعلا { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [المؤمنون:28] معنى قوله (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) يعني عَلَوْتُمْ على الفلك.
قال ابن الأعرابي -أحد أئمة اللغة المعروفون-: كنا عند أحد الأعراب فأطلَّ علينا مِن على بيته وقال: استووا إليَّ, يعني ارتفعوا إليَّ، واصعدوا إليَّ. فهذا هو المعروف في لغة العرب؛ لأن استوى بمعنى علا على الشيء، لكن قد يُضمَّن هذا العلو معنىً آخر بحسب الحرف الذي يُعدَّى إليه الفعل، كما قال جل وعلا { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت:11] (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) ترى أنَّه من السلف ومن أهل العلم من فسرها بمعنى قصد وعمد. وهذا مما يسمى التفسير باللازم؛ فإنه مع العلو هناك قصد وعمد، وذلك مستفاد من قوله (إِلَى السَّمَاءِ) فلما عدّى الفعل بـ(إِلَى) قال (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) علمنا أنه مُضمَّن معنى القصد والعمد، والتضمين فيه إثبات لأصل المعنى مع زيادة ما دل عليه الحرف الذي عُدِّيَ الفعل به.
والاستواء على العرش مما تميز به أهل السنة، فالمبتدعة يُنكرون استواء الله جل وعلا على عرشه:(39/38)
1. فطائفة منهم يجعلون الاستواء على العرش عبارة عن الاستيلاء عليه، وهذا فيه تنقّص لله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا قال { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف:54] فبيّن أن الاستواء على العرش كان بعد أن لم يكن, فإذا فسر الاستواء بالاستيلاء دلّ هذا على أن الاستيلاء من الله جل وعلا على العرش لم يكن ثم كان، وهذا فيه تنقّص لله جل وعلا إذ فيه سلب قهره وجبروته على خلقه أجمعين، فهذا يُبَيِّن ويُقرّر أن الاستواء ليس إلا بمعنى العلو.
2. بعضهم فسّر ”الاستواء على العرش“ بأنّه يعني ”العرش“ بأنه العلم، واستوى على العرش يعني حاز العلم وكَمُل له العلم، وهذا أيضا باطل.
3. ومنهم من فسَّر ”العرش“ بالكرسي، والكرسي يقولون هو العرش.
وهذه أقوال كلها ليس هذا مجال تفصيل الرد على أصحابها، لكنها جميعا مخالفة لما تقتضيه الأدلة، ولما هو ظاهر الأدلة، ولما دل عليه القرآن والسنة.
والاستواء على العرش يختلف عن العلو بأنه أخصّ منه، فالله جل وعلا من صفاته الذاتية العلو، وأما الاستواء فإنه صفة فعلية باعتبار أنه جل وعلا لم يكن مستويا على العرش ثم استوى، وصفة ذاتية باعتبار أن الله جل وعلا لم يزل مستويا على عرشه منذ استوى عليه؛ يعني أنه لا يستوي في حال دون حال، بل هو جل وعلا مستوٍ على عرشه لا ينفكُّ عن هذا الوصف.
?????
21-ومِنْ صِفات الله تعالى أنَّه مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قَديمٍ، يُسْمِعُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. سَمِعَهُ مُوسى عليْه السلامُ مِنْهُ مِنْ غيُرِ وَاسِطَةٍ، وسَمِعَهُ جِبْريلُ عليْه السلامُ، وَمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ ملائكتِهِ، وَرُسُلِهٍ.(39/39)
22-وأنَّه سُبْحَانَه يُكَلِّمُ المؤمنين في الآخِرَةِ، ويُكلِّمُونَهُ، ويَأْذَنُ لهم فَيَزُورُونَهُ، قال اللهُ تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء:164]، وقال سبْحانه { يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } [الأعراف:144]، وقال سبْحانه { مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } [البقرة:253]، وقال سبْحانه { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [الشورى:51]، وقال سبْحانه { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } [طه:11-14]، وقال سبحانه { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [طه:14] وغيْرُ جائِزٍ أنْ يقولَ هذا أَحَدٌ غيْرُ الله.
23- وقالَ عبْدُ الله بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: إذَا تَكَلَّمَ اللهُ بالوَحْيِ سَمِعَ صَوْتَهُ أَهْلُ السَّماءِ، رُوي ذلك عَنِ النبي- صلى الله عليه وسلم -.
24- وَرَوى عبدُ الله بْنُ أُنَيْسٍ عَنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ «يَحْشُرُ الله الخلائِقَ يوْمَ القيامَةِ عُرَاةً حُفاةً غُرْلاً بُهْمًا فَيُنَادِيهم بصوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان» رواهُ الأئمةُ واسْتَشْهَدَ به البخاريُّ.
25- وفي بعْضِ الآثارِ أنَّ موسى عليْه السلامُ ليْلةَ رأى النّارَ فَهَالَتْهُ، فَفَزِعَ منْها، فَنَاداهُ رَبُّهُ: يا موسى! فأجابَ سريعًا اسْتِئْناسًا بالصَّوْتِ، فَقَالَ: لبَّيْكَ لبَّيْكَ أسْمَعُ صوْتَكَ ولا أَرَى مكانَكَ، فأين أنتَ؟ فقال: أنا فَوْقَكَ، وَأَمَامَكَ، وعَنْ يَمِينِكَ، وعَنْ شِمَالِكَ، فَعَلِمَ أنَّ هذِهِ الصِّفَةَ لا تَنْبَغِي إلاَّ للهِ تَعالى. قال: كَذَلِكَ أنْتَ يَا إِلهي أفَكلامَك أسمعُ أمْ كلامَ رسولِك؟ قال: بلْ كلامي يا موسى.(39/40)
صفة الكلام ثابتة لله جل وعلا بالعقل وبالسمع، ولهذا الذين يثبتون الصفات السبع أو الثمان يجعلون صفة الكلام من تلك الصفات التي يثبتونها؛ لأنه دلّ عليها العقل، كما أنه دل عليها النقل.
أما دليل العقل على هذه الصفة فهو أنه جل وعلا ذكر الآلهة التي أُدِّعيت وجعل عدم كلامها دليلا على عجزها وأنها لا تصلح آلهة قال جل وعلا { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } [طه:89]، وكذلك في قوله جل وعلا { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ } [الأنبياء:63] وذلك أن الفارق بين الحيّ ومن ليست فيه حياة هو الكلام، فإذا كان متكلما كان هذا أكمل؛ بل كان هذا من صفات الكمال، فالكلام من صفات الكمال، وعدم الكلام من صفات النقص، ولهذا كان هذا يصلح دليلا عقليا.
كما أن السمع أثبت صفة الكلام في نصوص الكتاب والسنة، كما سمعتم من إيراد المؤلف وظاهرة في الدلالة على صفة الكلام، قال جل وعلا { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء :164]، وقال جل وعلا { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف:143]، وقد سأل بعض أهل البدع أحد أئمة اللغة عن قوله { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء :164]، سأله أن يقرأه بنصب لفظ الجلالة؛ يعني وكلّم اللهَ موسى تكليما؛ يعني أن يجعل المتكلم هو موسى وأن يجعل الله جل وعلا هو المكلَّم، رغبة منه أن ينفي الصفة؛ صفة الكلام لله جل وعلا، وذلك الرجل هو أحد رؤوس المعتزلة أظنه عمرو بن عبيد, يقول: فقال هذا الإمام هَبْنِي قرأتُها كذلك فما تصنع بقول الله جل وعلا { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف:143]. وهذا يدلُّك على أن أهل البدع لهم رغبة في نفي الكتاب والسنة.(39/41)
وصفة الكلام ثابتة لله جل وعلا، والمعتزلة يجعلون كلام الله مخلوقا منفصلا فيقولون موسى سمع كلام الشجرة، والجهمية يجعلونه مخلوقا منفصلا مطلقا، وأما الأشاعرة والماتريدية فهم يثبتون صفة الكلام؛ لأنها من الصفات السبع عند الأشاعرة ومن الصفات الثمان عند الماتريدية، ولكن يقولون هو متكلم بكلام نفسي قديم.
وأهل السنة والجماعة يتميزون عن أولئك جميعا بقولهم إنه جل وعلا يتكلم بكلام يُسمع بحرف وصوت إذ الذي يُسمع هو ما كان بحروف وما كان بصوت، وكذلك أن كلام الله جل وعلا صفة له جل وعلا، قديمة النوع، حادثة الآحاد؛ فهو جل وعلا يتكلم إذا شاء، كيف شاء، وليس كلامه صفة نفسية، بل هو يتكلم بصوت يسمعه من بَعُد، كما يسمعه من قرب يوم القيامة، وصوته ينفذ في ملائكته في السماء، وصوته سمعه موسى عليه السلام، ولهذا اعترف بعض حُذّاق الأشاعرة والمتكلمين وهو الآمدي في بعض كتبه بأن سماع موسى لكلام الله جل وعلا من الشجرة بأنه دليل لا يقبل التأويل، قال ”لأننا إذا قلنا إن كلام الله جل وعلا قديم فهل سمع موسى الكلام القديم؟ وإذا كان كلام الله جل وعلا قديما فقوله جل وعلا { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة:1] يكون الله جل وعلا يخبر عن نفسه أنه سمع كلام المجادلة قبل أن توجد المجادلة، وقبل أن يوجد ذلك الكلام؟ يقول: إنّه لا مفرَّ إما من إثبات صفة الكلام المسموع؛ حادث الآحاد، وإما أن يعتقد في الله الاعتقادات الباطلة. يعني من الإخبار بخلاف الواقع كما عليه مذاهب الفلاسفة, المقصود أنه اعترف بأنه لا مَحِيد من إثبات صفة الكلام فأهل السنة والجماعة يتميّزون بأنهم يثبتون صفة الكلام، وأن كلامه جل وعلا بصوت يُسمع، وأنه بحرف إذْ إنما يفهم العباد الحروف، وأنه ليس معنىً نفسيا قائما به جل وعلا يُلقى في رُوع جبريل فيأخذه جبريل ويعبر عنه، ولهذا يقول أولئك المبتدعة إن كلام الله جل وعلا معنىً واحد(39/42)
قائم بالنفس؛ إن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنا، أو عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، أو عبر عنه بالعبرانية كان توراة، فيجعلون كلام الله جل وعلا شيئا واحدا، ويجعلونه هو عين الأمر، وهو عين النهي، وهو عين الخبر، وهو عين بقية أنواع الكلام وهذا، والعياذ بالله فيه تنقص لله جل وعلا، والاعتقاد الحق ظاهر لما دلّ عليه الكتاب والسنة من مثل قوله تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى } [النساء:164] ثم أكّد بالمصدر الذي ينفي احتمال معنىً آخر غير التكليم فقال(تَكْلِيمًا)؛ يعني إذا كان (كلَّمَ) لها معنى آخر غير الكلام الذي يسمع فإنه رفع ذلك التوهم بقوله (تكليما)، ولهذا خُصَّ موسى عليه والسلام بهذه الخاصية؛ وهو أنه مُكَلَّم، وأنه كليم الرحمان يعني من كلَّمه الله جل وعلا بلا واسطة.
?????
26-ومِنْ كلامِ الله سبْحانه القرآنُ العظيمُ، وهو كتابُ الله المبينُ، وحَبْلُه المتينُ، وصراطُهُ المستقيمُ، وتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ المرسَلِينَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، مُنَزَّلٌ غيْرُ مخلوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وإِليْهِ يَعُودُ.
27-وهُوَ سُوَرٌ مُحْكَمَاتٌ، وآياتٌ بَيِّنَاتٌ، وحُرُوفٌ وكَلِماتٌ، مَنْ قَرَأَهُ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عشْرُ حسَناتٍ. لَهُ أَوَّلٌ وآخِرٌ، وأجْزاءٌ وأَبْعاضٌ، مَتْلُوٌ بالألسِنَةِ محْفوظٌ في الصُّدورِ، مَسْمُوع بالآذانِ، مَكْتوبٌ في المصاحِفِ، فِيهِ مُحْكَمٌ ومُتَشابِهٌ، ونَاسِخٌ ومنْسُوخٌ، وخاصٌّ وعامٌّ، وأمْرٌ ونَهْيٌ { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:42]، وقَوْله تعالى { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء:88].(39/43)
28- وهَذَا هُوَ الكتابُ العربيُّ الّذي قال فِيهِ الذين كَفَرُوا { لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ } [سبأ:31]، وقال بعضُهم { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [المدثر:25]، فَقال الله سُبْحانه { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [المدثر:26]، وقَالَ بَعْضُهم هو شِعْرٌ. فقال الله تعالى { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } [يس:69]، فَلَمَّا نَفَى اللهُ عنْهُ أنَّهُ شِعْرٌ وأثبتَهُ قُرْآنا لم يُبقِ شُبْهةً لِذِي لُبٍّ في أنَّ القرآنَ هو هذا الكتابُ العرَبيُّ الَّذي هُوَ حُرُوفٌ، وكلِماتٌ، وآياتٌ؛ لأنَّ ما ليْس كذلِك لا يقُولُ أحَدٌ إنَّه شعِْرٌ.
29-وقالَ عزّ وجلّ { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [البقرة:23]، ولا يجوزُ أنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِالإتْيانِ بِمِثْلِ ما لا يُدْرَى ما هُوَ ولا يُعْقَلْ.
30- وقالَ تَعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } [يونس:15]، فأَثْبَتَ أَنَّ القُرْآنَ هُوَ الآياتُ الَّتي تُتْلَى عَلَيْهِمْ.
31-وقال تعالى { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [العنكبوت:49]، وقال تعالى { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة:77- 79]، بَعْدَ أنْ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ.
32-وقال تعالى { كهيعص } [مريم:1], { حم(1)عسق } [الشورى:1-2]، وافْتَتَحَ تِسْعًا وعِشْرينَ سُورةً بالحروفِ المقطَّعَةِ.(39/44)
33-وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -«مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ»حديثٌ صحيحٌ.
34-وقال عليْه الصّلاةُ والسّلامُ«إقْرَأُوا القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَتَعَجَّلُونَ أَجْرَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ».
35- وقَالَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رضيَ اللهُ عنْهُما: إِعْرابُ القُرآنِ أَحَبُّ إليْنَا مِنْ حِفْظِ بعْضِ حُرُوفِهِ.
36- وقالَ عليٌّ - رضي الله عنه -: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلَّهُ.
37- واتَّفَقَ المسلمون على عَدِّ سُوَرِ القرآنِ وآياتِهِ وكلِماتِهِ وحُروفِهِ.
38- ولا خِلافَ بيْن المسلمين في أنَّ مَنْ جَحَدَ مِنَ القُرآنِ سُورَةً أو آيَةً أو كلِمَةً أو حرْفًا مُتَّفَقًا عليْه أنَّه كافِرٌ، وفي هذا حُجَّةٌ قاطِعَةٌ على أنَّهُ حُروفٌ.(39/45)
الكلام على أن القرآن كلام الله أخصّ من الكلام على صفة الكلام، فإن كلام الله جل وعلا وأنّه قديم عند بعض الطوائف، هذا أعم من أن يُقال إن القرآن النّازل هذا هو كلام الله جل وعلا، ولهذا فإننا نقول إن أهل السنة والجماعة اعتنوا بإثبات صفة الكلام لله جل وعلا في كلامهم على أنَّ القرآن كلام الله جل وعلا، إذْ إذا ثبت هذا الأخصّ الذي نُوزع فيه، فإنَّ إثبات صفة الكلام وأن كلامه جل وعلا بحروف وأصوات وأنه كلمات وحروف وجمل، فإنَّ هذا يَثْبُتُ بظهور، فإذا أثبت الأخص أثبت الأعم في هذا الباب من باب الأوضح والأظهر، فكلام الله جل وعلا الذي ألقاه إلى جبريل فسمعه جبريل منه، وأمره بتبليغه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسَمَّى ذلك الكلام قرآنا، فنزل به جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو القرآن، فالقرآن كلام الله؛ والقرآن بعض كلام الله جل وعلا؛ فكلام الله جل وعلا منه ما هو قرآن ومنه ما هو ليس بقرآن، فالله جل وعلا من كلامه الكلمات الكونية التي قال الله جل وعلا فيها { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف:109] ومعنى الكلمات هنا الكلمات الكونية.(39/46)
والقرآن كلام الله جل وعلا الذي ألقاه إلى جبريل فبلَّغه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سمعه، فإذن القرآن كلماته وآياته وحروفه وسوره هو مسموع لجبريل، من تَكَلُّمِ الله جل وعلا به بحرف وصوت، فهو حروف كما قال جل وعلا { ألم } ([8]), { حم عسق } [الشورى:1-2] إلى آخر الآيات التي فيها الأحرف المقطعة، وهذا يدل على أن جبريل سمعه على هذا النحو سمعه حروفا, وإذا كان سمعه حروفا فثبت أن الله جل وعلا تكلّم بحروف، إذْ جبريل عليه السلام يُقال إما أن يكون سمع كلاما عامّا ففصله بحروف، وهذا فيه نفي لصفة الكلام على النحو الذي أسلفنا إثباته، وإما أن يُقال إن جبريل عليه السلام سمعه هكذا على هذا النحو بالحروف، فيثبت ما يراد إثباته من أن الله جل وعلا يتكلم بكلام هو جمل وكلمات وحروف ويُسمع منه بصوت.
فإذن القرآن العظيم له مراتب:
?المرتبة الأولى: مرتبة الكتابة، وهذا ظاهر في قوله عز وجل { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } [الواقعة:77-78]، فالله جل وعلا قبل أن يتكلم بهذا القرآن في الأزل -يعني حين خلق اللوح المحفوظ وأودعه ما سيكون- جعل فيه القرآن مكتوبا، وهذه مرتبة الكتابة قبل مرتبة التكلم به، وهو جل وعلا جعله مكتوبا في اللوح المحفوظ، وذلك لسعة علمه جل وعلا، فهو يعلم ما سيوحيه إلى عبده محمد عليه الصلاة والسلام، فحفظه مكتوبا في اللوح المحفوظ.
?ثم بعد أن بعث نبيه عليه الصلاة والسلام جعل القرآن جميعا في مرحلة الكتابة أو في رتبة الكتابة جعله جل وعلا في بيت العزة في سماء الدنيا([9]) كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن الله أنزل القرآن وجعله في بيت العزة في السماء الدنيا, قال ابن عباس ثم أنزل منجما على ثلاث وعشرين سنة.(39/47)
?المرتبة الثالثة: مرتبة الكلام والتكلم به، وهذه هي التي يُخص بها وصف القرآن؛ لأن الله جل وعلا تكلّم بهذا القرآن وسمعه منه جبريل فبلغه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فتكلُّم الله جل وعلا بهذا القرآن إنما كان بعد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال جل وعلا { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة:1] فتكلم الله جل وعلا بقوله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) إنما كان بعد أن كانت المجادلة وبعد أن حصل من المرأة وزوجها ما حصل فقوله جل وعلا (قَدْ سَمِعَ) هذا حادث، وهذا حادث بمعنى جديد ليس بقديم، وهذا كما وصف الله جل وعلا كتابه بقوله { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } [الأنبياء:2] (مُحْدَثٍ) أي محدثٌ تنزيله, أي محدث التكلُّم به، فليس تكلم الله جل وعلا بالقرآن قديما كما يزعمه أهل البدع، لا؛ بل إنما تكلّم الله جل وعلا به بمشيئته جل وعلا وإرادته واختياره، حسَب ما يُوافق حكمته جل وعلا فيسمعه جبريل فيبلغه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا فيه نفي أقوال :
¨ الأول: أنه معنىً نفسي.
¨ الثاني: أنه مخلوق منفصل كما تزعمه المعتزلة، وحصل في ذلك الافتتان العظيم للإمام أحمد ولأهل السنة في فتنة خلق القرآن.
¨ والثالث: من يزعم أن جبريل أخذ القرآن في مرتبة الكتابة من اللوح المحفوظ، وأنزله على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما زعمه السيوطي -وجمع أيضا ممن قبله- في كتابه الإتقان حيث زعم أن جبريل عليه السلام أخذ القرآن في مرتبة الكتابة أخذه من اللوح المحفوظ فأنزله على النبي - صلى الله عليه وسلم -، يريدون بذلك نفي أن يكون الله جل وعلا تكلم بالقرآن، أو أن جبريل سمع منه هذه الآيات وهذه الأحرف.(39/48)
إذن فالأدلة التي أقامها المؤلف رحمه الله تعالى ظاهرة في أن القرآن آيات وحروف وكلمات وسور، والله جل وعلا تكلم به على هذا النحو والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } [يونس:15] (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) وهذا يدلّ على أنه عليه الصلاة والسلام إنما هو مبلِّغ، ولهذا قال جل وعلا { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ([10]) في آيتين في سورة التكوير وفي سورة الحاقة، وهذا ليس معناه أنه كلام الرسول، فإنه في سورة الحاقة يعنى به من؟ في سورة التكوير يعنى به من؟ قال جل وعلا { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } [التكوير:19-20]، وكذلك في سورة الحاقة { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } [الحاقة:40-41] ففي سورة الحاقة الرسول الذي نُسب إليه القول يعني القرآن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي سورة التكوير الرسول الكريم الذي نُسب إليه هذا القرآن هو جبريل عليه والسلام؛ فقال (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني جبريل عليه السلام، فهو قوله لكن الكلام كلام الباري جل وعلا، والقائل له مُبلغا عمن تكلم به مبلغا عمن تكلم به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو جبريل، فإذن نسبة القرآن إلى جبريل وأنه قوله هذه نسبة تبليغ، فإنّك إذا سمعت منّي كلاما أنقله عن أحد أهل العلم، فإنه يكون القول قولي، ولكن الكلام كلام من أنقل كلامه، ففرق بين القول وبين الكلام، وهذا لم يتفطن له كثير ممن زعم أن في هاتين الآيتين نسبة القرآن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى جبريل، يعني أن الله جل وعلا لم يتكلم به أنه ليس هو قول الله جل وعلا، كذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي بلّغ القرآن، والقرآن لمّا تكلم(39/49)
به النبي عليه الصلاة والسلام صار قولا له؛ لكنه هو يبلغه عن الله جل وعلا، فهو يبلغ كلاما وهذا الكلام هو كلام الله جل وعلا، وهذا به يظهر بعض ما يتعلق به الكلام عن مسألة كلام الله جل وعلا، وهي من أوائل المسائل التي أختلف فيها في صفات الله جل وعلا، ولذلك سمّى بعض الناس ما يتعلق بالكلام عن العقيدة سماه علم الكلام؛ لأنه من أوائل المسائل الحادثة التي تكلم الناس فيها واختلفوا فيها.
فتلخص من ذلك أن معتقد أهل السنة والجماعة أن الله جل وعلا يتكلم، وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأنه جل وعلا يتكلم بصوت يُسمع وأن كلامه حروف سمعها منه موسى عليه السلام ويسمعها منه جبريل عليه السلام والملائكة ويسمعها الناس يوم القيامة، وأن كلامه جل وعلا ليس ككلام غيره؛ بل ينفذ في الخلائق يوم القيامة يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأن كلامه لا يأتي من جهة، وإنما هو يأتي من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال بدون أن يكون من جهة واحدة، وهذا من عظيم اتصاف الله جل وعلا بهذا الوصف، وأن القرآن هو كلام الله منزّل غير مخلوق، إذا حُفِظَ في الصدور فهو كلام الله، وإذا كُتِب في الأوراق فهو كلام الله، وإذا تُلي على الألسن فهو كلام الله جل وعلا، فإذا تُلي نقول الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، فهذه مراتب مختلفة وكلها لا تَخرج عن كون هذا المتكلم به أو المكتوب أو المحفوظ أنه جميعا كلام الله جل وعلا وتعالى وتقدس وتعاظم.
?????
39-والمؤمنون يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الآخرةِ بأبْصارِهِم، ويَزُورُونَهُ، ويُكَلِّمُهُم ويُكَلِّمُونَهُ، قال اللهُ تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22-23]،(39/50)
40- وقالَ تعالى { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففون:15]، فلمَّا حَجَبَ أولئك في حالِ السُّخْطِ دَلَّ على أنَّ المؤمنين يَرَوْنَهُ في حالِ الرِّضَا و إِلاّ لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
41-وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -«إِنّكُمْ ستَرَوْنَ رَبّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لاَ تُضَامّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» حديث صحيح متفق عليه.
42-وهذا تشبيهٌ للرؤيةِ بالرؤيةِ لا للمرئيِّ بالمرئيِّ، فإنّ الله تعالى لا شبيهَ له ولا نظيرَ.
أيضا من عقائد أهل السنة والجماعة التي تميّزوا بها عن طوائف المبتدعة أنهم يعتقدون أن الله جل وعلا يُرى يوم القيامة، وأنه لا يمكن لأحد أن يراه في الدنيا كما قال جل وعلا لموسى حين سأله الرؤية قال { لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف:143]، فالرؤية في الدنيا ممتنعة، وأما في الآخرة فهي ممكنة؛ بل ستقع كما أخبر الله جل وعلا بقوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22:23]، ويرى المؤمنون ربهم جل وعلا في عرصات القيامة وكذلك في الجنة، فيتمتّعون بذلك النظر إلى وجه الله الكريم، فلم يُعطَوا نعيما أعظم من رؤية الرب جل وعلا فهو أعظم النعيم وأجزل النعيم، ولهذا سماه الله جل وعلا زيادة في قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس:26]، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى» رواه مسلم وغيره.(39/51)
خالف في ذلك المبتدعة فقال طائفة منهم: إن الرؤية غير ممكنة أصلا، والنظر غير واقع أصلا لا في الدنيا ولا في الآخرة.([11]) هذا كلام الجهمية والمعتزلة ومن شابههم، ويؤولون قوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة } [القيامة:22:23] بأن (نَاظِرَة) هنا بمعنى منتظرة، فيقولون هي كقوله تعالى { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا } ([12])يعني ينتظرون فالنظر في هذه الآية بمعنى الانتظار(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة)يعني منتظرة لرحمة الله، ومنتظرة لأمر الله جل وعلا.
والجواب عن احتجاج المعتزلة بهذا والخوارج، ويحتج بهذا أيضا طوائف الخوارج الموجودة اليوم من الإباضية وغيرهم وكذلك أهل الاعتزال, والجواب عن هذا الاحتجاج أنه لغة غير مستقيم، فضلا عن أنه ثبت النظر ورؤية المؤمنين لربهم جل وعلا في غير ما دليل، لكنه من حيث اللغة غلط، وذلك لأن الله جل وعلا قال(إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة) ولفظ النظر صحيح أنه يأتي بمعنى الانتظار ولكنه إذا أتى بمعنى الانتظار فإنه لا يُعَدَّى بـ(إِلَى) لأنه يكون لازما، كما قال جل وعلا(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا) فلما قال (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا) ولم يعدها بإلى علمنا أن النظر هنا بمعنى الانتظار(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا) (يَنْظُرُونَ) بمعنى الانتظار أما إذا عُدي النظر بإلى فهو نظر العين لا غير ولا تحتمل اللغة غير هذا كما قال جل وعلا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة) الدليل الثاني أنه جل وعلا قال (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة) فمن هي الناظرة إلى ربها؟ هي الوجوه، فهذا دليل على أن النظر هو نظر العين؛ لأنه جل وعلا جعل الناظر إلى الله جل وعلا هي الوجوه؛ يعني لأنها محل الإبصار وهذا ينفي الانتظار.(39/52)
وخالف أيضا في مسألة رؤية الله جل وعلا الأشاعرة والماتريدية ومن نحى نحوهم، فأثبتوا رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا يوم القيامة، وردّوا على المعتزلة في أنهم ينفون الرؤية، فالأشاعرة والماتريدية يثبتون الرؤية من أن الله جل وعلا يُرى يوم القيامة، لكنهم يقولون نظر لا إلى جهة، ولهذا قد تجد من الأشاعرة من يُثبت الرؤية بل هم يُثبتونها، لكن تنتبه إلى أنهم يختلفون في إثباتها عن أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة يجعلون الرؤية بالعينين إلى جهة العلو حيث الله جل وعلا، أما أولئك فيجعلونها رؤية بقُوىً يُحدثها الله جل وعلا في الأجسام يوم القيامة لا إلى جهة، وهذا غير مُتصور، ولهذا أهل الاعتزال ردوا على الأشاعرة وقالوا أنتم خالفتم المعقول، في كلام ومناقشات ليست في هذه الدروس المختصرة بمحلها، وكان المعتزلة في تأصيل المسألة أحذق من الأشاعرة بتأصيل المسألة عقليا, لكن الأشاعرة ضعُفوا فأثبتوا ما دل عليه الدليل، لكنهم خالفوا المعقول وخالفوا كل ما اشتمل عليه الدليل، وأما أهل الاعتزال فنظروا بالنظر العقلي فنفوا، وكان الصواب أن يُثبت الجميع، فتثبت الرؤية، والرؤية إلى جهة بحاسة الإبصار، يقول أولئك إن الله جل وعلا يقول لموسى إنك { لَنْ تَرَانِي } [الأعراف:143] قال, قال جل وعلا { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } [الأعراف:143] يقول أولئك إن (لَنْ) هنا تنفي نفيا مؤبدا، وهذا النفي المؤبد الذي حلت عليه (لَنْ) يشمل الحياة الدنيا والآخرة فلا يمكن الرؤية لا في الدنيا ولا في الآخرة بدليل قول الله تعالى: قال { لَنْ تَرَانِي } [الأعراف:143] ولم يُخصص الحياة الدنيا من الآخرة، والجواب أن هذا غلط في باب النحو، وغلط على العربية، ولهذا قال ابن مالك رحمه الله تعالى في الكافية الشافية غير الألفية متن أكبر من الألفية:
ومنْ رَأَى النفيَ بِلَنْ مُؤبَّدا(39/53)
فقولَه أُردُد وسِواهُ فاعْبُدا
(ومنْ رَأَى النفيَ بِلَنْ) وهم المعتزلة، (فقولَه أُردُد) لأنه لا يُعرف عن العرب ذلك، (وسِواهُ فاعْبُدا) لأن لن لا تدل على النفي المؤبد ودليل ذلك من القرآن أن الله جل وعلا أخبر عن مريم أنها قالت { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } [مريم:26]، فلو كانت (لَنْ) تدل على النفي المؤبد لم يكن التقييد بقولها (الْيَوْمَ) له معنى أليس كذلك؟ فقوله جل وعلا { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } [مريم:26] ظاهر في الدليل أن (لَنْ) لا تقتض التأبيد، كما قال ابن مالك رحمه الله مبينا(لَنْ)
ومنْ رَأَى النفيَ بِلَنْ مُؤبَّدا
فقولَه أُردُد وسِواهُ فاعْبُدا
على كل حال هذه المباحث التي نتعرض لها مختصرة، والحديث من هذه المسائل ينبغي فهمه، لكن نذكر ما يناسب الوقت والزمان، لكن من رام التفصيل فليرجع إلى الكتب التي فُصلت فيها هذه المسائل، فنحن نعطيكم إشارات فيها كفاية لمن تأملها وفهمها جيدا، ولكن من رام المزيد فليطلب ذلك في الكتب المفصلة.
?????(39/54)
43-ومِنْ صِفاتِ اللهِ تعالى أنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ لَا يَكُونُ شَيءٌ إلَّا بِإرادَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ وَلَا يَصْدُرُ إِلا عَنْ تدبِيرِهِ، ولا مَحِيدَ عَنِ القدَر المقدورِ، ولا يتجاوَزُ ما خُطَّ في اللَّوحِ المسْطورِ أرَاد ما العالَمُ فاعِلوهُ، وَلَوْ عَصَمَهُم لمَاَ خالَفوهُ، وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوهُ جَمِيعًا لأَطاعُوهُ، خَلَقَ الخَلْقَ وأفعالَهم، وقَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجَالَهُم، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بِحِكْمَتِه، قال اللهُ تعالى { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء:23]، قال اللهُ تعالى { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر:49]، وقال تعالى { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان:2]، وقال تعالى { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [الحديد:22]، وقال تعالى { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } [الأنعام:125].
44-ورَوَى ابنُ عُمَرَ أنَّ جِبْرِيلَ عليه السلامُ قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ» فقال جبريل: صَدَقْتَ. رواه مسلم.
45-وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «آمنْتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ».
46-ومِنْ دُعَاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الّذي علَّمَهُ الحسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَدْعُو بِهِ في قُنُوتِ الوِتْرِ«وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ».(39/55)
الركن السادس من أركان الإيمان هو الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
والقضاء والقدر لفظان يكثر ورودهما فهل بينهما فرق؟
من أهل العلم من قال إنه لا فرق بين القضاء والقدر؛ فالقضاء هو القدر، والقدر هو القضاء.
وفرَّق طائفة من أهل العلم بين القضاء والقدر؛ بأنّ القدر هو ما يسبق وقوع المقدَّر، فإذا وقع المقدَّر وانقضى سُمِّي قضاءً، فما قبل وقوع المقدر مشاهدا معلوما به يسمى قدرا، وإذا وقع ومضى سُمِّي قضاءً مع كونه يسمى قدَرا باعتبار ما قضي، وهذا التفريق حسن وظاهر، وذلك لأن مادة القضاء تختلف عن مادة القدر في اللغة، وقوله عليه الصلاة والسلام «وقني شر ما قضيت» هذا باعتبار أن ما قدر الله جل وعلا هو قضاء؛ يعني أنه كائن لا محالة، فيسأل الله جل وعلا أن يدفع عنه شر ما قدّر وما قضى.
وكثير من أهل العلم ومنهم ابن القيم رحمه الله يقولون لا فرق بين القضاء والقدر، فالقضاء هو القدر والقدر هو القضاء فيتواردان.
الإيمان بالقدر على مرتبتين؛ يعني كيف يكون إيمان أهل السنة والجماعة بالقدر؟ على مرتبتين:
?المرتبة الأولى ما يسبق حصول المقدر؛ ما يسبقه في الزمان؛ يعني ما كان في الماضي.
?المرتبة الثانية هي ما يكون حال وقوع المقدر.
أمّا المرتبة الأولى: فتضم مرتبتين أيضا: الأولى هي العلم، والثانية هي الكتابة. وهذه سابقة، والله جل وعلا علم ما الخلق عاملون إلى يوم القيامة، وكتب جل وعلا -وهذه المرتبة الثانية- مقادير الخلائق إلى قيام الساعة قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء.
فإذًا السابق من مراتب القدر أننا نؤمن بأن الله جل وعلا علم ما الخلق عاملون من خير وشر ومن أحوالهم وسكناتهم، وعلمه بهذا لم يزل أوَّلْ؛ لأنه جل وعلا عالم بهذا، ولم يتضرع إليه جل وعلا عدم العلم بهذا.(39/56)
الثاني أنه جل وعلا كتب هذا في اللوح المحفوظ؛ يعني ما الخلق عاملون، وما هم سائرون فيه ومن سيُهدى منهم، ومن سيضل، وكفر الكافر، ومعصية العاصي، وطاعة المطيع، وكل الحركات والسكنات هي مكتوبة في اللوح المحفوظ.
قال جل وعلا { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج:70] فذكر في آية الحج هذه مرتبتين التي هي المرحلة الأولى والمرتبة الأولى السابقة وهما العلم والكتابة، فنوقن بأن الله جل وعلا لم يحدث له علم بشيء، وليس الأمر أُنف؛ بل الله جل وعلا عالم بكل شيء قبل أن يكون أي شيء، وبعد ذلك كتب الله جل وعلا في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق إلى قيام الساعة، فلا يتعدون ما كتب لهم.
المرتبة الثانية: ما يواكِب المقدور، فأهل السنة والجماعة يجعلون الرتبة الثالثة من مراتب القدر وهي المرحلة الثانية, -المرحلة الأولى علم وكتابة- المرحلة الثانية ما يوافق المقدّر، وهي:
أولا: أن الله جل وعلا مشيئته نافذة في عباده؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يحدث في ملكه وملكوته شيء إلا وقد أذن الله جل وعلا به كونا، فطاعة المطيع أذن الله بها كونا، ومعصية العاصي أذن الله بها كونا، وكفر الكافر أذن الله جل وعلا بها كونا، والمصائب التي تصيب العباد أذن الله بها كونا { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ } [الإنسان:30]، فما يشاء العبد داخل في مشيئة الله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن كما قال جل وعلا { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [الإنسان:30]، فجعل مشيئة العبد تبعا لمشيئة الله جل وعلا، وأن العبد إذا شاء شيئا لا يكون استقلالا؛ بل إذا شاء الله جل وعلا أن يكون كان.(39/57)
الثانية في هذه المرحلة: وهي الرابعة من مراتب القدر، أنّ الله جل وعلا لا يكون في ملكه شيئا إلا وهو خالقه، فالله جل وعلا خالق كل شيء كما قال جل وعلا { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر:62]، فالله جل وعلا خلق كل شيء، من ذلك طاعة المطيع ومعصية العاصي, من ذلك أفعال العباد, من ذلك المصائب, كل ما يحدث في ملكوت الله جل وعلا خالق له.
هاتان المرتبتان أو المرحلة الثانية هذه تواقع المقدور، يعني إذا حصل المقدر وشاء الله وقوعه بما هو مكتوب في اللوح المحفوظ وسبق به علم الله جل وعلا، لا يكون إلا بمشيئة الله جل وعلا، وإذا كان فالله جل وعلا هو الذي خلقه.
هذا الأمر بمراتبه الأربعة هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة، فعندهم القدر هو: علم الله جل وعلا الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، وكتابته لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم مشيئته جل وعلا لها، وخلقه جل وعلا للأشياء جميعا.
هذا تعريف القدر عند أهل السنة والجماعة، فشمل هذا التعريف الأربع مراتب العلم، والكتابة, المشيئة العامة, الخلق لكل شيء، فالله جل وعلا خالق كل شيء.
خالف بعض أهل البدع فقالوا: إن الله جل وعلا لا يخلق فعل العبد؛ بل العبد يخلق فعل نفسه، وهذا هو قول القدرية يعني نفاة القدر، والجواب أن الله جل وعلا قال { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات:96] فخلق الله جل وعلا العباد وأعمالهم، فعمل العبد من الطاعات والمعاصي مخلوق لله جل وعلا، لكنه واقع لمشيئته، وهو الذي خلقه، وإذا كان معصية فإنما أذن بها كونا، ولم يرض بها شرعا ودينا؛ أرادها كونا، ولم يردها شرعا، فهو جل وعلا لا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا يكون في ملكه شيء إلا وهو خالقه، وهو الذي أنشأه فصوره وبرأه وخلقه، ويجامع هذا في معصية العاصي وكفر الكافر وأنه لا يرضى بتعدي الشرع.
نفاة القدر قسمان:(39/58)
1. قدرية غلاة: وهؤلاء هم نفاة العلم، وهؤلاء فرقة انقرضت، وهي التي قال فيها أئمة السلف ”ناظروا القدرية بالعلم، فهم إن أقروا به خُصموا وإن أنكروه كفروا“.
2. الطائفة الثانية: القدرية الذين ينفون خلق الله جل وعلا لأفعال العباد، وينفون القدر ويقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.
ويقابلهم الجبرية، والجبرية قسمان:
1. جبرية غلاة: وهم الذين يقولون إن المرء ليس له اختيار بتاتا، بل هو كالريشة في مهب الريح، وهذا اعتقاد الجهمية، وطوائف من الصوفية الغلاة موجودون اليوم.
2. والطائفة الثانية الجبرية غير الغلاة: وهؤلاء هم الأشاعرة، فإن الأشاعرة يقولون بالجبر لكنه جبر مؤدب؛ يعني جبر في الباطن دون الظاهر، يقولون: ظاهر المكلف أنه مختار، ولكنه في الباطن مجبر، ولهذا اخترعوا لفظ الكسب، فاخترع أبو الحسن الأشعري لفظ الكسب، وقال: إن الأعمال كسب للعباد. ما تفسير الكسب؟ اختلف حُذَّاقهم في تفسير الكسب إلى نحو من اثني عشرة قولا، ولا يهمنا ذكر هذه الأقوال الآن، كنه خلاصة الأمر أنه لا معنى للكسب عندهم، ولهذا قال بعض أهل العلم:
مما يقال ولا حقيقة تحته([13])
معقولة تدنو لذي الأفهام
الكسب عند الأشعري
والحال عند البهشمي
وطفرة النظام(39/59)
ثلاثة لا حقيقة لها، فالكسب إذا أردت أن تفسره أو تستفسر من الأشعري ما معناه لا يكاد يجتمع منهم جماعة على تفسيره بتفسير صحيح، ولهذا ذكر بعض شُرّاح الجوهرة -من متون الأشاعرة المعروفة- جوهرة التوحيد: أنه لابد من الاعتراف بأننا جبرية، ولكننا جبرية في الباطن دون الظاهر، فلسنا كالجبرية الذين يقولون للإنسان مجبر مطلقا، لا، ولكنه مختار ظاهرا، ولكنه مجبر ظاهرا. طيب كيف تفسرون الأفعال التي تحصل من العبد؟ قال: هو كالآلة التي يقوم الفعل بها فإمرار السكين, لا نقول أن السكين هي التي أحدثت القطع، ولكن نقول حدث القطع عند الإمرار، كذلك العبد نقول هو أُجبر على الصلاة؛ أُجبر على الصلاة لما قام، هو عصى وأُجبر على المعصية لما أتى، فيجعلونه كالآلة وكالمحل الذي يقوم بها إجبار الله جل وعلا، وينفذ فيه حكم الله جل وعلا، وهذا غاية في المخالفة لما دلت عليه النصوص.
فالأشاعرة طائفة من الجبرية, والمعتزلة طائفة من القدرية، والجبرية الغلاة والقدرية الغلاة قد مرّ بك تفصيل الكلام على اعتقادهم، وبهذا يتبين لك خلاصة ما يتعلق القدر، وأن الله جل وعلا مقدر للأشياء قبل وقوعها، ومعنى ذلك أنه علم ذلك، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن قضاءه نافذ في عباده لا يخرجون عما قدّر ولا عما قضى، وأن ذلك لا يعني إجبار العبد؛ بل هو يفعل باختياره ويجازى على أفعاله.
?????
47-ولاَ نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَهُ حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِهِ واجْتِناب نَوَاهِيه، بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبَعْثَةِ الرُّسُلِ، قال اللهُ تعالى { لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء:165].(39/60)
48-ونعلَمُ أنَّ اللهَ سبْحانه وتعالى ما أَمَرَ ونَهى إلاَّ المستطيعَ للفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَدا على معصيةٍ، ولا اضْطَرَّهُ إلى تَرْكِ طَاعَةٍ، وقال اللهُ تعالى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286]، وقال تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن:16]، وقال تعالى { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ } [غافر:17]. ([14])
49-فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلًا وكَسْبًا يُجْزَى على حَسَنِهِ بالثَّوابِ، وعلى سَيِّئِهِ بالعِقابِ، وهو واقِعٌ بقضاءِ الله وقَدَرِه.
ليس معنى إثبات القدر أننا نقول أننا مجبرون على أعمالنا، وأن يكون قضاء الله جل وعلا وقدره حجة لنا في ترك ما فرض علينا، فإذا ترك العبد فرضا من فرائضه قال قُدِّر علي، أو ترك واجبا من الواجبات قال قُضي عليَّ، وإذا فعل معصية قال هذا مُقدّر عليّ.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا يُحتجّ بالقدر على المعايب، ولكن يحتجّ بالقدر في المصائب. فإذا وقعت مصيبة على العبد فإنه يقول هذا قضاء الله وقدره فلا تلمني على شيء قضاه الله وقدّره، ولكن إذا كان منه تفريط في أمر واجب فإنه لا يحتجّ بالقدر على المعصية، وإنما كما عند أهل السنة: يُحتج بالقدر في المصائب لا في المعائب. وهذا مأخوذ من قصة محاجّة آدم عليه السلام مع موسى عليه السلام.(39/61)
وهنا ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى لفظ الكسب أيضا، وهذا الموضع مما أنتقد عليه أيضا، وذلك أن لفظ الكسب مما استعمله الأشاعرة وجاء في القرآن { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة:286]؛ ولكنه إذا كان في باب الاعتقاد فينبغي إذا استعملت الألفاظ التي يستدل بها أهل البدع ينبغي أن يكون استعمالها موضَّحا بالمعنى الصحيح، فلا تستخدم الألفاظ التي تحتمل معنىً ليس بصحيح كما عليه أهل البدع، فقوله عز وجل { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة:286] يعني عمِلت، فالكسب في القرآن هو العمل، أما الأشاعرة ومن شابههم من المبتدعة فاستعملوا الكسب بمعنى أن العبد يكون محلاًّ لفعل الله جل وعلا، فيقول هو كسب الفعل لأنه محله، ولا يجعلونه فاعلا حقيقة، ولكن العبد فاعل لفعله حقيقة، والله جل وعلا هو الذي خلق فعله، فيُضاف الفعل إلى الله جل وعلا خلقا وتقديرا، ويضاف الفعل إلى العبد أيضا فعلا منه واختيارا وعملا، فهو فاعل لفعله حقيقة، والله جل وعلا هو الذي خلق العبد وخلق أفعاله.
وبهذا يتبين لك مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في مسألة القدر، وهي مسألة مهمة، ولكن لنتذكر قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ”القدر سر الله فلا تكشفوا“ يعني أن القدر من الأسرار التي إذا أتى العبد وخاض فيها فإنه لن يصل فيها إلى مبتغاه، إلا إذا سار على ما دلت عليه النصوص، وقد جاءت في بعض الأحاديث «وإذا ذُكر القدر فأمسكوا» لأن العبد إذا خاض في هذا على غير بصيرة فإنه يقع في الضلال، وسبب ضلال الخلق أنهم دخلوا في تعليل أفعال الله، ودخلوا في البحث في مسائل القدر دون معرفة لما دل عليه الكتاب والسنة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تائيته القدرية التي ردّ بها على اليهودي الذي شكّك في قدر الله جل وعلا وفي أفعال الله، قال من ضمن ما قال فيها:
وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ(39/62)
هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةٍ
فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ
فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ
وما أحسن قول ابن الوزير أيضا في كتابه ”إيثار الحق على الخلق“لما تعرض لمسألة التعليل وأفعال الله جل وعلا وكيف نفهم القدر، وأنّه يجب علينا أن نَسْلُوَا ونبتعد عن فهمنا للحِكَم جميعا، قال مما قال في أبيات لطيفة طيبة قال:
تسلّ عن الوفاق فربنا قد
حكى بين الملائكة الخصاما
كذا الخضِر المكرّم والوجيه الـ
ــمكلّم إذ ألم به لماما
تكدر صفو جمعهما مرارا
وعجل صاحب السرّ الصراما
ففارقه الكليم كليم قلب
وقد ثنّى على الخضر الملاما
وماسبب الخلاف سوىاختلاف ال
ــعلوم هناك بعضا أو تماما
فكان من اللوازم أن يكون الإله
مخالفا فيها الأناما
لأننا لو فهمنا, لو كان علمنا كعلم الله جل وعلا لفهمنا الأسرار، لكن علمنا قاصر، فلا يمكن أن نفهم قال هنا مبينا السر في ذلك: (وما سبب الخلاف) وهذه قاعدة عامة:
وماسبب الخلاف سوىاختلاف ال
ــعلوم هناك بعضا أو تماما
فكان من اللوازم أن يكون الإله
مخالفا فيها الأناما
فلا تجهل لها قدْرا وخذها
شكورًا للذي يحيى الأناما([15])
وهذا ظاهر، في أن العبد المؤمن يتأمل في قصة موسى، وأن موسى أنكر على الخضر بعض الأفعال؛ لأنه لا يعلم الحكمة من ورائها؛ قتل غلاما ما يعلم الحكمة من ورائه فاحتج، وخرق سفينة ما يعلم الحكمة من ورائها فاحتج؛ لأجل نقص علمه في تلك المسائل عن علم الخضر، فكيف بعلم الله جل وعلا مع الخلق، لم يبق لنا في هذا الباب إلا التسليم المحض والعمل الجاد.
أسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى سبيله القويم، وأن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا العلم والعمل والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
50- والإيمانُ قوْلٌ باللسانِ وعمَلٌ بالأرْكانِ وعَقْدٌ بالجَنَانِ، يزيدُ بالطاعةِ وينْقُصُ بالعصيانِ.(39/63)
51-قال الله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة:5]، فجعَلَ عبادَةَ اللهِ تعالى وإخلاصَ القلبِ، وإقامَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزَّكاةِ، كُلَّهُ مِنُ الدِّينِ.
52-وقالَ رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -«الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطّرِيقِ».
53-فجعَلَ القَوْلَ والعَمَلَ مِنَ الإيمانِ. وقال تعالى { فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [التوبة:124]، وقال { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا } [الفتح:4].
54-وقال رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -«يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ» فجعَلَهُ متفاضلاً.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه الجمل فيها ذكر مبحث الإيمان ومعتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان، ومن أوائل المسائل الواقعة في هذه الأمة مما اختلف فيه أهل الفرق عما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان مسألة الإيمان؛ هل تدخل الأعمال في مُسمّى الإيمان؟ وهل الإيمان متفاضلا؛ يتبعض؟ يعني هل يزيد و ينقص؟ وهل هو أبعاض؟ قد يذهب بعضه ولا يذهب كله؟
فقال أولئك الضُّلاّل: إنّ الإيمان قول واعتقاد، وأما العمل فلا يدخل في مسمى الإيمان، وهؤلاء يسمون المرجئة والمرجئة على قسمين:
1. غلاة المرجئة: الذين يقولون إنّ الإيمان هو المعرفة؛ معرفة القلب لا غير، وهذا موجود اليوم في غلاة المتصوفة، وفي طوائف متنوعة.(39/64)
2. والقسم الثاني: الذين يقولون إنّ الإيمان قول واعتقاد، ويُخرجون العمل من مُسمّى الإيمان، فيجعلونه تابعا للإيمان، وليس منه، وليس من مسماه، يعني أن العمل ليس ركنا في الإيمان لا يقوم الإيمان إلا به، وهؤلاء يُسَمَّوْنَ مرجئة الفقهاء، كثر هذا في الحنفية لأنه قد قال به الإمام أبو حنيفة.
وطائفة أخرى خالفت، وقالت: إنّ الإيمان إما أن يبقى جميعه، وإما أن يذهب جميعه، فليس متفاضلا، فإذا عمل العبد بالمعصية الكبيرة فإنه يذهب جميعُ إيمانه. فالإيمان على حالين إما أن يبقى، وإما أن يذهب، وليس الإيمان متبعضا يزيد وينقص وقد يذهب بعضُه ولا يذهب أصلُه، وهذا هو المعروف من قول الخوارج ومن نحى نحوهم من التكفير بالذنوب والمعاصي.
ومعتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان أنهم يقولون: إن الإيمان هو ما جمع خمسة أمور؛ يعني معتقدهم في الإيمان ما جمع خمسة أمور:
?الأول: اعتقاد القلب.
?الثاني: قول اللسان.
?الثالث: العمل؛ عملٌ بالأركان.
?الرابع: أن الإيمان يزيد بطاعة الرحمان.
?الخامس: أن الإيمان ينقص بمعصية الرحمان وبطاعة الشيطان.
فهذه خمسة أمور تميز بكل واحد منها أهل السنة والجماعة عمّن خالفهم في هذا الأصل، وأدلّة ذلك ظاهرة بينة، فهو قول وعمل.
فالإيمان قول وعمل؛ قول القلب وعمل القلب، وقول الجوارح وعمل الجوارح:
½ وقول القلب: هو نيته وإخلاصه.
½ وعمل القلب: هو ما يقوم به من الاعتقاد.
½ وقول الجوارح: هو قول اللسان.
½ وعمل الجوارح: هو جنس الأعمال التي تعمل بها الجوارح من طاعة الله جل وعلا.
فهو قول وعمل، فمن قال من السلف إن الإيمان قول وعمل فيعني به هذه الأمور الخمسة؛ لأن قولَه: قول وعمل. يشمل ذلك.
أما زيادته و نقصانه فقد دلت عليها الأدلة الكثيرة، فإذن صار عندنا مسمى للإيمان غير ما تدل عليه اللغة في الإيمان، وذلك أنّ الإيمان:(39/65)
في اللغة: أصله التصديق الجازم، وقال بعض أهل العلم: إنّ أصله من الأمن؛ لأن من صدَّق جازما فإنه يأمن غائلة التكذيب.
وفي الاصطلاح: عند أهل السنة والجماعة هو ما فسّروه بالأمور الخمسة.
وفي القرآن أتى الإيمان بالمعنى اللغوي وبالمعنى الشرعي، وقد فرّق بين مجيء هذا وهذا في القرآن بعض أهل العلم بقوله ”إن غالب ما جاء فيه الإيمان بالمعنى اللغوي فإنه يُعَدَّى باللام، وما جاء فيه بالمعنى الشرعي فإنه يُعدَّى فيه بالباء“.
فمن الأول: يعني الإيمان اللغوي الذي عُدي باللام قوله جل وعلا { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } [يوسف:17]، فلما قال (بِمُؤْمِنٍ لَنَا) تعدّى الإيمان باللام علمنا أن المعنى هنا الإيمان اللغوي، تقول آمنت لك، يعنى صدّقتك تصديقا جازما، وكما قال جل وعلا { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت:26] يعنى صدّق به تصديقا جازما.
أما القسم الثاني: وهو الإيمان الشرعي فإنه يعدّى بالباء { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ } [البقرة:285], { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ } [البقرة:138] فهذا إيمان شرعي خاص.
وزيادة الإيمان ونقصانه أصل عند أهل السنة والجماعة يخالفون به الخوارج ومن يكفرون بالذنوب.
وينبغي أن يُعلم هنا أن أهل السنة يقولون: لا نكفر بذنب. ويقصدون بذلك لا يكفرون بعمل المعاصي، أما مباني الإسلام العظام التي هي الصلاة والزكاة والصيام والحج ففي تكفير تاركها والعاصي بتركها خلاف مشهور عندهم، فقولهم ”إنّ أهل السنة والجماعة يقولون لا نكفر بذنب ما لم يستحله بإجماع.“ يعني المعصية، أما المباني العظام فإن التكفير عندهم الخلاف فيه مشهور؛ منهم من يكفر بترك مباني الإسلام العظام أو أحد تلك المباني، ومنهم من لا يكفر.(39/66)
كذلك ينبغي أن يُعلم أن قولنا ”العمل داخل في مسمَّى الإيمان وركن فيه لا يقوم الإيمان إلا به.“ نعني به جنس العمل، وليس أفراد العمل، لأن المؤمن قد يترك أعمالا كثيرة صالحة مفروضة عليه ويبقى مؤمنا، لكنه لا يُسمّى مؤمنا ولا يصحّ منه إيمان إذا ترك كل العمل، يعني إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط للإيمان، فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي.
كذلك الإيمان مرتبة من مراتب الدين، والإسلام مرتبة من مراتب الدين، والإسلام فُسِّر بالأعمال الظاهرة، كما جاء في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الإيمان في القلب والإسلام علانية» يعني أن الإيمان ترجع إليه العقائد -أعمال القلوب-، وأمّا الإسلام فهو ما ظهر من أعمال الجوارح، فليُعلم أنّه لا يصح إسلام عبد إلا ببعض إيمان يصحّح إسلامه، كما أنَّه لا يصح إيمانه إلا ببعض إسلام يصحح إيمانه، فلا يُتصور مسلم ليس بمؤمن البتة، ولا مؤمن ليس بمسلم البتة.
وقول أهل السنة ”إنّ كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا“ لا يعنون به أن المسلم لا يكون معه شيء من الإيمان أصلا، بل لابد أن يكون معه مطلق الإيمان الذي به يصح إسلامه، كما أن المؤمن لابد أن يكون معه مطلق الإسلام الذي به يصح إيمانه، ونعني بمطلق الإسلام جنس العمل، فبهذا يتفق ما ذكروه في تعريف الإيمان وما أصَّلوه من أن كل مؤمن مسلم دون العكس.
فإذن هاهنا كما يقول أهل العلم عند أهل السنة والجماعة خمس نونات:
?النون الأولى: أن الإيمان قول اللسان، هذه النون الأولى يعني اللسان.
?الثانية: أنه اعتقاد الجنان.
?الثالثة: أنه عمل بالأركان.(39/67)
?النون الرابعة: أنه يزيد بطاعة الرحمان.
?الخامسة: أنه ينقص بطاعة الشيطان وبمعصية الرحمان.
والإيمان متفاضل؛ كلما عمل العبد طاعة زاد الإيمان، وإذا عمل معصية نقص الإيمان؛ ([16]) فبقدر إيمانه؛ فبقدر متابعته وبقدر إحداثه للطاعات يزيد إيمانه، سواء كانت طاعات القلوب من الاعتقادات، أو طاعات الجوارح من الأعمال الصالحات، فإن بذلك زيادة في الإيمان، فإذا عمل معصية نقص الإيمان.
كذلك الناس في أصل الإيمان ليسوا سواء؛ بل مختلفون، فإيمان أبي بكر ليس كإيمان سائر الصحابة، ولهذا قال شعبة أبو بكر بن عياش القارئ المعروف: ”ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بشيء وقر في قلبه.“ وهذا مستقاً من بعض الأحاديث أو من بعض الآثار، يعني أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان معه من أصل الإيمان ما ليس عند غيره، فيُغلِّطُ أهل السنة من قال: إن أهل الإيمان في أصله سواء، وإنما يتفاضلون بعد ذلك بالأعمال. بل هم مختلفون في أصله.
وفهم معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان يمنع من الدخول في الضلالات؛ من التكفير بالمعصية، أومن التكفير بما ليس بمكفر، فمن فهم معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان، حصّن لسانه وعقله من الدخول في الغلو في التكفير، وإتّباع الفرق الضالة التي سارعت في باب التكفير، فخاضت فيه بغير علم، فكفّروا المسلمين، وأدخلوا في الإسلام والإيمان من ليس بمسلم ولا مؤمن.
?????
55-ويجبُ الإيمانُ بكلِّ مَا أَخبَرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصَحَّ به النَّقلُ عَنْه فيما شَاهَدْناه أو غابَ عَنّا نَعْلَمُ أنَّه حَقٌّ وصِدقٌ، وسواءٌ في ذلك ما عقَلْناهُ وجَهِلناهُ، ولم نَطَّلِعْ على حقيقةِ معناهُ، مِثْلَ حديثِ الإسْراءِ والمِعراجِ وكان يَقَظَةً لا مَنامًا، فإنَّ قُريْشًا أنْكَرَتْهُ وأَكْبَرَتْهُ ولم تُنْكِرُ المناماتِ.(39/68)
56-ومِنْ ذلك أنَّ ملَكَ الموْتِ لمَّا جاءَ إلى موسى عليه السلامُ ليَقْبِضَ روحَهُ لَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إلى ربِّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ عَيْنَهُ.
57-ومِنْ ذلك أشراطُ السّاعةِ، مِثْلُ خُروجِ الدَّجَّالِ، ونُزولِ عيسى بنِ مريمَ عليه السلامُ فيَقْتُلَهُ، وخروجِ يأجوجَ ومأجوجَ، وخروج الدَّابّةِ، وطُلُوعِ الشَّمسِ مِنْ مغْرِبِهَا، وأشْباهِ ذلك مما صحَّ به النَّقْلُ.
58-وعذابُ القبْرِ ونعيمُه حقٌّ، وقد استعاذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ، وأَمَرَ بِهِ في كلِّ صلاةٍ.
59-وفِتْنَةُ القَبْرِ حقٌّ، وسُؤالُ مُنْكَرِ ونَكيرٍ حقٌّ، والبَعْثُ بعْدَ الموْتِ حقٌّ وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ عليه السلامُ في الصُّورِ { فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس:51].
هذه الجمل مشتملة على أصل عند أهل السنة والجماعة، وهو أنهم يسلمون بما جاء من النصوص في أمور الغيب، ولا يدخلون في ذلك متأولين بآرائهم وأفهامهم، وإنما يسلمون الجميع مما جاء من الأمور الغيبية، ويصدّقون دون دخول في تأويل أو تحريف، وذلك لأنّ الأحاديث بل والآيات التي فيها ذكر الأمور الغيبية مما خاض فيه المبتدعة من العقلانيين المعتزلة ومن نحى نحوهم، فأنكروا كثيرا من تلك الأحاديث التي فيها بعض أخبار الغيب، مثل ما جاء في حديث الإسراء من بعض الأوصاف، ومثل ما جاء من أن موسى عليه السلام فقأ عين ملك الموت، ممن مثل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - به مما يكون في الساعة، فينكرون حقائق ذلك ويؤولونه ويحرفونه.(39/69)
وأهل السنة عندهم أمور الغيب بابها واحد؛ وهو أن يُسلَّم لكل نص دون دخول في حقيقة المعنى، لأن الأمر الغيبي إنما يسلمون فيه بظاهر المعنى الذي دل عليه النص، أما ما عليه حقيقة تلك الأحوال فإنهم يكلُون علمها إلى بارئها؛ لأنها أمور غيبية، فكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم نرَه، سواء مما سيكون قرب قيام الساعة، أو سيكون بين موت كل عبد إلى قيام الساعة -يعني في الحياة البرزخية-، أو ما يكون في عرصات القيامة ويوم القيامة، كل ذلك يجعلونه بابا واحدا فيسلمون به ويثبتونه كما جاء، ولا يدخلون فيه متأولين ولا محرفين، وهذا بناء على أن الواجب على العباد أن يؤمنوا بظواهر الألفاظ، وأن يؤمنوا بظاهر الأدلة، ولا يدخلون في ذلك، مخرجين الأدلة عما دلّ عليه ظاهرها، لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وهو ذكر عدة أمثلة، وسيأتي ذكر عدة أمثلة أخر مما سنوضحه إنشاء الله تعالى، لكن ليُعلم الأصل أنّ كل من دخل في أحاديث الغيب؛ الأحاديث التي فيها أمور غيبية، أو بعض الآيات، ودخل متأولا بعقله، محرفا عن ظاهره، فهو من أهل الأهواء والبدع، وقد ظهر في هذا الزمان طائفة ممن يحكّمون عقولهم على النصوص، ويستنكرون مثل هذه الأحاديث التي فيها ذكر الغيب، ويحرفون ويؤولون، فأحاديث المسيح الدجال أنكروها وقالوا هذه لا تعقلها العقول السليمة، وحديث فقأ موسى لعين لملك الموت أولوه وقالوا هذا لا تعقله العقول السليمة، وهكذا فيما يكون في عرصات القيامة، و ما يكون في القبر، حتى جعل بعضهم عذاب القبر إنما هو صوري، ونعيم القبر إنما هو صوري، وليس له حقيقة, قالوا لأن ذلك غير معقول، على ما جاء تفصيله في بعض الأحاديث مثل ضغطة القبر، ومن مثل إقعاد الميت ونحو ذلك، مما سيأتي بيانُه.
?????(39/70)
59- وفِتْنَةُ القَبْرِ حقٌّ، وسُؤالِ مُنْكَرِ ونَكيرٍ حقٌّ، والبَعْثُ بعْدَ الموْتِ حقٌّ وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ عليه السلامُ في الصُّورِ { فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس:51].
60-ويُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيّامةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً بُهْمًا فيقِفونَ في موْقفِ القيّامةِ، حتّى يَشْفَعَ فيهم نبيُّنَا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ويُحاسِبُهُم اللهُ تبارك وتعالى، وتُنْصَبُ الموازينُ، وتُنْشَرُ الدَّواوينُ، وتَتَطايَرُ صُحُف الأَعْمالِ إلى الأَيْمانِ والشَّمائِلِ { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8)وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا } [الانشقاق:7-12].
61-والميزانُ له كِفَّتانِ ولِسانٌ، تُوزَنُ به الأعمال { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [المؤمنون:102-103]
62-ولنبيِّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حوْضٌ في القِيامَةِ ماؤُهُ أشَدُّ بياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ، وأَبَارِيقُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بعْدَها أبدًا.
63-والصِّراطُ حقٌّ يَجُوزُهُ الأَبْرارُ، ويَزِلُّ عنْهُ الفُجَّارُ.(39/71)
عذاب القبر ونعيمه حق، وفتنة القبر حق, ونعني بفتنة القبر سؤال الملكين الميت عن ربه وعن دينه وعن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأما المؤمن فيجيب فيقول ربي الله، يعني معبودي الله، إن الرب هاهنا بمعنى المعبود، لأن الابتلاء وقع في العبادة لم يقع في توحيد الربوبية، ويقول محمد جاءنا بالبينات والهدى، ويقول ديني الإسلام، { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [إبراهيم:27]، قوله هنا (فِي الْآخِرَةِ) يعني عند الممات، يعني حين سؤال الملكين، فعذاب القبر ونعيمه حق، وما يجري في القبر من النعيم والعذاب حق، يثبته أهل السنة والجماعة، ونفاه من نفاه من أهل البدع والضلالات، قال جل وعلا في سورة غافر { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر:46]، فجعل العذاب بالنار على قسمين:
? يعرض أولئك على النار غدوا وعشيا.
? ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب.
وهذا نفهم منه أنه يعني بالغدو والعشي عذاب القبر، ولهذا استدل أهل السنة والجماعة على عذاب القبر بالقرآن وبالسنة، وبما يدل عليه العقل أيضا، فعذاب القبر حق، وما يحصل فيه من نعيم وبسط وسعة في قبر المؤمن، وضيق وحسرة ونار في قبر الكافر، هذا كله حق، ولا نعلم كيفية حصول ذلك.
كذلك ضغطة القبر حقّ لا يسلم منها أحد، لا المسلم ولا غير المسلم؛ فالكافر يضغط حتى تختلف أضلاعه عذابا، وأما المؤمن فيضغطه القبر، قال أهل العلم: ضمة القبر للمسلم كضمة الحبيب للحبيب يصله منها بعض الأذى، ولكنها ضمة حبيب لحبيبه. يعني أن ضمة القبر حق، ولكنها للمؤمن ضمة حب، وللكافر ضمة بغض وعذاب، وهذا كله يضعه جل وعلا ويخلقه جل وعلا في الأرض، فتضم هذا وتضم هذا، وفرق بين تلك الضمّة وتلك الضمّة.(39/72)
الناس يحشرون يوم القيامة، فالناس إذا ماتوا وكانوا في قبورهم يَبلى كل شيء من ابن آدم إلا عَجْبَ الذنب، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنّ أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل شيء يبلى من ابن آدم إلا عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» فتبقى هذه البذور لآخر العظام عظام العمود الفقري, عجب الذنب، يبقى في الأرض كبذرة ينبت منها جسم صاحبها إذا أراد الله جل وعلا بعث الورى، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، وماتت الخلائق جميعا إلا من شاء الله، بعث الله جل وعلا سحابا يحمل مطرا كمني الرجال، فتُمطر الأرض منه أربعين صباحا، فتنبت منه أجسام الورى, تنبت منه أجسام الناس، حتى تكون على أكمل هيئة شباب في سن ثلاث وثلاثين، الصغير والكبير يكونون على هذا السن إلا بعض الخلائق، ثم إذا كانوا و شبّت أجسامهم وأخرجت الأرض أثقالها ولم يكن في الأجسام أرواح، نُفخ في الصور نفخة البعث، فتنطلق الأرواح من الصور إلى نفس كل صاحب نفس، فتهتز الأجسام بالأرواح، ويحشرون إلى أرض المحشر، وصف ذلك ابن القيم رحمه الله في نونيته وصفا بليغا جيدا يحسن حفظه من طالب العلم فقال رحمه الله:
وإذا أرادالله إخراج الورى
بعد الممات إلى المعاد الثاني
ألقىعلى الأرض التي هم تحتها
والله مقتدر وذو سلطان
مطرا غليظا أبيضا متتابعا
عشرا وعشرا بعدها عشران
فتظل تنبت منه أجسام الورى
مثل النبات كأجمل الريحان
حتى إذا ما الأم حان ولادها
وتمخضت فنفاسها متداني
أوحى لها رب السماء فتشققت
فإذا الجنين كأكمل الشبان
ثم إذا بعث الله جل وعلا الناس ورجعت الأرواح إلى الأجسام سيق الناس إلى أرض المحشر؛ منهم الراكب، ومنهم من يُساق سوقا، منهم السعيد في حشره إلى أرض المحشر، ومنهم من يفد على الرحمن وفدا، ومنهم من يساق إلى جهنم وردا, في عرصات القيامة تكون أمور عظام.(39/73)
ومنها حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والحوض يكون في أول ما يقدم الناس على عرصات القيامة، يكون حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - وماؤه من نهر الكوثر في الجنة، كما جاء إثبات ذلك في غير ما حديث بأن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة، وقد قال الله جل وعلا لنبيه: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر:1]، والكوثر نهر من أنهار الجنة، وبعضهم قال الكوثر هو الحوض، وكلا القولين صحيح؛ لأن الحوض ماؤه من نهر الكوثر الذي في الجنة، ومن أهل العلم من يقول إن الحوض بعد الصراط، أي بعد عبور الصراط يكون الحوض. ولكل نبي حوض وقد جاء ذلك في بعض الأحاديث وفي إسنادها بعض الشيء، لكن أهل العلم منهم طائفة كبيرة يقولون: ولنبينا حوض ولكل نبي حوض، لكن يختص حوض نبينا عليه الصلاة والسلام بخصائص منها أنه أكثر الأحواض ورودا عليه، وأن الناس منهم من يرد و منهم من يذاد عنه, ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته كعدد نجوم السماء، وطوله شهر وعرضه شهر، يفد عليه من لم يحدث في الدين حدثا، ومنهم يُرَدُّ عن الورود عن حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام «أصحابي, أصحابي» وفي لفظ «أمتي, أمتي» فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك.
ولهذا قال أهل العلم: إن من أسباب عدم ورود حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - و الذود عليه والحرمان منه المحدثات، فمن كان محدثا في الدين حدثا أو آوى محدثا فإنه يحرم من السقيا من حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -.(39/74)
كذلك في عرصات يوم القيامة الميزان والميزان جنس للموازين قال جلّ وعلا { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأنبياء:47] وقال جل وعلا { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } ([17]) فهي موازين، ومن أهل العلم من قال إنه ميزان واحد، وهاهنا نبه المؤلف رحمه الله تعالى إلى أن الميزان حقيقة، فقال (له كفتان ولسان) ويعني بذلك مخالفة المعتزلة الذين قالوا إن الميزان لا يُعقل أن تكون حقيقته في الآخرة كحقيقته في الدنيا: أنه توزن به الأمور. ويوزن في الميزان العمل، وصاحب العمل، وصحائف الأعمال، العمل واحد، صاحب العمل يوزن، وصحائف الأعمال، ومنهم من قال يعني من أهل العلم: إن وزن صاحب العمل هو وزن عمله. لكن هذا جاء أحاديث فيها وزن صاحب العمل، وفيها وزن الصحائف؛ صحائف الأعمال.
كذلك ما في عرصات القيامة تطاير الصحف، والناس على صنفين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه بشماله وراء ظهره، فيكون ذلك التلقي للكتب من اليمين وعن الشمال، بشارة للمؤمن، وحسرة على الكافر، كما جاء ذلك في سورة الحاقة مبيّنا.
الصراط حق، وهو دحض مذلة، يمر عليه الناس، فمنهم من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر عليه كأسرع جواد، ومنهم يمر عليه يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم من يمشي تارة ويكبو تارة، ومنهم من يزل عنه فيخر في جهنم، منصوب على متن جهنم، والمرور عليه ذلك هو الورود الذي قال الله تعالى فيه في سورة مريم { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } [مريم:71] فقد ثبت عليه الصلاة والسلام أنّه فسّر ذلك بالمرور على الصراط.(39/75)
وكل ما يكون في القيامة مما صحّت أسانيده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعُدّلت نقلته، وأثبته أهل العلم، أو جاء في الآيات في الكتاب العظيم، كل ذلك يثبته أهل السنة دون أن ينفوا من ذلك ما لم تعقله عقولهم أو تدركه أفئدتهم، وإنما يجعلون ذلك الباب باب غيبيات، بابه التسليم، ومداره على الاستسلام لخبر من لا معقب لخبره، لخبر من هو صادق في خبره، لا يعلم حقيقة الأمر إلا هو، وليس أحدا يعلم إلا هو جلّ وعلا، أو ما أخبر به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، فكل ذلك حق من كل تفاصيل ما يجري في يوم القيامة.
?????
64- ويَشْفَعُ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - فيمَنْ دخلَ النّارَ مِنْ أُمّتِهِ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ فيَخْرُجونَ بِشفاعَتِهِ بَعْدَمَا احْتَرَقُوا وصاروا فَحْمًا وحِمَمًا، فيدخلونَ الجنَّةَ بشفاعَتِهِ.
65-ولسائِرِ الأنبياءِ والمؤمنين والملائكةِ شفاعاتٌ، قال تعالى { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء:28]
66-ولا تَنْفَعُ الكافِرَ شفاعةُ الشّافعين.
67-والجنَّةُ والنّارُ مخلوقتانِ لا تفْنيانِ، فالجنَّةُ مأوى أوليائه، والنّارُ عِقابٌ لأعدائِهِ، وأهلُ الجنَّةِ فيها مُخَلَّدونَ { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74)لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [الزخرف:74-75].
68-ويُؤْتَى بالموْتِ في صورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فيُذبَحُ بين الجنَّةَ والنّارِ، ثم يُقال ”يا أهلَ الجنَّةِ خلودٌ ولا موْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ خلودٌ ولا موْتَ“.(39/76)
إثبات الشفاعة يوم القيامة مما تميز به أهل السنة و الجماعة، فهناك شفاعة متفق عليها، وهي الشفاعة العظمى، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع للناس عند ربه جل وعلا في أن يسرع في حسابهم؛ ليرتاحوا من هول الموقف وما فيه من أمور عظام، وذلك كما جاء في حديث الشفاعة الطويل، مِنْ أنّ الناس يذهبون إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى عليهم جميعا الصلاة والسلام، فيرجعون ويعتذرون عن الشفاعة، يسألهم الناس أن يدعوا الله جلّ و علا ليريحهم من الموقف، ويعجل عليهم الحساب، فيعتذرون عن الشفاعة، ثم يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيطلبون منه الشفاعة، فيقول: «أنا لها، أنا لها» وذلك أن الله جل وعلا أعطى كل نبي من الأنبياء دعوة يستجاب له فيها جزما، قال عليه الصلاة والسلام «لكل نبي دعوة مجابة، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» وهذا يحصل بالشفاعة العظمى، ويحصل أيضا بالشفاعة الخاصة للمؤمنين؛ ممن دخل النار أن يخرج منها وممن استحق الجنة أن يدخل الجنة، فيأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي العرش فيسجد بين يدي الله جل وعلا، ويحمد الله بمحامد، فلا يتعجل الشفاعة، ولا يتعجل الدعاء؛ بل يُثني على الله جل وعلا بما هو أهله، قال عليه الصلاة والسلام «فأخرّ ساجدا بين يدي العرش، فأحمد الله بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، ثم يقول جل وعلا: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع» وهذه هي الشفاعة العُظمى؛ الشفاعة في تعجيل حساب الناس، فيبدأ الحساب.(39/77)
من الشفاعات التي يؤمن بها أهل السنة والجماعة ما أعطيه نبينا عليه الصلاة والسلام من أنه يشفع لأناس استحقوا النار ألاّ يدخلوها، ويشفع لأناس دخلوا النار أن يخرجوا منها، ويشفع لمن استحق الجنة أن يدخلها ولا يتأخر عنها، وكذلك هذا الجنس من الشفاعة ثابت أيضا للمؤمنين؛ فالمؤمنون يشفعون فيمن شاءوا أن يشفعوا فيه من بعد إذن الله لمن شاء ويرضى، يشفعون ويخرج بشفاعتهم بعض من شفعوا فيه من النار، وكذلك الملائكة تشفع، كما جاء ذلك في الأحاديث الصحيحة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عن ربه أنه يقول يوم القيامة «شفع الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، وبقيت رحمة أرحم الراحمين، فيُخرج من النار قوما لم يعلموا خيرا قط، فيلقيهم في ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السيل».
فهذه الشفاعات خالف فيها الخوارج، وخالف فيها المعتزلة، ولم يثبتوا تلك الشفاعات؛ لا للمؤمنين، ولا للملائكة، ولا الشفاعة في أهل النار أن يخرجوا منها؛ يعني لأهل الكبائر أن يخرجوا من النار.
كذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - أختص بشفاعة لكافر، وهو أبو طالب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع له حتى يُخفَّف عنه من العذاب.(39/78)
الجنة والنار، يعتقد أهل السنة والجماعة أنهما مخلوقتان الآن، وأنهما لا تفنيان، ولا تبيدان, الجنة حق والنار حق, الجنة دار لأولياء الله، والنار دار لأعدائه. يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيذبح على قنطرة بين الجنة والنار، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. فالجنة والنار لا تفنيان ولا تبيدان، وينص أهل السنة والجماعة على ذلك مخافة لبعض أهل الاعتزال والتجهم الذين يقولون: إن نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار يفنى، وإن الجنة والنار تفنيان، أو أنهما اليوم ليستا بمخلوقتين. وأهل السنة يثبتون تجدد النعيم وتجدد العذاب في النار، كما أن النعيم يتجدد على أهل الجنة، والمسألة فيها مزيد تفصيل ليس هذا بمحل بيانه.
وهذا الفصل هو كالشرح لركن الإيمان الخامس؛ ألاَ وهو الإيمان باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بما بعد الموت؛ من فتنة القبر، إلى ما يحصل في الحياة البرزخية، والنفخ في الصور، وما يحصل في عرصات القيامة، وما هو بعد ذلك من حال الجنة والنار والشفاعات إلى آخره، هذا كله يدخل في الإيمان باليوم الآخر.
فالمؤلف لم يرتب ترتيبا على أركان الإيمان، فقدَّم الكلام على القدر، وأخَّر الكلام على الإيمان على اليوم الآخر، وسيأتي الكلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر سهل ميسور، وحبَّذا عند شرح العقائد أن تُرتَّب على ما جاء في حديث جبريل عليه السلام؛ من ذكر الإيمان بالله، ثم الملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، حتى يستقيم فهمها وترتيبها.
?????
69- ومحمدٌ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خاتَمُ النَّبِيِّينَ وسَيِّدُ المرسلينَ، لا يصحُّ إيمانُ عبْدٍ حَتّى يُؤمِنَ برسالته، ويشهَدَ بنبوتِه، ولا يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ في القيامَةِ، إلاَّ بشفاعَتِهِ، ولاَ يَدْخُلُ الجنّةَ أُمّةٌ إلاّ بعْدَ دُخولِ أُمّتِه.(39/79)
70- صاحِبُ لِواءِ الحمْدِ والمقامِ المحمودِ والحوْضِ الموْرودِ، وهوَ إمامُ النَّبِيّينَ، وخَطِيبُهم، وصاحِبُ شفاعتِهم.
71- أمّتُه خيْرُ الأممِ، وأصحابُه خيْرُ أصحابِ الأنبياءِ عليهم السّلامُ.
وأفضلُ أمّتِه أبو بكْرٍ الصِّديقُ، ثُم عمرُ الفاروقُ، ثُم عثمانُ ذو النُّورَينِ، ثُم عَليّ المُرْتَضَى - رضي الله عنهم - أَجْمَعِينَ. لِمَا رَوى عبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِي الله عنهما قال: كنَّا نقولُ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ: أَفْضَلُ هذه الأمّة بعْدَ نبيّْها أبو بكرٍ، ثمَّ عمرُ، ثم عثمانُ، ثم عليّ فيبلغَ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلا يُنْكرُه.
72- وصحَّتِ الرِّوايَةُ عنْ عليّ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: خَيْرُ هذهِ الأمةِ بعد نبيِّها أبو بكرٍ ثم عمرُ ولو شئْتُ لسميْتُ الثَّالثَ.
73-ورًوى أبو الدّرْدَاءِ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال «مَا طَلَعَتْ الشَمْسُ وَلاَ غَرُبَتْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ عَلَى أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ».
74-وَهُو أَحَقُّ خَلْقِ اللهِ بالخِلافَةِ بعْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لفَضْلِهِ وسَابِقَتِه، وتَقْدِيمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له في الصّلاةِ على جميع الصّحابةِ - رضي الله عنهم -، وإجماعِ الصّحابة على تقْديمِه ومُبايَعَتِه، ولم يكنِ اللهُ ليَجْمَعَهم على ضَلالةٍ.
75-ثم مِنْ بعده عمرُ - رضي الله عنه - لفضْلِه وعَهْدِ أَبي بكرٍ إليه.
76-ثم عثمانُ - رضي الله عنه - لتقْديم أهلِ الشُّورى له.
77-ثم عليٌّ - رضي الله عنه - لفَضلِه، وإجماعِ أهلِ عصْرِه عليه.
78-وهؤلاءِ الخلفاءُ الرّاشدون المهديّون الذين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم «عَلَيْكُمْ بِسُنّتِي وَسُنّةِ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ الْمَهْدِيّينِ مِنْ بَعْدِي، عَضّوا عَلَيْهَا بِالنّوَاجِذِ»(39/80)
79-وقال - صلى الله عليه وسلم - «الخِلاَفَةُ مِنْ بَعْدِي ثَلاَثُونَ سَنَةً» فكان آخرُها خلافةَ عليٍّ - رضي الله عنه -.
80- ونَشْهَدُ للعشَرةِ بالجنّةِ، كما شَهِدَ لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال«أبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وعُمَرُ فِي الجنَّةِ، وعُثْمَانُ في الجنَّةِ، وعَلِيٌّ في الجنّةِ، وطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ، والزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وسَعْدٌ فِي الجنَّةِ، وسَعِيدٌ في الجنّةِ، وعبدُ الرّحمنِ بنُ عوِفٍ في الجنّةِ، وأبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ في الجَنَّةِ».
81- وكُلُّ مَنْ شَهِدَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنَّةِ شَهِدْنَا له بها، كقوله«الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ»، وقولِه لثابِتٍ بنِ قيْسٍ«إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».
82- ولا نَجْزِمُ لأحدٍ مِنْ أهلِ القِبْلَةِ بجنَّةٍ ولا نَارٍ إلاَّ مَنْ جَزَمَ لَهُ الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، لَكِنَّا نَرجو للمُحْسِنِ ونَخَافُ على المُسيءِ.(39/81)
ذكر في هذه الجمل الكلام على معتقد أهل السنة و الجماعة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم يعتقدون أن خير هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء ذلك في غير ما حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «خير هذه الأمة قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» وهذا عام لكل الصحابة، فكل صحابي يثبت هذا الفضل، فجنس الصحابة أفضل من جنس من بعدهم، والصحابة متفاوتون في الفضل، فأفضل الصحابة وأعلاهم مقاما أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، ويليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ثم علي - رضي الله عنه -، وهؤلاء هم الخلفاء الأربعة الراشدون، فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة؛ ترتيبهم في الفضل عند أهل السنة كترتيبهم في الخلافة، وكان هناك خلاف في القرن الأول هل يقدم علي على عثمان في الفضل أم لا يقدم؟ مع إقرار الجميع أن عثمان أولى بالخلافة من علي، لكن هل علي أفضل أم عثمان؟ فكان من أهل الكوفة من أهل السنة من يقول إن عليا أفضل، وبعضهم وهم الجمهور والعامة يقولون إن عثمان أفضل، وهذا هو الذي استقرت عليه عقائد أهل السنة والجماعة من الأخذ بقول عامة علمائهم، بل الأخذ بقول علي وقول الصحابة؛ من أن ترتيب الصحابة في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فعثمان مقدم على علي - رضي الله عنه -.
وأولئك كانوا يسمّون في الزمن الأول الشيعة؛ فمن فضّل عليّا على عثمان نُسِب إلى التشيّع، وهو غير الرفض الموجود بعد ذلك الذي من علاماته سب الشيخين ولعنهما والتبري من عثمان ومعاوية رضي الله عن جميع الصحابة والذين يقولون إنه لم يصح إيمان إلا نفر من الصحابة فقد ارتد الأكثرون إلا طائفة.(39/82)
الصحابة طبقاتهم في الفضل من حيث الإجمال: أنّ المهاجرين أفضل الصحابة، ويليهم الأنصار، ثم من شهد بيعة الرضوان، ثم من أسلم قبل الفتح – فتح مكة-، ثم من أسلم بعد ذلك، قال جل وعلا { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [الحديد:10]، والفتح المراد به هنا صلح الحديبية، فلا يستوي من بايع بيعة الرضوان ممن أسلم بعد ذلك، فهذه طبقاتهم في الفضل إجمالا، ونقول أيضا إن جنس الصحابة أفضل من جنس من جاء بعدهم؛ لكن قد يكون في أفراد من بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة، لكنه من حيث الجنس والعموم فالصحابة أفضل هذه الأمة، لكن قد يكون فيمن بعدهم أفضل من بعض الصحابة في مقامات الإيمان والجهاد والإحسان كما قرر ذلك أهل العلم, فالكلام على الجنس من حيث أن الصحابة هم أفضل.
أفضل المهاجرين وأفضل الصحابة؛ بل وأفضل هذه الأمة العشرة المبشرون بالجنة؛ وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة بن عبد الله، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وعبد الرحمان بن عوف - رضي الله عنه -، فهؤلاء العشرة هم أفضل المهاجرين، وهم أفضل الصحابة أيضا، وهم أفضل هذه الأمة.
قال (لا نشهد لمعين بجنة ولا نار).
قبل هذا نذكر حكم من سبّ الصحابة؛ سب الصحابة ينقسم إلى أقسام:
? الأول: إن سبّ جميعهم، أو حكم على أكثرهم بالكفر والردة إلا نفر، فإن هذا كفر؛ لأنه ردّ شهادة الله جل وعلا بقوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح:18]، قد ثبت أن الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا ألفا وأربع مائة، وفي بعض الروايات أنه كانوا ألفا وخمس مائة.(39/83)
? القسم الثاني: أن يسبّ بعضا منهم، فهذا فيه تفصيل، إن سبّ بعضا منهم من جهة اعتقاد؛ يعني اعتقد فيهم أنهم أخطئوا، وأنهم فرطوا، وأنهم أصابهم ما أصابهم من جهة اعتقاد، كما يعتقد الخوارج، فإن هذا من كبائر الذنوب، ولا يعد مخرجا من الملة، وإن كان سبّ بعضهم من جهة الغيض تغيضا عليهم، وحقدا عليهم، فإن هذا كفر وخروج من الملة، قال أهل العلم: لأن الله جل وعلا قال في وصف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ } [الفتح:29] فمن كان في قلبه غيض على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيوصف بما وصفه الله جل وعلا به من أنه من الكفار.
وأما أمهات المؤمنين فحكم سبهم حكم سب الصحابة.
وأما قذف أمهات المؤمنين أو واحدة منهن، عائشة وغيرها، يعني أنها لم تكن عفيفة فهو كفر بالله، من قذف امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر؛ لأنه ردّ قول الله جل وعلا، وما حكم به لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يختلف عن حال من قذف في عهده - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أولئك نزلت الآيات بعد شأنهم في حادثة الإفك المشهورة، وأما بعد ذلك لمّا نزلت الآيات في التبرئة وبعد نزول قوله تعالى { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } [النور:17]، فجعل ذلك شرط الإيمان بعد ذلك، من قذف امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكفر بذلك، كما قرره أهل العلم.
وفي المسألة مباحث أخرى يطلبها المستزيد من مظانه.(39/84)
مما ذكره المؤلف أننا لا نشهد لمعين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأناس غير العشرة المبشرين؛ فشهد للحسن والحسين رضي الله عنهما، وشهد لعكاشة، وشهد لجماعة، فمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهدنا له بالجنة، وأما غيرهم لا ننزل أحدا جنة ولا نارا، لكن قال بعض أهل العلم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، و مثل غيره من المتقدمين يُلحق بذلك من شهدت له الأمة بأجمعها بأنه من أهل الجنة واستفاض عنه أنه من أئمة الإسلام، فشهدت له الأمة، فإنه يلحق بذلك ولا بأس بالشهادة له، وهذا أخذا من قوله عليه الصلاة والسلام لما مُر عليه بجنازة «هذه أثنيتم عليها خيرا وجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شرا فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه».
?????
83- ولاَ نُكفِّرُ أحدًا مِنْ أهلِ القِبلةِ بذَنْبٍ، ولاَ نُخْرِجُهُ عَنِ الإسلامِ بِعَمَلٍ.
84-ونَرَى الحَجَّ والجِهَادَ ماضيًا مع طاعَةِ كلِّ إمامٍ بَرًّا كان أو فَاجِرًا، وصلاةُ الجمعةِ خلفَهم جائزةٌ.
85- قال أنَسٌ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «ثَلاَثٌ مِنْ أصْلِ الإيمَانِ: الكَفّ عن مَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاّ الله وَلاَ تُكَفّرْهُ بِذَنْبٍ وَلاَ تُخْرِجْهُ مِنَ الإسْلاَمِ بِعَمَلٍ, وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَني الله عزّ وجلّ حتّى يُقَاتِلَ آخِرُ أُمّتِي الدّجّالَ([18]) لاَ يُبْطِلُه جَوْرُ جَائِرٍ وَلاَ عَدْلُ عَادِلٍ, وَالإيمَانُ بالأقْدَارِ» رواه أبو داود.(39/85)
مما تميز به أهل السنة أنهم لا يكفِّرون أحدا بذنب ما لم يستحله، والاستحلال اعتقاد، وليس فعل المعصية أو الإقرار عليها استحلال؛ فمن فعل المعصية أو أقرّ من يفعل المعصية من الكبائر أو ما دونها، فإن هذا كبيرة من كبائر الذنوب، ومحرم من المحرمات بحسب حال تلك المعصية، ولا يُعَدُّ استحلالا، فلا يُكفّر أهل السنة والجماعة بذنب ما لم يستحله صاحبه، واستحلاله أن يعتقد أنه حلال، أن يعتقد أن هذا الأمر الذي حرّمه الله جل وعلا في صورته التي حرمها الله جل وعلا أنه حلال؛ لأنه يكون ممن ردّ حكم الله جل وعلا فأحل الحرام، فلا يكفر أهل السنة أحدا بذنب إلا إذا استحله؛ يعني اعتقد بقلبه أنه حلال.
من مميزات أهل السنة والجماعة أنهم يرون الحج والجهاد ماضيين مع أئمة المسلمين بارين كانوا أو فاجرين، فطاعة أئمة المسلمين الذين حصلت إمامتهم، إمّا باختيار من أهل الحل والعقد، أو غلبة بسيف وسنان، كلهم تنعقد لهم الإمامة الشرعية، ويبقون لهم حق الطاعة في المعروف، والجهاد معهم وعدم عصيانهم؛ لأن طاعتهم من طاعة الله ورسوله، فالخروج عليهم، أو عدم اعتقاد وجوب طاعتهم، هذا من اعتقادات الخوارج والمعتزلة.
فإنّ المعتزلة ضمنوا أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا ذلك مضمّن للخروج على الأئمة؛ أئمة المسلمين، إذا رأوا منهم ظلما، أو رأوا منهم كثرة عمل للمعاصي، أو كثرة ممارسة للكبائر والمنكرات.
والخوارج خرجوا بها على هذا الأصل، وكذلك المعتزلة يرون الخروج ويعتقدونه دينا؛ لأجل هذا الأصل.
وكذلك جماعة كبيرة من الأشاعرة يرون الخروج جائز للجَوْرِ ولانتشار الكبائر ونحو ذلك.(39/86)
أما أهل السنة والجماعة فيرون أنه ما دام أنّ اسم الإسلام باق على الإمام فإنه تجب طاعته في المعروف، ولا يجوز الخروج عنه، وهذا مما يميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم؛ بل كان أئمة أهل الحديث، وأئمة أهل السنة يمتحنون الناس في زمن الفتن؛ في أواخر القرن الثالث والرابع يمتحنون الناس بهذا الأمر هل يرون الطاعة أم لا يرونها؟ بل قال الأئمة: علامة أهل السنة الدعاء للأئمة يعني للسلاطين، وعلامة أهل البدعة الوقيعة في السلاطين. وهذا ظاهر لمن تأمل هدي أهل السنة والجماعة، وتأمل أصولهم، وارجعوا في هذا الأمر إلى الإبانة لابن بطة، وارجعوا إلى كتاب البربهاري وهو من أئمة أهل السنة والجماعة فقد فصّل في ذلك تفصيلا بيّنا لأجل ما ظهر في زمنه من كثرة المخالفين في هذا الأصل العظيم.
فأهل السنة يرون أن الوِلاية الشرعية تحصل عن أحد طريقين: إما باختيار من أهل الحل والعقد، وإما بغلبة، فمن غلب ودعا الناس إلى بيعته فتجب بيعته، ومن أُختير من أهل الحل والعقد ودعا أهل الحل والعقد إلى بيعته وجبت بيعته، وقد حصل هذا في الإسلام وهذا، فبيعة الخلفاء الراشدين كانت عن اختيار، وبيعة الولاة وأمراء المؤمنين من بني أمية وبني العباس وما بعدهم إلى زمننا هذا حصلت بالغلبة، لا بالاختيار، وكل من الحالين أمر شرعي، تلزم عنه وتتفرع عنه الأحكام الشرعية من الطاعة وعدم جواز الخروج، ومن المحبة والنصرة فيما أوجب فيه الله جل وعلا النصرة وأمر فيه، وهذا مما يتميز به أهل السنة عن الخوارج والمبتدعة.(39/87)
وفي هذا الزمان كثرت المخالفة في هذا الأصل العظيم، والناجي من نجاه الله جل وعلا، وكثير ممن يعتني بمنهج أهل السنة والجماعة، لا يعتني بمنهجهم في الإمامة، وأهل السنة والجماعة عقائدهم يجب أخذها جميعا دون تفريق بين باب وباب، لأننا إذا فرقنا نكون على شيء من الهوى، فهذه الأبواب تسمى عند أهل العلم أبواب الاعتقاد في الإمامة، لأنهم خالفوا بذلك الخوارج والمعتزلة وطوائف من الأشاعرة.
?????
86- ومِنَ السُّنّةِ تَوَلِّي أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ومحبَّتُهُم، وذِكْرُ محاسنِهم، والتَّرَحُّمُ عليهم، والاستغفارُ لهم، والكَفُّ عن ذِكْرِ مسَاوئِهِم، ومَا شَجَرَ بَيْنَهُم، واعتِقادُ فَضْلِهِم، ومعرِفةُ سابِقَتِهم. قال الله تعالى { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا } [الحشر:10]، وقال تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح:29].
87- وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «لا تَسبّوا أصحابي, فلو أنّ أحدَكم أنفقَ مثلَ أُحُدٍ ذهَباً ما بَلغَ مُدّ أحدِهم ولا نَصيفَه»
88- ومِنَ السُّنّةِ التَّرَضِّي عَنْ أَزْواجِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أُمَّهاتِ المؤمنينَ المُطهَّراتِ، المُبَرَّآتِ مِنْ كلِّ سوءٍ، أفضلُهنّ خديجةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ وعائشةُ الصّديقةُ بنتُ الصّديقِ التي بَرّأَهَا اللهُ فِي كتابِهِ، زوْجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرةِ، فمَنْ قَذَفَهَا بما بَرَّأَها اللهُ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ باللهِ العظيم .
89- ومعاويةُ خالُ المؤمنينَ، وكاتِبُ وحْيِ اللهِ، أحدُ خلفاءِ المسلمينَ - رضي الله عنهم -.(39/88)
90- ومِنَ السُّنَّةِ السَّمْعُ والطاعَةُ لأئمةِ المسلمينَ وأُمَرَاءِ المؤمنينَ بَرِّهِمْ وفَاجّرِهمْ، ما لم يأمروا بمعصيةِ اللهِ، فإنَّه لا طاعةَ لأحدٍ في معصيةِ اللهِ.
91- ومَنْ وَلِي الخلافةَ، واجتمعَ عليه النّاسُ ورَضُوا بِهِ، أوْ غلبَهُم بسيْفِهِ حتَى صَارَ الخليفة، وسُمِّيَ أميرَ المؤمنينَ، وجبَتْ طاعتُهُ، وحَرُمَتْ مُخَالفَتُهُ والخُروجُ عَلَيهِ وشَقُّ عصَا المسلمينَ.
هذه المسائل من محبة الصحابة وتوليهم وعدم سبّهم، والكلام على أمهات المؤمنين، وحقوق الإمام المسلم مرّ معنا تفصيله، وقد سبقتُ موضعه اللائق به، ويبِّن لك كلامه الأخير ما ذكرته سابقا من معتقدات أهل السنة؛ أنه تحصل الإمامة الشرعية بأحد الأمرين، إما باجتماع الناس عليه، ورضاهم به، أو أن يغلبهم بسيفه، ولو لم يرض الناس، يغلبهم بسيفه، ويدعو الناس لمبايعته، فيصبح خليفة، أو يصبح أميرا للمؤمنين، أو يصبح إماما، أو يصبح حاكما، فتجب طاعته، ويحرم الخروج عليه، وشق عصا المسلمين عنه، فالولايات الشرعية قسمان: ولاية اختيارية، وولاية تغلّبية، وقد بيّن ذلك أتم بيان الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى بما ذكر من اعتقاد أئمة أهل السنة.
?????
92- ومِنَ السُّنّةِ هِجْرانُ أهْلِ البِدعِ ومُبَايَنَتُهُم وتَرْكُ الجِدَالِ والخُصُومَاتِ في الدّينِ، وتَرْكُ النَّظَرِ في كُتُبِ المبتدعةِ، والإصْغاءُ إلى كلامِهِم، وكلُّ مُحْدَثَةٍ في الدِّينِ بِدْعَةٌ.
93- وكلُّ مُتَسَمٍّ بِغَيْرِ الإسلامِ والسُّنّةِ مبتدعٌ، كالرافضةِ والجهميةِ، والخوارِجِ، والقَدَريّةِ والمرجئةِ، والمعتزلةِ، والكَرَّامية، والكُلاّبيّة، ونَظَرَائِهم، فَهَذِهِ فِرَقُ الضَّلالِ وطَوَائفُ البِدَعِ أعاذَنَا اللهُ منْها.(39/89)
قال (من السنة هِجران أهل البدع ومباينتهم) وهذا هو الذي كان أئمة أهل السنة يوصون به من عدم غشيان المبتدعة في مجالسهم ولا مخالطتهم، بل هجرانهم بالكلام، وهجران بالأبدان، حتى تُخمد بدعهم، وحتى لا ينتشر شرهم، فالدخول مع المبتدعة ومساكنتهم، سواء كانت البدع صغيرة أو كبيرة، والسكوت عن ذلك، وعدم هِجرانهم، والاستئناس لهم، وعدم رفع الرأس بحالهم مع بدعهم، هذا من حال أهل الضلال، إذْ أهل السنة تميزوا بأنهم لهم الموقف الأعظم الذي فيه القوة والشدة مع أهل البدع مهما كانت البدع، فيهجرون أهل البدع، هجر المبتدع من أصول الإسلام، بل من أصول أهل السنة، لأن جنس البدع أعظم من الكبائر، فالبدعة أشد وأعظم من الكبائر، وذلك من خمس جهات، نذكر بعضا منها: الأولى أن البدعة من باب الشبهات، والكبائر من باب الشهوات، وباب الشبهات يعسر التوبة منه، بخلاف أبواب الشهوات، ولهذا جاء في الأحاديث من حديث معاوية وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصف أهل البدع «تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقَى منه عرق ولا مفصل إلا دخله»وقد بيّن عليه الصلاة والسلام إن صحّ الحديث وقد صحّحه جمع من العلماء أنه قال « أبى الله أن يقبل توبة صاحب بدعة حتى يدع بدعته» وقد جاء في ذلك أيضا بعض الأحاديث، التي منها ما يصح، ومنها ما لا يصح، ومنها ما رُوي أنه قال «من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام».(39/90)
ونلاحظ اليوم أنه في هذه المسألة فيه تَرْكٌ لهذا الأصل، فكثير من الناس يُخالط المبتدعة ولا يهجرهم بحجج شتى؛ إمَّا دنيوية، وإما تارة تكون دعوية أو دينية، وهذا مما ينبغي التنبه له والتحذير منه؛ لأن هِجران أهل البدع متعين، فلا يجوز مخالطتهم بدعوى أن ذلك للدعوة، ولا مخالطتهم بدعوى أن ذلك للدنيا، ولا مخالطتهم وعدم الإنكار عليهم بدعوى أن هذا فيه مصلحة كذا وكذا، إلا لمن أراد أن ينقلهم لما هو أفضل لما هم فيه، وأن ينكر عليهم ويغيّر عليهم.(39/91)
الاهتمام بالسنة والرد على المبتدعة هذا كما تعلمون ظاهر في حال أئمة أهل الإسلام، فقد كانت حياتهم في الرد على المبتدعة، ولم يشغلوا أنفسهم بالرد على الكفار الأصليين من اليهود والنصارى، فإذا رأيت كلام الإمام أحمد، وسفيان، وحمّاد بن زيد، أو حمّاد بن سلمة، ونعيم وهم أئمة أهل السنة، والأوزاعي، وإسحاق، وعلي بن المديني، ونحوهم من أهل السنة والإسلام، وجدتَ أن جُلّ كلامهم وجهادهم إنما هو في الرد على المبتدعة وفي نقض أصول المبتدعة، وإن كانوا باقين على أصل الإسلام، ولم يشغلوا أنفسهم بالرد على اليهود والنصارى وسائر ملل أهل الكفر، وذلك لأن شر المبتدع لا يظهر على أهل الإسلام، ولا يؤمَن على أهل الإسلام، أما الكافر الأصلي من اليهود والنصارى فشرُّه وضرره بين وواضح لكل مسلم؛ لأن الله جل وعلا بيّن ذلك في كتابه، وهم ظاهرون، أما أهل البدع فالشر منهم كثير، ولهذا لا يحسن أن يُنسب لأهل السنة والجماعة أنهم مفرّطون في الرد على اليهود والنصارى ومنشغلون بالرد على أهل الإسلام، كما قاله بعض العقلانيين من المعتزلة وغيرهم: إن أهل السنة انشغلوا بالرد على أهل الإسلام، وتركوا الرد على الكفار من اليهود والنصارى، وسائر أهل الملل الزائفة. وهذا سببه هو ما بينته لك أن شر البدع أعظم؛ لأن هؤلاء يدخلون على المسلمين باسم الإسلام، وأما أولئك ففي القلب منهم نفرة من اليهود والنصارى، فهدي أئمة الإسلام كان ظاهرا في الرد على المبتدعة، والرد على أهل الأهواء، ولم يعرف عنهم كبير عمل في الرد على اليهود والنصارى، وليس معنى ذلك أن المؤمنين من أهل السنة لا ينشغلوا بالرد على اليهود والنصارى، لا، ولكن نذكر ما تميز به أئمة أهل السنة وإلا فالرد على كل معادٍ للإسلام من الكفار الأصليين، ومن أهل البدع متعيِّن وفرض، لكن من انشغل بالرد على المبتدعة لا يقال له لما تركت اليهود والنصارى لم ترد عليهم وانشغلت بهؤلاء، نقول هذا هدي الأئمة(39/92)
الأولين، وكلٌّ يرد في مجاله؛ منا من يرد على اليهود والنصارى، ومنا من يرد على المبتدعة، ونحن جميعا نكون حامين لبيضة الإسلام من تلبيسات الملبِّسين، وبدع المبتدعين، وشرك المشركين، وضلالات الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم.
?????
94- وأمَّا بِالنّسْبَةِ إلى إمامٍ في فُروعِ الدِّينِ كالطَّوَائِفِ الأرْبَعِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، فَإنَّ الاخْتِلافَ في الفُروعِ رَحْمةٌ، وَاْلمخْتَلِفونَ فِيهِ مَحْمُودُونَ فِي اخْتلافِهمْ، مُثَابُونَ في اجْتِهَادِهمْ وَاخْتِلاَفُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ، وَاتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قاطِعَةٌَ.
95- نَسْأَلُ الله أَنْ يَعْصِمَنا مِنَ الْبِدَعِ وَالْفِتْنَةِ، وَيُحْيينَا عَلَى الإسْلامِ وَالسُّنةِ، وَيَجْعَلنَا مِمَّنْ يَتَّبِعْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحَياةِ، وَيَحْشُرَنَا في زُمْرَتِهِ بَعْدَ المَمَاتِ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ آمِينَ.
وَهَذَا آخِرُ المْعْتَقَدِ.
وَالحَمْدُ لله وَحدهُ، وَصلَّى الله علىَ سَيِّدنَا مُحمدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ وَسَلََّمَ تَسْلِيمًا.
اختلف الأئمة في مسائل الفقه، قال الموفق بن قدامة(واختلافهم رحمة)وهذا صحيح باعتبار، وغير صحيح باعتبار آخر:
½ فاختلافهم رحمة صحيح باعتبار أنهم بذلوا وسعهم لإرشاد الناس، وحصل مع بذل الوسع والاجتهاد الاختلاف، فيقال اختلافهم رحمة؛ يعني سبب الاختلاف من أنه بذل الاجتهاد والجهد في بيان المسائل ونفع الناس رحمة، ولو حصل الاختلاف، فإن كان المقصود هذا المعنى فهذا صحيح.
½ وأما إن كان المقصود أن اختلافهم على هذه الأنحاء، هذه الأقوال المتباينة أنه رحمة رُحمت بها الأمة، فهذا غير صحيح؛ لأن هذه الأقوال المختلفة منها ما هو مخالف للسنة، ومنها ما قد فرّق الأمة، فليست برحمة كما هو ظاهر.(39/93)
فإذن قوله اختلافهم في الدين رحمة، يُمكن أن يُفسر بتفسير صحيح، ويمكن أن يفسر بتفسير خاطئ، فإن أريد به التفسير الصحيح صُحّح، وإن أريد به التفسير الخاطئ خُطِّئ.
هذا الاختلاف ما موقفنا منه؟
الواجب أولا أن يترحّم على جميع العلماء، وأن يُعذروا في اختلافهم، وما أخطئوا فيه من اجتهادهم المخالف للسنة لا يتَّبعون فيه، فإن العالم لا يتبع بزلته، ولا يُتبع على ما أخطأ من قوله أو في فعله، ويُحب الجميع، ونعتقد أن المجتهد منهم مأجور بأجر واحد إن أخطأ، وبأجرين إن أصاب، وأما من تبعهم في أقوالهم، فإن كان ذلك الإتباع عن تعصب بعد معرفة الدليل فهذا مذموم وباطل، وهو الذي أقام السلف الصياحات على من سار على هذا النحو؛ يقدم أقوال الرجال على ما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة، وأما إن كان إتباعه لا عن تعصب لكن عن اقتناع باستدلالاتهم وبأصولهم، فإن ذلك لا يلام ولا يعاب على صاحبه.
ثم دعا المؤلف بدعوة عظيمة، ونحن ندعوا بها، ويجب دائما أن نحرص على مثل هذه الدعوات؛ لأن القلب يتقلب، وهذا الزمن زمن أهواء وفتن، لا يدري المرء هل يثبت على دينه، وعلى السنة حتى يتوفاه الله، أم تعصف به الأهواء والفتن، قال: نسأل الله أن يعصمنا من البدع، وأن يمن علينا بلزوم السنة، ونحن نسأله جل وعلا كذلك أن يمن علينا بلزوم السنة، والمحافظة عليها، وبنصرة أهلها، واعتقاد أئمة أهل السنة والجماعة وسلف هذه الأمة، وأن يباعد بيننا وبين الأهواء والفتن والبدع، وبين أصحابها، وأن يجعلنا قائمين بالحق ثابتين عليه، صادعين بالحق، رادّين على الباطل، على كل من جاء بباطل.
ونسأله جل وعلا أن يجعلنا من الهداة المهتدين، السائرين على هدي السلف الصالح، الآخذين بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعظوا عليها بالنواجذ».(39/94)
هذا آخر المعتقد، وهذه العقيدة المختصَرة مع ما سمعتم من الشرح المقتضب جدًّا على هذه المسائل، لكن أحسبه أنه شمل أصول الاعتقاد، وينبغي عليكم -وقد سرّني حضوركم بمثل هذا الجمع، في هذا الوقت، مما يدل على رغبة في دراسة الاعتقاد- أن تتموا دراسة العقيدة، وأن تتوسعوا في ذلك، حتى تعرفوا تفاصيل المعتقد، فإنما يشرف المرء منا بأن يكون في دراسته للعقيدة؛ أن يكون مقبلا متوسعا فيها، لأن الناس بحاجة إلى توضيح العقائد، واليوم المعتني بذلك في صفوف الشباب، بل وفي صفوف طلبة العلم قليل، والناس اليوم في العالم كله، وخاصة في العالم الإسلامي، بل وعندنا في كثير من البقاع بحاجة إلى تبيين أصول الاعتقاد والتوحيد وما يضاده، لأن هذا هو أصل الأصول، وإذا استقام الأصل استقام ما بعده.
الأجوبة على الأسئلة([19]):(39/95)
1. ليس فيه زيادة، صحيح، معنى قول (ليس فيه زيادة) بمعنى لم يُزد فيه على كلام الله شيء، فكلُّه كلام الله، ليس فيه ولا حرف زيادة، يعني من عند البشر، بل كله من كلام الله جل وعلا، لكن القرآن نزل بلسان عربي، وعلى وَفْق لغة العرب وسَنَنِها في كلامهم، وهذا يعني أنه تجري فيه القواعد العربية، فكون يكون فيه لفظ زائد -ما نقول زائد- نقول صلة تأدبا مع القرآن، لكن هل الزيادة هنا بمعنى أنه ماله فائدة؟لا، أعظم فائدة هي التأكيد مثل قوله ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ?[آل عمران:159]، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) معناها فبرحمة من الله لنت لهم، فـ(مَا) في قوله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) ليست نافية، المعنى المراد فبرحمة من الله لنت لهم، فهنا أتت (مَا) صلة، ما معنى كونها صلة؟ أنها في مقام تكرير الجملة، كأنّ الله جل وعلا قال: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. كذلك قوله?فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ?([20]) وهكذا، وهذا شيء معروف في لغة العرب. نعم.(39/96)
2. التشبيه هنا في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] يورد إشكال على من جعل الكاف بمعنى (مِثْل)، وهو يقول إذا قلنا إن المعنى الكاف بمعنى (مِثْل) فتكون الآية (ليس مِثْلَ مِثْلِهِ شيء)، يقول: يقتضي هذا إثبات المثل؛ لأنه يكون في الآية نفي لمثل المثل، ونفي مثل المثل لا يقتضي نفي المثيل. ونقول: هذا يصحُّ، لكن في غير لسان العرب، أمّا العربي إذا أراد أن يبالغ في نفي المثل، نفى وجود مِثْل المثل، فإذا نُفي وجود مِثْل المثل، فنفي وجود المثيل عِنْده من باب أولى، فالعرب من لغتها إذا أرادت المبالغة الشديدة في نفي المثل، نَفَت مِثْل مِثْل المثل ليش؟ لأنه كأن المثل أصلا لا يُلتفت إليه، فهو ينفي وجود مثيل لذلك، لأن هذا الأول كأنه مفروغ من أنه لا يوجد، ولكنه ذهب إلى الدرجة الثانية، وليس معنى هذا أنه إذا نفينا الأدنى أننا نثبت الأعلى، لا، لكنها في العربية أنّه إذا أراد المبالغة في النفي نفى شَبَه الشبيه؛ نفى مثل المثيل، هذا أشد المبالغة، لكن الوجه الذي يرجحه كثير من المحققين من أهل العلم أن الكاف صلة، وهذا ظاهر ولا نحتاج معه إلى جواب عن هذا الإيراد.(39/97)
3. هذه الحروف في أوائل السور التي تسمى الحروف المقطعة، الراجح في معناها أنها للإشارة إلى أن هذا القرآن مؤلَّف؛ يعني كلماته متألفة – لا نقول مؤلَّف من باب التأليف، لا,- متألفة من جنس هذه الأحرف، وإذا كان كذلك، وهذه الأحرف هي التي يتكلم العرب بها، ويؤلفون بها كلامهم، فإنه يدل ذلك على أن هذا القرآن معجز، يعني أن يقول للناس هذا القرآن مكوَّن من هذه الأحرف التي تتكلمون بها، وتُنشئون بها كلامكم، وليس من أحرف أخر، ومع هذا أنتم لا تستطيعون أن تأتوا ولا بمثل عشر سور، ولا بمثل سورة منه، وهذا يدل على عظم الإعجاز، ويدل على هذا التفسير الاستقراء، والاستقراء أحد أوجه الأدلة التي ينبغي العناية بها، فتجد أن معظم السور التي في أولها الأحرف المقطعة يُعقِبها ذكر القرآن أو الكتاب؛ قال جل وعلا { الم } [البقرة:1] هذه سورة البقرة { الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ } [البقرة:1-2]، { الم } [آل عمران:1] آل عمران { الم(1)اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } [آل عمران:1-3]، { المص } [الأعراف:1] سورة الأعراف { المص(1)كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [الأعراف:1-2]، { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1]، { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } ([21]) وهكذا { الم } [السجدة:1] في سورة السجدة مثلا، { حم(1)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [فصلت:1-2]، { حم(1)عسق(2)كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ } [الشورى:1-3] { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } [ق:1]، إذن أكثر الصور التي ابتدأت بالأحرف المقطعة يُعْقِبُها ذكر الكتاب والقرآن، وهذا يدل على أنه متكونة كلماته من هذه الأحرف، فأتوا يا كفار يا مَنْ لم تصدقوا برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إيتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل(39/98)
عشر سور مثله مفتريات أو بمثل سورة أو بمثل آية إيتوا، فهذا فيه أبلغ الإعجاز، ولا يوجد في السلف؛ في الصحابة من يقول لا نعلم معناها، من يقول الله أعلم بمعناها بمعنى أنها لا يعلم أحدا معناها، لكن ممكن أن تجد من بعض التابعين من يقول لا أعلم معناها أو يقول الله أعلم، أما أن تُجعل لا يعلم معناها، ولهذا فانتبه أنه من الأمور التي يشيع فيها الخطأ أن يُقال الأحرف المقطعة من المتشابه، هذه من كلمات الأشاعرة، يريدون بالمتشابه لا أحد يعلم معناها، بل لابد أن يكون هناك طائفة تعلم معناها؛ لأن العلم محفوظ؛ العلم بمعاني الكتاب والسنة محفوظ بحفظ الكتاب والسنة.
4. الحروف المقطعة لا يجوز أن نقول أنه ليس لها معنى؛ لأن القرآن أنزله الله جل وعلا وأمر بتدبره فقال { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } ([22]) ولم يستثن الله جل وعلا آية من آية، ولا كلمة من كلمة بأمره التدبر، فأمر بتدبره، ويدخل في ذلك الحروف المقطعة، وهذا يبين لك أن القول الظاهر الصحيح الثابت هو أن الأحرف المقطعة لها معنى على نحو ما أوضحت لك.(39/99)
5. هذا الحديث مشهور ثابت في الصحيح وفي غيره، «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر»، الرواية المشهورة «لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر أقلب الليل والنهار» معنى ذلك أن الله جل وعلا هو الذي يصرّف الدهر، والدهر هو الأيام والليالي، فسبُّها وهي لا تصنع شيئا يعود لسب من يسيرها، فهي لا تملك لنفسها شيئا، والليل والنهار لا يعمل شيئا لنفسه، لا يأتي باختياره، ولا يذهب باختياره، وإنما بأمر الله جل وعلا وبتدبيره، فنهى عن سب الدهر؛ لأن الله جل وعلا هو الذي يقلبه، كما قال «فإني أنا الدهر أقلب الليل والنهار» يعني إني أنا مالكه، ومصرفه، ومدبره، ومجريه، ومبدل آياته، أوصل الليل بالنهار هذا يطلب هذا بأمري وقدرتي؛ بأمر الله وقدرته، وهذا متعيّن؛ هذا التأويل، لأن من المعلوم أن الليل والنهار الذي هو الدهر، ليس هو الله جل وعلا، ولهذا غلط من جعل من أسماء الله جل وعلا الدهر كابن حزم ومن شابهه.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا جميعا من أهل جنته، وأن يرحمنا برحمته، وأن يغفر لنا خطأنا وزللنا، وأن يقيمنا على السنة قائمين قاعدين، وأن يتوفانا غير خزايا ولا مفتونين، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قام بتفريغها سالم الجزائري
---
([1])طه8, الحشر24.
([2]) البقرة, آل عمران, العنكبوت, الروم, لقمان, السجدة الآية1.
([3])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول
([4]) الأعراف:73, هود:64, الشمس:13.
([5])القمر:14، الطور:48، المؤمنون:27، هود:37.
([6])الفتح:6، المجادلة:14, الممتحنة:13.
([7])انتهى الشريط الأول.
([8])البقرة, آل عمران, العنكبوت, الروم, لقمان, السجدة:1.
([9])وهي المرتبة الثانية.
([10])الحاقة:40, التكوير:19.
([11]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([12])فاطر:43, محمد:18,(39/100)
([13])قال شيخ الإسلام في رسالة له ضمن مجموع الفتاوي –أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل-ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال: هذا ويقولون ثلاثة أشياء لا حقيقة لها طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري.
([14])هذه الفقرة لم يقرأها قارئ المتن.
([15])اللفظ المذكور في الكتاب هو (العظاما)
([16])انتهى الشريط الثاني.
([17])الأعراف:8, المؤمنون:102.
([18]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([19]) الأسئلة غير مسموعة من الشريط ولذلك دُوّنت إلا الإجابة عليها.
([20])النساء:155، المائدة:13.
([21]) يونس:1، يوسف:1، الحجر:1.
([22]) النساء:72، محمد:24.(39/101)
شرح مسائل الجاهلية
للشيخ المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
[(07) أشرطة مفرّغة]
بسم الله الرحمن الرحيم
إن هذه المسائل الجاهلية التي خالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها -كما [سَ]ترى- هي عزيزة المعاني، وهي مهمة جدا في حياتنا اليوم، بل إنه على الشباب والدعاة إلى الله جل وعلا أن يكون في حلقاتهم وأن يكون في بيان دعوتهم ما يستدلون فيه بكثير من هذه المسائل؛ لأنه إذا بُيِّنت للناس أنّ هذه خصلة من خصال اليهود، خصلة من خصال الجاهلية، بدلائلها وبكلام أهل العلم عليها، ثم بُيِّنت أن هذه دخلت في الأمة، يكون هذا من أنفع أبواب الدعوة، من أنفع طرقها، وهذه هي الطريقة أو هذه من الطرق السلفية المحمودة في الدعوة؛ دعوة الناس، ولهذا الشيخ [محمد بن عبد الوهاب]رحمه الله اعتنى ببيان هذه المسائل؛ لأن الجميع راغب في أن يكون مجانبا لسنن أهل الجاهلية ولطرائقهم ولخصالهم سواءً كانوا يهودا أو نصارى أو مشركين أو مجوس أو... إلى آخره من الملل و النحل.
فعنايتكم بهذه المسائل فهما واستنباطا ثم عنايتكم بشرح كيف كان عليه أهل الجاهلية؛ ببيان أصل المسألة، ثم صور دخول هذه الخصلة في هذه الأمة، وأن هذا مصداقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» هذا من الأمور التي تعين الداعية على الوصول إلى مبتغاه وتبين الحق للناس.
وهي مسائل عظيمة أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا دائما فيما بيَّنه إمام هذه الدعوة من المسائل العظيمة التي نحتاج إليها ولا شك في كل وقت في هذا الزمان، ومذاكرتها والتذكير بها ضروري؛ يعني حبذا لو يكون في المجالس أن تؤخذ مسألة، مسألة، من هذه المسائل ويُقرأ شرحُها للألوسي أو لغيره، وينظر فيها ويتأمل لأنها أشد ما تكون الحاجة إليها كما قال في المقدمة، قال: لا غنى للمسلم عن معرفتها.
فهرس الأشرطة
الشريط الأول
الوجه الأول:
مقدمة
وصف عام للرسالة.(40/1)
ذكر من شرح هذه الرسالة ومنهم الألوسي.
تعريف الجاهليين.
معنى الجاهلية وعلى من تطلق في الكتاب والسنة.
تقسيم الجاهلية:
· الاعتبار الأول: مطلقة ومقيدة.
· الاعتبار الثاني: جاهلية في المكان، في الزمان، في الأشخاص.
[تخطئة من أطلق لفظ جاهلية القرن العشرين]
الأمر الذي جعل الشيخ يجمع هذه المسائل.
أهمية معرفة سنن الجاهلية
المسألة الأولى: كان أهل الجاهلية يتعبدون بإشراك الصالحين.
أصناف الصالحين.
طرق إشراك الصالحين ومنها الشفاعة.
[تعريف الشرك]، [معنى التسوية]
أخذ بهذه المسألة:
· أهل الكلام، [لا إله إلا الله].
· طوائف من المبتدعة كالأشاعرة مثلا، [شرح السنوسي لكلمة التوحيد].
· ممن عاصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
عظم هذه المسألة.
الفرق بين ترتب أحكام الكفار وأنه من أهل النار واستباحة الدم والمال.
منهج الشارح في شرح هذه المسائل.
الوجه الثاني من الشريط:
المسألة الثانية: التفرق في الدين والدنيا ويرون أنه هو الصواب.
حال أهل الجاهلية في تفرقهم في دينهم.
الأمر بالاجتماع في الدين، كيف ذلك؟
علاقة الاجتماع في الدين بالاجتماع في الدنيا (اجتماع في الأبدان).
[ظهور الأحزاب من تفرق الأبدان]
المسألة الثالثة: مخالفة وعدم الانقياد لولي الأمر فضيلة.
حال أهل الجاهلية من ناحية معاملة الولاة وكيف انتقل إلى المسلمين ومخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لذلك.
حال الجزيرة قبل الدعوة.
الأسئلة:
1. ما رأيكم فيمن يقول على العالم أن يعلم منهج السلف دون التطرق إلى المناهج الضالة؟
2. هل الآية ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا?[آل عمران:103] في الدين أم الدنيا؟
3. ذكر أن المسألة الأولى من أجلها شرع الجهاد أرجو التوضيح.
4. بالنسبة لتعليقكم على عدم دقة قول (جاهلية القرن العشرين) ألا تحمل على أن أعظم الناس في جاهلية؟
5. يصبر على الضرب وأخذ المال، لكن مس العرض هل يصبر عليه؟(40/2)
6. اختلاف طبعات مسائل الجاهلية.
7. من قاتل تحت راية كفرية؟
8. هل كل المسائل التسي ذكرها المؤلف مخرجة من الملة؟
9. قول من قال أن محمد بن عبد الوهاب خرج عن العثمانيين؟
10. هل نستطيع أن نقول أن الجاهليين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلمون أنهم على باطل؟
الشريط الثاني
الوجه الأول:
المسألة الثامنة: الاستدلال على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء.
المعنى العام للمسائل التي قبلها.
الضعفاء في نظر أهل الجاهلية.
صوارف اتباع الحق:
· الاستكبار والهوى.
· الغنى.
· الجاه سواء نسب أو رئاسة أو غيرهما.
· العجب بالنفس.
[شرح معنى الأرذلون]
قاعدة الإيمان اللغوي والشرعي في القرآن بتعديته بالباء واللام.
سريان هذه المسألة في قوم نوح.
[تعريف أعقل العقلاء]
سريان هذه المسألة لأصناف من هذه الأمة:
· الصنف الأول: أهل الرئاسة بأنواعها.
· الصنف الثاني: قوم العقلانيين الذين درسوا الفلسفة.
[معنى كلمة الحشوية]
· الصنف الثالث: أهل الأموال.
· الصنف الرابع: العصريون الإسلاميون المهتمون بالفكر.
· الصنف الخامس: طوائف من الدعاة والدعوات.
خلاصة المسألة.
المسألة التاسعة: الإقتداء بفسقة العلماء والعباد.
اقتداء أهل جاهلية العرب بعلماء النصارى.
الوجه الثاني من الشريط:
وكذلك إقتداؤهم بعلماء اليهود.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة.
[طائفة تفتي على المذاهب الأربعة]
الصنف الثاني فسقة العباد.
سريان الإقتداء بفسقة العباد بهذه الأمة.
[في الصوفية]
خلاصة المسألتين.
[نصيحة في إبطال رد المخالف]
الأسئلة:
1. ما سبب اختيار جحر الضب على وجه الخصوص.
2. من يفتي بالشريعة في الفتوى وفي القضاء بالقانون، هل هذا كفر؟
3. ما معنى فقه الواقع؟
الشريط الثالث
الوجه الأول:
المسألة العاشرة: الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وقلة حظهم.
سريان هذه المسألة في قوم نوح.
[تصحيح كلمة حفظهم إلى حظهم](40/3)
أوجه قراءة ?بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27].
تفسير (بَادِي الرَّأْيِ) أختلف فيه على ثلاثة أقوال.
سريان هذه المسألة في قريش وقبلهم قوم موسى.
سريان الشعبة في هذه الأمة :
· الذين يعتزون بالعلوم الخلفية من أصحاب الكلام.
· طائفة من غلاة الفقهاء.
· من عاصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب من العلماء.
· الذين ادعوا أن باب الاجتهاد قفل.
· من دخلته هذه الشعبة في وقتنا.
المسألة الحادية عشرة: الاستدلال بالقياس الفاسد.
القياس عند الجاهليين.
أنواع القياسات التي استدلوا بها منها:
· إبطال النبوة بأن الرسول بشر ووجه الشبه فيه (كفار قريش من قبلهم).
· إذا أثبت للولي كرامة صار نبي (المعتزلة وغيرهم).
· النبي لا يختصّ بشيء (الصوفية).
· كل من اتصف بالإيمان يتبرك بذاته.
القياس الصحيح ومقتضاه لعدم إبطال النبوة.
مقتضى القياس الصحيح في هذه الأمة.
مقصد الشيخ في إيراد المسألة.
الوجه الثاني من الشريط:
المسألة الثانية عشرة: انكار القياس الصحيح.
وقد ذكرها مع المسألة التي قبلها.
المسألة الثالثة عشرة: الغلو في العلماء والصالحين.
الغلو في العلماء وكان له أنحاء:
· اتباع العلماء في التحليل والتحريم.
· اعتقاد أن للعلماء تغيير ما في الكتب المنزلة كما حصل لليهود والنصارى.
الغلو في الصالحين:
· اعتقاد كل ما فعلوه من الصلاح والعبادة.
· اعتقاد أن لهم منزلة عند الله في حياتهم ومماتهم كمنزلة المقربين من الملوك منهم.
· التبرك بالصالحين عند اليهود والنصارى.
سريان هذا الغلو في هذا الغلو في هذه الأمة:
· الغلو في العلماء.
· قبول أقوال من ينتسب إلى العلم دون حجة.
[أصحاب الكلام]، [أصحاب الفقه]، [مثال على ذلك مسألة الشفاعة]، [كلامه على محمد علوي المالكي].
· الغلو في الصالحين.
المقصود من المسألة.
كتتمة لهذه المسألة التكلم على التعصب والغلو والجفاء.
الأسئلة:(40/4)
1. لفظ أهل السنة والجماعة ودعوة الناس إليه وهل يدخل فيه الأشاعرة والماتريدية؟
2. السائل الذي يخرج من فرْج المرأة ما حكمه؟
3. محاضرة المنهجية في طلب العلم التي ألقيتها الأسبوع الماضي هل سجلت؟
4. سؤال عن زبدة التفسير مختصر فتح القدير لمحمد سليمان الأشقر.
5. هل العبارة لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار صحيحة؟
6. هل يستطيع المسلم فهم العقيدة دون حفظ القرآن ؟
7. الصلاة خلف المبتدع والقبوري ودرجة حديث «صلوا وراء كل بر وفاجر».
8. ما الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؟
9. عقيدة أهل السنة والجماعة في الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهم. وهل له علاقة بتقسيم فرقة ناجية وطائفة منصورة.
الشريط الرابع
الوجه الأول:
المسألة الرابعة عشرة: يتبعون الهوى والظن ويعرضون عما جاءت به الرسل [أرجأ الكلام عليها].
المسألة الخامسة عشرة: اعتذارهم بعدم الفهم فأكذبهم الله.
فهم الحجة نوعان:
· يُفهم معناها (يُقيم الحجة من يُفهمها).
· فهم الحجة الفهم الذي يجعله يتبع الحجة.
تكذيب الله جل وعلا لهم وتبيين سبب عدم الفقه هو الطبع على القلوب.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة في قديم زمان هذه الأمة وفي حديثها.
· من ناحية الاعتقادات الكفرية وغيرها، [دليل حلول الأعراض لجهم بن صفوان وأنه سبب البلاء العام].
· من ناحية العبادات، [من يمكن أن يقال أنه قامت عليه الحجة].
المسألة السادسة عشرة: اعتياضهم عما آتاهم الله بكتب السحر.
أرجح التفاسير في الآية ?اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:102].
أصل هذه المسألة لكل استبدال لما أنزل الله بغيره.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة:
· استبدال الكتاب والسنة بكتب الفلاسفة والمتكلمين.
الوجه الثاني من الشريط:
· أهل السلوك اعتاضوا عن هدي النبي إلى كتب خاصة في الزهد.
[رد على ابن عربي وفصوصه]
· ترك كتب أهل السنة لأجل كتب أهل البدع.(40/5)
كلمة على هذه المسائل وأهميتها اليوم.
الأسئلة:
1. أهل البدع غير المكفرة هل يشهر بهم ويحذّر منهم ومن آرائهم؟
2. لفهم الحجة هل يكفي ذكر أن هذا شرك أو بدعة أو يجب ذكر الأدلة؟
3. هل وسائل الدعوة توقيفية أم لا؟
4. ما معنى قولهم لابد في إقامة الحجة انتفاء الموانع وثبوت الشروط؟
5. ما معنى قولهم قامت الحجة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
6. ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، ?لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، يستدل بها بعض الجماعات على إقامة الحجة.
7. الذين خالفوا أئمة الدعوة في فهم الحجة هل يعلمون قول الأئمة في إقامة الحجة؟
الشريط الخامس
الوجه الأول:
المسألة السابعة عشرة: نسبة باطلهم إلى الأنبياء.
تعريف أهل الجاهلية (تذكير).
انتساب كفار قريش إلى إبراهيم.
نسب السحر إلى سليمان.
انتساب النصارى واليهود إلى إبراهيم.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة.
نسبة الباطل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على طريقتين:
· بأن الأنبياء فعلوه واعتقدوه.
· بأن هذا من دين الأنبياء وهو ما وقع في هذه الأمة (استنباطا).
سبب تنصيص العلماء على اتباع سلف الأمة.
[تشبه بعض القرآن على بعض العلماء وكذلك السنة].
سبب تسميتهم أهل السنة والجماعة.
سبب تبيين أهل السنة والجماعة لأصولهم.
المسألة الثامنة عشرة: أهل الجاهلية يتناقضون في الانتساب.
حقيقة الانتساب.
التنبيه على أن الشيخ شرح معنى هذه المسألة في شرح كتاب فضل الإسلام.
المسألة التاسعة عشرة: القدح في بعض الصالحين بالقدح فيمن ينتسب إليهم.
سريان هذه المسألة على من عادى احمد في العقيدة والسلوك.
سريانها على بعض أتباع المذاهب الأربعة (انتقاص الأئمة الأربعة من جراء أتباعهم).
تنقص بعض الصالحين كعبد القادر الجيلاني والجنيد.(40/6)
خطأ من: أول ما يقدح في الأولياء، وهذا يؤدي إلى القدح في الدعوة.
القدح في الإسلام بفعل المسلمين.
المسألة العشرون: الاعتقاد في مخاريق السحرة وإنكار الكرامات.
انقسام الخوارق ثلاثة أقسام:
· للأنبياء.
· للأولياء.
· جرت على يد الكفار والفسقة ومن خرج عن منهج الأنبياء.
الوجه الثاني من الشريط:
[تكملة تبيين تقسيم الخوارق]، [تعريف الولي].
جريان هذه المخاريق على هذه الأمة.
الأسئلة:
1. ما الفرق بين من قال (نحن على طريقة أهل السنة والجماعة) و(نحن على طريقة السلف)؟
2. هل يحصل كرامة لفاسق وكيف؟
3. هل المحذر من التقليد مشابهة لأهل الجاهلية؟
4. ما صحة قول القائل: أساس الإسلام أربعة: عقيدة وشريعة ومنهاج وأخلاق؟
5. ما هي الأدلة التي تقوم عليها الجماعات الخاصة؟
6. يقده بعض الطلبة في بعض الجماعات بالنظر لأخطاء أتباعها، هل هذا من الإنصاف؟
7. يوجد من يقسم المخاريق إلى أربع منها الفِراسة.
الشريط السادس
الوجه الأول:
المسألة الرابعة والعشرون: ترك الدخول في الحق إذا سبق إليه الضعفاء.
ذكر سبب نزول الآية ?وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ?[الأنعام:52].
سريان هذه المسألة على كفار قريش وكذلك اليهود.
سريانها في هذه الأمة.
[من أسباب الصدود عن الحق اتباع الناس للصّادّ]
ذكر نتيجة مناظرة جرت بينه وبين أحد العلماء.
المسألة الخامسة والعشرون: يستدلون على بطلان الحق بسبق الضعفاء.
علاقة هذه المسألة بالتي قبلها.
المسألة السادسة والعشرون: تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه.
سريان هذه الخصلة في اليهود.
ذكر مذاهب العلماء في تحريف التوراة والإنجيل:
· التحريف من جهة المعنى وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
· التحريف بزيادة ونقص للألفاظ.
· تحريف بالمعنى واللفظ وهو الصحيح فيما يظهر.(40/7)
سريان هذه الخصلة في هذه الأمة من ناحية التأويل ومثاله ما يكثر من تأويل الصفات.
[الكلام على ابن العربي في تفسيره للاستواء في عارضة الأحوذي].
الأسئلة:
1. الفرق بين المسألة (10) و(25) و(8) ؟
2. الجني إذا أسلم هل تقبل شهادته؟
3. أين كلام شيخ الإسلام أن التحريف في الكتب في المعنى دون اللفظ؟
الوجه الثاني من الشريط:
4. بعض طلبة العلم يقول أنا لا أخالط إلا من فيه خير فيترفع على العوام؟
5. شرح الآية ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي?([1]) وقول الإمام استووا للمصلين وغير ذلك؟ وفيه كلام على تعدية استوى بـ: إلى وعلى.
6. الكلام على مناهج التوحيد في جامعات السعودية.
7. معاملة العمال الأجانب لمن له سلطة.
8. هل يجوز إدخال مشرك أو كافر إلى جزيرة العرب؟
9. معاملة الكفار وتحيتهم.
الشريط السادس
الوجه الأول:
المسألة السابعة والعشرون: تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله.
تصنيف الكتب على قسمين:
· الزيادة في الكتب المنزلة.
· جعل كتب كالشرح للكتب المنزلة.
سريان هذه المسألة في اليهود.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة.
· في الروافض والدروز والنصيرية.
[سبب كراهة السلف للتصانيف]، [الغاية الحقيقة من التصنيف].
· تصنيف التفاسير عند مختلف الفرق.
سريان هذه المسألة في وقتنا الحاضر في أهل الفكر.
[الكلام على تفسير الفخر الرازي]. [ذكر منع الشيخ ابن باز لتفاسير الصابوني].
الوجه الثاني من الشريط:
المسألة الثامنة والعشرون: لا يقبلون إلا الحق الذي مع طائفتهم.
سريان هذه المسألة في اليهود.
سريان هذه المسألة في النصارى. [وجود إنجيل فيه بشارة بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تعترف به النصارى].
سريان هذه المسألة في هذه الأمة ومنها بعض أتباع المذاهب الأربعة.
طريق الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرد على من يخالفه:
· ذكر ما عليه طائفته.
· تبيين أن المقصود من كلام العلماء هو إفهام الأدلة.(40/8)
المسألة التاسعة والعشرون: مع ذلك فهم لا يعلمون ما عليه طائفتهم.
شرح لطريقة الرد السابقة.
المسألة الثلاثون: وهي من العجائب؛ تركوا الاجتماع فعاقبهم الله بفرحهم بما لديهم.
ذكر أسباب التفرق:
· العلم: ?فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ?[المائدة:14].
· البغي: ?وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ?[الشورى:14].
بيان أن فرح كل حزب بما لديه من عقوبة الله له.
انتهت الفهرسة بحمد الله جل وعلا
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: هذه أمور خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين مما لا غنى للمسلم عن معرفتها:
فالضدُّ يظهر حسنَه الضدُّ ..........................
........................ وبضدها تتبين الأشياء
فأهم ما فيها وأشدها خطرا عدم إيمان القلب بما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه الجاهلية تمت الخسارة، كما قال تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ?[العنكبوت:52]
(المسألة الأولى) أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته يريدون شفاعتهم عند الله، بظنهم أن الله يحب ذلك، وأنّ الصالحين يحبونهم كما قال تعالى ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، وقال تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3].(40/9)
وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله، الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص، وأخبر أنّ من فعل ما استحسنوا فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
وهذه هي المسألة التي تفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة ولأجلها شرع الجهاد، كما قال تعالى ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ?[الأنفال:39].
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الكتاب قليل الصفحات، لكنه اشتمل على مسائلَ من أهم المهمّات، بل إنّ هذه الوُريقات في هذه الرسالة هي أصول الدِّين؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث ليخلِّص الناس من جهالة الجاهليين على أنواع مللهم وأصناف نحلهم.
فإذن هي خلاصة لما أَمر به اللهُ جل وعلا، وأمر به رسولُه ( المشركين والكفار أن يتركوه.
وهذه الرسالة هي مسائل؛ المسألة منها قد تكون بضعة أسطر، وقد تَقِلُّ إلى كلمتين أو ثلاث.
وقد تناولها بالشرح؛ بشرح وجيز يكشف عن مراميها ومعانيها علاّمة العراق الشيخ السّلفي محمود شكري الأَلُوسِي، وهو شرح مطبوع متداول، لكنه في كثير من الأنحاء والمواضع لم يكشف الكشف الذي ينبغي.
وهناك من إخواننا من سجَّل رسالة ماجستير في شرح هذه المسائل، ولا شك أنها تحتاج ذلك لعظمها كما سترى، وليس من رأى كمن سمع.
سمّاها الشيخ الإمام رحمه الله تعالى ”مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية“(40/10)
وكما ذكر في المقدمة أنّ الجاهليين الذين يريدهم بقوله ”أهل الجاهلية“ هم الأميون يعني مشركي العرب وأصناف أهل الكتاب، وكذلك غيرهم من الصابئة والمجوس وأنواع أهل الملل.
والجاهلية راجعة إلى الجهل بالله جل وعلا، وبما يستحقه، وبما يحبه من الدين والطاعة، وهذه الجاهلية هي كل ما كان عليه الناس قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما خالفوا فيه الدين المشترك للرسل صلوات الله وسلامه عليهم أو ما شرعه من الدين الحق على ألسنة رسله. فيشترك في ذلك ما كان عليه أهل الجاهلية من العرب، وأهل الجاهلية من أهل اليهود، وأهل الجاهلية من النصارى، وأهل الجاهلية من المجوس، وأهل الجاهلية من الصابئة، وهكذا إلى جميع أنواع أهل الملل.
الجاهلية غالب إطلاقها في الكتاب والسنة يُعنى بها الحال، وقد تطلق ويُعنى بها صاحب الحال.
¨ فمن الأول؛ وهو أن تطلق ويعنى بها الحال، يعني الصفة التي هي راجعة إلى نفي العلم والإغراق في الجهل بما أنزل الله جل وعلا على رسوله، هذه الجاهلية التي هي الحال والصفة منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين عيّر رجلا أسود وهو بلال –بالراجح- بأمه، قال عليه الصلاة والسلام «أعَيّرتَهُ بأمّهِ؟ إِنّكَ امرُؤٌ فيكَ جاهِليّة»، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «ثنتان من أمتي من أمر الجاهلية»، وكذلك قول عائشة ”كان نكاح الناس في الجاهلية على أربعة أنحاء“ ونحو ذلك من الحاديث التي فيها ذكر الجاهلية، ويدل لذلك قول الله جل وعلا ?أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ?[المائدة:50]، فإنه في هذه النصوص يعنى بالجاهلية الحال والصفة.
¨ وقد يراد بها ذو الحال، فيقال فلان جاهلي، كما يقال امرؤ القيس شاعر جاهلي، يريدون بذلك أنه هو الجاهلي لعيشه في تلك الفترة التي هي الجاهليه المطلقة.
والجاهلية تقسم باعتبارات:
@ فتارة تنقسم إلى قسمين:(40/11)
وهي الجاهلية المطلقة.
والجاهلية المقيدة.
@ وتارة تقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:
جاهلية في المكان.
جاهلية في الزمان.
جاهلية في الأشخاص.
فالقسمة الأولى وهي الجاهلية المطلقة والمقيدة:
فنعني بالمطلقة: الكاملة من جميع الوجوه بأحد الاعتبارات الثلاث.
والمقيدة: يعني المقيدة بوجه من الوجوه، إما مقيدة بمكان، أو بزمان، أو بشخص، أو ببعض الصفات.
1- فالجاهلية في المكان تكون مطلقة ومقيدة:
فالمطلقة في بلاد الكفار؛ دار الحرب، بلاد الكفار، هذه يقال لها أمكنة جاهلية، والمكان جاهلي؛ لأجل أنها دار كفار.
وقد يكون المكان فيه جاهلية مقيدة ببعض الأمور كما هو في بلاد المسلمين، فإنه لا يزال فيهم بعض خصال الجاهلية فيكون فيهم بعض الجاهلية، تكون مقيدة ببعض الأشياء، أو مقيدة ببعض الأمكنة دون بعض، تقول البلد الفلاني من بلاد المسلمين فيه جاهلية، أو بلد أصبح جاهليا إذا رجع أهله وارتدوا عن الإسلام إلى الشرك.
2- وجاهلية الزمان أيضا مطلقة ومقيدة:
فالجاهلية في الزمان المطلقة هي ما كان قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت جاهلية مطلقة في الزمان؛ يعني كل ما كان قبل زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - -وَحَدُّهُ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -- يقال لها جاهلية بإطلاق.
والجاهلية المقيدة بالزمان هذه هي التي تكون في بعض ظهور خصال الجاهلية في وقت دون وقت، لكنها جاهلية مقيدة وليست مطلقة؛ يعني مقيدة بوقت ظهرت فيه خصال الجاهلية، فتكون مقيدة بالوقت.... ([2])(40/12)
فلا يصح إطلاق من أطلق (بجاهلية القرن العشرين) أو نحوها من العبارات التي يستعملها من لم يدقق، لأنه بعد بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انقضت الجاهلية المطلقة، ولا يزال في أمته من ينافح عن هذا الدين ويرفع رايته، فليس ثم جاهلية منسوبة إلى زمنٍ كالقرن العشرين، وإنما تكون منسوبة إلى وقت من الأوقات فيما إذا ظهرت بعض الصفات ثم يجاهدها ويظهر عليها أهل الحق بالإنكار فلا تصبح جاهليةً يعني الزمن.
فمثلا تقول القرن العشرين ظهرت فيه أنواع من الجاهليات كثيرة، لكن ما نطلق نقول: جاهلية القرن العشرين. لأن هذا إطلاق للزمن بكامله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِه «عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرّهُمْ من خالفهم ولا مَن خَذَلَهُمْ حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وهم على ذلك» هؤلاء يبينون وينصحون.
3- القسم الثالث جاهلية في الأشخاص وهي أيضا مطلقة ومقيدة:
فالمطلقة في الكافر.
والمقيدة في شخص دون شخص، أو في شخص في بعض حاله دون بعض، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر «إِنّكَ امرُؤٌ فيكَ جاهِليّة»؛ يعني بعض خصال الجاهلية.
هذه التقسيمات التي ذكرها أهل العلم في هذا المقام.
وأهل الجاهلية والذي حدا بالشيخ في هذا الأمر العظيم يعني التصدي لجمع هذه المسائل هو ما رواه البخاري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أبغضُ الرجال إلى الله ثلاثةٌ: مُلحِدٌ في الحرَم, ومُبْتغٍ في الإسلام سنّةَ الجاهلية, ومُطَّلب دم امرئ بغير حقّ ليهريقَ دمَه» فمن طلب وابتغى في الإسلام سنة يعني مسألة من مسائل الجاهلية فهو داخل في قوله( أبغضُ الرجال إلى الله ثلاثةٌ) فمن ابتغى شيئا من أمر الجاهلية وطلبه أو كان فيه ولم يتركه بعد البيان له فهو داخل في هذا الوعيد الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام.(40/13)
والجاهليون الذين خالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذين تذكر هذه المسائل لبيان سننهم وما كانوا عليه، قد يكونون من العرب كما ذكرت أو من أهل الكتاب أو غيرهم كما سيأتي إيضاحه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وذكر أهمية معرفة سنن الجاهلية؛ لأنه كما يذكر عن عمر رضي الله عنه بالخبر لم نعرف إسناده ولم نجد له إسنادا أنه قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. فإذا عرف المرء الجاهلية وعرف أنه يجب عليه أن يتباعد عنها كان أحرى له أن يكون على بينة من أمره ولا تدخله سنة من سنن الجاهلية ولا مسألة من مسائل الجاهلية، ولهذا قال الشيخ رحمه الله في هذه الخطبة (لا غنى بالمسلم عن معرفتها) لا غنى بالمسلم عن معرفة هذه الأمور؛ لأنها أمور دخلت على المسلمين وابتغوا سنة الجاهلية عن جهل تارة، وعن علم مع عناد واستكبار تارة أخرى، وكما ذكر من قول الشاعر (وبضدها تتبين الأشياء) وقول الشاعر الآخر قبله (فالضد يظهر حسنَه الضدُّ) وقوله هنا (فالضد يظهر حسنَه الضدُّ) هذا من كلام عجز بيت للمنبجي أحد الشعراء المعروفين يقول في وصف شخص:
فالوجه مثل الصبح مبيضُّ والشعر مثل الليل مسودُّ
صنفان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنَه الضدُّ
وأما قوله (وبضدها تتبين الأشياء) فهذا من الشعر السائر المعروف لأبي الطيب المتنبي قالك
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتبين الأشياء
في قصيدة يُثني بها ويمدح بها أبا علي هارون بن عبد العزيز الكاتب أحد المتنسكة الذين مالوا إلى التصوف، وفي بعض الطبعات جُعلت وكأنها بيت واحد فتنبه لذلك.
ذكر المسألة الأولى من هذه المسائل ألا وهي أن أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بإشراك الصالحين في عبادتهم، في العبادة والدعاء يرجون شفاعتهم لظنهم أن الصالحين يحبون ذلك وأن الله جل وعلا يحب ذلك.(40/14)
وهذه المسألة هي زبدة الرسالة؛ رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنتها مسألة الإخلاص في الدين، والعبادة فأهل الجاهلية كانوا يتعبدون الله جل وعلا بإشراكهم الصالحين في عبادة الله.
والصالحون جمع الصالح. والصالح يراد به العهد وهو ثلاثة أصناف:
1- الأنبياء والرسل.
2- الصالحون من البشر.
3- الملائكة.
وهؤلاء قد وقع في إشراكهم بالعبادة طوائف من الأميين مشركي العرب وغيرهم، فتارة يعبدون نبيا، وتارة دعون ويعبدون ملَكا، وتارة يعبدون صالحا ليس بملك ولا بنبي. قال جل وعلا ? أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ?[النجم:19-20]، وقال جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[المائدة:116] ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ([3]) لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40]الآيات، ذكر جل وعلا هذه الأنواع في عدة آيات في القرآن، وهذه الشبهة أو هذا العمل الذي كانوا يعملونه من إشراك الصالحين جاء في هذه الأمة وورثته هذه الأمة من الجاهليين، والجاهليون حين عبدوا الصالحين يعني أنهم توجهوا إليهم، تارة يستغيثون بهم، تارة يذبحون لهم، تارة ينذرون لهم، تارة يستشفعون بهم، تارة يجعلونهم وسائط ونحو ذلك من أفعالهم، وهذه الأعمال حكم عليهم الله جل وعلا أنهم مشركون، وهذه هي –أعني الأفعال- هي عين ما حصل وحدث في هذه الأمة بعد القرون المفضلة.(40/15)
هل كان أهل الجاهلية يعملون تلك الأعمال عن جهل أم عن علم؟ بل كانوا يفعلونها عن علم، وكانوا يعلمون حججا لذلك، ولهذا جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، قال جل وعلا عنهم ?فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ?[غافر:83]، فأهل الجاهلية عندهم علوم ولكنها مضادة لعلم الأنبياء، مضادة للعلم الذي أنزله الله جل وعلا، قال جل وعلا (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ)، فعندهم علم ولكنه ليس بنافع، ولهذا من حاجّ أهل التوحيد في الأزمان المتأخرة، فإنما يحاجهم بشبه مثل الشبه التي كانت عند أهل الجاهلية وواجهوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أعظمها ما قال الشيخ رحمه الله تعالى في قوله تعالى ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]. من أعظمها مسألة الشفاعة، طلب الزلفى إلى الله جل وعلا بأولئك الصالحين، فتجد أن منهم طائفة يقولون نحن لا نتوجه إلى الأولياء، إلى الصالحين، إلى الأنبياء، لأجل أنهم يستقلون بالنفع أو بدفع الضر، وإنما نتخذهم شفعاء عند الله جل وعلا؛ لأجل ما لهم من المقام الرفيع عند الله جل وعلا وهذا الأصل هو الذي يفعله المتأخرون، المشركون من هذه الأمة حيث إنهم يزعمون أنهم ما اتخذوا أولئك إلا واسطة، ويسمّون تلك الواسطة وذلك العمل يسمونه توسلا، والتوسل شيء واتخاذ الواسطة شيء آخر، عندهم شبه وحجج ولكنها داحضة كما قال الله جل وعلا ?وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ?[غافر:5]، وهم تارة يعبدون عبادة مستقلة؛ يعني بعضهم يتوجه إلى الأولياء، إلى الصالحين، إلى اللات، إلى العزى، يتوجهون لأجل أنهم عُبَّاد لهم منزلة عند الله، فيصرفون بعض العبادات لهم استقلالا، وتارة يتخذونهم واسطة.(40/16)
فإذن هذه المسألة هي أعظم المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية، فإن الله جل وعلا أمره بالإخلاص، وأن يأمر الناس بالإخلاص، فقال جل وعلا آمرا نبيه ?قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14)فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ?[الزمر:14-15] وقال جل وعلا ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ?[البينة:5]، وقال جل وعلا ?قُلْ [إِنِّي] ([4]) أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(11)وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ?[الزمر:11-12]، وهكذا في آيات كثيرة يأمر الله جل وعلا بإخلاص الدين له، ونبذ الشرك، والتوجه إليه وحده دونما سواه، خالفوا ذلك فأشركوا.
ما معنى الشرك؟ أنهم جعلوا لله جل وعلا ندا في العبادة، وهذا هو الشرك الأكبر، والنِدّ هو الشبيه والنظير كما حسان في هجائه، قال:
أتهجوه ولستَ له بندٍّ فشركما لخيركما الفداء
يعني لست له بمثيل ولا نظير، فمن جعل أحدا مع الله مثيلا ونظيرا لله في العبادة والتوجه فقد سواه بالله جل وعلا، وقد أشرك بذلك الشرك الذي حكم الله جل وعلا به على المشركين بأنهم من أهل النار وأنهم حُرِّمَت عليهم الجنة.(40/17)
قال جل وعلا مخبرا عن احتجاج المشركين وقولهم لآلهتهم في النار، قال جل وعلا في سورة الشعراء ?تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:97-98]، فأخبروا عن أنفسهم أنهم سووا آلهتهم برب العالمين، وهذه التسوية تسوية في محبة العبادة، تسوية في العبادة؛ لأنهم توجهوا إلى الله وتوجهوا إلى غيره، عبدوا الله وعبدوا غيره، صرفوا بعض أنواع العبادة لله وصرفوا بعضا آخرا لغير الله، فهذا معنى التسوية وهو معنى اتخاذ النِّد، أنهم جعلوا لله عبادة وجعلوا لغيره عبادة أيضا، ولهذا استنكف المشركون لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلمة التوحيد لا إله إلا الله، ما ذا قالوا؟ ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
واليوم إذا رأيت فإنه قد دخل هذا الأمر يعني هذا النوع من الشرك في المسلمين بعد مضي نحوٍ من ثلاثة قرون شيئا فشيئا.(40/18)
وأصل البلاء الذي من أجله دخل هذا النوع من الشرك هو أنه فسرت كلمة التوحيد بأنها دالة على الربوبية، كما عليه أهل الكلام ومن تبعهم، لم يجعلوا كلمة التوحيد دالة على إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وإنما جعلوها دالة على إفراد الله جل وعلا بالربوبية، ولهذا تجد في كتب أهل الكلام أنهم قالوا الإله هو القادر على الاختراع، الإله ما عندهم؟ القادر على الاختراع. لا إله إلا الله عند أهل الكلام معناها: لا قادر على الاختراع -يعني على الخلق- إلا الله. وهذا المعنى يقر به أهل الجاهلية ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[الزخرف:87]، كانوا يوقنون بأن الله جل وعلا هو القادر على الاختراع وحده وأنّ غيره لا يخلق شيئا، لهذا احتج عليهم ربنا جل وعلا بقوله ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191] لأنهم يقرون بتلك المقدمة.(40/19)
كذلك أخذ هذا المعنى طوائف من المبتدعة من جنس الأشاعرة فقرروه في كتبهم، قرروه في كتبهم، فيقول أحد من متأخريهم وهو السَّنوسي في رسالته التي يسمونها أم البراهين، يقول فيها في معنى كلمة التوحيد يقول: فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، فمعنى الإله –هذا كلامه- هوالمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه. لما درس الناس مثل هذه صار توحيد العبادة عندهم ليس هو معنى كلمة التوحيد، انحرف الناس شيئا فشيئا حتى اتخذوا آلهة من دون الله، يظنون أن التعلق بأرواح الموتى وسؤال من له جاه عند الله -على حَسَب ظنهم– سؤاله ليس من الشرك، وهذا أصل البلاء الذي دخل في المسلمين، شيئا فشيئا دخل حتى عُظمت القبور وأُشيدت وعُظم أصحابها، حتى أُعتقد أن لهم بعض خصائص الإلهية، حتى وصل الأمر في عهد الشيخ الإمام محمد رحمه الله تعالى إلى أنهم كانوا يعتقدون فيهم أنهم ينفعون ويضرون استقلالا والعياذ بالله، بل كانوا يشركون بهم في الرخاء وفي الشدة.(40/20)
لهذا قال الشيخ في قواعده الأربع: أن مشركي أهل زماننا أعظم شركا من مشركي العرب ذلك لأن أولئك كانوا يشركون في الرخاء وأما في الشدة فكانوا يوحدون الله ويخلصون الدين له كما قال جل وعلا عنهم ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65]. وأما أهل هذا الزمان فإنهم يشركون في السراء وفي الضراء كما قال أحد علماء الدعوة حيث ناقش رجلا في تعلق طائفة من الناس بابن عباس في الطائف، كما كان قبل الدعوة كانوا يتعلقون به ويجعلونه إلها لهم، ويصرفون له حقوق الله جل وعلا، يجعلونه مستغاثا به، مذبوحا له، منذورا له، مدعوا، قال له: إن ابن عباس –يقول هذا أحد علماء الدعوة، يقول للآخر- إنّ أهل الطائف -يعني من كان منهم على هذا الاعتقاد- يتوجهون إلى ابن عباس يعرفون ابن عباس ولا يعرفون الله، فقال الرجل الآخر: معرفتهم بابن عباس تكفي. وهذا أمر قد لا يظهر لكثير من الناشئة في البلاد، لكن من عرف ما عليه الخرافيون في بعض البقاع في هذه البلاد وفي عيرها من بلاد المسلمين، يجد أن هذا الأمر شائع منتشر، بل إنهم يزيدون في أنهم يعتقدون أن بعض الأولياء لهم الضر والنفع الاستقلالي.
هذه المسألة ذكرها الشيخ أول مسألة لعظم شأنها، وهي الزبدة لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخلاص الدين له، وبتوحيده جل وعلا وعدم الإشراك به، ونبذ الشرك الذي كان يفعله أهل الجاهلية.(40/21)
قال رحمه الله: إن من فعل ذلك فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله حرم عليه الجنة ومأواه النار كما قال جل وعلا مخبرا عن قول عيسى بن مريم عليه السلام ?وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ [رَبِّي]([5]) وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].
إذن هذه المسألة هي أعظم المسائل، إذا كانت هي أعظم المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية فكون الدعوة تُجعل مركِّزة عليها معتنية بها أتم العناية يكون ذلك من وِراثة دعوة المصطفي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنْ هذه المسألة من أعظم المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية، فإذا كانت كذلك فغيرها من المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية هي دونها في المرتبة، فعليه يكون ورثة الأنبياء، ورثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من ورثوا عنه العلم النافع إنما يدعون أول ما يدعون ويهتمون أكثر ما يهتمون به بهذه المسألة العظيمة وهي أن ينقضوا الناس من النار وأن يجعلوهم ممن يرجى له الجنة، وذلك بنهيهم عن الشرك وبتوضيح مسألة التوحيد أتم إيضاح ومعنى الشهادة لله جل وعلا بالوحدانية وما فيها من النفي والإثبات ومعنى الكفر بالطاغوت ونحو ذلك من أصول التوحيد.(40/22)
إذا كان كذلك، فتعلم أن من توجه في دعوته بغير الاهتمام بهذه المسألة العظيمة فإنما اهتم بأمر لم يكن اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به أولا، ولهذا جاء في حديث معاذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له «إنك تأتي أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله» كما في صحيح البخاري في كتاب التوحيد، أو في الرواية المشهورة«إلى أن شعادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» أو«إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله».
فهذه المسألة هي أعظم المسائل، وعليها يجب أن تكون الدعوة مركزة مهتما بها؛ لأنها هي التي بها يتفرق الناس إلى مسلم وكافر، وأما غيرها من المسائل فهو دونها بكثير.
قال الشيخ رحمه الله: من أجل هذه المسألة تفرق الناس إلى مسلم وكافر وهذا يعني أن من أشرك بالله جل وعلا صالحا أو غير صالح فإنه كافر بالله، كافر، لا نتوان عن إطلاق الشرك عليه، ولا إطلاق الكفر عليه؛ لأنه ما دام أنه مشرك بالله جل وعلا، فعل الشرك، فإنه يطلق عليه أنه مشرك كافر، لكن الشرك الذي يُطلق عليه لا تستباح به أمواله ولا يستباح به دمه، بل ذلك موقوف على البيان، موقوف على الدعوة، لابد من البيان والدعوة قبل الاستباحة، لكن الحكم عليه، يُحكم عليه بأنه مشرك وتُرتَّب عليه أحكام الكفار في الدنيا، ولكن لا يشهد عليه بأحكام الكفار في الآخرة؛ يعني بأنه من أهل النار حتى نعلم أنه رد الحجة الرسالية بعد بيانها له بعد أن أقامها عليه أهل العلم، أو أنه قاتل تحت راية الكفر.
هذه هي المسألة الأولى، وطريقتنا في هذا الشرح ذكر إيضاح لهذه المسألة بما يتم معه فهم مرادات المؤلف رحمه الله تعالى، وليست مجال تقرير المسألة بكل ما يتعلق بها من فروع؛ لأن المقام يضيق عن ذلك، وموطن بيان هذه المسائل كتاب التوحيد وغيره من الكتب التي أُلفت في هذا الشأن. ([6])
[المتن](40/23)
(المسألة الثانية) أنهم متفرقون في دينهم كما قال تعالى ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?([7]) وكذلك في دنياهم ويرون أنّ ذلك هو الصواب، فأتى بالاجتماع في الدين بقوله ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13]، وقال تعالى ?الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ?[الأنعام:159]، ونهانا عن مشابهتهم بقوله ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ?[آل عمران:105]، ونهانا عن التفرق في الدنيا بقوله ? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103].
[الشرح](40/24)
هذه المسألة الثانية وَصَفَ فيها أهل الجاهلية بأنهم متفرقون في دينهم ودنياهم، عندهم العزة والكرامة في التفرق؛ لأنه يدل على استقلال كل بما عنده، وأنه لا يتبع أحدا، متفرقون في دينهم، كلٌّ له دين، بعضهم يعبد الملائكة، بعضهم يعبد الصالحين، بعضهم ينكر البعث، بعضهم يجحد الرسالة بعضهم يؤله عيسى، بعضهم يؤَلِّه عزيرا، ونحو ذلك، في دينهم لم يجتمعوا، كذلك في دنياهم، فبين الله جل وعلا أنهم شرع لنا من الدين ما نجتمع بيه في الدنيا، قال جل وعلا ? شَرَعَ لَكُمْ مِن الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13]، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في شرح هذه الآية في قاعدة الجماعة والفرقة: إن الأصل الأصيل الذي دعا إليه الأنبياء جميعا وهو الدين المشترك والإيمان المشترك هو الاجتماع على دين حق وعدم التفرق في ذلك. وأكد ذلك جل وعلا بقوله ?وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ?،([8]) فذكر جل وعلا ما وصف به أمر المرسلين بقوله (وَصَّيْنَا) وما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، قال (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) فهذه الآية فيها الأمر بالاجتماع، (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وإقامة الدين بالاجتماع على التوحيد؛ يعني على ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأن لا يكون في البلاد شرك، وأن لا يُقر الشرك وأن لا يكون هناك ما يحرم الأصل الدين، لأنه إذا تفرق الناس في أصل تفرقوا في الدنيا ولا شك، فأهل الشرك لما تفرقوا في الدين تفرقوا في الدنيا، فالتفرق في الدين يورث التفرق في الدنيا، وكذلك التفرق في الدنيا –يعني بعدم(40/25)
الاجتماع كما سنوضحه – يورث التفرق في الدين، فأمر الله جل وعلا بعدم التفرق في الدين وعدم التفرق في الدنيا؛ يعني بالأمر بالاجتماع والائتلاف في الأبدان والاجتماع في الدين، فهما نوعان من الاجتماع؛ اجتماع في الأديان واجتماع في الأبدان وأحدهما ملازم في الآخر، لهذا قال أهل العلم: الجماعة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» ونحو ذلك من النصوص التي فيها ذكر الجماعة هو ما يكون من مجموع الأمرين، اجتماع في الدين واجتماع في الدنيا، اجتماع في الأبدان واجتماع في الدين، فكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف أهل الجاهلية في أنهم متفرقون في الدين فأتى بدين واحد يخضع له الجميع، كذلك أمره بالاجتماع في الدنيا وأن يقروا لولاتهم وأن لا يخرجوا عليهم كما سيأتي إيضاحه في المسألة الثالثة.
قال جل وعلا ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ?[آل عمران:105] أنزلها الله جل وعلا على صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كون الذين كانوا قبل من اليهود والنصارى افترقوا على أكثر من سبعين فرقة؛ اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فنهانا الله جل وعلا عن التفرق في الدين بقوله (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) يعني أنه جل وعلا أمر بالاجتماع على التوحيد والاعتصام بحبل الله، وأن لا نتفرق في الدين وأن نجتمع على الكلمة العظمى كلمة التوحيد، وأن لا يحدث فيما بيننا حدث مخالف لأصل الإسلام ولا نخالف عما أنزل الله على رسوله.(40/26)
الآية الأخرى في قوله ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103] فهذه الآية في الاجتماع في الدنيا، فإن الناس إذا تفرقوا في الدنيا؛ يعني تفرق بعضهم عن بعض بأن أطاع بعضهم طائفة وأطاع الآخرون طائفة أخرى وحصل هذا التفرق في الأبدان في الدنيا نتج عنه جزما التفرق في الدين ويبدأ صغيرا ثم يكون كبيرا، فكلما تفرق الناس في الدين نتج عنه فرقة في الأبدان، وكلما تفرقوا في الأبدان -يعني بأنْ يكون لكل طائفة مطاع لا يقرون بطاعة كبرائهم من ولاة الأمر- فإنهم ينتج عن ذلك تفرقهم في دينهم فأمر الله جل وعلا بقوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، (لَا تَفَرَّقُوا) في أبدانكم، (لَا تَفَرَّقُوا) عن من ولاه جل وعلا أمركم، لهذا جاء في الحديث -الذي سيأتي إن شاء الله تعالى- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنّ اللّهَ يَرْضَىَ لَكُمْ ثَلاَثاً أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً, وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا, وأن تُناصِحوا من ولاه الله أمركم» كان أهل الجاهلية يعتزون بالتفرق، ويعتبرون الطاعة مذلة ومهانة كما سيأتي في المسألة الثالثة، وهاتان المسألتان متصلتان ببعض، فإن أهل الجاهلية لمّا لم يطيعوا ولاتهم مع كونهم مشركين تفرقوا في دنياهم لأن إحدى المسألتين متصلة بالأخرى، فأتى الله جل وعلا بالاجتماع في الأمرين، وإنما تتم الشريعة بالأمرين جميعا، اجتماع في الدين بأن لا نتفرق فيه، واجتماع في الدنيا بأن لا يكون في المسلمين أحزاب ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?([9])، ولهذا كلما نشأ في الإسلام ناشئة تُفَرِّقُ عن الجماعة الأولى وعن النهج الأصل، فإن ذلك يعد من التفرق والاختلاف، إذا كان ذلك عن أراء مستقلة وعن دين مستقل في الأصول، وهذا الذي حدث في الأمة فافترقت إلى ثلاث وسبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار(40/27)
وواحدة في الجنة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة»، يعني التي اجتمعت في دينها واجتمعت في دنياها.
[المتن]
(المسألة الثالثة) أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة له ذل ومهانة، فخالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد.
وهذه الثلاث التي فيه جمع بينها فيما ذكر عنه في الصحيحين أنه قال: « إنّ اللّهَ يَرْضَىَ لَكُمْ ثَلاَثاً أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً, وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» ولم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلا بسب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها.
[الشرح](40/28)
رحمه الله الشيخ رحمة واسعة، لم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا بسبب الإخلال في هذه الثلاث أو بعضها، هذه الثالثة أهل الجاهلية كانوا فوضى، لا يقرون بولاية لأحد ولا يرضون ذلك؛ لأنهم يعتقدون أن الطاعة لبشر مثلهم أنها ذل ومهانة، كيف يطيع ويسمع له وهو مثله؟ بما فضل عليه؟ ويعتبرون عدم الطاعة دليل العزة ودليل الكرامة ودليل الرفعة، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف أهل الجاهلية بأن أمر بطاعة ولاة الأمر يعني المسلمين في غير المعصية، أمر بطاعتهم في المعروف، وأن لا يُخرج عليهم وأن لا يُفَرَّق الناس من حولهم، ولهذا كان أول من خالف هذا الأصل الخوارج حيث إنهم خرجوا عن ولاية وخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بآراء اجتهدوا فيها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالطاعة قال «أطع», قال «أسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك», وقال في الحديث الآخر حينما سأله: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا». «إنه يكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ولكن من رضي وتابع». قال: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا.» وفي رواية «ما أقاموا فيكم الصلاة.»، وفي حديث آخر قال «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان.»، فما دام أن الوِلاية يصح عليها اسم الإسلام، ولم تنتقل عنه إلى الكفر ولم يُحكم بردتها، فالطاعة والسمع واجبان، وتجميع الناس حولها ما دام اسم الإسلام باقيا واجب؛ لأنه ما يحصل للناس من الاجتماع ولو كان هناك نقص في بعض أمور الدين فإنه ما يحصل من الاجتماع أضعاف أَضعاف ما يحصل من المصلحة من التفرق، وأنتم إذا نظرتم إلى تاريخ المسلمين، وجدتم أن هذا الأصل حزم في مواضع وكلما ظن الناس أنهم بخروجهم على الوالي المسلم أنه سينتجون خيرا فإنه ترتد عليهم ولا يكون ذلك خير، كما قال عليه الصلاة والسلام «لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» خرجوا على بني أمية ولم يقروا(40/29)
لهم، وقامت دولة بني العباس ومع ذلك لم تكن دولة بني العباس كدولة بني أمية، وهكذا في نزول من الزمان، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة المشركين في ذلك، وقد كان الواحد من المشركين ينصح بالاجتماع وينهى عن التفرق فقال أحد منهم:
لا يصلح الناس فوض لا صَراط لهم ولا صَراط إذا جُهالهم سادوا
كانوا يأمرون بأن يرجعوا إلى كبرائهم، ولكن ما كانوا يطيعون، بل كانت الجزيرة العربية فيها من القيادات والاختلاف قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يحصى ولا تغيبن عنكم الحروب الدائرة في الجاهلية وأسباب ذلك.
إذن فهذا الأصل من الأصول العظيمة، قال رحمه الله: وأبدى فيه –يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -- أبدى فيه وأعاد وغلظ في ذلك، من التغليظ أنه قال «اسمع وأطع ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك» تسمع وتطيع لم؟ لأن أخذ المال وضرب الظهر هذا مفسدته عليك وستلقى ربك أنت وهو ويقتص لك منه، لكنك إذا لم تطع تعدى ذلك إلى الناس فصار الاختلاف وصارت الفرقة ومعها لا يكون الاجتماع في الدين.
في هذه الجزيرة قبل دعوة الشيخ رحمه الله تعالى كان الناس متفرقون كل في جهة، كان في شرق الجزيرة العربية كانوا يدينون للولاية العثمانية، وكان في غربها يدينون [للأشراف] وفي وسط الجزيرة يعني في نجد لم تكن تحت ولاية؛ إنما كان لكل بلد أمير ولكل بلد والي يطيعه أصحابه وكان في ذلك من القتال ما تعلمون حتى إنه في يوم واحد في بعض القرى القريبة من الرياض في يوم واحد قُتل أربعة؛ كان أمير فقتله واحد تولى الإمارة، وقتله ثالث وتولى الإمارة، وقتله رابع وتولى الإمارة في يوم واحد، وهي كلها قرى لا تزيد القرية عن مئات إن كثرت.(40/30)
فأنعم الله جل وعلا على هذه البلاد بدعوة التوحيد، واجتمع الناس في دينهم وفي دنياهم ولا شك أن التفرق في دنيا سيورث التفرق في الدين والتفرق في الدين يورث التفرق في الدنيا وإنما يحصل –كما قال الشيخ- يحصل الفساد في الناس من الإخلال في أحد هذه الثلاث أو بها جميعا؛ إذا أشركوا وقع الشرك، إذا لم يجتمعوا في الدين ولم يجتمعوا في الدنيا، إذا لم يطيعوا ولاة أمورهم ولم يناصحوهم فإنه يقع الافتراق في الدين والدنيا، وهذه الثلاث أصول عظيمة، هذه الثلاث كما ذكر جمعها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله « إنّ اللّهَ يَرْضَىَ لَكُمْ ثَلاَثاً أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً, وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» وهي مسائل عظيمة أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا دائما فيما بيَّنه إمام هذه الدعوة من المسائل العظيمة التي نحتاج إليها ولا شك في كل وقت في هذا الزمان، ومذاكرتها والتذكير بها ضروري يعني حبذا لو يكون في المجالس أن تؤخذ مسألة، مسألة، من هذه المسائل ويُقرأ شرحها للألوسي أو لغيره، وينظر فيها ويتأمل لأنها أشد ما تكون بحاجة إليها كما قال في المقدمة قال: لا غنى للمسلم عن معرفتها.
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينور قلوبنا جميعا، وأن يجعلنا متبعين لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأن يعلمنا العلم النافع وأن يرزقنا الدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، وأسأله جل وعلا أن يجعل آخر أيامنا خيرا من أولها وأن يجعل أيامنا في قرب منه وازدياد وزلفى إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الثبات إلى الممات والاستعداد ليوم لقاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[الأسئلة](40/31)
1/ يقول: ما رأيكم فيمن يقول: إن على العالم أن يعلم منهج السلف الصالح دون التطرق إلى الفرق الضالة وأصحاب المناهج الضالة ألا يدخل في مقولة عمر رضي الله عنه تنقض عرى الإسلام عروة عروة؟
والجواب: أن هذا الكلام غير دقيق وليس بصحيح بل هو غلط؛ لأن الرد على المخالف في دين الإسلام، الرد على المخالف من أصول هذا الدين؛ لأن الله جل وعلا هو أول من ردّ، وأعظم من رد على المخالفين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي حاجهم بنفسه جل وعلا، فالرد على المخالفين من أعظم القربات، يقول شيخ الإسلام: وهو من أعظم أنواع الجهاد. وهذا صحيح وقد يفوق جهاد الأعداء الخارجيين؛ يعني أن مجاهدة العدو الداخل أعظم من مجاهدة العدو الخارج؛ لأن العدو الخارج بينةٌ عداوته أما العدو الداخل فهذا قد يخفى، ومن أعظم العداوات أن ينشأ في المسلمين من يدعوهم إلى غير منهج السلف لأن هذا -كالبدع والشركيات والمناهج الضالة من منحرفة كالرافضة والخوارج ونحوها- فإن هذا لا شك أنه الرد على هؤلاء من أعظم القربات، الخرافيين الصوفيين أهل الطرق ونحو ذلك كل هؤلاء الرد عليهم من أفضل القربات وأعظم الطاعات، وهو نوع من الجهاد لا بد منه قال جل وعلا ?فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا?[الفرقان:52] ومجاهدهم بالقرآن وبالعلم من أعظم أنواع الجهاد، أما أن يتركوا ويسكت عنهم، فمتى يعرف الحق؟ إذا سكت العالم على بيان ضلال الضالين، متى يعرف الحق؟ لأننا يجب علينا أن نرعى الدين، الدين علينا أهم من الأشخاص فإذا كان الرد على فلان يحمي حمى الدين –هذا المخالف- ولا مفسدة راجحة في الرد؛ من سفك دماء ونحوه، فهذا يتعين الرد، فالرد على المخالفين من أصول الإسلام ولا شك.
فقوله أنه عليه أن يبين منهج السلف دون التطرق إلى الفرق الضالة كلام غير دقيق وغير صحيح.
أحد الإخوان يطلب أن يفرغ الدرس بعد تسجيله.
هذا يكون إن شاء الله تعالى.(40/32)
2/ يسأل عن آية آل عمران هل هي في الدين أو في الدنيا؟
وهي قوله تعالى ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو?[آل عمران:103].
لا هي في الدنيا، لم؟ لأنه قال ?وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ?[آل عمران:103] ما كان الرجل من الأوس مع الآخر من الخزرج متآلفان متحابان، ما كان يرضى الرجل الذي في المدينة مثلا من الأوس أو الخزرج أن يأتيه واحد من قريش ويسكن مكانه، ما يرضى, لو يأتي ويفعله ربما فعل به وفعل، كان بينهم عداوات ما بينهم تآلف ولا تحاب، فأمر الله جل وعلا بأن نعتصم بحبل الله جميعا ولا نتفرق؛ يعني في الدنيا.
3/ ذُكر في الكتاب أن هذه المسألة -يعني المسالة الأولى- شرع من اجلها الجهاد فأرجو توضيح ذلك.
لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جاهد لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وليكون الدين كله لله جل وعلا، كما قال?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ?[الأنفال:39] وفي الآية الأخرى ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ?[البقرة:193]، يعني جميعا، وقال جل وعلا ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[البقرة:208]، فالمأمور به العباد أن يخلصوا الدين، إذا ما أخلصوا الدين لله جل وعلا فإنهم يجاهَدون جهاد كفر كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أجل هذه المسألة جُوهد المشركون واُستبيحت دماؤهم وأموالهم، ومن اجلها تفرق الناس بين مسلم وكافر فالدعاء بأي شيء أبيحت؟ لأجل الكفر، دماء المشركين أبيحت لأجل أنهم مشركون لأجل أنهم يشركون مع الله آلهة أخرى، فهذه المسألة هي التي يجاهد من أجلها لأنها أعظم ما يجاهد لأجله.(40/33)
4/ بالنسبة لقولكم في الجاهلية بالنسبة للزمان المطلق، وتعليقكم على عدم دقة قول بجاهلية القرن العشرين. -أنا ما قلت أن القول غير دقيق أنا قلت أنه غلط من أصله- ألا تحمل على أن معظم الناس اليوم في جاهلية؟
هذا أيضا غلط آخر، الشيخ رحمه الله تعالى، الشيخ محمد في وقته الذي الجاهلية فيه أكثر من هذا الزمان، قال: ولا أقول إن أكثر الناس على الشرك، وأنّ الناس ارتدوا إلا طائفة كذا وكذا. وهذا الذي نعتقده، بخلاف ما ينقل عن الدعوة في بعض الأمصار، أنهم يعتقدون أن من هم خلافهم أنهم مشركون، يقول الشيخ رحمه الله تعالى: فإنني لم أكفر إلا بما أجمع عليه، وأكثر الأمة والحمد لله ليس كذلك. فقوله هنا (ألا تحمل على أن معظم الناس اليوم في جاهلية) هذا كلام ليس بصحيح، قد يكون في بعضهم جاهلية لكن معظم الناس في جاهلية هذا غير دقيق؛ لأن قوله (في جاهلية) يعني جاهلية كاملة؛ يعني الكفر، وهذا غلط؛ لأنه لو قال الأخ: على أن معظم الناس عندهم خصال من الجاهلية لكان صحيحا، أما أن يقال في جاهلية اليوم فهذا تعبير لا يستعمله أهل العلم.
5/ يقال عندما يتعدى الإمام بالضرب وأخذ المال يُصبر عليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لو مسّ العِرضَ فهل يُصبر عليه أيضا؟
قوله هنا (لو مسَّ العِرض) هذه مجملة تحتاج إلى تفصيل.
مسُّ العِرض إذا كان بالتعدي على العرض مباشرة فإنه يُقاتِل المرء دون عِرضه؛ يعني أتى والي من الولاة ودخل يريد أن يأخذ زوجتك أو يتعدى عليها تقاتل دون ذلك، فإن قُتلت دون عرضِك فأنت شهيد.(40/34)
أما مسّ العرض بمعنى أن يكون هناك مثل ما يكون في مثل هذا الزمان الإعلام ونحوه الذي يفسد النساء، ويُفسد الأعراض فهذا لاشك أنه لا يدخل ضمن الأول؛ لأنّ هذا ليس متعينا ولا موجها لواحد بعينه، وإنما عليه أن يتحصّن بالدين، وهذا من جنس الفتن ومن جنس أنواع البلاء والمعاصي التي تنتشر في الناس بأمر الولاة ونحوهم، وهذا لا يخرج به المرء عن الإسلام، فكيف إذن لا يُصبر عليه؟
فإذن العبارات المجملة ينتبه أصحابها.
6/ هذه ملاحظة جيدة: نلاحظ بعض الطبعات فيها زيادة وحذف ونقص.
هذا صحيح طبعات الكتاب بعضها يزيد وبعضها ينقص، بعضها فيه اختلاف في بعض الألفاظ بل أن بعض الطبعات في ذكر قريب من مائة مسألة تزيد قليلا، وبعضها فيها مائة وعشرون مسألة أو تزيد، فعليه أن يقبل بين ما نقرأ وما عنده ويضيف.
7/ نرجو توضيح ما إذا كان المصر على كفرٍ من العُبّاد الجاهليين دعاة الصالحين والأولياء، بعد أن بين له الأمر وما هو عليه ثم أقر وأصر على ما هو عليه، أو أنه قاتل تحت راية كفر، هل تنطبق عليه أحكام الكفار في الآخرة أم يبقى كمن لم يبين له؟
الجواب: أن من قاتل تحت راية كفرية معتقدا صحة ما قاتل لأجله ولو لم يصله البيان بمفرده فإنه إذا مات يشهد عليه بالنار، كما فعل الصحابة؛ الصديق ومن معه مع المرتدين لما أسروا من أسروا قال ما تركوهم حتى يشهدوا بأن قتلاهم في النار، وأن قتلى المسلمين في الجنة، فمن قاتل تحت راية كفر غير مكره معتقد صحة ما قاتل له ولو لم يبين له بمفرده فإنه يكون كافرا ظاهرا وباطنا، يُشهد عليه بالنار، أما إذا خرج معهم ولم يقاتل ونحو ذلك فهذا ليس له هذا الحكم.
8/ أيضا هذا سؤال جيد يقول: هل كل المسائل التي ذكرها المؤلف مخرجة من الملة؟(40/35)
الجواب: لا، هذه المسائل اشتملت على ما هو شرك أكبر، وما هو كفر، وما هو شرك أصغر، وما هو بدعة وما هو محرم. اشتملت على هذه الأنواع سيأتينا إن شاء الله تعالى كل هذه الأنواع، بعضها مثل التقليد في المسألة الرابعة قال: إن دينهم مبني على أمور أعظمها التقليد، التقليد على النحو ذاك محرم، قد يكون شركا أكبر، إذا كان تقليدا في التحليل والتحريم ونحوه. إذن هذه المسائل لا تأخذ المسألة تقول أنها شرك لأنه ذكرها الشيخ في مسائل الجاهلية، لا، هذه خصال كان عليها أهل الجاهلية بعضها يكون شرك وبعضها ليس كذلك.
9/ هذا سؤال الحقيقة كثيرا ما يرد ومع كثرة إيضاحه وبيانه ما زال يورد، فلا أدري سبب إثارته دائما، يقول: مارأيك بمن قال –دائما في الأسئلة تحاولوا أنكم تسألون عن القول لكن بمن قال نتركه- ما رأيك عن قول من قال إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله خرج على العثمانيين، وكيف نرد عليهم؟
الجواب من جهتين:
الجهة الأولى: أنه كما ذكرت لكم نَجْد في وقت الشيخ لم تكن تحت ولاية العثمانيين، بل إن نجدا من سنة 260 هـ وهي لم تخضع لوِلاية، لا ولاية العباسيين لا ولايات أخر، كانت مستقلة، تسلط عليها بعض الخوارج من ذلك الوقت وطائفة من أهل اليمن ونحوها، يعني استقلت لم تدخل تحت طاعة من ذلك الوقت، فكانوا في تفرق فلم يُجبر أهلها ولم يخضعوا لبيعة وإنما كانوا مستقلين، لما ظهرت الدولة العثمانية كانت نجد كل بلد لها أميرها، فما خضعوا تحت الخلافة العثمانية في أول ما قامت لأنه أول ما قامت كانت على إسلام صحيح بعد ذلك انحرفت.
هذا لما أتى الشيخ وهم على هذا النحو كل بلد لها أمير، ما يقرون بطاعة لبني عثمان بخلاف الأحساء والمنطقة الشرقية وهؤلاء يقرون للولاية للعثمانيين، والوالي على الأحساء ونحوها تحت ولايته، كذلك [الأشراف] ونحوهم كان عندهم نوع استقلال لكنهم تحت الولاية العامة، أما نجد كانت مستقلة، هذا من جهة.(40/36)
الجهة الثانية: أن في وقت الشيخ رحمه الله تعالى كان العثمانيون يدعون إلى الشرك الأكبر وإلى الطرق الصوفية ويحببون ذلك وينفقون على القبور وعلى عبادتها ينفقون عليها الأموال، فمن هذه الجهة لو كانت نجد داخلة تحت الولاية لما كان لهم طاعة لأنهم دعوا إلى الشرك وأقروه في عهودهم الأخيرة، أما في المائتين سنة الأولى (250 سنة الأولى) كانوا على منهج، يعني كانوا في الجملة جيدين، لكن لما في كان في سنة 1100 تقريبا وما بعدها لما كثر الشرك في المسلمين هم كانوا ممن يؤيدون ذلك تأييدا وينفقون عليه، وقد وجد من أقوال الخلفاء العثمانيين –حسب التسمية الشائعة- ولاة بني عثمان وجد منهم من يكتب أدعية في استغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أو استغاثة بالأولياء ونحو ذلك.
فالجهة الأولى هي المعتمدة التي ذكرتُ لك، والثانية فرع عنه.
10/ هل أن نقول أن أهل الجاهلية الأولين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلمون أنهم على باطل؟
هذا [ليس] بصحيح كما يقول إمام الدعوة ليس كفر من كفر منهم عن عناد واستكبار بل بعضهم كفر عن تقليد؛ تقليد الأكابر وبعضهم من أجل عدم العلم، قال جل وعلا ? بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]. فلم يكونوا يعلمون أنهم على باطل، ذلك القلة منهم كانوا يعلمون لكنهم كانوا مستكبرين لكن الأكثرون كانوا لا يعلمون بين لهم البيان العام، أزل القرآن، دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس فمن صد فهو كافر مشرك.
نختم بهذا ونسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. ([10])
[المتن](40/37)
(المسألة الثامنة) الاستدلال على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء كقوله ?قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ?[الشعراء:111]، وقوله ?أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا?[الأنعام:53] فرده الله بقوله ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ?[الأنعام:53]
(المسألة التاسعة) الإقتداء بفسقة العلماء فأتى بقوله ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[التوبة:34]، وبقوله ?لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ?[المائدة:77].
(المسألة العاشرة) الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حفظهم كقوله ?بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27].
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأَرِنَا الباطل باطلا ومُنَّ عليما باجتنابه، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، نعوذ بك من شرور أنفسنا، نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
في المعنى العام للمسائل التي قبلها وذلك أن المسائل التي قبلها كانت في ذكر الاستدلال؛ استدلال المشركين وأهل الجاهلية على ما هم عليه من الباطل بأنواع من الأدلة.
فذكر من تلك الأدلة أنهم يستدلون بالأثر على الصواب، وأنّ الشيء يعرف بأنه حق إذا كان أتباعه هم الأكثرين.
وذكر من أدلتهم أنهم يحتجون بالأولين والمتقدمين.(40/38)
وذكر من استدلالاتهم أنهم استدلوا بقوم أعطوا قوى، أعطوا أفهاما، وأعطوا علوما، يستدلون بهم وبأحوالهم على بيان صلاح ما هم عليه وبطلان ما جاءت به المرسلون.
وهذه المسألة هي تلك المسائل، وهي أنهم يستدلون على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، يستدلون على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، وهذا تنوع من الأدلة التي يستدل بها أهل الجاهلية في الماضي، ويستدل بها كل من كان فيه شعبة من شعب أهل الجاهلية في كل زمان ومكان، يستدلون على بطلان أمر من الأمور بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، وذلك أنه في ظاهر أفهامهم أن أهل الشرف والسيادة وأهل الرفعة والريادة وأهل الوجاهة والمال هم أحرى بأن يكونوا أوصل للحق وأعرف للحق وأحسن استدلالا عليه، فكيف يكون الضعفاء الذين هم أضعف عقولا، وأضعف أفهاما عندهم، كيف يصلون إلى الحق دونهم؟ فاستدلوا بذلك على أن أولئك الضعفاء عقولهم ليست صائبة، وأفهامهم ليست مستنيرة، وأنهم هم أهل الأفهام وأهل العقول، وإذا كان كذلك تم لهم الدليل بأن جاءت به المرسلون إنما اقتنع به الذين ليس لهم عقول صائبة، وليس لهم عقول مستنيرة، وليس لهم أفهام جيدة وقرائح قوية، فاستدل ذلك على بطلانه، إذْ لم يقتنع به أهل الفهم، يقنع به أهل العلو، لم يقتنع به أهل الجاه، أهل المال، الرؤساء، الأشراف، الملأ، ونحو ذلك.(40/39)
وهذا الاستدلال في أصله صحيح شرعا، ولكنهم هم استدلوا به، فخلطوا ولم يزنوه بالميزان الشرعي الصحيح، وكيف ذلك؟ صحيح أن كل من كان أوفر عقلا وأجود ذهنا وأصح قريحة أنه يصل إلى الحق، وأنّ من كان دونه في الفهم، ودونه في العقل، ودونه في إتيان اللب والفهم، هذا يكون أبعد من الذي قبله في الوصول إلى الحق، ولهذا ذكر الله جل وعلا المشركين بأنه أعطاهم ألبابا وأعطاهم عقولا، لكن هذا الأصل لما كان صحيحا كان حال المشركين معه منقلبة ومنعكسة؛ لأنه يثبت بذلك أنّ من استجاب للحق وتبِع المرسلين أنهم هم أهل العقول وهم أهل الألباب وهم أهل الفهم، قال جل وعلا ?وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ?[العنكبوت:43]، والمشركون لم يعقلوها فثبت أن من عقلها هم العالمون، وإن كانوا عند أولئك أقل فهما، كذلك قال جل وعلا ?وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?([11]) فالذين يتذكرون ويتبعون الرسل هم أولوا الألباب وهم أولوا العقول.
إذن فهؤلاء المشركون وأولئك المشركون كيف لم يتم لهم هذا الاستدلال، مع أنه في أصله صحيح؟ ذلك أنهم إن ظنوا أنهم هم أهل العقول، وهم أهل الأفهام، وهم أهل الألباب، فذلك قد يكون صحيحا في نفسه لكن العقل يصرفه عن فهم الحجة ويصرفه عن اتباع الحق أنواعا من الصوارف كانت متوافرة في أولئك المشركين، متكاثرة فيهم، ظاهرة بادية في حالهم وشأنهم:
? وأعظم تلك الصوارف الاستكبار والهوى: ذلك أن الهوى يغطي العقل عن الحق وهم كانوا أهل هوى فالهوى كان صارفا لاستعمال عقولهم فيما كان ينفع ?أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا?[الفرقان:43]،? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ?[القصص:50].(40/40)
? من الصوارف أيضا التي جعلت عقولهم ضعيفة وأفهامهم كليلة، وهم يضنون أنهم يحسنون صنعا وأنهم هم أولوا الألباب من الصوارف الغنى، و الله جل وعلا بين أن الإنسان يصرفه المال عن رؤية الحق فقال جل وعلا ?كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى?[العلق:6-7]، فالإنسان إذا رأى نفسه غني، غني وكثر ماله كان ذلك في الأكثرين صارفا لهم عن رؤية الحق وعن اتباع الحق؛ لأن للمال بهرج وله زينة، فيحتاج صاحب المال إلى التجرد العظيم و الإخلاص الأعظم الذي يصرفه عن الركون إلى تلك اللذة وذلك الإغراء حتى يقبل الحق، فكان هذا صارفا لأذهانهم لقبول الحق ومن رؤيتهم الحق حقا، ومن استعمالهم ما أعطاهم الله جل وعلا من الألباب في إبصار الهدى وإتباع المرسلين.
? من الصوارف أيضا ما هم فيه من الجاه فكانوا أهل جاه، إما في نسب كشرف النسب غير كسبي، وإما في رئاسة وترفع وسؤدد بين الناس، ونحو ذلك من أنواع الجاه، الجاه صاحبه يغطَّى عقله إذا لم يكن مبصرا البصر الشرعي، فلهذا ردوا الحق لأنهم كانوا على جاه امتنعت عقولهم من رؤية الصواب لأجل غطاء الجاه وغطاء السؤدد.
?ومن الصوارف أيضا العجب بالنفس واعتقاد رفعتها، فإذا اعتقد المرء في نفسه أنه أرفع من غيره فإنه يصده ذلك عن قبول الحق إذا جاء به غيره، ولهذا فإن المشركون قالوا ما قالوا حيث قال طائفة منهم ?وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ?[الزخرف:31] أرادوا أن تكون الرسالة في العظماء الذي هم أعلى منهم رتبة وشرف حتى لا يكون في صدورهم حرج من أتباعه، ومن لأنواع الصوارف كثيرة.(40/41)
هذه المسألة ذكر فيها إمام الدعوة وحمه الله نوعا من أنواع الصوارف وحجة واستدلالا لهم يستدلون به، ذلك الاستدلال أنهم يستدلون على بطلان الشيء المراد إثبات أنه حق لأنه ما اتبعه إلا الضعفاء، والضعفاء يشمل -يعني هذا الاسم- كل ضعيف مالا وجاها ونسبا وفير ذلك من أنواع الضعف الذي يكون بين الناس.
احتجوا بهذا على أنه لو كان الحق لو كان هذا الذي جاء به الرسول حقا لكنا أحرى به ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ?[الأحقاف:11]، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني عن الذين آمنوا ?لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ?[الأحقاف:11] فهذا نوع، كذلك ما قص الله جل وعلا في قصة نوح من الآيات التي استدل بها المصنف رحمه الله تعالى حيث قال الملأ من قوم نوح ?وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27] هذه الآية في سورة هود، أو الآية التي استدل بها المؤلف ?أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ?[الشعراء:111] (الْأَرْذَلُونَ) جمع أرذل، أصلها في اللغة لشيء الدون، ذلك أن هذه المادة رَذَلَ أصلها في اللغة لشيء الدون يعني إذا كان شيئان عال ودون، فالدون هو الأرذل من الأمرين؛ يعني أنهم قسموا الناس إلى فريقين: أشراف وسادة وملأ، وآخرون هم الضعفاء وهم الأراذل، وقال جل وعلا في هذه الآية مخبرا عن قيل قوم نوح (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، (أَنُؤْمِنُ لَكَ) يعني أنصدق بما جئت به(وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، وفي قراءة أخرى (وأَتْبَاعك الْأَرْذَلُونَ) وهي ليست سبعية؛ يعني كيف يكون الصواب مع أولئك مع أنهم الضعفاء وهم الأرذلون، وقد قال المفسرون أن أكثر أتباع نوح كانوا من أهل الصناعات بعضهم أهل حياكة، وبعضهم أهل نجارة،(40/42)
وبعضهم أهل بيع وشراء، ونحو ذلك، فاستدلوا بنوع المتبعين لنوح عليه السلام استدلوا بذلك على بطلان ما جاء به (أَنُؤْمِنُ لَكَ) الإيمان هاهنا لغوي يعني التصديق. وضابط ذلك:
أن الإيمان في القرآن عُدِّي تارة بالباء وعدي تارة باللام.
والغالب فيما عدي بالباء أنه الإيمان الشرعي، المعروف تعريفه.
وما عدي باللام يراد به المعنى اللغوي، قال جل وعلا ?وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا?[يوسف:17]، فلما عُدي الإيمان باللام علمنا أنه لغوي، وهو التصديق الجازم الذي لا يخالط صاحبه شك فيما خوطب به، أو في الشيء.
هنا (أَنُؤْمِنُ لَكَ) يعني أنصدق لك تصديقا جازما لا امتراء فيه والذين اتبعوك هم الأرذلون (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، فمنعهم هذا النوع من تصديقه ومن اتباعه.
ولم يكن هذا في قوم نوح فحسب بل كان هذا في العرب وفي قريش بخاصة، فلما اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - أولئك الصحب الكرام والصفوة المنتخبون، قال المشركون ?أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا?[الأنعام:53] كيف يكون؟ هدى الله يهدي به أولئك الذين هم ضعاف، الذين هم موالي، الذين هم صغار السن ونحو ذلك، فأجابهم الله جل وعلا بقوله ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ?[الأنعام:53]، الله أعلم حيث يجعل هداه وحيث يجعل توفيقه،فهل أنتم تتحكمون في فعل الله جل وعلا.(40/43)
إذن لو استعملوا عقولهم لوصلوا إلى الصواب، لو لم تكن على قلوبهم أنواع من الغشوات لوصلوا إلى الصواب والحق، ولكن عقولهم لم تكن نافعة ?فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون?[الأحقاف:26]، فأولئك لم ينفعهم العقل ولم ينفعهم ما أوتوه من الفهم، فكان حقا أن يكون أولئك الأقوام الضعفاء فيهم هم أهل العقل، وهم أهل الفهم، وهم أهل الإدراك لهذا قال بعض السلف: كم من لبيب ولا لب له، وكم من عاقل ولا عقل له. كم من لبيب أعطاه الله جل وعلا لبا يفهم به الأشياء ولكنه في الواقع لا لب له، لم؟ لأنه انصرف عما ينجيه في الآخرة هل يكون من عقل العاقل أن يقتحم الردى ويضع نقسه على دكادك من نار هل هذا من العقل ؟هل هذا من اللب؟ هل يكون العاقل الذي يجحد الحق الذي سيوصله لو اتبعه إلى الجنة ويرضى بزينة الحياة الدنيا القاصرة الفانية الهالكة عن الجنة؟ يرضى بأن يكون من أهل النار أو بأن يتعرض في الآخرة إلى العذاب وهو في الجنة يتبع عرضا زائلا؟ ليس هذا بعاقل ولهذا اعقل العقلاء أكملهم إيمانا، ولو كان في الناس ضعيف العقل، إذا كان أكمل إيمانا، وكمل إيمانه ولو كان في الناس وضيعا لا مال له، فقيرا ليس بذي سؤدد ليس بذي شرف، وليس بذي جاه لكنه هو لو أقسم على الله لأبره، وهو صاحب العقل، وصاحب اللب، فما أحسن قول القائل: كم من ذي لب ولا لب له، وكم من ذي عقل ولا عقل له.(40/44)
هذه المسألة التي هي من صور أهل الجاهلية ومن شعبهم ومن مسائلهم، ومما اختصوا به، هذه المسألة جاءت إلى المسلمين وكانت فيهم لأنها من سنن أهل الجاهلية والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال «فمن» وفي رواية أخرى قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال «فمن الناس إلا أولئك».
فهذه الأمة جاءت فيها هذه الشبهة وذلك الاستدلال، وذلك في أصناف من هذه الأمة:
الصنف الأول: هم أهل الرئاسة بأنواع من الرئاسات، وأولئك إذا رأوا المتبعين للهدى وللحق تنقصوهم وتنقصوا عقولهم، وقادهم ذلك التنقص إلى أنّ هذا الذي هم عليه ليس هو الصواب، فإذا رأوا من يتمسك بالسنة احتقروه، واستدلوا بأنه من أهل الفقر والمسكنة، من الموالي، من غير أشراف الناس، على أنه إنما اختار هذا الطريق، وهذا النحو لأجل ضعف عقله وهم أهل العقول الكاملة وهم الكَمَلَة الذين هم عند أنفسهم أصحاب فهْم، فيستدلون بفهْمهم ومعرفتهم وعقولهم على أن هذا ليس هو المراد بالشريعة، وهذا كان في كثيرٍ من أصحاب الرياسات، فكانت تلك الرياسات معطلة لعقولهم عن رؤية الصواب.(40/45)
الصنف الثاني قوم من العقلانيين الذين درسوا الفلسفة، وعرفوا المنطق، وكانت لهم عقول وأفهام وذكاء، لكنهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: أُوتوا عقولا ولم يؤتوا فهوما، وأوتوا ذكاء ولم يؤتوا ذكاء. أولئك أهل الفلسفة ينظرون إلى من يسمونهم بالحشوية، ينظرون إليهم وما هم عليه بأنهم هم الأراذل هم الضعفاء، الضعفاء في العقل، الضعفاء في الفهم، فيقودهم ذلك لأن أولئك الذين وسموهم بالضعف والرذالة بأن أولئك لم يعتنوا بعقولهم -يعني عقول أولئك الفلاسفة-، لم يعتنوا بمنطق اليونان، لم يعتنوا بالفلسفة، لم يعتنوا بتلك الدلائل التي يسمونها عقلية ليس لهم سعة في العلوم، إنما مدارهم على النقل، ليس عندهم فهم إنما هم ينقلون قال الله وقال رسوله، لم يدخلوا في الفهم بعقولهم، يستدلون بضعفهم عن المشاركة على بطلان هذا النوع، فيقولون: لو كان ذلك صوابا لكان وصل إليه فلاسفة الأمة طالب الحكمة منهم، هؤلاء هم أهل العقول العالية وهم أهل الفهوم السامية، فلا بد أن يكون هناك تقديم لطريقة أولئك على طريقة أولئك الحشوية. هذه كانت في قرون، ثم وصل بطائفة من الفلاسفة الجمع بين الطريقتين، لم يصدعوا بالحق ولم يروه تماما، حيث إنه من اتبع الكتاب والسنة ولم يدخل في ذلك بعقله يعني العقل المعارض للكتاب والسنة، لم يدخل في ذلك بعقله، حاولوا أن يجمعوا بين الطريقتين، كما جمع بينها ابن رشد ونحوه، فحاول أن يجمع بين طريقة المتكلمين الذين يحتقرون الناس ممن عداهم وبين طريقة أهل الأثر في عدة مصنفات لهم، لهذا سموهم الحشوية ما ذا يعنون بكلمة الحشوية؟ يعني أنهم حَشْوِ الوجود، ليسوا هم النخبة، ليسوا هم المتميزين، إنما هم حشوية لا قيمة لهم، كما قال أولئك: إن أتباع الرسل هم الأراذل وهم الضعفاء. كذلك قال من ورِثهم من هذه الأمة إنّ من اتبع الكتاب والسنة واتبع الحديث والأثر وأثبت ما أثبت فيهما إنما هم حشوية يعني حشو في الوجود، حشو في هذه الأمة(40/46)
ليسوا معتبَرين مهما قالوا ومهما فعلوا.
أيضا دخلت تلك المسألة في أهل الغِنى من هذه الأمة أهل الأموال، فأهل الأموال من هذه الأمة غرهم غناهم، يعني من غره منهم غناه فكان إذا أتاهم بالحق من ليس بأهل غنى تراه لا يسمع، تراه يجد في نفسه صدودا عنه، إذا جالسه من ليس من أهل المال، وليس من أهل الغنى، وليس من أهل الزينة في لباسه وفي مركبه، وفي بيته ونحو ذلك، تراه لا يعير لقوله اهتماما، وذلك أنه يستدل بضعفه على أن ما جاء به وما قاله ليس بحق، كما قال أولئك.
أيضا دخل ذلك في الأمة وهذا يتجلى في هذا العصر بالذات دخل فيمن يسمونهم العصريين من الإسلاميين يعني ممن اهتموا بالفكر، اهتم بالفكر طائفة من أهل هذه الأمة، ورأوا أن عرض الإسلام عن طرق الفكر وعن طريق الجمع بين منتجات الحضارات من الأفكار وما جاء في هذه الشريعة أنه يُخرج للناس ما يقتنعون به، فإذا كان الحق رأواه عند من ليس مفكرا ومن لم يعتنِ بهذه الفكريات احتقروه؛ لأنه عنده ناقص العقل، ناقص الفهم، بليد الذهن، وهذا كثير وتجد أن كثيرين ممن كتبوا الكتابات الإسلامية إذا خاطبهم من يعتني بعلم الكتاب والسنة وبعلم الأثر الذي هو أعلى العلوم وصفوة العلوم وأصوب العلوم، رأيت عندهم في أنفسهم وقد يُظهرون احتقارا له وردا لما جاء به لِمَ؟ لأنه ضعيف عندهم بتلك العلوم الفكرية، ولهذا واجهنا كما واجه ربما كثيرون منكم أنه يعاب على من يكثر النفقة في الكتاب والسنة في هذا العصر، يعاب عليه؛ لأنه ليس عنده علم بهذه الأمور الفكرية الجديدة بأنواع من الفلسفات الفكرية وأنواع من الدراسات الإسلامية الحديثة، يعيبون عليه، وهذا ليس بعيب؛ لأن الله جل وعلا جعل أهل اللب وأهل الفهم إنما هم أهل الإتباع لكتابه ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.(40/47)
أهل التذكر هم أُلُوا الألباب، فكلما كان الرجل أطوع لله وأتبع لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما كان هو ذو اللب، وكلما كان هو ذا اللب كان ذا الفهم؛ لأن هذه الأمور لم يطالب بها الشرع، وهذا داء سرى في طوائف في هذه الأمة، وأخشى أن يتسرب إلى هذه البلاد التي هي خلاصة في دعوتها اتباع الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح.
أيضا دخل في طائفة نختم بها هذه الطوائف دخل في طوائف من الدعاة والدعوات، ذلك أن طوائف من أولئك الذين يعتنون بالدعوة –مشكورين- رأوا أنهم كلما كان عندهم معرفة أعظم بالواقع على اختلاف صنوفه وأحواله من قياسات ومن فكريات، ومن أحوال، ومن تقلبات، ومن دراسات، كلما كانوا أقرب إلى الصواب، ويرون أن من لم يعتني بتلك العلوم من العلماء ومن طلبة العلم أنهم هم أضعف منهم فهما وأقل منهم نظرا وأقل منهم تسديدا وصوابا، وهذا أيضا من آثار أولئك، لأنه فيه اعتناء بفهومهم، واحتقار للآخرين باقتصارهم على النقول على الكتاب والسنة، ليست معرفة تلك الأمور مرذولة ومردودة بل العلم بتلك الأشياء مطلوب شرعا –بحده المطلوب شرعا على ما يقرره أهل العلم-؛ لكن الاستدلال بفهومهم ومعرفتهم لتلك الأمور على أن غيرهم ليس على الصواب لأجل أنه ما فهم تلك الأمور، هذا من جنس احتجاجات الأولين، فيرى أن المفتي إذا لم يكن عالما بالواقع يكون ذاك الذي علم أفهم منه وأرفع، فتكون فتوى العالم مردودة يستدل على بطلانها بقلة فهمه لتلك الأمور، وهذا ليس بأمر مؤصل شرعا، إنما الأمر المؤهل شرعا العمدة هو الدليل، فإذا كان للعالم استدلال وفهم فإنه يكون هو الصواب، إذا كان للعامل اتباع للكتاب والسنة فليس عليه أن يعرف كل ذلك، من علم هذه الأشياء علما صوابا فإنه قد يكون ذلك العلم نافعا وقد يكون ضارا له.(40/48)
المقصود من ذلك أن طائفة في العالم الإسلامي عموما اعتنوا بتلك العلوم، ورأوا أن من لم يعتنِ بها أنه هو الأضعف وهذا من مداخل الشيطان على القلوب؛ لأن هذه الأمة لن يصلحها إلا شيء واحد ألا وهو التربية على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسعي في انجاء الناس في الدار الآخرة، ولا شك أنه بالإجماع أن تلك العلوم ليست منجية لعامة الناس في الدار الآخرة وليست بنافعة في الدار الآخرة؛ لكنها قد تنفع الأمة، فيكون المخاطب بها طائفة قليلة من هذه الأمة، وأما نشرها على العوام فهذا ليس بحد شرعي.
إذا كان كذلك، فإن هذه الحجة من أنه من كان أقل فهما في تلك الأمور فيدل على بطلان ما جاء به وعلى بطلان ما قاله هذا من جنس حجج أهل الجاهلية، ودخل هذا في الأمة بنوع من تلبيسات الشيطان على النفوس.
إذن فنخلص من هذا إلى أن أهل الجاهلية يستدلون على بطلان الشيء لأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، والواجب أن نظر إلى الحق مجردا عن من أتى به، فربما يأتي بالحق شيطان، كما علّم أبى هريرة رضي الله عنه، الشيطان علمه دعاء معروفا لا يزال كل منا يدعو به، وإنما علم أبى هريرة شيطان، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة بعد أن ذكر له ما قال «صدقك وهو كذوب».
فإذن يُنظر إلى الحق وتكون غاية المؤمن طلب الحق، ومن جاء به فهذا لا يهم من جاء به ليس بمقصود، قد يجيء به الصغير، قد يجيء به الضعيف، قد يجيء به المولى، قد يجيء به الرفيع، قد يجيء به من لم يكن عنده جاه، ونحو ذلك.
المقصود أن يكون الحق إذا جاء به جاءٍ أن يكون مقبولا دون نظر في حال من جاء به، يعني من حيث رفعته ووضاعته، لكن تارات تلتبس هذه المسألة بما إذا كان الذي يجيء به من أهل البدع، من أهل الأهواء ونحو ذلك، هذا له مقام آخر.
هذا ملخص لهذه المسألة وهي كما ترى مسألة مهمة.
التاسعة: الإقتداء بفسقة العلماء والعباد.(40/49)
أهل الجاهلية جاهلية العرب سألوا اليهود وسألوا النصارى عمّا هم عليه فاقتدوا بهم لمّا أجابوهم بأنهم على صواب، كما قال جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِن الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا?[النساء:51]، (يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِن الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) يعني أن اليهود لما سألهم المشركون من أهدى نحن أو أتباع محمد؟ أجابوهم بأنهم هم أهدى، وهذا نوع إقتداء؛ بل هو اتباع لأولئك بل سماه الله جل وعلا إيمانا بالجبت والطاغوت، كانوا يقتدون بالفسقة من العلماء الذين يأكلون أموال الناس ظلما، وصفهم الله جل وعلا بقوله ?إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[التوبة: 34] أولئك الفسقة من العلماء لَبَسوا الحق بالباطل وكتموا الحق وهم يعلمون، وهذا جار في كل زمان... ([12])(40/50)
كذلك اقتدوا باليهود مع أن اليهود كانوا أهل أكل للأموال بالباطل، هذا دليل الفسق (إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، الواجب أن يكون الإقتداء بأهل الصلاح والطاعة، أما الذي يشتري هذه الدنيا بالآخرة، فيدفع الآخرة ثمنا لهذه الدنيا، هذا فاسق، يشتري الدنيا ويدفع ثمن الآخرة ويصد عن سبيل الله، هذا دليل الفسق، أولئك المشركون كان من خصائصهم أنهم يذهبون إلى من علموا فسقه، ومن علموا ضعف ديانته، ومن علموا مخالفاته، فيقتدون بهم في الدين، وهذه ظاهرة سواءً في مشركي العرب، أو في أهل اليهودية، أو في النصارى، أو في غيرهم من أصحاب الملل، كلهم كانوا عندهم هذه الخصلة؛ لأنّ المرء يحب من يسهِّل عليه ومن يرضيه بواقعه، الأصل في هذا أنّ المرء يحب من يقول له إنك على صواب، ويأنف ممن يقول له إنك على غير الصواب والهدى، فإذا قال له قائل: إنك على صواب وهدى فرح به. ولو كان يعلم أنه ضال ولو كان يعلم أنه فاسق، لأن تحري الصواب والبراءة من غيره من الضلال، هذا لا يؤتاه إلا طالب الحق، لا يؤتاه إلا من رغب في الحق وسعى إليه، فأولئك يسألون أهل الضلال من اليهود والنصارى فإذا أجابوهم قبلوا ذلك، وهذه كما ترون سَرَتْ في هذه- الإقتداء بفسقة العلماء- في أنواع كثيرة؛ في طوائف كثيرة من الأمة، وهي واضحة ظاهرة.(40/51)
فمن الناس من يقتدي أو يرضى بحكم قاضٍ يعلم أنه جائر فيه، يعلم أن هذا القاضي قبل رِشوة، قبل مالا، ومع ذلك يرضى ويقتدي به في ما قال, يأتي بعض القضاة ويستدل ببعض القضاة الذين يأخذون الرشاوي، وكان هذا في الزمن القديم كثيرا خاصة في القرون ما بين الثالث إلى الحادي عشر، كَثُرَ هذا جدا، وكان الحكام يعني القضاة يأخذون الرشاوي على المال، وكل قاض يستدل ويستشهد بفعل من سبقه، ويقول أنا أحكم بهذا للحاجة، ونحو ذلك، فيقتدي بالفاسق الذي يعلم فسقه، من أنه الرشوة في الحكم كفر وهذا أعظم من مجرد الفسق، كذلك العلماء الذين يعلم من حالهم أنهم فسقة, يعلم من حالهم أنهم لا يصلون كما هو موجود في كثير من الأمصار.
وقد سئل بعض أهل العلم في غير هذه البلاد عن حال علماء مصره وبلده عن أنهم لا يؤدون الصلوات، يفعلون ما يفعلون من المنكرات، كيف يكون علمهم؟ قال: صنعة. يعني اتخذوا العلم مهنة وصنعة من الصنائع، فكانوا فسقة بذلك, الناس اقتدوا بهم؛ فيستفتونهم فيفتون ويرشدونهم ويبينون لهم في وسائل البيان المختلفة، ويقبلون، وهذا نوع من آثار الجاهلية في النفوس، والواجب أن يسعى إلى من يعلم أنه أصلح وأنه أبر وأنه أتقى و يأخذ الدين منه؛ لأنه هو الذي لا يحابي، إذا كان الطالب يطلب الحق فيذهب إلى من يقول له الحق ولو كان مُرا، هذا طالب الحق والهدى، أما الذي يطلب من يصحح له وضعه، فإنه يذهب إلى فسقة أهل العلم الذين يتكسبون بالدين ويتكسبون بالعلم فيجيبون كل واحد بما يناسبه. ومن صنوف أولئك:
طائفة كان في ما مضى من الزمان كانوا يفتون على المذاهب الأربع؛ يأتي ذلك المستفتي إلى ذلك العالم، فيستفتيه المستفتي، فيُفتي العالم بالمذهب الذي عليه ذلك المستفتي، يقول أنا على مذهب فلان فيفتيه، غالب أولئك كما وصفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض رسائله متأكلون بالعلم.
بعض أولئك العلماء لا يفتي إلا بمال، يقول: أنا لا أفتيك إلا أن تعطيني شيء.(40/52)
بعض أولئك العلماء فيما مضى من الزمان يعلمون أنه على فسق في حاله، ولكنهم يقتدون به في أموره الخاصة، يعني يرون حاله في بيعه يرون حاله في شرائه ويقتدون به، يقولون فعله العالم الفلاني، طيب ذلك العالم غير متحر للصواب، وربما كان فاسقا.
بعض أولئك العلماء يفتي الناس بما يناسبهم برخص من رخص أهل العلم إذا استفتاه بعض أهل الوجاهة، بعض أهل المال، لا يريد أن يكدر خاطره، فيذهب يفتي له برخصة من رخص الفقهاء ليست صوابا، يعلم أنها ليست صوابا، أو بقول مهجور من الأقوال في الفقه إرضاء له، وهذا يكثر عند المخالطين للكبراء وللأمراء في كل زمان وكل مكان، فإذا لم يكن المرء على –يعني العالم الذي يسأل فيجيب- إذا لم يكن على تحر في دينه، لا يهمه في تبليغه دينه أن يرضى ذلك السائل أو لا يرضى، فإنه لا يقتدى به، إذا كان هذا المستفتى أو المسؤول يُهِمه رضي ذاك هذا يجب أن لا يقتدى به ولا يؤخذ العلم منه.(40/53)
اليوم ربما خالط طائفة من الناس من أهل العلم الأغنياء أصحاب الأموال الباهرة أصحاب الشركات أو العقارات أو المؤسسات أو نحو ذلك، فيأتيه ويكون ذلك أو يكون له مصلحة منه، فإذا سأله أفتاه بما يريح ذاك، وهذا من أنواع الإقتداء بفسقة العلماء الذين كانوا من قبل، ذلك أن الله جل وعلا وصفهم بقوله ?قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[آل عمران:99]،قل? يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ?[آل عمران:70]، (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، ?لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ?[آل عمران:71]، ?لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ?[آل عمران:99]، هذه في آل عمران كما ذكرت وهنا وصفهم بأنهم يصدون عن سبيل الله، يعلمون أنهم يصدون عن سبيل الله ومع ذلك يقتدون بهم، كانوا يفرحون بأنهم سيجيء نبي يتبعونه، فلما جاء النبي كفروا به وأعرضوا عنه، وهذا نوع من الصد عن سبيل الله، فكانوا بذلك فسقة، كان الناس يعلمون أنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ومع ذلك كانوا يقتدون بهم، وهل أولئك أصحاب إقتداء؟ هل يجوز الإقتداء بهم؟ لا.
الصنف الثاني فسقة العبّاد:(40/54)
والفسق في العبادة يكون بالخروج عن السنة، فكل من تعبد بعبادة بدعية فهو فاسق بها، كأصحاب الطرق الصوفية، وأصحاب الأقوال والأحوال التي لا توافق السنة، فأولئك بأجمعهم أهل فسق إذ كانوا خارجين عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان حالهم كذلك، كان الواجب أن ينكر عليهم وأن لا يقتدى بهم، المشركون اقتدوا بفسقة العبّاد، وهم الذين ابتدعوا بدعا من النصارى وغيرهم، كان في كل مكان ربما اقتدى المقتدي بعابد فاسق، يعني خرج بعبادته عن الشريعة التي أنزلها الله جل وعلا على رسولِ ذلك المتبع فاتبع.(40/55)
وهذه الخصلة من الجاهلية سرت في هذه الأمة في أنواع من الناس، يجمعهم أصحاب الطرق الصوفية الذين اقتدوا بمن يعلمون فسقه؛ بل إن الأمر زاد على ذلك حتى جعل أولئك أولياء لله جل وعلا، صنف بعض كبار الصوفية يعني غلاة الصوفية، صنفوا مصنفات في طبقات الأولياء مثل الشعراني وغيره، وجعلوا من الأولياء -كما رأيت ذلك بنفسي- جعلوا من الأولياء من يأتي الفواحش وقال في ترجمة أذكرها قال: سيدي فلان الفلاني قدس الله روحه، ونوّر ضريحه كان يتلو آيات ليست في القرآن. وهذا أنا اطلعت عليها بنفسي، وقال: وخطب رضي الله عنه سبع جمع في جمعة واحدة. يعني خطب في سبعة بلاد في جمعة واحدة، يخطب هنا وهنا وهنا في وقت واحد، وهذا لا شك أنه إما أن يكون مجنونا، أو يكون تتلبس به الشياطين عن اختيار منه، أو غير ذلك، المهم أن هذا ليس من الأولياء لأن هذا لا شك أنه من الفسقة بل من الكفرة إذا كان يتلو آيات ليست من القرآن ويقول أنها من القرآن فهذا من الكفرة، يقتدي به ويجعل في التراجم ويغنى عليه، فعمّ ذلك في بلاد المسلمين اليوم وطمّ، حتى لا تكاد تدخل بلد إلا وفيه طريقة وفيه زاوية وفيه من يتبع الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، يذكرون من مناقب كل صاحب طريقة وكل شيخ من أولئك، يذكرون من مناقبه أشياء لا يفعلها الأتقياء إنما يفعلها الفسقة، تارة تكون منسوبة إليه لا تصح وتارة تكون صحيحة، وفي الحملة من كان على فسق في العبادة، كيف يقتدى به؟ فهذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية، وجدت في المسلمين والواجب أن تصدى، الواجب أن ينكر على أصحابها؛ لأنها من خلال الجاهلية والنبي - صلى الله عليه وسلم - أتى لرفض كل خصلة من خصال الجاهلية، تلك الخصال الباطلة التي لم يأذن الله جل وعلا بها.(40/56)
ساق المؤلف هنا قوله جل وعلا ?لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ? هذه آية المائدة ?وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ?[المائدة:77]. فجمع في أوساطهم أنهم ضلوا من قبل، وذلك بأنهم فعلوا بعيسى عليه السلام ما فعلوا فلم يؤمنوا به، قتلوا الأنبياء، حرموا الحلال، وحللوا الحرام، وأكلوا الربا، وجعلوا السبت وقتا للصيد، مع أنه نهوا عنه ونحو ذلك، وأضلوا كثيرا بما أفتوه، جعلوا التوراة؛ جعلوا تفسير التوراة إليهم فأحلوا حراما فيها، وحرموا حلالا فيها، كما وصف الله ذلك عنهم، وقال (وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) فوصفهم بتلك الصفات التي فيها أمعنوا في الضلال، مع ذلك اقتدى بهم من اقتدى من أهل الجاهلية.
إذن نخلص من هاتين المسألتين إلى أن أهل الجاهلية كان لهم أنواع من الاستدلال، وبقي من أدلتهم مما ذكره المؤلف ثلاثة أدلة ستأتي إن شاء الله تعالى.
هذه الاستدلالات بأنواعها يجمعها أنها استدلالات في نظر العقل الصائب مرفوضة، وسبب استدلال أولئك بها مع أنه قد يكون أعطوا عقولا وأعطوا فهوما وأعطوا معرفة، يكون سبب استدلال أولئك بها أنه غُشِّي على قلوبهم وغُشِّيت أبصارهم ولم يتوصلوا بعقولهم إلى الصواب؛ لأنه كانت عندهم أنواع من الصوارف لما صارت عندهم الصوارف استدلوا على ما هم عليه من أنواع الباطل بأنواع من الأدلة التي يقنعون أنفسهم أنهم على صواب، ويردون بها رسالات المرسلين، منها، من أدلتهم التقليد، ومن أدلتهم الاحتجاج بالأولين، من أدلتهم الاغترار بالكثرة، من أدلتهم الاحتجاج بأهل القوة في الفهم، وأهل العقول، وأهل المال، وأهل القوة في الدنيا، وأهل الرفعة فيها، ويستدلون بأن الحق الذي جاءت به المرسلون ليس بحق؛ لأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، كذلك يقتدون بفسقة العلماء، يقتدون بفسقة العباد.(40/57)
إذا نظرت إلى هذه الأدلة بمجموعها وجدتَ أنها هي عين ما يحتج به المشركون والخرافيون والمخالفون للحق في كل زمان، فإمام الدعوة لما أتى بالدعوة ودعا الناس إليها، وُوجِه بأنواع من الاستدلالات، تمحضت في استدلالات أهل الجاهلية، ووجه بالتقليد، ووجه بأنك وأصحابك قليلون، وسواد الأمة الأعظم ليسوا على ما أنت عليه، ووجه بقول من قال إن أهل نجد هؤلاء الذين ظهر فيهم محمد بن عبد الوهاب -على قولهم- ما عندهم علوم لا بالعربية، ولم يتعلموا علم الكلام ولا المنطق، ويتبين ذلك بسؤال أرسل إلى الشيخ من بعض أهل الأمصار، وجه إليه سؤالا يريد منه أن يعرب سورة والعاديات ضبحا، ويقول بين لي ما فيها من البديع وما فيها من البيان في سؤالات من البلاغة ومن النحو متنوعة، الشيخ رحمه الله تعالى مشغول عن مثل هذا، لا يريد إثبات نفسه في هذه العلوم، فترك الرد عليه، مع أن الجواب عنها معروف في كتب المفسرين، يقولون إن هؤلاء الذين ظهرت فيهم الدعوة هؤلاء، دعوة محمد بن عبد الوهاب ليس عندهم إلا فقه الحنابلة حتى التفسير ليس عندهم مشاركة فيه، حتى الإسناد ليس معهم معرفة به ونحو ذلك، فيستدلون بضعف أفهامهم وعدم مشاركتهم، وعدم عقولهم، ويستدلون بأنهم قليل، وأن من خالفهم كثير، ويستدلون أيضا بأن أهل نجد أهل فقر ومسكنة وليس عندهم شيء، بعضهم أكله حاف، ومساكنهم معروفة أما المدن الكبار التي فيها علماء الأمصار هؤلاء هم أهل الفهم وهم أهل القوة انخدعوا بذلك، واستدلوا بذلك كله، وهذا موجود في المؤلفات التي ترد على دعوة الإمام؛ الدعوة السلفية في آخر هذه الأزمان، كل هذا موجود؛ بل إنه وجد في هذا العصر من صرح بذلك، وهو الذي يقول: إن أهل هذه البلاد وعلماءها طائفة من البدو الجهّال. وهذا لا شك أنها حجة قد احتج من تقدمه من أهل الضلال.
المقصود أنه في كل وقت تظهر هذه الاستدلالات إما أكثرها وإما بعض منها.(40/58)
فإذا تبينت ذلك، تهتم بالحجة والاحتجاج على من خالف الحق، بأن هذه الحجة أوردها واحتج بها واستدل بها وجعلها دليلا المشركون من قبل، وأبطل الله جل وعلا تلك الحجة.
فإذا أتى بشيء من ذلك تبطل أولا نوع الاستدلال، ثم بعد ذلك تنظر في الدليل وهذا مما ينبغي أن يهتم به طلاب العلم الذين يهتمون بالردود على المخالفين وإبطال أقوال الخرافيين والقبوريين والمبتدعة وأنواع الضالين.
تُبطل نوع الاستدلال قبل أن تنظر في الدليل وما فيه، فإذا كان ذلك تماما كان من أوجه الرد على أولئك أنّ تلك من استدلالات أهل الجاهلية.
أسأل الله الكريم لي ولكم الهدى والسداد والثبات والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]:
1/ ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - جحر الضب دليلا على الاتباع الأعمى، ما سبب اختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك على وجه الخصوص؟
من أوجه ما قيل في ذلك أنه لا أحد يرغب في دخول جحر الضب، فضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا لشناعته، ما فيه أحد يختار جحر الضب، فلو دخل المشركون أو دخل اليهود والنصارى جحر ضب، يقول النبي عليه الصلاة والسلام «لدخلتوه»، وهل هذا يعقل؟ هل هذا يكون عند ذي فهم وعند ذي بصر؟ لا، فهو مثل ضُرب لشناعته، ولأجل أنه لا يختاره عاقل معه لبه وعقله.
2/ هل فعل من يفتي بالشريعة في الفتوى، وعند القضاء -يعني إذا قضى- يقضي بالقانون، هل هذا من فعل فسقة العلماء؟ هل فعله هذا يعتبر مما يَكفر به مثله أو يُكَفَّر به مثله؟
ما فيه شك أن هذا أقل أحواله أن يكون فاسقا، يفتي بالشريعة للناس، وإذا قضى بينهم لأجل أن الحكومة تلك تجعل القانون هو الدستور أو هو ما يُقضى به، يقضي بالقانون في مسائل ويفتي بالشريعة أقل أحواله أنه فاسق، وقد يكون كافرا؛ قد يكون كافرا إذا كان يعتقد أن هذا الفعل جائز، إذا كان يعتقد أن فعله هذا جائز ويحسنه للناس، فهذا يكون كافرا بالإجماع.(40/59)
وحكمه بالقانون يعني التزام القانون في كل ما جاء به وعدم خروجه عنه يعده كثير من أهل العلم كفر ولو كان يعتقد عدم الجواز، فحال هذا المسؤول عنه إذا كان من العلماء فإنها لا شك أنها حال فسق على أقل الأحوال، وقد يكون كافرا بذلك.
3/ هذا سؤال ربما ورد كثيرا يبدو أن الحاجة إلى الجواب عنها ملحة يقول ما معنى فقه الواقع؟ ونرجوا أن تعرج على تعريف بعض العلوم التي يستدل بها أصحابها على أهل الدليل من الكتاب والسنة.
نكتفي بالفقرة الأولى وهي قوله (ما معنى فقه الواقع؟)
أولا التركيبة (فقه الواقع) مركبة من كلمتين (فقه) و(الواقع)، وكل كلمة من هاتين الكلمتين كانت مستعملة عند السلف الصالح رضي الله عنهم، فكانوا يستعملون كلمة (فقه)، وكانوا يستعملون كلمة (الواقع)، ومع ذلك فهم لم يجعلوا الواقع عندهم هو الواقع المراد عند هذه الإضافة.
والواقع: هو ما يقع من الأحداث والأمور في الناس.
السلف لم يركبوا هذا التركيب مع وجود الكلمتين عندهم، فلم يضيفوا (الفقه) إلى (الواقع)، فلم يقولوا (فقه واقع)، قالوا: فقه الكتاب، فقه السنة، ونحو ذلك، الفقه الكبر؛ يعني العقيدة، أما فقه الواقع فلم يرد عندهم، فكان بهذا مع عدم تسمية معرفة الواقع بفقه الواقع، مع أن العلماء أعرضوا عنه أربعة عشر قرنا، كان هذا دليلا على أن هذه التسمية محدثة «وكل محدثة بدعة»؛ لأنها متصلة بالشريعة، ولا يخفى على كل واحد منكم أن فقه الواقع عند من يسميه بذلك له مساس بالأحكام الشرعية.(40/60)
فتبين من هذا أن تركيبة الكلمتين لم ترد عند السلف مع وجود كل واحدة من الكلمتين عندهم، ما الذي كان عند السلف والذي كان عند أهل العلم؟ كان عندهم أن المفتي والحاكم لا يفتي ولا يحكم في المسائل الشرعية إلا بعد أن يعرف واقعَ المسألة المسؤول عنها، فإذا سئل عن شيء لا يجوز له أن يفتي أو يحكم بدون أن يتصورها، ولهذا جاء في بعض مسائل كتاب التوحيد أن إمام الدعوة رحمه الله تعالى قال: وفيها فهم الصحابة للواقع. يعني بذلك فهمه لواقع الناس وما يسألون عنه، لا يُسأل عن مسألة وهو لا يعرف ما يريد الناس بها، يستغفل؟ لا، لكن إذا سئل يعرف هذه المسألة تصورا، فإذا كانت المسألة مثلا في الفقه يعرف صورتها الفقهية، هذا معلوم عند أهل العلم، بل قالوا: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
والواقع قسمان:
واقع له أثر في الأحكام الشرعية.
وواقع لا أثر له في الأحكام الشرعية.
فليس كل ما يقع بين الناس، وما يجعله الله جل وعلا في أرضه، ليس كل ذلك مؤثرا في الأحكام الشرعية، أو تبنى عليه الأحكام الشرعية.
القسم الأول: الواقع الذي تبنى عليه الأحكام الشرعية وفهم المسألة وصورتها وما تتنزل عليه.
الثاني: ما يتصل بالمسألة مما ليس له أثر في الحكم الشرعي، هذا واقع لا أثر له.
مثل القاضي يأتيه خصمان يتخاصمان في مسألة، يقول الأول كلاما في ربع ساعة طويل، ويأتي الثاني يقول كلاما في ربع ساعة أيضا طويل، القاضي كل هذا الذي ذكره الخصمان واقع وقع، لكن القاضي لا يقيد منه في سجلِّه يعني سيبني عليه الحكم إلا ثلاث كلمات أو أربع؛ لأنها هي المأثرة في الحكم الشرعي.
كذلك المستفتي تأتي تستفتي أحد العلماء، وتقص عليه قصة طويلة، ويجيبك بمسألتين، ثلاث، تقول لا شيخ كان كذا وكذا، يقول ولو كان هذا ما له أثر، وهو واقع صحيح عندك أنه واقع ربما يكون مؤثرا لكنه عند العالم ليس مؤثرا في الحكم الشرعي.(40/61)
فإذن ليس كل ما وقع في الناس، أو ما يقع في الدنيا مؤثرا في الأحكام الشرعية، وعليه فإنما يجب على العلماء أن يعرفوا الواقع الذي تنبني عليه الأحكام الشرعية.
الآن هذه الكلمة (فقه الواقع) يُعنى بها معرفة أحوال الناس والمسلمين والأعداء، وما يعدون له، وما يخططون ونحو ذلك من علوم كثيرة، وهذا لاشك أنه كعلم –مع اعتراض على التسمية- كعلم مطلوب، أن يعرف في الأمة طائفة هذه الأمور، وهذا من أجناس فروض الكفايات كالعلوم المختلفة: علم السياسة، وعلم الفيزياء، والكيمياء، والجبر، والهندسة، ونحو ذلك، هذا من جنس العلوم تلك، فمعرفتها لا بد أن تكون في الأمة، لكن تلك معرفة وليس بفقه، معرفة لأن الفقه هو فهم الأمور، الفقه هو الفهم ?مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91] يعني ما نفهم كثيرا مما تقول، ولا يدعي من يتابع أحوال العالم من طلبة العلم المعتنين بذلك ونحو ذلك، لا يدعون أنهم يفهمون ما سيجري من الأحداث، ولهذا التسمية بفقه واقعا أيضا ليست بصحيحة؛ لأن حقيقة ما يرومون هو معرفة ما يقال وما يكتب، وهذا أقل من الفقه بكثير.
هنا هذه الأشياء قلنا لابد أن يكون في الأمة من يعرف، فهي من جنس العلوم الكفائية، وقد نبّه على ذلك الشيخ ناصر الدين الألباني حين عرض لهذه المسألة.
إذا تقرر هذا فإنه باتفاق أهل العلم، العلوم الكفائية لا يخاطب بها عامة الناس لأنها ليست مُصلحة لدينهم، بل إنها تشغلهم عما هو أولى له، أرأيت لو أن محاضرا أتى عندنا اليوم ففسحنا له الدرس، وقلنا حدث الإخوة في نظرية أينشتاين النسبية، كونه يوجد في الأمة من يعلم ذلك في تخصص الفيزياء لا باس، لكن هل تحدثون بذلك، هذا لا شك أنه من الكفائيات التي لا تناسبكم، وإذا عرفتموها عرفتم علما، هل يصدق هذا على واقع الناس وعلى مخططات الأعداء أم لا؟ ذكر مخططات الأعداء يفيد الشباب، وذكر أحوال المسلمين يفيد الشباب من جهة، ويضرهم من جهات أخر:(40/62)
يفيدهم من جهة أنه يحيي في نفوسهم الارتباط بالإسلام، ويحيي في نفوسهم بغض الكفرة والمشركين،ويحيي في نفوسهم أخذ الحذر من الأعداء ونحو ذلك، وهذه مصلحة مطلوبة.
ومن جهات أخر يقود الشباب إلى أن يُربوا على غير التربية السلفية التي نبْعها ومصدرها القرآن والسنة، وبالتجربة وجدنا أنّ من انشغل بتلك الأمور انشغل أشهرا بل ربما سنوات، وإذا سألته اليوم ماذا حصلت؟ يقول لم أحصل شيء، وأحد من أثق به ممن يعتنون بهذا الأمر يقول: تتبعت جميع المجلات، وتتبعت جميع الجرائد لأخرج بفهم لما سيجري في المستقبل من أنواع السياسات والمخططات المستقبلية، قال: فوجدت كل ما قرأت لا يعطي صورة عن المستقبل.
وقد سئل بعض الوزراء البريطانيين عن السياسة ما تعريفها؟ قال: أصح تعاريفِها أن السياسة هي الكذب.
وهذا ينبني عليه فهمنا إلى أن الانشغال بهذه الأمور لن تحصّل من ورائها طائلا، بل إنه يصدك عن ما يجب أن تربي نفسك عليه وما تربي أحبابك عليه.
إذا نظرت وتأملت في هذا الكلام، وجدت أنه يمثل الواقع، الناس يعطون -الشباب والمسلمون بعامة- يعطون ما ينفعهم في هذا الأمر، لكنه مع أصوله الشرعية؛ يعني عِداء اليهود والنصارى لنا تقرأ فيه الآيات آيات الولاء والبراء، وما فعله أولئك في أعظم أمر وهو أنهم أشركوا بالله جل وعلا وسبوا الله جل وعلا أعظم مسبة، وهذا كاف في أن يجعل المؤمن الموحد مبغضا لهم كارها لهم.(40/63)
معرفة الأحوال وما يجري بين الناس لا ينقص من جهله، لا ينقص من جهله؛ بمعنى الأحوال الدنيوية، ألم ترَ إلى قصة سليمان عليه السلام حيث كان بجواره دولة ومملكة سبأ، وملكتها بلقيس، وكان عندها من الدنيا ما عندها، وبجوارها ولها من القوة ما لها، ومع ذلك لم يعلم شيئا عنها، ولم يُطلَع من الله جل وعلا على شيء من أخبارها، إذْ أن ذلك ليس له اثر في تبليغ رسالات الله، وإنما بلغه الهدهد بأمر يتعلق بالعقيدة، فقال الهدهد ?أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ?[النمل:22] هذا النبأ الذي إعتنى به الهدهد قال ?وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ?[النمل:22-23] هذا كالمقدمة ?وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ?[النمل:23] ([13])
[المتن]
(المسألة العاشرة) الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حفظهم كقوله ?بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27].
(المسألة الحادية عشرة) الاستدلال بالقياس الفاسد كقولهم ?إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا?([14]).
(المسألة الثانية عشرة) إنكار القياس الصحيح والجامع لهذا وما قبله عدم فهم الجامع والفارق.
(المسألة الثالثة عشرة) الغلو في العلماء والصالحين كقوله ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ?[النساء:171].
(المسألة الرابعة عشرة) أنّ كل ما تقدم مبني على قاعدةٍ وهي النفي والإثبات فيتبعون الهوى والظن، ويُعرضون عما جاءت به الرسل.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعين.(40/64)
أسأل الله جل وعلا لنا جميعا الهدى والسداد والثبات على الحق حتى الممات، وأسأله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلا ويمن علينا باجتنابه.
هذه المسألة –المسألة العاشرة والمسألة الحادية عشرة والثانية عشرة- هذه من تتمة مسائل أنواع الاستدلال لدى أهل الجاهلية، فإن الشيخ كما سبق أن عرفتم ذكر مسائل استدلال التي يستدلون بها أنواع الأدلة عندهم متوالية، ومن أدلتهم أنهم يستدلون على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حظهم، كما قال جل وعلا في قصة نوح مخبرا عن قول قوم نوح ?وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ?[هود:27]، وهذا ليس خاصا بجاهلية دون جاهلية من الجاهليات التي سبقت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو كثير فاشٍ، فأهل الجاهلية الماضون لم يزالوا يستدلون بهذا الدليل؛ يستدلون بضَعْف المتبعين للحق في الجاه، وضعفهم في الدنيا على بلادة أذهانهم، ثم يستدلون بهذه المقدمة الفاسدة على أنهم ليسوا بأحقَّ بالهدى منهم، وإنما ذلك دليل بطلانه؛ لأنه لا يصل إلى معرفة الشيء بأنه حق إلا ذووا العقول وذووا الأفهام، فما دام أن أهل الجاه وأهل العقل عندهم لم يتبعوا الرسل، وذلك لأنهم تأملوا، كما يزعمون وأهل الحق الذين اتبعوا الرسل كانت عندهم عجلة، وقلة فهم ولهذا اتبعوا الرسل، هذا كثير، واستشهد عليه الإمام رحمه الله تعالى، بقصة قوم نوح فإن قوم نوح قالوا لنوح عليه السلام (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) فذكروا شيئين، ذكرهما الشيخ رحمه الله تعالى.
الأول: عدم الفهم لديهم بأنهم لم يتدبروا واستعجلوا.
والثانية: أن ليس لهم فضل مال يعني ليس لديهم حظ.(40/65)
والعبارة في أكثر النسخ التي بين أيديكم (وعدم حفظهم) والذي يظهر لي بعد تأمل أن صوابها (وعدم حظهم) لأنها هي التي تناسب تمام الآية في قوله تعالى (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) والفضل في أحد وجهي التفسير هو الجاه والمال، في قوله تعالى هنا فيما استشهد به الإمام رحمه الله تعالى (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ) في قوله (بَادِي) قراءتان سبعيتان:
قرأها الجمهور (بَادِيَ) بدون همز في آخره من البدوّ وهو الظهور.
وقرّاؤها أبو عمر البصري المعروف أحد القرّاء السبعة المشهورين، قرأها (بَادِئَ) بالهمز.
وعلى قراءة التسهيل (بَادِيَ) فإنه من البدوّ وهو الظهور، واختلف أهل العلم في التفسير، في تفسير هذا الحرف على ثلاثة أقوال:
1. منهم من قال (بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني في ظاهر الرأي لكل أحد، (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ) وهذه الرّذالة فيهم وأنهم اتبعوك، هذا ظاهر لكل أحد يظهر للرائي ويظهر لذي الرأي بوضوح لا خفاء فيه ولا لبس.
2. الثاني: أن قوله (بَادِيَ الرَّأْيِ) من الظهور أيضا، وهو أنهم أظهروا شيئا وأخفوا غيره، فيكون البدوّ هنا بمعنى الظهور راجع إلى الاتباع لا إلى كونهم أراذل، ما نراك إلا اتبعك إلا الذين هو أراذلنا اتباعا في الظاهر في بادئ الرأي، أما في باطن الأمر وفي حقيقته فإنهم ليسوا متبعين لك ولا مقتنعين بما جئتهم به، وهذا استدلوا له بقوله تعالى ? إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ?[الشعراء:113] ونحو ذلك بآية هود وغيرها، يعني أن نوحا عليه السلام أحال حسابهم على الله جل وعلا، فدل على أن مرادهم ظهور شيء منهم وإخفاء شيء آخر منهم، إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، أو إخفاء التكذيب، فأحالهم عليه السلام إلى حساب الله جل وعلا.(40/66)
3. القول الثالث هو أنه في قوله (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني أنهم ظهر لهم الرأي بدون تأمل، فأول رأي ظهر؛ اتبعوه ولم يتأملوه ولم يتدبروه لقلة فهمهم، وهذا القول الثالث هو الذي يتفق مع ما أورده المصنف رحمه الله تعالى، فإنهم عند قوم نوح استعجلوا ولم يتدبروا، اتبعوه في بادئ الرأي فيما ظهر لهم من رأيهم، ولو تأملوا واستيقنوا الرأي واستخيروه وتحققوا منه وتدبروه وتأملوا العواقب فيه وتأملوا أسراره لم يتبعوا، وذلك تلك العجلة وذلك الأمر الذي حصل منهم وهو عدم التدبر دليل على قلة أفهامهم، وهذا مظنة عدم الوصول إلى الحق، فأبطلوا الدين وأبطلوا صحة ما جاء به نوح عليه السلام بأنهم جعلوا الذين اتبعوه ما اتبعوه إلا لضعف أفهامهم كما قال الشيخ رحمه الله تعالى.
فإذا كان كذلك، كان هذا الدليل مستقيما موافقا لأحد أوجه التفسير المنقولة عن أهل العلم، والقراءة الأخرى التي قرأها أبو عمر (بَادِئَ الرَّاي)، (بَادِئَ) بهمز، من البدء وهو الأولوية يعني أن اتباعهم له كان من عجلة، وإنما اتبعوه في بادئ ذي بدء، أول ما نظروا برأيهم، برايهم اتبعوه، فهذا من البدء وهو الأولوية، وعلى هذا فيكون المعنى على هذا الوجه من التفسير أنهم استعجلوا أيضا، فيتفق مع ما فهمه الإمام المصنف رحمه الله تعالى، يتفق ما جاءت به القراءتان جميعا؛ قراءة الجمهور (بَادِي الرَّأْيِ) في أنّ معنى البدوّ هو الظهور بالمعنى الثالث؛ وهو أنه ظهر لهم ذلك من غير تدبر ولا تأمل، وكذلك على قراءة أبي عمر (بَادِئَ الرَّاي) وذلك من الأولية وعدم التدبر والاستعجال.(40/67)
وهذا الذي ذكره رحمه الله تعالى، أردفه بقوله في استدلالهم بأن أولئك الذين اتبعوا نوحا ليسوا بأهل حظ لقلة فهمه وعدم حظهم، وذلك لأنهم قالوا لنوح ومن معه (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)، ذلك أنهم جعلوا مقياس الفضل هو كثرة الحظ في الدنيا، والفضل هنا فُسِّر بأنه الحظ في الدنيا من جاه أو مال، (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) يعني لستم بأهل جاه فوق جاهنا فتَفضلون علينا، ولستم بأهل مال فوق مالنا فتفضلون علينا، فكان المقياس عندهم كما سيأتي في المسألة التي بعدها هو مقياس الفضل، هو الجاه والمال يعني الحظوظ الدنيوية، وهذا كثير في كل جاهلية، في كل جاهلية كثير هذا، كل رسول يأتي تكون الحجة عند أولئك متنوعة منها أن الذين اتبعوه هم الضِّعاف، وفي قوله تعالى ?وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[يس:20-21] في سورة يس ذلك الرجل المؤمن الذي أتى من أقصى المدينة ليسعى بشرح الإيمان، قال طائفة من أهل العلم بالتفسير إن قوله هنا (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) فيه تنبيه على أنه من فقراء الناس ومن عدم أشرافهم، ليس من الأشراف، وإنما هو من الضعفة، وأما الأشراف فالعادتهم أنهم يسكنون وسط المدينة، إذ هي المجتمع، وأما أقصى المدينة، إنما يسكنه الذين ليسوا بذي جِدَة ولا جاه ولا شرف، وهكذا جاء رجل إلى موسى ?وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ?[القصص:20]، فهذا الاحتجاج كثير في أن الذين يتبعون الرسل إنما هم الضعفاء، وهذا فهمه هرقل عظيم الروم حينما سأل أبا سفيان الأسئلة المشهورة التي رواها البخاري وغيره، فقال له من تلك الأسئلة: هل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: وكذلك(40/68)
الأنبياء إنما يتبعهم الضعفاء. وهذا عام في كل رسالة فكل أهل جاهلية يستدلون بهذا الدليل، وقريش أيضا واجهت النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما رغب أن يكون الذين يؤمنون به من أشراف القوم ومن عليتهم ومن سادتهم فانصرف إليهم عن النفر المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، رغبة في إسلام أولئك، لأنه لو أسلم الكبراء لحصل من الخير الشيء الكثير، فأنزل الله جل وعلا على نبيه قوله ?وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا?[الكهف:28]، وكذلك قوله ?عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى?[عبس:1-6] الآيات، وهذا الأمر ظاهر لا يحتاج إلى مزيد إطالة.
كذلك في هذه الأمة، دخلت هذه الشعبة من شعب الجاهلية في هذه الأمة:
فممن دخلت إليه هذه الشبهة الذين يعتزّون بعلومهم الخلْفية من أصحاب الكلام ونحوهم، فإنهم لم يعتنوا بفقه النصوص الشرعية لزعمهم أنها إنما هي ظواهر يفهما كل أحد، وأما البواطن والأسرار فإنما خاصة بذوي العقول النيرة، فجحدوا ما أنزله الله جل وعلا من الآيات البينات وحرفوها وأولوا بعضا منها وردوا طائفة أخرى؛ لأجل أفهامهم، واحتقروا أهل السنة والجماعة لأجل أنهم لا يفهمون فهمهم، فهُم لم يعرفوا علم الكلام ولم يعرفوا الأصول القطعية المستقاة من المنطق؛ منطق اليونان، ونحو ذلك مما يعتزون به.(40/69)
كذلك شغّب على أهل الحديث فيما مضى من الزمان وعلى فقههم في النصوص طائفة من غلاة الفقهاء الذين اتهموا من يتبع ظواهر النصوص ويأخذ بالفقه مستقًا من النصوص ولو لم يكن عنده رسوخ قدم في كل العلوم، رموهم بأوصاف بشعة، حتى إن بعضهم سماهم الحمير، كما قال ابن العربي المالكي في أحد أقواله في وصف الظاهرية، قال: فلما أتى هؤلاء الحمير الذين كذا وكذا. وصفهم بأوصاف يعني بشعة، لأجل أن في الأندلس كان هناك معركة محتدمة بين أتباع ابن حزم الظاهري وبين فقهاء المالكية، والتوسط لو راموا التوسط كان ممكنا، لكنهم ردوا على هؤلاء وتنقصوهم، تنقصوا أفهامهم ووصفوهم ببلادة الفهم وبلادة الذهن ونحو ذلك لأحل هذا الأمر، لأجل اتباعهم للنصوص.
كذلك بعض الذين عاصروا الدعوة من العلماء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فإنهم رموا أتباع الدعوة بأنهم لا يفهمون بأنهم عوام، وبأنهم ليس عندهم مشاركة في العلوم، ليس عندهم معرفة إلا بعض المسائل في العقيدة وبفقه الحنابلة لا غير، فاتهموهم في بعض ما دعوا إليه من المسائل التي دلائلها كالشمس في رابعة النهار، اتهموهم بأنهم لم يفهموا الحق ولم يعرفوا المراد منه.
كذلك -وهذا سيأتي تفصيلها- الذين ادعوا أن باب الاجتهاد قد قفل وأنه لا يسوغ لأحد اليوم أن يجتهد في النصوص لأجل أن النصوص تحتاج إلى فهم وطابع أهل الزمان عدم الفهم، فهم اتهموا بأنهم يجتهدون في فهم النصوص وهم ليسوا من أهل الفهم؛ بل أفهامهم ضعيفة وأذهانهم كليلة، فلا يمكن أن يجتهدوا فباب الاجتهاد قد انقطع.(40/70)
كذلك في هذا الزمان بخصوصه زماننا هذا القريب، ترى أن بعض من أدركته هذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية، ربما تسلط عليه الهوى فرمى من هو بين أن يكون مجتهدا وبين أن يكون مصيبا يعني الحق يعني الصواب، أو يكون مجتهدا مخطئا يرميه ببلادة الذهن وعدم الفهم ونحو ذلك من الأوصاف، والواجب على أهل الإيمان أن لا يعرج على هذه المسألة، بل الواجب عليهم أن يبينوا الحق بدليله، ولا يستهزئوا بالخلق لا يستهزئوا بالناس في علومهم، بل إذا أخطأ المخطئ يقال هذا مخطئ والصواب كذا, يبين الحق بدليله, تبين المسألة بحججها وبراهينها التي توضح المراد منها، دون دخول في هذا الأمر لأنه إذا قال فلان هذا فهمه كذا، فإنه يزيد شيئا فشيئا حتى تسلط عليه هذه الشعبة، فيتدرج في الأمر حتى إذا أتى ذلك الضعيف في الفهم عنده، إذا أتى بحق واضح جعله باطلا؛ لأجل أنه ضعيف الفهم، والواجب على المؤمن أن يأخذ الحق ممن جاء به، ولا يستدل على بطلان الشيء لأن من أتى به ليس بأهل أن يأتي بذلك، وهذا كما ترى ظاهر في فئام في هذا الزمان.
المسألة التي تليها هي أنهم يستدلون بالقياس الفاسد كما قالوا (هل أنتم إلا بشر مثلنا) ([15]) وفي آية أخرى ?إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا?[إبراهيم:10] ونحو ذلك.
القياس ينقسم إلى قسمين: قياس صحيح وقياس فاسد.
والشيخ رحمه الله ذكر مسألتين الحادية عشرة والثانية عشرة، وكل منهما في القياس: الأولى في القياس الفاسد، والثانية في القياس الصحيح.
والقياس يريدون به في العموم -لا في اصطلاح الفقهاء والأصوليين- يريدون به في العموم إلحاق شيء بشيء لوجه شبه بينهما، فيكون سبب القياس جامع يجمع بين شيئين المقيس والمقيس عليه، فيجمعهما شيء فيقاس أحدهما على الآخر، ولا يخفى عليكم أنه عند الفقهاء إلحاق حكم مسكوت عنه بحكم منصوص عليه بعلة جامعة بينهما، هذا أخص.(40/71)
فإذن القياس هو كما ذكرناه ما يجمع شيئين بوجه شبه يسمى قياس، فإذا جمعت بين شيئين، يقال لك قِسْتَ الأمر؛ فقست بين هذا وهذا إذا جمعت بينهما لشبه بينهما، فإذا ألحقتَ شيئا بشيء لأجل الشبه صرت قائسا.
هذا الدليل الذي استدلوا به هم استدلوا بقياس يعني أهل الجاهلية استدلوا بقياس استدلوا بأنواع من القياس؛ يعني بأفراد من القياس، بعض تلك الأقيسة فاسد أو أكثرها فاسد، منها انهم أبطلوا النبوة بكون النبي الرسول بشرا ?وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا?[الفرقان:7]، قال جل وعلا في آية سورة الفرقان ?وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ?[الفرقان:20] يعني أن كل رسول جاء بهذا، بل أمر المشركين أن يسألوا من قبلهم، هل من قبلهم أتتهم ملائكة أم أتاهم بشر فقال جل وعلا ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?([16]) اسألوهم، أهل الذكر المراد بهم في هذه الآية أهل الكتاب؛ علماء اليهود والنصارى، اسألوهم هل جاءتهم الرسل من البشر أم جاءتهم الرسل من الملائكة؟ فإذا كانت جاءتهم الرسل من البشر فلما تنكرون أن يكون رسولكم بشرا، وإذا كانت أتتهم الرسل من الملائكة فإنكم لكم وجه حجة في ذلك.
وجه القياس أنهم قالوا إن هذا الرسول يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ?وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ?[المؤمنون:34] فصفاته بشرية؛ ينكح الأزواج، يتكلم كما يتكلمون، ينام كما ينامون، يأكل كما يأكلون، يشرب كما يشربون. بشر، فقالوا ما دام أنه بشر فهو ليس بأهل أن يتنزل عليه الوحي من الله جل وعلا.(40/72)
وهذا القياس فاسد لأنه صحيح هو قياس؛ لأنهم جمعوا بين الأمرين لوجه شبه؛ لكنه قياس فاسد، لأنهم كما ذكر المصنف رحمه الله أنهم لم يفهموا الفارق بين الأمرين، وهو أن وجه الجمع هذا لا يدل على أنه ليس هناك فارق بين الرسل وبين هؤلاء، فهناك فارق. فإذن سبب هذا القياس الفاسد أنهم ما عرفوا الفارق.
وهذا جاء من كفار قريش وممن قبلهم من الكفار.
كذلك جاء في هذه الأمة كما جاء من قبل، الذي جاء ليس هو إنكار النبوة لأجل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر؟ لا، ولكن الاستدلال بقياس فاسد، ما أمثلة هذا القياس الفاسد الذي استدلوا به؟ من لحق الجاهلية في هذه الشعبة؟
من أمثلة ذلك القياس الفاسد أنهم كما هو عند المعتزلة وعند غيرهم قالوا إنّ الولي إذا أثبتت له كرامات الأولياء، إذا أثبت له كرامة صار نبيا. لم؟ لأن النبي هو بشر أُعطي آيات، أُعطي أشياء خارقة للعادة، فلو كان ثَم بشر يمكن أن يُعطي ذلك لصار نبيا؛ يعني لاشتبهت الوَلاية بالنبوة، فهنا أبطلوا هذا الحق وهو الإيمان بكرامات الأولياء لأجل هذا القياس الفاسد.
كذلك طائفة من الصوفية أو غلاة الصوفية، قالوا إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُخصّ بشيء، بل إنما مدار رِفعة شأنه على أنه يتلقى الوحي من الله جل وعلا، فإذا حصل التلقي لبشر صار مثله في المزية؛ لأنّ وجه الشبه بينهما حصل، وهو أن هذا يتلقى وهذا يتلقى، وهذا كان في أوائل القرون يعني في القرن الرابع أو أواخر القرن الثالث، بل زاد حتى زعم غلاتهم كابن عربي ونحوه أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، لم؟ قال:لأنّ خاتم الأولياء يتلقى من الله جل وعلا مباشرة، وأما خاتم الأنبياء فإنما تلقى بواسطة. ولهذا يهتمون بالكشف.(40/73)
من أوجه هذا القياس الفاسد أنهم جعلوا كل من اتصف بالتقوى من أهل الإيمان متبركا به في ذاته، فكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام المتقين، وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، لما كان يتبرك بشعره، بعرقه، بثيابه، بغير ذلك من أجزاء ذاته، بسؤره يعني ببقية شرابه، ببقية أكله ونحو ذاك، نقلوا ذلك وعَدَّوه على كل من كان وليا، كل من كان تقيا، قالوا لأنه يقاس على النبي، فاستدلوا بالقياس الفاسد هذا وهذا كثير، بل قد دخل فيه طائفة من العلماء؛ يعني من غير تحقيق أجازوا أن يتبرك بالصالحين بشرابهم يعني بشرب بقية الشراب، أن يتمسح بهم، أن تأخذ بعض فضلاتهم يعني فضلات الأكل ونحو ذلك يتبرك بها، لم؟ قالوا لأنه يجمع بينه وبين النبوة الصلاح، فإذن سبب التعدي هو الصلاح، والصحيح أن سبب التعدي هو النبوة، سبب التبرك هو النبوة لأنّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا لتبركون بأبي بكر ولا بعمر ولا بعثمان ولا بعلي، لا بأخذ بقية شرابهم ولا بشعرهم ولا بثيابهم ولا بغيره ذلك، فدل على أن الجامع هنا ليس هو الصلاح والتقوى وإنما الجامع هو إيش؟ إنما الوصف هنا هو النبوة، فليس ثم جامع بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره من أمته. وهكذا في أنواع.(40/74)
أنكروا القياس الصحيح أيضا، والقياس الصحيح هو ما كان الجامع بين الشيئين أو ما كان الجامع بين الشيئين مقبولا معتبرا ليس بفارق؛ يعني جامع صحيح، وليس ثم فارق بين هذا المقيس والمقيس عليه، أنكروا القياس الصحيح، القياس الصحيح كان ينبغي أن يدل أولئك المشركين على أنّ نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيحة، بل نبوة كل نبي صحيحة، لم؟ لأنّ البشرية التي كان عليها الأنبياء تخرج بإتيانهم –البشرية التي تجمع بينهم وبين غيرهم- تخرج إذا كان أُعطي ذلك البشر آيات بينات وبراهين دالات على صدقه ليس في وسع البشر أن يأتوا بمثلها، فالقياس الصحيح يقتضي أن يقال إنّ كل من أتى بآية ومعجزة كما يسميها المتأخرون أو ببرهان مع دعوى النبوة مما لا يستطيعها البشر، وكان ذلك الذي أتى به معروفا بأمانته معروفا بتقواه معروفا بصلاحه في القوم، أن هذا يدل على نبوته، فهذا القياس صحيح، أنهم كانوا يقيسون، أن من أوتي هذه الأمور فإنه لم يؤتها من عند نفسه، وإنما أعطاه الله جل وعلا إياها.
القياس الصحيح يقتضي أن يعلموا أن الذين اتبعوا الرسل زادوا عليهم في المزية من أجل إيمانهم، فهناك جامع بين مستحق الجزاء الحسن وبين الأنبياء ألا وهو الإيمان، ولهذا أتباع كل أمة، أتباع كل نبي من ألأمم يتبعون نبيهم، يعني هناك جامع بينهم، فكان يجب أن يقيسوا صحة ما ذهب إليه أولئك الناس بصحة النبوة، فإذا ثبتت النبوة ثبت أن أولئك اتبعوه على الحق والهدى، وهذا يعني أن لا يستدلوا بالعكس فيستدلوا بأولئك القوم على بطلان النبوة، بل ينبغي أن يثبتوا النبوة يعني يسعوا في معرفتها بدلائلها وبراهينها، فإذا ثبتت فإن أولئك يثنى عليهم لأنهم اتبعوا النبوة، وذلك مقتضى لقياس الصحيح.(40/75)
مقتضى القياس الصحيح أيضا في هذه الأمة أن من اتبع العلم الذي ورَّثه النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة فهو أحق أن يكرم وأحق أن يتبع، كما قال عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء»، فالجامع بين العالم والنبي هو اتباع ما جاء من عند الله جل وعلا، فكل نبي اتبع ما عند الله جل وعلا، وما جاء به الرسول فهو وريث له، وهو قياس صحيح، يعني ألحق أولئك في الإكرام والتبجيل بالأنبياء، ليس في درجة الإكرام والتعظيم وإنما في جنسه؛ في جنس الإكرام والتعظيم لأجل الجامع بينهما وهو اتباع وِراثة النبوة.
أيضا في هذه الأزمان المتأخرة -وهذا هو مقصد الشيخ من إيراد المسألة- هو أنهم أنكروا على أهل العلم من أتباع أهل السنة والجماعة، ومن الذين شهروا بالدعوة أنكروا عليهم ما جاءوا به، مستدلين بأنهم ليسوا بكفء لهذه المسائل التي أتوا بها، فجعلوا هناك وجه شبه بين العلماء في ذلك الوقت وبين الذين ضلوا بعدم الفهم وعدم معرفة الأدلة، فأغلقوا باب التدبر وباب الاجتهاد، فكان هذا منهم -يعني قياس علماء الدعوة بأرباب أهل الفرق الذين استدلوا بالمتشابه والذين راموا الناس على غير الهدى- كان من منهم هذا قياسا فاسدا، وتركوا القياس الصحيح وهو أن من أتى بالحق مع أدلته أنه يُلحق بأئمة الهدى ولو كان متأخرا، فليس بالتأخر يهضم من أتى بالحق، بل قد يأتي بالحق المتأخر، ويكون ذلك رفعة لشأنه ومزية له.
الأقيسة الصحيحة هذه تركوها، الأقيسة الصحيحة أبرزها أن من كان من أهل العلم جاء بما كان عليه الأوائل فإن القياس يقتضي أن يلحق بالأئمة، وهم ألحقوه بأهل الشبه وأهل الفتن، وألحقوه بأهل الضلال وبأهل البدع، لم؟ لأنه عندهم لا يمكن في هذه الأزمان المتأخرة أن يستقل أحد بالفهم.([17])(40/76)
يعني مقصود الشيخ من ذكر القياسين أن ينتبه إلى أن القياس ينبغي مع جامع واضح وفارق واضح، فإذا قاس أحد شيئا على شيء أو أمرا على أمر ينبغي أن يكون بل يجب أم يكون الجامع بينهما والفارق منتفيا، فإذا كان موجود والجامع غير موجود، فإنه يدل على أن القياس فاسد، وإذا كان الجامع موجودا والفارق غير موجود أو ضعيف فإنه يدل على أن القياس صحيح.
ثم انتهى من مسائل الاستدلال وذكر المسألة العظيمة وهي أنه من خصال أهل الجاهلية هي الغلو في الصالحين والعلماء، والغلو في العلماء والصالحين أخبر الله جل وعلا عنه في غير ما موضع من كتابه، منه في قوله تعالى?قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا?[المائدة:77] ومنها في قوله ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ?[التوبة:31] فأهل الجاهلية من قبل كان عندهم غلوّان غلو في العلماء وغلو في الصالحين:
الغلو في العلماء كان على أنحاء:
الأول أنهم كانوا يتبعونهم في التحليل والتحريم، فيحللون ما حلله العلماء ولو كان ذلك حراما ويحرمون ما حرمه العلماء ولو كان في كتاب الله حلال،ا فجعلوا العلماء في منزلة فوق منزلة النبوة فجعلوهم أربابا، جعلوهم معبودين كما قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) قال عدي بن حاتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما عبدناهم قال: «ألم يحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟» قال: بلى. قال: «ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه؟» قال: بلى. قال: «فتلك عبادتهم».(40/77)
فهذا نوع من أنواع الغلو وهو أن يُعتقد في العلم أنه يستقل بالإتيان بالإحكام، يستقل بالإتيان بالشرع، وهذا نوع شرك، كما قال جل وعلا ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ?[الشورى:21].
كانوا يعتقدون في العلماء أنه يمكن يحذفوا ويلغوا بعض الكتب المنزلة ويثبتوا بعضا آخر كما حصل من علماء اليهود والنصارى أنهم غيروا في التوراة والإنجيل إما بزادة أو بنقص أو بتغيير للمعاني بتفسيرها تفسيرات باطلة، ومع ذلك اتبعوا.
كذلك الغلو في الصالحين يكون على أنحاء:
من أشهرها وأظهرها أن يعتقد أن كل ما فعلوه من أنواع الصلاح والعبادة أنه صواب، فيقتدى بهم مطلقا، لاعتقاد أنهم مصيبون في كل ما يفعلون، فلا ينظرون في وجه حجة فعل ما فعله الصالح، وإنما ينظرون إلى فعله، فيستدلون بالفعل المجرد عن الحجة، وهذا هو الغلو في الصالحين، الغلو في الصالحين في حياتهم أن يُنظر إلى أفعالهم ويقتدى بهم، مع ظهور أن تلك الأفعال مخالفة للحجة أو مع عدم وضوح الحجة من أفعالهم.(40/78)
من أوجه الغلو في الصالحين أنهم أعتقد فيهم أن لهم منزلة عند الله جل وعلا في حياتهم وبعد مماتهم، كمنزلة الوزراء عند الملوك أو المقربون، كمنزلة المقربين عند الملوك منهم، فكما أن المقربين من الملوك يرفعون حاجاتهم إليهم ويأتون بما يريده الناس إلى الملوك فيكونون شفعاء ووسطاء؛ لأجل شفاعتهم ووساطتهم، يجيب الملك طلبتهم ورغبتهم، جعلوا أولئك الصالحين عند الله جل وعلا كذلك، لهم من المنزلة ولهم من الزلفى ما يمتنع معه أن يرد الله جل وعلا طلبهم، هذا الغلو بهم في الحياة وبعد الممات، جعلهم يستغيثون بهم، جعلهم يصرفون لهم أنواع العبادات، فهذا اللاتّ الذي كان يلتّ السويق كان شركهم به من أجل ذلك؛ لأنه كان رجلا صالحا -كما جاء في الأثر عن ابن عباس وغيره-، يلتّ لهم السويق وغير ذلك، بل إن الأنبياء إنما وقع الشرك بهم لأجل الصلاح الذي فيهم، بعد موت الصالح يظن أنه له عند الله جل وعلا من الزلفى ما يمكن له أن يُتوسل به وأن يستشفع به وأن يطلب رضا ذلك الصالح بعد مماته بالتوجه إليه بأنواع العبادات كما هو مشهور.(40/79)
من أنواع الغلو في الصالحين التبرك بهم، وهذا كان في اليهود وكان في النصارى، فكانوا يتبركون بصالحيهم، وكانوا يتمسحون بهم ونحو ذلك، وهذا لم يكن إلا للأنبياء، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك كلِّه محذرا من هذه الشعبة من شعب الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام « لَعْنَة الله على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وصَالحيهم مَسَاجِدَ» وقوله هنا (صالحيهم) يدخل فيه العلماء ويدخل فيه من كان صلاحه من غير علم، (اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وصَالحيهم مَسَاجِدَ)، وهذا نوع من الغلو، بل إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغلو مطلقا، كما جاء، يعني مبينا لما جاء في القرآن حيث نهى الله جل وعلا عن الغلو مطلقا فقال (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)، فقال عليه الصلاة والسلام «إنما أهلك من كان قبلكم الغلو»، وفي حديث عمر رضي الله عنه حينما قطع الشجرة قال لهم ناهيا عن الغلو: إنما هلك من كان قبلكم من مثل هذا، يتتبعون آثار أنبيائهم، فما أدركتم من هذه المواضع فصلوا، وما لا فلا تتعمدوا. أو كما قال عمر رضي الله عنه.(40/80)
المقصود من هذا أنّ النهي عن الغلو كثير في الكتاب وفي السنة، والدلائل عليه من أعمال الصحابة كثيرة، هذا الغلو الذي نهي عنه دخل في الأمة في أنواع شتى كما هو ظاهر لديكم، كان الغلو في العلماء أو ما ينتسب إلى العلم بقبول أقوالهم من دون حجة، سواء في ذلك الذين ينتسبون إلى الكلام، فقُبلت أقوالهم بتحريف الشرع من دون حجة، وأيضا الذين ينتسبون إلى الفقه قبلت أقوال بعضهم من غير حجة، حتى صار قول الفقيه مثلا أو قول العالم الفلاني الذي هو مأجور فيه لأنه مجتهد فيه صار علما على الحق عند من يتعصب لهم، فصار الدليل عندهم قول العالم وهو نوع غلو لأن العالم إنما يستعان به على فهم الأصول، وفهم الأدلة من الكتاب والسنة و لا يتبع استقلالا، إنما فيما كان فيه اجتهاد وخفي على المرء وجه الصواب في ذلك، فإنه يعني على أهل العلم وعلى طلبة العلم، فإنه يتبع في ذلك لأجل اجتهاده، وهذا سبق أن أوضحناه لكم مفصلا في باب أو في مسألة التقليد.
آل الأمر بهذا أن جعل أقوال المتأخرين حجة، وهذا أعظم ما ووجه به أتباع دعوة الإمام رحمه الله تعالى الدعوة السلفية، واليوم يواجه به كل داع إلى السلفية في أي مكان من أعظم ما يواجه به أقوال أهل العلم، وهذا نوع من أنواع الغلو فإذا كان بعض أهل العلم زل في مسألة أو غلط وهو مأجور إن شاء الله على اجتهاده؛ لكنه غلط فيها، فإنه لا يجوز أن يجعل قوله حجة في المسائل المختلف فيها أو التي يراد بحثها، فإذا كان ثم دليل واضح من الكتاب والسنة، فلم يؤخذ بأقوال بعض أهل العلم في المسائل التي أخطؤوا فيها.(40/81)
فمثلا في مسألة الشفاعة؛ الاستشفاع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة أجازته على اعتبار أنّ طائفة من أهل العلم ذكروه في كتبهم في المناسك، هذا صحيح، طائفة من أهل العلم ذكروا ذلك في مناسكهم، ففي آخر الحج يقولون يذهب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويفعل عنده كيت وكيت، ومن ضمن تلك الأفعال أنه يستشفع به، هذا غلط ممن ذكره من أهل العلم، لاشك فيه، فلا يجوز لأحد أن يغلو في ذلك العالم الذي قال بتلك المقالة ويجعل قوله حجة، مع أننا نعلم أن المسألة قطعا لم تكن معلومة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فإذن هي مسألة مبتدعة على أقل أحوالها كيف والصواب أنها شرك بالله جل وعلا.(40/82)
اليوم يؤلف من يؤلف مؤلفات ضد الدعوة ويجعلون الحجج فيها قول فلان، وفلان، وفلان، قول مثلا العالم الفلاني، وقول العالم الفلاني، بجواز التوسل، بفعل كذا وكذا كما فعل بعض المتأخرين في مكة وهو الدكتور محمد علوي المالكي في كتابه الأخير، حيث جعل عمدة كتابه على أنه ساق أقوال العلماء في كتبهم على جواز التوسل وبعض الأفعال التي نحكم على بعضها بأنه بدعة، وعلى بعضها بأنه شرك أصغر، وعلى بعضها بأنه شرك أكبر، استدل بأقوال ساقها في جميع المذاهب، ومن بينها أقوال بعض الحنابلة، هذا صحيح، يعني تلك الأقوال كثير منها صحيح إلى قائليها، لكن هذا نوع من أنواع الغلو، إذ أنّ الاستدلال بأقوال العلماء وجعل تلك الأقوال حجة والإعراض عن نصوص الكتاب والسنة الظاهرة، هذا هو الغلو الظاهر، فيأتي بقول العالم يعارض بع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شك أنّ هذا من نوع الغلو الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، بل إن ابن القيم رحمه الله تعالى بسط القول في هذا النوع من الغلو في كتابه إعلام الموقعين، وقال: إنّ بعض هذه الأمة –يعني مما أبلغ فيه- يعني من أتباع الفقهاء جعلوا العلماء أربابا، كما فعل اليهود والنصارى، وذكر الأمثلة لهم من بعض المتكلمين وبعض المتعصبة المذاهب ونحو ذلك. ومن أحسن ما قيل في هذا قول الذهبي رحمه الله تعالى:
العلم قال الله وقال رسوله قال الصحابة ليس خُلْفٌ فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
أراء الفقهاء العلماء تحترم تقدر وتجل ولا يستهان بأمرهم ولا بشأنهم؛ لكن إذا ظهر الدليل فلا يغلوا الناس فيهم.
أما الغلو في الصالحين فحدث ولا حرج، ظاهر لديكم في إقامة المشاهد لهم والاستغاثة بهم والذبح لهم، وصرف جميع أو أكثر أنواع العبادات لهم، بما لا وجه لبيان كل أفعال من تأثر بتلك الشعبة من شعب الجاهلية.(40/83)
المقصود من هذا أن هذه المسألة وهي الغلو من خصال أهل الجاهلية، والغلو يكون أيضا في الأشخاص الذين يشار إليهم بالبنان من علماء وصالحين ومن غيرهم ممن لم يذكرهم الشيخ؛ يعني ممن ليسوا بعلماء وقد لا يعرف صلاحهم بيقين، كمثل الغلو في رؤساء الدعاة مثلا، والذين يشار إليهم بالبنان في الدعوة في بلد أو في بلاد ونحو ذلك، كيف يغلوا الناس فيهم؟ بأن يجعلوا أقوالهم أو طريقتهم في الدعوة أو منهجهم يجعلونه أصل وتُصرف نصوص العلماء، وتُصرف أدلة الكتاب والسنة إلى ما يوافق هذه الطريقة، فبعض مثلا من يعظم طائفة من أولئك تجد أنه ألف كتبا مدارها على الغلو فيهم بأنهم لا يخطئون، وبأنهم لا يحصل منهم زلل، وأن كل ما فعلوه هو الصواب وأن طريقة الدعوة إنما هي طريقتهم، وأن السبيل إنما هو سبيلهم ونحو ذلك، هذا نوع من الغلو؛ لأن حقيقته أن يقال في ذلك الداعية المشهور أو في ذلك القائد أو في ذلك الرئيس أو في ذلك المعظم ونحو ذلك أن يقال إن كلّ ما جاء به صواب في الدعوة، وهذا يدعى به لأحد، فضلا أن يدعي به لمن ليس من أهل العلم المتحققين به، لهذا من آثار الغلو في الأشخاص التعصب، فإذا غلا في شخص ما تعصّب له، فصار القول الصواب هو ما يقوله فلان الذي غُلِي فيه، والقول الخطأ القول الذي انصرف عنه، هذا نوع من الغلو، والواجب على المؤمنين –هذا كالتتمة لما ذكره الشيخ رحمه الله- أن لا يغلو في أحد فلينظروا في حال الناس مهما كانوا معلما كان أو داعية أو عالما، أن ينظروا في حاله، ينظروا في قوله هذا عليه من الأدلة ما هو واضح، هل طريقته في أمر ما أو في أموره كلها متابعة للشرع؟ هل عليها حجة بينة أم لا؟ فإذا كان عليها حجة بينة واضحة فالحمد لله، يكون اتباعه اتباعا للحجة، وإذا كان ليس عليها بينة فلا يتبع أحد على خطأ أخطأ فيه أو على ضلال ضلّ فيه.(40/84)
إذا تبين ذلك، فإن من مصائب هذا العصر الذي أُبتلي بها الناس التعصب، التعصب لمن يعجبون به، فترى الواحد خاصة في الشباب، ترى الواحد منهم إذا أُعجب بشخص ممن قد يكون له أثر كبير في المسلمين، أو قد لا يكون له أثر ونحو ذلك، تراه يتعصب بحيث لا يسمع فيه ولا يقبل فيه لا كذا ولا كذا، وهذا نوع من أنواع الغلو الذي لا يجوز أن يكون في المؤمنين، بل يُنظر في كلامه هو بَشَر ومن أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينظر ما كان وافق فيه السنة ووافق فيه الهدى فيقبل، وما لم يكن موافقا فيه فيرد عليه، كيف والإمام مالك رحمه الله تعالى ”ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر“ فمن هو دونه فلا غَرْوَ أن يكون رادّ ومردود عليه؛ يعني فلا يكون هناك تعصب عند طائفة مداره الإعجاب بأن كل ما قاله فلان فهو صواب، وكل ما لم يقله فهو خطأ، كذلك لا يكون عندنا ما يقابل التعصب بالجهة الأخرى وهو أن يكون هناك إهدار لكل صواب أصاب فيه عالم من أهل العلم أو طالب من طلبة العلم، بل الواجب أن يقال للمحسن أحسنت للمصيب أصبت وللمخطئ أخطأت، فهذا هو الذي يجب على المؤمنين، لا أن تنغلق عيونهم، تنغلق قلوبهم بحيث يكونون متابعين لكل شيء أتى به من يعجبهم سواء كان صوابا أو خطأ، وهذا يحتاج إلى نوع من التربية ينبغي أن يعتنى بها؛ ألا وهي التربية على أن يكون المقدم في نفس المؤمن هو المنهج الذي لا يخطئ، الدليل الذي لا يلحقه نقص؛ الكتاب، السنة، الإجماع ما أجمع عليه أو ما ذكره أهل السنة والجماعة في عقائدهم، وما عدا ذلك فكل يقرب منه ويبعد بحسب ما عنده من العلم والهدى.(40/85)
وهذه مسألة مهمة فينبغي للشباب أن يوسعوا صدورهم، وأن لا يضيق صدرهم بعرض الآراء على الكتاب والسنة، لا، لأنه ما من أحد إلا وهو راد ومردود عليه، ولا يعتقد المراد أنه كامل، ويعتقد الناس في المردود عليه أنه ساقط بمرة، لا، بل كل أحد يجمع بين صواب وبين خطأ، فيتبع المصيب في صوابه ولا يهضم الصواب فيه، بل يشار إليه به ويثنى عليه به، ويرد على المخطئ بخطئه، ويقال إنك أخطأت في هذا ولا يتبع في خطئه، ولا يؤخذ به فيما أخطأ فيه.
هذا هو المنهج الصواب في هذه الأمور عند من أخطأ في المسائل الاجتهادية، فلا نغلوا ولا نجفوا، فالغلو مذموم والجفاء مذموم بين أهل السنة والجماعة فيما بينهم، فينبغي بل يجب أن يكون هذا كاليقين عندنا، ذم الغلو في الناس، الأشخاص، في العلماء، في الصالحين، هذا أصل من الأصول عند أهل السنة والجماعة، والغلو شعبة من شعب أهل الجاهلية؛ لأنه سببه التعصب والنفس تقبل شيئا ما، وتعجب بشخص ما فيكون القول هو ما قاله، والخطأ هو ما صد عنه.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والهدى والرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
1/ يقول: لفظ أهل السنة والجماعة والسير على منهجهم وجمع الناس حول ذلك هل هذا أمر صحيح، وهل يدخل في هذا اللفظ من قريب أو بعيد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من أهل البدع؟
الجواب: أن الواجب على المؤمنين أن يتبعوا الكتاب والسنة وما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، والذين ورثوا المنهاج الذي قال جل وعلا فيه ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، أن المنهاج هذا ورثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته، ورثه عن الصحابة التابعون المقربون إليهم، ثم ورثه أئمة أهل السنة والجماعة ودونوه في كتبهم، فنعلم قطعا أن الصواب هو ذلك المنهج؛ لأنه هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى قبل أن تظهر الفتن ويظهر الاختلاف في هذه الأمة.(40/86)
أهل السنة والجماعة يراد بهم من لزموا طريقة الصحابة رضوان الله عليهم في جميع الأبواب؛ في باب الاتباع والعقيدة والعمل وغير ذلك، ولهذا تجد أنه في عقائد أهل السنة والجماعة يذكرون مسائل الإيمان الست يعني أركان الإيمان الست ثم يذكرون مسائل تميز بها أهل السنة والجماعة منها الأخلاق، منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائل أخر تميّزوا بها عن غيرهم.
إذن فعقيدتهم يعني منهاجهم هذا يشمل الأمور العقدية ويشمل الأمور العملية، تقديم الكتاب والسنة، الأخذ بالحديث والاحتجاج به ذم الرأي ونحو ذلك هذا من أصولهم.
إذا تبين ذلك فالأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة لأنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة، ليست مخالفة أهل السنة والجماعة للأشاعرة والماتريدية لأهل السنة والجماعة في باب الصفات فقط؟ لا، خالفوا في الصفات، خالفوا في القدر، خالفوا في أصل الاتباع؛ إتباع الكتاب والسنة.
فالقاعدة عندهم أن القواطع العقلية مقدمة على الأدلة الظنية، وأهل السنة والجماعة يجعلون النصوص مقدمة على العقل، فالقاعدة التي بنى عليها الأشاعرة والماتريدية مذهبهم تبعا للمتكلمين أن العقل مقدم على النقل، وهذه القاعدة يرد بها أهل السنة والجماعة من أسها.
كذلك يخالفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأشاعرة والماتريدية وأهل البدع يخالفون في طريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغايته، فيجعلون غايته الخروج تبعا للمعتزلة، وأهل السنة والجماعة يجعلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غايته إصلاح الخلق وانتظام شمل الناس على الدين.(40/87)
وغير ذلك من المسائل، فإذن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة قد يطلق على الأشاعرة في بعض الكتب أنهم من أهل السنة، والسبب في ذلك أنه مقابلة لأهل التشيع، فيقال شيعة ورافضة وأهل سنة فيدخلون في أهل السنة، فيدخلون أهل السنة والجماعة يعني أهل الحديث وأتباع السلف الصالح ويدخلون الأشاعرة ويدخلون الماتريدية ونحوهم ممن ليس هو من الرافضة.
فإذن الإطلاق أهل السنة والجماعة لا يدخلون فيه لكن أهل السنة دون لفظ الجماعة قد يدخلون فيه إذا كان على وجه المقابلة، يعني احتجت أن تقابل تقول الرافضة وأهل السنة فإنه يعنى بأهل السنة من هم ضد الرافضة، والأشاعرة والماتريدية ونحوهم كان لهم ردود على الرافضة ووقفات ضد الرافضة.
2/ هذا يسأل عن مسألة فقهية وهو: السائل الذي يخرج من فرْج المرأة ما حكمه هل يوجب وضوءا أو غسلا؟
الجواب أن السائل في المحل طاهر فإذا انفصل كان نجسا، ويعني ذلك أنه ينقض الطهارة، فإذا كان في المحل يعني في الفرْج فهو طاهر التي هي رطوبات فرج المرأة، أما إذا انفصل وخرج فالعلماء يقولون إنه نجس بخروجه عن المحل، خروجه من البدن من ذلك الموضع فإذا خرجت النجاسة من ذلك الموضع أوجبت وضوءا حدث أصغر، أما حال الجماع إذا جامعها وخرج فمعلوم أنه سواء أنزلت أو لم تنزل فإنه يجب عليها الغسل، لا لأجل خروج السائل هذا وإنما لأجل الجماع، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه قال «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل» يعني للرجل وللمرأة.
3/ محاضرة المنهجية في طلب العلم التي ألقيتها الأسبوع الماضي هل سجلت؟
الجواب لم تسجل.
4/ يسأل عن تفسير زبدة التفسير وهو اختصار فتح القدير مختصره هو الشيخ محمد الأشقر.(40/88)
الجواب أن التفسير رأيت منه مواضع، قرأت فيه في مواضع فألفيته تفسيرا جيدا، قد نظرت بعض الموضع التي زلت فيها قدم الشوكاني رحمه الله تعالى، فتحاشى ذلك الزلل، وعبر بعبارة جيدة مع أنه نختصر له فلم يبق عبارة الشوكاني وفي بعض المواضع ولا معنى ما يريد الشوكاني بل قرر الحق في بعض المسائل، منها -ويمكن أن ترجعوا وتقارنوا ما ذكره- عند قوله تعالى عند أول سورة الأنبياء ? مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ?[الأنبياء:2] فإن الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة لم يفهم ما كان عليه السلف الصالح في مسألة خلق القرآن، فأتى بقول من جنس أقوال أهل البدع، فتحاشاه المختصر الشيخ الأشقر، وهذا يدل على عناية بالأقوال التي زل فيها قلم الشوكاني.
5/ العبارة هل هي صحيحة ”لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار“؟
الجواب: أن هذه العبارة مشهور، وأهل العلم يصححونها، والصغيرة إذا أصر عليها صاحبُها فإنها تتحول إلى كبيرة، ومعنى الإصرار عليها أي يفعلها مرارا وتكرارا دون أن يحدث استغفارا، فإذا فعلها مرة والثانية والثالثة والرابعة ولم يستغفر، فصار الإصرار عليها كبيرة من كبائر الذنوب، لكن إذا فعل الصغيرة ثم استغفر، ثم فعلها مرة أخرى ثم استغفر والثالثة والرابعة ويستغفر بعد كل مرة، فلا يدخل في هذا القول، على أن هذا القول روي على بعض السلف، لكن ليس عليه دليل واضح من الكتاب أوالسنة.
6/ هل يستطيع المسلم فهم العقيدة وشرحها دون حفظ القرآن الكريم وما هو السبيل إلى ذلك؟
يمكن أن يفهم العقيدة سواءً العقيدة الإجمالية يعني مجمل الاعتقاد أو توحيد العبادة بخصوصه، يمكن أن يفهمه بدون أن يحفظ القرآن، لكن إذا حفظ القرآن استقامت عنده الحجة ووضح له البراهين التي يأتي بها أهل السنة في تلك المسائل.(40/89)
7/ الصلاة خلف المبتدع في الدين والقبوري وإذا أقيمت الصلاة وهو إمام ما الحل؟ ثم ما وضع حديث «صلوا وراء كل بر وفاجر»؟
أولا الصلاة خلف المبتدعة وأهل الكبائر بمعنى أهل الكبائر المظهرين لها، الأصل فيها أنها جائزة، الصحابة رضوان الله عليهم صلوا وراء أمراء الجور الذين يظهرون الكبائر وإزهاق النفوس كما صلى ابن عمر خلف الحجاج ابن يوسف، وأنس صلى خلف الحجاج أيضا، كما روى صلاة ابن عمر خلف الحجاج البخاري وغيره، هذا من جهة أهل الكبائر، و أهل البدع كذلك يصلي خلفهم، وأهل السنة والجماعة نصوا على ذلك في عقائدهم، لكن إذا كان صاحب البدعة هذه يمكن أن يستغنى عنه؛ بمعنى أنه ليس بإمام راتب شخص يتقدم وتعرف أنه صاحب بدعة هنا تنهره عن التقدم ويتقدم صاحب السنة، يعني أنه عند الاختيار لا يجوز أن يأمّ صاحب كبيرة ولا صاحب معصية ظاهرة ولا صاحب بدعة، لكن إذا كان ليس عند الاختيار، وإنما أدركت جماعة وفيهم من هو كذلك فإذا كانت بدعته لا تخرجه إلى الكفر فإنه يصلي خلفه، والإمام أحمد ذكر في مسائل أنها بدعة ومع ذلك أمر بالصلاة وراء من فعلها من مثل القنوت في صلاة الفجر فإنه بدعة ومع ذلك سئل عن الصلاة خلف من يقنت في الفجر قال تصلي خلفه، قال هل أرفع يدي معه؟ قال: لا. قال ما أصنع؟ قال: تسكت. أو كما روي عنه.
أما حديث «صلوا وراء كل بر وفاجر» فهو حديث في السنن لكنه ليس بصحيح، رواه أبو داود وغيره.
والآن قد أستدرك أن الذي رواه أبو داود قريب بهذا الفظ يعني معناه هذا الحديث لكن ليس بلفظه.
8/ هذا يسأل سؤال يتكرر كثيرا وهو الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.(40/90)
الجواب: أن أهل السنة والجماعة لا يفرقون بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ بل الفرقة الناجية عندهم هي الطائفة المنصورة والطائفة المنصورة عندهم هي الفرقة الناجية، وذلك أن الأحاديث التي جاءت فيها أوصاف الطائفة المنصورة من مثل «لاَ تَزَالُ مِنْ أُمّتِي طَائِفَةٌ عَلَى الْحَقّ لاَ يَضُرّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وهم كذلك» ومن مثل قوله عليه الصلاة والسلام« لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ » وفي الرواية الأخرى «يقاتلونهم» ونحو ذلك، هذه كلها أوصاف للطائفة المنصورة، وهذه الطائفة المنصورة عندهم هي الفرقة الناجية، وحُكي الإجماع على ذلك من أهل السنة والجماعة، والفرقة الناجية لم تأتي في حديث بهذا الاسم بخلاف الطائفة المنصورة، فإن الطائفة المنصورة ذكرت هذه اللفظة أو ما يدل عليها أما الفرقة الناجية فإنما فهمت فهما من حديث الافتراق «وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «الجماعة». فعلى هذا سموا الفرقة هذه التي هي الأولى يعني التي لم تخرج سموها الفرقة الناجية، وبيان ذلك أن الطائفة المنصورة والفرقة الناجية كلٌّ من اللفظين فيه نعت ليس في الأخرى، الطائفة المنصورة يعني أنها منصورة في الدنيا والفرقة الناجية يعني أنها ناجية في الآخرة، فأحد الوصفين ليس معارضا للآخر، فأحد الطائفتين وصف دنيوي وهو أنها منصورة في الدنيا كما قال تعالى ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173] الطائفة المنصورة في الدنيا، والفرقة الناجية فهي التي تنجو من عذاب الله في الآخرة، تنجو من عذاب النار في الآخرة فالفرقة الناجية في الآخرة هي الجماعة الحق وهي الطائفة المنصورة في الدنيا، هكذا نعلم من فهم أئمة أهل(40/91)
السنة والجماعة في ذلك.
9/ عقيدة أهل السنة والجماعة كما تعلمون في الحرب بين علي ومعاوية أن كلا منهما مجتهد، وأن كلا منهما طالب للصواب وأن عليا هو صاحب الحق وهو صاحب الأجرين في اجتهاده؛ لأنه على الصواب ومعاوية رضي الله عنه كانت فئته ولا نقول هو كانت فئته هي الفئة الباغية، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «ويحك عمار تقتلك الفئة الباغية»، وكان الذين قتلوه هم عسكر معاوية، فمعاوية ومن معه يعني معاوية رضي الله عنه في اجتهاده ومن معه من الصحابة أصحاب أجر واحد؛ لكنهم مخطئون عندنا، إدخال القتال فيما بينهم بالطائفة المنصورة لا يعني أن الطائفة المنصورة التي ذكرت في الأحاديث أنها في كل وقعة تُنصر، إنما يقصد الجنس أنها لا تزال منصورة إما نصرة حجة على من عاداهم، وإما نصرة سنان على من عاداهم، فعلي رضي الله عنه مع حصل له مع معاوية هذه فئة لأنها بين المسلمين فليس فيها طائفة منصورة ولا فرقة ناجية، وإنما الطائفة المنصورة والفرقة الناجية كلاهما لمسمى واحد لا يُعنى به ما حصل من الفتن أو كل حرب دخل فيها رجل فنُصر فيها يكون من الطائفة المنصورة، لا إنما المقصود الجنس؛ أنها لا تزال منصورة كجنس الطائفة، قد يكون من الفرقة الناجية ومن الطائفة المنصورة ولكنه لا ينصر في كل وقعة لا ينصر في كل حرب له مع أعدائه الكفار أو مع المسلمين في الفتن الدائرة، لكن الذي حصل بين علي ومعاوية أن أحدهما صاحب أجرين وهو علي رضي الله عنه، وأن معاوية صاحب أجر واحد رضي الله عنهم أجمعين، وأن الطائفة المنصورة والفرقة المناجية ليس لها دخل في حرب بين علي ومعاوية؛ لأنه نريد بالفرقة الناجية التي تنجو من النار وعلي ومعاوية جميعا ينجون بإذن الله من النار علي رضي الله عنه شهد له بالجنة، ومعاوية رضي الله عنه كذلك هم ناجون من النار، كذلك هم من الطائفة المنصورة كجنس، لما كانوا مع عمر رضي الله عنه، ولما مع عثمان رضي الله عنه كقبل حصول(40/92)
الاختلاف، الجميع من الطائفة المنصورة والجميع من الفرقة الناجية، الحرب التي حصلت فتنة لا يدخل فيها تقسيم طائفة منصورة وفرقة ناجية.
وهذا إيراد فيه شيء من الغرابة يا محمد... ([18])
[المتن]
(المسألة الرابعة عشرة) أن كل ما تقدم مبني على قاعدة وهي النفي والإثبات فيتبعون الهوى والظن ويعرضون عمّا جاءت به الرسل.
(المسألة الخامسة عشرة) اعتذارهم عن اتباع ما آتاهم الله بعدم الفهم، كقولهم ?قُلُوبُنَا غُلْفٌ?([19])، ?يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91] فأكذبهم الله وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم وأن الطبع بسبب كفرهم.
(المسألة السادسة عشرة) اعتياضهم عما أتاهم من الله بكتب السحر كما ذكر الله ذلك في قوله ?نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:101-102].
(المسألة السابعة عشرة) نسبة باطلهم باطلهم إلى الأنبياء ?وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ?[البقرة:102] وقوله ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا?[آل عمران:67].
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالمسألة الرابعة عشرة من مسائل الجاهلية وهي أن كل ما تقدم من استدلالاتهم الباطلة وردّهم لأدلة الحق مبني على قاعدة النفي والإثبات فيتبعون الظن والهوى ويُعرضون عما يجب اتباعه من الدليل الواضح، هذه القاعدة وهذه المسألة نرجئ الكلام عليها إلى وقت لاحق إن شاء اللهُ تعالى.(40/93)
المسألة الخامسة عشرة (اعتذارهم عن اتباع ما أتاهم الله بعدم الفهم، كقولهم ?قُلُوبُنَا غُلْفٌ?([20])، ?يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91]) ونحو ذلك من الآيات، فبين ذلك جل وعلا بأن ذلك وهو عدم الفقه وعدم الفهم بسبب الطبع على قلوبهم وبسبب جعل الأكنة على القلوب، وأن ذلك أيضا كان عدلا من الله جل وعلا، وذلك لأنه بسبب كفرهم بالله جل وعلا.
وهذه المسألة مسألة عظيمة ألا وهي أن المشركين وأهل الجاهلية على اختلاف ملل الجاهليات ونحلهم يعتذرون عن اتّباع الحق ويكون عذرهم هو أنهم لم يفقهوا ما قيل لهم ولم يعلموه، يريدون بذلك أنهم لم يفقهوا الحجة فقه من يستجيب لها، ولم يعلموا أن تلك الحجج التي جاءت بها الرسل أو جاء بها الأنبياء أنها غالبة وأنها مقدمة على الحجج التي يحتجُّ بها أولئك فعند المشركين حجج وعلم والرسل والأنبياء جاءوا بحجج وعلم فلم يفقه أهل الجاهليات أن حجج الأنبياء والمرسلين أدلَّ على المراد من حجج المشركين.(40/94)
ولبيان ذلك نقول إن الحجة لا بد من إقامتها فالله جل وعلا ما بعث رسول إلا لأجل إقامة الحجة ?[لِئلَّا]([21]) يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، وقال سبحانه ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، فمن كمال عدل الله تبارك وتعالى ومن كمال حُكمه وحِكمته أنه جل وعلا ما عذّب أحدا حتى يقيم عليه الحجة، ولذلك بعث الله المرسلين وبعث الأنبياء لكي تنقطع حجج الناس بل إنّ الله جل وعلا أخذ على ابن آدم أو على بني آدم العهد لمّا أخرجهم من ظهور آبائهم ألاّ يكذبوا بتوحيد الله جل وعلا كما قال سبحانه ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ?[الأعراف:172]، إلى أن قال ?وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ?[الأعراف:172-173]، فالله جل جلاله أقام الحجج المتنوعة حجج مسموعة وحججا مرئية، وهم اعتذروا عن الاتباع بعدم فهم الحجة، قال سبحانه مخبرا عن قولهم ?يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91]، وقال سبحانه?وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ?([22]) وقال سبحانه مخبرا عن قول اليهود أنهم قالوا ?قُلُوبُنَا غُلْفٌ?([23])، وتقرير هذا أن فهم الحجة له نوعان:(40/95)
النوع الأول: أن يفهم معناها؛ يعني أن يقيم الحجة من يفهم معنى الحجة، بأن يكون بلسان المخاطب، وأن يفهم المراد من الحجة، وهذا النوع متفق على أنه لابد منه، فإن الله جل جلاله ما بعث رسوله إلا بلسان قومه يبين لهم، كل رسول بعث بلسان قوم ذلك الرسول، يتكلم بلغتهم ويتكلم بلسانهم حتى يبين لهم الحجة، وحتى يفهموا معناها، وهذا متفق على أنه لا بد منه؛ لأنه إذا خوطب أحد بغير اللسان الذي يفهمه لم يكن ثَم إقامة للحجة، فإذن هذا النوع رجع إلى أنه في يعني إقامة الحجة، فإقامة الحجة لا يكون إلا بفهم معناها في هذا النوع.
النوع الثاني: فهم الحجة الفهم الذي يتبعه استجابة للحجة، فإن من فهم الحجة فهما مستقيما كاملا لابد أن ينقاد لها وهذا هو الذي لا يشترط في إقامة الحجة، فلم يكن لأولئك عذر بقولهم (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)، (مَا نَفْقَهُ) يعني ما نعلم ولا نفهم أن هذا الذي تقول أرجح من قولنا، ولا نفهم أن علمك الذي أوتيت به أرجح من علمنا، وهذا النوع هو الذي حرمه المشركون في أنهم لم يفهموا فهم استجابة، لم يفهموا الحجة من جهة كونها أرجح من حجتهم، ولكن الحجة فهموا معناها.
فإذن فهم الحجة معناها.
النوع الأول لابد منه.
وأما النوع الثاني وهو أن تفهم فهم من يستجيب، فإن هذا لا يشترط في إقامة الحجة، فإن الحجة تقوم ولو زعم الزاعمون أنهم لم يفهموا معناها إذا بينت لهم ألفاظها وكانت بلسانهم وبين لهم معناها من أهل العلم والفهم لبيان المعنى.(40/96)
لهذا قال جل وعلا مخبرا عن قول المشركين (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وقال (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) ولم يمنعهم هذا الاحتجاج بأنهم ما فقهوا ولا فهموا بأن تكون الحجة قد أقيمت عليهم، وإذْ أعرضوا حلّ عليهم سخط الرب جل وعلا، وأيضا أخبر سبحانه أن قريش بل والعرب جُعلت على قلوبهم أكنة قال سبحانه (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) جعل الله جل وعلا على قلوب المشركين أكنة تحجب الفقه وتمنع الفهم، حواجز تمنع ذلك أن يفقهوا يعني أن يفهموا، هذا الفهم إنما فهم موقع الاحتجاج؛ فهم رجحان الحجة على ما عندهم من الحجج، وهذا كل طائفة من طوائف الشرك والجاهلية تحتج بهذا بأنه ما فهمت بأنهم ما يريدون أن ينسبوا إلى أنفسهم أنهم ردوا الحجة عنادا واستكبارا.
ولهذا قال أئمتنا إن إقامة الحجة شرط وأما فهم الحجة فلا يشترط. فليس كفر كل من كفر عن عناد وتكذيب؛ لأن أولئك لم يفهموا وجه الحجة الفهم الذي يجعلهم يقدمونها على حجتهم، ولكنهم فهموا تلك الكلمات وفهموا دلائلها وفهموا معناها.(40/97)
قال الشيخ رحمه الله تعالى هاهنا (فأكذبهم الله جل وعلا في ذلك) يعني فيما احتجوا به من أنهم ما فقهوا يعني أكذبهم في أنهم فهموا المعنى، ولكنه جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوه الفقه النافع، وهو سبحانه كثيرا في القرآن ينسب الفعل إلى من ينتفع به، فقول الشيخ رحمه الله (أكذبهم الله) يعني في أنهم ما فقهوا الفقه الذي هو بمعنى فهم المعنى وبين أنهم فهموا المعنى، ولكنه الله جل وعلا بين أنه جعل على قلوبهم أكنة وكثيرا في القرآن ما يأتي نسبة الفعل إلى من ينتفع به، قال سبحانه ?إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ?[فاطر:18]، فأخبر سبحانه في هذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ينذر الذين يخشون ربهم بالغيب مع أنه عليه الصلاة والسلام نذير للعالمين، لكن أضيف إلى أولئك الإنذار لأنهم هم الذين انتفعوا به (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ) لأنهم هم الذين اتفعوا بذلك.
فهنا في قول الشيخ فأكذبهم الله جل وعلا في ذلك، وبيّن سبحانه أن سبب عدم الفقه هو الطبع على القلوب، يعني عدم الفقه الذي هو في ترجيح الحجة، الفهم الذي يترتب عليه ترجيح حجة المرسلين على ما عندهم من الأوهام والحجج، وبيّن سبحانه أن ذلك الطبع بسبب كفرهم، عدلا منه جل وعلا وحكمة، وهذا في كل أهل جاهلية يأتون بمثل هذا.(40/98)
وهذه المسألة موسومة في كتب العلماء بمسألة إقامة الحجة وفهم الحجة، وتبيّن لك أن الصواب تقسيم فهم الحجة إلى قسمين؛ لأن من أهل السنة في هذا القرن من اعترض على أئمتنا على عدم اشتراط فهم الحجة لأنه قال لابد من فهم الحجة، كيف تقام الحجة على من لم يفهمها؟ والعلماء بينوا لكن هؤلاء ما انتبهوا إلى أنّ فهم الحجة بالمعنى الأول الذي ذكرناه وهو فهم المعنى، وعهم مدلولات الكلام وفهم الاستدلال ووجه الاستدلال هذا لا بد منه، أما الفهم الذي هو معرفة رجحان هذه الحجة على غيرها وقطع الشبه جميع الشبه فهذا لا يشترط كما بينه الأئمة.
إذا تبين لك ذلك، فنقول إن هذه الخصلة من خصال الجاهلية نفذت في هذه الأمة في قديم زمانها وفي حديثه:
فأما في قديم زمانها يعني في أوائل الأمر، من جهة أن كثيرا ممن أعرضوا عن الكتاب والسنة وعن لزوم اتباع الكتاب والسنة، والأخذ بما كان عليه سلف هذه الأمة، وأن علومهم كانت أعلم وأسلم وأحكم، وأنهم كانوا اتقى لله جل وعلا من أن يخوضوا فيما غير ما أذن الله جل وعلا أن يخوضوا فيه، إذا بين لهم ذلك، محسنهم يقول ما أفقه هذا الكلام؛ يعني هذه حجة ليست بواضحة، هذا الكلام ليس بواضح الدلالة، فيرد هذا الأصل العظيم مع ما عليه من الدلائل الواضحات لأجل عدم فهمه، وعدم فهمه بموقع الحجة، وأن هذه الحجة أقوى حجته هذا ليس بعذر له، ليس بعذر له ولا يعذر في ذلك.(40/99)
مثال هؤلاء أهل البدع في الاعتقادات، سواء كانت منها الاعتقادات الكفرية أم ما كان دون ذلك، هؤلاء اعتاضوا وتركوا كتاب الله والسنة وما كان عليه السلف إلى آراء أحدثوها واعتقادات وضعوها، حتى إنهم وضعوا أدلة عارضوا بها الأدلة القرآنية والأدلة النبوية، مثل الدليل الذي وضعه طائفة أو الذي وضعه جهم بن صفوان ومن بعده من المعتزلة؛ الدليل الذي يسمى بدليل الأعراض، والذي من أجله وبسببه أُوِّلت الصفات وحُرفت النصوص، ووقع البلاء العام في المسلمين بسبب ذلك الدليل المحدث المبتدع، الذي هو خطأ في نفسه، وجناية على الشرع، تحصيل هذا الدليل أنّه أراد أن يثبت وجود الله جل وعلا بإثبات حدوث الأجسام، وأن الأجسام لا يثبت حدوثها إلا بإثبات حلول الأعراض فيها، الأعراض هي المعاني التي تطرأ أو تزول، فلما أثبت الوحدانية يعني وجود الله جل وعلا بهذا الدليل، صار معه متعين أن ينفي كل ما يعارض ذلك الدليل، فنفى إثبات الصفات لأن الصفات عنده أعراض تطرأ وتزول، وإذا أثبت الصفات كالرحمة والمغفرة والنزول والاستواء والكلام وغير ذلك من الصفات، إذا أثبتها فإنه يعني في فهمه أنه يثبت أعراضا تطرأ وتزول، وهو ما أثبت حدوث الأجسام إلا بهذه الطريقة التي هي طريقة الأعراض، فكان مستمسكا بدليله، وبدليله هذا ظهرت الفرق المعتزلة والكلابية والماتريدية والأشعرية ومن نحى نحوهم، وهو دليل باطل من أصله، لما خوطب أهل الاعتزال من أهل السنة الذين أخذوا بهذا الدليل وعظموه، الذي هو يستدل على وجود الله بدليل حدوث الأعراض في الأجسام، لما اُحتج عليهم بأن هذا الدليل لم يأت في كتاب ولا في سنة وأنه منقوض من أصله، وأن أدلة القرآن هي المتعينة في إثبات حدوث المخلوقات، وأن الله جل وعلا هو موجدها وحدثها وخالقها وربها، قالوا إنّ نقض ذلك الدليل لا نفهمه، وقلوبنا لم تفهم ذلك، وعقولنا لم تدرك ذلك، ونحو هذا، مع أن هذا الدليل واضح في نفسه، لكن جعل في قلوبهم ما(40/100)
يصدهم عن اتباع الأدلة القرآنية فأحدثوا ذلك الحدث الأكبر في الملة، ألا وهو ذلك الدليل الباطل من أصله الذي بسببه حدثت الفرق المختلفة.
كذلك في العبادات طوائف المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة ونحو ذلك، إذا اُحتج عليهم ببطلان بدعهم وبطلان طرائقهم في السلوك، وأنهم لا يجوز أن يسلك طريق إلا أن يكون موافقا للنص في العبادات وفي العقائد ونحو ذلك، بينوا أنهم لا يفهمون تلك الأدلة، وأن ما عليه ما بينه أشياخهم أن هذا أوضح لهم هؤلاء أقيمت عليهم الحجة وبينت لهم ولكنهم ما فقهوها فقه من يتبع السلف الصالح، فلا يعذر أولئك بالجهل، بل أكذبهم الله جل وعلا بما كذب به الأولين الذين اعتذروا بأنهم لم يفقهوا، هم يسمعون كلام الله ويسمعون سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلام أهل العلم في بيانها، وبينت لهم تلك الأمور، وصنفت في ذلك مصنفات ومع ذلك بقوا على طرائقهم المبتدعة، وطرقهم الصوفية المحدثة، يحتجون بأنهم ما يفهمون هذا الفهم يعني فهم كون حجة السلف أرجح من حججهم، طريقة السلف أرجح من طرائقهم، هؤلاء لا يعذرون لأنهم مكذبون بما كذب الله جل وعلا الأولين.
وهكذا كل من أقيمت عليه الحجة من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الحجج التي فَهْمُها لا يختلف فيها اثنان، أو من الحجج التي يمكن أن تفهم أكثر من منحى، لكن أهل العلم بينوا معناها وأوضحوا مرادها واستدلوا عليه بالدلائل، من بين له ذلك فقد أقيمت عليه الحجة، فمن خالف بعد ذلك وولو احتج بعدم الفقه والفهم فهو مكذَّب.(40/101)
قال الشيخ رحمه الله إن الله جل وعلا أكذبهم (فأكذبهم الله) وبين أن سبب ذلك هو الطبع على قلوبهم، وأنّ الطبع بسبب الكفر وهذه السببية مطردة في كل من خالف الكتاب والسنة ونهج سلف هذه الأمة في العلوم والأعمال في الاعتقادات وفي السلوك وفي الفقه، كل من خالف هذا فإنه يعاقب على صنيعه بأنه لا يفهم الحجج، قال جل وعلا ?وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا?[الكهف:101]، مع أنهم سمعوا كلام الله، وسمعوا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يعني أهل الشرك لكنهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) ذلك هو السماع النافع، لا يقدرون عليه، الاستطاعة بمعنى القدرة لأنهم جعلت على قلوبهم الأكنة عقابا لهم على أعراضهم عن الاتباع، فكل من أعرض عن الاتباع يخشى عليه أن يعاقب بعدم فهم الحجج، وهذه هي أعظم العقوبات، أن يعاقب المرء بأن لا يفهم كلام الله جل وعلا ولا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(40/102)
وإذا تأملت اليوم أكثر المخالفين فإنهم إذا بُينت لهم الأدلة والنهج الصحيح، يقولون إن هذا غير واضح، هذا لا يُلزم الناس به ونحو ذلك، وهذا من جنس ما كان عليه أهل الجاهلية؛ من أنهم لم يفقهوا، ولم يفهموا، ولم يتبين لهم أن حجة المرسلين أعظم من حجتهم، ولاشك أن من ورث الكتاب وورث السنة فإن حجته أعظم من حجة غيره، ولو كان عنده من العلم وعنده من العقل الشيء الكثير، كما قال شيخ الإسلام في المتكلمين: أوتوا ذكاء ولم يؤتوا ذكاء أو أتوا علوما ولم يؤتوا فهوما. يعني الفهم النافع فإنه حُرِم كثيرون الفهم النافع، فكل من جادل بالباطل، وقال أنه لم يفهم الحجج التي عليها سلف هذه الأمة فإن ذلك بسبب إعراضه، فليكن أول ما يكون من أمره في علاجه أن ينسلخ من كل طريقة ليس فيها اتباع السلف، ثم بعد ذلك سيرى من نفسه وُفِّق للفهم، ووفق للسماع النافع، ووفق للفقه فقه الأدلة، ولهذا ترى عند أئمة الإسلام الذين انشرحت صدروهم للعقيدة الصحيحة، وانشرحت صدورهم لاتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاهدوا في ذلك وبينوا، عندهم من فيهم النصوص ما ليس عند غيرهم، فمن اتبع النصوص نطق بالحكمة، مثل ما قال بعض الأئمة: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة. وهذا ظاهر بين، فإن المؤمنين في كل زمان لم يزالوا يحتاجون إلى من ينطق بالحكمة، وليس أولئك إلا أئمة أهل العلم الذين تبعوا السلف الصالح وتفقهوا في الكتاب والسنة.(40/103)
فاليوم كل من أقيمت عليه الحجة وبينت له فإنه لا يجوز أن يُعذر باحتجاجه بعدم الفهم يعني الفهم النافع، إلا في بعض المسائل المشتبهة التي اختلفت فيها أنظار أهل العلم وكان في النصوص ما يعذر معه أولئك، من أنهم يفهمون منها كذا، تفهم من طائفة شيء وتفهم منها الطائفة الأخرى شيئا آخر، فهذا لا بأس به يعني خلاف يعذر به صاحبه؛ لأنه ناتج في أصله عن اتباع أما إذا كان ناتج عن معارضة للنصوص بالأفهام التي لم يتبع فيها أصحابها كلام أهل العلم فأصحابه غير معذورين.
المسألة السادسة عشرة قال الشيخ (اعتياضهم -يعني أهل الجاهليات- عما آتاهم من الله بكتب السحر كما ذكر الله ذلك في قوله ?نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:101-102]) وهذا بيان لفعل اليهود، وأن اليهود تركوا ما جاء به أنبياؤهم وما ساستهم به الأنبياء من العلم النافع إلى غير ذلك من كتب السحر.
وفي قوله تعالى هنا (اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ):
قال بعض أهل العلم إن معنى (اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) يعني في ملك سليمان فـ(عَلَى) بمعنى (في).
وقال آخرون إن معنى (مَا تَتْلُو) ما تكذب، فتكون (تَتْلُو) مضمنة معنى الكذب، وهو المناسب للتعدية بـ(على)؛ لأن كذب يُعدى بـ(على)؛ كذب على فلان، والتضمين معروف في كلغة العرب مطرد كثيرا.
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)، (تَتْلُو) هنا كما ذكرتُ لك مضمنة معنى الكذب والملك في هذه الآية معناه العهد، فيكون معنى الآية: واتبعوا ما تكذب الشياطين على عهد سليمان.(40/104)
وفي تفسير هذه الآية ستة أوجه، كيف كان ذلك الاتباع وكيف كان دخول السحر من جهة الشياطين على عهد سليمان، ستة أقوال ذكرها ابن الجوزي في زاد المسير ورتبها ترتيبا حسنا.
الذي يهمنا منها ما يجمع، ما يجمع تلك الأقوال ويناسب هذه المسألة وهو أن حاصل تلك الأقوال: أن سليمان عليه السلام جعل كتبا من كتبه أو كتبا من كتب الشياطين تحت كرسي له، مخفاة عن الناس، مدفونة لا يعلم بذلك أحد، وكان عهد سليمان لدى الناس يطلعون عليه ويعملون به، فهو نبي من الأنبياء عليه السلام، سليمان عليه السلام منع الناس من النظر فيما كتبته الشياطين من السحر والأقوال التي أخذوها من الكهنة كما في أحد الأقوال، وأيضا دفن عهده وكتابه تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام أَعلمت الشياطين الكهانَ بأن عهد سليمان مكتوب ومجعول تحت كرسيه، فحفروا فوجوده -والذي أذكره الآن هو القدر الذي تجتمع عليه الروايات وأما ما تختلف فيه فليس هذا محل بيانه لأنه دخلها كثير من الإسرائيليات، والروايات كلها عن الصحابة ليس في ذلك شيء مرفوع، لكن الذي يناسب ظاهر المعنى –معنى الآية- هو ما أصفه لك الآن- بيّن الشياطين للكهان أن عهد سليمان تحت كرسيه فحفروا فوجدوه.(40/105)
أما على القول بأن عهده الذي كان عَهِدَ به للناس فإنهم يقولون إن الشياطين كذبت على سليمان بأنهم لما استخرجوه زادوا فيه أقوالا وزادوا فيه إباحة السحر، وزادوا فيه كيف يسحر المسحور أو كيف يسحر الناس ونحو ذلك من الأقوال الشيطانية، ومن قال إنّ الذي دفنه سليمان هو كتب الكهنة وما كتبه الكهنة، فيكون أولئك الشياطين استخرجوا تلك الكتب من الكهنة، وزعموا للناس أنها عهد سليمان، مع أن عهد سليمان كان معروفا فيهم، كان محفوظا في الناس يعرفونه ويعملون به، لكن لما أظهرت الشياطين تلك الكتب وقالوا إنها من عهد سليمان أو إنها عهد سليمان قال اليهود إنّ سليمان ساحر، وهذا ما أخبر الله جل وعلا به في قوله ?وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ?[البقرة:102] ما كفر سليمان عليه السلام بالسحر، وإنما عهد للناس العهد الذي ينفعهم، وعلّمهم ما ينفعهم، وأقام الحجة عليهم وبين لهم ما ينجيهم، وأنفذ فيهم ما أوحى الله جل وعلا (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) وحاشاه أن يكون كذلك (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يعني بعد موت سليمان بما أخذوه من الكتب زاعمين أن هذا من دين سليمان، زاعمين أن هذا هو عهد سليمان.
وهذا هو أصل هذه المسألة من أن أولئك الذين كانوا من أتباع سليمان اعتاضوا عما آتاهم من الله جل وعلا من عهد سليمان، ومما أنزله الله جل وعلا عليهم وبينهم لهم على لسان سليمان عليه السلام، ذلك القدر المتيقن، ذلك القدر الذي لا شك فيه و لا التباس اعتاضوا عنه بكتب السحر التي جعلتها الشياطين، وهذا الأمر أصل في أنّ أهل الجاهليات نبذوا الرسالات وأخذوا بما هو من جنس السحر أو أخذوا بالسحر أصلا كما في هذه المسألة.(40/106)
فهذه المسألة أصل في كل من خالف الرسل ممن جاء بعدهم إنما خالف الرسل لأنهم اعتاضوا واستبدلوا ما أنزل الله جل وعلا عليهم، وما أمرهم باتباعه، استبدلوه بشيء آخر من الكتب إما كتب سحر، وإما بكتب محرفة، وإما بكتب مفتراة على الله جل وعلا ونحو ذلك.
اليهود طائفة منهم من علمائهم افتروا على الله الكذب؛ بأن جعلوا في التوراة ما ليس منها، وأدخلوا فيها ما ليس منها، حرّموا على الناس الحلال، وأحلوا لهم الحرام، مع أن التوراة الأصلية كانت في أول الأمر موجودة عند الناس ولكنهم تركوها و أخذوا بتلك الأقوال وبتلك الآراء.
وهكذا في أهل الجاهلية العرب كان ذلك عندهم نبذوا المتيقن لديهم من دين إبراهيم عليه السلام، وأخذوا بما أحدثه طائفة من أهل مكة أو طائفة من العرب.
فكانت هذه المسألة واضحة في أن أهل الجاهلية يتركون ما أنزل الله جل وعلا إلى غيره.
وهذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية أيضا هي في هذه الأمة في أوسع صورها، وفي أظهر مظاهرها وأوضح مظاهرها، أعظم مما كان عند اليهود وأعظم مما كان عند غيرهم، ذلك أن كتاب الله جل وعلا محفوظ ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر:9]، والسنة؛ سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - محفوظة أيضا بما بينه أهل العلم من صحيحها وسقيمها، فالدين محفوظ ليس بعرضة للتغيير ولا التبديل، دين باق إلى قيام الساعة، كتاب الله باق وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - باقية، وهذا يوجب على الناس أن لا يحيدوا عنها، وأن لا يرغبوا الهدى في غير الكتاب وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما الذي حصل في هذه الأمة؟ تُركت تلك الأصول.
تُرك الكتاب وتركت السنة، واستبدل طائفة من هذه الأمة كتب السنة كتب الفلسفة وكتب الكلام.(40/107)
طائفة أخرى استبدلت بكتب السنة كتب الرأي من كتب بعض الفقهاء المتقدمين الذين لا يذكرون في كتبهم إلا الرأي؛ أرأيت إن كان كذا فكيف يكون، بخلوِّها من الحجج والأدلة وكلها مبنية على قياس ورأي.
ترك طائفة من هذه الأمة سير السلف في العبادات وأخذوا بكتب القوم الذين صنفوا في ذلك من أهل الطرق ونحو ذلك مع أن الكتاب محفوظ والسنة محفوظة لكنهم اعتاضوا واستبدلوا ما آتاهم من الله جل وعلا بغيره من جنس ترك أولئك لعهد سليمان واتباعهم السحر، بل إن طائفة من هذه الأمة أخذت بالسحر وكتب السحر وتركت الأصل المنزل على هذه الأمة.
الفلاسفة دخلوا في هذه الأمة فطائفة من عقلاء هذه الأمة كما يقولون وكما يسمونهم العقلاء والأذكياء، تركوا الكتاب والسنة وزعموا أن نصوص الكتاب والسنة هذه توهيمية تخيلية إنما تنفع للعوام، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره في السنة، بل وما أنزله الله جل وعلا في الكتاب إنما هو وهم وخيال هؤلاء يسمون أهل الوهم والتخييل؛ يعني قالوا إن هذه النصوص وتلك الظواهر من النصوص ليست مرادة وإنما هي ظواهر وهمية خيالية لإصلاح الناس؛ لأنه لا يصلح الجمهور -على حد قولهم- إلا هذا لا يصلح الناس لأجل بلادة عامتهم وعدم فهمهم كما يقول أولئك، لا يصلحهم إلا هذه الطريقة والحكماء يصلحون الناس بما يناسبهم من الطرائق، يقولون فأتى الكتاب والسنة بالطرائق التي تصلح للجمهور وما فيها من الوهم والتخييل، وأما طرائق أهل العقول والحجى وأهل الفهم والنظر فإنما هي طريقة الفلسفة؛ طريقة طلب الحكمة بالاستدلال بالكونيات ونحو ذلك مما يبحثونه، وبه قُدمت الفلاسفة على صفوة هذه الأمة، ومن أجله قيل إن علم السلف أسلم ولكن علم الخلف أعلم وأحكم، كما قاله ضُلاَّلهم.(40/108)
كذلك اعتاض طائفة من هذه الأمة عما جاء في الكتاب والسنة وما بيّنه علماؤنا؛ يعني علماء سلف هذه الأمة من معانيهما، اعتاضوا عنهما بكتب أحدثها المتكلمون والمتكلمون أخص من الفلاسفة، فكل فيلسوف متكلم وليس كل متكلم فيلسوف، وأخذوا بمنطق اليونان وأخذوا بالقواعد التي يسمونها قوطع عقلية وأدخلوها بهذه الأمة، وجعلوا كتبهم في العقائد مقدمة على العقائد التي جاءت في الكتاب والسنة بل إنه منهم -من أهل الكلام- من زعم أن نصوص الكتاب والسنة تحير ولا تهدي، لأننا لا نعرف المعنى مثل ما قال بعض من ينحى منحى أولئك –سامحه الله وهو من المنتسبين لشرح كتب السنة- حينما ذكر مسألة الاستواء يشرح جامع الترمذي قال: الاستواء يرد في لغة العرب على خمسة عشرة معنى ثم ساقها وكل ذلك غلط؛ لأن الاستواء لا يرد في اللغة إلا بمعنى واحد وهو العلو، ثم ساقها، فلما ساقها قال فالله أعلم أي ذلك المراد، وهؤلاء يزعمون أن نصوص الكتاب والسنة أنها توهم الناس الاعتقاد بالتجسيم والعياذ بالله، فاعتاضوا عن شرحها وبيان ما فيها من العقائد شرح الكتاب والسنة، إلى كتب وضعوها كتب عقائدية وضعوها يعتمدون عليها ويدرسونها...([24])
مبناها على الرأي وليس مبناها على النص.(40/109)
كذلك أهل السلوك أهل السلوك اعتاضوا عن الزهد المشروع الذي كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ما كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو عليه والسلام أزهد الزاهدين وإمام العارفين وقدوة العباد، اعتاضوا عن ذلك إلى كتب خاصة وضعها القوم في زهدهم وعبادتهم، فصنفوا كتبا في ذلك، ومن أوائل من صنف في هذا الحارث المحاسبي وطائفة من طبقته، وكان ذلك شائعا فانتبه إلى ذلك أئمة السنة، فصنفوا في مقابلة ذلك ما يهدي الناس في باب السلوك، صنفوا كتب الزهد أئمة الحديث صنفوا كتب الزهد، في مقابلة أخذ المتصوفة بكتب يضعونها ليست معتمدة على هدي السلف، فصنف الإمام عبد الله ابن المبارك كتاب الزهد، وصنف الإمام أحمد الزهد وهكذا طوائف صنفوا الزهد في مقابلة ترك أولئك زهد السلف إلى زهد مبتدع وتصنيف الكتب فيه، ولهذا حذر السلف من تلك الكتب وتلك التصانيف، زاد الأمر حتى وضع للسلوك أصولا في هذه الأمة، فاعتاضوا عن أصل الكتاب والسنة إلى تلك الأصول المبتدعة والعياذ بالله، حتى جُعلت تلك الأصول في آخر الأمر طريقة من طرائق القوم لها اصطلاحاتها ولها مدلولاتها مما يعارض به الكتاب والسنة، بل زاد الأمر حتى وصل بهم الحال أن جعلوا مقام السائرين من الأولياء أعظم من مقام الأنبياء كما قال قائلهم وهو ابن عربي في فصوصه قال :
مقام النبوة في برزخ فُوَيْقَ الرسول ودون الولي(40/110)
فجعل الولاية أعظم من النبوة والنبوة أعظم من الرسالة ذلك أن الولاية عندهم كسبية تكتسب مما أخذ من المعارف والكتب التي تهدي تبين كيف تكتسب وأما النبوة فإنما هي فضل وما كان بالكسب تكشف له الحجب، وما كان بالاختيار لا تكشف له الحجب ولهذا فضلوا خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء، كما يقولون، سبب ذلك ترك ما أنزل الله جل وعلا إلى غيره، فكانوا حقيقين بما وصف الله جل وعلا اليهود بقوله?نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:101-102]، وهكذا في جوانب السحر كذلك في الكهانة، في الجبت، في الصرف، ونحو ذلك من الأنواع، كلها فيها كتب، موجودة في الأمة، ولهذا كان أهل العلم يوصفون بأن تحرق وتمنع الكتب التي فيها البدع، بل نصّ الفقهاء على أن كتب البدع التي تشتمل على الضلال أنها تحرق ولا يضمّن من حرقها من كتب أهل الضلال وأهل البدع المشتملة على مناقضة الشرع ومناقضة كتب السنة، مثل كتب السحر والشعوذة والفلسفة والكلام ونحو ذلك، مما حفظ به علماؤنا الأوائل هذه البلاد من شرها، واليوم مع شديد الأسف وقولنا ?إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ?[البقرة:156]، كثرت الكتب المخلفة لمنهج السلف في هذه البلاد،سابقا ما ترى الكتب حتى في التفسير ما ترى الكتب المخالفة لكتب السلف ما ترى مثل تفسير الرازي وأمثاله، ما ترى كتب السحر ما ترى كتب الصوفية الغلاة، ما ترى كتب أهل البدع، ولكن اليوم كثر ذلك في الناس لأجل أن من الناس منا من اعتاض عن تلك الكتب إلى غيرها من الكتب، وهذا لا شك أنه خصلة من خصال أهل الجاهلية، وسبب من أسباب الضلال، أن يكون عندنا كتاب الله جل وعلا نقي كأنما أنزل الساعة، ويكون عندنا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيننا(40/111)
يحدثنا بها ونترك ذلك إلى غيره من الهذيان وإلى غيره من الأفهام و الأفكار، لا شك من جنس فعل أهل الجاهلية، وهكذا في أصناف كثيرة من الأمة يضيق المقام في استقصائها.
نقف عند هذا الحد نجيب على بعض الأسئلة.
ثم إن هذه المسائل الجاهلية التي خالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها كما ترى هي عزيزة المعاني وهي مهمة جدا في حياتنا اليوم، بل إنه على الشباب والدعاة إلى الله جل وعلا أن يكون في حلقاتهم، وأن يكون في بيان دعوتهم ما يستدلون فيه بكثير من هذه المسائل؛ لأنه إذا بينت للناس أن هذه خصلة من خصال اليهود، خصلة من خصال الجاهلية، بدلائلها وبكلام أهل العلم عليها، ثم بينت أن هذه دخلت في الأمة، يكون هذا من أنفع أبواب الدعوة، ومن أنفع طرقها، وهذه هي الطريقة أو هذه من الطرق السلفية المحمودة في الدعوة؛ دعوة الناس، ولهذا الشيخ رحمه الله اعتنى ببيان هذه المسائل لأن الجميع راغب في أن يكون مجانبا لسنن أهل الجاهلية ولطرائقهم ولخصالهم سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مشركين أو مجوس أو... إلى آخره من الملل و النحل.
فعنايتكم بهذه المسائل فهما واستنباطا، ثم عنايتكم بشرحِ كيف كان عليه أهل الجاهلية ببيان أصل المسألة، ثم صور دخول هذه الخصلة في هذه الأمة، وأنّ هذا مصداقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» هذا من الأمور التي تعين الداعية على الوصول إلى مبتغاه، وتبين الحق للناس.
أسأل الله الكريم أن يزيدني وإياكم من الهدى والاهتداء، وأن يجعلنا ملازمين لما أنزله الله جل وعلا علينا منابذين لكل ما يخالف ذلك الأصل العظيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
1/ يقول: بالنسبة لأهل البدع غير المكفرة هل يشهر بهم ويحذر منهم ومن آرائهم؟(40/112)
الجواب: أن هدي السلف الصالح أنّ أهل البدع سواءً كانت بدعتهم مكفرة أو كانت بدعتهم ليست بمكفرة أنهم يلزم أن يبيَّن للناس من حالهم؛ لأجل أن لا يتعدى ضررهم إلى الناس، لأنه ما من مبتدع إلا وسيمارس بدعته، إن لم يدع إليها قولا دعا إليها فعلا، وهذا يتعين أن يُحمى الدين من هؤلاء؛ لأن حماية الدين وحراسة الملة أصل من أصول الإسلام وواجب من واجباته العظام على هذه الأمة، فلا بد أن تبقى في هذه الأمة طائفة تحرس هذا الدين من بدع المبتدعين، سواء أكانت بدع مكفرة أو كانت بدعهم غير مكفرة؛ لأن حماية الدين أغلى من حماية ورعاية الأشخاص، ومهما كان مقامهم في العلم، مقامهم في السلوك ونحو ذلك، فالسلف مازالوا ينكرون في وقتهم على من كان معروفا بالصلاح؛ أنكر الإمام أحمد على الحارث المحاسبي، أنكر الإمام أحمد على طائفة، بل أنكر الأئمة الواقفة في خلق القرآن، مع ما حصل في تلك الأزمنة من المحنة العظيمة.
فإذن هدي السلف الإنكار على أهل البدع، لكن هذا متوقف على شيء، وهو أن يثبت وصف البدعة لمن ينكر عليه، فإذا ثبت وصف البدعة على من ينكر عليه، بوصف أهل العلم الراسخين العارفين بالبدع، بوصفهم لذلك، فإنه ينكر عليهم، لا يكون مسألة البدع والابتداع محل اجتهادات فلان من الشباب يرى أن هذه بدعة والآخر لا يرى، إن اختلفنا في هذه المسألة من جنس المسائل الأخرى الرجوع فيها إلى أهل العلم، هل هذه بدعة أو لا؟ فإن من الناس من يكفر بما ليس بمكفر، ومنهم من يبدع من ليس بمبدع، وهكذا، فيجب أن يثبت العرش أولا مثل يقول القائل: أثبت العرش ثم أنقش، يعني أولا يثبت أنها بدعة بإثبات أهل العلم، ثم بعد ذلك ينكر على أصحابها إنكار أهل بدع.
هناك مقولة انتشرت ألا وهي أنه لا ينكر إلا على أهل البدع المكفرة، وهذه المقولة خطأ ومخالفة لمنهج سلف هذه الأمة من أصله.(40/113)
2/ يقول: إذا كان لابد من فهم الحجة هل يعني هذا أنه لابد من ذكر الأدلة ووجه الدلالة ولا يكفي أن يقال إن هذا شرك أو بدعة أو حتى معصية أم لا؟
الجواب: الحكم ليس إقامة الحجة لمن ذكر حكم مسألة لواقع فيها لا يعتبر هذا إقامة للحجة حتى يبين له الحجة الرسالية، كما يعبر عنها أهل العلم يقولون إقامة الحجة هي إقامة الحجة الرسالية، ليس إقامة الحجة في رأي أحد؛ يعني تبيين له آيات من القرآن العظيم، تبين له الأدلة من السنة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يبين له وجه دلالتها، ويبين له ذلك من هو عارف بأوجه الاستدلال فاهم لذلك، فإذا بُيِّن له ذلك من هو عارف بأوجه الاستدلال فأصر ولم يستجب فقد أقيمت عليه الحجة، وإقامة الحجة مختلف فبعض المسائل لا يكفي في إقامة الحجة فيها فعل الواحد من أهل العلم، بل لابد أن تجلى مسائلها وذلك لكونها غامضة، فإقامة الحجة تبع لأصل المسألة.
فإذا كانت المسألة واضحة كانت إقامة الحجة فيها أسهل وأيسر مثل كون الاستغاثة بغر الله جل وعلا من الأصوات شرك هذه ظاهرة واضحة، الأدلة عليها ما تحتاج مزيد بيان ومتابعة في ذلك.
لكن هناك مسألة غلِط فيها طائفة من أهل العلم، وهي طلب الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - شرك أم لا؟ هذه المسألة إقامة الحجة فيها يجب أن يكون بأبلغ من إقامة الحجة في الأولى؛ لأن تلك واضحة بينة، وأما هذه ملتبسة فيكون إقامتها بإقامة الدلائل وإيضاحها وتوالي ذلك وتصنيف المصنفات ونحو ذلك حتى تقام وتبين؛ لأنها فيها نوع اشتباه عند كثير من الناس، لاشك أنه من قال بها وهم قلة أن قولهم خطأ وقول ضعيف لا يلتفت إليه، بل هي من جنس غيرها طلب الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن جنس طلب غير الشفاعة من الدعاء وغيره، بل إن الشفاعة معناها أن تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو؛ أن يكلم الطالب من النبي أن يدعو له، وهذا طلب ودعاء ولهذا نحتاج إلى مزيد بيان.(40/114)
فإذن إقامة الحجة له مراتب مختلفة، فكلما كانت المسألة أكثر اشتباها كانت إقامة الحجة فيها لابد أن يكون أكثر وأبلغ، وهذه المسألة نصّ عليها وذكرها أئمتنا منهم الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في فتاويه.
3/ سؤال يتعلق بالدعوة لكن سؤال يكثر، يعني بعض الأسئلة ما أحب أن أجيب عنها لكنه إذا ردد السؤال مرارا يعني كأنه فيه حاجة إلى الجواب، هذا السؤال يقول صاحبه: هل وسائل الدعوة توقيفية أم لا؟ من أتى بوسيلة لم يأتِ بها النبي صلى الله عليه وسلم هل يكون من التقدم بين يدي الله ورسوله، ويكون مبتدعا؟
يهمنا الطرف الأول من السؤال. هل وسائل الدعوة توقيفية؟
إذا قيل إن وسائل الدعوة توقيفية فهذا غلط، وإذا قيل إن وسائل الدعوة اجتهادية فهذا غلط، والصواب التفصيل:
أن من وسائل الدعوة ما هو توقيفي ومن وسائل الدعوة ما هو اجتهادي، وبسط جواب هذا السؤال يحتاج إلى مقام أوسع لبيان أصوله من كلام أهل العلم وقواعدهم، لكن يُضرب مثال لذلك وهو أنّ:
التسجيل مثلا وتصنيف الكتب، هذا لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه وسيلة نافعة، لم؟ لأن الأصل فيها الجواز، وهذا من جنس كثير من الوسائل التي عمل بها أهل العلم لما لم يكن في الزمن الأول، فهذه تكون وسائل اجتهادية.(40/115)
القسم الثاني وسائل لا يجوز فيها الاجتهاد، بل يجب أن يكون فيها توقيف وتلك الوسائل هي ما كان في الشرع ما يغني عنه، ما كان في السنة ما يدل على طريقة من الطرق، التربية مثلا للدعوة، ثم يأتي آت ويخالف تلك الطريقة إلى طريقة أخرى محدثة ويدعو بها، خاصة إذا كانت تلك الطرق مما عمل به بعض المبتدعة، من مثل ما يسمونه في زمن الإمام أحمد والشافعي ((التغبير))، التغبير نوع من الأشعار التي يُزهد بها الناس؛ يزهد فيها الناس بالدنيا ويرغبون فيها بالآخرة، كانت تُلقى على الناس على وجه فيه ألحان، وربما صاحبها طرق الجلود القديمة حتى ينفضّ عنها الغبار فسمّيت تلك الطريقة تغبيرا، أهل السنة أنكروها، وقالوا إنها بدعة، ونحو ذلك من كلامهم، بل أقاموا على أصحابها الحجة بأن هذه مخالفة للسنة ومخالفة للهدي لم؟ لأن المقصود من تلك الوسيلة هي ترقيق قلوب الناس والشرع؛ القرآن والسنة إنما أتى لترقيق قلوب الناس، فإذا أُحدثت طريقة في هذه المسألة وهي الترقيق والترغيب، غير الطريقة الأولى، فإنها ولو كانت نافعة في الدعوة، لكنها وسيلة محدثة وتلك الوسيلة ليس بابها الاجتهاد، والتغبير من جنس ما يكون في هذا الزمان من الأناشيد الصوفية ونحو ذلك ممن تأثر بهم من الأناشيد وغيرها، هذه مشابهة للتغبير الأول الذي نهى عنه أهل العلم.
المقصود إن تفصيل هذه المسألة يحتاج إلى مزيد بيان، لكن أصلها أن مسائل الدعوة منها ما هو توقيفي ومنها ما هو اجتهادي.(40/116)
ومثل هذه المسائل التي هي أصول ينبغي أن يسأل طلاب العلم فيها وأهل الدعوة يسألون فيها أهل العلم؛ لأن ميزة المتبعين لسلف هذه الأمة أنهم لا يقدمون رأيا على حكم الشرع، وإذا كان كذلك فإذا اشتبهت مسألة: هل يسوغ لنا أن نأخذ بها أم لا؟ يسأل أهل العلم، فإذا أفتى أهل العلم بالجواز كانت جائزة، وإذا أفتى أهل العلم بالمنع كانت ممنوعة، فيكون المرء قد خرج عن رأيه في المسألة، واتبع كلام أهل العلم، متبعا في ذلك قول الله سبحانه و?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?([25]).
4/ هذه عدة أسئلة أختار منها واحد، يقول: ما معنى قولهم لابد من إقامة الحجة من انتفاء الموانع وثبوت الشروط؟
انتفاء الموانع وثبوت الشروط، لا أعلم –ربما القصور- أنها جعلت تبعا لمسألة إقامة الحجة، وإنما جعلت هذه في مسائل الأحكام والأسماء؛ يعني هل يكفر؟ الكفر متى يطلق؟ البدعة متى تطلق؟ الفسق متى يطلق؟ ونحو ذلك، هذه من الأسماء، وهذه الأوصاف عي التي قال فيها أهل العلم لا بد حين إطلاقها على المعين أن تجتمع الشروط وأن تنتفي الموانع، أما في إقامة الحجة فلا أذكر أحدا في ذلك.
5/ ما معنى قولهم قامت الحجة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟(40/117)
نعم الحجة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قامت على العالمين، على العالمين جميعا ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث للناس أجمعين، قد قال عليه الصلاة والسلام «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار»وسمعتُ من كلام العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أنه قال في شرح هذا الحديث -سمعتُ منه مشافهة- أنه قال: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) هذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من رآني في المنام فقد رآني»، ذلك أنه يعني في تفسير حديث المنام أنه من رآه على صورته التي خلقه الله جل وعلا عليها، وقوله في الحديث (لا يسمع بي) يعني بي على ما بعثني الله جل وعلا عليه، فإذا كان هناك سماع محرّف، سماع ليس فيه وصف لما جاء به النبي جل وعلا على ما جاء به النبي فهو من جنس رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - على غير صورته، فلا يكفي ذلك في معرفة الحق. وهذا من الشيخ كلام نفيس فيما أحسب؛ لأنه لابد أن يكون في إيضاح الحجة وإقامتها أن يكون الدين واضحا، لا يكفي أن يسمع ببعض الحجة ولا يفهم يعني ولا تقام عليه بدلائلها، لا يكفي أن يسمع شيئا والتشويشات عليه، بل لا بد أن يسمع اليهود والنصارى ونحوهم أن يسمعوا ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما بعث به، فإذا كان منهم من سمع هذا الكلام، من سمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماعا، لكن ما عرف دينه ما عرف ما جاء به حقا كما يبلغه أهل العلم، إذا ما عرف القرآن وما أقيمت عليه الحجة من وجه آخر، هذا لا يقال أنه أقيمت عليه الحجة الرسالية، لكن هذا إنما نعني به طائفة من الذين ربما ما سمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو سمعوا به سماعا محرفا هذا قد ينجيهم، ويُبعث لهم يوم القيامة رسول من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، إذا كان لم يسمعوا بالإسلام الذي بعث(40/118)
الله جل وعلا به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، كذلك المشركون في هذه الأمة إذا سمعوا شيئا مثلا في بعض البلاد يسمعون شيئا من أخبار أهل السنة، مثلا جماعة أنصار السنة في البلاد التي فيها شرك، يسمعون شيئا من أخبارها لكن ما أقيمت عليهم الحجة بمعني بينت لهم الدلائل فهل السماع يكفي، هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، وأئمة الدعوة قالوا إن السماع بدعوة محمد بن عبد الوهاب لا يكفي إلا في الجزيرة؛ لأنها ظهرت –يعني في وقتهم- الدعوة ومشت في الفتوح وبينت للناس في ذلك في جميع بلاد الجزيرة، وأما في غيرها فإذا كان لم يُسمع بالدعوة فلا بد من إقامة الحجة، هنا إذا لم تقم الحجة عل يكفر عبدة القبور أم لا؟ الجواب نعم، من قام به الشرك فهو مشرك، الشرك الأكبر من قام به فهو مشرك، وإنما إقامة الحجة شرط في وجوب العداء، كما أن اليهود والنصارى نسميهم كفار، هم كفار ولو لم يسمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أصلا، كذلك أهل الأوثان والقبور ونحو ذلك من قام به الشرك فهو مشرك، وترتَّب عليه أحكام المشركين في الدنيا، أما إذا كان لم تقم عليه الحجة فهو ليس مقطوعا له بالنار إذا مات، وإنما موقوف أمره حتى تقام عليه الحجة بين يدي الله جل وعلا.
فإذن فرق بين شرطنا لإقامة الحجة، وبين الامتناع من الحكم بالشرك، من قام به الشرك الأكبر فهو مشرك ترتب عليه آثار ذلك الدنيوية، أنه لا يستغفر له ولا تؤكل ذبيحته ولا يضحى له ونحو ذلك من الأحكام، وأما الحكم عليه بالكفر الظاهر والباطن فهذا موقوف حتى تقام عليه الحجة، فإن لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله جل وعلا.
هذا تحقيق كلام أهل العلم في هذه المسألة وهي مسألة مشهورة دقيقة موسوعة بمسألة العذر بالجهل.
6/ قول العلماء ما هو معلوم من الدين بالضرورة وما ليس معلوما من الدين بالضرورة؟(40/119)
هذا ليس تقسيما لإقامة الحجة هذا تقسيم لما يكفر به المؤمن، يرتد به المسلم من المسائل التي ينكرها، فأهل العلم يقولون إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة فهذا يكفر، أما إذا لم ينكر معلوما من الدين بالضرورة؛ المسائل التي يخفى دليلها فلا بد من التعريف، من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم، هذا يمنع من التكفير، حتى ولو اعتقد إباحتها مثل مثلا الحنفية رحمهم الله يرون إباحة النبيذ أعني متقدميهم يرون إباحة النبيذ، مع أن الدلائل من السنة على تحريمه ظاهرة، مع ذلك أهل العلم لم يكفروهم؛ لأنهم اعتقدوا ذلك، لأنهم كانت لهم شبهة في هذا، فهُم ما أباحوا الحرام الذي يعلمون أنه حرام، وإنما أباحوا ما اعتقدوا أنه حلال، فلم يكفرهم أهل العلم بذلك، كذلك المسائل التي تجدّ في كل عصر من المسائل المختلف فيها، ولو كان هناك قول شاذ أو ضعيف في المسألة فهذه شبهة تدرأ التكفير.
هناك بعض المسائل يكون أصلها معلوم من الدين بالضرورة وأما أفرادها فتكون مختلفا فيها، مثل الربا أصله في القرآن بلا شك، فمن زعم أن الربا مباح فهو كافر بالله جل وعلا، لكن بعض صور الربا بعض أهل العلم يقول هذا من الربا، وآخرون يقولون هذا ليس من الربا، فإذا اختلف الناس يعني من أهل العم في صورة هل هي من الربا أم لا؟ فهذه شبهة تمنع من التكفير، هذا أصل عند أهل السنة نبّه عليه شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع.
7/ بعض الأسئلة ما أفهم المراد منها تماما فأتركها، قال تعالى ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، وقال تعالى ?لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، يستدل بذلك بعض الجماعات بأن الحجة قامت على الناس بإرسال خاتم النبيين والمرسلين، ويستنبطون من ذلك تكفير كل من ارتكب ما يكفره بدون إقامة حجة عليه، فما رأيكم في هذا القول؟(40/120)
هذا أوضحناه مرارا من أنه لا يكفي في إقامة الحجة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل مسألة الناس خالفوا فيها الأصل الذي جاء به عليه الصلاة والسلام، بل مثل ما قلت لكم المسائل تقسم ما يعلم من الدين بالضرورة وما لا يعلم من الدين بالضرورة، المسائل تقسَّم إلى أشياء واضحة جلية تكون إقامة الحجة فيها سهلة، وأخرى تحتاج إلى إقامة حجة تلوى حجة، الذين يكفِّرون الناس بهذا الأمر هؤلاء خارجون عن السنة هؤلاء من جنس الخوارج، بل الخوارج كما هو معلوم لا يزالون يخرجون إلى قيام الساعة حتى يقاتل آخرهم مع الدجال والعياذ بالله، فهؤلاء هم الذين يكفرون الناس بالمعصية أو يكفرون الناس بدون إقامة للحجة بما يبيّنه أهل العلم.
إنما عندهم هوى فيكتفون بأصل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إقامة الحجة.
8/ أيضا في مسألة إقامة الحجة يقول: الذين خالفوا أئمة الدعوة رحمهم الله في فهمهم للحجة هل لم يعلموا قول الأئمة في إقامة الحجة؟
لا، الذين أقيمت عليهم الحجة عُلموا وبينت لهم برسائل خاصة، بمصنفات، بمناظرات أقيمت، بينت لهم الأدلة، وجه الاستدلال، هدي سلف هذه الأمة، بينت لهم الأدلة من الكتاب والسنة بين لهم الهدى أوضح لهم ذلك تماما، فإذا كان عرض لهم شيء من أن ما عندهم من الحجج أظهر، فهذا يكون عقوبة لهم، الحجة أقيمت عليهم، فليس كما ذكرت من الشرط أن تفهم الحجة فهم استجابة، بل يكفي أن تقام الحجة ولو قال لم أفهمها، فهذا ليس مانع من أن يكون أقيمت عليه الحجة، فإقامة الحجة معناها إبانة المسألة بدلائلها الواضحة الخالية عن معارضة واضحة ظاهرة، أما جنس المعارضات مثلا بأحاديث ضعيفة، بأحاديث موضوعة، بأوجه من فعل أهل العلم، بإقرار بعض الناس لبعض بتلك الشركيات وتلك المنكرات فهذه ليست بحجة ترد بها الأدلة.
نختم بهذا وأسأل الله لي ولكم لتوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. ([26])
[المتن](40/121)
(المسألة السابعة عشرة) نسبة باطلهم باطلهم إلى الأنبياء، كقوله ?وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ?[البقرة:102]، وقوله ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا?[آل عمران:67].
(المسألة الثامنة عشرة) تناقضهم في الانتساب ينتسبون إلى إبراهيم مع إظهارهم ترك اتباعه.
(المسألة التاسعة عشرة) قدحهم في بعض الصالحين بفعل بعض المنتسبين إليهم كقدح اليهود في عيسى وقدح اليهود والنصارى في محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(المسألة العشرون) اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين ونسبته إلى الأنبياء كما نسبوه إلى سليمان عليه السلام.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فالمسألة السابعة عشرة من المسائل التي خالف فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية، وأهل الجاهلية المراد بهم كلّ من كان على غير دين الإسلام، سواء كان من المشركين أو من أهل الأديان المحرّفة أو المنسوخة أو من أهل الأديان المبتدعة، هذا تذيكر بما قاله الشيخ في أول الكتاب.
فمن ما كان عليه المشركين من الجاهلية ومن المشركين ومن اليهود والنصارى أنهم كانوا ينسبون باطلَهم إلى الأونبياء، إذا فعلوا فعلا نسبوه إلى الأنبياء ليكون حجة ولتلقى عنهم التبعة.
المشركون؛ مشركوا العرب كانوا ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام ويعتقدون أن كثيرا من الدين الذي هم عليه كان عليه إبراهيم عليه السلام، ويستدلون بذلك على صحته.
وكذلك كان اليهود وكذلك كان النصارى.
قال الله جل وعلا في الصنف الأول ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:120]، وقال ? وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ?([27]).
وقال جل وعلا في إبطال دعوى أولئك ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا?[آل عمران:67].(40/122)
كذلك كان أولئك الجاهليون ينسبون باطلهم وما هم عليه من الضلال الذي لم تأمر به الرسل مطلقا من مثل السحر ينسبونه إلى بعض الأنبياء كما مرّ معنا في نسبتهم ذلك إلى سليمان عليه السلام، قال جل وعلا ?وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ?[البقرة:102]، ولهذا كان السحرة السابقون لبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ينسبون سحرهم وما تعلموه من السحر إلى سليمان عليه السلام، كما قال هنا (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)؛ لأن سليمان عليه السلام لم يأمر بالسحر ولم يرض به، وإنما فعلت الشياطين ما فعلت بأنْ دسَّت كتب السحر تحت كرسيه حتى لما مات أُستخرج ذلك ونُسب لسليمان عليه السلام، قال تعالى (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يعني بما أملوه في الكتب وجعلوه مستورا مركوما ودفن تحت كرسي سليمان ثم استخرج بعد موته.(40/123)
كذلك اليهود والنصارى الجميع يقول إنّ إبراهيم عليه السلام الذي هو إمام الحنفاء ووالد لأنبياء والرسل عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، ينسبون إبراهيم عليه السلام إليهم، فاليهود يقولون إن إبراهيم كان يهوديا، والنصارى يقولون إن إبراهيم كان نصرانيا؛ يعني كان على اعتقاد اليهود المتأخر الذي أُحدث، فاليهود أحدثت اعتقادات، وأحدثوا أنواعا من الباطل، يقولون أن إبراهيم كان على ذلك الاعتقاد الذي وضعه علماؤهم بعد موسى عليه السلام، كذلك النصارى ينسبون إبراهيم الخليل إليهم، وكذلك المشركون، فردّ الله جل وعلا دعوى الجميع بقوله ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[آل عمران:67]، فأبطل دعوى المشركين في نسبة باطلهم إلى إبراهيم، وأبطل دعوى اليهود في نسبة باطلهم إلى إبراهيم، وأبطل دعوى النصارى في نسبة باطلهم إلى إبراهيم عليه السلام.
وهذا الأمر ألا وهو نسبة الباطل إلى الأنبياء لمِا كان عليه أهل الجاهلية هذا كثير في هذه الأمة، ما من دعوى مضِلَّة في هذه الأمة إلا وأصحابها ينسبونها للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من أجمع عليه أنه لا يجوز الإتيان بدين لم يكن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأهل الضلالات والأهواء المختلفة في هذه الأمة كل ينتسب في دينه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -:
الخوارج أول ما خرجت قالت نحن المنتسبون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام لأنهم لم يقيموا الدين الذي جاء به.
وكذلك الرافضة فعلت ذلك، وهكذا كل نحلة تنسب باطلها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون ذلك أقوى لها، وأيضا لأنهم كان عندهم بعض الشبه في ما راموه وما ذهبوا إليه من المسائل.
كذلك المتكلمون والصوفية ونحوهم مما ذكرنا سالفا مرارا في شرح هذه المسائل كل ينتسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.(40/124)
ونسبة الباطل إلى الأنبياء يكون على طريقين:
الطريق الأولى: أن ينسب الباطل إلى الأنبياء بأنهم فعلوه وأنهم اعتقدوه.
والثانية: أن ينسب الباطل إلى الأنبياء يعني إلى أنه من دينهم.
وهذا هو الذي حصل في هذه الأمة فكان بعض هذه الأمة نسب باطله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقادا وفعلا مثل ما فعل طائفة من المتكلمين أكثرهم وأهل البدع في مسائل الاعتقاد نسبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام كان على هذا الاعتقاد، وكذلك أهل التصوف يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام كان على ما يفعلونه، وهذا كان مشهور من بعض أسانيدهم في لبس الخرقة [الشركية] المعروفة بإسناد معروف، فيقولون إن أول من ألبسها هو النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من جنس ذلك الباطل الذي كان عليه أهل الجاهلية في أنهم يبتدعون دينا يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام فعله، وهذا ولا شك مما يروج ذلك الباطل عند الجهلة إذا كان نسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - موسوما بالصلاح أو موسوما بالعلم، هذه الجهة الأولى.
والثانية أنهم ينسبونها إلى النبي عليه الصلاة والسلام استنباطا لم يكن فعله، وهذا أكثر في هذه الأمة فإنه في المسائل التي لم يظهر النص فيها تماما، ويكون عند بعض السلف فيها شبهة في بعض مسائل الصفات والإيمان والقدر ونحو ذلك، ومسائل الأسماء؛ أسماء الكفر البدعة الفسوق وما أشبه ذلك، والأحكام والوعد والوعيد ونحو ذلك، هذه ينسبونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - استنباطا، لا يقولون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا نصا أو اعتقد هذا نصا، لكن يقولون هذا يستنبط من فعله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه.
فطائفة من ضلال هذه الأمة ينسبون باطلهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر الأول وطائفة ينسبون إليه عليه الصلاة والسلام بالأمر الثاني.(40/125)
ولهذا كل أحد في هذه الأمة لا يخرج من الفرق الاثنين والسبعين، فقد لا يخرج في انتسابه للكتاب والسنة، فكل يقول إننا على الكتاب والسنة، وسواء في ذلك ما كان من دينهم صوابا أو ما كان خطأ وضلالا، فالكل يقول نحن ننتسب إلى الكتاب والسنة، ولهذا اعتنى أئمة الإسلام من سلف هذه الأمة بالتنصيص على شيء زائد على اتباع الكتاب والسنة، ألا وهو اتباع سلف هذه الأمة لأنّ نسبة الباطل إلى الأنبياء كثر في الأمة جدا، نسبة الباطل إلى النبي عليه الصلاة والسلام كثر في هذه الأمة جدا، حتى إنه لا يُعجز من كان عنده هوى أن يستخرج من نصوص الكتاب والسنة ما يدل على بدعته وما يؤيد به نحلته، وقد أطنب الشاطبي رحمه الله في الموافقات في ذكر هذه المسألة وكذلك في الاعتصام، وبين أن النصارى احتجوا على المسلمين بخصوص بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، وبين أيضا أن من هذه الأمة من قال إنه لم يرد في القرآن تحريم للخمر وذلك لأن الله جل وعلا قال ?فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[المائدة:90] ولم يحرمها تحريما.
وكذلك ما استدل به الخوارج واستدل به المرجئة في مسائل الوعد والوعيد، فالخوارج غلو في التكفير والمرجئة جفوا في النصوص حتى أدخلوا في الإيمان والإسلام من ليس مسلما ولا مؤمنا وأخرجوا العمل عنه.(40/126)
كلٌّ يأخذ من نصوص الكتاب والسنة ما يدل على بدعته، وذلك لأن الله جل وعلا ابتلى الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام وبفهم الدين الذي جاء به الذي لا .... ([28])، فنصوص الكتاب والسنة قد يكون بعضها يشتبه على من لم يكن من الراسخين في العلم، بل قد يشتبه على كثير من طلبة العلم، فابتلى الناس جل وعلا باتباع النبي عليه الصلاة والسلام فهو الموضح للشريعة، ولما كان أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام لبيان القرآن ليست مبنية بكاملها، بل قد يكون من يُبيّن منها الآيات وكان في حديثه عليه الصلاة والسلام ما فيه نوع اشتباه، احتجاج الناس إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيان الدين الحق وفي بيان ما يضاده، وهكذا يحتاج الناس إلى أهل العلم، فإن الله جل وعلا قال ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، وتلك المتشابهات تشتبه على بعض الناس دون بعض، فإذا كان هناك في كلام الله ما هو مشتبه لا يفهمه كثير من الناس، وما اشتبه على طائفة يعني الذي اشتبه على طائفة من أهل العلم فكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أولى أن يكون فيه اشتباه، وهذا حصل بالفعل، فالأحاديث قد يكون بينها تعارض، بينها اختلاف، أحاديث فيها رجاء، وأخرى فيها تخويف، أحاديث فيها وعد وأخرى فيها وعيد، وأهل العلم هم الذين يحملون بعض الكلام على بعض، يجعلون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام بعضها يفسر بعضا، من أهل الأهواء نسبوا أباطيلهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام من جرّاء الاستدلال بالمتشابهات، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» (فاحذروهم) لم؟ لأنهم اختلفوا في الكتاب واستدلوا بالمتشابه منه، وهكذا استدل من استدل بآيات من الكتاب، وأحاديث من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم(40/127)
- تأييدا لباطلهم، فكل من أهل الأهواء في هذه الأمة يستدل على باطله بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بما قاله عليه الصلاة والسلام أو ببعض نصوص الكتاب، ولهذا احتاجت الأمة أعظم حاجة إلى صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكي يبينوا للناس تلك النصوص، فضلَّ الخوارج أول ما ضلوا في آيات الأسماء وآيات الوعد والوعيد وفي أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسماء وفي الوعد والوعيد، فبيّن الصحابة ما يعنى بذلك، فضلوا في بيان مسألة الحكم بغير ما أنزل فكفروا بها، والصحابة رضوان الله عليهم بينوا لهم الصواب في ذلك.
وهكذا لم يزل الناس محتاجون إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيانه، لهذا كان أئمة الإسلام ينتسبون إلى الجماعة، ينتسبون إلى السنة والجماعة، ولا يكتفون بنسبتهم إلى السنة؛ لأن النسبة إلى السنة يدخل فيها كثير من أهل البدع في مقابلة الرافضة، وأما السنة والجماعة فإنها تلخص الطريق الذي يكون أتباعه ويكون معتقدوه على طريقة الصحابة وعلى طريقة الجماعة قبل أن تظهر الأهواء وقبل أن تفسد العقول والقلوب.
كذلك احتاج إلى أسماء يُميّزهم منها الانتساب إلى السلف، إلى الأثر إلى الجماعة، إلى الحديث ونحو ذلك، مما يميز أهل الحق من غيرهم من أهل الأهواء، وتجد في عصور هذه الأمة في كل القرون المتقدمة لا يعزب أحد أن ينسب شيئا من باطله إلى الكتاب والسنة، بل قد يجد من نصوص أهل العلم ما يدل لباطلهم، فيكون نسب باطله إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلى بعض أئمة أهل العلم، وأهل السنة يقولون إذا كان في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو مشتبه، فكذلك يكون في كلام أهل العلم ما هو مشتبه، لا يفهمه إلا أهل العلم الراسخون، فإذا كان من الناس من ليس بذي رسوخ في العلم، ربما يجد في نصوص أهل العلم ما لا يتضح المراد منه حتى نصوص أئمة أهل السنة والجماعة.(40/128)
ولهذا يحتاج في فهمه إلى عرضه على أهل العلم، إلى عرضه على كلامه في مواضع أخر من كلام ذلك العالم، إلى عرضه على نصوص الكتاب والسنة، وهذا لا يكون إلا من أهل العلم.
فإذن الكلام المشتبه المشتبه قد يوجد في كلام أهل العلم بمعنى يشتبه معناه، لا يتضح المراد منه، قد يوجد هذا في كلام أهل العلم، بل إنه موجود وكثير.
لهذا اعتنى أئمة الإسلام أئمة أهل السنة والجماعة ببيان الأصول التي من خالفها فقد خالف النبي عليه الصلاة والسلام وخالف صحابته، أصول مجمع عليها وهي التي سمّوها معتقد أهل السنة والجماعة العقيدة السنة يعني العقيدة، الشريعة يعني العقيدة، ونحو ذلك، فصنفوا مصنفات في ذلك، التي تزيل أي باطل نُسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو إلى بعض المتقدمة.
وهكذا تجدون في كل زمان بحاجة؛ بل في أشد الحاجة لأن تكون النسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وإلى صحابته ونزيد إلى أئمة أهل السنة والجماعة، لم؟ لأن بعض كلمات الصحابة قد لا تكون وافية منقولة إلينا في كل المسائل فنحتاج إلى فهم أئمة أهل السنة والجماعة لفهم كلام الله، كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كلام صحابة النبي عليه الصلاة والسلام.
وبهذا يتضح الطريق النهج الصواب، وتبطل به طرق الضلالات المختلفة.
فإذن ما يُتخلق به من هذه الخصلة من خصال أهل الجاهلية. أن يُلتزم طريق السنة والجماعة وطريق أئمة الإسلام.
فإذن عندنا الكتاب والسنة، واتباع سلف هذه الأمة، ألا وهو صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان، والإقتداء بأئمة أهل السنة والجماعة الذين هم على النهج الذي لا اشتباه معه ولا يخرج عنه إلا صاحب خطأ أو صاحب هوى.(40/129)
المسألة الثامنة عشرة وهي أنّ أهل الجاهلية يتناقضون في الانتساب، فينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام مع مخالفتهم لدينه، وذلك كثير في اليهود والنصارى وفي الجميع، في جميع من تبع الأنبياء هم متناقضون من جهة أنهم ينتسبون نسبة نبي من الأنبياء وإلى رسول، وهم يخالفون ما أمر به وجاء به.
وقد أوضحنا في كتاب فضل الإسلام هذه المسألة بتفصيل، وذلك أنّ إمام الدعوة رحمه الله عقد لها باب في باب ما جاء عن الخروج عن دعوى الإسلام وأن المنتسب إلى الحق والهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام بل إلى الإسلام هذا يلزمه أن يكون انتسابه صحيحا، وإلاّ لكان دعوى؛ لكان تناقضا، مثل ما قال الشيخ هنا.
فإذن إذا كان الانتساب إلى الكتاب والسنة وإلى ما كان عليه سلف هذه الأمة ثم خالف ذلك في غير شبهة وغير تأويل فإنه يكون قد تناقض في ذلك الانتساب، إذا لم يكن هناك شبهة وتأويل في بعض المسائل فإنه يكون تناقض في الانتساب، ينتسب إلى الكتاب والسنة وإلى الصحابة إلى السلف وهو ليس على ذلك النهج يطلب غيره فإن دعوى الانتساب لا تنفعه؛ لأن أهل الجاهلية انتسبوا إلى إبراهيم، وكان ذلك أعظم ما يفخرون به ولم ينفعهم ذلك.
فإذن قول الشيخ هنا (تناقضهم في الانتساب) تنبيه على هذه المسألة المهمة وهي أن المنتسب لا يشرك في مجرد الانتساب، بل يشرك بصحة الانتساب إذا كان انتسابه صحيحا على الدين والهدى الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام فإن ذلك شرف له وهو بذلك محق، أما إذا كان ينتسب وهو يخالف فلا تنفعه تلك النسبة مهما علا صوته بها.(40/130)
وهذا فيه إبطال لما دخل في هذه الأمة من جراء هذا الانتساب، وبيان أن ذلك من جنس ما كان عليه أهل الجاهلية، ينتسبون إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم يخالفونه في أبواب الاعتقاد وفي أبواب العمل والسلوك والأخلاق وغير ذلك، ينتسبون إلى الصحابة وهم يخالفون نهجهم، ينتسبون إلى الكتاب؛ إلى القرآن وهم يخالفون ما جاء في القرآن، وهذا كثير جدا في كل صاحب هوى وبدعة لا يخلو من التناقض؛ لأنه إنما عصم كتابه من التناقض، وعصم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من التناقض، وهكذا، فالأمر المعصوم هو ما دل عليه الكتاب والسنة وما كان عليه صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام أجمعون، هذا هو السالم من التناقض، أما غيره من الطرق فإن صاحبه لابد أن يتناقض، تجده في مسألة يحكم بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف، وأخرى تراه ينقض بعض الشيء ويخرج عنها، وهذا قد تقدم بيانه مرارا فلا مزيد الكلام عليه.
المسألة التاسعة عشرة هي أنهم يقدحون في بعض الصالحين بفعل بعض المنتسبين إليهم، وذلك من مثل ما قدح اليهود في عيسى، ومن مثل ما قدح المنافقون والمشركون في النبي عليه الصلاة والسلام من جرّاء فعل بعض الصحابة ونحو ذلك، وهذا ظاهر بيّن في أنّ صاحب الهوى يتلمّس ما يُبطل به حجة من جاءه بالهدى وما يُضعف به مكانَه، وقد يكون ذلك عن طريق القدح في الأتباع، إذا لم يجد طريقا على صاحب الدعوى؛ على النبي عليه الصلاة والسلام، على أحد من أهل العلم، إذا لم يجد طريقا قدح في الأتباع ليكون قدحه في الأتباع قدحا في المتبوع، وهذا كان في المشركين كما سمعتم، وكان عند اليهود وعند النصارى وعند أصحاب كل النِّحلات؛ لأنّ من أسهل الطرق؛ لأنّ الأتباع ليسوا بمعصومين فلابد أن يحصل منهم غلط، لابد يحصل منهم قصور، فإذا أُبطل الحق بفعل الأتباع صار ذلك نوع هوى، بل هو هوى باطل، وهذا جاء في طوائف في هذه الأمة.(40/131)
من أظهر الأمثلة على ذلك ما فعله بعض الناس من نسبة كثير من الباطل إلى الإمام أحمد رضي الله عنه بفعل بعض الجهلة من أصحابه المتأخرون؛ يعني الذين كانوا بعده بنحو قرن من الزمان، فإن الحنابلة مثلا كانوا بعد زمن الإمام أحمد يعني تلامذة الإمام أحمد كانوا على عقيدته وعلى طريقته في الاعتقاد وفي السلوك، بعد ذلك صار عند طائفة من الحنابلة من عوامهم وبعض طلبة العلم صار عندهم خروج عن طريقة الإمام أحمد في بعض مسائل المعتقد وفي بعض مسائل السلوك يعني معاملة الناس، ومن الأمثلة الظاهرة على ذلك ما فعلوه بالإمام ابن جرير رحمه الله تعالى حيث إنهم سمعوا منه كلمة قالها في مسجده حين الدرس فلحقوه و[غلّقوا] عليه بابه لمخالفته، وهذا لا شك أنه لن يرض عنه أئمة الحنابلة في وقته ولن يرض عنه أهل العلم، لهذا قال ابن كثير رحمه الله حينما ساق هذه الحكاية قال: إنّ هذا من فعل جهال الحنابلة. ومما حصل منهم، من بعض التصرفات منهم، بل بعض الأقوال من التجسيم الذي كان عند بعض الحنابلة وإثبات صفات لم ترد في النصوص الثابتة من مثل القاضي أبي يعلى ونحو ذلك في كتابه ”إبطال تأويلات الصفات“ قدح المعتزلة والأشاعرة والمتكلمون في عقيدة الإمام أحمد لأجل فعل أولئك الأتباع، فلما فعلوا ما فعلوا، قالوا إن عقيدتهم؛ عقيدة الإمام أحمد، بل عقيدة أهل السنة والجماعة أنجبت مثل هذا.(40/132)
لهذا نقول هاهنا إن القاعدة المقررة أنه يُنظر إلى الحق الثابت، ولا ينظر إلى من أخطأ تطبيق ذلك الحق، فإنّ من الناس من يكون يخطئ في تطبيق الحق، فلا ينسب خطؤه إلى ذلك الطريق الحق، مثل بعض المنتسبة إلى طريق السلف أخطأ في بعض المسائل، فلا يجوز أن ينسب ذلك الخطأ إلى طريق السلف إما في الاعتقاد، وإما في السلوك، من جهة، من مثل ما مثلت لك، من تأويل الصفات في إثبات الصفات عن طريق التجسيم حتى نسب لله جل وعلا نحرا وعضدا ومجاري في الحلق ونحو ذلك، مما هو قد اُستدل عليه بعض الأحاديث الموضوعة المكذوبة، وفي السلوك كذلك فإنّ بعض الحنابلة كانت عندهم يعني بعض المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة كان عندهم نوع –كما قال شيخ الإسلام وغيره- استهانة ببعض المسائل لا يُنسب لأهل السنة والجماعة، وإنما ينسب إلى أهل السنة والجماعة ما قرره أوائلهم وبينوه.
أصحاب الهوى يقدحون في الحق؛ في العقيدة بفعل الأتباع، وهذا لا يجوز؛ لأن الحق ينظر إليه من جهة نصوصه لا من جهة أتباعه، لهذا تجد أنّ بعض المغرضين أصحاب الهوى في هذا العصر بل فيما قبله أي من الفوضاويين ومن العقلانيين ومن الفلاسفة يقدحون في صحة نبوة النبي عليه الصلاة والسلام بما حصل من صحابته رضوان الله عليهم بعده من الخلاف، بما حصل منهم من اختلاف، بل إن بعض الناس قدح في إمكان إقامة حكم الله جل وعلا في الأرض عن طريق دولة تقيمه وخلافة، قدح في ذلك؛ لأن هذا لم يكن في الصدر الأول لأن الصحابة اختلفوا وتقاتلوا وتناحروا وهم الصفوة، فكيف يمكن الإقامة مع أن الصفوة لم تستطع عمل ذلك إلا في قريب من عشرين أو ثلاثين عاما، وانتشر بينهم القتل وانتشر بينهم ما هو معروف، فيستدلون بهذا الأمر الذي نعلم أنه كان عن اجتهاد ..... ([29]) على إبطال صحة هذا الدين وإبطال الحق الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا كثر في مؤلفات في هذا العصر تقدح في الالتزام بالإسلام وفي إمكان تطبيقه.(40/133)
كذلك أصحاب المذاهب؛ أتباع الأئمة الأربعة، فإنه قد يكون عند بعض الأتباع ما هو من الخطأ، بل ما هو من الإجحاف، بل ما هو من الضلال، قد يكون ذلك إما في مقال، وإما في رأي، وإما في سلوك، ولا يجوز أن ينسب باطل المقلدين إلى أولئك الأئمة، ويُتنقص من شأن الأئمة من مثل الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى والإمام مالك أو الإمام الشافعي أو الإمام أحمد أو نحوهم من الأئمة، لا يجوز أن تنسب تلك الأخطاء التي كانت عند أولئك إلى الأئمة وننتقص بذلك فقه الأئمة وما كانوا عليه، ولهذا ألف شيخ الإسلام رحمه الله رسالته المعروفة ”رفع الملام عن الأئمة الأعلام“ وهذا شاع في هذا الوقت في بعض المؤلفات التي رأيتها، واستدلوا فيها على بطلان أو على القدح في بعض الأئمة ببعض أقوال المتأخرين منهم أصحابهم، ولاشك أنّ هذا من جنس فِعل أهل الجاهلية لأنهم يقدحون في بعض الصالحين بما ظهر في الأتباع.
كذلك بعض أئمة السلوك من ينسب إليهم المتصوفة مثل عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى ونحوه من الصالحين المعروفين بملازمة السنة كالجنيد وأضرابهم، هؤلاء أتباعهم أنشؤوا طرقا وضلالات ونسبوها إلى أولئك الأئمة أو إلى أولئك الصالحين، لا يجوز لأحد أن يتنقص أحد من أولئك الذين عُلم صلاحهم وعُلم متابعتهم من جرّاء فعل هؤلاء المتأخرين، ولهذا يشارك من فعل مثل هذا الفعل يشارك أهل الجاهلية.(40/134)
بعض الوهابيين -كما يقال- في بعض الأمصار اليوم عندهم طريقة في الدعوة ليست الطريقة التي كان عليها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى من أنهم أول ما يبدؤون في دعوتهم يتنقصون أولئك الذين يقال لهم أولياء فمثلا إذا وجدوا أن الصوفية متعلقين بفلان من الناس، جاء أولئك الذين هم ينتسبون إلى نصرة السنة المحمدية، وإلى نصرة العقيدة الصحيحة، لكن يخطؤون في الطريق وفي الأسلوب؛ لأنهم يقدحون أول ما يقدحون في ديانة ذلك الميت وفي عقيدته، وهذا لاشك أنه يُحدث عدم قناعة بما يقوله أولئك، يتجاوز هؤلاء حدهم حتى ربما نسب البعض منها إلى الكفر وإلى الضلال وإلى أنهم طواغيت ونحو ذلك وهي مبنية منذ مئات السنين، مرة في هذا المسجد أحد المشايخ من السودان وتذاكرنا في بعض مسائل التوحيد والالتزام بالسنة وإنكار السلف الصوفية والشركيات والبدع ونحو ذلك، فقال في آخر ما قال: إن الطريقة التي يفعلها بعض الناس هناك ليست هي الطريقة تفعلها هاهنا من جهة أنهم أول ما يبدؤوننا به القدح في الأولياء الذين نعظمهم. وهذا لا شك الكلام الذي قاله سمعته من بعضهم، يعني من بعض من ينسب إليهم، وهو صحيح النسبة إليهم وهو خطأ، هؤلاء الصوفية والخرافيين استغلوا ذلك، فنسبوا ذلك الباطل تلك الطريقة الفجّة، تلك الطريقة التي ليست هي الطريقة الشرعية إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وهذا من جنس ما كان عليه أهل الجاهلية في أنهم يتنقصون الأنبياء بفعل بعض المنتسبين إليهم، يتنقص من شابههم في هذه الأمة العلماء بفعل من انتسب إليهم، ولا يجوز أن يفعل ذلك بل يجب على طالب الحق والهدى أن ينظر في كلام ذلك العالم، ولا يقدح فيه بفعل الأتباع، لأننا نجد كثيرا أن من العلماء من يحضر عنده دروس ويستفيد منه وجها من الزمن بعض الناس، وتجد أنه -يعني بعض طلبة العلم- يخالفون المنهج الذي هو عليه من لزوم السنة، فلا يجوز أن يقدح في أحد من أهل العلم(40/135)
بفعل بعض المنتسبين إليه، بل أعظم من ذلك أنه قد قدح في الإسلام بفعل المسلمين، ولا بد هنا أن يكون تباين بين الإسلام والمسلمين؛ لأن المسلمين بفعلهم لا يدلون على الإسلام، فمن أراد أن يعرف الإسلام ولأن يتعلم الإسلام يأخذه من معينه الصافي، ولا ينظر في أفعال أهله لأنه ربما كان في أفعال ما يصد عن الالتزام بالإسلام واعتقاد صحته وأنه ممكن التصديق وأن الالتزام به سهل ميسور، وهكذا،
فهذه المسألة مهمة في أنه لا يتنقص من أحد بفعل بعض الأتباع يعني هذه من خصال أهل الجاهلية، بل يجب أن ينظر إلى ذلك المتبوع ويعرف أحواله، نعرف أحواله، فإن كانت على الحق والهدى أثنينا عليه خيرا وخطّأنا أتباعه فيما راموا إليه، وكما تعلمون أن شيخ الإسلام ابن تيمية شرح كثيرا من كلمات القوم من جنس شرحه لكلمات فتوح الغيب لعبد القادر الجيلاني، ومن جنس ثنائه على عدي الذي تتبعه الطائفة العدوية ونحو ذلك، فنثني على الطالحين إذا ثبت صلاحهم وسلامة اعتقادهم وأما الأتباع فيذمون، وذم المتبوع بفعل التابع هذا نوع وخصلة من خصال أهل الجاهلية.
المسألة الأخيرة من مسائل الجاهلية التي نعرضها هذه الليلة هي أنهم يعتقدون في مخاريق السحرة وينكرون كرامات الأولياء، واعتقاد أن تلك المخاريق أنها من كرامات الصالحين، يقول (العشرون اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهما من كرامات الصالحين ونسبته إلى الأنبياء كما نسبوه إلى سليمان عليه السلام)
سليمان عليه السلام سُخِّرت له الجن والطير وسخرت له الريح، وسخرت له أشياء كثيرة، السحرة فعلوا بعض الأشياء، فأهل الجاهلية ظنوا أن مخاريق السحرة من جنس كرامات الأولياء، فنُسب فعل السحرة إلى سليمان عليه السلام، نُسب فعل أهل الخوارق والشعوذة إلى الأنبياء، بل جعلوها من الكرامات؛ يعني جعلوا أولئك السحرة وأولئك المشعوذين وأشباههم جعلوهم من الصالحين؛ من الأولياء الذين تعطى لهم الكرامة:(40/136)
ولنبين هذا نقول إن المخاريق والخوارق على ثلاثة أقسام:
1. خوارق أعطاها الله جل وعلا للأنبياء.
2. وخوارق أعطاها الله جل وعلا للأولياء.
3. وخوارق جرت على يد الفسقة والكفار ومن خرج عن طريق الأنبياء.
فالأولى ألا وهي المخاريق التي جرت على يد الأنبياء هذه هي التي تسمى آيات وبراهين وبينات ومعجزات للأنبياء.
والثانية هي التي تسمى كرامات الأولياء.
والثالثة هي التي تسمى أحوال شيطانية وشعوذة ودجل وسحر.
ولهذا أهل السنة والجماعة يؤمنون بكرامات الأولياء، كما قالوا في عقائدهم: ونؤمن بكرامات الأولياء. فأولئك ينسبون مخاريق السحرة...([30])
والكرامة هي: أمر خارق العادة في علم أو تأثير طرأ على يدي ولي.
أمر خارق للعادة –هذا أولا-، في علم أو تأثير هذا بيان النوع، جرى على يدي ولي.
والولي عند أهل السنة والجماعة في الاصطلاح هو كل مؤمن تقي ليس بنبي.
فإذن ما يجري من الخوارق على الذي ليس بمؤمن تقي ظاهرا لمتابعته للسنة والتزامه؛ تحليله الحلال وتحريمه الحرام والمحافظة على الواجبات والانتهاء على المحرمات، ما جرى على أيدي هؤلاء يعني من كان مؤمنا تقيا سميناه كرامة، وأما من لم يكن على هذا الوصف، قد يكون في حقه كرامة وقد يكون حالا شيطانية، وأما إذا كان على ضد ذلك ممن كان من أهل المعاصي والبدع والفسوق والشركيات ونحو ذلك فهذا لاشك أن ما يحصل له أنه من قبيل المخاريق و الأحوال الشيطانية؛ لأن الكرامة نعمة يعطيها الله جل وعلا أولياءه؛ يعني المؤمنين المتقين، وأما السحرة والمشعوذين أشباههم فإنّ ما يجري على أيديهم من الخوارق إنما هو من الشياطين.(40/137)
هذه الأمة من أجل مشابهتها لمن سلف جرى عل يدي كثير من المنتسبين من هذه الأمة بعض المخاريق الكثيرة؛ من مثل المشي على الماء، دخول النار، من مثل الطيران في الهواء، من مثل سماع الأصوات البعيدة، من مثل إحياء بعض الميتين من الحيوانات ونحوها، ونحو ذلك، فيجري على يدي أولئك المشعوذون أو أولئك الفسقة يجري على أيديهم بعض المخاريق، فانغر بهم الجهال فجعلوا مخاريق السحرة كرامات، وجعلوا أولئك السحرة وأولئك المشعوذين جعلوهم أولياء، وهذه الشعبة من جنس ما كان عند أهل الجاهلية، حيث جعلت طائفة فيهم السحرة والمردة من الشياطين من أتباع سليمان عليه السلام؛ لأنهم فعلوا السحر وكان السحر عندهم من جنس ما يفعله سليمان عليه السلام.
لهذا اشتد نكير السلف على من ظهر منه ذلك.
فقال من قال منهم: إذا رأيت الرجل يسير على الماء أو يطير في الهواء فلا يغرنك حتى تزنه بالكتاب والسنة.
لأن ذلك قد يكون من فعل الشياطين، الشياطين قد تحمل الرجل المشعوذ -ساحر أو نحوه- وتجعله يمشي على الماء أو تجعله يطير في الهواء، ونحو ذلك. كما يجري بطائفة ممن نقلت الأخبار عنهم.
كذلك قد يجعلون الرجل يدخل في النار ولا يضره ذلك.
وقد يجعلون الرجل أو المرأة تمشي على الجمر ولا يضرها ذلك.
قد يجعلونه يدخل في حلقه آلة حادة أو سكين أو نحو ذلك ولا يضره ذلك.
هذا لا يغرنّ من رآه، لم؟ لأنه نجزم بأن تلك المخاريق قد تكون أحوالا شيطانية، وقد تكون من الله جل وعلا يعني كرامة، والضابط يعني الفرق بين هذا وهذا الفرق كما قال حتى تزنه بالكتاب والسنة، فإذا كان الرجل متبع وليس بمبتدع مستقيم صاحب تحليل الحلال وأداء الواجبات وتحريم المحرمات ونحو ذلك، فهذا ما جرى على يديه من كرامات الأولياء، سواء أكان من جهة الكشف والعلم أو من جهة القدرة والتأثير، وأما إذا كان الرجل ليس على ذلك فاسق، فاجر، مشعوذ، مشرك، مبتدع، ونحو ذلك، فهذا ما يجري على يديه نعلم جزما أنه من الخوارق.(40/138)
طائفة اليوم من أصحاب الطرق يجعلون من علامات الكرامات وصحة الطريقة التي ينتسبون إليها، الدخول في النار كما يفعله الرفاعية من المتصوفة، من دلائل صحة طريقة أحمد الرفاعي عندهم أن أتباعه يدخلون في النار ويمشون فيها ولا تحرق شيئا منه ولا تضره، منهم من يكون صالحا فيكون ذلك كرامة له، ومنهم وهم الأكثرن من يكون ذلك من جهة الشياطين؛ يعني تكون النار من فعل الشيطان ليس نار على الحقيقة ويدخل هذا ويعبر بسرعة ولا يضره ذلك بمساعدة الشيطان له في ذلك.
والذين يعرفون أحوال الصوفية والغلاة يعرفون هذه المسألة بوضوح، وأن من هذه الأمة من جعلوا من هو مشعوذ، فاسق، فاجر، مبتدع، مشرك، من جعلوه في مقام الأولياء، يجعل في مصاف عباد الله الصالحين، الدليل هو جريان تلك المخاريق على أيديهم، وتلك المخارق ليست بدليل؛ لأنها قد تكون أحوالا شيطانية، إذا كانت، بل هي أحوال شيطانية إذا كانت لأصحاب البدع، والفسوق، والفجور.
نكتفي بهذا القدر من بيان هذه المسائل، وننبه إلى أنه الأسبوع القادم إن شاء الله نستسمحكم في الدرس الأسبوع القادم مثل هذه الليلة ليس عندنا درس إن شاء الله تعالى، وفيما بعد نكمل إن شاء الله، هذا ونختم بالصلاة والسلام على من هدى إلى الخير وعلم وأرشد.
[الأسئلة]
1/ قول من قال إن طريقة أهل السنة والجماعة ومعتقدهم، ما الفرق بينه وبين من يقول نحن على طريقة السلف، حيث إنه في هذا الزمان كلٌّ يقول نحن على مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يقولون على طريقة السلف، ما حكم القولين؛ الأول والثاني؟(40/139)
أهل السنة والجماعة لفظ من الألفاظ الشرعية التي هي من جنس لفظ الإسلام، والأصل أنه لا يجوز الخروج عن دعوى الإسلام والتسمية بغيره؛ لأن الله جل وعلا قال ?هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78]، وفي هذا تسمية متبعي النبي عليه الصلاة والسلام التي سماهم الله جل وعلا بها أنهم المسلمون، مما سمى الله جل وعلا به أهل الإيمان أنهم مؤمنون، كذلك جاءت تسميتهم في بعض نصوص السنة أنهم أهل الجماعة «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعلكم بسنتي» فمن كان على ذلك فهو من أهل السنة، كذلك جاء في حديث الافتراق المشهور قوله عليه الصلاة والسلام «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «الجماعة»، فسمي أهل الفرقة الناجية أهل سنة وجماعة وهم السلف الصالح، هم السلف الصالح، التسمية بأهل السنة والجماعة تسمية شرعية، كذلك التسمية بالسلف وأتباع السلف كذلك تسمية شرعية لأنها هي معنى السنة والجماعة.
توسّع الناس في الانتساب إلى أهل السنة والجماعة أكثر، بل توسعوا دون الانتساب إلى السلف، فصار كثير من الطوائف ينتسبون إلى السنة والجماعة، فالأشاعرة يقولون نحن أهل السنة والجماعة، والماتريدية يقولون نحن أهل السنة والجماعة، وهذا غلط منهم؛ لأن الجماعة هي ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام فسّر الفرقة الناجية بأنها الجماعة، وفي رواية أخرى قال «هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»، وهذه أحاديث مشهورة وإن كانت في بعض أسانيدها ضعف.(40/140)
إذن هذا غلط منهم في الانتساب كون يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة هذا غلط؛ لأنهم ليسوا من أهل الجماعة هم من أهل الفرقة؛ لأنهم فارقوا طريق الجماعة الأولى في مسائل الصفات، بل في أعظم من ذلك، ألا وهو تفسير التوحيد في تفسير شهادة أن لا إله إلا الله خالفوا فيها تفسير الصحابة وفي مسائل الصفات في القدر وفي الإيمان وفي مسائل كثيرة إذن فانتسابهم خطأ، لهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة كثيرا ما ينتسبون إلى الأثر وإلى الحديث إلى السلف لأنهم يخرجون بذلك عن الدائرة الأوسع التي أدخل بعض أهل البدع أنفسهم فيها.
فإذن راية أهل السنة والجماعة بالأصل رفْعها راية صحيحة لأن الجماعة حق لكن الماتريدية والأشاعرة يرضون براية أهل السنة والجماعة، لكنهم إذا قلت لهم على طريقة السلف خالفوا، لهذا نقول في الأصل أن أهل السنة والجماعة هم أهل السلف، لكن إذا كان ثَم التباس في الانتساب نقول الانتساب إلى السلف أخص من الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، فإنه قد يكون الرجل ينتسب إلى السنة والجماعة وإذا أردته أن ينتسب إلى السلف لم ينتسب.
لهذا كان الانتساب إلى السلف أدق لأجل إخراجه لبعض المنتسبين خطأ إلى السنة والجماعة، فمن أطلق لفظ أهل السنة والجماعة يريد بها المعنى الصحيح وهو أنهم المتبعون للسلف كان إطلاقه صحيحا وكلامه صوابا، أما إذا أطلقها ويريد بذلك أنه ليس المطلوب أن يكون على منهج السلف وإنما على منهج أهل السنة والجماعة الذي يشمل الطوائف التي تنتسب إلى ذلك، قلنا إن ذلك خطأ.
فهذا هو تفصيل المقام في هذين اللفظين، وبعض الناس يخطِّئ من ينتسب إلى السلف ويقول أن السلف هم أهل السنة والجماعة مطلقا، وبعضهم يخطّئ من يقول إنّ السلف وأهل السنة والجماعة كلها واحد، والصواب هو التفصيل فإنها بمعنى واحد في الأصل، ولكنها من جهة التفصيل اختلفت، والله أعلم.
2/ هل يحصل للفاسق كرامة، وكيف؟(40/141)
قد يحصل له كرامة بقدر ما عنده من الإيمان، لكن لا يجزم بأنها كرامة، لا يجزم بأنها كرامة، والكرامات لا يعتقد فيها عند أهل السنة والجماعة، وإنما هي نعمة لمن حصلت له يجب عليه أن يشكر الله جل وعلا عليها، لا يعتقد فيمن حصلت له لأنه قد تحصل من بعض ممن ليس بمسدد الإيمان، تحصل له كرامة على قد إيمانه، ولهذا يقول أهل السنة إن كرامات الأولياء لا تبلغ مبلغ معجزات الأنبياء، مع أنها من جنسها في كونها خارق للعادة، لكن معجزات الأنبياء أعظم؛ لأن إيمانهم أعظم؛ ولأن الحاجة لمعجزاتهم أعظم. أما كرامات الأولياء الصالحون المسددون فهي أقل مرتبة، كذلك لمن حصلت له لمن ليس بمؤمن مسدد فاسق يعمل بعض المعاصي، قد تحصل له لكن لا يجزم بأنها كرامة لكن هو إذا علم ذلك من نفسه فإنه يشكر الله جل وعلا عليها ويستقيم على الطريق.
نقول الإيمان والتقوى تتفاضل، لهذا كل من عنده بعض الإيمان وبعض التقوى فإن عنده بعض الوَلاية، الولي ليس هو المؤمن الكامل المتقي الكامل، بل كل مؤمن تقي له نصيب من الوَلاية من ولاية الله له بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى.
3/ يقول: هل من يحذّر من التقليد والتمذهب لما آل إليه الأمر من التعصب، هل المحذر يقع في مشابهة أهل الجاهلية؟
الله أعلم هل يقع في المتبعة أم لا، لكن الذي يحذر منه أهل العلم يحذر من التعصب، ومن التقليد الذي فيه ظهور الحجة ومخالفة ذلك، أما جنس التقليد والتمذهب فلا ينكر، وأما التعصب لذلك بمعنى تقديم قول إمام على ما ظهر من نصوص الكتاب والسنة هذا الذي يذم وهو الذي جاء كلام أهل العلم كثيرا في إبطاله.
4/ يقول: ما صحة قول القائل أساس الإسلام: أربعة عقيدة وشريعة ومنهاج وأخلاق، وهو قول منتشر جدا ويستدل له بقوله تعالى ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]؟(40/142)
التقاسيم التي تقسم فيها الأشياء هذه ينظر فيها المقسم إلى جهات، فينبغي للمنتخب لقوله أن ينظر إلى الجهة التي لأجلها قسّم، لأن التقسيمات باعتبارات, تارة يقسم من جهة ما واعية شيئا ما, ويقسم الآخر من جهة أخرى, ولهذا أصحاب التقاسيم ينبغي لمن ينظر في تقاسيمهم أن ينظر إليها من جهة ما هو الاعتبار الذي رعاه في ذلك التقسيم، فإن نقسم مثلا الشرك إلى أكبر وأصغر باعتبار, ونقسم الشرك باعتبار آخر إلى ظاهر جلي, ونقسم الشرك باعتبار ثالث إلى أكبر وأصغر وخفي، وكل من هذه التقسيمات قال به طائفة من أهل العلم، فكل التقسيمات صحيحة، لكن ما الذي رعاه صاحب التقسيم الأول؟ ما الذي رعاه صاحب التقسيم الثاني؟ ما الذي رعاه صاحب التقسيم الثالث؟ هذا الذي يجب على الناظر أن يرعاه؛ لأنه إذا فهم ذلك فهم وجه التقسيم.
لهذا نقول إن من قسم هذا التقسيم عقيدة وشريعة ومنهاج وأخلاق، هذا ينظر في الأمر الذي رعاه.
فإن كان التقسيم فنيّ يعني من جهة أنه جعل العقيدة بمعنى ما يعتقد. والمنهاج ما ينهج؛ ما يصار عليه مسائل السلوك مسائل الأمر والنهي، الدعوة ونحو ذلك. الشريعة بمعنى الأحكام. الأخلاق بمعنى السلوك، فهذا تقسيم صحيح.(40/143)
وإن أراد بالتقسيم أن المنهاج لا يمكن أن يدخل في العقيدة، أو العقيدة لا تدخل في المنهاج، أو الأخلاق لا تدخل في الشريعة، والأخلاق لا تدخل في العقيدة فهذا غلط؛ لأن العقيدة، عقيدة أهل السنة والجماعة تشمل المنهاج، تشمل الاعتقاد، تشمل المنهاج يعني أبواب الأمر والنهي والطاعة والإمامة والاعتقاد في الخلافات ونحو ذلك، وتشمل الأخلاق، والعقيدة شيخ الإسلام في الواسطية ذكر فيها هذه الثلاثة أشياء، ذكر فيها أولا الاعتقاد وذكر المنهاج بعده، وذكر الأخلاق، مثل ما قال: وأهل السنة والجماعة يأمرون بمكارم الأخلاق ومعاليها وينهون عن قبيح الأخلاق وسفسافها، إذا كان كذلك فهذا القول بهذا الاعتبار الثاني يكون خطأ إذا أراد إخراج الأخلاق من العقيدة والمنهاج من العقيدة هذا غلط.
كذلك تقسيم الشريعة والعقيدة أهل السنة سموا كتب الاعتقاد سموها شريعة مثل ما فعل الآجري، سمى كتابه في الاعتقاد الشريعة، فإذن هذه الألفاظ هي مترادفة من جهة ما، بعضها يدل على بعض، لكن قد يفصل إذا كان التقسيم يريد الإيضاح، أما إذا كان يريد أن كل لفظ يخالف الآخر فهذا لاشك أنه خطأ.
5/ هذا يقول: ما هي الأدلة التي تقوم عليها تكوين الجماعات الخاصة، ثم إذا قامت جماعة تركز على تقسيم معين في الأمة فهل ينطبق عليها اسم الجماعة الخاصة ؟ وهل يصح أن نقول إن الجماعات يكمل بعضها بعضا؟
أولا في الدولة الإسلامية لا يجوز أن تقوم جماعة سرية، كأصل عند أهل السنة، لا يجوز أن تقوم جماعة سرية لها أهداف خاصة سرية؛ لأن هذا فيه افتئات على الإمام.
من جهة أخرى فإن أهل السنة والجماعة يُقرون بالجماعة بمعنى التجمع؛ التجمع للدعوة، للخير، للأمر والنهي، وللهدى والصلاح، تجمعا مشروعا يكون فيه تطاوع وليس فيه طاعة، ويكون فيه ائتلاف ولا يكون فيه أمر ونهي، يكون فيه نظام وليس فيه تنظيم، وهذه هي أصول دعوة كل من تجمّع من أهل السنة والجماعة في قديم الزمان وفي الحديث.(40/144)
شيخ الإسلام ابن تيمية يتكلم عن الجماعة في كثير من المواضع ويعني بها التجمع المشروع، ألا وهو ما كان أصحابه بينهم يتطاوعون، وهذا هو الذي جاء في النص لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل معاذا وصاحبه إلى اليمن فقال له «تطاوعا ولا تختلفا» فكان هذا أصلا لكل من اجتمعوا على الدعوة أن يكون بينهم تطاوع، أما الطاعة بمعنى أن يكون التابع مطيعا لمن فوقع طاعة المأمور للأمير فهذا لا يجوز في دولة الإسلام، لأن هذه طاعة خاصة لم تأتِ النصوص بها، وإنما جاء في النصوص بالطاعة في السفر لأجل الحاجة إلى ذلك، أما في الحضر والإقامة فإذا كان ولي الأمر الشرعي قائم موجود مسلم والبيعة له منعقدة فلا يجوز أن تكون طاعة مستقلة في الحضر دون طاعته، لكن يكون هناك تطاوع كذلك من جهة التنظيم يعني بعض الجماعات تتجمع على تنظيم، وهؤلاء كما رأيت في بعض مؤلفاتهم يستدلون بمقالات شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، هم لم يفهموا فإن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر نظاما وما يعنى به النظام ولم يذكر التنظيم لأن التنظيم هذا حادث، التنظيم بمعنى تكوين رأس للحزب يطاع ومن تحته تبلغ لهم الأشياء كما يحصل من طاعة الإمام هذا لا شك أنه لا يجوز ولا يدل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ولا على غيره.
إذن تحقيق القول في هذه المسألة وهي تكوين الجماعة الخاصة أنه يجوز أن تكوّن الجماعة بمعنى التجمع على الخير والهدى اثنين، ثلاثة، أربعة، عشرة، نتواصى ونتآخى، نقرأ، ننصح، نذهب إلى فلان ندعوا ونحو ذلك، لكن بيننا تطاوع وليس بيننا طاعة، بيننا نظام وليس عندنا تنظيم، وهذه هي أصول الدعوة الناجحة، وما عداها فهي دعوات تشابه دعوات الخارجين عن مسمى الإسلام.
[هنا سئل على الدول غير الإسلامية سؤال صوته غير واضح فأجاب](40/145)
محل اجتهاد إذا كانت غير إسلامية يجوز أن يكون ذلك لكن ليس على شكل حزبي، يجوز أن يقوم تجمع فيه أمر ونهي ونحو ذلك فيما بينهم، ولكن ليس على شكل حزبي كالمعروف عند الأحزاب الشيوعية ونحوها.
على كل حال في دولة غير دولة الإسلام محل اجتهاد لأنه يختلف على حسب الدولة والوضع فيها، فهي محل اجتهاد لا يطلق القول فيها.
6/ يقول: يقدح بعض طلبة العلم ببعض الجماعات للنظر إلى أخطاء أتباعها لا بالنظر إلى مناهجها فهل هذا من الإنصاف ؟
الجواب: أن هذا من جنس فعل أهل الجاهلية إذا كان يقدح في جماعة ما أو بفئة ما بفعل بعض الأتباع دون النظر في المنهج، دون النظر فيما هم عليه، هذا من جنس فعل أهل الجاهلية لكن شك أن هذا مذموم والواجب النظر في الأصل المنهاج، في المناهج فإذا كان صوابا كان من اتبع تلك المناهج وخالف فيها يكون هو المخطئ وإن كانت تلك خطأ كان التابع والمتبوع على غير هدى.
7/ هذا آخر سؤال، يقول: هناك من يقول المخاريق أربعة أقسام :
المعجزة للأنبياء.
والكرامة للأولياء.
والأحوال الشيطانية للسحرة والمشعوذين.
والرابعة الفراسة للأذكياء؟
الجواب: أما الفِراسة عند أهل السنة والجماعة من جنس الكرامات، كرامات الأولياء فهي داخلة تحتها، لهذا يذكرون أبواب الفِراسة الإيمانية وأنواع الفراسة الثلاثة يذكرونها تحت أبواب كرامات الأولياء، فهي عندهم ليست قسما رابعا وإنما هي من أقسام الكرامات.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع والهدى والسداد، وصلى الله على سيدنا محمد([31])
[المتن]
(المسألة الرابعة والعشرون) ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء تكبرا وأنفة فأنزل الله تعالى ?وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ?[الأنعام:52] الآيات.
(المسألة الخامسة والعشرون) الاستدلال له على بطلانه بسبق الضعفاء كقوله ?لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ?[الأحقاف:11].(40/146)
(المسألة السادسة والعشرون) تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
(المسألة السابعة والعشرون) تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله كقوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?[البقرة:79]الآية.
(المسألة الثامنة والعشرون) أنهم لا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم كقوله ?قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا?[البقرة:91]
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا وعينا دامعة.
اللهم اهدنا فيما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك نهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم اجعلنا ممن آمن حق الإيمان واتقى حق التقوى وصدق حق التصديق.
اللهم اجعلنا من الذين يتعلمون العلم ابتغاء وجهك ويطلبون به ما عند إنك ولي ذلك وإنك مسؤول.
اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين فيما تقلبنا وأينما توجهنا.
أما بعد:
فهذه المسائل من مسائل الجاهلية؛ يعني الخصال التي كان عليها أهل الجاهلية من المسائل المهمة لكثرة الواقعين في ذلك في هذا الزمان ومن قبله، فذكر المسألة الرابعة والعشرين قال (المسألة الرابعة والعشرون -يعني من خصال أهل الجاهلية ومن مسائلهم- ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء تكبرا وأنفة فأنزل الله جل وعلا قوله ?وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ?[الأنعام:52]) وهذه الخصلة من خصال أهل الجاهلية كانت قائمة في الكبار فيهم من ذوي الجاه, وذي المال، وذي الشرف، وذوي الرئاسة، من كبار جاهلي العرب, ومن كبار الجاهلية في الأمم الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم.(40/147)
فإن المرء إذا كان مقدما مرفوعا إما لأجل جاهه، أو لأجل علمه، أو لأجل عقله في فئته فإنه يدخل إليه الشيطان من هذه الجهة وينفخ فيه حتى يجعله متكبرا على الحق -والعياذ بالله-.
وذكر قول الله جل وعلا (وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، وهذه الآية ذكر المفسرون في سبب نزولها عدة روايات مجملها أن المشركين قالوا لرسول الله :- صلى الله عليه وسلم - اجعل لنا مجلسا تخصُّنا به، لا نجلس مع هؤلاء الأعبد. يعنون: خبابا وبلالا وصهيبا, وذُكر في بعض الروايات وسلمان، ولكن هذا ليس بجيد لأن هذه الآية مكية, مجلسا تخصنا به, اجعل لنا مجلسا تخصنا به, فمالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقلبه وهمّ بذلك، فأنزل الله جل وعلا (وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، وقوله هنا (وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ) يعني ما همَّ به عليه الصلاة والسلام، وإلاّ فهو لم يقع منه طردٌ لهم، وإنما همّ بأن يخص أولئك من بين المؤمنين الذين هم ليسوا كأولئك في الشرف والجاه والرفعة، وكان ذلك من رسول الله عليه الصلاة والسلام طمعا في إسلام أولئك، وأنّ أولئك كبار القدْر، كبار الجاه، ذوو نفوذ وذوو أمر مطاع، فطمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدايتهم، فقبل شرطهم بأن يخصهم ويستنكف ويطرد أولئك النفر المؤمنين الذين ليسوا كأولئك في الجاه والرفعة والرئاسة ونحو ذلك، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية.(40/148)
وهذا الذي ذُكر في سبب النزول، ظاهر منه استدلال الشيخ رحمه الله تعالى، من أنّ أولئك المشركين كانوا يرغبون في استماع الحق وكن منعهم من الحضور إلى مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التكبر عن أن يَشركوا أولئك النفر المؤمنين الذين كانوا إما فقراء وإما موالي، عبيد، أو نحو ذلك، فكرهوا أن يشاركوهم في مجالسهم، وكرهوا أن يحضروا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكون فيه أولئك حتى إنه ذُكر أن بعضهم قال: اجعل لنا مجلسا تعرف به العرب مفضلنا. تعرف به العرب مفضلنا، هذا يدل على ما في داخل صدورهم من التكبر والأنفة, والحق إنما يكون مع الذين يميلون له, لا يكون مع المتكبرين, ولهذا أولئك لا ينفع فيهم مثل هذا، قال جل وعلا?[وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا]([32]) لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنفال:23] يعني أهل الكتاب، لو شاء الله جل وعلا لأسمعهم ولو أسمعهم الحق والهدى كما يَسمعه من ينتفع به، (لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لأنهم يعلمون الحق، ولكنهم ينسلخون عنه تكبرا وأنفة، وهذا الذي منع كثيرا من الجاهليين من كبار قريش من الدخول في الإسلام، تعرفون كلمة أبي جهل المشهورة في ذلك، حيث قال: حتى تنازعنا نحن وبني هاشم الشرف، فقالوا فتصدقوا وتصدقنا، ونحروا ونحرنا، وبذلوا وبذلنا حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا منا رسول يأتيه الوحي من السماء وليس منكم أحد، لا والله لا نؤمن به أبدا. هذا يدل على أن أولئك تركوا قبول الحق، ومنعهم الدخول في الحق سبق الضعفاء، منعهم من ذلك أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على أولئك النفر تكبرا منهم وأنفة.
كذلك اليهود، اليهود كان فيهم ذلك وكانوا يخفون الحق، ويقولون كيف نتّبع هذا النبي الأمي فنخسر مالنا ونخسر جاهنا ونخسر ما يبذله لنا ذووا الأموال، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في بيان سبب تبديلهم الكتب وتبديلهم المنزَّل عليهم.(40/149)
هذه الخصلة كما رأيتم، هذه سببها ما يقع في النفوس من التكبر، وهذا دخل ووجد في هذه الأمة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، وُجد في هذه الأمة المنتسبين إلى الإسلام قبل المتمسكين إلى الإسلام، فكثيرا منهم منعه من قبول الحق التكبر والأنفة أنْ كل أولئك الذين سبقوا إليه هم الذين سبقوا وهم الذين تقدموا في الحق ويكون ذلك الكبار تابعين، يكون أولئك الكبار لاحقين، والكبار وذوو الجاه وذوو السمعة وذوو الرئاسة دائما يحبون أن يكونوا هم الذين يتقدمون الناس، هم الذين يسبقون ولو كان سبقهم في غير الحق وفي غير الهدى، فإنّ همتهم لما جعل الله جل وعلا في قلوبهم من الضلال ومن ترك الهدى لو كان ذلك في غير الصواب سلكوه، وهذا ظاهر في كثير من أئمة البدع في الإسلام، فإنهم لم يرذخوا للحق لأنهم يعتقدون أنهم ذووا شرف ذووا رفعة، لما أوتوه من عقول، لما أوتوه من فهم، فكيف يميلون للحق مع أن الذين اتبعوه هم الذين يسمونهم أهل الظاهر ويسمونهم حشوية، ويسمونهم بأسماء متنوعة تؤول جميعا وتجتمع جميعا في أنهم ليسوا بذوي نباهة ولا بذوي عقول.(40/150)
فإذن أولئك الذين كانوا من الكبار في الإسلام من أهل البدع كان كثيرا منهم يعلم الحق ولكنه يصعب عليه أن يتركَه من أجل ما لَه من المنزلة والرفعة، يصعب عليه أن يتركه لذوي عقول ضعيفة عنده، وهذا يجر إلى أنه لا يُقدّم، ولا يكون مرفوعا، ولا يكون مبجلا، ولا يكون متبوعا، ولا تراه في كثير ممن أبتلي بإتباع الناس لهم إذ لم يكن معهم إنصاف، ولم يكن معهم تقوى وخير من الله جل وعلا، فإنه يصدهم الأتباع، يصدهم كثرة من يعظمهم، يصدهم كثرة من يتبعهم على أن يقبلوا الحق، فإن النفس إذا وجدت من يتبعها، إذا وجدت من يعظمها، ثم كان السبيل في قبول الحق والرضوخ له أن يُترك تعظيمه أن يُترك رفعه فإنه يصعب جدا من النفوس أن تقبل ذلك، وهذا كَثُر في الذين ركبوا هواهم في هذه الأمة في أصناف شتى كثيرة، أينما توجهت وجدت ذلك.
فإذن كل من لم يقبل الحق لأجل التكبر والأنفة فإنه لهم نصيب في مشابهة الجاهليين في ذلك، وهذا يدل على أن ترك قبول الحق لأجل سبق الضعفاء أو لأجل تقدمهم أو لأجل أنهم أخص لصاحب الدعوة فإن هذا –والعياذ بالله- من الكبائر، بل قد يكون مخرجا من الملة إذا كان فيه عدم قبول أصل الدين، مثل ما يحصل من كبار علماء المشركين في هذه الأزمان المتأخرة.
ومن الأمثلة في ذلك التي ذكرها بعض من لهم صدارة ولهم رفعة من الذين يسمّون بعلماء هذا الوقت يكونون معظمين من وُجد، ممن هم معظمين للشركيات معظمين للأضرحة والموتى ونحو ذلك، حيث جرى بيني وبينه حديث ومناقشة حول أهل الإسلام والتوحيد والشرك، وهو من كبار علماء بلده، فكان مما قال في بيان حقيقة الأمر، أنه قال هذا سبيل من سبل الرّزق فلا تقطعه عمن يأتي إليه، ثم قال نصه –هو توفي الآن- نعم الذي تقول حق، ولكن التكفير صعب، كون مبتدعة نعم، ولكن كما قال أترك الناس تعيش.(40/151)
وهذا لأنه معظم في طائفته، صعب أن يترك ويسحب منه كل ما اكتسبه في حياته الطويلة، هذا صعب على النفوس خاصة في أنفس كبار السن، يعني من دخل في الكهولة ونحو ذلك، فيصعب عليه نفسيا هذا.
إذا تبين لك ذلك، فإذن نستفيد من هذا أن هذه الخصلة من خصال أهل الجاهلية كثيرة تأملها تجدها في هذه الأمة، في الأغنياء، في ذوي الترف، في الرؤساء، في الملوك، في الأمراء، في نحو ذلك، هذه موجودة فيهم إلا ما شاء الله جل وعلا، فإنهم تراهم يتنقّصون الحق لأجل من اتبعهم ويرفضون الدخول فيه لأجل حال من دخل فيه.(40/152)
أيضا ننبه إلى أن على أهل الدعوة، على الدعاة، على أهل العلم أن يعتنوا بالصفوة الذين أقبلوا على الله جل وعلا، وأن يتركوا الالتفات إلى ذوي الشرف وذوي الرفعة إلا إذا كان أولئك يقطنون مع غيرهم ويقبلون مع غيرهم، أما أن يقبل على أولئك ويترك الذين يريدون وجه الله جل وعلا، فإنّ هذا من الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام قال جل وعلا في سورة الأنعام ?وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ?[الأنعام:52]، نبّه أنهم أهل الإخلاص أهل طمع فيما عند الله جل وعلا لا يريدون إلا وجه الله جل وعلا، وهذا فيه تنبيه إلى أن أولئك الذين همّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد هؤلاء من أجلهم أنهم لا يريدون وجه الله جل وعلا، أنه لهم مقاصد أخر في ذلك، قال جل وعلا ?مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ?[الأنعام:52]، وهذا فيه النهي الشديد عن ذلك، وكذلك قال جل وعلا في سورة الكهف ?وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا?[الكهف:28]، قال المفسرون في قوله (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني تريد التزيّن فدخول أولئك ولمجالسة أولئك.(40/153)
وهذه خصلة نفسية تدخل في قلوب كثيرين، فعلى الدعاة أن يكون همهم إيصال الحق، وإذا كان هناك في إيصال الحق فيه شيء من ترك ما أمرنا الله جل وعلا به رعايةً لخواطر بعض ذوي الشرف وذوي الجاه ونحو ذلك، فلا يقبل الداعية، لا يقبل طالب العلم، لا يقبل العالم بذلك، إلا إذا كان ثَم مصلحة راجحة، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل في المدينة مع رؤساء الوفود، هذا له حال آخر، أما أن يُشترط على صاحب الدعوة أو العالم أن لا يجلس مع أولئك، مع هؤلاء، وأن يكون لهم مجلس مع الخاصة من ذوي الشرف، فهذا هو الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام.
المسألة التي تليها أنهم يستدلون على بطلان ما جاء به النبي يعني على بطلان الحق، يستدلون على بطلانه سبق الضعفاء كقوله ?لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ?[الأحقاف:11]، هذه المسألة مسألة استدلال والمسألة الأولى مسألة طلب، ففي الأولى طلب ذلك وفي الثانية يستدلون على بطلان الحق.
الأولى يريدون سماع الحق ولكنهم طلبوا أن لا يكون معهم أولئك الضعفاء، أولئك الأعبد، أولئك الذين ليسوا من ذوي الجاه ومن ذوي الشرف ومن ذوي الرفعة؛ لأنهم يلحقهم نقص، ويلحقهم شيء من التعيير إذا جلسوا في مجلس فيه أولئك الأعبد والجميع على حد سواء.(40/154)
قال رحمه الله تعالى في هذه المسألة -أعني المسألة الخامسة والعشرون- استدلال على بطلانه يعني على بطلان الحق بسبق الضعفاء، يستدلون على بطلانه بسبق الضعفاء كما قال جل وعلا في سورة الأحقاف ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ?[الأحقاف:11]، قوله هنا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني عن الذين آمنوا (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) اللام هنا بمعنى (عن) يعني وقال الذين كفروا عن الذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه، قال جل وعلا ?وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ?[الأحقاف:11]، فهم استدلوا على بطلان ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام بسبق الضعفاء.
وهذه المسألة غير المسألة التي مرت معنا أنهم يستدلون على بطلانه؛ لأنه إنما أخذه الذين ليس لهم عقول، وليس لهم حظ لما سبق من المسائل، حيث استدل على ذلك بقوله تعالى في سورة هود ?بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27]، وأولئك دخلوا من غير تدبر ومن غير فهم، هنا يستدلون على البطلان بسبق هؤلاء، فهؤلاء كونهم سبقوا وهم أراذلنا وهم من ليسوا بذوي فهم، كونهم سبقوا، هذا دليل على أنه ليس بحق، لأنه لو كان حقا لأخذه ذووا العقول وأخذه ذووا الشرف وأخذه ذووا الفهم من الملأ من الكبار.
هذه المسألة واضحة المعنى، وهي شبيهة بالمسألة التي سلفت من قبل لكن هذه في الاستدلال على البطلان بالسّبق وتلك ليست استدلالا بالسبق وإنما استدلال بحال الضعفاء.
قال (السادسة والعشرون تحرف كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)(40/155)
هذه الخصلة التي هي تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه هي في اليهود في بني إسرائيل، وهذا التحريف للكتاب عي أنهم وجدوا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، صفة واضحة جلية فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفوا أنه هو المدعو، وأنه هو نبي الأميين، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، ?فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ?[البقرة:89]، وكان من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ربعة أكحل العينين جعد الشعر، فسأل اليهودَ المشركون في مكة ما تجدون في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، النبي الأمي الذي يخرج؟ قالوا: نجد صفته في كتابنا أنه طويل أزرق العينين سائل الشعر. أو نحو ذلك، فوصفوه بغير الوصف الذي جاء في التوراة، فحرفوا وهذا معنى قوله أنهم حرفوا كتاب الله من بعد ما عقلوه([33])، يعني من بعد ما عرفوه، من بعد ما فهموه، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى في سورة البقرة ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ [فَرِيقًا]([34]) مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[البقرة:146]، يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعرفون أن ما أنزل إليه حق كما يعرفون أبناءهم لا يلتبس عليهم ذلك، ولكنهم كتموا الحق (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، وهذا ظاهر في معنى تحريفهم لكتاب الله.
هذه الخصلة في اليهود تبعها أنواع من التحاريف وسبقها أنواع من التحريف، أما من يبق فإنهم حرّفوا كتاب الله جل وعلا؛ يعني الذي أنزل عليهم، حرفوا تارة بحذف بعض ما جاء فيه، فإن تحريف التوراة والإنجيل لأهل العلم فيها مذاهب:(40/156)
?منهم من يرى أن التحريف في المعنى دون اللفظ، وأنهم ما حرّفوا التوراة بمعنى أزالوا الألفاظ وتركوا بعضا ومحوا بعضا، وإنما حرفوها من جهة المعنى والتفسير، وإلى هذا المعنى [يرمي] شيخ الإسلام ابن تيمية في سلف له من أهل العلم، يقول إن التحريف إنما هو تحريف المعنى، أما التوراة فإنهم لم يغيروا ألفاظها كما يستدل على ذلك بقصة اليهود بين الذين زنيا، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام «كتاب الله الرجم» وراموا أن يغير حتى أتى عبد الله بن سلام فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها في التوراة، فأتوا بالتوراة فوضعوا أصابعهم على هذا الموضع، فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: مُرْهُ فليرفع يده فإن الآية تحته. فرفع يده فوجدها كما أخبر به عبد الله بن سلام.
هذا نوع من التحريف ليس تحريفا في اللفظ، ولكنه كتم للحق تحريف في المنى وهذا من فعل الأحبار، لهذا كان شيخ الإسلام يرى أن التحريف كان في المعنى.
?وقال آخرون من أهل العلم إن التحريف كان في الألفاظ بزيادة ونقصان وزادوا أشياء وتركوا أشياء وحذفوا أشياء.
?وقال آخرون -وهو القول الصحيح فيما يظهر- أن التحريف الذي حصل في التوراة يجمع الأمرين، منه ما هو تحريف للألفاظ ومنه ما تحريف للمعنى، زادوا في التوراة أشياء من أقوال أهل العلم فيه من أقوال أحبارهم، وزادوا فيها أشياء هي من قبيل التأصيل حتى جعلت من كلام الله، جعلوا فيها قصصا طوالا، جعلوا فيه أخبار هي ليست من أصل التوراة ولكن زادوها؛ زادها علماؤهم حتى جعلت من التوراة، ومنه ما هو تحريف بالمعنى الذي حصل من كتب المتقدمة نوع تحريف، تحريف بالمعنى، تحريف في المعنى بأن يفسر الكلام الذي جاء على غير ما يعلمون تفسيره كما قال ?وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[البقرة:136]، ومنه ما هو تحريف في اللفظ يُزيدون وينقصون، يحذفون، يضعون أشياء زائدة.(40/157)
وهذا يجمع القولين السابقين وهو الظاهر وهو الصواب؛ لأن التحريف بمعنى الحذف واضح موجود، ففي التوراة أشياء وفي الإنجيل أشياء لا يمكن أن تُنسب على أنها منزلة من عند الله جل وعلا، فيها أشياء شركية فيها أشياء فيها الخنى والزنى والعياذ بالله، فيها أشياء لا يصح ولا يجوز أن تنسب لله جل وعلا، كذلك فيها أشياء من كلام علمائهم واضحة، حيث فيها مثلا في التوراة قال موسى وقال فلان، بل فيها نسبة أقوال لمن بعد موسى عليه السلام، وكذلك في الإنجيل، وهذا ظاهر لأنه زِيد فيها ونقص، كذلك تحريف المعنى لأنهم فسروها بغير تفسيرها.
هذا الذي حصل لأولئك من جهة تحريف المعنى وتحريف اللفظ لم يحصل لهذه الأمة في الجهتين وذلك لأن القرآن محفوظ قال جل وعلا ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر:9]، الذكر هو القرآن حفظه الله جل وعلا أن يزاد فيه أو ينقص، حفظه الله جل وعلا من التحريف والتبديل لأنه لا دين بعد دين الإسلام، ولا رسول بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولما كان القرآن محفوظا لم يتطرق إليه تحريف في لفظه، وإنما كان التحريف في تأويله، التحريف في معناه، وهذا هو الذي شابه فيه هذه الأمة اليهود، فإنهم يعلمون أنه من الحق كذا وكذا مما جاء في القرآن وجاءت به السنة، ولكنهم يحرفون ذلك ويصرفونه عن عانيه اللائقة به، وعما دل عليه إلى أقوال أخرى تنصر مذاهبهم، وهذا هو الكثير في هذه الأمة، وكل أهل الأهواء وأهل البدع وأهل الخرافة وأهل الشعوذة يجدون في القرآن ما يستدلون به محرِّفين لمعناه متبعين لما تشابه منه، هذا القدْر شابهوا به اليهود ومن شابههم من أهل الملل.
مثال ذلك ما يكثر عند مؤولة الصفات من نفي ظواهر الآيات التي اشتملت على صفات الله جل وعلا، ويحرفون المعنى إلى معنى آخر مخترع من عند أنفسهم.(40/158)
مثاله عند أول آية في القرآن ?بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ?([35]) تجد أنّ القوم يفسرون (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بما يخرج اشتمالهما على الرحمة، ويقولون إن الرحمة هنا ليست في حق الله جل وعلا حقيقة، وإنما يراد بالرحمة هنا مجاز عن الإلهام, مجاز عن الإحسان, وهذا من أنواع التحريف؛ تحريف المعنى, كذلك يأتون إلى مثل قوله جل وعلا ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?([36]) في آيات، ويقولون إن استوى بمعنى استولى فيزيدون فيه.
ولهذا قال بعض أهل العلم ما أشبه (لام) الجهمي بـ (نون) اليهودي، فإن اليهود قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة أو قالوا حبة في شعرة، والجهمي قيل له قولوا استوى فقال استولى.
ويشابههم من قال بقولهم من أهل العلم من حاول أن يضلل عن معنى الظاهر الذي جاء به نصوص الصفات في القرآن ويصرف ذلك إلى معان أخر، من مثل ما جاء في تفسير الاستواء عند ابن العربي المالكي في كتابه ”عارضة الأحوذي“ حيث قال: إن الاستواء يأتي عند العرب على خمسة عشرة معنى. فساقها، وقال: فنقول للمثبت أي هذه المعاني المراد؟ وهذا غلط, وهو من التحريف؛ تحريف المعنى – والعياذ بالله-؛ لأن استوى في لغة العرب لا تكون إلا بمعنى واحد وهو بمعنى علا وارتفع ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني علوتم عليه وارتفعتم عليه.
وهذا كثير أيضا في أبواب القدر وأبواب الإيمان ونحو ذلك. فالمعتزلة مثلا استدلوا بقول الله جل وعلا ?وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ?[النساء:79]، على أن العبد هو الذي يفعل المعصية و أن الله جل وعلا لا يخلق فعله هذا ويعرضون عن قوله جل وعلا ?[قُلْ]([37]) كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?[النساء:78]، ونحو ذلك.(40/159)
كذلك في أبواب الإيمان بالغيب حرفوا النصوص، ففي القرآن إثبات الميزان، وفي القرآن إثبات الصراط، وفي القرآن إثبات الصحف؛ أن هناك صحف تتطاير ومنهم من يأخذ صحيفته بيمينه ومنهم من يأخذ بشماله، القوم الذين لا يؤمنون بالغيبيات من العقلانيين من المعتزلة ومن شابههم لا يؤمنون بذلك ويحرفونه عن معناه.
كذلك المشركون الذين يؤيدون الشرك والخرافة، فإنهم يأتون إلى دلائل التوحيد التي في القرآن ويحرفونها عن معناها, ويأتون مثلا إلى الآيات التي فيها أنّ المشركين يدعون غير الله جل وعلا ويجعلونها دعوة الأصنام لا غير، ويخصون شرك المشركين لأنهم متبركون في العبادة الأصنام، ويخرجون من ذلك عبادة الأوثان أو عبادة الصالحين، ونحو ذلك مما جاء موضحا في القرآن.
وهذا طفحت به كتبهم واستدلوا من ذلك بدلائل من القرآن ونحو ذلك، يحرفون المعاني، ولهذا يقول أهل السنة: أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم، وأما أهل البدعة فإنما يكتبون ما لهم. يأتون بآية فيكتبونها, يحرفون معناها ويجعلونها لهم، فأما أهل السنة إذا كانت الآية لهم، الحديث لهم استدلوا به وإذا كانت عليهم يعني أنها تُشْكل على ما يستدلون له، فإنهم يكتبونها ويذهبون إلى طلب دفع ذلك الإشكال، إلى طلب رفع تلك الشبهة التي ضربت بتلك الآيات فإن الله جل وعلا جعل كتابه فيه اشتباه إلا على الراسخين من أهل العلم، حتى يتميز أولئك الصفوة الذين هم الراسخون في العلم، فيكتبون مالهم ويكتبون ما عليهم ما يستدل الخصم به عليهم إنصافا منهم، فلا يدخلون في الأدلة التي عليهم يدخلون فيها بتحريف وصرف لها عن معانيها لكي يوافق ما عندهم، بل يأخذون بما دلت عليه ويجيبون عن ذلك بأنهم إنما يرومون الحق، فكل من صرف الدلائل عن ظاهرها وحملها على شيء لا تعرفه العرب من لغاتها فإن ذلك يدخل في مشابهة اليهود الذين حرّفوا الكتاب من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.(40/160)
نقف عند هذا، المسألة السابعة والعشرون تحتاج إلى شيء من التفصيل تصنيف الكتب الباطلة.
وبهذا القدْر كفاية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
1/ (العاشرة) الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهلهم وعدم حفظهم كقولهم بادي الرأي، وهذه المسألة الخامسة والعشرون سببها قد يشتبه، لماذا يستدلون على البطلان بسبق الضعفاء ؟
لأن الضعفاء عندهم قليل فهمهم، قليل حظهم، فتلك المسألة وهي العاشرة أن سبب عدم قناعتهم بأن الضعفاء آمنوا به لأن الضعفاء عندهم قليلي الفهم، قليلوا الحجة، وعديموا الحظ، المسألة الثامنة هي في أنّ الضعفاء اتبعوا، المسألة الثامنة هي في مجرد الاتباع، المسألة العاشرة في عقول الضعفاء، المسألة هذه الخامسة والعشرون بالسبق ثلاث صفات؛ تلك في الاتباع وهذه في فهمهم وعقولهم وهذه في سبقهم وكل واحدة فيها فكل واحدة فيها صفة من الصفات، وليتأمل الشيخ رحمه الله المصنف ما كتب هذه المسائل من قبيل التصور النظري، هو كتبها من الواجهة، أو كما يقال من الميدان؛ لأنه واجه هؤلاء جميعا، فكان يكتب المسألة بعد أن يرى مشابهة هذه الأمة بأهل الجاهلية فيهم، فيراها أمامه فيكتبها، ولهذا ترى أن هذه المسائل بعضها -يعني لو كان هناك مثلا نظر على طريقة المحدَثين بأن المسائل متشابهة تكون بعضها تلو بعض- لكانت هذه المسائل الثامنة والعاشرة والخامسة والعشرون متقاربة واحدة وراء الأخرى، لكن الشيخ رحمه الله تعالى في هذه الرسالة الظاهر من حَالَه من ترتيب الكتاب، أنه يكتبها من واقع المواجهة إذا وجد حالة كتبها من واقع المواجهة وهذت ظاهر إذا تأملته وجدته ظاهرا في حال ترك الشيخ.....
2/ إذا دخل جني في شخص ثم أسلم وتاب وشهد على أن الذي أدخله هو الساحر فلان، هل تقبل شهادته من القاضي؟(40/161)
الجواب: لا، لأن الجن شهادتهم ضعيفة عند أهل العلم لا تقبل، هذا معروف في كتب المصطلح فيه يعقدون له فصلا بأن روايتهم ضعيفة؛ لأنه عند أهل العلم أسانيد فيها جن، وأشهرهم من يقال له شمهروش الجني، فهذا حدث بأحاديث فيها أنه سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذها منه من أخذها من أهل العلم فيكون في بعضها بين العالم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي عاش في القرن الثاني بينه وبينه ثلاثة يكون مثلا اثنين والجني يقول سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعلم أن الجن أعمارهم غير أعمار بني آدم، فرواية الجن عند أهل العلم ضعيفة كذلك.
شهادتهم ضعيفة لا تقبل، لم؟
لأن الشهادة والرواية تحتاج إلى إثبات العدالة، وعدالة الجني لا يمكن أن يثبتها إنسي.
3/ أين ذكر شيخ الإسلام أنّ التحريف في الكتب وقع في المعنى دون اللفظ؟
هذا في كتابه المشهور ”الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح“ من أراد هذه الأقوال بشيء من التفصيل فهي موجودة في إغاثة اللهفان لابن القيم، فقد ذكر فصلا طويلا في التحريف وما وقع والأقوال في ذلك للبخاري أو شيخ الإسلام وقول عدد من أهل العلم. ([38])
4/ فيه بعض طلبة العلم يترفع عن مخالطة العوام، ويقول لا أخالط إلا من فيه خير، هل هذا من التكبر والأنفة؟
يخالط العوام الذين فيهم خير، أما العوام الذين ليس فيهم خير لا يخالطهم، العامي قد يكون في عقيدته وفي استسلامه لله أحسن من بعض المنتسبين, وهذا ظاهر قد يكون عليه بعض مظاهر التقصير أو مظاهر المخالفات لكنه في حقيقة الأمر هي أقوى يقينا وإيمانا –يعني في مسائل إيمان القلوب- من غيره فخالطه العوام لأجل دعوتهم التأثير فيهم ونحو ذلك مطلوبة، لكن مثل ما قال «لا تصاحب إلا مؤمن ولا يأكل طعامك إلا تقي», يحرص المرء على أنه إنما يخالط من ينفعه أو يؤثر عليه.(40/162)
5/ قال: إذا كان معنى كلمة استوى غير معداة بأي حرف معناها علا فكيف يفهم قوله تعالى ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي?([39]) الآية وقول الإمام للمصلين استووا وغير ذلك. نرجوا البيان حفظكم الله؟
الجواب: أن مادة استوى غير مادة سوّى, سوّى هذه مادة واستوى مادة أخرى, فسواه بمعنى أصلحه وعدله، يقول الإمام استووا يعني أصلحوا صفوفكم وعدلوها، بأن لا يكون أحد باديا صدره متقدم, متأخر, ونحو ذلك كذلك قال(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) جعلته مستوى لخلقه, بخلاف قوله تعالى في سورة القصص?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى?[القصص:14]، هذا (اسْتَوَى) بمعنى كمل خلقه واشتد يعني علا خلقه وارتفع على جنس الخلق (بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) فإذا كان جنس خلقه يعني خلق موسى على حال فبلغ أرفع الحال وأعلا الحال.
أما ما ذكر في التسوية في قوله تعالى?فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ?[البقرة:29 ], (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) هذه مادة أخرى بمعنى الإصلاح والتهيئة.
هنا تعرف استوى أصل معناها علا وارتفع, فإذا كانت معداة تقول استوى فلان يعني علا وارتفع، بدون على كذا وإلى كذا، فإذا كان عديت استوى بحرف الجر إلى فيكون استوى ضمن معنى قصد كما في قوله جل وعلا ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ?[البقرة:29]، نعرف أن استوى بمعنى علا وارتفع لا تتعدى بحرف (إلى). فإذا تعدت بحرف (إلى) يكون فعل استوى ضُمِّن معنى قصد وعمد؛ لأنك تقول قصد إلى الشيء وعمد إلى الشيء.(40/163)
والتضمن باب مهم في فهم اللغة وذلك أن التضمن فيه إثبات للمعنى الأول وزيادة المعنى المضمن فقوله تعالى هنا ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ?[البقرة:29]، (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) يعني علا وارتفع وعمد وقصد إلى السماء فسواهن، فيكون معنى الاستواء بالتعدية بـ(إلى) فيه المعنى الأصلي وهو العلو والارتفاع، وفيه المعنى الذي أفادته تعدية الفعل بحرف (إلى) وهو معنى القصد والعمد.
وهذا إذ ذهبت إلى بعض المفسرين ممن يفسرون بتفسير السلف لقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) يقول عمد وقصد، لا يعني هنا أنه أول إنما هو فسره بما تضمنه؛ لأجل ظهور المعنى الأصلي، وهذا ما يفسره بعض أهل العلم بأنه تفسير –يسميه بعضهم –تفسير باللازم أو بالتضمن، وهذا باب شريف لفهم اللغة والقرآن.
إذا عديت بـ(على) صار مع معنى ارتفع وعلا معنى زائد وهو استقر؛ يعني تقول: استقر على الشيء. فيكون قوله تعالى ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني ارتفعت وعلوت واستقررت، فصار فيه هنا زيادة معنى أفاده تعدية الفعل بحرف (على)، وهذا هو الذي ذُكر في قوله تعالى ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?([40]) قال بعضهم علا وارتفع، قال بعض السلف واستقر أيضا لأن هذا هو بادر اللغة.
6/ ما رأيكم وما تنصحون به فيما حدث من تغيير في مناهج التوحيد لمناهج التعليم الابتدائية، مثل نواقض الإسلام والشرك الأصغر وما يتعلق باليهود والنصارى وبعض الفرق الضالة الشيعة والصوفية وغيرها؟(40/164)
هذا التغير في المناهج فيما يتعلق بالتوحيد هذا جاء فيما أفهم من نحو عشرين سنة تقريبا بدأ هذا التغيير، وسببه أن بعض المنتسبين إلى الدعوة والراغبين في دعوة الشاب أو التأثير على النشء أنهم قالوا أن هذه الكتب أي كتب التوحيد مثل العقيدة العامة، ومثل نواقض الإسلام، ومثل ثلاثة الأصول، وكتاب التوحيد ونحوها، أما هذه لا تصلح لهذا الجيل الجديد لأنه حدثت أشياء وتغيرت أمور، ونحاول أن ندخل عليها تجديدا في تغيير بعض المناهج فأول ما نزعوا الواسطية نحن درسنا في المتوسط والثانوي العقيدة الواسطية بشرحها، كذلك كتاب التوحيد بشرحه كان موجودا فغُير بكتاب التوحيد لمحمد قطب وبعض المؤلفات للمعاصرين، وهذه كانت فكرة من بعض الإسلاميين هذا في أصلها، هم الذين فتحوا هذا الباب في المسائل ممن تأثروا ببعض المدارس الدعوية في البلاد.(40/165)
وهذا لا شك أنه سبب فجوة كبيرة وجعل مدخلا لتغيير مناهج العقيدة والتوحيد والدين، مثل ما مرّ من أربع سنوات تقريبا، بلّغنا أحد الإخوان بأنه قد عُمِّم على بعض المدارس المتوسطة أنه لا يُفصَّل في موضوع الربا وإنما يدرس تعريفه وأما تفصيل أنواعه وما يتعلق به فإن هذا لا يفصل للطلاب، لا شك أن هذه المسألة منكرة، لأنّ فهم هذا جزء من الدين موجود في المنهج فما الذي وراء مثل هذا، فمن باب الذكر والخبر، اتصلت ببعض المسؤولين في وزارة المعارف على هذا الأمر فكان جوابهم أن هذا اجتهاد خاص من لجنة تطوير المناهج، اجتهاد خاص منهم، قال لأنّ الطلاب في المتوسط بالتجربة في السنين التي مضت قبل ذلك القرار قال لا يفهمون هذا المعنى، ما يتصورون ربا الفضل وربا النسيئة وكل قرض جر نفعا، صعب تصورهم له بالتجربة في السنين الماضية وقدم بعض الاعتراضات من بعض الأساتذة الطلاب ما فهموا مثل هذا، فيقررون في المناهج أن هذا صعب عليهم، يقول فأصدرنا هذا التوجيه العام بعدم تدريس هذا فظنينا أو ل ما ظنيننا أن المسألة أرفع منكم، فإذا كان أهل العلم يرون أن هذا يُلغى يُلغى، وفعلا في ذلك الحين ألغي ذلك القرار.
المقصود من هذا بعض التغييرات الموجودة في المناهج لها تاريخ، ومنه ما سببه بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية كما يقال وهذا ظاهر -كما ترون الآن- بدأ تصحيح في بعض المناهج التعليمية، ومنه ما سببه لجنة تطوير المناهج في وزارة المناهج، ومنه ما سببه جهات أخرى، فبعض الذين يحملون هذه الأمور يجعلون السبب واحدا وهذا غير واقع.
وإنما بالتأمل وبالمعرفة القريبة اتّضح لي أنها أسباب ثلاث هي التي ذكرت:
منها ما هو سببه الأول وهو بعض الإسلاميين.
ومنه ما هو سببه لجنة تطوير المناهج تأتي باقتراحات وبإنشاءات تأتي بهذا وتحذف هذا.
ومنه ما له أسباب أخر.
توحيد السبب ليس من قبيل معرفة الواقع تماما.(40/166)
7/ إذا كان لي سلطة في بعض معاملة العمال الأجانب أفلا أتسبب في تشهيرهم؟ ما فهمت لكن نذكر جملا في هذا.
وهو أنّ الكفار الموجودين في دار إسلام على قسمين:
منهم من يظهر العداوة للمسلمين، إما بكلمة وإما بفعل أو نحو ذلك، فهذا يجب أن يسعى في تشهيره وذلك أنه ناقض أصلا من أصول، ناقض أصلا وشرطا من شرائط السماح له بالدخول وأيضا لأنه وهو قبل كل شيء لأنه نابذ الإسلام وأظهر العداوة، فهذا يجب أن نظهر له العداوة وأن نسعى في إبعاده عن ديار المسلمين، حتى لا يوقع الشر وحتى لا يظهر في بلاد المسلمين غير رفعة كلمة الله جل وعلا.(40/167)
الصنف الآخر هم الذين لا يقاتلون في الدين لا يظهرون العداوة وإنما هم همهم مصلحتهم، فهؤلاء يعاملون بالعدل، الأصل في هؤلاء أن يعاملوا بالعدل والقسط، كما قال جل وعلا ?يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [إِنَّ]([41]) اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[الممتحنة:8]، فمن لم يعادينا في الدين ولم يُظهر لنا هذه العداوة ويتبين منه ذلك، فهؤلاء يعاملون بالعدل وهو الأصل فيهم كما قال ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ?[النحل:90]، ومنهم من يعامل بالبر كما في هذه الآية (أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) يحسن إليهم يساعدون، لهذا أجاز الفقهاء الصدقة للكافر، الصدقة المطلقة تجوز للكافر؛ يعني الذين لم يبارز في العداوة، والزكاة تجوز للمؤلَّف للكافر الذي يتألف في الإسلام ونحو ذلك، فمعاملتهم، معاملة هؤلاء الذين لم يظهروا العداوة لا يجوز أن يعتدى عليهم ولا أن يبغوا عليهم، ولا أن يظلموا، ولا أن يؤخذ شيئا من حقوقهم، ولا أن يسعى المسلم ضدهم في أمر لا يستحقونه وإنما يعاملهم بالعدل فبالعدل قامت الأرض والسموات، الله جل وعلا أمر بالعدل مع الأعداء قال ?وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:8]، فلو كان كافرا إذ لم يكن يظهر لنا عيبا في الدين لم يظهر عداوة، لم يستهزئ، لم يظهر شيئا مما يكون به معاديا للحق وأهله، للإسلام، للنبي - صلى الله عليه وسلم -، للقرآن ونحو ذلك فإنه يعامل بالعدل، وقد يعامل بالحسن والبر فإذا كان في ذلك مصلحة شرعية، كما أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة اليهودي وأكل من طعامه وأكل من طعامه وكما كان يحسن إلى بعض جيرانه ونحو ذلك مما في ذلك فيه مصلحة للدعوة.(40/168)
فبهذا يتحرر الأمر، فبعض الناس يغلو في هذا الأصل في الولاء والبراء، وبعضهم يجفو ويقصر عنه الذي يغلو يحمل كل الكفار على محمل واحد ممن هم في دار الإسلام، وهذا ليس من حكم الله جل وعلا في شيء، وبعضهم يجفو ويقصر حتى يقع في مودّتهم وفي دعوتهم وفي إقرانهم وفي الاستئناس لهم وفي تقريبهم ونحو ذلك، وكلا الطرفين ذميم، ذاك غالا وهذا جافي مقصر، والصواب هو ما دل عليه كتاب الله وسنة ونبيه عليه الصلاة والسلام.
8/ لا يجوز إدخال مشرك ولا كافر إلى جزيرة العرب يحرم على أي مؤمن أن يدخله أو يتسبب في إدخاله يعني ليكون مقيما بها، أما إذا كان مارا غير مقيم يعني ثلاثة أيام يمر لحاجة لغرض، هذا أذن به عمر به عمر رضي الله عنه أذن لتجار أهل الذمة في كل مكان ثلاثة أيام، يأتوا إلى المدينة فيقيموا بها ثلاثة أيام ويذهبوا إلى مكان آخر ثلاثة أيام، فلا يقيمون بالجزيرة أما الإقامة في الجزيرة واستدعاؤهم ليعملوا ونحو ذلك فهذا محرم لظهور الدلائل في ذلك.
..... [سؤال غير مسموع](40/169)
هذا من الجفاء ما فيه شك، هذا من الموالاة المحرمة قال جل وعلا ?وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ?[هود:113]، أدخل فيها بعض أهل العلم يعني من السلف أدخلوا فيها بري القلم له تقريب الدواة يعني الحبر له ونحو ذلك، لأنه ظالم متعدي منابذ، إذا نابذ الدين وأظهر العداوة فلا يجوز مساعدته، بل يجب إظهار العداوة له كما أظهر لنا العداوة، لكن الشيء إذا لم يكن كذلك إذا كان مسالم في حالة، فكيف تعامله تظلمه تتعدى عليه؟ مثل ما ذكرت لك أن من الناس من يجفو ويوادهم والعياذ بالله ويواليهم مثل ما ذكرت يقربهم ويسكنهم في أفضل المساكن، إذا أتى المسلم ما أكرمه وإذا أتى هذا أكرمه لأجل نظره إليه وليس لأجل مصلحة دنيوية، لكن أجل هذا مثلا أمريكي أو هذا بريطاني وهذا كذا ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه ضال، مثل ما ذكرت هذه من أنواع الموالاة والموالاة هذه محرمة، الموالاة محرمة، فلا يجوز للمسلم أن يلقي المودة للكفار قال جل وعلا ?وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ?[الممتحنة:1].
.......... [سؤال غير مسموع ]
لا، العبيد تختلف أحكامهم.
....... [سؤال غير مسموع، والآية المقصودة هي الآية الأولى من سورة الممتحنة]
لا الصواب أنها غير منسوخة هذا الذي عليه فتوى أهل العلم ممن نعرف وأدركنا والآن المشايخ كالشيخ عبد العزيز بن باز سمعته مرارا يذكر هذا الذي أنا نقلته عنه وهو تلخيص لكلامه ن هذا هو المعروف عند العلماء أن الآية هذه ليست بمنسوخة لأننا في حالة غير الحالات تلك ن وتعرف أن هذه الآية نزولها متأخر، يعني نزول السورة في أي سنة؟ قبل الفتح؛ فتح مكة، يعني نزولها متأخر؛ لأن حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه أسر للمشركين بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصل منه ما حصل ونزلت تلك الايات العظيمة ، والله المستعان.
......... [سؤال غير مسموع](40/170)
هؤلاء الهندوس فيهم بلاء آخر وهو أنهم يظهرون شعار الكفر في ديار المسلمين التي هي لبس العمامة هذه شعار من شعار الكفر، لبسها على هذا النحو كلبس الصليب؛ لأنها شعار من شعار الكفر، وكما أن النصراني لا يجب يعني يأتي واحد راهب لجزيرة العرب أوغيرها يظهر لباس النصارى الخاص بهم مثل لباس الرهبان ونحو ذلك، ما فيه شك أن هذا من المحرمات، وكذلك هؤلاء إذا ذهبت الآن تجدهم والعياذ بالله وهذا من البلاء العام، نسأل الله جل وعلا أن يبسّر التخلص من هؤلاء جميعا.
............ [سؤال غير مسموع]
نحن ذكرنا أنهم يعاملون بالعدل، هذا أصل؛ معاملتهم بالعدل، إذا مرّ المؤمن في الطريق يعني على رجليه ليس في السيارة، هذا له وسط الطريق؛ لأن الدار دراه، والإسلام يعلو ويعلى عليه والكفار لهم جنبات في الطريق، «إذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» يعني لا تفسحوا لهم يعني يمشي المسلم في صدر الطريق ويترك لأولئك جنبات الطريق، مثل الآن واحد ذهب إلى المستشفى فيه مثلا طريق طويل في المستشفى، يأتي مسلم مثلا يمشي في جنب الجدار، هذا لا سيوغ، هذا الذي جاء فيه مثل هذا الحديث أنك تمشي في الوسط وإذا أتى مشرك أو كافر نصراني أو نحوه وتحققت أن هذا مشرك أو نصراني فإنك تضطره إلى أضيقه، بمعنى أنك لا تفسح له تمشي وتتركه هو الذي يذهب إلى أضيق الطريق «تضطره إلى أضيقه» يعني أنك تمشي في وسط الطريق وهو يختار الطريق الضيق، لا تفسح له تعامله كالمسلم، لا يجوز ذلك، وهذا ليس مما ينافي العدل، بل هذا من مقتضى العدل لأن الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه؛ ولأن المسلم أحق بداره؛ ولأنه في دار الإسلام لا يكرم كافر على مسلم، فإذا جعلت له وسط الطريق وأخذت بنيات الطريق فهذا من نوع إكرام له وهذا ينافي العدل لكن إذا أنا أخذت وسط الطريق كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلت أضيق الطريق لذلك المشرك ولذلك الكافر قد امتثلت وأخذت بالعدل.(40/171)
وإذا قال المشرك السلام عليكم كافر يهودي نصراني وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فقولوا وعليك» هذا الحديث أهل العلم له فيه نظران:
النظر الأول: أن يأخذوا بأصل العدل، ويقول أنّ العدل أصل أمر الله جل وعلا به عامة وفي رد التحية خاصة، فقال جل وعلا ?وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا?[النساء:86]، (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) في المسلم أو الكافر أو لأحدهما إذا كان المسلم فأنت بالخيار تحيي بأحسن منها أو تردها أما إذا كان كافر فيقول. أما إذا كان كافر فيقول طائفة من أهل العلم عليك أن تردها كما هي ولهذا يذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فقد فصل في هذه المسألة في كتاب ”أحكام أهل الذمة“ فقال: والكافر إذا قال السلام عليكم فيجب على المسلم أن يرد عليه بالعدل، فيقول وعليكم السلام، يقول إن الحديث الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام إذا قال لكم اليهود السلام عليكم فقولوا وعليكم، قال له سبب لأن اليهود يقولون السام عليكم، فما منع بقوله وعليكم السلام إلا أنّ المؤمن إذا قال وعليكم السلام لم يعامل بالعدل، وإنما عامل بالأحسن لأن ذلك يقول السام يعني الموت وأنت تقول عليكم السلام، فأنت أكرمته ما عاملته بالعدل، إذا قلت وعليكم عاملته بالعدل، وهذا هو ما أمر الله به، قال: فإذا تحققت من كافر أنه قال السلام -واضحة- عليكم، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى تبعا لشيخه شيخ الإسلام، يقول: تقول مجيبا بمثله وعليكم السلام، لأن هذا معاملة بالعدل.
والقول الآخر: لأكثر أهل العلم ويقولون أكثر أهل العلم ويقولون أن ظاهر الحديث وإن كانت العلة ظاهرة في السبب لكنه خرج مخرج الأمر العام؛ فيقولوا وعليكم. تكون العلة وردت لا يكون اقتصار الحكم على هذه العلة.
وهذا هو الصواب، بأنك إذا قابلك النصراني فتقول وعليكم سواء قال السلام أو قال السام.(40/172)
ومشايخنا هنا حفظهم الله تعالى ونفعنا بعلومهم:
منهم من يفتي بظاهر الحديث، وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله يقول تقولوا وعليكم.
ومنهم من يفتي بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهي فتوى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله.
إذن هذه المسألة لا تشكل على أصل المسألة. ومن رام إلى زيادة تفصيل فليرجع إلى كتاب ”أحكام أهل الذمة“ لابن القيم وقد أطنب فيها.
نختم بهذا أسأل الله أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد([42])
[المتن]
(المسألة السابعة والعشرون) تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله كقوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?[البقرة:79]الآية.
(المسألة الثامنة والعشرون) أنهم لا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم كقوله ?قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا?[البقرة:91].
(المسألة التاسعة والعشرون) أنهم مع ذلك لا يعلمون بما تقوله طائفتهم، كما نبه الله تعالى عليه بقوله ?قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[البقرة:91].
(الثلاثون) وهي من عجائب آيات الله أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق، صار كل حزب بما لديهم فرحين.
[الشرح]
المسألة الثلاثون (فرحين) خبر صار الآية ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?([43]) ، هنا فرحين خبر صار، منصوب.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
سننبه أن هذا الدرس هو آخر هذه الدروس لأجل قرب الاختبارات وحاجة الأخوة الطلاب للمراجعة ونحو ذلك، فيستأنف إن شاء الله بعد الإعلان عن ذلك، فيكون بعد الاختبارات أو بعد العطلة الله أعلم لكن نعلن إن شاء الله الاستئناف.(40/173)
هذه المسائل أولها أنّ من ما فعله أهل الجاهلية أنهم صنفوا الكتب الباطلة ونسبوها إلى الله جل وعلا، وذلك التصنيف للكتب الباطلة كان منهم على قسمين:
الأول: أنهم صنفوا في المكتب المنزلة على الله جل وعلا أشياء وزادوها فيها؛ يعني جعلوا الكتب التي أنزل الله جل وعلا, التوراة, والإنجيل جعلوها مزيدة فصنفوا فيها أشياء زادوها ونسبوها إلى ذلك الكتاب المنزل, هذه الأشياء قالوا هي من التوراة ومن الإنجيل، فيصير هذا النوع داخل تحت تحريف الكتب المنزلة من عند الله جل وعلا تحريفا لفظيا, يعني بالزيادة.
القسم الثاني: أنهم صنفوا كتب ليست من الكتب المنزلة ولم يضيفوها إلى الكتب المنزلة، ولكنهم جعلوها من الله جل وعلا لأنها كالشرح لها أو كالبيان أو أضافها المصنفون إلى ما أنزل الله جل وعلا وما أخبر به رسوله، وهذا حصل في اليهود والنصارى.
أما اليهود فكما أخبر الله جل وعلا في قوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?[البقرة:79]، فاليهود من علمائهم وأحبارهم من أضاف في التوراة أشياء, فالتوراة الموجودة اليوم ليست كلها كلام الله جل وعلا، بل فيها مما هو من كلامه مما أوحاه إلى موسى، ومنها وهو الكثير ما هو من ما أضافه علمائهم وأحبارهم، فنسبوا ذلك إلى الله, هذا نوع وقع فيه اليهود.(40/174)
وكذلك وقعوا في النوع الثاني أنهم صنفوا شرحا لنصوص التوراة أو لما جاء به موسى وجعلوا فيه أشياء حللوا فيها حراما وحرموا فيها حلالا وافتروا فيها على الله جل وعلا ونسبوا تلك الكتب إلى الله، وهذه موجودة اليوم عندهم بما يسمونه بالمشنة والزمارة وهي قسما التلمود، وهذا منسوب إلى الله جل وعلا عندهم؛ لأنه من صنيع علماءهم يقدسون ذلك تقديسهم للتوراة، وهذا لعله المراد بقوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا?[البقرة:79]، فهم افتروا على الله جل وعلا حيث أنهم زادوا في التوارة ما ليس منها وافتروا على الله جل وعلا حيث إنهم جعلوا اجتهاداتهم التي ليس لها أصل في شريعتهم ولا في دينهم ولا في عقيدتهم، جعلوها منسوبة إلى الله جل وعلا، وهذه الخصلة عند اليهود والنصارى، لم تكن عند العرب عند مشركي العرب ذلك؛ لأن مشركي العرب أميون ليسوا ممن اعتنوا بالكتابة والقراءة وإنما يسمعون الأخبار، فهذه من الخصال التي وقعوا فيها جاهلي اليهود والنصارى.
وهذه جاءت ودخلت في هذه الأمة بأوسع المداخل، فالكتب التي صنفت في هذه الأمة، وصنفها أناس من هذه الأمة كثير منها كان من القسم الثاني؛ يعني مما حرف فيه الشرع وحرفت فيه العقيدة ونسب ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه دينه وأنه عقيدته وأنه ما يجب أن يلتزمه المسلم.(40/175)
أما القسم الأول وهو تحريف القرآن فهذا لاشك أنه لم يقع؛ لأن الله جل وعلا حفظ هذا القرآن من الزيادة والنقصان، حفظه من أن ينسب إليه شيء وتقرّ ذلك الأمة ويكون هذا بينهم، هذا حفظ القرآن عن أن ينقص منه أو أن يزاد فيه، معلوم أن عند الروافض وبعض الفرق الضالة نسخ من مصاحف لهم يجعلونها مضاهية للقرآن، إما بنسبتها للقرآن كما يسمي الروافض مصحف فاطمة بذلك، ويقولون إن المصحف الموجود اليوم هو ثلث المصحف، وتقول طائفة منهم ثلث ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وآخرون من هذه الأمة أيضا جعلوا لهم كتابا يضاهون به القرآن كما عند الدروز وعند النصيرية فلهم كتب يضاهون بها القرآن وقد وقفت على شيء من تلك الكتب فيها مضاهات للقرآن وتقسيمات وآيات على حد تعبيرهم مسجوعة ونحو ذلك. لكن هذا إنما هو عند بعض تلك الطوائف ليس شائعا وهو يصدق عليه أنهم شابهوا فيه اليهود لأنهم فعلوا مثل ما فعل أولئك، لكن هذا ليس البلاد في الأمة كبيرا به.(40/176)
وإنما البلاء في الأمة كان كبيرا بالقسم الثاني وهو تصنيف الكتب الباطلة كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى ونسبة تلك الكتب على الله جل وعلا، فإذا تأملت وجدتَ أنه لما [ظهر] زمن الابتداع وعلا مناره وقويت شوكته فصنفوا كتبا كثيرة، كان السلف الصالح يأنفون من التصنيف ويبتعدون عن التصنيف قدر الإمكان رغبة في أن يبقى العلم في الصدور، حتى ابتدؤوا في التصنيف بما نقل عن السلف؛ بما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بما نقل عن الصحابة، بما نقل عن التابعين، وكانوا يقتصرون على ذلك رغبة في إبقاء صلة الأمة بما كان عليه سلفها في كلامهم وفي هديهم وفي دلّهم وسمتهم ونحو ذلك، فكان علماء الأمة يصنفون التصانيف بالأسانيد التي تنقل الأخبار والآثار عن الصحابة أو عن التابعين أو عن تبع التابعين، وكان منهم طائفة يعني من سلف هذه الأمة من كان يكره التصنيف كالإمام أحمد ونحوه، بل إن منهم من دفن كتبه رغبة في بقاء الصلة لما كان عليه الصحابة أقوالهم وهديهم واجتهاداتهم ونحو ذلك.(40/177)
احتاج الناس إلى التصانيف، احتاج الناس إلى الكتب، فبدأ أهل العلم بالتصنيف بحسب الحاجة لذلك، ومن أوائل من صنف كتبا مبتدءة الشافعي رحمه الله تعالى لما صنف كتاب الرسالة فيه حجج وفيه دلائل لأصول السلف وأصول أهل السنة يعني في الاستدلال، كذلك صنف الشافعي كتاب الأم لما ذهب إلى مصر, صنف كتاب الأم في الفقه، ويذكر في كل مسألة استنباطه منها، إما –يعني استنباطه فيها كيف استنبط ذلك- إما من قرآن أو من سنة أو من قول صاحب ونحو ذلك، هذه من جهة أهل السنة مقرر لأنهم يصنفون تلك الكتب تفسيرا وشرحا وبيانا لكتاب الله جل وعلا وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه سلف الأمة من أقوال، ما نقل عنهم، وما من أقوال وما نقل عنهم من أفعال وهدي ونحو ذلك، ولهذا يقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله في كتابه تيسير العزيز الحميد: وإنما كتب أهل العلم يُحتاج إليها في بيان معاني الكتاب والسنة وفي الوصول إلى فهم الكتاب والسنة، وإذا كانت لا توصل إلى ذلك فهي مذمومة. فأهل العلم حينما صنفوا الكتب التي هي ليس فيها يعني أسانيد وآثار إنما يرومون بها فقه الكتاب والسنة وفهم نصوص الكتاب والسنة، وصنف الفقهاء كتبهم وأهل العقائد عقائدهم المختصرة وأخلوها من الأدلة لأن تلك مستنبطة من الكتاب والسنة بحسب في الفقه اجتهاد المصنف الذي صنف وفي العقيدة بحسب ما نقل لهم من عقيدة السلف الصالح.
هذا الذي فعله أهل السنة وتتابعوا فيه بتصنيف الكتب هذا محمود ومرغوب فيه لأنه به يُسرت سبل الاستفادة من العلم، وقرب العلم في كل عصر لأهله.(40/178)
ما الذي فعل أهل الضلال؟ صنفوا الكتب الباطلة، صنفوا الكتب التي يذكرون فيها رأيهم، لا يذكرون فيها الأدلة الشرعية، ولا يذكرون ذلك الرأي مستندة على أدلة شرعية، فأول ما صنف أولئك سموا بأهل الرأي، ومنها كتب الآن موجودة مثال ”كتاب الوقف“ لهلال بن مسلم الرأي، مطبوع موجود، فإذا تأملته وجدت أنه أسئلة: أرأيت إن كان كذا فالجواب كذا، مسائل في الوقف كلها من باب طرح المسائل بقوله أرأيت ثم الجواب عليها، وهذا مما اشتد فيه السلف الصالح يعني الأئمة في إنكار تصنيف الكتب على هذا النحو؛ يعني كتب الرأي التي ذُمَّت ما كان على هذا النحو، مثل كتاب هذا الذي ذكرتُ لكم ونحوه من الكتب.
أما كتب الفقه الأخرى فهي إذا كان استنباطها له أصوله وله أدلته فإنها لا تدخل في ذلك الذي نهوا عنه.(40/179)
أما كتب أهل البدع التي صنفوها فإنها كما ذكرت ثم رجعت للكلام على الفقه كما ذكرتُ أنها صنفت ونسبت إلى القرآن، نسبت إلى السنة، فمنهم من صنف تفاسير جعل فيها التجسيم، يجعل عقيدة التجسيم كتفسير مُقَاتِل، تفسيرا للقرآن ففسر القرآن ففي كل آيات الصفات جعلها دالة على التمثيل؛ لأنه يعتقد التجسيم وينسب هذا إلى أنه تفسير للقرآن، هذا من جنس ما شاركت به هذه الأمة شابهت به اليهود، كذلك أهل الاعتزال أهل البدع والضلالات المختلفة من الفرق، المرجئة، القدرية، الجبرية إلى آخره صنفوا كتبا، هذه الكتب كل ينسبها إلى الله جل وعلا؛ يعني إلى دين الإسلام، يقول هذا هو الذي أمر الله جل وعلا باعتقاده هذا هو الذي أمر الله جل وعلا بالإيمان به، فنسبوها إلى الله جل وعلا بالنسبة الثانية؛ أنهم صنفوا وقالوا إن هذا هو الدين والعقيدة والشرع، وهذا لاشك أنه باطل، لِم؟ لأنه لم يذكروا من الدلائل عليه من كلام الله جل وعلا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة ما به يُعلم أن فهم ذلك الذي صنف صحيح، فإنهم ذكروا أشياء مخالفة لما كان عليه سلف هذه الأمة، فيكونون إذن قد خالفوا الأوائل ولما خالفوا صنفوا تلك الكتب ونسبوها إلى الشرع نسبوها إلى الإسلام، فكانوا بذلك مصنفين للكتب الباطلة ومشابهين لليهود ناسبين ذلك إلى الله جل وعلا؛ يعني إلى دينه، كل من كان من أهل البدع ومن أهل الضلال كذلك.(40/180)
حتى وصل الأمر إلى وقت الشيخ الإمام رحمه الله تعالى، فصنفت الكتب التي فيها إبطال للدين الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، صنفت الكتب في بيان أن الاستغاثة بالأموات والالتجاء إليهم أن هذا أمر مطلوب، ونُسب ذلك إلى سلف هذه الأمة، نسب ذلك إلى الأدلة، نسب ذلك إلى الإسلام وقالوا إن هذا هو الحق الذي عليه اعتقاد الفرقة الناجية كما يزعمون، صنفت الكتب الباطلة في البدع وجعلت تلك المصنفات منسوبة إلى ما كان علبه السلف، منسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمثلا يصنف بعضهم في تحسين بعض البدع ويستدل عليها بقول النبي عليه الصلاة والسلام «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، فيجعل تلك البدع التي أحدثها أو التي أمر بالالتزام بها منسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها داخلة في عموم كلامه، وهذا قد شابهوا فيه اليهود لأنهم استدلوا بالمتشابه أو كان هواهم قائما فجعلوا الدليل منزلا على هواهم. وأهل السنة السلف الصالح يجعلون الدليل أولا ثم يستنبطون منه، الدليل أولا ثم يستنبط منه، أما أن يقدّم الهوى ثم يبحث عن ما يساعده أو ما يدل عليه هذا طريقة أهل الأهواء الذين صنفوا تلك الكتب الباطلة.
في مسائل التوسل في بيان أن شك أهل الجاهلية إنما كان بعبادة الأصنام دون غيرها؛ يعني من الصالحين، من الموتى، من أهل القبور ونحو ذلك، صنفت مصنفات في ذلك في وقت الشيخ وعارضوا بها الدعوة، ونسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، نسبوها إلى دين الإسلام، كما سيأتي في المسائل التي بعدها بيان لبعض فروع ما عملوا.(40/181)
في هذا الزمن أيضا في هذا القرن كذلك يأتي جمع من أهل التفكير وأهل الفكر، وينقدح في أذهانهم أفكار وآراء وتوهمات، وينسبونها إلى الله جل وعلا، وينسبونها إلى الدين، ما الحجة فيما قلت؟ ما البرهان على ما ذكرت؟ لا حجة ولا برهان وينسبون ذلك إلى الإسلام، يقولون هذا هو الإسلام، لابد للعالم أو للمصنف أنه إذا ذكر رأيا أو فكرا أن يذكر دليله، أن يذكر ما اعتمد عليه خاصة إذا كانت أفكار جديدة ونحو ذلك، أما أن يكون رأيا مجردا وتنسبه إلى الإسلام، فهذا ولاشك أنه نوع من تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله جل وعلا.
مثل المصنفات في هذا العصر التي بعضها يتكلم مثلا عن الله، يقول الله جل جلاله، بعضهم يتكلم على الحلال والحرام يقول هذا حلال وهذا حرام، بعضها فيه تعالي أيضا هذا هو الإسلام ونحو ذلك، هذه كلها إذا لم تكن مدللة بالأدلة الشرعية من القرآن أو السنة الصحيحة فإنها تكون من جملة تصنيف الكتب الباطلة التي شابهت فيها هذه الأمة اليهود والنصارى.
إذن هذه المسألة التي ذكرها الشيخ رحمه الله فيها النهي عن الإقدام على تصنيف الكتب بدون مستند مما كان عليه أئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بدون مستند من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح؛ لأن التصنيف إنما هو للحاجة، وإذا كان كذلك فكل من صنف على ذلك النحو فقد صنف كتبا باطلة.(40/182)
ولهذا كان أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى يحفظون دين الناس بأن لا يدخلوا الكتب التي فيها فساد عقدي أو فساد فقهي أو نحو ذلك، أما الآن فقد توسع الناس حتى صارت الكتب التي كانت من قبل لا ترى صارت الآن موجودة الناس يقتنونها، ممن مثل تفسير الفخر الرازي الذي قيل فيه: فيه كل شيء إلا التفسير. وقيل فيه: لم يدع لا شاذة وفاذة إلا أوردها. هذا التفسير كان ينهر عنه بهذه البلاد لأنه ينسب إلى الله جل وعلا؛ لأنه تفسير لله جل وعلا، وهو كله في عقائد المتكلمين، بل إن بعضه فيه تنجيم وعناية بأحوال النجوم ونحو ذلك لأنّ الرازي كان يعتني بذلك، كتب المبتدعة على اختلاف أنواعها كان يحمى الناس من ذلك من أن يقتنوها وأن تكون بين أيديهم مثل مثلا كتاب الفتوحات المكية، وإلى اليوم ممنوع ولكن أحيانا يوجد في بعض المكتبات، وذلك لحماية الناس من مثل هذه المبتدعة.
من أواخر ما صنع في ذلك ما صدر من سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله من منع تداول كتب الصابوني في التفسير أيضا، لم؟ لأنها من جنس ما ذكره الشيخ رحمه الله في هذه المسألة لأن تصنيف التفسير ونسبة ذلك إلى كتاب الله جل وعلا هذا شعبة من شعب أهل الجاهلية، تصنيف التفسير هو نسبة تلك التفاسير الباطلة إلى كتاب الله جل وعلا هو شعبة من شعب أهل الجاهلية، فلا يكون في التفسير الذي يسوغ تناقله بين الناس ويسوغ قراءته إلا ما فيه حق إلا ما فيه بعد من طرق أهل البدع والضلال، أما ما كان فيه ذلك يجب أن يبعد الناس عنه ولا يمكنوا منه لأنه قد يحدث الضلال في أصل الاعتقاد من جرّاء ذلك؛ لأن المتكلم يفسر القرآن فيكون القارئ ظانا أن هذا التفسير هو موضحا لكلام الله جل وعلا، فيعتقد أنه مستدل به يعني في ذلك التفسير مستدل([44]) بالقرآن فيه، مستدل بالنسبة فيه فيقع الخلط والبلاء وقع ذلك كثيرا.(40/183)
المسألة التي تليها وهي (أنهم لا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم كقوله ?قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا?[البقرة:91].) هذه قالها اليهود.
(لا يقبلون) الصحيح (لا يقبلون) هي مكتوبة هنا (لا يعقلون) لكن الصحيح(لا يقبلون)، (أنهم لا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم)، قال تعالى (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا) يعني اليهود قالوا ?نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ?[البقرة:91]، اليهود قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا، كانت هذه حجتهم، وكان ذلك برهانا، (نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا) أما ما وراءه فلا نؤمن به، فلما كان أمرهم كذلك، كان مما يحتج به عليهم أنه قد جاء في التوراة وصف النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو الذي أنزل عليهم، لذلك سيأتي في المسألة التي تليها أنهم كانوا لا يعلمون ما تقوله طائفتهم؛ يعني أكثرهم لا يعلم ما في كتبهم، يقولون لا نؤمن إلا بما أنزل على طائفتنا ومع ذلك لا يعلمون ما عندهم, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصف وصفا تاما في التوراة وفي الإنجيل، فحرفوا ذلك الوصف وقالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا, صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودة، فآمنوا بما أنزل عليكم، فلم يؤمنوا بذلك.(40/184)
كذلك النصارى بشروا, بشرهم عيسى عليه السلام بالنبي عليه الصلاة والسلام، بشرهم بنبي يأتي اسمه أحمد وهو منصوص على ذلك في انجيل بَرنابا الموجود المطبوع الآن وهي نسخة نفيسة من الإنجيل والنصارى لا يقرون بنسبة ذلك الإنجيل إليهم، ويقولون أناجيلهم أربعة أما إنجيل برنابا فينفون لنسبته إلي النصرانية ويقولون هذا فيه ما فيه إما مختلف وإما غير مقر, إلى آخره وكان قد وجده الشيخ محمد رشيد رضا في أحد المكاتب في إيطاليا نسخة بلغة أخرى لاتينية، فترجمه إلى العربية وطبعه فيه البشارة بالنبي عليه الصلاة والسلام، لم يؤمنوا بذلك مع أنهم يقولون (نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا).
هؤلاء شاركهم طوائف من هذه الأمة كثيرة، فتجد أنّ عوام أهل المذاهب الفقهية مثلا يقولون لا نؤمن إلا بما جاء في مذهبنا، وهذا كثر في هذه الأمة خاصة في العصور المتأخرة, فتجد أن السائل إذا سأل مفتيا يقول أفتني على مذهب الشافعي, أفتني على مذهب الإمام أحمد, أفتني على مذهب الإمام أبي حنيفة، لم؟ قال: لأني على هذا المذهب. وهذا تجدونه كثيرا في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يأتيه من يسأله، فيقول أفتنا على مذهب الشافعي, أفتنا على مذهب كذا.(40/185)
ولأجل أن هذا كثر في الناس كان في وقت الشيخ رحمه الله بعض المفتين يحفظون كتبا في المذاهب الأربعة فيأتيهم السائل فيقول: أفتنا على المذهب الشافعي. فيفتيهم، يأتي آخر فيقول أفتني على مذهب أبي حنيفة فيفتيه, وهكذا، فكان بعض المفتين في وقت الشيخ وقبله يفتون على المذاهب الأربعة ويعدون أن هذا مفخرة, لم؟ لأن كل طائفة لا تؤمن إلا بنا عندها أما عند الآخرين يقولون لا نؤمن به, وهذا لاشك أنه باطل؛ لأن الواجب على المفتي أن يكون في فتواه مفتيا بما يعتقد أنه الحق, بما يعتقد أنه ينجيه بين يدي الله جل وعلا، مثل ما ذكر منصور البهوتي؛ الشيخ منصور رحمه الله تعالى المصنف للروض المربع وشرح المنتهى ولكشاف القناع ولكتب كثيرة فإنه اُستفتى في مسألة فأفتى فيها بفتوى فقيل له إن هذه الفتوى مخالفة لما ذكرته في كتابك كشاف القناع، فقال: ذاك ذكرنا فيه المذهب، وأما ما أفتيت به فهذا ما أعتقده. وهذا هو الواجب، التصنيف تبين المسائل بأدلتها على مذهب معين للتعليم لتصوير المسائل، هذا هو الطريقة العلمية الصحيحة، أما المفتي فإنه يفتي بما يعلم أنه الحق، لا يؤمن بما أنزل إليه فقط ويترك -يعني بما عنده، بما عليه طائفته- ويترك البقية بل ينظر ويجتهد في الحق.
أهل البدع كذلك تجد أن الخارجي مثلا؛ الاباضي مثلا إذا سألته، يقول لك أنا لا أومن إلا بما عليه مشايخنا، طيب أولو كانوا على باطل؟ أهل البدع والخرافات لا بد أن أسأل علماءنا، طيب إذا سألت علماءك شوف الدليل معهم هل معهم حجة أقوى من حجة الآخر أم لا؟ لابد أن تتحرى الحق.
فأصبحت هذه الظاهرة موجودة في المسلمين في أوسع الأبواب، أن كل أهل مذهب إما مذهب فقهي أو عقدي يقولون نؤمن بما عند طائفتنا ولا يتحرون الحق لا يبحثون عنه، فكانوا من جنس أولئك الذين لم يتحروا الحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما قنعوا بما عندهم.(40/186)
في وقت إمام الدعوة رحمه الله لما قام بالدعوة -يعني سبب ذكر هذه المسألة- واجهه هؤلاء، واجهه هؤلاء، واجهه فقهاء الشافعية مثلا رحمهم الله تعالى بأن قالوا إن متأخري الشافعية قالوا كذا وكذا -مثلا من جواز بعض المسائل التي كان ينهى عنها والتسمح في بعض البدع التي كان ينهى عنها ونحو ذلك- بعض المسائل يقول هو إنها حرام يقولون نص علماؤنا على الكراهة ونحو ذلك، فعارضه كل ذي مذهب بما عليه مذهب أصحابه فكان رحمه الله تعالى يناقش كلاًّ بأمرين:
الأول: أنه يذكر ما عليه طائفته -كما سيأتي- أن من كلام الشافعية مثلا من كلام الحنفية، من كلام المالكية، ما هو فيه بيان الحق للمسألة، لكنهم لا يعلمون بما كانت عليه طائفتهم، لا يعلمون بما يقوله أهل مذهبهم.
الثاني: أن يبين المقصود من كلام العلماء إنما هو إفهام الأدلة، فإذا عارض كلام أهل العلم الأدلة فإنه لا يسوغ أن نأخذ بكلامهم ونترك الأدلة الواضحة.(40/187)
ولهذا ذكر الشيخ في المسألة التي بعدها قال (التاسعة والعشرون أنهم مع ذلك –يعني أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما كان عليه طائفتهم- لا يعلمون بما تقوله الطائفة)، هذا الذي حصل فرد عليه طوائف ممن العلماء وهم لا يعلمون ما عليه أقوال أهل مذهبهم، ولهذا اعتنى علماء الدعوة رحمهم الله تعالى في كتبهم بنقل مذاهب العلماء في مسائل التوحيد، بنقل كلام أهل العلم في مسائل التوحيد لأن المتأخرين مثلا من الفقهاء الأئمة الشافعية أو الحنفية أو المالكية أو نحوهم كانوا يقبلون كلام علماء عصرهم، علماء المتأخرين منهم، لكن العلماء الأولون من أهل المذهب، لما لا يقبلون كلامهم؟ فكان أئمة الدعوة رحمهم الله والمشايخ ينقلون لهم كلام المتقدمين مثل كلام ابن حجر الهيثمي، ومثل كلام ابن حجر العسقلاني، ومثل كلام النووي، مثل كلام الذهبي، وهؤلاء كلهم شافعية، مثلا ينقلون كلام الإمام مالك في المدونة، وكلام أصحابه مثل الطرطوشي ونحوهم، والقرطبي وأمثالهم في بعض مسائل التوحيد ليبين أن مذهب المالكية هو كذا، ولهذا تجد أن كتب علماء هذه الدعوة مشحونة بالنقل عن كتب أولئك، لم؟ لبيان أن أولئك قالوا بمثل ما قاله الشيخ رحمه الله لكن هؤلاء لم يطالعوا أو خفي عليهم، وإنما عقلوا وقبلوا ما عليه متأخروهم، وهذا من المسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها؛ لأنه قد يأتي بعضهم وينقل نقولا عن بعض أئمة أهل المذهب، مثلا يأتي بعضهم يضاد مسائل العقيدة الصحيحة والتوحيد والنهي عن البدع بكلام بعض الشافعية، بكلام بعض المالكية، بكلام بعض الحنفية، بكلام بعض الحنابلة، طالب العلم أول ما يسمع بهذا الاحتجاج يذهب ويبحث في كتب القوم في كتب الحنابلة في كتب الشافعية في كتب المالكية إلى آخره، المتقدمة، حتى يثبت لهذا الذي احتج بكلام أهل طائفته أن من أهل طائفته من لم يقل بهذا القول وإذا كان أهل الطائفة المخصوصة هذه قد وقعوا في الاختلاف فإذن الحجة فيمن؟(40/188)
الحجة في كلام السلف، هذا برهان ضروري يُحتج به أينما ذهبت كن منه على ذكر وبينة.
إذا نقل لك ناقل مثل ما صنف مثلا محمد علوي المالكي في كتابه الأخير الذي سماه ”شفاء الفؤاذ بزيارة خير العباد“ نقل نقول عن بعض أهل العلم في تجويز بعض الأشياء التي هي من قبيل البدع، إذا بحث الباحث وجد أنه كتم نقولا كثيرة في النهي عن هذه الأمور فهو نقل عن بعض أهل العلم في تحسين هذه البدع، وكتم نقولا كثيرة، فيها بيان الصواب والحق في هذه المسألة، الشافعية نقل عنهم عندهم قول ثاني بينه محققوهم بينه كبار علمائهم، الحنابلة كذلك، المالكية كذلك، الحنفية كذلك.
فإذن إذا أورد عليك مورد وقال أنا لا أقبل إلا بكلام أهل مذهبي، فقل أولا قبولٌ، أولا قبول بهذا الكلام وستجد من كلام أئمة أهل مذهبه المعين ما يرد به عليهم؛ لأن الحق واضح، وكل مذهب وكل أتباع إمام عندهم من أهل العلم كثير ممن يقولون في المسائل بما تدل عليه الدلائل من الكتاب والسنة وكلام الأئمة أئمة السلف هذا أولا.
الثاني تناقشه هل الواجب أن لا تقبل إلا ما قالته طائفتك، أم الواجب أن تبحث فيما دل عليه الكتاب والسنة، الجواب: الواجب أن نبحث فيما تُعُبِّدْنَا به وهو الكتاب والسنة، ونفهم الكتاب والسنة بإفهام العلماء لنا؛ لأن العلماء إنما هم واسطة لفهم الكتاب والسنة؛ لأنهم تخصصوا وبذلوا أعمارهم ليلهم ونهارهم وجهدهم في فهم الأدلة من الكتاب والسنة، فوظيفة أهل العلم ليست استقلالية، إنما هي تبعية بإفهام الأدلة من الكتاب والسنة، وهذا الذي فعله الشيخ رحمه الله تعالى مع مخالفيه وأثمر ثمرات يانعة.
إذن هذه المسألة التاسعة والعشرون هي أنهم مع ذلك لا يعلمون بما تقوله الطائفة كما نبه الله عليه بقوله ?فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[البقرة:91]. متصلة بما قبلها لأن اليهود كانوا يحتجون بشيء وهو لا يعلمون بما عندهم.(40/189)
كذلك من ورثهم في هذه الأمة وشابههم يحتجون بما عليه الطائفة وهم يجهلون أن من أهل مذهبهم من بخلاف تلك الأقوال.
المسألة الأخيرة التي نختم بها الكلام هي المسألة العجيبة (الثلاثون) قال الشيخ رحمه الله (وهي من عجائب آيات الله أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق صار كل حزب بما لديهم فرحين.)
الجماعة جماعة أي رسولٍ كانت واحدة، ثم يبدأ التفرق بعد ذلك، أمر الله جل وعلا كل أتباع رسول بأن يجتمعوا على رسولهم، أما في اليهود فظاهر والنصارى فظاهر كما قال جل وعلا ?وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ?[البينة:4]، قال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ?[الشورى:14]، وقال جل وعلا ?وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ?[البقرة:176] وقال جل وعلا ?وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ?[البقرة:213]، وقال جل وعلا ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[آل عمران:105]، وغير ذلك من الآيات والله جل وعلا أمر العباد بالاجتماع، والاجتماع يكون على أساس العلم فكل من أخذ بالعلم الذي ورِثه من الرسول الذي أرسل إليه فإنه يهديه ذلك العلم إلى الاجتماع وترك الاختلاف والتفرق.
هذه المسألة مهمة للغاية لأن الجماعة والاجتماع دائما ترحم به الأمة، كما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنّ نتيجة الجماعة والاجتماع هو رضا الله جل وعلا ونصره وتأييده ومغفرته وتوفيقه للمجتمعين، ونتيجة الفرقة والاختلاف غضب الله ومقته وضرب قلوب بعضهم ببعض ولعنته وسخطه، هذا نتيجة الجماعة ونتيجة الفرقة.(40/190)
كل رسول كانت جماعته الأولى مجتمعة ثم بدأ التفرق وهذا ظاهر في الأمم من قبل، قال جل وعلا في بيان حال الأمم السابقة ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?([45])، لم؟ لأنهم تركوا الاجتماع الذي أمروا به وأخذوا بالتفرق والاختلاف، ما سبب ذلك التفرق و الاختلاف الذي حدث بعد الجماعة الأولى؟ هو ما أخبر الله جل وعلا به قال ?فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ?[المائدة:14]، وقال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ?[الشورى:14].
قال شيخ الإسلام رحمه الله وغيره إن سبب الفرقة اثنان:
الأول: هو ترك العلم وترك حظ ما أمر العباد به.
الثاني: هو البغي.
إذا ترك طائفة العلم الذي أمرت به ونسيت، يعني تركت حظا مما ذكرت به حصل التفرق والبعد عن الجماعة الأولى.
الثاني أن يكون هناك بغي وعدوان من طائفة من هذه الطائفة المفترقة المخالفة عن الجماعة الأولى المجتمعة على الحق والهدى.
بعد ذلك إذا حصل هذان الأمران وهذان السببان وهو ترك العلم ونسيان حظ ما ذُكِّر به العباد والثاني هو البغي بين العباد يحصل التفرق والاختلاف، وإذا حصل التفرق والاختلاف كان كما أخبر الله جل وعلا بقوله (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) نتيجة التفرق والاختلاف العداوة والبغضاء، وهذا كما قال الشيخ رحمه الله: وهي من عجائب آيات الله أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق، صار كل حزب بما لديهم فرحين.
فإذن فرح كل حزب بما لديه نعمة أو عذاب هو عذاب لأنهم لم يجعلهم الله جل وعلا فرحين بما هم عليه إلا لما خالفوا وصية الله جل وعلا بالاجتماع وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق.(40/191)
فهذه عقوبة، إذا وجدت الفرق والطوائف كل فرقة فرحة بما عندها ممن خالفوا وتركوا الجماعة الأولى تعلم أن هذا من العذاب الذي عذبوا به لأنهم تركوا وصية الله بالاجتماع وأخذوا بالتفرق والاختلاف.
هذا حاصل في هذه الأمة من أول ما ظهرت الخوارج وهم لما خالفوا وصية الله بالاجتماع، وأخذوا بالتفرق والاختلاف ونسول حظا مما ذكروا به وتركوا العلم الذي أنزل عليهم، صاروا فرحين بما عندهم حتى إن الخارجي يكون أشجع الناس؛ يعني أشجع الناس في وقته وأقواهم مدافعة عما هو عليه من الباطل، لم؟ لأنه فرح به أشد الفرح، خالفوا الصحابة وقاتلوا الصحابة، وذلك لأنهم فرحون بما هم عليه وأصل ضلالهم كما هو معلوم مسألة تحكيم القرآن يعني الأخذ بظاهر قوله تعالى ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ?[المائدة44] فكفروا الصحابة وتركوا العلم الذي كان عند الصحابة واعتزوا بآرائهم فصاروا فرحين بما عندهم.
كذلك المرجئة أول ما ظهرت كان لها رأي ثم بعد ذلك صارت فرحة بما عندها لأنها تركت ما أمر الله به من الاجتماع، وأخذت بالقول الذي ليس عليه الجماعة الأولى.
ولهذا من أراد النجاة فإنما السبيل بالأخذ بوصية الله بالاجتماع، وهذه ذكرها الشيخ رحمه الله في أول الكلام في المسألة الثانية والثالثة، وهنا يريد أن عقوبة الافتراق أن يكون المرء فرحا بما هو عليه من الباطل، هذا من عقوبة الافتراق، فأول ما يخالف يكون عنده تردد ويكون عنده نوع من عدم الثبات ما هو عليه، حتى يستمرئ المخالفة ويستمرئ التفرق، فيعاقبه الله جل وعلا بفرحه بما عليه حتى يكون من أهل التفرق والاختلاف والعياذ بالله.
على العموم هذه المسألة كما ذكر الشيخ رحمه الله أنها من عجائب آيات الله؛ لأنها عقوبة لا يشعر بها إلا المتيقنون.
اسأل الله جل وعلا أن يبصرني بالحق والهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.
---(40/192)
([1])الحجر:29، ص:72.
([2])أظن يوجد حذف في هذا الموضع من الشريط.
([3]) الشيخ حفظه الله قال (نحشرهم, نقول).
([4])الشيخ حفظه الله قال: إنما.
([5])لم يذكرها الشيخ.
([6]) انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([7])المؤمنون:53، الروم:32.
([8]) فاطر:31، الشورى:13.
([9])المؤمنون:53، الروم:32.
([10])انتهى الشريط الأول.
([11])البقرة:269، آل عمران:7.
([12])انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([13]) انتهى الشريط الثاني.
([14]) إبراهيم:10، يس:15.
([15]) لعلها قوله تعالى?قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا?[يس:15].
([16]) النحل:43، الأنبياء:7.
([17])انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([18])انتهى الشريط الثالث.
([19])البقرة:88، النساء:155.
([20]) البقرة:88، النساء:155.
([21]) الشيخ قال: لكي لا.
([22]) الأعراف:25، الإسراء:46.
([23]) البقرة:88، النساء:155.
([24])انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.
([25]) النحل:43، الأنبياء:7.
([26]) انتهى الشريط الرابع.
([27]) البقرة:135، آل عمران:67،95، الأنعام:171، النحل:123.
([28]) كلمة غير مفهومة.
([29])كلام غير واضح.
([30])انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.
([31]) انتهى الشريط الخامس.
([32]) الشيخ حفظه الله قال: لو شاء الله جل وعلا.
([33]) الآية هي ?يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[البقرة:75].
([34])الشيخ حفظه الله قال: كثيرا.
([35])الفاتحة:1، النمل:30.
([36]) الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.
([37]) الشيخ قال: بل.
([38])انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([39])الحجر:29، ص:72.
([40]) الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.
([41])الشيخ قال: وَ.
([42]) انتهى الشريط السادس.
([43])المؤمنون :53، الروم:32.(40/193)
([44])انتهى الوجه الأول من الشريط السابع.
([45])المؤمنون :53، الروم:32.(40/194)
مقدمة شرح كتاب التوحيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه : هذا شرح لكتاب التوحيد ، شرحته في مجالس متصلة في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بحي سلطانة في مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية ، وقد فرغ من الأشرطة المسجلة وأصلحت بعض الألفاظ بما يناسب المكتوب ، فلم أقصد إلى تأليف شرح ، ولذلك فإني أرغب من المحققين في مقاصد التأليف أن يغضوا الطرف عما قد يرد في الشرح من عدم استيعاب أو علو عبارة ، والله أسأل أن يجزي مؤلف الأصل الجد الإمام محمد بن عبد الوهاب خير الجزاء عن أهل السنة لقاء ما قرب لهم من علوم الكتاب والسنة ، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليما .
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده ، وأقام بهم الحجة على عبيده ، فاتفقوا أولهم وآخرهم على توحيده وتفريده ، ونبذ الشرك وتنديده ، وأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون من سواه ، وعبادة غيره - كائنا من كان - باطلة ؛ فإنه ما عُبد غير الله إلا بالبغي ، والظلم ، والعدوان .(41/1)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تأكيدا بعد تأكيد ؛ لبيان مقام التوحيد ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد : -
فهذا الكتاب - كتاب التوحيد - من مؤلفات الإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين ، محمد بن عبد الوهاب ، وهو- رحمه الله- غني عن التعريف ؛ لما جعل الله - جل وعلا - لدعوته من أثر ظاهر النفع في جميع أنحاء الأرض : شرقا وغربا ، جنوبا وشمالا ، ولا غرو في ذلك فإن دعوته- رحمه الله- إحياء لدعوة محمد بن عبد الله - عليه أفضل الصلاة والسلام- .(41/2)
وكتاب التوحيد- الذي نحن بصدد شرحه - كتاب عظيم جدا ، أجمع علماء التوحيد ، على أنه لم يصنف في الإسلام في موضوعه مثله ، فهو كتاب وحيد وفريد في بابه ، لم ينسج على منواله مثله ؛ لأن المؤلف - رحمه الله - طرق في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة ، وما يضاد ذلك التوحيد ، من أصله ، أو يضاد كماله ، فامتاز الكتاب بسياق أبواب توحيد العبادة مفصلة ، مُدَلَّلَةً ، وعلى هذا النحو ، بتفصيل ، وترتيب ، وتبويب لمسائل التوحيد ، لم يوجد من سبق الشيخ إلى ذلك ، فحاجة طلاب العلم إليه ، وإلى معرفة معانيه ماسة ؛ لما اشتمل عليه من الآيات ، والأحاديث ، والفوائد .
وقد شبه بعض العلماء هذا الكتاب بأنه قطعة من صحيح البخاري - رحمه الله - وهذا ظاهر ، ذلك أن الشيخ - رحمه الله - نَسَج كتابه هذا نَسْج الإمام البخاري صحيحه من جهة أن التراجم التي يعقدها ، تحتوي على آية وحديث - غالبا - والحديث والآية على الترجمة ، وما بعدها مفسِّرٌ لها ، وكذلك ما يسوقه - رحمه الله - من كلام أهل العلم من الصحابة ، أو التابعين ، أو أئمة الإسلام ، هو نسق طريقة الإمام أبي عبد الله البخاري -رحمه الله - فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني .(41/3)
وهذا الكتاب صنفه إمام الدعوة ابتداء في البصرة لمَّا رحل إليها ، وكان الداعي إلى تأليف ما رأى من شيوع الشرك بالله - جل جلاله - ومن ضياع مفهوم التوحيد الحق عند بعض المسلمين ، وما رآه عندهم من مظاهر الشرك : الأكبر ، والأصغر ، والخفي ، فابتدأ في البصرة جمع هذا الكتاب ، وتحرير الدلائل لمسائله ، ذكر ذلك تلميذه ، وحفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله- في "المقامات" ، ثم إن الشيخ لمَّا قدم نجدا حرر الكتاب ، وأكمله ، فصار كتابه هذا - بحق- كتاب دعوة إلى التوحيد الحق ؛ لأن الشيخ - رحمه الله- بين فيه أصول دلائل التوحيد ، وبين فيه معناه وفصله ، كما بين فيه ما يضاده ، والخوف مما يضاده ، وبين - أيضا- أفراد توحيد العبادة ، وأفراد توحيد الأسماء والصفات إجمالا ، واعتنى ببيان الأكبر والأصغر وصورهما ، والذرائع المؤدية إليهما ، وبيَّن ما يُحْمى به التوحيد ، والوسائل إلى ذلك ، وبين أيضا شيئا من أفراد توحيد الربوبية . فـ "كتاب التوحيد" كتاب عظيم النفع جدا ، جدير بأن يعنى به عناية حفظ ، ودرس ، وتأمل ؛ فالعبد محتاج إليه للعمل به ، ولتبليغ ما فيه من العلم لمن وراءه من الناس ، سواءً أكانوا في المسجد(41/4)
، أم في البيت ، أم في مقر عمله ، أم في أي جهة أخرى . والمقصود : أن مَن فهم هذا الكتاب فقد فهم أكثر مسائل توحيد العبادة ، بل يكون قد فهم جل مسائله وأغلبها .
وقد كنت نظرت في الكيفية التي ينبغي أن يشرح بها هذا الكتاب ، وطريقة ذلك ؛ لأن الكتاب - كما يُعلم - طويل لا يمكن استيعاب شرحه شرحا متوسطا أو مبسوطا في نحو ثمانية عشر مجلسا ، فتأملت منهج العلماء الذين شرحوه ، فوجدت شروحهم : ما بين بسيط ، ووجيز ، ووسيط ، فرأيت أن يقتصر الشرح على ذكر الفوائد التي يكثر التباسها على طلبة العلم ، مع بيان مناسبة الآي والأحاديث للترجمة ، وإبراز وجه الاستدلال من الآية أو من الحديث على المقصود ، وذكر شيء من تقرير الحجاج مع الخصوم في هذه المسائل ، ربما لا يطالعه كثير من طلبة العلم في الشروح . وهذه الطريقة التي سنسلكها : طريقة مختصرة ، سوف نأتي بها- إن شاء الله-على الكتاب كله ، مع عدم الإخلال بإفهامه ، وعدم الإقلال من معانيه ، ونسأل الله تعالى المدد ، والإعانة ، والتوفيق .(41/5)
" باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب "
وقول الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } الآية [الأنعام : 82] عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح ومنه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » أخرجاه (1) .
ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرَّم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » . (2)
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال موسى : يا رب ، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به ، قال : قل - يا موسى - : لا إله إلا الله ، قال : يا رب ، كل عبادك يقولون هذا؟ قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري ، والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة ، مالت بهن لا إله إلا الله » رواه ابن حبان والحاكم وصححه . (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 3435 ) ومسلم ( 28 ) .
(2) أخرجه البخاري ( 425 ) و ( 667 ) و ( 6423 ) و ( 6938 ) ومسلم ( 33 ) .
(3) أخرجه ابن حبان ( 2324 - موارد ) والحاكم 1 / 528 وصححه ووافقه الذهبي .(41/6)
وللترمذي - وحسنه - عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم ، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة » . (1)
فيه مسائل :
الأولى : سعة فضل الله .
الثانية : كثرة ثواب التوحيد عند الله .
الثالثة : تكفيره مع ذلك للذنوب .
الرابعة : تفسير الآية ( 82 ) التي في سورة الأنعام .
الخامسة : تأمل الخمس اللواتي في حديث عُبادة .
السادسة : أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده ؛ تبين لك معنى قول : « لا إله إلا الله » وتبين لكم خطأ المغرورين .
السابعة : التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان .
الثامنة : كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله .
التاسعة : التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات ، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه .
العاشرة : النص على أن الأرضين سبع كالسماوات .
الحادية عشرة : أن لهن عمارًا .
الثانية عشرة : إثبات الصفات خلافًا للأشعرية .
الثالثة عشرة : أنك إذا عرفت حديث أنس : عرفت أن قوله في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ؛ يبتغي بذلك وجه الله » أن ترك الشرك ليس قولها باللسان .
_________
(1) أخرجه أحمد 5 / 154 و172 والترمذي ( 3534 ) وقال : حديث حسن غريب . وله شاهد من حديث أبي ذر عند مسلم ( 2687 ) .(41/7)
الرابعة عشرة : تأمُّلُ الجمع بين كون عيسى ومحمد عَبْدَيِ الله ورسولَيْه .
الخامسة عشرة : معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله .
السادسة عشرة : معرفة كونه روحا منه .
السابعة عشرة : معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار .
الثامنة عشرة : معرفة قوله : « على ما كان من العمل » .
التاسعة عشرة : معرفة أن الميزان له كفتان .
العشرون : معرفة ذكر الوجه .
الشرح :
هذا الباب " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وما يكفر من الذنوب " يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة ؛ فالتوحيد بأنواعه الثلاثة ، له فضل عظيم على أهله . ومن أعظم فضله أنه به تُكَفَّر الذنوب ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - في التبويب : " باب فضل التوحيد ، وما يكفر من الذنوب . فـ (ما) هنا موصول اسمي بدلالة وجود " من " البيانية مما يحول دون جعلها موصولا حرفيا ، فيكون المعنى : باب فضل التوحيد وبيان الذنوب التي يكفرها . فالتوحيد يكفر الذنوب جميعا ، لا يكفر بعض الذنوب دون بعض ؛ لأن التوحيد حسنة عظيمة ، لا تقابلها معصية إلا وأحرق نور تلك الحسنة أثر المعصية إذا كمل ذلك النور .(41/8)
فهذا هو المقصود بقوله : " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب " ؛ فمن كمل التوحيد بأنواعه الثلاثة - أعني : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وتوحيد الأسماء والصفات - : فإنه تكفر عنه ذنوبه ، كما سيأتي بيانه في الباب بعده : أنه من حقق التوحيد : دخل الجنة بغير حساب .
فكلما زاد التوحيد محي من الذنوب بمقدار عظمه ، وكلما زاد التوحيد أمن العبد في الدنيا وفي الآخرة بمقدار عظمه ، وكلما زاد العبد في تحقيق التوحيد كان متعرضا لدخول الجنة على ما كان عليه من العمل ؛ فلهذا ساق الإمام - رحمه الله - آية الأنعام ، فقال : ( باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ، وقول الله تعالى ) ثم ذكر الآيات .
ومن العلماء من قال : إن ( ما ) في قوله : ( وما يكفر من الذنوب ) موصول حرفي .(41/9)
وقول الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام : 82] . الظلم هنا : هو الشرك ، كما جاء في تفسير ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية ، وقالوا : يا رسول الله ، أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ ! فقال : ليس الذين تذهبون إليه ، الظلم : الشرك ، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }» [لقمان : 13] (1) فالظلم هنا - في مراد الشارع - : هو الشرك ، فيكون مقصود الشيخ من إيراد هذه الآية تحت هذا الباب : بيان فضل من آمن ووحّد ، ولم يلبس إيمانه وتوحيده بشرك ، وأن له الأمن التام ، والاهتداء التام ؛ فهذا هو وجه مناسبة الآية للباب . ومعنى الآية : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .
_________
(1) رواه البخاري ( 32 ) ، ( 336 ) ، ( 3428 ) ، ومسلم ( 124 ) .(41/10)
وجاء الظلم في الآية مُنَكَّرًا ، في سياق النفي ، وهو قوله تعالى { وَلَمْ يَلْبِسُوا } ، وهذا يدل على عموم أنواع الظلم ، لكن هل المراد بالعموم هنا العموم المخصوص ، أو العموم الذي يراد به الخصوص ؟ الجواب : أن المراد بالعموم هنا : هو العموم الذي يراد به الخصوص ؛ لأن العموم عند الأصوليين تارة يكون باقيا على عمومه ، وتارة يكون عموما مخصوصا يعني دخله التخصيص ، وتارة يكون عموما مرادا به الخصوص يعني أن لفظه عام ، ولكن يراد به الخصوص فهذه أوجه ثلاثة ، والوجه الأخير هو الذي أراد الشيخ - رحمه الله - الاستدلال به من الآية . صحيح أن ( الظلم ) هنا جاء نكرة في سياق النفي ( لم ) : فيدل على العموم ، لكنه عموم مراد به الخصوص ؛ وهو خصوص أحد أنواع الظلم كلها ؛ لأن من أنواع الظلم : ظلم العبد نفسه بالمعاصي ، أو ظلم العبد غيره بأنواع التعديات ، ومنه ما هو ظلم من جهة حق الله - جل وعلا - بالشرك به ، فهذا هو المراد بهذا العموم ، فيكون عاما في أنواع الشرك ، وبهذا يحصل وجه الاستدلال من الآية ، فيكون معنى الآية : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ } يعني لم يلبسوا توحيدهم بنوع من أنواع الشرك .(41/11)
{ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } فـ ( الأمن ) هنا : هو الأمن التام في الدنيا ، والمراد به أمن القلب وعدم حزنه على غير الله - جل وعلا - والاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة ، وكلما وجد نقص في التوحيد بغشيان العبد بعض أنواع الظلم الذي هو الشرك ، إما الشرك الأصغر ، أو الشرك الخفي ، وسائر أنواع الشرك ، ونحو ذلك ، ذهب منه من الأمن والاهتداء بقدر ذلك . هذا من جهة تفسير الظلم بأنه الشرك .
فإذا فَسَّرْتَ الظلم بأنه جميع أنوع الظلم - كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - فإنه يكون - على هذا التفسير - مقابلة بين الأمن والاهتداء ، وبين حصول الظلم ، فكلما انتفى الظلم : وُجد الأمن والاهتداء ، وكلما كمل التوحيد وانتفت المعصية : عظم الأمن والاهتداء ، وإذا زاد الظلم : قَلَّ الأمنُ واهتداء بحسب ذلك .
قال : ( وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » أخرجاه ) (1)
_________
(1) تقدم .(41/12)
مناسبة هذا الحديث للباب قوله : « على ما كان من العمل » ومعنى قوله : « على ما كان » يعني على الذي كان عليه من العمل ولو كان مقصرا في العمل وعنده ذنوب وعصيان ، فإن لتوحيده لله ، وشهادته له بالوحدانية ، ولنبيه بالرسالة ، ولعيسى بأنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، ولإقراره بالغيب ، وبالبعث : إن لذلك فضلا عظيما ، وهو : أن يدخله الله الجنة ولو كان مقصرا في العمل . فهذا الحديث فيه بيان فضل التوحيد على أهله .
قال : ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » . (1)
قوله : « من قال : لا إله إلا الله » المراد بالقول هنا : القول الذي معه تمام الشروط ؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة » (2) يعني إذا أتى ببقية الأركان والواجبات ، فيكون معنى قوله هنا : « من قال : لا إله إلا الله » يعني باجتماع شروطها ، وبالإتيان بلازمها .
وخرج بقوله : « يبتغي بذلك وجه الله » المنافقون ؛ لأنهم حين قالوها لا يبتغون بذلك وجه الله .
_________
(1) تقدم .
(2) رواه أبو داود برقم ( 1949 ) والترمذي ( 889 ) والنسائي ( 5 / 256 ) وابن ماجه ( 2015 ) .(41/13)
وقوله : « حرم على النار » تحريم النار في نصوص الكتاب والسنة يأتي على درجتين : الأولى : تحريم مطلق ، والثانية : تحريم بعد أمد ، فالتحريم المطلق يقتضي أن من حرم الله عليه النار تحريما مطلقا : فإنه لن يدخلها ، إما بأن يغفر الله له ، وإما بأن يكون من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ، الحديث يحتمل الأول ، ويحتمل الثاني .
« فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله » : يعني أن الذي أتى بالتوحيد ، وانتهى عن ضده ، وكانت عنده بعض الذنوب والمعاصي ، ومات من غير توبة ، فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عذبه ثم حرم عليه النار ، وإن شاء الله غفر له وحرم عليه النار ابتداء .
فوجه الشاهد - إذًا - من الحديث للباب : أن هذه الكلمة ، وهي كلمة التوحيد وسيأتي بيان معناها مفصلا ، إن شاء الله تعالى لما ابتغى بها صاحبها وجه الله ، وأتى بشروطها وبلوازمها تفضل الله عليه ، وأعطاه ما يستحقه من أنه حرم عليه النار . وهذا فضل عظيم ، نسأل الله - جل وعلا - أن يجعلنا من أهله .(41/14)
وفي حديث أبي سعيد الخدري - الوارد بعد حديث عتبان - وفيه قول وموسى - عليه السلام - : « يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به . قال : قل - يا موسى - : لا إله إلا الله ، قال : يا رب كل عبادك يقولون هذا » (1) : فهذا الحديث فيه دلالة على أن أهل الفضل ، والرفعة في الدين ، والإخلاص والتوحيد ، قد ينبهون على شيء من مسائل بالتوحيد ؛ فهذا موسى - عليه السلام - وهو أحد أولي العزم من الرسل ، وهو كليم الله - جل وعلا - أراد شيئا يختص به غير ما عند الناس ، وأعظم ما يختص به أولياء الله ، وأنبياؤه ورسله ، وأولو العزم منهم هو كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) فأراد شيئا أخص من ذلك ، فأعلم أنه لا أخص من كلمته التوحيد ، فهي أفضل شيء ، وهي التي دُلّ عليها أولو العزم من الرسل ومن دونهم من الناس .
قال : « يا رب ، كل عبادك يقولون هذا ؟ قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري » : يعني ومن في السماوات السبع من الملائكة ومن عباد الله - جل وعلا - .
_________
(1) تقدم.(41/15)
« والأرضين السبع في كفة » : يعني لو تمثلت السماوات والأرضون أجساما ، ووضع الجميع في ميزان له كفتان ، وجاءت ( لا إله إلا الله ) في الكفة الأخرى لمالت بهن ( لا إله إلا الله ) . فـ ( لا إله إلا الله ) كلمة توحيد فيها ثقل لميزان من قالها ، وعظم في الفضل لمن اعتقدها وما دلت عليه فلهذا قال : « مالت بهن لا إله إلا الله » .(41/16)
ووجه الدلالة : أنه لو تصور أن ذنوب العبد بلغت ثقل السماوات السبع ، وثقل ما فيها من العباد والملائكة وثقل الأرض لكانت ( لا إله إلا الله ) مائلة بذلك الثقل من الذنوب ، وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة حيث جُعِل على أحد العصاة سجلات عظيمة ، فقيل له : هل لك من عمل ؟ فقال : لا ، فقيل له : بلى ، ثم أخرجت له بطاقة فيها ( لا إله إلا الله ) ، فوضعت في الكفة الأخرى ، فطاشت سجلات الذنوب ، وثقلت البطاقة ، (1) وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد ، إنما هو لمن قويت في قلبه ، ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية ؛ لأنه مخلص فيها مصدق ، لا ريب عنده فيما دلت عليه ، معتقد ما فيها ، محب لما دلت عليه ، فيقوى أثرها ونورها في القلب فإذا كانت كذلك : فإنها تحرق ما يقابلها من الذنوب ، وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها ، فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب ، فيكون هذا الحديث وحديث البطاقة يدلَّان على أن ( لا إله إلا الله ) لا يقابلها ذنب ، ولا تقابلها خطيئة ، لكن هذا في حق من كملها وحققها ، بحيث لم يخالط قلبه - في معناها - ريب ، ولا تردد ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن ، وعلى الأسماء والصفات باللزوم ، وعلى الإلهية
_________
(1) أخرجه أحمد ( 2 / 213 ) والترمذي ( 639 ) وقال : حديث حسن .(41/17)
بالمطابقة ، فيكون من ينتفع بهذه الكلمة على وجه الكمال - ولو بلغت ذنوبه ما بلغت ، وكانت سجلاته كثقل السماوات والأرضين السبع - هو الذي كمل ما دلت عليه من التوحيد وهذا معنى هذا الحديث ، وحديث البطاقة ، وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخر الوارد في الباب نفسه عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة » (1) وهذا من فضل التوحيد وتكفيره الذنوب .
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة ، وهي : أنه من أتى بذنوب عظيمة ، ولو كانت كقراب الأرض خطايا يعني كعظم وقدر الأرض خطايا ، ولكنه لقي الله لا يشرك به شيئا : لأتى الله ذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة ، وهذا لأجل فضل التوحيد ، وعظم فضل الله - جل وعلا - على عباده بأن هداهم إليه ، ثم أثابهم عليه .
_________
(1) تقدم .(41/18)
" باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب "(41/19)
وقول الله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] وقال { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون : 59] عن حصين بن عبد الرحمن ، قال : كنت عند سعيد بن جبير ، فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة ؟ فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت : قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : " لا رقية إلا من عين أو حمة " ، قال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ، فنظرت ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ثم نهض فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : فلعلهم(41/20)
الذين ولدوا في الإسلام ، فلم يشركوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء . فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال : " هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " أنت منهم " ثم قام رجل ، فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال " سبقك بها عكاشة » (1)
فيه مسائل :
الأولى معرفة مراتب الناس في التوحيد .
الثانية : ما معنى تحقيقه .
الثالثة : ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين .
الرابعة : ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك .
الخامسة : كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد .
السادسة : كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل .
السابعة : عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل .
الثامنة : حرصهم على الخير .
التاسعة : فضيلة هذه الأمة بالكَمية والكيفية .
العاشرة : فضيلة أصحاب موسى .
الحادية عشرة : عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام - .
الثانية عشرة : أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها .
الثالثة عشرة : قلة من استجاب للأنبياء .
الرابعة عشرة : أن من لم يجبه أحد يأتي وحده .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 3410 ) ، ( 5705 ) ، ( 5752 ) ، ( 6472 ) ، ( 6541 ) ومسلم ( 220 ) .(41/21)
الخامسة عشرة : ثمرة هذا العلم ، وهو عدم الاغترار بالكثرة وعدم الزهد في القلة .
السادسة عشرة : الرخصة في الرقية من العين والحُمَة .
السابعة عشرة : عمق علم السلف لقوله " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن كذا وكذا " . فعُلِم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني .
الثامنة عشرة : بُعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه .
التاسعة عشرة : قوله « أنت منهم » عَلَمٌ من أعلام النبوة .
العشرون : فضيلة عُكَّاشة .
الحادية والعشرون : استعمال المعاريض .
الثانية والعشرون : حُسْنُ خُلُقِه - صلى الله عليه وسلم - .
الشرح :(41/22)
هذا الباب هو : " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " وقد ذكر في الباب قبله فضل التوحيد ، وما يكفر من الذنوب ، وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله ، وأهل التوحيد هم أهل الإسلام ، ولا شك أن لكل مسلم نصيبا من التوحيد ، فيكون له - تبعا لذلك - نصيب من فضل التوحيد ، وتكفير الذنوب ، أما خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد ؛ ولهذا عطف هذا الباب على الذي قبله ؛ لأنه أخص . وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب ، وتحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ومعنى تحقيق الشهادتين : تصفية الدين من شوائب الشرك والبدع والمعاصي ، فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء :
الأول : ترك الشرك بأنواعه : الأكبر ، والأصغر ، والخفي .
والثاني : ترك البدع بأنواعها .
الثالث : ترك المعاصي بأنواعها .(41/23)
فيكون تحقيق التوحيد على هذا على درجتين : درجة واجبة ودرجة مستحبة ، وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين أيضا ، فالدرجة الواجبة : أن يترك ما يجب تركه من الأشياء الثلاثة التي ذكرت ، فيترك الشرك خفيه وجليه ، صغيره وكبيره ، ويترك البدع ، ويترك المعاصي ، هذه درجة واجبة .
والدرجة المستحبة في تحقيق التوحيد - وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل - هي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله - جل وعلا - يعني : أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته ، ليس فيه التفت إلى غير الله ، فيكون نطقه لله ، وفعله وعمله لله ، بل وحركة قلبه لله - جل جلاله - ، وقد عبر عنها بعض أهل العلم - أعني هذه الدرجة المستحبة - بقوله : أن يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، يعني : في مجال أعمال القلوب ، وأعمال اللسان ، وأعمال الجوارح .(41/24)
فإذًا رجع تحقيق التوحيد الذي هذا فضله - وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب ، ولا عذاب - رجع إلى تينك المرتبتين ، وتحقيقه تحقيق الشهادتين : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ؛ لأن في قوله ، ( لا إله إلا الله ) الإتيان بالتوحيد ، والبعد عن الشرك بأنواعه ، ولأن في قوله : ( أشهد أن محمدا رسول الله ) البعد عن المعصية ، والبعد عن البدع ؛ لأن مقتضى الشهادة بأن محمدا رسول الله : أن يُطاع فيما أمر ، وأن يصدَّق فيما أخبر ، وأن يُجتَنَبَ ما عنه نَهَى وزَجَرَ ، وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فمن أتى شيئا من المعاصي والذنوب ، أو البدع ثم لم يتب منها أو لم تكفر له فإنه لم يحقق التوحيد الواجب وإذا لم يأت شيئا من البدع ، ولكن حسَّنها بقلبه ، أو قال : لا شيء فيها ؛ فإن حركة قلب من ذا شأنه لما كانت في غير تحقيق التوحيد وفي غير تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله : فإنه لا يكون من أهل تحقيق التوحيد ، وكذلك أهل الشرك بأنواعه ليسوا من أهل تحقيق التوحيد . وأما مرتبة الخاصة التي ذُكِرَتْ ففيها يتنافس المتنافسون وما ثمَّ إلا عفو الله ، ومغفرته ، ورضوانه .(41/25)
واستدل الشيخ في " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " بآيتين وبحديث ، أما الآية الأولى فهي قول الله تعالى { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] وهذه الآية فيها الدلالة على أن إبراهيم - عليه السلام - كان محققا للتوحيد .
وجه الدلالة : أن الله - جل وعلا - وصفه بصفات :
الأولى : أنه كان ( أمة ) ، والأمة : هو الإمام الذي جمع جميع صفات الكمال البشري وصفات الخير ، وهذا يعني أنه لم ينقص من صفات الخير شيئا وهذا معنى تحقيق التوحيد . والأمة تطلق في القرآن إطلاقات ، فمن تلك الإطلاقات : أن يكون معنى الأمة الإمام المقتدَى به في الخير ، وسُمِّي أمة ؛ لأنه يقوم مقام أمة في الاقتداء ؛ ولأن من سار على سيره يكون غير مستوحش ولا متردد ؛ لأنه ليس مع واحد فقط ، وإنما هو مع أمة .(41/26)
الوصف الثاني الذي فيه تحقيق التوحيد : أنه قال : { قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } وهاتان الصفتان : - القانت ، والحنيف - متلازمتان لأن القنوت لله معناه : دوام الطاعة لله - جل وعلا - وملازمتها فهو ملازم لطاعة الله - جل وعلا - . ولأن " الحنيف " - كما يقول العلماء - : هو ذو الحنف وهو الميل عن طريق المشركين ، فالحنيف هو المائل عن طريق المشركين المائل عن هدي وسبيل المشركين فصارت عنده ديمومة وقنوت وملازمة للطاعة وبُعْد عن سبيل المشركين ، ومعلوم أن سبيل المشركين الذي صار إبراهيم عليه السلام حنيفا ، أي مائلا بعيدا عنه : معلوم أنه يشتمل على الشرك ، والبدعة ، والمعصية فهذه الثلاث هي أخلاق المشركين : الشرك ، والبدعة ، والمعصية من غير إنابة ولا استغفار .
قال { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } :(41/27)
وقوله : { وَلَمْ يَكُ } كانت في الأصل : يكن ، ويجوز في حالة الجزم - بشروط - حذف نون ( يكن ) ؛ كما في الآية السابقة . وكما في قوله تعالى في سورة النحل : { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل : 127] ويجوز إثباتها كما في قوله تعالى : { وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } في سورة النمل [النمل : 70] .
فإثبات النون وحذفها وجهان جائزان في اللغة - بشروطه المعروفة - .
وقوله تعالى : { مِنَ الْمُشْرِكِينَ } : المشركين : جمع تصحيح لـ ( المشرك ) ، والمشرك اسم فاعل الشرك ، و ( أل ) - كما هو معلوم في العربية - إذا دخلت على اسم الفاعل أو اسم المفعول فإنها تكون موصولة ، كما قال ابن مالك في الألفية :
وصفة صريحة صلة أل ... وكونها بمعرب الأفعال قل
والاسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم ، فيكون معنى قوله - إذًا - : { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أنه لم يك فاعلا للشرك بأنواعه ، ولم يك منهم .(41/28)
ودلَّ قوله - أيضا - { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } على أنه ابتعد عنهم ، لأن ( مِنْ ) تحتمل أن تكون تبعيضية ، فتكون المباعدة بالأجسام ، ويحتمل أن تكون بيانية ، فتكون المباعدة بمعنى الشرك . فالمقصود : أن الشيخ - رحمه الله - استحضر هذه المعاني من الآية فدلته على أنها في تحقيق التوحيد .
قال - جل وعلا - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ذلك لأن من جَمَع تلك الصفات فقد حقق التوحيد ، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب .(41/29)
وقد فسر إمام الدعوة - المصنف - الشيخ : محمد بن عبد الوهاب ، هذه الآية من أواخر سورة النحل ، فقال - رحمه الله - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } ، لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين ، { قَانِتًا لِلَّهِ } لا للملوك ، ولا للتجار المترفين ، { حَنِيفًا } لا يميل يمينا ، ولا شمالا ، كحال العلماء المفتونين { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } خلافا لمن كثر سوادهم ، وزعم أنه من المسلمين . وهو من التفاسير الرائقة البعيدة المعاني { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
ثم قال بعد ذلك : ( وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون : 59] ) : وهذه الآيات في سورة المؤمنون ، وهي في مدح خاصة المؤمنين .(41/30)
ووجه الاستدلال من الآية على الباب : أن الله قال : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } فقوله : { لَا يُشْرِكُونَ } نفي للشرك ، وقد ذكرنا من قبل أن النفي إذا تسلط على الفعل المضارع ، فإنه يفيد عموم المصدر الذي يدل عليه الفعل ، فكأنه - جل وعلا - قال : والذين هم بربهم لا يفعلون شركا ، أو لا يشركون لا بشرك أكبر ، ولا أصغر ، ولا خفي .
والذين لا يشرك هو الموحد ، فصار عندنا لازم ، وهو أن من لم يشرك بالله أيَّ نوع من الشرك ، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده ، قال العلماء : قدم هنا قوله : { بِرَبِّهِمْ } في قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } ، لأن الربوبية تستلزم العبودية ، فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم الإشراك في الطاعة ، وعدم الإشراك في العبودية وهذا وصف الذين حققوا التوحيد ؛ لأنه يلزم من عدم الإشراك : ألا يُشرِك هواه ؛ لأن المرء إذا أشرك هواه : أتى بالبدع ، أو أتى بالمعصية ، فصار نفي الشرك نفيا للشرك بأنواعه ونفيا للبدعة ، ونفيا للمعصية ، وهذا هو تحقيق التوحيد لله - جل وعلا - .(41/31)
فالآية - إذًا - دالة على ما ترجم له الإمام - رحمه الله - بقوله : " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " .
أما الحديث فطويل ، وموضع الشاهد منه قوله - عليه الصلاة والسلام - : « فنظرت ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " ثم نهض فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ، فلم يشركوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال : " هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكْتَوُون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون » . هذا الحديث في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وهذه صفة من صفاتهم ، وتلك الصفة خاصة بهم ، لا يلتبس أمرهم بغيرهم ؛ لأن هذه الصفة كالشامة يعرفون بها . فَمَنْ هم الذين حققوا التوحيد؟ الجواب في قوله : « هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكْتَوُون ، ولا يتطيرون » ، فذكر أربع صفات :(41/32)
أنهم « لا يَسْتَرْقُون » : ومعنى يَسْتَرْقُون : يعني لا يطلبون الرقية ؛ لأن الطالب للرقية يكون في قلبه ميل للراقي ، حتى يرفع ما به من جهة السبب . وهذا النفي الوارد في قوله : « لا يسترقون » ؛ لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم بها جدا أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه ، فالعرب في الجاهلية - وهكذا هو حال أكثر الناس - لهم تعلق بالرقية ، فالقلب يتعلق بالراقي ، ويتعلق بالرقية ؛ وهذا ينافي كمال التوكل على الله - جل جلاله - وأما ما جاء في بعض الروايات أنهم « الذين لا يرقون » فهذا غلط ؛ وهو لفظ شاذ ، لأن الراقي محسن إلى غيره ، والصواب ما جاء في هذه الرواية من أنهم « الذين لا يسترقون » يعني : الذين لا يطلبون الرقية ؛ وذلك لأن طالب الرقية يكون في قلبه ميل إلى هذا الذي رقاه وإلى الرقية ، ونوع توكل ، أو نوع استرواح لهذا الذي يرقي أو للرقية .(41/33)
ثم قال : « ولا يكتوون » : والكي مكروه في أصله ؛ لأن فيه تعذيبا بالنار ، مع أنه مأذون به شرعا ، لكن فيه كراهة . والعرب تعتقد أن الكي يحدث المقصود دائما ؛ فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي . فصار تعلق القلب بهذا الكي من جهة أنه سبب يؤثر دائما ، ومعلوم أن الكي يؤثر - بإذن الله جل وعلا - : إذا اجتمعت الأسباب ، وانتفت الموانع . فالنفي لأجل أن في الكي بخصوصه ما يتعلق الناس به من أجله .
ثم قال : « ولا يتطيرون » : والطيرة شيء يعرض على القلب من جراء شيء يحدث أمامه ؛ فيجعله يقدم على أمر ، أو يحجم عنه ، وهذه صفة من لم يكن التوكل في قلبه عظيما .(41/34)
ثم قال بعدها : « وعلى ربهم يتوكلون » : وهي جامعة للصفات السابقة . وهذه الصفات ليس المقصود منها أن الذين حققوا التوحيد لا يباشرون الأسباب ، كما فهمه بعضهم ، وأن الكمال ألا يباشر سببا البتة ، أو ألا يتداوى البتة ! وهذا غلط ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رُقي : (1) ولأنه - عليه الصلاة والسلام - تداوى وأمر بالتداوي (2) وأمر أيضا بعض الصحابة بأن يكتوي (3) ونحو ذلك فليس في الحديث أن أولئك لا يباشرون الأسباب مطلقا ، أو لا يباشرون أسباب الدواء ، وإنما فيه ذكر لهذه الثلاث بخصوصها ، لأنه يكثر تعلق القلب والتفاته إلى الراقي ، أو إلى الكي ، أو الكاوي ، أو إلى التطير ، ففيها إنقاص من مقام التوكل . أما التداوي : فهو مشروع ، وهو : إما واجب ، أو مستحب ، وقد يكون في بعض الأحوال مباحا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام » (4) فالمقصود من هذا : أن التداوي ليس خارما لتحقيق التوحيد ولكن الذي هو من صفة أهل تحقيق التوحيد أنهم لا يسترقون بخصوص الرقية ، ولا يكتوون بخصوص الكي ، ولا يتطيرون ، وأما ما عدا ذلك مما أذن به ، فلا يدخل فيما يختص به أهل تحقيق التوحيد .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 2186 ) والترمذي ( 972 ) .
(2) أخرجه أحمد ( 4 / 278 ) والترمذي ( 2039 ) .
(3) أخرجه البخاري ( 5680 ) ، ( 5681 ) .
(4) أخرجه أبو داود ( 3874 ) والترمذي ( 2045 ) .(41/35)
والأظهر عندي أن قوله في هذا الحديث « لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون » أنه مخصوص بهذه الثلاثة .(41/36)
قال : « فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " أنت منهم " ثم قام رجل آخر ، فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " سبقك بها عكاشة » : هذا فيه دليل على أن أهل تحقيق التوحيد قليل وليسوا بكثير ، ولهذا جاء عددهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفا ، وقد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد وعند غيره بأن الله - جل وعلا - أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ألف من السبعين سبعين ألفا (1) فيكون العدد قرابة خمسة ملايين من هذه الأمة ، فإن كان ذلك الحديث صحيحا - وقد صحح إسناده بعض أهل العلم - فإنه لا يكون للعدد في هذا الحديث مفهوم ، أو كان ذلك قبل سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أن يُزاد في عدد أولئك الذين حققوا التوحيد . فإن قيل : ما معنى أن يُزاد في عددهم ؟ فالجواب : أن المعنى أن الله - جل وعلا - يَمُنُّ على أناس من هذه الأمة - غير السبعين ألفا - ممن سيأتون بَعْدُ ، فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد ؛ فالله - جل وعلا - هو الذي يوفق ، وهو الذي يهدي ، ثم هو الذي يجازي . فما أعظمه من محسن ، بَرٍّ ، كريم ، رحيم .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند ( 2 / 359 ) والبيهقي في الشعب ( 416 ) .(41/37)
" باب الخوف من الشرك "
وقول الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48 و 116] وقال الخليل - عليه السلام - : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم : 35] وفي الحديث : « " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " فسئل عنه قال : " الرياء » (1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من مات وهو يدعو من دون الله ندا ، دخل النار » (2) رواه البخاري ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار » . (3)
فيه مسائل :
الأولى : الخوف من الشرك .
الثانية : أن الرياء من الشرك .
الثالثة : أنه من الشرك الأصغر .
الرابعة : أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين .
الخامسة : قُرْب الجنة والنار .
السادسة : الجمع بين قربهما في حديث واحد .
السابعة : أنه مَنْ لقيه لا يشرك به شيئا ؛ دخل الجنة . ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ، ولو كان من أعبد الناس .
_________
(1) أخرجه أحمد 5 / 428 ، 429 والطبراني في « الكبير » ( 4301 ) وحسنه الحافظ في « بلوغ المرام » ( 302 ) .
(2) أخرجه البخاري ( 4497 ) ، ( 6683 ) .
(3) أخرجه مسلم ( 93 ) .(41/38)
الثامنة : المسألة العظيمة : سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عباد الأصنام .
التاسعة : اعتبار بحال الأكثر لقوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } .
العاشرة : فيه تفسير " لا إله إلا الله " ، كما ذكره البخاري .
الحادية عشرة : فضيلة من سَلِمَ من الشرك .
الشرح :
كل من حقق التوحيد فلا بد أن يخاف من الشرك ؛ ولهذا كان سيد المحققين للتوحيد محمد - عليه الصلاة والسلام - يُكثر من الدعاء بأن يبعد عنه الشرك ، وكذلك كان إبراهيم - عليه السلام - يكثر من الدعاء ؛ لئلا يدركه الشرك ، أو عبادة الأصنام .
فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة ، وهي أن تحقيق التوحيد عند أهله لا بد أن يقترن معه الخوف من الشرك ، وقَلَّ من يكون مخاطرا بتوحيده أو غير خائف من الشرك ، ويكون مع هذا على مراتب الكمال ، بل لا يوجد . فكل محقق للتوحيد ، وكل راغب فيه حريص عليه : يخاف من الشرك ، وإذا خاف من الشرك فإن الخوف الذي هو فزع القلب وهلعه ، يجعل العبد حريصا كل الحرص على البعد عن الشرك والهروب منه والخوف من الشرك يثمر ثمرات منها :
- أن يكون متعلما للشرك بأنواعه ، حتى لا يقع فيه .(41/39)
- ومنها أن يكون متعلما للتوحيد بأنواعه ، حتى يقوم في قلبه الخوف من الشرك ويعظم ، ويستمر على ذلك .
- ومنها أن الخائف من الشرك يكون قلبه دائم الاستقامة على طاعة الله مبتغيا مرضاة الله فإن عصى ، أو غفل كان استغفاره استغفار من يعلم عظم شأن الاستغفار وعظم حاجته للاستغفار ؛ لأن الناس في الاستغفار أنواع ، لكن من علم منهم حق الله - جل وعلا - وسعى في تحقيق التوحيد وتعلم ذلك ، وسعى في الهرب من الشرك : فإنه إذا غفل وجد أنه أشد ما يكون حاجة إلى الاستغفار ، ولأجل صلاح هذا بوب الشيخ - رحمه الله - هذا الباب الذي عنوانه ( باب الخوف من الشرك ) ، فكأنه يقول لك : إذا كنت تخاف من الشرك كما خاف منه إبراهيم - عليه السلام - وعرفتَ ما توعد الله به أهل الشرك من أنه لا يغفر لهم شركهم ، فينبغي لك أن تعلم وأن تتعلم ما سيأتي في هذا الكتاب ، فإن هذا الكتاب موضوع لتحقيق التوحيد ، وللخوف من الشرك والبعد عنه ، فما بعد هذين البابين : ( باب من حقق التوحيد ) و ( باب الخوف من الشرك ) تفصيل لهاتين المسألتين العظيمتين اللتين هما : تحقيق التوحيد ، والخوف من الشرك ؛ بيان معناه وبيان أنواعه .(41/40)