|
المؤلف : صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ
قال(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) والصراط المستقيم فُسِّرَ في سورة الفاتحة بعدة تفاسير وفي هذه الآية بأنه السنة وأنه الإسلام والقرآن أو أنه محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهذه كلها متلازمة، فمن لزم الإسلام فقد لزم السنة، ومن لزم السنة فقد لزم القرآن، ومن لزم القرآن على حقيقته فقد لزم الإسلام والسنة وهكذا, بل يجب لزوم الإسلام الذي دلَّ عليه القرآن والسنة وبيَّنه نبيه الكريم محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
قال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فهو صراط واحد كما بيّنتُ لك في الباب الذي قبله، فأمر بإتباعه فقال (فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
ودلت الآية على أن إتباع الصراط الذي هو الإسلام والسنة واجب بأمر الله جل وعلا به وأن إتباع غيره من الأهواء والشبهات والبدع محرم لقوله (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)، وهذا نهي، والنهي هنا للتحريم فدل ذلك على مراد المصنف من الاستدلال بالآية على وجوب الدخول في الإسلام وتحريم الخروج عنه إلى غيره.
قال رحمه الله بعد ذلك (وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجاه، وفي لفظ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»).
هذا الحديث متفق عليه، متفق على صحته في لفظه الأول (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا...)، واللفظ الثاني (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا...) رواه مسلم في الصحيح وعلقه البخاري أيضا في صحيحه جازما به.
وهذا الحديث بهذين اللفظين حجة وأصل عظيم من الأصول في ردّ البدع والمحدثات بجميع أنواعها, وهذان اللفظان مهمان، وكل منهما له حجة في باب:
(35/65)
¨ أما الأول فقوله(مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ) فهو يشمل الذي ابتدع البدعة وأحدث الحدث ولو لم يعمل بذلك، فمن أحدث الحدث فهو مردود عليه ولن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
¨ واللفظ الثاني (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا) هذا يشمل الذي يعمل ولو لم يحدث.
فإذن اللفظان دل أحدهما على المحدث ودل الآخر على الذي عمل بما أحدثه المحدث.
وهذا الحديث دالٌّ للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث عمر رضي الله عنه ««إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات, وإِنّمَا لِامْرِىءٍ ما نَوَى» ميزان للأعمال في باطنها، فمن صحت نيته في باطنه واستقام عمله الظاهر على وفق السنة فإنه حينئذ مقبول الدين، وأما إذا فات أحدهما فليس بمقبول العمل لأنه إذا فات الإخلاص لم يقبل العمل، وإذا فاتت المتابعة والالتزام بالظاهر فإنه لا يقبل العمل.
إذا تبين ذلك فالمحدثات قسمان:
¨ محدثات في الدنيا.
¨ محدثات في الدين.
وهذا الحديث يراد به محدثات في الدين؛ لأنه قال (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا) وقوله(فِي أَمْرِنَا هَذَا) يُعنى به الدين.
أما المحدثات في الدنيا فليست مشمولة بالنهي، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم توسعوا في أمور الدنيا على وفق المصلحة، وتنظيم أمور الدنيا تارة يدخل تحت قاعدة المصالح المرسلة، وتارة يدخل تحت قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، وليس هذا بموطن بيان ذلك.
أما المحدثات في الدين فهي مردودة جملة واحدة، فليس لأحد أن يُحدث حدثا في الدين سواء أكان ذلك الحدث في الأمور العلمية في أمور العقائد أم في الأمور العلمية.
(35/66)
فإذن هذا الحديث يستدل به على بطلان كل عقيدة محدثة، ويستدل به على بطلان كل عمل يتقرب به إلى الله محدث، فمن جاء بعقيدة محدثة كعقائد الخوارج أو المرجئة أو المؤولة في الصفات أو نفي الصفات أو في القدر في الجبر ونحو ذلك، فإنه يقال له هل كان على هذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فلا بد أن يقول: لا؛ ولكن هذا هو الذي يجب التزامه لأجل أن لا يسبب للشرع كذا، أو أن ينزه الله جل وعلا عن كذا...إلى آخره.
ولهذا كان من الكلام الحسن مثلا في بعض الصفات ما قاله والد الإمام الجويني رحمه الله حيث قال: إني لما تأملت تأويل الصفات وجدت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتلو القرآن وفيه آيات الصفات، وكان يصف الله جل وعلا في أحاديثه وعنده الصحابة ومنهم الحاضر ومنهم الباد، ومنهم الذكي ومنهم غير الذكي، ومنهم العاقل ومنهم دون ذلك، ومنهم من قد يتصور شيئا غير الظاهر ومنهم من لا يتصور إلا الظاهر، فلم يتبع ذلك بأشياء تصرفها عن ظاهرها، فدل على أن نصوص الغيب واجب الإيمان بها على ظاهرها دون التأويلات المحدثة.
وهذا الذي قاله حق، ومن جهة أخرى في المسائل العملية الحديث حجة على رد كل محدثة في العمل يُتقرب بها إلى الله جل وعلا، والمحدثات في الدين هي البدع، لهذا قال «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (كل محدثة) يعني محدثة في أمرنا هذا, محدثة في الدين بدعة, البدع أيضا هناك بدع في الدنيا وبدع في الدين، والمذموم هو الابتداع في الدين أما الإحداث في الدنيا فلا يدخل في البحث؛ لأنه لا يدخل في قوله (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا) وإنما المقصود التكلم على الديانة.
(35/67)
إذا تبين ذلك فالبدع مذمومة كلها، وكل بدعة مردودة لأدلة من الكتاب والسنة، ومن السنة هذا الحديث الجامع الشامل الذي عدّه طائفة من أهل العلم ثلث الدين، وعدّه طائفة آخرون ربع الدين؛ لأنه يشمل مسائل كثيرة تعطي ربع مسائل الدين في العقائد وفي الشرع.
البدعة تنافي الدخول الكامل في الإسلام إذا كانت بدعة عملية، والبدع قسمان:
¨ بدع كفرية.
¨ بدع دون الكفر (عقدية أو عملية).
فتارة يكون الأمر بدعة ويكون كفرا أكبر أو شركا أكبر, وتارة يكون دون ذلك؛ دون الكفر, وهذا يشمل العقائد ويشمل العمليات.
فمثاله مثلا في البدع العقدية التي هي كفر: سلب الرب جل وعلا عن جميع صفاته، وأنه ليس له صفة البتة، هذه البدعة أحدثت لم يكن عليها حتى أهل الجاهلية, هم يعتقدون أن لله جل وعلا صفات، فأتى بهم ونفى جميع الصفات عن الرب جل وعلا، وأنه لا يتصف بصفة النية غير صفة الوجود المطلق بشرط الإطلاق كما يزعمون.
وأما البدع العملية التي هي كفر كالاستشفاع بالموتى، الاستشفاع بالموتى هو شرك أكبر فخرج من الملة وهو بدعة محدثة أيضا في هذه الأمة، ولها وسائل كثيرة أحدثت.
القسم الثاني البدع دون الكفر منها ما يكون في:
العقائد: كبدع الإرجاء، بدع الخوارج، وبدع القدرية، وبدع تأويل الصفات، والكلام في الأحوال و المقالات... إلى آخره؛ يعني من جهة الاعتقاد.
القسم الثاني بدع عملية: وهي التي يكثر فيها الكلام من جهة عمل الناس لها، صلوات مبتدعة, أذكار مبتدعة, أحوال مبتدعة, احتفالات مبتدعة...إلى آخر ذلك، هذه كلها لا تصل إلى الكفر والشرك، وإنما هي بدع بحسب حالها.
والبدع العملية قسمان:
1. بدع أصلية.
2. وبدع إضافية
البدع الأصلية: ما أحدث وليس له أصل يتبعه، مثل إحداث حفلات الموالد أو المآتم، أو نحو ذلك مما لم يكن له أصل أصلا في الشريعة، فهذه بدعة أصلية أُحدثت في هذه الأمة.
(35/68)
والقسم الثاني بدع إضافية: أصل العمل مشروع؛ ولكن زيد عليه أشياء صارت بدعة, سماها أهل العلم بدعا إضافية، مثل الاجتماع على الذكر على نحو ما, ترديد أشياء بعد الصلاة المفروضة, وأشباه ذلك, الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صفة ما, مثل ما جاء أن ابن مسعود رضي الله عنه جاء إلى قوم وقد جعلوا لهم كبيرا وبينهم حصى ويقول لهم سبحوا مئة، هللوا مئة...إلى آخره، فقال لهم: لأنتم على طريق أهدى من طريق محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؟ أو أنتم على شعبة ضلالة؟ هذه آنية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تكسر-يعني أن العهد قريب- وهؤلاء زوجاته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لم يمتن، وهؤلاء أصحابه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فقالوا: يا أبى عبد الرحمن الخير أردنا. قال: كم من مريد للخير لم يبلغه. هذه الصفة التي فعلوها تسبيح مشرع, ولكن أضافوا عليها صفة صارت محدثة.
لهذا بعض أهل العلم يقول: البدع المحدثة قسمان:
- بدعة أحدث أصلها وهو القسم الأول.
- بدعة أحدث وصفها وهو القسم الثاني.
إذا تبين ذلك فالبدعة لها عدة تعريفات, عرّف بها أهل العلم وسبق ذكرها؛ لكن على اختصار نمر عليها عليها.
وهي: أن البدعة عُرِّفت بما أحدث على خلاف الحق المتلقي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول أو عمل أو اعتقاد، وجُعل ذلك هديا ملتزما, وطريقا مسلوكا. هذا عرَّفها به بعض أهل العلم على نحو هذا التعريف.
الثاني ما عرَّفه به الشاطبي وغيره: بأن البدعة طريقة في الدين مخترعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريق الشرعية، والتزم بذلك.
إذن تحصل من ذلك:
? أن البدعة:
· قد تكون في الأقوال.
· قد تكون في الأعمال.
· قد تكون في الاعتقادات.
? أيضا الفائدة الثانية من التعاريف: أن البدعة لم تكن في عهده عليه الصلاة والسلام، ولا في عهد صحابته رضوان الله عليهم.
(35/69)
?الثالث: أن البدعة يُقصد بسلوكها التقرب إلى الله جل وعلا؛ يعني عمل عبادي يقصد به الأجر والثواب والتقرب إلى الله جل وعلا.
? الأمر الرابع وهو مهم: أن البدعة ملتزمة؛ يعني أنه جعلها طريقة تضاهي الطريقة المشروعة في الالتزام بها، أما إذا لم يلتزم بالعمل أو بالقول فيكون خلاف السنة، ويكون غلطا، أو يكون مردودا، بحسب الحال؛ لكن لا يكون بدعة حتى يلتزم، إذا أحدثه والتزم, يعني الناس مشوا على ذلك أو هو التزمه، فإذا يفرق في هذا المقام ما بين البدع والمحدثات في الدين وما بين مخالفة السنة, فليست كل مخالفة للسنة بدعة, فالبدعة ما تخالَف به السنة ويلتزم به، فيكون طريقا مشروعا ملتزما به، مثلا لو أن أحد من الناس وبعد الصلاة المشروعة ورفع يديه ودعا، هل يكون فعله بدعة؟ أو هو غلط وخلاف للسنة؟ نقول هنا: ننظر هل يلتزم هذا أم أنه فعله تلك المرة أو يفعله في تارات بين حين وآخر بعيدة كل شهرين ولا يلتزمه كل مرة، فيكون إذا فعله مرة يكون هذا خلاف السنة ولا يجوز له مخالفة السنة، أما إذا التزمه فصار هديا ملازما للصلوات المفروضة صار بدعة محدثة يشملها حديث الوعيد عن البدع.
الكلام عن البدع يطول الوقت قد يقصر.
(35/70)
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وللبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» قيل: ومَنْ أَبَى؟) هذا فيه رعاية اللفظ لأنه قال (إِلَّا مَنْ أَبَى) فراعوا لفظه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقالوا له (ومَنْ أَبَى؟) يعني من هذا الذي أبى؟ (قَالَ«مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»)، هذا منه عليه الصلاة والسلام تقرير لأمر عظيم وهو أنه لا يمكن الدخول في الإسلام إلا بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه إذا لم يطع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويلتزم بسنته فإنه لم يدخل العبد في الإسلام كله، والله جل وعلا أمر بالدخول كله فقال ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[البقرة:208]؛ يعني أدخلوا في السلم جميعا وأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث فيه أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو موعود بدخول الجنة (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى) وهذا فيه تعظيم لطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ذكر العلماء أن طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرا بها جاءت في القرآن أكثر من ثلاثين موضعا، كلها فيها الأمر بطاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم مخالفته، كقوله جل وعلا ?مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ?[النساء:80]، كقوله جل وعلا ?وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[النور:56]، وكقوله جل وعلا?فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[النور:63]، ونحو ذلك من الآيات وهي أكثر من ثلاثين.
(35/71)
وقد كتب الإمام أحمد رحمه الله كتابا عظيما سماه: كتاب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر فيه كل الآيات التي أمر الله جل وعلا بها بطاعة الرسول وهو كتاب مفقود، منه منتخبات أو قطع في عدد من الكتب كآخر مسائل الإمام أحمد، وكمواضع في بدائع الفوائد لابن القيم، ونقولا لابن تيمية، وفي إعلام الموقعين إلى غير ذلك.
فالمقصود أن العلماء اهتموا بذلك بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنها أساس الالتزام بالإسلام، فلا يحصل الدخول في الإسلام إلا بطاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله عليه الصلاة والسلام هنا (كُلُّ أُمَّتِي) ما المراد بالأمة هنا؟ الأمة هنا قد يكون المراد بها هنا أمة الدعوة، ويكون المراد باللفظ أنه لا يدخل الجنة إلا من كان على الإسلام؛ يعني كل أمتي التي بُعثت إليهم يدخلون الجنة إلا من أبى طاعتي، ومعنى ذلك أنه من لم يستجب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن مسلما فلا يدخل الجنة، وعبّر بقوله (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) للتشويق في الالتزام بالطاعة، هذا قاله بعضهم ولكنه ليس بجيد.
والصحيح الذي عليه أهل العلم هو الثاني وهو أن قوله(كُلُّ أُمَّتِي) يعني أمة الإجابة وهم أهل الإسلام كلهم يدخلون الجنة إلا من أبى دخول الجنة، (قيل: ومَنْ أَبَى؟ قَالَ«مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»)؛ يعني أبى دخول الجنة.
إذا تقرر ذلك، فهل من عصى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدخل الجنة؟ ظاهر الحديث: نعم، لا يدخل الجنة من عصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه حينئذ يكون من أهل الوعيد.
لكن الدخول إلى الجنة على قسمين:
القسم الأول دخول أولي: يعني دخول -إن صح التعبير- مبكِّر, دخول في أول الأمر بعد أن ينقضي الناس من الحساب فإنه يدخل الجنة في آن, أولا، مبكرين في الدخول.
(35/72)
والقسم الثاني: دخول متأخر: وهؤلاء هم من شاء الله جل وعلا أن يدخلوا النار فيعذبوا فيها بقدر أعمالهم.
فالدخول في النصوص دخول الجنة نوعان: دخول أولي أو مبكر، ودخول متأخر. فقد ينفي دخول الجنة ويراد به نفي الدخول الأولي أو الدخول المبكر كهذا الحديث، فقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (كُلُّ أُمَّتِي) يعني أمة الإجابة (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أولا؛ مبكرا ولا يتأخرون عن دخولها إلا من عصاني فإنه لا يدخل الجنة أولا، وإنما يتأخر، وإذا تأخر فإنه من أهل الوعيد ممن يعذب في النار بقدر مخالفته وعصيانه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويقابل هذا في النصوص التحريم كقوله مثلا «الجنة محرمة على قاطع الرحم», «لا يدخل الجنة قاطع رحم», «لا يدخلون الجنة، ولا يجدون عَرْفَها, وإنَّ عرفها ليوجد من مسيرة كذا وكذا», «إنّ الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله» ونحو ذلك، فالتحريم في النصوص أيضا قسمان: تحريم مؤقت وتحريم أبدي.
التحريم الأبدي: هذا يعني أنه يَحْرُم عليه أن يخرج من النار البتة, أو يحرم عليه أن لا يدخل الجنة البتة.
التحريم المؤقت: أنه يحرم عليه الجنة إلى زمن، ثم يدخلها، من أهل المعاصي، ومنهم من تحرم عليه النار مؤبدا، ومنهم من تحرم عليه النار مؤقتا، وهكذا..
وبهذا التفصيل يستقيم النظر في النصوص ويَبين غلط الخوارج وأهل البدع والغلو الذين فهموا من نفي الدخول مطلق الدخول، وفهموا من التحريم مطلق التحريم، وفهموا من التحريم التحريم المطلق أو مطلق التحريم بحسب الحال، وهذا ليس بجيد؛ بل النصوص فيها هذا وهذا.
(35/73)
المقصود من ذلك أن الحديث هذا الذي رواه البخاري رحمه الله يدلُّ على أن الواجب على العبد المسلم أن يطيع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن لا يأبى دخول الجنة، ومن عصى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أمر به أو نهى فإنه يأبى دخول الجنة، والعاقل لا يمكن أن يأبى دخول الجنة، فدل الحديث على وجوب الدخول في الإسلام ووجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن هذه الأمة منهم من هو متوعد -أمة الإجابة- منهم من هو متوعد لا يدخل الجنة؛ لأنه أبى طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال بعدها: (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما)، قوله (وفي الصحيح) كما ذكرتُ لكم من قبل أنه يراد به البخاري في غالب كلام أهل العلم، وقد يراد به مسلم، وقد يراد به في الصحيحين جميعا بحسب تعابير أهل العلم، وهنا قوله (وفي الصحيح) يريد به صحيح البخاري رحمه الله تعالى حيث ذكر هذا الحديث في أكثر من موضع، منها في الديات لقوله في آخره« وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ».
قال (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ») قوله (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ) هذا فيه أن هؤلاء هم أشد الناس بُغضا لله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وهذا يعني أن فعلهم الذي فعلوه من أكبر الكبائر لأنهم وصفوا بأنهم أبغض الناس إلى الله جل وعلا، (أَبْغَضُ) لغة صحيحة خلافا لمن زعم أنها ليست بصحيحة، والأحاديث حجة في اللغة؛ لأن الأصل فيها أنها منقولة باللفظ وأن النقل بالمعنى إنما هو لعارض.
فقوله (أَبْغَضُ النَّاسِ) يعني أشد الناس بغضا إلى الله, فـ(أَبْغَضُ) أفعل في هذا الباب صحيحة على ما جاء في هذا اللفظ.
(35/74)
قوله(ثَلَاثَةٌ) العدد لا مفهوم له، ولا يعني أن هؤلاء هم الأبغض فقط، وإنما يعني أن هؤلاء أشدهم بُغضا، وقد يكون هناك من يساويهم في المقدار؛ لأن العدد لا مفهوم له, وإنما يؤتى به للتمثيل، قد يكون يقتصر على هؤلاء وقد لا يكون.
(ثَلَاثَةٌ) خبر (أَبْغَضُ)، (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ).
قال (مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ)، (الْحَرَمِ) المراد به الحرم المكّي في أصله، وكذلك الحرم المدني؛ لأن كلا منهما حرم, فمكة حرَّمها إبراهيم عليه السلام، والمدينة حَرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثور, من أحدث فيها حدثا أو آوى فيها محدِثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، كما قاله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
والإلحاد في الحرم, كلمة (مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ) الإلحاد: اختلف فيه أهل العلم, ما المراد به؟
· فمنهم من فسر الإلحاد بالشرك بالله جل وعلا والكفر؛ لأن هذا أعظم الإلحاد وهو الميل عن الطريق الصواب.
· وفُسِّر بأن الإلحاد القتل وسفك الدماء.
· وفسر بأن الإلحاد في الحرم فعل الكبائر والمعاصي وإحداث المحدثات والبدع.
· وفسر بأن الإلحاد هو كل ما نهى الله جل وعلا عنه، بأنّ كل ما نهى الله جل وعلا عنه نهي تحريم سواء أكان شركا أو ما دونه فإنه إلحاد وميل عن الصراط المستقيم.
وهذا التفسير الثالث([6]) كما اختاره ابن جرير وغيره هو التفسير الصحيح؛ لأن التخصيص لا وجه له, وقد قال الله جل وعلا?وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ?[الحج:25] في سورة الحج يعني المسجد الحرام بخصوصه، ?وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ?[الحج:25]، ذكر الإلحاد هنا وهو يشمل جميع ما نهى الله جل وعلا عنه؛ لأنه إلحاد وميل عن الصراط المستقيم.
(35/75)
قال (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وهذا هو الشاهد في هذا الحديث للباب. ([7])
الإلحاد في الحرم أيضا، يعني الحرم يجتمع فيه عدة صفات ما يطيل الكلام في هذا, لهذا تغلظ مثلا فيه الدِّية, من قتل في الحرم ليس كمن قتل في غيره، فعثمان رضي الله عنه والصحابة غلظوا الدية في من قتل في الحرم وجعلوا عليه تارة الدية وثلثا وتارة أكثر؛ لأنه جمع ما بين حرمة انتهاك المسلم وانتهاك حرمة المكان، وتارة تجتمع حرمة الزمان فيكون التغليظ أكثر بحسبه.
المقصود أن الإلحاد في الحرم جريمة، والحرم له خصوصية وواجب تنزيهه عن أنواع الإلحاد، وأن لا يكون فيه إلا طاعة الله جل وعلا، والعباد إذا عصوا الله جل وعلا فيه فقد ألحدوا بحسب الحال، وأعظمه الشرك والبدع والمحدثات، ثم المنكرات العملية والمحرمات المختلة وترك الفرائض وفعل الموبقات والعياذ بالله، حتى إن طائفة من أهل العلم ذكروا أن الهم الجازم بالمعصية في الحرم يأخذ به العبد على ظاهر قوله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قالوا: فمن يريد به (هَمَّ) لأن (همّ) تتعدى بالباء, همّ بكذا، فيكون معنى الآية:من يرد فيه إلحاد هامًّا به قاصدا له بظلم؛ يعني عن بينة فعله بينة نذقه من عذاب أليم.
وهنا مسألة: وهي مسألة هل السيئات في الحرم تضاعف أو لا؟ وما حدود الحرم الذي فيه تضعيف الصلاة بمائة ألف وتضعيف الحسنات وشدة فعل السيئات؟
الصواب -ما يسع الوقت للتفصيل-, الصواب أنّ ما أدخلته الأميال فهو حرم، ولا يُخص ذلك بالمسجد نفسه يعني بمسجد الكعبة بل كل ما أدخلته الأميال المعروفة فهو حرمٌ فيه فضل الصلاة وفيه النهي عن الإلحاد والذنب إلى آخره وفيه التغليظ إلى آخر أحكام الحرم.
(35/76)
ويدل لذلك قول الله جل وعلا ?يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ?[البقرة:217] (مِنْهُ) يعني من الحرم، فهل هم خرجوا من مسجد الحرم أو خرجوا من مكة, خرجوا من مكة, (إِخْرَاجُ أَهْلِهِ) يعني أهل المسجد الحرام (مِنْهُ) يعني من المسجد الحرام إنما خرجوا من مكة, كل واحد خرج من بيته لا من خصوص مسجد الكعبة المدار حول الكعبة.
وكذلك قوله تعالى? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?[الإسراء:1] وأنه أسرى به من بيت أم هاني كما هو قول أكثر أهل التفسير، وحديث أنس الذي في الصحيح، إلى غير ذلك من الأدلة.
المسألة الثانية: هل الحسنات تضاعف جميعا أم أنه تضاعف الصلاة؟
العلماء في ذلك أقوال: أصحها أن التضعيف بمائة ألف إنما هو خاص بالصلاة لأنه هو الذي ورد فيه الدليل قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» كما في الصحيح, وفي غيره «صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد» فهذا خاص بالصلاة، أما عموم الحسنات فإن الطاعة فيه لشرف المكان أفضل من الطاعة في غيره، ويقابل ذلك السيئة فإن السيئة باتفاق أهل العلم في الحرم أشد من السيئة في غيره؛ لكن هل السيئة تضاعف؟ يعني يكتب على الإنسان إذا فعل سيئة في الحرم يكتب عليه سيئتان؟
(35/77)
الجواب: أنها لا تضاعف، ومن قال من أهل العلم أن السيئات تضاعف على نحو ما روى على ابن عباس فإن هذا ليس بصحيح وخلاف النص، فإن الله جل وعلا يقول في آية مكية ?مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ?[الأنعام:160]، هذه في سورة الأنعام، وقد أنزلت في مكة.
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التوفيق بين كلام أهل العلم في ذلك: إن السيئة في الحرم يضاعف عقابها كيفية لا مقدارا. والعقاب يكون من حيث العدد واحدا؛ لكن الكيفية مختلفة، قد يكون من حيث النوع واحدا لكن من حيث الكيفية مختلفا, فليست مثلا الضربة كالضربة، وليست اللسعة كاللسعة، وليس الألم كالألم وهكذا في أنحائه، هكذا قال ابن قيمة رحمه الله، وكلامه قريب لتعظيم حرمة الحرم.
قال بعدها (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، هذا هو الشاهد من هذا الحديث للباب, وهو أن كل المحدثات التي أحدث في الدين, وكل ما خالف به الناس منهج محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وطريقة صحابته رضوان الله عليهم فإنما راموا طريقة من طرق أهل الجاهلية، مصداقا لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» وفي الرواية الأخرى قال:«حذو القذة بالقذة» فاتباع سنة الجاهلية (مُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) يعني أنه أتى شيء جاهلي سواء أكان من جاهلية أهل الكتاب أو كان من جاهلية العرب, وأتى به في الإسلام بعد أن أتى الله جل وعلا بالإسلام وأرسل محمدا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ للأمة.
(35/78)
فإذا أبغض الناس إلى الله من سن في الإسلام سنة من سنن أهل الجاهلية، جاء بأمر من صنيع أهل الجاهلية كالتفاخر مثلا بالأحساب والطعن في الأنساب، أو كوأد البنات، أو أتى بالعقائد المختلفة عبادة الأوثان أو تقديس الصالحين، أو أتى بطرائق أهل الكتاب في عباداتهم أو في تعظيمهم للصور أو في نحو ذلك, فكل من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية فإنه من أبغض الناس عند الله وفعله من أكبر الكبائر.
وهذا يحتاج إلى مزيد بيان وتفصيل تتركه إلى درس الغد إن شاء الله تعالى.
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
إن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا.
ربنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، ومُنّ علينا بالتوفيق والهداية, إنك على كل شيء قدير.
نكمل ما ور معنا في (باب وجوب الدخول في الإسلام) وقد وقفنا على قوله رحمه الله (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ»).
(35/79)
قوله (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (مُبْتَغٍ) يعني أنه مريدٌ عن قصد وطلب، (فِي الْإِسْلَامِ) يعني في زمن الإسلام، وهو زمن مخاطبة الناس ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو ما بعد بعثته إلى قيام الساعة؛ لأنه لا دين بعد الإسلام ولا رسالة بعد رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا يمكن أن تفسر قوله (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ) يعني مبتغ بعد الإسلام؛ أي بعد ظهور الإسلام وبعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)، وهنا في قوله (سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) لا بد من الوقوف عند هاتين الكلمتين:
الأولى: كلمة (سُنَّةَ).
الثانية: كلمة (الْجَاهِلِيَّةِ).
أما قوله (سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) فكلمة(سُنَّةَ) هذه مستعملة في اللغة بمعنى الطريقة و العادة, فمن اعتاد شيئا وجعله طريقة له وهديا, قيل هذه سنة فلان؛ لأنه اعتادها ولزمها وكانت سمة عليه، ولكل أمة سُنة, يعني لكل أمة عادة وطريقة وهدى، قال جل وعلا ?قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ?[آل عمران:138]؛ يعني طرائق وعادات وهدي لكل أمة.
وهذه السنة قد تكون في العقائد، وقد تكون في المعاملات، وقد تكون في الأمور الاجتماعية، وقد تكون في القضاء... إلى غير ذلك.
فكل ما كان هديا وعادة وطريقة لأهل زمن أو أهل بلد قيل هذه طريقتهم وعادتهم وسنتهم.
أما في الإسلام فكلمة سنة فإنها تطلق على سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن كان على سنته مثل سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده, وسنة الصحابة فيما يعملون؛ يعني طريقته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهديه في أمره الباطن وأمره الظاهر.
(35/80)
لهذا صنف عدد من أهل العلم كتبا أسموها السنن, السنة لفلان أو السنن لفلان, مثلا: السنن لأبي داوود, السنن للنسائي, السنن لابن ماجه, أو السنة مثل السنة لأبي عبد الله بن الإمام أحمد, أو السنة لابن أبي عامر, السنة للطبراني, إلى آخره، وهذا يشمل عندهم السنن في أمور العقيدة والسنن في أمور العبادة والمعاملات و الاجتماعيات، إلى آخره.
فإذا قوله هنا (مُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) يشمل إرادة هذا الإنسان بعد ظهور الإسلام أيّ طريقة وهدي من هدي أهل الجاهلية الذي أبطله الإسلام، وجاء محله بسنة من السنن وهدي من الهدي.
الكلمة الثانية: (الْجَاهِلِيَّةِ) والجاهلية لفظ يعود إلى الجهل، وقد ذُكر في القرآن في غير موضع كقول الله جل وعلا ?أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ?[المائدة:50]، وكقوله جل وعلا? وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى?[الأحزاب:33]، واسم الجاهلية يعود إلى الجهل, الجهل بأثر الرسالة، وكل من خالف الرسول الذي كان في زمنه فهو في جاهلية، ولذلك قال في آية الأحزاب (الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)؛ لأنه كانت جاهلية سابقة أولى ثم تتابعت الجاهليات؛ لأنهم جهلوا ما أنزل الله جل وعلا على رسله.
هذه الجاهلية مردها إلى الجهل وهو عدم العلم، عدم العلم بالشرع, عدم العلم بالكتاب المنزل, عدم العلم بما يستحقه الله جل وعلا, وتارة يكون الجهل بسيطا، وتارة يكون الجهل مركبا.
فيكون بسيطا: إذا كان لا يعلم المسألة أو لا يعلم الحكم أو لا يعلم العلم.
ويكون هذا الجهل مركبا: إذا كان العلم قريبا منه ولكنه لا يلتفت إليه، ولا يرفع به الرأس, ولا يهتم له, لأنه حينئذ يكون لا يعلم ولا يدري أنه لا يعلم.
(35/81)
هذه الجاهلية نقل إمام الدعوة رحمه الله تعالى كلام شيخ الإسلام بن تيمية على لفظ الجاهلية وهو كلام مهم ذكره في اقتضاء الصراط المستقيم، ويبين المراد بالجاهلية وهي كلمة من المهم خاصة في هذا الزمن أن نتعرف على ما يدخل فيها من أحكام.
قال رحمه الله: (قال قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قوله (سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ): يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة) ثم فسَّر المقيدة بقوله (أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنية أو غيرهما من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.)
وهذا الكلام من ابن تيمية ظاهر الصواب في تفسير الجاهلية.
لأن الجاهلية:
(35/82)
? تكون مطلقة: يعني مطلقة دون قيد يقيدها بزمن أو بمكان أو بشخص، إنما هي جاهلية مطلقة، وهذه الجاهلية المطلقة لا تُطلق؛ يعني لا تكون مطلقة، ولا يصح هذا الإطلاق إلا فيما قبل بعثة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أما بعد الإسلام فزالت الجاهلية المطلقة، لا يكون هناك جاهلية تطبق في زمن على كل الناس بعد محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وإنما تكون ثَم جاهلية مقيدة كما سيأتي بيانه؛ لأن الجهل رفع بعد محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وبعد إنزال القرآن، وعلِم الناس و لا يزال في هذه الأمة من هو قائم بأمر الله جل وعلا كما أخبر بذلك عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في قوله «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله أو حتى تقوم الساعة» وأجمع أهل العلم على أنه لابد أن يكون في هذه الأمة هذه الفئة هذه الطائفة التي تنفي وجود الجاهلية المطلقة، وحينئذ إذا كانت هذه الفئة لابد أن تكون موجودة بعد رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و لا تنقطع، قد تكبر في زمن وقد تقل بحسب الحال وبحسب قوة أهل الدين وضعفهم؛ لكن لابد من قيام هذه الفئة ووجود هذه الفئة يرفع الجهل المطلق، ولهذا لابد أن تكون هذه الفئة ظاهرة، ولابد أن تكون هذه الطائفة ظاهرة كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) يعني أنهم ظاهرون بالحق يقولون به ويجاهدون فيه.
قال أهل العلم ظهور هذه الطائفة نوعان:
· ظهور بالسيف والسنان إذا جاء الجهاد وظهرت مسوغاته الشرعية فإنهم يظهرون على غيرهم؛ لأن الله جل وعلا ناصر رسوله وأهل الإسلام.
· والظهور الثاني هو الظهور بالبيان والحجة.
فإذن لا بد أن يكون الظهور إما ظهور كامل بالسنان والبيان، أو على الأقل ظهور بالبيان.
(35/83)
إذا كان كذلك فإن الجاهلية المطلقة قد ارتفعت فلا جاهلية مطلقة حتى في قرن من القرون، ولذلك أخطأ من وصف قرنا كاملا بأنه في جاهلية كقول بعضهم مثلا (جاهلية العصر)، أو(العصر عصر جاهلي) أو (القرن قرن جاهلي) ونحو ذلك، هذا فيه تعميم، وهذا ليس بموافق لما دلت عليه النصوص وفسَّره أهل العلم.
? النوع الثاني وهو المهم الجاهلية المقيدة: والجاهلية المقيدة يعني ليست بمطلقة بل يكون ثَم تقبيد فيها، والتقييد قد يكون في زمان دون زمان، وقد يكون في مكان دون مكان، وقد يكون في شخص دون شخص.
أما الجاهلية بالنسبة للزمان: فإنه يكون بالنسبة للعرب مثلا قبل رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقول: كانوا في جاهلية باعتبار زمانهم. وهناك بعض أتباع الرسل ممن اتبعوا الرسل بالحق ولم يحرِّفوا الدين وكانوا على بقايا دين رسولهم كانوا ليسوا على جهل، فهذه الجاهلية منسوبة إلى زمن من الأزمنة وهي ما كان قبل البعثة.
الثاني من التقييد جاهلية مكان: يعني أن تكون جاهلية في مكان دون مكان، وهذا كثير بحسب ظهور السنة وخفائها، وبحسب ظهور الإسلام وخفائه، وبحسب ظهور تلك الطائفة في ذلك المكان بعينه وعدم ظهورها، فمثلا عادت الجزيرة في وقت من الأوقات إلى جاهلية كما في قبل دعوة الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانوا في جهل كبير، وكان عندهم من أمور الجاهلية في العقائد وفي المعاملات الشيء الكثير، وهذا قد يتغير فيكون في مكان تكون هناك جاهلية وفي زمن في ذلك المكان تكون جاهلية وفي ذلك تظهر السنة ويظهر الإسلام ويكون هناك جاهلية في مكان آخر، فلا يلزم من رفع الجاهلية المقيدة بمكان أن ترتفع كل الجاهليات المقيدة, بل الجاهلية المقيدة هذه بحسب ما الناس فيه من الاهتمام والقيام بأمر الله جل وعلا أو عدم القيام بذلك.
(35/84)
القسم الثالث الجاهلية المقيدة في شخص دون شخص: وهذا كثير قد يكون هناك جماعة من الناس الكل مسلم هذا فيه بعض خصال الجاهلية والآخر ليس فيه من الجاهلية شيء، وهذا كما روى البخاري مثلا في صحيحه أن رجلا من الصحابة رضي الله عنهم عيّر رجلا أسودا بأمه فقال له: يا ابن السوداء. فرفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «أعيرته بأمه إنك امرئ فيك جاهلية»، وفي خارج الصحيح وفي بعض طرق الحديث أن ذلك الرجل كان أبا ذر رضي الله عنه، قوله (إنك امرئ فيك جاهلية) يدل على أن المرء المسلم قد يكون فيه بعض خصال الإيمان وبعض شعب الجاهلية، وأن ذلك لا يجتمع أو يرتفع مطلقا؛ بل يجتمع في الشخص المعين هذا وهذا، كما يجتمع فيه شعب الإيمان وشعب المعصية, أو يجتمع فيه إيمان وبدعة، أو يجتمع فيه إسلام وجاهلية, وهكذا، مثل ما قد ترون من أن بعض الأشخاص يكون عنده بعض خصال الجاهلية مثل الفخر المذموم الذي لم يأذن به الشرع، ومثل التعدي، ومثل تعظيم ما كان عليه الآباء والأجداد بغير حق، ومثل الافتخار بالباطل، ونحو ذلك مثل التقليد المذموم، ونحو ذلك من أفعال أهل الجاهلية الذين كانت سمتهم التعصب المذموم والتقليد والنخوة بغير حق.
بهذا قد يكون الجهل في مسلم, قد يجتمع في مسلم إسلام ومعصية, إيمان وبدعة، قد يجتمع في المؤمن كذا وكذا؛ لكن بشرط أن لا تبلغ المعصية أو البدعة إلى شيء كفري، وهذه كلها من خصال الجاهلية.
(35/85)
إذا تبين هذا فالجاهلية تحتها مباحث كثيرة وتفصيلات، ومراد المصنف رحمه الله تعالى بإيراد هذا الحديث هو هذه الجملة (مُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)، وهذا فيه أكبر التحذير من أن يدعو أحد إلى شيء من صنيع أهل الجاهلية وسننهم وطرائقهم، سواء أكان ذلك في العقائد و التعبدات، أو كان فيما دونها, وإذا نظرنا إلى حال هذه الأمة وجدنا أنها ما أصيبت إلا أنها فتحت أبواب سنن الجاهلية على الناس، فعبادة الأوثان ما جاءت إلا عن طريق ابتغاء سنن الجاهلية، وعبادة القبور تعظيم القبور والبناء عليها وتعظيم الأموات ونحو ذلك كل هذا كان مأخوذا من سنن الجاهلية، كذلك صور ورفع الصور تقديس الأشخاص وإعطائهم بعض ما لله جل وعلا من صفات والتعظيم المذموم شرعا، هذا كله كان في أهل الجاهلية، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلا لما قام عليه الصحابة في الصلاة وكان قاعدا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -يعني صلى قاعدا لمرض ألم به- قال «كدتم أن تفعلوا آنفا فعل فارس والروم بعظمائها»، وهذا الذي دخل في الإسلام في أمور العقائد أو وسائل العقائد مما يقدح في التوحيد أو يبث الشرك هذا متنوع كثير، ولذلك صنف الإمام المجدد رحمه الله تعالى مصنَّفا خاصا في بيان مسائل الجاهلية وأطال فيه النفس حتى بلغت فيه أكثر من مئة وثلاثين صورة من الصور التي كان عليها أهل الجاهلية وخالفهم فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كتاب مطبوع معروف، وله أكثر من شرح كتاب مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الجاهلية من العرب الأميين وأهل الكتاب ونحو ذلك، فصل في جميع المسائل المتعلقة بذلك.
(35/86)
فإذن من المنهج المهم الذي تميز به المتبعون للجماعة الأولى والمتبعون للسلف أنهم لم يكونوا يبتغون في الإسلام سنة الجاهلية؛ بل يعلمون سنن الجاهلية ويخالفونها ويعتزون ويستمسكون بما أمرهم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال في آخره شيخ الإسلام ابن تيمية (كتابيةٍ أو وثنية أو غيرها)؛ لأنّ الجاهلية منسوبة إلى الجهل، وهي المخالفة لما جاء به المرسلون، وهذه قد تكون موروثة عن العرب من الأميين، وقد تكون موروثة من النصارى، وقد تكون موروثة من اليهود، وقد تكون موروثة من عباد الأوثان أيا كانوا سواء أكانوا فرسا أو كانوا في الهند أو كانوا في أفريقيا أو بلاد الروم... إلى آخره، أي ملة فإن لها سنن، وهذه السنن هي سنة الجاهلية، سنة الجاهلية ليست مختصة بسنن العرب الذين يسمون أهل الجاهلية؛ بل أهل الجاهلية اسم يطلق على كل من جهل به المرسلون، وصنع هديا من عنده وسننا يلتزمها من أي ملة كانت، سواء كانت ملة رسالية أو كانت ملة غير رسالية وثنية أو غيرهما كما ذكره رحمه الله تعالى.
وهذه الجملة مهمة في هذا الحديث، وهي المقصد المهم في أن كل مسلم يجب عليه أن يبتعد أشد البعد عن كل سنن الجاهلية، وأن يكون متبعا لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنن الجاهلية كثيرة ومتنوعة، فواجب حينئذ أن يتعرف المؤمن على تلك السنن، وأن ينظر إلى ما كتبه العلماء في ذلك، وأن يلتزم بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا كان هذا في أفراد المسلمين، فإنه في الجماعات الإسلامية أو في الدول هذا من باب أولى وأشد؛ لأنه يلزمهم ما يلزم غيره ولأنه يقوم بهم ما لا يقوم بالأفراد، فواجب حينئذ أن تنفى سنن الجاهلية في الأفراد والجماعات والمجتمعات جميعا؛ لأن من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية فهو من أبغض الناس إلى الله جل وعلا بنص كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(35/87)
وإذا كان الأمر بهذه البشاعة وبهذا الجرم في أنه يكون من أبغض الناس إلى الله جل وعلا فيعظم هذا الأثر بعظم ما ينتج عن هذا الابتغاء ابتغاء سنة الجاهلية، فأول ما أدخل مثلا طائفة من المنتسبين لهذه الأمة أدخلوا لهذه الأمة عبادة القبور والتوسل بأصحابها، فشا في الناس عقيدة الجاهلية وعبادة الأوثان باختلاف أنواعهم، أدخلت طائفة سنن الجاهلية في الكلام وفي الصفات وفي القدر وفي المنطق إلى آخره، حتى غدت تلك الأمور هذه الأمة فأفسدت عقائدها وأفسدت دينها، وفي أبواب السلوك لما أدخلت طائفة من العباد طريقة النصارى في التعبد وفي تخلية النفس من الشوائب، وسرى هذا في الأمة ظهرت فرق الصوفية المختلفة وحدث في الأمة من المصائب ما الله به عليم من مخالفة في العقائد العلمية وفي المسائل العملية وهكذا.
فأول ما يحدث شيئا فشيئا، حتى أتى إلى أنه حدث في الإسلام من أراد تحكيم ما يسمونه سوالف الآباء وعادات الأجداد في أمور القبائل لأنهم إذا اختصموا حكموا إلى عرف القبيلة وحكم بينهم من لا يعرف حكم ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إلى أن وصل الأمر لهذا العصر الذي بلغ فيه أخذ الناس بسنن الجاهلية ما لا يدخل تحت حصر، ولو جُمعت المسائل التي أخذها أهل الإسلام المعاصرون من الجاهليات المختلفة لبلغت أكثر وأكثر مما ذكره إمام الدعوة رحمه الله في مصنفه المعروف بمسائل الجاهلية، فدخل ذلك في مسائل العقائد، ومسائل المعاملات؛ بل مسائل العبادات، ومسائل السلوك حتى في أصغر المسائل ابتغيت سنة الجاهلية حتى في الأكل والشرب وحتى في طريقة اللباس وحتى في طريقة كذا وكذا مما قد لا يهتم به المرء؛ لكن ابتغوا في الإسلام سنة الجاهلية، وهذا من أعظم المصائب التي تبدل حب المؤمن لدينه ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا فشيئا، والله المستعان.
(35/88)
قال بعدها رحمه الله (وفي الصحيح عن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإنْ استقمتم فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) يريد حذيفة رضي الله عنه بهذه الكلمة أن يوصي ويأمر أهل العلم وطلبة العلم طلبة القرآن, حفظة القرآن, ومن كان على قراءة في كتابة الله جل وعلا وعناية إقراءه في السنة وعناية أو قراءة في العلم وعناية يوصيهم بالاستقامة، والاستقامة هي لزوم الطريق المستقيم الذي وصف قبلُ، وأنه ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته رضي الله عنهم؛ لأن الاستقامة إنما هي سلوك الطريق المستقيم والطريق المستقيم طريق واحد وليس بمتعدد، وهؤلاء القراء إذا استقاموا فإنهم القدوة, وإذا أخذوا يمينا وشمالا من الأهواء والبدع والآراء المختلفة والاجتهادات التي تفرق، إذا أخذوا فإنه ولا شك يَفسد الناس؛ لأنهم إنما هم بعلمائهم وطلبة العلم عندهم وقرائهم، ولهذا كان من الكلام الحسن للحسن البصري رحمه الله تعالى أنه خاطب القراء في الكوفة فقال لهم: يا مِلْحَ الأرض لا تفسدوا. لأنه إن فسد الملحُ لم يؤكل الطعام. وهذا صحيح وهو من بالغ فقهه وعنايته؛ لأن القراء طلبة العلم أهل الاستقامة الذين ينظر إليهم، إن أخذوا يمينا وشمالا فسدت الجماعة أي أنه لابد أن يكون تفرق ولا بد أن تكون أقوال مختلفة لم يعد الناس يهتمون بأي قول من الأقوال؛ لأنه إذا تعددت الاتجاهات وتعددت الاجتهادات بأمور المنهج وأمور السنة والأمور العامة، فإن الناس لن يأخذوا بشيء لأن عامة الناس والسواد في المسلمين لا يُلزمهم إلا شيئان معا:
الأول: قوة السلطان.
والثاني: قوة أهل العلم واجتماع أهل العلم.
(35/89)
فإذا كان القراء تفرقوا واجتهدوا إلى أقوال كثيرة وفئات، إلى آخره، فإن أثر ذلك على الناس وعلى الدين وعلى الاستقامة سيكون أبشع الأثر, لهذا كانت وسيلة توحيد الناس هو أن يوحَّدوا على السنة السبيل والاستقامة، وهذه أقصر طريق؛ أن يوحّدوا على السبيل والاستقامة فإذا شفعنا على السنة والسبيل وكنا شيئا واحدا في ذلك لا نأخذ يمينا وشمالا كما ذكر حذيفة رضي الله عنه فإن الناس سيستقيمون وإن الولاية ستتأثر ويكون هناك قوة.
وكل من رأى تاريخ المسلمين المتأخر من ثلاثة قرون وجد أنه ما قوي أناس إلا بالاجتماع في دينهم ولا ضعفوا إلا بالتفرق, وإذا تفرقوا تسلط أهل الجاهلية وأغروا بعضهم ببعض وأخذوا بالخلاف والاجتهادات ما ييسر سبيل سنن الجاهلية المختلفة.
لذلك كانت وصية حذيفة وصية عظيمة في صميم المنهج الذي اختص به صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال (يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإنْ استقمتم فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا) يعني سبقتم في الخير, سبقتم في الدعوة, سبقتم في التأثير, (فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا) من جهة الشبهات، أو من جهة الشهوات (فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)، وإذا ضل القراء وضل العلماء وضل طلبة العلم وضل الدعاة فإن الناس من باب أولى أن يضلوا؛ لأنه إنما الناس بمقدَّميهم وبمن يقتدون بهم.
هذا الأثر هو كالتفسير لقول الله جل وعلا ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153]، وفيه من الفوائد أن:
القراء هم الصفوة، وفي ذلك كان اسم القراء يطلق على حفظة القرآن وعلى طلبة العلم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله»؛ يعني الأقرء الأعلم لكتاب الله جل وعلا، وإذا كان كذلك فإن القراء في كل زمن هم الأفقه وليسوا الأكثر قراءة.
(35/90)
قراء: هم الأفقه لكتاب الله جل وعلا، يعلمون حدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد يكون في زمن يكثر القراء الذين لا يعلمون, قراء يقرؤون القرآن، ويقرؤون السنة، ويقرؤون الكتب؛ ولكن لا يعلمون وليس عندهم علم، كما جاء في الموطأ أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقلَّ فقهاؤكم. هذه فتنة عظيمة أن يكثر القراء أن يكثر المطَّلعون, يستدلون بالقراء، يحفظون القرآن يستدلون بالسنة، عندهم علم بكلام الناس وبما في الكتب؛ لكنهم ليسوا بعلماء فقهاء, فهؤلاء لاشك يحدثون فتنة، لأنهم يضرون بالناس إذا قالوا ما لم يعلموا.
وإذا نظر الناظر اليوم في الأحوال وجد أن القراء كثروا والفقهاء قلُّوا؛ الفقهاء على الحقيقة, الفقهاء بالله جل وعلا بتوحيده, الفقهاء بالحلال والحرام, الفقهاء بالسنة قلُّوا ولذلك كثرت الأقوال الغريبة العجيبة التي نسمعها, فأصبح اليوم الصغير يسمع أكثر من قول، وكيف يوازن؟ وكيف يعرف أن هذا الأصح؟ هل كل أحد عنده من التقوى واليقين ما يتحرى فيه الصواب ولا يسأل إلا من يثق بعلمه ودينه؟ هذا قليل, لهذا إذا كثر القراء ولم يستقيموا على المنهج، لم يستقيموا على مقتضى العلم، واستعجلوا فإنه يحدث من المفاسد ما الله به عليم.
لهذا صار من مسائل المنهج المهمة في الدعوة أن يقام منهج العلم الصحيح؛ لأن من وسائل البناء المهمة في الدعوة سواء كان بناء الأفراد أو بناء الجماعات أن يقوي بناء العلم, كلما قوي بناء العلم على أصوله كلما قوي بناء الدعوة والتأثير على الناس([8]) سواء كان التأثير بالفتوى أو بالمحاضرة أو بالدرس إلى آخره.
أما إذا ضعف العلم وصار مهزوزا فإن التأثير سوف يكون مهزوزا، وسيكون الناس حينئذ في أمر مريج أقوال مختلفة كما هو ظاهر في أزمنة مختلفة بل وإلى يومنا هذا في عدد من بلاد المسلمين.
(35/91)
لهذا ينبغي في الحقيقة على كل من طلب العلم أن يحرص على الاستقامة بمعناها الواسع, الاستقامة في سلوك المنهج؛ منهج السلف الصالح, الاستقامة في العمل، الاستقامة في حفظ اللسان وحفظ الجوارح؛ لأن العبد يُنكب بفلتات لسانه, يُنكب عما يُعرض فيه عن بينة, يقول ما لا علم له به فيعاقبه الله جل وعلا, لأنه لا يعلم مسألة أخرى, فيصبح في جهل بين فترة وأخرى, لهذا احرص يا طالب العلم ويا معاشر القراء احرصوا على هذه الوصية بالاستقامة في كل المسائل, الاستقامة في أمور العلم، في أمور العمل, في أمور الصِّلات لإخوانك المؤمنين، في أمور الدعوة, في أمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الصلات، وجنب نفسك الهوى والزم نفسك بالاستقامة على ما دل عليه الدليل يكن الأمر في المستقبل خيرا إلى خير.
أما إذا عظم التفرق وضعفت الاستقامة من القراء بخصوصهم، وهم العلماء، طلبة العلم وأهل القراءة بعمومها، فإنه يحصل من المفاسد بقدر ما خالفوا.
وهنا لفتة في كلام حذيفة في قوله (فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا) لأن الصراط واحد والسالك فيه إذا أخذ يمينا وأخذ شمالا معناه خرج عن ذلك, خرج عن الصراط الواحد، خرج عن ذاك الطريق الواحد، فيأخذ يمينا فلا بد أن يكون في هوى، يأخذ شمالا فلا بد أن يكون في هوى، لهذا قال (فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) وهذا منه رحمه الله فيه التحذير الشديد من الالتفات عن الطريق والتزام المنهج الذي كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم وما دوَّنوه في عقائدهم المباركة من العلم والهدى.
قال بعدها رحمه الله (وعن محمد بن وضَّاح: أنه كان يدخل المسجد) يعني حذيفة (فيقف على الحِلَق فيقول: فذكره) يعني يقول: (يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ..)إلى آخره، و(الحِلَق) هي حلق طلبة العلم, حلق دروس العلم, حلق القراء الذين يقرؤون القرآن، إلى آخره.
(35/92)
(وقال) يعني محمد بن وضَّاح في كتابه المعروف البدع والنهي عنها (أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود- - رضي الله عنه -: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير؛ لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيُهدم الإسلام ويثلم).
هذا الأثر من ابن مسعود رضي الله عنه فيه فقه عظيم, فقه الصحابة فيما يصلح الناس، ويقيم الأمة على قوتها وعلى استقامتها وعلى هيبتها وعلى اجتماعها, قال (ليس عام إلا والذي بعده شر منه) يعني أن كل عام يكون ما بعده شر منه, طيب هذا الشرط هل يكون يعني في معايش الناس؟ هل يكون في أرزاق الناس؟ هل يكون في مآكلهم؟ في مساكنهم؟ هل يكون في دولهم في أمرائهم؟ ما فقه ابن مسعود لهذا الشرط, قال (لا أقول -هذا من التشويق- لا أقول عام أمطر من عام) يعني أن المطر سيقل، (ولا عام أخصب من عام), المراعي ستقل والخصب سيقل, ولا أمير خير من أمير؛ يعني أن أمير هذه السنة يكون خيرا من أمير السنة المقبلة يعني في كلام ابن مسعود، ولا أن الدولة في وقت ما يكون ما بعدها دولة أقل منها, وهكذا، لم يذهب إلى هذا لأن هذه مسائل يداولها الله جل وعلا, وربما أظهر شيئا بعد ضعف؛ لكن (ليس عام إلا والذي بعده شر منه) هذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسرها بن مسعود بقوله(لكن ذهاب علمائكم وخياركم) وهذا من عظيم فقهه وجليل إدراكه للقرآن, ولكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن حقيقة الشرط أن الشرّ في دين الناس, أن يكون الشرّ في الالتزام بالجماعة الأولى, الالتزام بالمنهج الأول الذي اختص به الله جل وعلا نبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، الكلام على لزوم الصراط، الكلام على نبذ التفرق في الدين, قال (لكن
(35/93)
ذهاب علمائكم وخياركم ) إذا ذهب العلماء الذين يقتفون السنة، ولا ينطقون عن هوى، ويبرئون ذمتهم، ولا يتوسعون في أمورهم في الفتوى ولا في أمور التوجيه ولا في أمور الإرشاد، إلى آخره؛ بل يلتزمون ما كان عليه الناس فإن هؤلاء هم مصدر الخيرية, لكن ما سبب ضعف العلماء أنهم يزاحمون قال (ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم)يعني العلماء لا بد أن يكونوا موجودين؛ لكن يزاحمون بأقوام يقيسون الأمور بآرائهم, هذا أول ما حدث في زمن الصحابة رضوان الله عليهم لما حدثت بدعة الخوارج قاسوا الأمور, ثم حدثت بدعة المرجئة قاسوا الأمور, والقدرية قاسوا الأمور، ثم أتى من يقيس الأمور في المسائل الفقهية أيضا، فأخذ بالعقليات و الأقيسة وقدمها على ما دل عليه الدليل بعدم علمه تارة ولتأويله تارة أخرى.
وهذا المعنى وهو حدوث من يقيس الأمر برأيه, يضعف مهما كان، يُضعف قوة أهل العلم فيذهب العلماء والأخيار ذهابا, هل هو بالموت فقط؟ أم أنه ذهاب بذهاب القوة؛ ذهاب التوجيه, ذهاب سماع الكلمة؟ هذا وهذا, قد يكون وقد يكون بهذا وقد يكون بذاك.
فالتابعون العلماء منهم كثير حفظوا لنا الدين؛ ولكن زاحمهم من قاسوا الأمور بآرائهم فبقيت الفرق وبقيت الفتن ونشأت وازدادت، وهكذا في كل زمن يزاحم أهل العلم من يقيس الأمور بآرائهم.
لهذا من المسائل العظيمة مما ابتليت به هذه الأمة حدوث الرأي وقياس الأمور بآرائهم، وأعظم ذلك في مسائل التوحيد والعقيدة، فما عُبدت الأوثان عُبدت القبور إلا بالأقيسة، قالوا هذا رجل صالح، هذا النبي له المقام الأعظم عند الله جل وعلا وهو حي لم يمت لأنه أكمل من الشهداء، هذه الأقيسة تبدأ شيئا فشيئا فإذا سألنا إذا استشفعنا به فهو حي يبلغه الكلام إلى آخره مما في كتب الخرافيين بعامة.
(35/94)
كذلك مسائل التوحيد, مسائل التوحيد في الصفات، أتى من قاس الأمر برأيه فنفى طائفة من الصفات وجعلوا معارضة الدليل بالعقل, يُقضى بالعقل على الدليل، حتى قال قائلهم: إن العقل هو القاضي المحكَّم والشرع في الشارع المعدل.كما ذكرها بعض من كتب في أصول الفقه من المشاهير، قال: لما كان العقل هو القاضي المحكم وكان الشرع هو الشارع المعدل؛ يعني جعل الشرع شاهدا عدلا لكن القاضي الذي يفصل ويحكم و ينفذ حكمه من هو؟ هو العقل، وهذا من قياس الأمور بالآراء وبالعقول، وهكذا في مسائل العبادات، وفي مسائل المعاملات، وفي مسائل كثيرة, ما ضرَّ الأمة مثلما ضرها أصحاب الإجتهادات الذين قاسوا الأمور بآرائهم ولم تحدث فتنة من الأمة من أول يوم حدثت فيه الفتن إلى زمننا هذا إلا بالإجتهادات والأقيسة الباطلة التي لم تلزم فيها السنة ولم يلتزم فيها المنهج الأول يظن الضان أن اجتهاده صحيح وأنه أنزه وأطوع لله جل وعلا وليس الأمر كذلك.
هل قتل عثمان إلا بالتأويل وبقياس الأمور، وهل قتل علي رضي الله عنه وما خيرة من تحت أديم السماء في ذلك الزمن، ما قتلا إلا بالأقيسة وإلا بالمصالح وبالادعاء أشياء.
لهذا وصية ابن مسعود رضي الله عنه هذه وصية عظيمة، وبيان شاف كاف و كانت الأمة تعقل, قال (ليس عام إلا والذي بعده شر منه) ما سبب كثرة هذا الشر وأن ما قبل يكون أسلم؟ قال (ذهاب علمائكم وخياركم), ذهابهم جميعا أو أنهم يقلون ويزاحمون (ثم يحدث أقواما يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم) وهذا الذي وقع هدم الإسلام في أزمنة كثيرة، وثُلم في أزمنة أخرى وصار من المفاسد من الذين قاسوا الأمور بآرائهم ما حصل من المفاسد والله المستعان.
هذه خاتمة هذا الباب وهو باب عظيم في باب بيان وجوب الدخول في الإسلام.
(35/95)
إذا كان كذلك فهذه الآثار وهذه الأحاديث التي مرت معنا وقبلها الآيات، هذه كلها تفسير للإسلام الذي يجب الدخول فيه؛ يعني تفسير إجمالي من جهة المنهج لا من جهة التفضيل, تفصيل عقائد الإسلام وأركان الإسلام، ولهذا لما ذكر تلك الجمل العامة والقواعد الكلية في وجوب الدخول في الإسلام، ومعنى ذلك أتبعه بباب تفسير الإسلام الذي أوضح فيه تفاصيل الإسلام الذي أمر الله جل وعلا به. نعم.
الأخ فهد يذكِّرُني بالجملة الثالثة في حديث ابن عباس وهي قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) هذه الجملة من أجلها أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب الدِّيات، وهو أن من الناس من يسعى في طلب دم امرئ بغير حق، يعلم أنه ليس له حق في دمه؛ لكن يسعى ويطالب حتى يقتل، وهو يعلم أنه ليس هو الجاني، وهذا فيه قتل لنفس زكية بغير نفس، وفيه سعي في الفساد في الأرض وقتل مسلم بغير حق، والمسلم دمه أعظم حرمة عند الله جل وعلا حتى من الكعبة؛ لأنَّ دمه يحرم إراقته إلا بحقه، وهو الثلاث المذكورة في حديث: حرمة دم المسلم إلا من ثلاث.
قوله (مُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ)، (مُطَّلِبُ) يعني أنه يسعى في الطلب ويشد فيه، قوله: (بِغَيْرِ حَقٍّ)؛ لأن دم المرء المسلم قد يكون يُسعى فيه بحق وذلك كقول الله جل وعلا ? وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا?[الإسراء:33]؛ يعني من قتل مظلوما فوليه له الحق بأن يقتص من هذا القاتل؛ ولكن كما قال جل وعلا ?فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا?[الإسراء:33]؛ لأن القتل قد يكون بحق وقد يكون بلا حق.
قال(لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) يعني ليريق دمه يعني ليقتل وهو يعلم أنه ليس له حق في ذلك. نعم.
?????
باب: تفسير الإسلام
(35/96)
وقول الله تعالى:?فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ?[آل عمران:20]الآية.
وفي الصحيح عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».
وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».
وعن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، أنَّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام فقال: «أنْ تُسلِم قلبَكَ لله، وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله، وأن تصلي الصلاةَ المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة» رواه أحمد.
وعن أبي قِلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الإسلام؟ قال «أنْ تُسلِم قلبَكَ لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك» قال: أي الإسلام أفضل؟ قال «الإيمان». قال: وما الإيمان؟ قال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعثِ بعد الموت».
[الشرح]
قال رحمه الله تعالى: (باب تفسير الإسلام) بعد أن بيّن فضل الإسلام، وبيّن وجوب الدخول في الإسلام، والأصول العامة لالتزام الإسلام، وما يجب الدخول فيه من حيث القواعد الكلية التي تشمل الاتباع والتلقي ومفارقة أهل الجاهلية، والاستقامة إلى غير ذلك، فسَّر الإسلام تفسيرا تفصيليا.
قال (تفسير الإسلام) والإسلام:
(35/97)
في اللغة: فِعْل أسلم يُسلم, أسلم يعني دخل في السلم، أو دخل في الإسلام، كما قال مثلا -يعني في اللغة-: أَرْبَعَ إذا دخل في الربيع, أَنْجَدَ إذا دخل أو أتى نجدا, أَتْهَمَ إذا أتى تهامة, وهكذا, فأسلم يعني دخل في السلم، والمسلم هو من أسلم لأنه رغب السلامة، وكل مسلم إذ التزم أو طبق الإسلام أو فعل أو اعتقد أصول الإسلام؛ يعني أصول الإسلام الخمسة وأركان الإيمان فإنه حينئذ يكون قد أسلم وجهه لله جل وعلا؛ يعني أنه لم يتبع الهوى بل لزم الاستسلام لله جل وعلا, هذا التفسير يأتي في بيان الآية والأحاديث الواردة.
أما في الشرع: فالإسلام ليس هو دخول في السلم؛ ولكن هو دخول -يعني أسلم يعني دخل في الإسلام الخاص الذي به صفاته له أركان، إلى آخره-, فقد يدخل السلم لكن لا يقال له مسلم، وقد يدخل في السلم -يعني في طلب السلام - لكنه في اللغة قبل كان ذلك شائعا، وهذا من الألفاظ الكثيرة التي نقلت من معناها اللغوي إلى معنى شرعي اصطلاحي، مثل الصلاة ومثل الإيمان ومثل الزكاة إلى غير ذلك، أما الإسلام في الشرع فقد بينته الآيات وبينته الأحاديث التي سيأتي بيانها إن شاء الله.
(35/98)
قال (وقول الله تعالى:?فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ?[آل عمران:20]) هذه الآية في سورة آل عمران، هي محاجة النصارى من أهل نجران الذين قدموا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمحاجته في مسائل، فلما حاجوه بيّن الله جل وعلا أن الدين عنده هو الإسلام، فقال ? إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ?[آل عمران:19]، ثم قال بعدها (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)؛ يعني إن حاجوك في هذا الدين هذا الإسلام الذي لا يرضى الله جل وعلا إلا إياه، وحاجوك في قبول ما هم عليه من الدين المحرَّف؛ عبادة عيسى واعتقاد أنه ابن لله جل وعلا، فقل معلنا لهم (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)، وهذه الجملة (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) يعني: دخلتُ في الإسلام الذي وصفتُ لكم أنا ومن اتبعني, و(أَسْلَمْتُ) كما ذكرت لك يعني دخلت في الإسلام ورضيت الإسلام، وعبَّر هنا بالوجه في قوله (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) لأن الوجه هو أشرف الأعضاء, والعرب تطلق الوجه وتريد جميع الجوارح وجميع الأعضاء في الإنسان، إذا قال (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) فيكون المراد هنا (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) يعني أسلمت الوجه والقلب والجوارح والإرادة والقصد لله جل وعلا وحده, ومن اتبعني كذلك فقد أسلم.
(35/99)
فإذن يكون هنا مطلق الوجه لشرفه، والمراد إسلام جميع الأعضاء والإيرادات والقلب إلى آخره, ولهذا في غير ما آية في القرآن ذُكر إسلام الوجه لله وأثني على من يسلم وجهه لله و هو محسن، كقوله جل وعلا ?بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ?[البقرة:112]، وكقوله?وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ?[لقمان:22]، وغير ذلك من الآيات، كقوله الله جل وعلا ?وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا?[النساء:125]، وإسلام الوجه لله جل وعلا فيه فائدة -يعني التعبير بالوجه- فيه فائدة, أن من أسلم الوجه فإنه لا يلتفت عمن توجه إليه أي التفات؛ لأن الوجه هو محل التركيز ومحل الآلات ومحل الحواس، فإذا أسلم الوجه وتوجه به فإنه لا يلتفت ببدنه ولا بقلبه ولا بإرادته وقصده عن الله جل وعلا.
فإذن في قوله جل وعلا (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) فيه أعظم الاستسلام لله جل وعلا, استسلام الوجه توجها وانقيادا وطاعة, واستسلام الجوارح في استعمالها فيما أمر الله جل وعلا به، واستسلام القلب في القصد والإرادة وأن لا يَلتفت عن الإخلاص وعن طلب الله جل وعلا عن أي التفات.
قال (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي من ابتغى سواء كانوا من الصحابة، أو من اتبع محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ممن جاء بعده إلى قيام الساعة فإنهم أيضا أسلموا وجههم وجميع جوارحهم, وأسلموا قلوبهم لله جل وعلا، فلا يلتفتون عن الله جل وعلا إلى غيره؛ بل اجتمعت قلوبهم وجوارحهم ووجوههم على الله جل وعلا.
(35/100)
وهذا فيه ثبات من اتبعه على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الآية هي كقوله جل وعلا ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[يوسف:108]؛ لأن من اتبعه سائر على طريقته وعلى سنته، وهذا فيه ثبات على السنة والثبات على المنهج، وعدم الالتفات عن طريقته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ولا عما كان عليه صحابته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في العقائد وفي العبادات.
وفي الآية أيضا من الفوائد ما يتصل بقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في الحديث الذي قبل (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) أنه أعلن للنصارى إعلانا ظاهرا بينا بعد محاجتهم له أنه أسلم وجهه لله وأنه لا يطيعهم في شيء من الأمر، فأعلن لهم ذلك، فعلموا أنه ثابت على ما قال، حتى وصل بهم الأمر إلى آخره إلى الدعوة إلى المباهلة كما هو معلوم في سورة آل عمران.
قال بعدها (وفي الصحيح عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»).
وقوله (في الصحيح) يعني في صحيح مسلم، وهذا قطعة من حديث جبريل المعروف، وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ آخر وهو «بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْس: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ َرمَضَانَ».
بيّن في هذا الحديث أركان الإسلام، والإسلام لا يصح إلا بشيئين:
¨ لا يصح إلا بعقيدة باطنة.
¨ وبعمل ظاهر.
(35/101)
كذلك الإيمان لا يصح إلا:
¨ بعقيدة باطنة.
¨ وبعمل ظاهر.
ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن الإسلام والإيمان واحد؛ يعني إذا تفرقا أو مطلقا؛ لأن كلا منهما يحتاج إلى اعتقاد باطن وإلى عمل ظاهر, فلا يصح إسلام أحد إلا بإيمان, كما أنه لا يصح إيمان أحد إلا بإسلام، فلا يتصور انفكاك بين الإسلام والإيمان بأنه يوجد مسلم لا إيمان معه البتة, أو يوجد مؤمن لا إسلام معه البتة, هذا لا يتصور، وليس بموجود يعني في الحقيقة وإنما يطلق الإسلام ويراد به الظاهر والباطن، ويطلق الإيمان ويراد به الظاهر والباطن؛ لكن الإسلام في الظاهر أظهر وأشهر, والإيمان في الباطن أظهر وأشهر، وكل منهما يشمل على شيئين كركنين فيه:
¨ فالإسلام: العقيدة ركن فيه، والعمل ركن فيه.
¨ والإيمان: العقائد الباطنة ركن فيه، والعمل أيضا ركن فيه.
وهذا الحديث دلَّ على تفسير الإسلام بالعقيدة وبأركان الإسلام الأربعة كما هو معروف في تفصيله في موضعه، فقال (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ), الشهادتان هما الركن الأعظم من أركان الإسلام لأنه بهما يدخل في الإسلام وهي الفارقة بين المسلم وبين غيره.
شهادة أن لا إله إلا الله؛ معناها لا معبود حقٌّ إلا الله, قال (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ), (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) هذه معناها لا معبود حق إلا الله، يعني لا معبود بحق إلا الله, معنى ذلك: أن كل معبود عبد فإنما عُبد بغير الحق, عُبد بالباطل, عُبد بالبغي, عُبد بالظلم، وهذه الشهادة تشهدها.
ومعنى الشهادة:
¨ أن تعتقد أولا.
¨ ثم تتكلم به ثانيا.
¨ ثم تُعْلِم به غيرك ثالثا.
(35/102)
ولا يعذر أحد إلا المكره أو المستخفي بدينه بأن لا يجمع هذه الثلاث, لا بد أن يعتقد التوحيد، وأن تتكلم به نطقا -يعني بالشهادتين-, وأن يُعلِم غيره بما دلت عليه هذه الشهادة أنه يعتقد ذلك، ويُبطل عبادة المعبودات المختلفة.
لهذا دارت تفاسير السلف في الشهادة على هذه الثلاث معاني -الاعتقاد والعلم ثم النطق بها والقول ثم الإعلام إعلام الغير والإخبار بذلك-، كما فسروها عند قوله تعالى ? شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ?[آل عمران:18]، وفي غيرها من الآيات كقوله ? إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[الزخرف:86].
(لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) تفسيرها هو تفسير الإسلام، وهو أنها راجعة إلى العبادة، إبطال عبادة المعبودات المختلفة؛ لأن الإله معناها المعبود, فهي فعال بمعنى مفعول, (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) يعني لا معبود إلا الله.
وطائفة من الناس يفسرون الإله بالخالق الرازق، وهذا التفسير للألوهية بالربوبية، وهو باطل، كما عليه طوائف هذه الأمة من أرباب الفرق جميعا كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والرافضة، وجماعة كثيرة من الفرق يفسرون الألوهية بالربوبية، وهذا باطل لأن معنى الإله المعبود، كما قال جل علا في سورة الأعراف في قراءة ابن عباس مثلا ?وَيَذَرَكَ وَإلهَتَكَ? يعني وعبادتك، وذكرت لكم قول رؤبة في رجزه المعروف:
لله درّ الغانيات المُدّهِ
سبّحن واسترجعن من تألهي
(35/103)
يعني من عبادتي, فالتأله أَلَهَ، يَأْلَهُ، إِلَهِةً, العرب لا تَعرف منها إلا أنه عبد، حتى إن بعضهم قال: الهمزة في (أله) أصلها واوا وهي(وَلَهَ)؛ لأنه عبد متولها متيما من الوله والمحبة الذي هو شدة المحبة، فلذلك دورانها لغة وشرعا يدل على بطلان قول أهل الفرق جميعا ومن نحا نحوهم من المفسرين ممن فسر الألوهية بالربوبية، ولذلك كان من أعظم ما أحدثه الإمام رحمه الله محمد ابن عبد الوهاب في العلم أنه صحح الفهم لمعنى الإله والفرق بين الألوهية والربوبية، وأثار كلام السلف في هذه المسألة وكلام العلماء في أن الإله غير الرب، وأن الرب يُطلق ويراد به السيد المتصرف.
وسئل مرة رحمه الله: هل الربوبية غير الألوهية مطلقا؟ وهل الرب لا يطلق ويراد به الإله؟ فأجاب الإمام رحمه الله وهي مدونة في أجوبته المعروفة, أجاب: بأن الألوهية والربوبية, والإله والرب بينهما، أو قال هي من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت.
فقد يُطلق الرب وحده ويعني به الإله كقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ مثلا «إن العبد إذا دفن يُسأل من ربك؟», يعني من معبودك؟ لأن الابتلاء لم يقع في الربوبية، وكذلك في قوله تعالى ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ?[التوبة:31]، وفي تفسيرها في حديث عَدي قال: ما عبدناهم. إلى أن قال: «فتلك عبادتهم». فصار تفسير الربوبية بالعبودية، وكذلك في قوله ?وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[آل عمران:80].
(35/104)
يعني آلهة, يعني أنه يريد أن لفظ الرب والإله كلفظ الإسلام والإيمان إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت؛ لكن يكون دلالة أحدهما -يعني الرب على الإله- إما دلالة بالتضمن أو دلالة باللزوم؛ يعني أن الربوبية تشتمل الألوهية، أو أنه يلزم من كونه ربا أن يكون معبودا، ومن كونه إلها أن يكون ربا، يعني كِيفْ يعبد الناس من ليس برب؟ ومن ليس بخالق؟ ومن ليس برازق؟ ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191]، لا شك أن من لا يخلق لا يستحق العبادة.
ولذلك من تفاسير المتكلمين بالإله أنهم قالوا: الإله هو القادر على الاختراع. يعني الخالق، هذا باطل.
ومن كلام الأشاعرة في كلامهم المعروف أنهم قالوا: إن الإله هو المستغني عما سواه, المفتقر إليه كل ما عداه. حتى قال السنوسي في أم البراهين المشهورة من عقائدهم قال: فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله. وهذا يُقرّ به أبو جهل ويقر به أبو لهب أنه لا أحد يستغني عما سواه إلا الله هو المتوحد بالاستغناء وهو المتوحد في افتقار كل شيء إليه جل وعلا، هذا يقرّ بها مشركوا العرب، ويقر بها كل من ليس بملحد؛ لأن الله هو الغني الأعظم وهو القوي القوة العظمى.
وهذا من البلاء الذي مشى على كثير من المفسرين وفي كثير من شرَّاح الحديث، حتى أصبحوا يفسرون الألوهية بالربوبية حدث انحراف كبير.
(35/105)
قال (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) هذا تفسير للإسلام بركنه الأول، (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)؛ يعني أن تشهد اعتقادا وتنطق وتُعلم غيرك بأنّ محمدا الذي هو ابن عبد الله الهاشمي القرشي هو رسول الله حقًّا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وأن ما جاء به من الرسالة حق، وأن ما قاله صدق، وأنه ما جاء به واجب القبول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهذا معنى الشهادة بأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ رسول الله.
وفسرها بعض أهل العلم بقوله معنى الشهادة بأن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
فهذا تفسير صحيح المقتضي للشهادة بأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ رسول الله حقا.
هذا هو الركن الأول، وهذا شيء اعتقادي يعتقده المرء وله أثر في العبادة الظاهرة.
ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم بإذن الله جل وعلا.
وأسأل الله لي ولكم الانتفاع بما سمعنا، وأن يجعلنا من أهل سنته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وأنْ لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يهيأ لنا من أمرنا رشدا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[الحمد لله] والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا, ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بك.
مضى الكلام في باب تفسير الإسلام على حديث عمر رضي الله عنه المعروف بحديث جبريل وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسر الإسلام فيه بأن الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومضى معنا تفسير هاتين الشهادتين.
(35/106)
ومما يضاف على ما سبق أن تحقيق الإسلام متوقف على الإتيان بالشهادتين وتحقيقهما، والشهادتان هما رأس الإسلام، وهما الركن الذي يُفرق فيه وبه بين المسلم والكافر.
ومقتضى الشهادتين يتفاوت الناس في تطبيقه وفي امتثاله وفي الإتيان بكماله.
واختلف أهل العلم هل الإسلام من الإيمان يزيد وينقص، أم أن الإسلام لا يوصف بالزيادة والنقصان؟
وأكثر أهل السنة والجماعة على أن الإسلام مثل الإيمان يوصف بالزيادة والنقصان، وذلك لأمور:
الأول: أن حقيقة الاستسلام يتفاوت الناس فيها، والاستسلام:
¨ ثَم استسلام واجب لله جل وعلا بالتوحيد، وهذا الواجب من تركه يكفر فلا يدخل في الدين أصلا، أو يخرج من الدين.
¨ وثم استسلام من تركه فقد قصَّر و أذنب، وهذا يتفاوت الناس فيه، يتفاوت الناس في تحقيق الاستسلام في نفسه، فهذا استسلامه لله جل وعلا بالتوحيد وانقياده له بالطاعة عظيم، وذاك الآخر أقل، وهكذا؛ بل حتى في المعين تارة يزيد وتارة ينقص نوع استسلامه ونوع انقياده لله جل وعلا بالطاعة مع تحقيقه لما يصير به مسلما.
(35/107)
الأمر الثاني الذي قالوا أن من أجله الإسلام وينقص: أن الإسلام فُسِّر بالشهادتين وبالأركان العملية، وشهادة أن محمدا رسول الله فسرت أيضا بأن مقتضاها طاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. وثلاثة من هذه وهي طاعة الأمر واجتناب النهي وأن لا يعبد الله إلا بما شرع يتفاوت الناس فيها، فهذا يكون أكمل تحقيقا لمقتضى الشهادة من ذلك بمقتضى تحقيقه لذلك؛ بل حتى نفس التصديق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض الناس يكون أعظم تصديقا من بعض آخر، ولهذا فحقيقة الشهادة لله جل وعلا بوحدانيته في الألوهية يعني بأن لا إله إلا الله ولنبيه بالرسالة وأن محمدا رسول الله حقيقة الشهادة تقوى في القلب وتضعف، فقد تقوى حتى تحرق ما في القلب من الشبهات ومن الرغبة في الشهوات، وقد تضعف حتى لا تحرق إلا القليل، وهكذا في الناس، لهذا قالوا أن هذا يدل على أن الإسلام منه ما هو كامل ومنه ما هو أدنى من ذلك.
والأمر الثالث: أن الإسلام فسر بالأركان الخمسة جميعا التي فيها أركان عملية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وأيضا أشياء أخر كسلامة المسلم من اللسان واليد كما يأتي في الحديث الذي بعده «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»، وفي صفات أخر للمسلم، وما دام أنها أتت هذه الأشياء العملية والعبادات -عبادات القلب وعبادات الجوارح-، فالناس يتفاوتون في ذلك، وهذا يرجع في الحقيقة إلى نوع الأعمال التي يقوم بها المسلم.
إذا تقرر ذلك فهذه الأركان الخمسة التي ذكرت في هذا الحديث يتفاوت الناس فيها، فحقيقة الإسلام يتفاوت الناس فيه، فليس كل مسلم بدرجة مسلم الآخر.
(35/108)
وهل من ترك الأركان العملية الأربعة؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا هل من تركها يكون خارجا من الملة، أو إذا أسلم ولم يأتِ بها واتسع وقته للتعليم والإتيان ولم يأتِ بها هل هو مسلم؟ أم أنه ليس بمسلم؟
جمهور أهل العلم وعامة أهل العلم على أن من ترك هذه الأركان الأربعة جميعا فإنه ليس بمسلم، وأنه خارج من الملة إذا لم يصلِّ ولم يزك ولم يحج البيت بتوافر الشروط المعروفة في كل مسألة.
حتى إن طائفة من أهل العلم وهم أهل الحديث وعُزي إلى اتفاق الصحابة عليه قالوا: إن الصلاة في نفسها من تركها متعمدا فإنه لا يصح إسلامه، ومن تركها من المسلمين فإنه يكفر بشروطها المعروفة في كتب أهل العلم.
إذا تفرر هذا، فتفسير الإسلام الذي مر معنا فضله، ومر معنا وجوب الدخول فيه، ومر معنا ما يحظى به المرء يعني المسلم أو المسلمة إذا لزم هذا الإسلام فإنه لا بد له حينئذ من تحقيق الإسلام الذي أمر الله جل وعلا به، وإذا تفاوت الناس في تحقيق هذا فلهُم من فضله من النصيب بقدر ما حققوا من ذلك، وسيأتي في الأحاديث التي بعده مزيد بيان لهذه المسائل.
قال رحمه الله تعالى بعدها (وفيه) يعني في الصحيح، (عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ») يعني بذلك رحمه الله تعالى أن هذا الحديث صحيح، وهو في الصحيح من غير حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ويحتاج إلى مزيد بحث؛ هل هو في أحد الصحيحين من طريق حديث أبي هريرة أم لا؟ و إنما هو معروف من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره في الصحيح.
(35/109)
قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) هذا تفسير للمسلم بأنه (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ), وهاهنا وجهان لتفسير المسلم بهذا الوصف، ومعلوم أن المسلم هو من شهد الشهادتين وأتى بالأركان, المسلم من صَدَقَ وبَر, المسلم من لم يأتِ المحرمات، المسلم إلى آخره، فثم صفات كثيرة للمسلم, فلم حصر هنا وصف المسلم بأنه من سلم المسلمون من لسانه ويده؟
والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: أنه هنا وصف المسلم بهذا الوصف لأجل قلة من يسلم المسلمون من ألسنتهم وأيديهم، فهو وإن كان آتيا بالأركان الخمسة؛ لكنه قلَّ من يكون بصاحب غيبة أو وقوع في الأعراض, أو قذف، أو قد يعتدي بيده، أو أن يعتدي على أملاك الغير، أو أن يتصرف في أملاك الغير بغير إذنهم، إلى آخره، هذا قليل في المسلمين كما هو الواقع.
فإذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبَّه بهذه الخصلة على أنَّ من أتى بهذه الخصلة وهم القليل فهم أحرى أن يأتوا بالخصال الأخرى من خصال الإسلام.
(35/110)
الوجه الثاني: أنه وصف المسلم بهذا الوصف لشدة الحاجة إليه، للتنبيه على أن هذا الوصف وهذا الواجب وهو سلامة المسلمين من اللسان واليد أن هذا واجب من واجبات الإسلام، ويجب أن يتعاهده المسلم؛ لأن المسلم الكامل هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، وهذا جاء مبينا في آيات كثيرة في الحض على أن المسلم يجب أن يسلم المسلمون من لسانه كما قال جل وعلا ?وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ?[الحجرات:12]، وقال أيضا جل وعلا?لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ?[النساء:148]، وقال أيضا جل جلاله?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53]، وقال جل وعلا?فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ?[الحجر:85]، ونحو ذلك من الآيات التي فيها نقاء المسلم وأنه صاحب قول طيب وأنه لا يخوض في أعراض إخوانه المؤمنين، وكذلك ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أبي بكر وغيره أنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال في حجة الوداع «فَإِنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ, كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هََذَا, فِي شَهْرِكُمْ هََذَا»، وفي حديث آخر أيضا في الصحيح «كُلّ الْمُسْلِمِ عَلَىَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ. دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».
وإذا كان كذلك فوجب حينئذ أن يسلم كل مسلم من المسلم الآخر في اللسان واليد والاعتداء على العرض أو على المال أو على ما يختص به أخوه المسلم.
(35/111)
فإذن على أحد هذين الوجهين أو على الوجهين معا يدل ذلك على أن مما يفسر به الإسلام التفسير الصحيح: أن المسلم الحق هو من يسلم المسلمون من لسانه ويده، أما إذا كان وقَّاعا في أعراض إخوانه المؤمنين لا يحفظ لسانه لا من غيبة ولا من نميمة ولا من كذب، وينتصر لنفسه بالباطل ويعتدي, هذا لم يأتِ بحقيقة الإسلام المطلوب من المؤمن؛ لأن الإسلام المطلوب من المؤمن منه ما يتعبد به ربه جل وعلا بأداء حق الله جل جلاله وأداء حق نبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ثم بأداء حقوق العباد وخاصة المسلمين في أن يسلموا من اللسان واليد وأنواع الاعتداء.
إذا تبين هذا فإن تفسير الأول ينبغي أن يُنظر فيه دائما وهو الارتباط القائم ما بين تحقيق الإسلام وسلامة المسلمين من لسان المسلم ويده, تحقيق الإسلام فيمن حققه وعبد الله جل وعلا حقا وحقق الشهادتين وأقام الصلاة آتى الزكاة وصام وتعبد لله جل وعلا ذلا وخضوعا وانقيادا، فإنه حينئذ سيتنكف بأن يؤذي مسلما سواء أكان ذلك المسلم قريبا له في النسب أم لم يكن قريبا له, سواء أكان جارا له أم لم يكن جارا له، فكيف إذن يكون المسلم إذ والديه؟ أو إذا آذى أهله؟ أو إذا آذى جيرانه؟ أو إذا آذى من يعاشرهم دائما؟ وهكذا.
ففيه تنبيه على أن تحقيق الإسلام باجتماع أداء حق الله جل وعلا وحق رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقوق العباد, حقوق المسلمين أنه هو التفسير الكامل للإسلام، وهذا ما أراده الإمام المصنف رحمه الله تعالى.
قال بعدها (وعن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، أنَّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام) يعني أنه قال ما الإسلام؟ (فقال: «أنْ تُسلِم قلبَكَ لله، وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله، وأن تصلي الصلاةَ المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة» رواه أحمد).
(35/112)
هذه النسخة (بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده) هذا إسناد مشهور رويت به أحاديث كثيرة معروفة عند أهل الحديث، والصحيح فيها أنه إسناد حسن إذا صح الإسناد إلى بهز؛ لأن (بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده) طريق معروف وجادة معروفة ونسخة معروفة، فلذلك إذا صح الإسناد إليه فإنه يكون ما بعده حسنا كما هو معروف عند أهل العلم.
قال: ما الإسلام؟ المعروف أنه إذا وقع الجواب بعد السؤال عن الماهية أن يكون الجواب ركنا أو أركانا فيما وقع السؤال عنه، فسأله عن الإسلام؛ ما الإسلام؟ فيأتي ما بعده أركانا للإسلام، مثل ما مر معنا أن جبريل عليه السلام قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرني عن الإسلام، فقال «الإسلام...» إلى آخره، فهذه سميت أركان الإسلام لأنه وقع الجواب بعد السؤال عن الماهية، والسؤال عن الماهية يطلب فيه بيان الماهية، لهذا قلنا إن أركان الإسلام خمسة، وبعدها قال: أخبرني عن الإيمان؟، قال«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ»، هذه صارت أركان الإيمان الستة. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ», هذا صار ركن الإحسان الوحيد.
إذا تبين هذا، فهذا الحديث فيه سؤال عن الإسلام, وجاء التفسير، وهذا التفسير الذي فيه يدل على أن هذه أركان للإسلام، وأنه من لم يحققها فإنه ليس بمسلم, أو فاته الإتيان بأركان الإسلام.
قال (أنْ تُسلِم قلبَكَ لله، وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله)، هاتان الكلمتان (أنْ تُسلِم قلبَكَ لله، وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله) هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله, ولكنها بعبارة أخرى تبين حقيقة هذه الشهادة فيما دلت عليه ظاهرا وباطنا.
(35/113)
أما ما دلت عليه ظاهرا هو أن لا يُعبد إلا الله وحده، وأنَّ عبادة غيره باطل وهذا هو معنى قوله (وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله) يعني في أي عبادة في أي أمر في أي مصيبة في أي حاجة أن يكون الرغب والرهب والملتجأ والاستغاثة هي بالله جل وعلا وحده، وذلك أن العرب كانوا إذا أتاهم شيء ولوا وجوههم إلى آلهة متعددة، فأتى الإسلام بإسلام الوجه لله جل وعلا، وأن لا يتوجه بقلبه ووجهه إلا إلى الله جل وعلا وحده دون ما سواه، لهذا قال (وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله) يعني وحده دونما سواه ففيها إبطال لعبادة الآلهة المختلفة.
قال قبلها (أنْ تُسلِم قلبَكَ لله) وإسلام القلب لله جل علا يعني أن لا يكون في القلب معظَّم غير الله جل وعلا وأن يستسلم القلب لله جل وعلا بالطاعة والانقياد، وهذا ركن من أركان الإسلام، وركن أيضا من أركان الإيمان بالله، وبيانه أن قلب المسلم لما أسلم ووحد الله جل وعلا فإنه منقاد له طائع، والانقياد والطاعة نوعان:
¨ انقياد وطاعة في القلب.
¨ وانقياد وطاعة في الظاهر.
(35/114)
والذي هو ركن الإسلام هو الانقياد والطاعة في القلب، إلا في التوحيد وفيما يتعلق بالشرك، فهذا -يعني بنبذ الشرك وأن لا يعبد إلا الله- فهذا مطلوب الانقياد فيه باطنا وظاهرا، ومن لم ينقد ظاهرا فهو مشرك, أما سائر الأحكام العملية مثل أداء الصلاة والزكاة، ومثل تحليل ما أحل الله جل وعلا، وتحريم ما حرم الله جل وعلا إلى آخره، فهذا إذا انقاد بقلبه وأطاع أن هذا يجب أن يُعمل، وهذا يحب أن يُترك لكنه خالف في الظاهر فإن هذا ليس قادحا في أصل الإسلام، بخلاف ما لو أنه لم ينقد باطنا, لم ينقد بقلبه؛ لأنه لم يُسلم لله جل وعلا طاعة وانقيادا، بحيث يقول مثلا في الخمر في داخله أنها محرمة ومسلم قلبه طاعة لله جل وعلا وانقيادا في تحريمها؛ لكنه في الظاهر يشرب الخمر أو يتظاهر بها أو يجاهر بها، فهذا لا يقدح في أصل إسلامه؛ لأنه منقاد ويطيع باطنا، وكذلك في مسائل الزنا والسرقة وسائر المحرمات وقطيعة الرحم وبر الوالدين إلى آخره، وكذلك في مسائل أداء العبادات المفروضة العملية كالصلاة والزكاة إلى آخره, إلا -يعني فيما ورد الخلاف فيه - يعني مثل الصلاة والتفريق ما بين الالتزام وعدمه والجحد وعدمه فيمن لم يصلِّ ظاهرا.
إذا تبين هذا فمن أعظم ما يحقق الإسلام إسلام القلب لله جل وعلا بأن لا يكون القلب مستسلما إلا لله جل وعلا وحده, ومعلوم أن الاستسلام يتبعه الطاعة ويتبعه المتابعة ويتبعه الرغب ويتبعه الرهب، فإذا كان القلب مستسلما لله جل وعلا وحده فإنه ينشأ عن ذلك أنواع كثيرة من العبادات لا تحصى، ومن ذل القلب ومن خضوع القلب مما يجعل حقيقة الإسلام عظيمة، ومما يجعل تحقيق الإسلام عند العبد أعظم وأجل.
(35/115)
لهذا ينبغي العناية دائما في تحقيق الإسلام وهو ما أراده المصنف رحمه الله تعالى فيما يظهر هنا أن يكون العبد مسلما هواه وقلبه وإرادته وقصده لله جل وعلا وحده، وهذا كما قال جل وعلا ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ?[الأحزاب:36]، وقال جل وعلا ?إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا?[النور:51] ونحو ذلك من الآيات التي تدل على وجوب الاستسلام لحكم الله جل وعلا في المسائل العلمية وفي المسائل العملية, وفي الحديث المعروف عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حتى يَكونَ هواهُ تَبَعًا لما جِئْتُ بِهِ»، وهو في معنى قوله جل وعلا?فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء:65].
قال بعدها (وأن تصلي الصلاةَ المكتوبة) قيدها هنا بالمكتوبة يعني المفروضة، والكتاب بمعنى الواجب، ومن ألفاظ الوجوب عند الأصوليين لفظ (كتب) و(الكتاب) كقوله جل وعلا ?كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ?[البقرة:180]، وكقوله جل وعلا ?كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ?[البقرة:183]، وكقوله ?إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا?[النساء:103]، وكقوله جل وعلا?كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ?[النساء:24] في سورة النساء بعد ذكر المحرمات.
قال (وتؤتي الزكاة المفروضة) الزكاة المفروضة إذا اكتملت شروطها فإن أداءها ركن من أركان الإسلام.
(35/116)
يريد الإمام المصنف بسياقه لهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره أن يبين لك أن إسلام القلب لله جل وعلا انقيادا وطاعة, وأن تولية الوجه لله جل وعلا دون غيره من الأنداد أن هذا من تفسير الإسلام؛ بل هذا من أعظم أركان الإسلام كما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وعن أبي قِلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الإسلام؟ قال «أنْ تُسلِم قلبَكَ لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك» قال: أي الإسلام أفضل؟ قال «الإيمان». قال: وما الإيمان؟ قال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعثِ بعد الموت»).
أما الجملة الأولى فهي مرت معنا (أنْ تُسلِم قلبَكَ لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك) فجمع ما بين حق الله جل وعلا وحق المؤمنين في أن يسلم المرء قلبه لله وحده وأن يسلم المسلمون من لسانه ويده, فيكون أدَّى حق الله جل وعلا وحق عبادة المؤمنين، ثم سأله (أي الإسلام أفضل؟ قال «الإيمان». قال: وما الإيمان؟ قال «أن تؤمن بالله وملائكته...) إلى آخره, (أي الإسلام أفضل؟) لأن الإسلام يشمل الدين كلَّه, لأن الإسلام يطلق ويراد به عموم الدين، ويطلق الإسلام إذا كان مع الإيمان ويراد به الأعمال الظاهرة كما قال جل وعلا ?قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ?[الحجرات:14]، وكقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الإيمان في القلب والإسلام علانية» رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد فيه ضعف؛ لكن معناه ظاهر وتشهد له الأحاديث الأخرى.
(35/117)
إذا تبين ذلك فأفضل الإسلام هو الإيمان, هل يمكن أن يكون الإسلام بلا إيمان؟ وأن يكون الإيمان بلا إسلام؟ ليس كذلك, وقد ذكرت لكم فيما مضى مختصرا أن العلماء اختلفوا هل الإسلام والإيمان شيء واحد أم هما شيئان مختلفان؟ وهل المسلم والمؤمن شيء واحد أم هما شيئان مختلفان على أقوال أقربها قولان:
القول الأول: وهو قول المحققين من أهل العلم: أن الإسلام والإيمان إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا؛ يعني أنه إذا صار في حديث أو آية ذكر الإسلام وحده فهو يعنى به الدين بما يشمل الإسلام والإيمان وغيره، وكذلك إذا ذكر الإيمان وحده فيعني به الإسلام والإيمان فيعني به الجميع، كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الإيمان بضع وستون شعبة أو قال بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ففسر أو مثّل لشعب الإيمان الكثيرة بأمرين هما من الأعمال الظاهرة التي هي أعمال الإسلام, قول لا إله إلا الله وإماطة الأذى عن الطريق وهذا بالاتفاق من الإسلام.
والقول الثاني: هو قول البخاري وجماعة من أهل العلم محمد بن نضر وجماعة: أن الإسلام والإيمان شيء واحد سواء اجتمعا أو تفرقا وكل منها يدل على صاحبه، واستدلوا على ذلك بالأدلة التي فيها ذكر الإسلام وعُني به الإيمان أو ذكر الإيمان وعُني به الإسلام وهي ليست دقيقة في محل النزاع، واستدلوا على ذلك أيضا بقوله جل وعلا ?فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(35)فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ?[الذاريات:35-36]، والصواب في ذلك أن الإسلام والإيمان يفترقان إذا اجتمعا لأدلة كثيرة وبسطٍ أظن بعض الدروس في هذه الدورة خصصت لبحث هذه المسألة المهمة.
(35/118)
(قال: أي الإسلام أفضل؟ قال «الإيمان». قال: وما الإيمان؟ قال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعثِ بعد الموت») هذه هي أركان الإيمان، وكما ذكرت السؤال عن الماهية؛ ما كذا؟ يكون جوابه من الأركان، لذلك هنا خُصَّت الأركان بالأركان الخمسة ولم يذكر القدر؛ لأجل أن الآيات التي في القرآن فيها ذكر هذه الأركان الخمسة دون ذكر القدر كقوله جل وعلا?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ?[البقرة: 285]، وكقوله?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ? إلى أن قال ?وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا?[النساء:36]، ونحو ذلك لأن القدر ذكر في القرآن منفصلا؛ لكن في حديث جبريل ذكر القدر فإذن أركان الإيمان إذن ستة هذه الخمسة ومعها الإيمان بالقدر.
وفي حديث وفد عبد القيس في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بالإيمان فقال «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتأدوا الخمس من المغنم» والتأدية؛ تأدية الخمس هذا عمل؛ فدل على أن العمل يدخل أيضا في حقيقة الإيمان، ووقع السؤال عنه بـ(ما) التي تدل على الركنية، وهذه المسائل لها بسط في مواضعه.
(35/119)
والمقصود هنا من ذكر الأركان الخمسة أو الأركان الستة وعدم ذكر العمل معها لا يدل على أن جنس العمل ليس ركنا في الإيمان؛ لأنه جاء مبينا في أحاديث أخر، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل, وأن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وأيضا عمل بالقلب، فهو قول واعتقاد، وهو أيضا عمل بالقلب وعمل بالجوارح:
أما القول: فظاهر وهو الشهادتان والاستسلام.
وأما الاعتقاد: فهو اعتقاد وحدانية الله جل وعلا وتتميم الأركان الستة المعروفة.
وأما العمل: العمل قسمان:
¨ عمل والجوارح.
¨ وعمل القلب.
وكلاهما ركن في الإيمان، فلا بد في تحقيق مسمَّى الإيمان أن يأتي بجنس عمل القلب، وأن يأتي بجنس عمل الجوارح، هذا قول أهل السنة والجماعة, أهل الحديث أتباع السلف الصالح فيما قرروه في عقائدهم، وقع في بينهم خلاف في بعض المسائل التطبيقية مما هو معروف.
عمل القلب ما هو؟ عمل القلب هو من جنس إسلام القلب لله جل وعلا, من جنس المحبة محبة الرب جل وعلا ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحبة دين الإسلام، من جنس الخوف والرجاء والرغب والرهب والتوكل, حسن الظن بالله، ونحو ذلك من العبادات القلبية المعروفة.
أما عمل الجوارح فهو كل عمل صالح يتقرب به العبد إلى ربه بجوارحه مما أمر الله جل وعلا به.
(35/120)
إذا تبين هذا فمراد الإمام رحمه الله بإيراد هذا الحديث أن تفسير الإسلام يشمل هذا الذي ذكر جميعا، فالإسلام يفسر بالإيمان وهو أفضل الإسلام، ويفسر بالأركان الخمسة بأداء حقوق الله جل وعلا عقيدة وفي العبادة، ويفسر أيضا بأداء حقوق العباد المؤمنين، ويفسر أيضا الإسلام بأن يُسلم قلبه لله جل وعلا انقيادا وطاعة، وهذه الأمور هي التي يدور عليها فلك الإسلام، أو يدور عليها أواغل الإسلام وما أمر الله جل وعلا به في تحقيق الإسلام, الإيمان وأركان الإسلام الخمسة, أداء حقوق العباد, استسلام القلب لله جل وعلا وحده دونما سواه وإسلام الوجه إلى الله جل وعلا وحده دونما سواه.
?????
[المتن]
باب قول الله تعالى: ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85]
وعن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلَاةُ فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّدَقَةُ فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ أَيْ يَا رَبِّ أَنَا الصِّيَامُ فَيَقُولُ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?» رواه أحمد .
(35/121)
وفي الصحيح عَن عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواه أحمد.
[الشرح]
قال رحمه الله تعالى (باب قول الله تعالى: ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85]) وهذه الآية مرّ معنا الاستدلال بها على وجوب الإسلام في باب وجوب الإسلام، وهنا عقد لها بابا مستقلا وذلك لأنه إذا وُجب الشيء لا يعني أن غيره باطل، أو أن ما عداه ليس بمقبول، فاستدل بالآية هناك على وجوب الإسلام من حيث هو بمعناه العام ومعناه الخاص، وهنا أراد أن يفرد لهذه المسألة بابا مستقلا يبين فيه أن الدخول في الإسلام كما أنه واجب، فكذلك الخروج من الإسلام بالتفسير الذي مر معنا فإنه لن يقبل من صاحبه، ومر فيما سبق في الشرح ما اقتصرنا على ذكر الدلالة من الآية على وجوب الإسلام بل استطردنا بعدها على بطلان كل دعوى لأخذ بالإسلام لم يأت فيما أمر الله جل وعلا به؛ لكن نكرر عنا بعض المسائل الزائدة التي تتعلق بهذا الموضوع.
قال (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) هذه الآية نص في أن الإسلام الذي أمر الله جل وعلا به عباده أنه من أراد أن يتدين بغيره فإنه لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وهذا يشمل فئتين:
(35/122)
الفئة الأولى: فئة غير المسلمين من أتباع الملل المختلفة والنحل المتنوعة، فإنهم بعد بعثة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كل من أراد البقاء على يهوديته أو على نصرانيته أو على مجوسيته أو على ملته أيًّا كانت، فإن هذا مردود عليه ولن يقبل منه، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «والله لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله في النار» وهذا في معنى الآية؛ لأنه بعد بعثة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فإن كل ملة باطلة، ويجب على كل أحد أن يدخلوا في هذا الإسلام، فإذا سمعوا بالنبي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وعلموا دعوته ورسالته ثم لم يؤمنوا به فإنَّ دينهم لن يقبل منهم.
الفئة الثانية: هم من المسلمين من هذه الأمة؛ لكنهم لم يأخذوا بالإسلام كما جاء في الكتاب والسنة وكما رضيه الله جل وعلا ورضيه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل أحدثوا في الإسلام محدثات وابتدعوا فيه بدعا وضلالات جعلوها دينا قويما وصراطا مستقيما، بحيث إنها عندهم هي الإسلام، وما عداها باطل وضلال، هؤلاء يشملهم أيضا قول الله جل وعلا (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) يعني عبادة هؤلاء ولو كانوا مجتهدين ولو كانوا يظنون أنهم على خير وصواب، فإنها لما كانت ليست على الإسلام الصحيح فإنها لن تقبل منهم، وهذا أمر عظيم يحتاجه كل طالب علم يحتاجه كل داعية بل يحتاجه كل مسلم فيما يقيم في نفسه من المحبة والبغض والولاء والبراء وتعامله مع الناس المنتسبين لهذه الأمة فإنه يجد منهم أصنافا متنوعة، قلَّ منهم من يكون على الإسلام الأول غير مغيِّر ولا مبدِّل.
(35/123)
إذا كان كذلك فيُعلم أنه مهما كانت عبادات المتعبدين فإنها لما كانت على خلاف السنة وفي البدع فإنها لا تقبل من أصحابها بنصِّ كلام الله جل وعلا، فمن ابتغى غير الإسلام الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لن يقبل منه، فمن ابتغى غير الإسلام في العبادات أن أتى بعبادات جديدة وأضافها على الدين فإنها لن تقبل منه، حتى ولو كان تعب في تعبده ونصب في عباداته فإن هذا لن يقبل منه؛ لأن الله جل وعلا لم يبتل العباد بكثرة العمل وإنما ابتلاهم بحسنه، وحسن العمل لابد فيه من الصواب فيه واقتفاء أثر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم الزيادة في الدين على ما جاء به عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
بهذا هذه الآية تشمل هاتين الفئتين، وعليه ستكون الخسارة متنوعة فمن كان على غير ملة الإسلام ولم يدخل في الإسلام وقوله ?وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85] يعني أنه من أهل النار المخلدين فيها خسارته عظمى، ومن كان من أهل الإسلام لكنه لم يلتزم بكل الإسلام وإنما ابتغى في بعض الإسلام محدثات وبدع وضلالات فإن هذا متوعَّد وخاسر فيما تعبد به من الضلالات وعليه إثم، وما فعله من البدع والمحدثات كبيرة من الكبائر، ولهذا يخشى عليه في ذلك.
وهذا أيضا يشمل من ابتدع البدع الكفرية والشركية المخرجة من الملة، هذا لاشك عاد بالإسلام إلى سنة الجاهلية وهو أشبه بالذين لم يدخلوا في الإسلام أصلا؛ لأنهم خرجوا من دعوى الإسلام وخرجوا من دين الإسلام بالشرك الأكبر وبما فعلوه أو اعتقدوه من الكفريات ([9]).
(35/124)
قال(وعن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلَاةُ فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ») قوله (تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) العلماء فسّروها على أحد تفسيرين:
¨ منهم من قال: (تَجِيءُ الْأَعْمَالُ) يعني يجيء ثواب الأعمال يوم القيامة والأجر الذي وضعه الله جل وعلا للأعمال.
¨ ومنهم من قال: (تَجِيءُ الْأَعْمَالُ) أنّ الله جل وعلا قادر على جعل الأعمال تجيء حقيقة، كما أنه يوزَن العمل وتوزن السيئات والحسنات فكذلك هذا، وكما يأتي القرآن يوم القيامة يحاج عن أصحابه، وكما يأتي العمل جملة يحاج عن أصحابه، فهذه كلها من جنس واحد.
وهذا الأخير هو الذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة في أن الأصل في الأمور الغيبية أن تقر على ظاهرها، وأن لا تؤول بتأويلات تصرفها عن ظاهرها، وكون الأعمال مجيء الأعمال يوم القيامة هذا مجيء غيبي لا نعرف حقيقته، وإذا كان غيبيا فيجب أن لا يسلط عليه التأويل؛ لأن التأويل يخرج الحقائق الغيبية عن حقائقها إلى مدركات العباد، ومدركات العباد لا تتناول الغيبيات؛ بل إنما تتناول المعبود لهم مما رأوه أو أحسوه أو قاسوا عليه.
فإذن نقول الصحيح أن قوله (تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أن هذا مجيء حقيقي، وأن الأعمال تجيء كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(35/125)
قال (فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلَاةُ) يعني أن الأعمال تتنافس في أن تكون شافعة لأصحابها أو أن تكون هي الميزان الذي يوزن به أهله، وهذا فيه تقرير لمسألة مهمة: وهي أن هذه الأعمال يكون بينها وبين أصحابها محبة ومودة وألفة، بحيث إن كل عمل صالح يريد لأصحابه الزلفى والنجاة، فهذه الصلاة تريد لأصحابها النجاة، ثم الصدقة -يعني المفروضة- تريد لأصحابها النجاة، ثم الصيام المفروض يريد لأصحابها النجاة إلى آخره أو صلاة التطوع أو صيام التطوع أو صدقة التطوع.
المقصود جنس هذه الأعمال أن يأتي ويريد لأهله النجاة، وأن يكون هو الميزان، فمن أتى به كان ميزانه راجحا وكان مُعْطا ومكرما ومن لم يأت به فإنه مُعَرَّض؛ لكن ربنا جل جلاله لما أتت الصلاة قال (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ) لأنها عبادة عظيمة، ثم كذلك في الصدقة قال (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ) لأنها عبادة عظيمة، ثم في الصيام قال (إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ) لأنه عبادة جليلة عظيمة.
(ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ) كل الأعمال الجهاد في سبيل الله جل وعلا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلب العلم، العمرة، الحج، صلة الرحم، يشمل قوله (ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ) يعني كل الأعمال الصالحة تجيء، وكلٌّ يريد أن يكون الوزن به، وأن يكون هو المعيار وهو الميزان، والله جل وعلا يقول إنك على خير إلى أن يأتي الإسلام.
(35/126)
وهذا فيه تنبيه إلى حسن الأدب مع من رام شيئا ولم يستحقه؛ بأنه يُثنى عليه ولا يهجَّن في قوله، هذا فيه أدب مهم لطالب العلم فيما يحكم به على الأشياء، أو فيما يُقَيِّم به الأشياء أو فيما يخاطب به الناس فربما مثلا يأتي واحد ويقول: أنا فعلت كذا وكذا. فيسفَّه؛ كيف نجعلك مثل كذا وكذا، إلى آخره، وهذا لاشك من استعجال الناس والعباد وعدم وزنهم بالوزن العدل والإنصاف والحق في كل الحالات، والله جل وعلا يعلِّم عباده أنه من طلب شيئا ليس بمستحق له أنه يثنى عليه بما هو فيه، ولا يعطى أكثر من منزلته، فقال الله جل وعلا للصلاة (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ) وللصدقة (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ) وللصيام (إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ) ولجميع الأعمال (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ)، ولكن لم يعطها سؤلها، ولم يلبي لها مطلبها؛ لأنها لا تستحق ذلك فهي أتت بشيء مقدر لكنه ليس هو الميزان.
قال بعد ذلك (ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ)، (السَّلَامُ) اسم من أسماء الله جل جلاله؛ من أسماء الجمال بالله جل جلاله، والسلام من آثاره كل سلامة سلم بها العباد، وكل أنواع السلامة لهم في دينهم وفي دنياهم فيما دقَّ من الأمر أو فيما جلّ فإنما هي من آثار فيوضات الله جل وعلا الذي هو السلام جل جلاله وتقدست أسماؤه، و(الْإِسْلَامُ) كما ذكرنا آنفا من أسلم إذا دخل في السلم يعني في اللغة وطلب السلامة فبينهما من جهة الاشتقاق مناسبة؛ لأن الإسلام فيمن أسلم يطلب السلامة، والسلام من أسماء الله جل وعلا الذي فيه فيوضات السلامة من جميع النواحي والجهات.
(35/127)
لهذا في هذا الدعاء من الإسلام (يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ) فيه تنبيه للعباد أن يكون مطلبهم ودعاؤهم بالتوسل بأسماء الله جل وعلا المناسبة لمطالبهم، فإذا كان يريد مطلبا في السلامة فإنه يدعو الله جل وعلا بأسمائه الحسنى بأسماء الجمال التي منها السلام مثلا فيما يطلبه، وهذا هو تحقيق لقول الله جل وعلا ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا?[الأعراف:180]، فيدعو العبد بما يناسب مطلوبه، إذا كان مطلوبه المغفرة فيتودد إلى الله جل وعلا بأسماء الجمال له جل وعلا كالغفور والرحيم والودود والتواب ونحو ذلك وبأسماء الجلال أيضا التي فيها عزته وجبروته وهيمنته وكبرياؤه جل وعلا لتعرضه لنفحات الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه، وكذلك في سائر المسائل، فالدعاء من أعظم ما يكون، فإذا وُفق العبد للدعاء بالتوسل والثناء على الله جل وعلا بما يناسب المطلوب فإنه لا يكاد الدعاء يُصرف بل يجاب كما أخبر الله جل وعلا بذلك.
هنا قال (فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ، فَيَقُولُ [اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ] إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?).
قوله: (بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ) يمكن أن يكون تفسيرها على أحد وجهين:
الأول: (بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ) من الأخذ وهو العقوبة والعذاب، والمؤاخذة أيضا.
والثاني: (بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ) يعني آخذ الوسيلة، آخذ الشفاعة فيكون الإسلام شافعا، يؤخذ شافعا، يؤخذ سببا، يؤخذ ميزانا.
والأول أظهر وهو أنه من الأخذ والمؤاخذة والعقوبة والنكال؛ يعني بك اليوم أؤاخذ وأعاقب وأنكِّل وأعذِّب.
(35/128)
(وَبِكَ [الْيَوْمَ] أُعْطِي)، (أُعْطِي) يعني أتكرَّم وأتفضل كقوله جل وعلا ?عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ?[هود:108].
فدلّ ذلك على أن الله جل وعلا جعل الإسلام هو الميزان؛ لأنه يعاقب بتركه ويؤاخذ بتركه كما أنه يكرم وينعم ويتفضل ويعطي بالإسلام.
فإذا كان الأمر كذلك فإن تحقيق الإسلام هو أعظم أسباب النجاة، أعظم ما يكون به الإعطاء والكرم والفضل من الله جل وعلا أن يحقق العبد إسلامه، وأن يكون مسلما على الحقيقة، وأن من تخلف عن ذلك فهو مؤاخذ وسيرد عليه ما تعبَّد به مما ليس من الإسلام.
وهذا كما ذكرنا يشمل الفئتين؛ فئة من ليسوا بمسلمين، وفئة أهل الإسلام الذين لم يحققوا الإسلام، فهؤلاء مخاطبون بالمؤاخذة ومتوعدون بقوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ).
إذا تبين هذا فإن هذا الحديث من الأحاديث العظيمة التي تهز النفس والفؤاد والجوارح في لزوم الإسلام الصحيح وعدم مخالفته إلى غيره، فكما ترى ليست المسألة مسألة العبادات من حيث هي فقط، وإنما المسألة مسألة تحقيق الإسلام، وهذا مما ينبغي بل يجب على طلبة العلم وعلى الدعاة إلى الله جل وعلا أفرادا وجماعات ومجموعات أن يعتنوا به كثيرا؛ لأن الغاية من الدعوة والغاية من التعليم هو نجاة العباد وتعبيد العباد لربهم جل وعلا، فإذا كانوا يُدعون إلى شيء لا تؤمن معه نجاتهم يوم القيامة فإنهم على خطر حينئذ، وتكون الدعوة ليست على بابها، وليست على ما يحقق للمرء النجاة إذا سلكه.
(35/129)
لهذا ينبغي كمنهج أن يؤخذ بالإسلام في شموله في الدعوة؛ لأن دعوة الناس إلى الإسلام يعني من المسلمين ومن غير المسلمين بحسب الحكمة والتدرج والبُداءة بالأهم فالمهم إلى آخره؛ لكن يدعى إلى الإسلام بشموله، فالذي لا يهتم مثلا بدعوة الناس إلى توحيد الله جل وعلا وتحقيق الشهادتين تحقيق الإسلام فإنه لم يهتم بالإسلام الصحيح بل اهتم بإسلام يظنه نافعا وربما كان غير نافع.
من الناس أيضا من يقتصر في دعوته على العقيدة فقط، دون أن يدعو الناس فيما يصلحهم في العبادات، وما يصلحهم في الأعمال، وما يؤدون به حقوق العباد وهذا أيضا فيه نقص.
فحقيقة الإسلام -وهو ما فسره الإمام في الباب الذي قبله- هو الذي يجب أن يتخذ منهاجا للدعوة، وهو الإسلام الذي يشمل جميع ما أمر الله جل وعلا به أمر إيجاب، أو نهى عنه جل وعلا أو نهى عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهي تحريم، ثم يأتي بعد ذلك المستحبات وغيرها من باب التبع.
وهذا يؤكد لكَ أنه يجب أن يُفهم كيف تُحقق الدعوة في حياة الناس؟ وكيف يدعو المرء إلى الله جل وعلا وأن تكون دعوته على وفق الإسلام الصحيح؟ إذا كان هو سيدعو إلى الإسلام الكامل الشامل فإنه هو في نفسه يجب أن يكون ملتزِما بالإسلام وتحقيق ما يجب عليه من الدخول في الإسلام، فإذا كان يدعو والمسلمون لا يسلمون من لسانه ويده فإن هذا لم يأت بما يحبه الله جل وعلا ويرضاه في أمر الدعوى، أو إذا كان يدعو إلى شيء من الإسلام ويقول الشيء الآخر غير مهم:
كالذين يقولون إن الدعوة إلى العقيدة والتوحيد وتفهيم ذلك الناس هذا غير مهم، وبيان التوحيد والشرك وما يُضاد حقيقة الإسلام أن هذا ليس بمهم، المهم كذا وكذا، هؤلاء أيضا لم يرعوا الأمانة ولم يأتوا بالإسلام الذي أمر الله جل وعلا به.
كذلك من أتى للناس بالدعوة للزهديات وترك حقيقة الإسلام وأوامر الإسلام العظيمة والأمر والنهي والعلم والدعوة إلى التوحيد والعقيدة كذلك هذا مفرط.
(35/130)
فالواجب إذن على الجميع أن يتخذوا الإسلام الكامل كما أمر الله جل وعلا به وكما جاء في الكتاب والسنة أن يتخذوه منهجا لهم.
وفيما أرى ويرى الكثير في الواقع أن من أسباب وقوع الخلاف اليوم بين الناس في الدعوة وبين الذين يدعون -سواء من الأفراد أو غيرهم- أن السبب هو في فهم الإسلام وفي طريقة الدعوة؛ لكن لو أخذ الجميع بالإسلام كله فإنهم حينئذ سيلتقون على كلمة سواء، لكن هذا يرعى جوانب لا يرعاها ذاك، وهذا يفرط في أشياء، وهذا يغلو في أشياء، وهكذا حتى صارت الأمة بل حتى صار المخلصون على قلتهم في عموم الأمة صاروا متفرقين إلى فرق وإلى أقوال وإلى جماعات.
نسأل الله جل وعلا السلامة والعافية من كل ما يخالف طريق الجماعة الأول.
إذا تقرر هذا كما ذكرت لكم في أول شرح كتاب فضل الإسلام: هذا الكتاب كتاب منهج، كتاب دعوة، إذا نظرت في تطبيق إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، تطبيق منهج الدعوة والإسلام في دعوته، وجدته أخذ بما جاء في هذه النصوص بحذافيرها، فدعا إلى الإسلام كله: بآداء حقوق الله جل وعلا، وحقوق العباد، الأمر بالفرائض، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القيام بالنصح للراعي وللرعية، القيام بالحقوق جميعا. وهذا هو حقيقة الإسلام التي وعد الله جل وعلا من أخذ بها بالنصر والتأييد مثل قوله ? وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-172]، وفي نحو قوله ? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?[غافر:51]، وهذا مما نرجو عاجل بركته وآجل بركته عند الله جل جلاله في أن يكون جل جلاله وتقدست أسماؤه رضي منا بما أخذنا به من عموم الإسلام وحلَّت علينا بذلك بركته جل وعلا وسلامته التي وعد بها من حقق دينه سبحانه وتعالى.
(35/131)
الحديث الأخير (وفي الصحيح عَن عَائِشَةُ )هذا مر معنا (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)، هذا يريد به الإمام رحمه الله بيان أن في قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) أنه يشمل أهل المحدثات والذين عملوا أعمالا ليس عليه أمرنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء أكانت هذه المحدثات محدثات في العقائد كالذين نفوا صفات الله جل وعلا، أو اعتقدوا أن الله جل وعلا يجبر العباد، أو الذين نسبوا إلى الله جل وعلا أشياء ليست له سبحانه وتعالى، أو كان في العقائد والعمل كالذين عبدوا غير الله فأتوا بالشرك الأكبر، أو الذين أتوا بالشرك الأصغر بأنواعه، كل هؤلاء عملوا أعمالا ليس عليه أمره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، أعمال قلبية أو أعمال جوارح، كذلك البدع المختلفة وهي درجات مرّ معنا الكلام عليها، أيضا كلها من تعبد بها فهي مردودة عليه لن تُقبل منه بنص الآية والحديث وصاحبها في الآخرة من الخاسرين، وسيأتي فيما يأتي من أبواب إن شاء الله تعالى بيان أن البدع من حيث الجنس أرفع درجة من الكبائر، فجنس البدعة أشنع وأغلظ من الكبائر -من جنس الكبائر-؛ لا يعني أن كل بدعة أعظم من كل كبيرة، لا، ولكن جنس البدع لأنها:
¨ معارَضَة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
¨ واستدراك عليه.
¨ وشرع دين لم يأذن به.
¨ وتعبد بأشياء لم تكن عليها سنته من جهة الاعتقاد والشبهة.
وهذه أعظم من حيث الجنس من ذنوب الشهوات المختلفة، وهذا فيه تقرير لما يجب على الدعاة إلى الله جل وعلا أن يسلكوه في دعوتهم وأن ينبهوا الجميع إلى خطر المحدثات والبدع والضلالات لأنها مخالفة لدين الإسلام، ونبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلن أنّ أصحابها مردودة عليهم عباداتهم، وهذا معناه أنها لا تقبل منهم وأنهم خاسرون بما اقترفوا من آثام وبما اجترحوا من بدع وضلالات.
(35/132)
ونكتفي بهذا القدر، ونرجو إن شاء الله لنا ولكم السلامة والعافية، وأن يسلك الله بنا صراطه المستقيم ودينه القويم، وأن يتوفانا غير مغيرين ولا مبدلين.
اللهم إنا نعوذ بك أن نَزِلَّ أو نُزَل أو نَضِلَّ أو نُضَل أو نجهل أو يجهل علينا أو نَظلم أو أن نُظلم، إنك سبحانك جواد كريم، فأجب اللهم واغفر جما.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه
وقول الله تعالى: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ?[النحل:89] الآية.
وروى النسائي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورقة من التوراة فقال «أَمُتَهَوّكُونَ يَا ابْنَ الخَطّابِ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيّةً، ولَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا واتبعتموه وتركتموني ضللتم». وفي رواية: «وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتّباعي». فقال عمر: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا، ربنا هيئ بنا الخير حيث كنا عليك توكلنا لا حول لنا ولا قوة إلا بك.
اللهم فكن لنا نصيرا وظهيرا.
أما بعد:
فهذا (باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه) ويعني بـ(الكتاب) القرآن، وفي عدد من النسخ أيضا (وبمتابعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) والمذكور هنا كما هو في نسخ معتمدة من هذا الكتاب هو الصحيح؛ لأن عنوان الباب (وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه) وسيأتي بيان أن متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدخل في متابعة الكتاب، والاستغناء بالكتاب يشمل أيضا الاستغناء بسنته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
(35/133)
قال رحمه الله تعالى (وجوب الاستغناء) ولفظ الوجوب هذا مأخوذ أو مستدَل عليه بما أورده من الأدلة التي فيها بيان: شمول الكتاب، وطاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولزوم الجماعة، والنهي عن النظر في كتب الأمم قبلنا، وغضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما رأى في يد عمر أوراقا من التوراة.
و(الاستغناء) يعني الاكتفاء يعني أن الاكتفاء بمتابعة الكتاب وبمطالعة الكتاب الذي هو القرآن وبالأخذ منه أنَّ هذا واجب، ففي الكتاب الذي هو القرآن كفاية، وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفاية.
وقوله (عن كل ما سواه) هذا يشمل كلَّ ما يريد العبد أن يأخذ منه الهداية والعلم النافع مما هو سوى القرآن وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذن دلَّ التبويب على أن الاكتفاء بالكتاب والسنة وما جاء في الكتاب والسنة من أوجه الأدلة أنَّ هذا واجب ليس للمرء الخيرة فيه، وأن هذا يُستغنى به عن كل كتاب يطلب الهدى منه، أو يطلب العلم النافع منه كما سيأتي بيان تفصيله في شرح الآية والحديث.
وتبويب الإمام رحمه الله لهذا الباب وعقدُه له من الأهمية بما كان؛ بل كل متبصر في حال الأمة في حال أهل الإسلام الذين فارقوا الجماعة وأنشأوا الفِرق وتبعوا الضلالات يتبين له أن سبب ذلك هو أنهم لم يستغنوا ولم يكتفوا بما جاء في القرآن والسنن ومن هدي الصحابة عن الكتب المختلفة والآراء العقلية والأقيسة؛ بل زهدوا في الكتاب وزهدوا في السنن وزهدوا في الهدي الأول، وأخذوا يتلقفون العلم من مصادر أخرى يظنون أن فيها الهداية، وسواء أكان ذلك العلم في أمور التوحيد والعقيدة، أم كان في أمور الأمر والنهي والحلال والحرام، أم كان في أمور القوانين العلمية التي تنبني عليها العلوم.
وأصل انحراف الناس في هذه الأمة جاء من أحد ثلاثة أنحاء أو منها جميعا:
(35/134)
الأول منها: أنهم ذهبوا إلى العقل في تقدير أو في إثبات الحق من عدمه، وهذا هو الذي يسمونه الفلسفة التي أساسها تقديس العقل وأن ما يمليه العقل الصحيح -حسب ما يزعمون- أنه لا معقب له، وهذا كان عند أهل اليونان وعند الفلاسفة بعامة ودخل في هذه الأمة شيئا فشيئا حتى صار تحكيم العقل مقدما على تحكيم النص، وتُوسع في ذلك حتى صارت الإجتهادات العقلية مقدمة على ما جاء النص به، والفلاسفة زعموا أنَّ لهم قانونا يزنون به الأمور سموه المنطق، بحيث يعصم الفكر -يعني ذلك العلم الذي يسمى المنطق أو يسمى معيار العلم أو نحو ذلك مما سمي- يجعلونه هو القانون الذي يعرف به صحة الشيء من عدمه؛ لأنه قانون التفكير السليم، وقانون الوصول إلى النتائج الصحيحة، ولهذا أبطلوا كثيرا مما جاء في الكتاب والسنة من المسائل؛ لأجل إبطال العقل لها بدلالة المنطق على ذلك البطلان.
هذا من جهة التقنين يعني من جهة استعمال علم وقانون؛ لكن تُوُسِّع في الأمة حتى صار الناس يخالفون العلم الصحيح باجتهاد ليس له معيار وليس له قانون أيضا، فتوسَّع الناس في أقوال كثيرة وفي نحل مختلفة ليس لها قانون وليس لها معيار يُرجع إليه، وأساسها كله الأخذ بفلسفة اليونان وما جاء في هذه الأمة من علوم القوم علوم الأوائل ممن يسمونهم بالحكماء. هذا هو السبب الأول.
(35/135)
السبب الثاني: أن ضعف العلم بالكتاب والسنة ظُن معه أن الكتاب والسنة وما فيهما من الأدلة ليس بكاف لحاجات الناس، وأن حاجات الناس يحتاج معها إلى أنواع الإجتهادات في المسائل العلمية وفي المسائل العملية، وهذا باطل من جهات كما سيأتي، ولو قالوا: إننا نقتصر على ما جاء في النصوص وما لم يرد فيها نجتهد فيه. لكان هذا أمرا سائغا كما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم؛ لكنهم ضَعُفَ علمهم بالشريعة فصاروا يجتهدون فيما دلت الشريعة عليه، فإذا كانت المسألة في الدليل؛ إذا كانت المسألة في الكتاب أو في السنة وفي كلام السلف الصالح رضوان الله عليهم، فما العلم إذن أن يترك ذاك إلى علوم أخرى أو إلى إجتهادات لا أساس لها إلا تفكير أصحابها؟ وهذا كثر جدا في الأمة في المسائل العقدية وفي مسائل الفقه أيضا والحلال والحرام وفي مسائل السلوك والزهد والعبادة، حتى حدثت هذه الفرق والجماعات المختلفة في كل بلد وفي كل مصر، فتجد آراء مختلفة في العقيدة والفرق متباينة في التوحيد، وتجد في الصوفيات والزهديات والسلوكيات أيضا فرقا مختلفة وكل فرقة تظن أنها هي المفضلة، وكذلك في مسائل الفقه تجد أن كل مفتٍ يفتي بما عنده مما وصل إليه إجتهاده، وهو قد قصر في النظر في نصوص الكتاب والسنة وتحقيق المسائل في ذلك ولو كان الناس استغنوا بالكتاب السنة وبما فيهما من الدلائل على لزوم هدي السلف الصالح واتباع الصحابة لضعف الافتراق جدا وللزم الناس منهجا واحدا مستقيما.
ونحن نرى أيضا اليوم أن الناس إنما اختلفوا لأجل واحد من هذين السببن أو هما معا.
والسبب الثالث: مما حدث في الأمة أيضا في هذا السياسات الجائرة أو السياسات الظالمة التي حرفت الشريعة في مسائل كثيرة، وجُعل أهل العلم وأهل القضاء وأهل الفتيا يفتون بها لأجل مصلحة دولة أو مصلحة فئة، ثم تتابع ذلك ما بين فعل ورد فعل حتى حدث له من الآثار والعواقب ما وسع دائرة الافتراق والانحراف عن أساس الدين.
(35/136)
وسيأتينا في شرح الحديث في الباب الذي بعده أهمية لزوم الجماعة ومعنى ذلك، وصلة ذلك اللزوم بمتابعة الكتاب والسنة والاستغناء بهما عن كل ما سواهما.
وإذا نظر الناظر في زماننا الحاضر حيث كثر بعد ضعف الإسلام وضعف أهل الإسلام ورغبة كثير من المخلصين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الدعوة إلى الله جل وعلا وفي نصرة الإسلام في بقاع المسلمين جميعا، نجد أن هذه الأسباب الثلاثة تأتي ماثلة أمامك في أنهم خرجوا عن الاستغناء بمتابعة الكتاب والسنة عن كل ما سواه، وأثّرت فيهم إما العقليات وإما أثّر فيهم ضعف العلم وترك التعلم، أو أثرت فيهم السياسات المختلفة حتى غدوا ما بين خير وشر تعرف منهم وتنكر إلا من تابع العلم الصحيح.
وتأمل ذلك تجده في الناس، وكما قال القائل حرك ترى، فإن الأكثرين ممن خالفوا الصراط الأول:
¨ إما أن يكونوا خالفوه عن ضعف علم بما جاء في النصوص فيجتهدون مع وجود الدلائل.
¨ وإما أنهم ركنوا إلى عقليات ومصالح يجعلونها حجة قويمة.
¨ وإما أن تكون أثرت فيهم السياسات فجعلتهم يتصرفون بمحض آراء سياسية، وسواء كانت تلك السياسات منهم، أو من دول تجاههم فإنها أثرت فيهم حتى صاروا بعيدين عن متابعة الكتاب والسنة حق المتابعة، وأخذوا يتلقفون العلم والحق من هنا وهناك فلم يدركوا ذلك.
(35/137)
قال رحمه الله بعد هذا (وقول الله تعالى ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ?[النحل:89].) هذه الآية فيها الدليل على أن الله جل وعلا جعل القرآن تبيانا لكل شيء، وأنه نزله سبحانه مفرقا ليكون تبيانا لكل شيء يحتاجه العباد في أمر دينهم وفيما ينفعهم في صلاح العلم والعمل، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الأنعام ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ?[الأنعام:38]؛ ولكن آية الأنعام جرى فيها خلاف بين السلف في التفسير: هل المراد بالكتاب في قوله (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) هل هو اللوح المحفوظ أو هو القرآن؟ على قولين. أما هذه الآية فالكتاب فيها هو القرآن في تفاسير السلف لا غير، لهذا استدل بها رحمه الله تعالى لأجل أن لا يقال إن في الآية اختلافا في التفسير، وقوله (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) يعني أن الله جل وعلا نزل هذا القرآن من أجل أن يكون تبيانا لكل شيء أو أنه جل وعلا أبان فيه كل شيء تبيانا ومظهرا وجعله ماثلا حتى لا يحتاج الناس إلى غير هذا القرآن.
قال جل وعلا (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً)، (تِبْيَاناً) هنا هذا تِفْعال من البيان، وهل هي مفعول لأجله أو هي مصدر؟ على قولين لأهل العلم:
¨ ويكون التقدير إذا كان مفعولا لأجله أن تنزيل الكتاب من أجل أن يكون تبيانا؛ يعني العلة في تبيين الكتاب للتبيان، للبيان.
¨ واما إذا كانت مصدرا فتكون للتأكيد؛ يعني أن الله جل وعلا نزَّل الكتاب وأبان فيه كل شيء تبيانا، فيكون مصدرا مؤكِّدا لما في الفعل المقدر الذي دل عليه المصدر؛ يعني جعل كل شيء في هذا القرآن بيِّنا ظاهرا لا لبس فيه، وإنما هو بيان يعني القرآن لكل شيء يحتاجه الناس كما سيأتي.
(35/138)
قوله هنا (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)، (كُلِّ شَيْءٍ)، (كُلِّ) هذه من ألفاظ العموم كما هو معلوم في الأصول لكنها من ألفاظ الظهور في العموم لأن ألفاظ العموم على قسمين:
الألفاظ تدل على التنصيص في العموم.
وألفاظ تدل على الظهور في العموم.
والألفاظ التي تدل على الظهور في العموم معناه أن يكون العموم فيها بحسبها وقد يخرج من ذلك العموم ما لا يصلح لما جاء العموم من أجله، لهذا فسَّر السلف وأهل العلم فسروا (كُل شَيْءٍ) بأنه كل شيء يحتاجه العباد في أمر دينهم كما فسرها ابن جرير الطبري رحمه الله وجماعة ومن أهل العلم من المتقدمين كمجاهد وغيره فسروا كل شيء هنا يعني الحلال والحرام يعني تبيانا لما أحل الله جل وعلا وما حرم، فما أحلا الله في كتابه فهو الحلال وما حرمه فهو الحرام، وعموم التفسير أوْلى لأن الحلال والحرام هو أحد أفراد هذا العموم؛ لكن لا يشمل قوله (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) لا يشمل ما لا ينفع الناس في دينهم؛ لأن القرآن لم ينزل تبيانا لأمور الناس في دنياهم، لم ينزل تبيانا لأمور الرياضيات والجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء والزراعة والفلك وأشباه ذلك، وإنما نزل للهداية كما قال جل وعلا ?هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?[الإسراء:9]، والله جل جلاله بحكمته جعل الأشياء على قسمين، جعل الأشياء فيما حولنا على قسمين وفيما نتعامل به:
منها أشياء يدخلها الهوى -هوى الإنسان-: مثل محبته وبغضه، ومثل ما يأتي وما يذر، من بيعه وشرائه، وتعاملاته وتعبداته لربه ونحو ذلك، فهذه يدخلها الهوى، قد يرغب أن يظلم، يرغب أن لا يتعبد، يرغب أن يأتي بالفواحش، يرغب أن يكون كذا وكذا، فهذه الأشياء تدخلها الأهواء في أمور الشبهات وفي أمور الشهوات.
والقسم الثاني ما لا يدخله الهوى.
(35/139)
والقرآن جعله الله جل وعلا هاديا للناس الصراطَ المستقيم والطريق القويم الذي لا يلتبس فيما يدخلُه هوى الناس، وهو الأمور العلمية والعملية التي يحتاجونها.
أما الأمور التي تسري فيها سنن الله جل وعلا هذه لا يدخلها الهوى فالقرآن لم ينزل لأجل بيانها، لهذا مثلا أمور الحساب وأمور الهندسة ونحو ذلك، هذه لا يدخلها الهوى، لو قال القائل مثلا: زوايا المثلث يمكن أن تكون مائتي درجة، هذا لا يدخله رغبة الراغب، أو يُصدر قرارا أن زوايا المثلث مائتي درجة، أو أنه يأتي من يدعو الناس إلى أن تكون زوايا المثلث مثلا مائتي درجة، أو أن عشرة زائد عشرة تساوي خمسة عشرة ونحو ذلك، هذه لا تدخلها الأهواء، لهذا الناس إذا أتى من يخبرهم فيها بغير الحق فإنهم سيردون عليه؛ لأنها لا توافق الحق الذي يعلمونه، وهو ليس له هوى في أن تكون الأمور الطبيعية على خلاف ما خلق الله جل وعلا.
ولهذا يخطئ من يجعل القرآن كتابا في العلوم كلها؛ كما زعمت طائفة أن القرآن كتاب في الطبيعة، وكتاب في الزراعة، وكتاب في الهندسة، وكتاب في الجبر وكتاب في كذا، يظنون أن هذا فيه رفع لشأن القرآن، وليس كذلك بل فيه إنزال من شأن القرآن؛ لأن الله جل وعلا لم ينزل القرآن لذلك ولم يجعله كتابا في الأمور الرياضية أو الطبية أو الهندسية أو إلى آخره، وإنما جعله كتاب هداية فيما تدخل فيه أهواء الناس بتحريف مراد الله جل وعلا فيه.
(35/140)
أما ما حكمته سنن وقوانين من الله جل جلاله وتقدست أسماؤه بأمور الطبيعة فهذه الحق فيها سيبين بما أجرى([10]) الله من سنته وما أجرى من تقنينه، لهذا تجد أن بعض الناس في تفسيره لهذه الآية في كتب التفسير يجعل القرآن شاملا لكل العلوم، حتى آل الأمر في بعضهم أن جعلوا العلوم المحدثة الباطلة التي يردها القرآن، جعلوا القرآن مشتملا عليها؛ كعلوم التصوف والفلسفة والطرق المختلفة، جعلوا القرآن يدل على ذلك كله، وهذا وأمور النظر وأمور الحكمة والقواعد والقوانين والمناظرة وأشباه ذلك والجدل، جعلوا كل هذه العلوم في القرآن، وهذا ولاشك من الغلو الباطل.
فالقرآن إذن تبيان كما أخبر الله جل وعلا تبيان لكل شيء، القرآن تبيان لكل شيء، أبان الله فيه كل شيء ينفع العباد ويحتاجون إليه فيما قد يحرفونه بأهوائهم، أو قد لا يدركون الحق فيه مما ينفعهم في آخرتهم أبانه الله جل وعلا بيانا، فكل المطالب الدينية في القرآن، كل ما يكون من قبيل الهداية في الدنيا أو في الآخرة هو في القرآن، أما العلوم الأخرى فإن هذه لا تدخل في العموم في قوله (لِكُلِّ شَيْءٍ) لعدم اشتمالها على الهداية في الطريق الذي يلتبس على الناس.
إذا تبين لكَ ذلك فقوله (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) والاستغناء بالكتاب، هل معنى هذا أن السنة وأقوال الصحابة ليست مما يُؤخذ به ويُستغنى به؟
(35/141)
الجواب أن هذا هو من الكتاب، فالسنة من القرآن يعني الاستدلال بها، وأقوال الخلفاء الراشدين من القرآن؛ يعني الاستدلال بها في القرآن، وكذلك الصحابة في القرآن، ولهذا لما روى البخاري وغيره أن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله. فأتته امرأة فقالت: يا ابن مسعود لقد قرأت القرآن ما بين دفتيه فلم أجد لعن الله لما ذكرت. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، لقد قال جل وعلا ?وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7]، وقد لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا وكذا، استدل ابن مسعود بما جاء في القرآن من السنة على أنه في القرآن، وهذا استدلال أصولي عميق؛ لأن دليل السنة والأخذ بها طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومتابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا في القرآن، وفي القرآن تبيانه وفي القرآن إظهاره، فإذن الاستغناء بالقرآن يشتمل على الاستغناء بما دل عليه القرآن من متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا فيه إدخال السنة في الاستغناء بمتابعة الكتاب عما سواه.
كذلك أقوال الصحابة رضوان الله عليهم فهي داخلة في قول الله جل وعلا ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]، وفي قوله ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[الحشر:10].
وكذلك الذين اتبعوهم بإحسان جاء النص عليهم في القرآن.
(35/142)
فإذن يكون اتباع هدي الصحابة رضوان الله عليهم وهدي من اتبعهم بإحسان مما جاء في القرآن، فيكون إذن القرآن دل على أن السنة حجة، وأن أقوال الصحابة ومنهج الصحابة وهدي الصحابة حجة، وأن لزوم طريقة الصحابة والتابعين كذلك حجة.
فيكون إذن الاستغناء بالكتاب هو استغناء بالسنة، واستغناء بهدي الصحابة، وبما جاء عنهم وعن التابعين في مسائل العلم.
إذا كان الأمر كذلك فإذن نقول إن الآية دلت على الاستغناء بمتابعة القرآن والسنة وهدي السلف الصالح عن كل ما سواها.
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وروى النَّسَائي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورقة من التوراة فقال: « أَمُتَهَوّكُونَ يَا ابْنَ الخَطّابِ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيّةً، ولَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا واتبعتموه وتركتموني ضللتم». وفي رواية: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتّباعي». فقال عمر: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا.)
هذا الحديث حديث حسن، وقد صححه جماعة من أهل العلم، وله روايات مختلفة يعضد بعضها بعضا.
عمر رضي الله عنه رأى في يده ورقة من التوراة، وقد قيل إنه أخذها من أخ له -يعني في بعض الروايات- من أخٍ له يهودي، قالوا إن هذه الأخوة قد تكون أخوة رضاعة، أو لها وجهها.
(35/143)
المقصود من ذلك أنه أخذ هذه الورقة من التوراة يطالع فيها، فلما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضب، وقال (أَمُتَهَوّكُونَ يَا ابْنَ الخَطّابِ)، (أَمُتَهَوّكُونَ) يعني أمتحيرون؛ يعني أفي حيرة أنت؟ أفي شك أنت؟ أفي ريب أنت مما جئت به؟ قال(لَقَدْ جِئْتُكُمْ)؛ يعني والله (لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا) يعني بالشريعة (بَيْضَاءَ نَقِيّةً) لا يدخلها لَبْس ولا يدخلها تحريف (ولَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا واتبعتموه وتركتموني ضللتم)؛ لأن رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي خاتمة الرسالات؛ ولأن نبوته هي خاتمة النبوات، وكتابه الذي هو القرآن هو خاتم الكتب، وهو المهيمن على كل كتاب.
فإذن لا يجوز النظر فيما سبقه من الكتب بعد ما أنزل الله جل وعلا الكتاب.
قال(وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتّباعي) لأنه بعد بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب على الجميع أن يؤمنوا به، وكانت رسالة كل رسول خاصة وكانت رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عامة ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا?[الأعراف:158]، ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]، رسالته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ تعم الثقلين الجن والإنس، وكل رسول فإنه كان يرسل إلى قومه خاصة ومحمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أرسل للناس عامة.
(35/144)
فهذا يدل على أنه لا يجوز النظر فيما سبق من الكتب ولا أن يتبع غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان أحد من الأنبياء موجودا حال بعثته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لاتبعه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ولهذا عيسى عليه السلام رفع حيا ? وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ?[النساء:157]، وينزل في آخر الزمان في دمشق في المسجد الذي بناه بنو أمية عند المنارة البيضاء -كما جاء في الأحاديث الصحيحة-، فينزل حكما عدلا مقسطا، ويكون مأموما في تلك الصلاة، فيأتي فيعرفه الناس فيأتي الإمام يتأخر ليتقدم رسول الله عيسى عليه السلام، فيدفع عيسى عليه السلام بالإمام ويقول: إمامكم منكم تكرمة الله لهذه الأمة. فينزل يحكم بالقرآن ويدع الإنجيل ويأمر باتباع محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فهو عليه السلام بعد نزوله يكون من أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما لقيه في السماء لقيه جسدا وروحا وآمن بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا من الألغاز التي يلغز بها بعض أهل العلم أن يقال مثلا: من رجلٌ من أمَّة محمد هو أفضل من أبي بكر الصديق بالإجماع؟ ويجيب أهل العلم على ذلك بأنه عيسى عليه السلام؛ لأنه حي وينزل -وهذا عقيدة يعتقدها كل مسلم- ويحكم بالقرآن ويكسر الصليب ويدع الإنجيل، ولهذا هو من الأمة ولقد لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج وآمن به.
المقصود من ذلك أنه يجب متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاستغناء بالقرآن وعدم النظر في التوراة، وهاهنا دل الحديث على تحريم النظر في التوراة، وعلى غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، وأن المرء إذا نظر فهو يكون في شك من أمره كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لعمر رضي الله عنه (أَمُتَهَوّكُونَ يَا ابْنَ الخَطّابِ) أمتحيرون أمتشككون ونحو ذلك.
(35/145)
إذا تبين هذا فالعلماء لهم قولان في النظر في التوراة:
منهم من يقول: يحرم النظر في التوراة أو الإنجيل أو في الزبور مطلقا؛ يعني لأي أحد سواء أكان عالما أم غير عالم، وسواء في وقت التنزيل أم بعد وقت التنزيل، وهذا قول جمهرة كبيرة من أهل العلم.
والقول الثاني: أن ذلك يحرم لكن ليس على إطلاقه، فيجوز لأهل العلم الموثوق بهم أن ينظروا في التوراة لغرض إبطال دعوى اليهود أو دعوى النصارى أو لنُصرة الدين أو ما شابه ذلك في مسائل الدعوة إلى الله جل وعلا والجهاد العلمي.
وهذا القول الثاني هو الذي اعتمده كثير من أهل العلم وألفوا كتبا كثيرة في بيان بعض التحريفات التي اشتمل عليها الإنجيل والتوراة؛ بل كتب ابن تيمية سماه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح فيه نقول كثيرة عن التوراة والإنجيل، وكتاب لابن القيم هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى أيضا فيه نقل كثير عن تلك الكتب، وكذلك القرطبي وجماعات من أهل العلم نظروا في ذلك لغرض نصرة الشريعة، وهذا هو المعتمد في أنه لا يجوز لأفراد الناس وآحاد طلاب العلم أن ينظروا فيها؛ بل يحرم ويأثم من نظر فيها، ولكن إذا كان نظره نظر عالم راسخ في العلم لقصد الجهاد، فإن هذا جائز بحسبه؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لما أمر برجم اليهودي الذي زنى باليهودية قالوا: إن الرجم ليس في كتابنا. قال: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فأتوا بالتوراة فنظر فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضع اليهودي يده أو إصبعه على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: مُرْهُ يا رسول الله أن يرفع يده فالآية تحت يده. أو كما جاء .
المقصود من ذلك أن الحديث دل على التحريم وهو على بابه، ويُستثنى من ذلك من ذكرنا من الراسخين في العلم الذين لهم قصد صحيح في الجهاد في سبيل الله.
(35/146)
إذا تبين هذا فهل النهي عن النظر في التوراة والإنجيل لأجل أنها منسوخة أو لأجل أنها محرفة أو هما معا؟
الصحيح أن النهي لهذه الأسباب جميعا:
أولا: لأنها منسوخة، وإذا كانت نسخت بالقرآن ورسالة موسى عليه السلام ورسالة عيسى نسخت برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فالله جل وعلا لا يرضى إلا باتباع القرآن واتباع محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ .
والسبب الثاني: أيضا أنها محرفة وتحريف التوراة وتحريف الإنجيل كبير جدا، وإذا كانت محرفة فإنه لا يوثق بأخذ الحق منها، إذا كان الناظر فيها يريد حقا في مسألة؛ لأنها محرفة ومبدلة كما نص الله جل وعلا على ذلك.
لكن اختلف أهل العلم هل التحريم الذي في التوراة والإنجيل، هل هو تحريف تبديل وتغيير للألفاظ أو هو تحريف وتبديل لمعنى تأويل الكلم على غير تأويله وتحريف المعاني وتبديل المعاني بالتأويل؟ على ثلاثة أقوال لأهل العلم([11]):
القول الأول: هو أن التحريف تحريف ألفاظ، وهذا ذهب إليه كثيرون جدا من أهل العلم في أن التوراة حُرِّفت ألفاظها والإنجيل حرفت ألفاظه، فحذف منه أشياء وزيد فيه أشياء في اللفظ، ولهذا قال الله جل وعلا مثلا ? وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ?[الصف:6]، وهذه البشارة لا تجدها في الإنجيل، وهي في بعض الأناجيل؛ لكن الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم ليست فيها، مع أن ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود في التوراة، هذا يعني أنهم حذفوا منه أشياء، كذلك بعض المسائل الفقهية أيضا أزالوها، ما اشتمل عليه من توحيد الله جل وعلا نجد أنه فيه نسبة النقص لله جل وعلا، وفيه نسبة -يعني في التوراة والإنجيل معا والتوراة أكثر- فيها نسبة النقائص للأنبياء ووقوع الأنبياء في الفواحش، ونحو ذلك مما نجزم أن هذا مما غيروه وزادوه ونقصوا منه.
وهذا يدل لهذا القول وهو أن التوراة والإنجيل والزبور وقع فيها التحريف في الألفاظ.
(35/147)
وأصحاب هذا القول يقولون أن التحريف تحريف اللفظ، ويستدلون بظاهر قوله جل وعلا ?يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ?[المائدة:41]، ونحو ذلك مما جاء، وأن الله جل وعلا اختص الحفظ بالقرآن، ومعنى ذلك أن تلك الكتب وقع فيها التحريف والتبديل في الألفاظ.
القول الثاني: وهو الذي اختاره البخاري رحمه الله في الصحيح واختاره جماعة من أهل العلم أيضا هو أن التحريف والتغيير والتبديل إنما وقع في تأويل المعاني ولم يقع في النصوص -الألفاظ-، واستدلوا عليه بحديث آية الرجم وأنهم قالوا الرجم ليس في كتابنا ليس في التوراة الرجم فقال الله جل وعلا ? قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ?[آل عمران:93]، فوضع القارئ إصبعه على آية الرجم حتى لا تظهر، قالوا: فلو كان عندهم التحريف بحذف الألفاظ لأزالوا هذه الآية بعدما تركوا حكم الرجم بما نص الله جل وعلا في التوراة.
وهذا ذهب إليه البخاري جماعة من أهل العلم أيضا لهذا الحديث.
ويفسرون الآيات التي فيها التحريف والتبديل بأنه تحريف معاني لا تحريف ألفاظ.
القول الثالث: وهو القول الراجح والصحيح واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وجماعة من أهل العلم من أئمة الدعوة ومن غيرهم أيضا، بأن التحريف والتبديل وقع على الجهتين معا؛ وقع فيها تحريف ألفاظ وتحريف كلمات بإزالتها وإدخال ما ليس من التوراة فيها، أزالوا ألفاظا وآيات أو جمل وأدخلوا أشياء أخر، وأيضا فسروه بغير تفسيره وتأولوه على غير تأويله، فوقع الأمران معا.
(35/148)
وهذا هو الصحيح، وهو الذي يطابق الواقع فيمن نظر إلى هذين الكتابين، لذلك التوراة الموجودة الآن والإنجيل الموجود الآن ليس هو باللغة التي نزل بها، الآن يترجمونه إلى لغات متعددة؛ يعني بحسب لغات البلاد، فتُرجم للغة العربية وترجم للغات المختلفة الإنكليزية والفرنسية والألمانية إلى آخره، منذ قرون من الزمان، وليس في أيدي الناس النصوص القديمة، ولذلك إذا عمل أحد مقارنة ما بين النصوص الموجودة الآن والنصوص التي ينقل عنها أهل العلم من سبعمائة ثمانمائة سنة فيما نقلوا من الردود يجد بينها اختلافا؛ بل يوجد اختلاف بين ترجمات التوراة والإنجيل قبل أربعمائة خمسمائة سنة إلى يومنا هذا في اللغة العربية، يكون هناك اختلاف التراجم وزيادة ونقص بحسب الطبعات، وهذا يدل على أن تلك الكتب غير محفوظة وغير موثوق بها، والله جل وعلا لم يجعل لهم من خاصية المحافظة عليها بالنقل وبالإسناد ما جعل الله لهذه الأمة المحمدية من خاصية المحافظة على القرآن بالنقل والأسانيد بحيث لو زاد واحد في شرك الأرض أو في غربها حرفا في القرآن لدهمه صبيان المسلمين في أنه زاد ونقص لحفظ الله جل وعلا لهذا الكتاب العظيم.
إذن تقرر من ذلك أن عدم النظر في التوراة والإنجيل إنما لأجل هذه الكتب محرفة ولأجل أنها منسوخة، وحينئذ لا يمكن أن يُؤخذ منها حرفا ولهذا في أحاديث بني إسرائيل وقد يكون بعضها من التوراة أو بعضها من الإنجيل قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ لأنهم قد تصدقهم في شيء قد كذبوا فيه وقد تكذبهم في شيء هو مطابق لما هو موجود». وهذا أمر لا علم لنا به لأنها حرفت وبدلت، فإذن لا نصدق ولا نكذب ونؤمن بأن التوراة انزلها الله جل وعلا على موسى، وأن الإنجيل أنوله الله جل وعلا على عيسى، نؤمن بكتب الله جل وعلا.
(35/149)
أما خصوص هذين الكتابين التوراة والإنجيل أو كما يسمونه في العصر الحاضر العهد القديم والعهد الجديد بخصوصها فهذه لا نؤمن بها، وإنما نؤمن بالتوراة التي أنزلها الله جل وعلا، نؤمن بالإنجيل الذي أنزله الله جل وعلا، أما هذا المحرف المبدل في ألفاظه وفي تأويلاته وزيادة أشياء وحذف أشياء وإدخال تفاسير العلماء -علمائهم ورهبانهم فيه- فهذا لا نؤمن به، فيكون الإيمان حينئذ بكتب الله إيمان بما أنزل الله جل وعلا، وأما هذا الذي دخله التحريف والتبديل فلا نؤمن به.
مُراد إمام الدعوة رحمه الله تعالى من استدلاله بها الحديث: أن هذه التوراة أصلها كلام الله جل وعلا؛ لكن لما وقع فيها التحريف والتبديل والتغيير وكنَّا مستغنين بالكتاب وبالسنة فإن النظر فيها لا يحل بل يحرم، إذا كان هذا في كتاب أصله من عند الله جل وعلا، فكيف إذن الأمر بالنسبة إلى كتب نَتَجَتْها عقول البشر؟ وكتب خصتها أنامل من لم يهتدي بهدي الكتاب والسنة من كتب الفلسفة وكتب التصوف وكتب الزندقة وكتب الأقوال المختلفة التي فرقت هذه الأمة، من الكتب التي قد يسمونها كتب الفلسفة وكتب المنطق وكتب علم الكلام وكتب التصوف وكتب الأحوال والرسائل والكتب، حتى إن آثار هذه الكتب لما نظر فيها الناس أثَّرت في تفسير الكتاب وفي تفسير أحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتجد أن من العلماء من فسَّر القرآن ببعض الأقوال الفلسفية والعقلية وترك تفاسير السلف، ومنهم من فسر السنة بنحو ما جاء في أقوال الفلاسفة وأهل المنطق إلى آخره، مما جعل الكتب الموروثة في هذه الأمة مشتملة على حق وباطل، وقلَّ من يميز ذلك.
(35/150)
ولهذا كان من المنهج الذي ورثه أئمة الإسلام من السلف الصالح الأول أن يستغنوا بالكتب النافعة عن الكتب التي اشتملت على حق وباطل، الحمد لله القصد سلامة المؤمن في دينه، القصد سلامة المؤمن في إيمانه، فإذا كان كذلك فهو يستغني بما صح من الكتب أو قلّ فيه الغلط مما كثر فيه الغلط ونحى مناحٍ لا يؤمن فيها.
فلهذا ينبغي أن لا ينظر؛ بل يجب أن لا ينظر في الكتب التي فيها ضلالات حتى إن أهل العلم قالوا إن كتب أهل البدع يجب إحراقها ولا ضمان على من أحرقها كما ذكروه في آخر كتاب الغصب من كتب الفقه؛ يعني باب الغصب من كتب الفقه.
وهذا يدل على أن كتب الضلالات هي من باب أولى أن تمنع إذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منع عمر من أن ينظر في التوراة.
فإذن المنهج الصحيح أن يُربى الناس في الدعوة، وأن يرشد غلى ما ينفعهم في العلم الذي يقابلون به الله جل وعلا به في الآخرة.
والعلم النافع هو ثلاثة أقسام كلها في القرآن كما وصفها ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله:
والعلم أقسام ثلاث مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكلُّ ........................
..............................
يعني كل أنواع هذه العلوم.
...... في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقان
وهذا يدل على أن العلوم النافع للمرء في دينه وفيما ينفعه في الآخرة ما يحصل به الاهتداء في أمر دينه، ويرشد به إلى الصواب ويتكون بها العلم في الصحيح، هذه كلها في الكتاب وفي السنن وفي هدي السلف الصالح وفيما سطرته أيدي العلماء المأمونون على الشريعة في كتب العقيدة أو كتب السنة أو ما اجتهدوا فيه مما نظروا في النصوص.
(35/151)
هذا هو الذي ينفع، ولذلك كلما كان المرء أكثر نصحا للعباد فإنه يرشدهم إلى هذه الكتب النافعة ويضعف نظر أولئك في الكتب المختلفة، وهذا ظاهر في أن كثيرين إنما انحرفت أفكارهم ومفاهيمهم ونظراتهم وأصبحوا يتصوَّرون أشياء على غير الحق لأنهم نظروا في كتب مختلفة، النظر في الكتب المختلفة قد يؤثر على طالب العلم في أنه يجعله متحيِّرا ولذلك ما أعظم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر (أَمُتَهَوّكُونَ) يعني أمتحيرون؛ لأن النظر يوجب الحيرة، كثرة النظر في الكتب المخالفة توجب الحيرة، سماع أهل البدع يجعل في القلب شيء، والنظر إليهم أيضا أهل الشرك والضلالات وأهل العلم الضالة يجعل في قلبه شيء من عدم يقينه بالحق، فكيف إذن إذا كان يقرأ ويستسقي من تلك العلوم التي هي علوم مخالفة لما جاء في الكتاب والسنة فيحدث الخلل الكبير، وهذا كما ذكرت لك من أسباب الخلل الواقع في هذه الأمة أنها نشأت كتب كثيرة عقلية ولا تعتمد على العلم الصحيح أصحابها عَزُبَ عنهم علم الكتاب والسنة وذهبوا إلى غيره -والعياذ بالله- فحصل فيهم الخلط الكبير، وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبر به في أن ذلك سببه الحيرة أو أنه يوجب الحيرة والشك والريب.
قال رحمه الله بعدها (باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام).
?????
[المتن]
باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام
وقوله تعالى: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78].
(35/152)
وعن الْحَارِثَ الْأَشْعَرِيَّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَراجِعَ، وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ؟ قَالَ «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّه» رواه أحمد والترمذي، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وفي الصحيح: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمَاتَ فَمِيتَتُه جَاهِلِيَّةٌ».
وفيه: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟».
قال أبو العباس: كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار! قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، وغضب لذلك غضباً شديداً. انتهى كلامه رحمه الله تعالى
[الشرح]
(35/153)
(باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام ) ينظر إمام الدعوة رحمه الله تعالى في هذا الكتاب إلى أسباب حدوث الافتراق والتبيان في هذه الأمة وعدم اجتماع الكلمة بين المسلمين، وإلى ما حصل من فرح كل طائفة بمذهبها أو بطريقتها، وأن سبب اجتماع الناس هو أن لا يكون بينهم تميز وتفريق؛ بل يرجعوا إلى الأوصاف التي وصفهم الله جل وعلا بها والأسماء التي أسماهم الله جل وعلا بها، والناظر في تاريخ هذه الأمة يجد أنَّ الأسماء والشعارات والألقاب التي حدثت في هذه الأمة وفرَّقت بين المسلمين أنها كثيرة جدا، وهذه الألقاب والأسماء المختلفة قد تكون بالتعصب إلى بلد، وقد تكون بالتعصب إلى قبيلة، وقد تكون بالتعصب إلى رجل، أو بالتعصب إلى فئة وحزب وجماعة وفرقة، أو تكون بالتعصب إلى مذهب معين، فحدثت أسماء كثيرة في هذه الأمة مخالفة للأسماء الشرعية التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه أو ذكرها رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته، ولاشك أن سمة التجمع إذا كانت على اسم واحد فإنَّ الفُرقة تقل وإذا كانت على أسماء كثيرة متعددة فإن التوحد والتفرد بالاسم يوجب ولاشك الفرقة في الأبدان ويوجب الفرقة في الأقوال مما يعني أنه يُحدث افتراقا في الدين وافتراقا في الجماعة، وهذا هو الذي خشيه إمام الدعوة على المستقبل، وأيضا يصف به الماضي الذي مضى في حياة المسلمين، أن الله جل وعلا سمانا بأسماء لم يقبلها المسلمون بل أحدثوا أسماء من عند أنفسهم، وجعلوا لكل فرقة منهم اسما ولقبا أحدثوه، ثم بعد ذلك تعصبوا له وجعلوا الولاء والبراء له، ومن كان في هذا الاسم فهو المقبول ومن كان خارجا عنه فهو غير مقبول لأجل التعصب للأسماء وليس التعصب لأصل الديانة، وهذا من النظر العظيم والتأمل البليغ في حال المسلمين قبل وفيما يُخشى عليهم بعد.
(35/154)
والمتأمل في الكتاب والسنة وسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجد أن الله جل وعلا سمى عباده بأسماء؛ سماهم المسلمين والمؤمنين وهذا كما في قوله ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78] وسيأتي أن أرجح الأقوال: أن الله جل وعلا هو الذي سمى وليس إبراهيم الخليل عليه السلام. سمى المؤمنين وسمى المهاجرين من هاجر من مكة إلى المدينة أولا ثم كل صاحب هجرة إلى المدينة سمي مهاجرا، وسمى الأنصار أيضا، وجعل العلاقة والعصبية إنما هي لاسم الإسلام واسم الإيمان دون غيرها من الأسماء التي سمى الله جل وعلا بها طائفة من المسلمين، فالله جل وعلا سمى من هاجر مهاجرا، وسمى من نصر أنصاريا قال جل وعلا ?وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ?[التوبة:100]، والمهاجرون اسم شرعي والأنصار اسم شرعي لكنه تخصيص لبعض المسلمين باسم معين لأجل وصف اتصفوا به وهو الهجرة أو النصرة، ومع ذلك لما أتى رجل وجعل العصبية للهجرة أو جعل العصبية للنصرة فإنه جعل ذلك من دعوى أهل الجاهلية، فلما اختصم غلامان فقال أحدهما: يا للمهاجرين اختصم. مهاجري وأنصاري وقال الآخر: يا للأنصار. يعني هذا يدعو المهاجرين لنصرته وذاك يدعو الأنصار لنصرته، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟». مع أن التعصب جاء على اسم شرعي سمى الله جل وعلا به أهله، فلما كان الاسم وهو اسم المهاجر أو الأنصاري تحول اسم للتعريف والوصف إلى اسم للتعصب عليه والنداء والنخوة به ذمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعله من دعوى الجاهلية.
(35/155)
وهذا فيه الدليل على وجوب لزوم الاسم الأول الذي هو اسم المسلم واسم المؤمن الذي سمانا الله جل وعلا به وسمانا به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونادى الله الناس في القرآن به?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا?([12]) ونحو ذلك، فإنما ناداهم باسم الإيمان دون غيره من الأسماء أو الصفات.
وهذا به يتبيَّن أن من خرج عن دعوى الإسلام يعني عن اسم الإسلام إلى غيره، فإن هذا قد تناولته النصوص وتناولها أهل العلم في كلامهم:
فمنه ما هو مذموم.
ومنه ما هو مأذون به بشروطه.
وهذا كما سيأتي بينه عند شرح كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قال (وقوله تعالى: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78].)، قوله (هُوَ):
¨ جمهور أهل التفسير على أن الضمير يرجع إلى رب العالمين إلى الله جل جلاله؛ يعني أن الله جل جلاله -كما يدل عليه سياق الآية ولِحاقُها- بأن الله جل وعلا هو الذي لم يجعل لنا في الدين من حرج، هو الذي خفف عنا، وهذا هو ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، قال جل وعلا ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? يعني وما جعل الله عليكم في الدين من حرج، ?مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ? يعني نفي الحرج عن ملة أبيكم إبراهيم، ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ? يعني الله جل جلاله ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ? يعني في الكتب السابقة ?وَفِي هَذَا?[الحج:78] يعني في هذا القرآن الذي أنزله الله جل وعلا على محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَم.ُ
¨ وذهب قليل من أهل العلم منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ومن نحى نحوه إلى أن الضمير في قوله (هُوَ) يرجع إلى إبراهيم الخليل عليه السلام هذا ليس بجيد؛ بل هو أقرب غلى الغلط لأن سياق الآية يدل على أنَّ المراد بالضمير هو الله جل جلاله وتقدَّست أسماؤه.
(35/156)
(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الشاهد من الاستدلال بالآية قوله (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، والله جل وعلا لم يسمِّ أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم إلا باسم الإسلام (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، ولذلك كان اسم المسلمين يختص بهذه الأمة، وأما اسم المؤمنين فقد يشمل كل مؤمن ولا يختص بهذه الأمة؛ يعني من حيث الإطلاق، فتجد مثلا أن النصارى يستعملون لفظ المؤمن ولا يستعلمون لفظ المسلم فيقولون مثلا: أيها المؤمنون بالله، هذه رسالة إلى المؤمنين بالله، هذه صفة المؤمنين بالله، وهذه خصال المؤمنين بالله. يستعمل هذا اللفظ النصارى واليهود، أما اسم المسلم فهو خاص بمن اتبع محمدا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وآمن به ودان بدين الإسلام.
ولهذا ينبغي بل يجب المحافظة على هذا الاسم في كل مكان، وأنَّ هذا هو خاصية هذه الأمة من ما عداها من الأمم، هذه تسمية الله جل وعلا فيجب على العباد أن يرضوا بتسمية الله جل وعلا لهم؛ لأنها أكرم تسمية وأعظم تسمية، فالمسمي هو رب العالمين والملقب هو رب العالمين، فمن خرج عن تسمية رب العالمين لعباده فقد خرج عن ما رضيه الله جل وعلا لعباده المسلمين.
هذا الباب مهم؛ لأن فيه الكلام على الأسماء والشعارات والألقاب والتعصب للجماعات سواء كانت جماعات إسلامية -كما يقال- أم كانت جماعات اجتمعت على شيء آخر في تفصيل هذا الكلام هذه المسائل جميعا إن شاء الله تعالى فيما نرجو فائدته لي ولكم بإذنه تعالى.
وفي هذا القدر كفاية.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
بسم الله الرحمن الرحيم.
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا واغفر لنا ذنوبنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
(35/157)
فنصل الكلام على ما جاء في باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام، وقد ذكر الإمام المصنف رحمه الله تعالى قول الله جل وجلاله (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) ثم قال (عن الْحَارِثَ الْأَشْعَرِيَّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَراجِعَ، وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّه» رواه أحمد والترمذي، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
هذا الحديث من الأحاديث العظيمة وجوامع الكلم التي اشتملت على كل المطالب الدينية التي تنفع العباد في دينهم وفي دنياهم وفيما يصلح شأنهم في اجتماعهم في الدين وفي اجتماعهم في أمر الدنيا، وبيَّن عليه الصلاة والسلام أن هذه الأوامر الله جل وعلا أمره بها.
فقال (آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ):
قوله (آمُرُكُمْ) يفيد وجوب هذه المطالب وتخصيصها يدل على أنها من مطالب الإسلام العظام ومن خصاله الجليلة التي فاقت غيرها من الأوامر.
وقوله (بِخَمْسٍ) يدل على أنها مختارة وعلى أن هذه الخمس أهم من غيرها مما يدخل في معناها.
(35/158)
قال (اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ) هذا يدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمر بأمر فإنما يبلغ رسالة الله جل وعلا فيأمر بما أمر الله جل جلاله، وينهى عما نهى الله جل جلاله، والسنة أختُ القرآن في أنها وحي من عند الله جل وعلا، وأن السنة بيان للقرآن وتفصيل لأحكامه، فهي من عند الله جل وعلا، وقد كان حسان بن عطية رحمه الله تعالى يقول: كان جبريل يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن. وأيضا صح عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثله معه»، وقال جل وعلا ?وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا?[النساء:113]، والحكمة هي السنة، فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أمر من الله جل جلاله، وتأكيده عليه الصلاة والسلام بهذه الجملة بقوله (اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ) ليلفت النظر عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على عظم هذه الأوامر وعلى جلالتها، وفيه التشويق لسماعها وبيان ما فيها.
قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بعدها (السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ) والسمع هنا:
يجوز أن تكون بدلا من خمس (بِخَمْسٍ) بخمس السمعٍِ والطاعةِ إلى آخره، بدل بعض من كل.
أو أن ترفع على الاستئناف يعني تقول (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ) تكون خبرا لمبتدَإ محذوف تقديره وهي أو وهنّ السمعُ والطاعةُ والجهادُ والهجرةُ والجماعةُ.
وبكلا الأمرين جاء في القرآن وفي السنة في مواضع، فيجوز هذا وهذا.
قوله (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ) جعلها هاهنا اثنتين فجعل السمع واحدا والطاعة واحدة، وذلك لأن الحاجة إليهما معا في الأمر متعينة وعظيمة، مع أن السمع والطاعة مقترنان من حيث الوجود، فمن سمع فقد أطاع، ومن أطاع فقد سمع.
ويريد بالسمع والطاعة:
(35/159)
?الاستجابة لمن له حق أن يُجاب، وأعظم ذلك الاستجابة لله جل وعلا ولرسوله وطاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال جل وعلا في حق نبيه ?وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ?[النور:54]، وهذا معلوم أنَّ الرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أمر بالاستجابة، وفي القرآن في غير ما آية الأمر بالاستجابة لله وللرسول، وكذلك أمر الله جل وعلا بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
? أما الأمر الثاني -وهو المقصود هنا- وهو الذي يكثر تَرْداده مخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية السمع والطاعة لولي الأمر؛ لإمام المسلمين أو لمن أنابه أو كان أميرا من أمرائه، فإن السمع والطاعة شريعة ماضية، وأمْرٌ أَمَرَ الله جل وعلا به، والسمع معناه أن يسمع لأمر ولي الأمر وأن يستجيب له فيما أمر، والطاعة معناها أن يطيع من ولاه الله جل وعلا أمر الناس وأن يعتقد أن هذه الطاعة طاعة لله جل وعلا أو لرسوله.
فالسمع والطاعة واجبان وهما من حق الله جل وعلا أولا ثم من حق ولي الأمر المسلم ومن النصح له، ثم من حق المسلمين أيضا، فاجتمعت في السمع والطاعة ثلاثة حقوق:
¨ حق الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي أمر بذلك.
¨ والثاني حق ولي الأمر والنصح له؛ لأن هذا حق أحقه الله جل وعلا له، وأمر الله جل وعلا بأداء الحقوق إلى أهلها.
¨ والثالث حق للمسلمين جميعا؛ لأنه من خرج عن السمع والطاعة فإنه لا يؤذي ولي الأمر فقط، وإنما يؤذي المسلمين جميعا لما يترب على عدم سمعه وطاعته من المفاسد.
(35/160)
إذا تبين هذا فإن السمع والطاعة لولي الأمر مشروطة في النصوص بأنها سمع وطاعة في غير معصية، أما إذا أمر العبد بمعصية فإنه لا سمع ولا طاعة؛ لأنه حينئذ يكون قد عارض ما أمَر أمْر الله جل وعلا، يكون الذي أمر به معارضا لأمر الله جل وعلا، وأمر الله جل وعلا هو المقدَّم، وطاعة ولاة الأمور إنما تجب تبعا لطاعة الله ولطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تجب استقلالا، ولهذا قال الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ?[النساء:59]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون: كرر الفعل أطيعوا في قوله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)؛ لأن الله جل وعلا يطاع استقلالا لحقه، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا يطاع استقلالا لحقه؛ يعني لا نعرض كلامه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على القرآن، وأما ولي الأمر فلم يكرر له الفعل (أَطِيعُوا)، قال (وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)؛ لأن طاعته تجب تبعا لطاعة الله وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تجب استقلالا، فإذا كان أمره فيه معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فحينئذ يُطاع ولي الأمر في غير المعصية، وغير المعصية هي الحالات التي يجتهد فيها أو يكون أمره أو نهيه فيها ليس بظاهر أنه معصية لله جل وعلا وللرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيطاع في المسائل الاجتهادية.
قال طائفة من العلماء من الشافعية ومن غيرهم: حتى وإن كان ما أمر به مخرَّجا على أحد أقوال الأئمة فإنه يطاع؛ لأنه يَقْصُد حينئذ بوجه شرعي المصلحة في التزامه وعدم مخالفته. وهذا أمر بيِّن والعلماء فيما كتبوا في السياسة الشرعية قرروا ذلك وهي مسألة عظيمة.
(35/161)
وهنا ننبه إلى أن بعض أهل العلم قد يعبر في هذا المقام بقوله: يطاع وليّ الأمر المقسط العادل في غير المعصية، ويطاع وليّ الأمر الجائر فيما يعلم أنه طاعة. وهذا التعبير عبر به بعض أهل العلم وفيه نظر من جهتين:
الجهة الأولى: أن النصوص ليس فيها تفريق في الطاعة بين ولي الأمر المقسط العادل وبين ولي الأمر الجائر؛ بل قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ولي الأمر الجائر «اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك»، وهذا يدل على إطلاق السمع والطاعة في هذا المقام.
والتنبيه الثاني على هذا الكلام: أن هذا الكلام يمكن أن يحمل على محمل صحيح يوافق النصوص وهو أنَّ الأوامر الشرعية فيها أن يأتي الإنسان العدل وأنْ لا يعين على الظلم قال جل وعلا ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ?[المائدة:2]، وولي الأمر إذا كان:
? عادلا -يعني غالب أوامره على العدل وعلى الطاعة- فإنه حينئذ لا يُستفصل فما أمر به هل هذا موافق لأمر الله أم ليس بموافق؛ لأن الأصل أنه لا يأمر إلا بموافق، فهذا يطاع دون بحث في المسائل المتعدية؛ يعني فيخص الكلام فيما يتعدى الكلام إلى غيره، كأن يقول مثلا: خُذْ أرض فلان، أو يقول خذ من فلان مال كذا، أو صادر سلاح فلان أو افعل كذا، فهذا إذا كان ولي الأمر مقسطا عادلا فإنه لا يستفسر؛ لأن الأصل في أوامره أنها على وجه شرعي.
? وأما إذا كان غير ذلك بأن كان معلوما عنه الظلم التعدي على الحقوق، فإنَّ هذا الكلام ممن قاله من أهل العلم يمكن أن يحمل على الأوامر المتعدية؛ لأن ولي الأمر إذا كان ظالما يتعدى على الناس فإن المسلم لا يطيعه حتى يعلم أن ما أمر به طاعة فيحمل قوله ويطاع ولي الأمر فيما يعلم أنه طاعة إذا كان متعديا على الغير يقول فيما فيه فعل بالغير فهذا يحتاج إلى استفصال وإلى بيان.
(35/162)
وهذا ما يمكن أن يحمل عليه هذا الكلام ممن قاله من أهل العلم، مع أن النصوص -كما ذكرت لكم- وقول عامة أهل السنة والمدون في العقائد أنه لا تفصيل في هذه المسألة؛ بل يسمع ويطاع في غير المعصية، في أي مسألة لا تكون معصية لا يظهر فيها أنها معصية فإنه يطاع في ذلك، فإذا أمر بمعصية سواء أكانت للعبد في نفسه؛ كأن يأمره بالرشوة مثلا، أو أن يأمره بمقارفة حرام، أو أن يأمره بما لا يحل شرعا فإنه لا يجوز له أن يطيعه في ذلك، فإن أطاعه فإنه آثم ولا يعذر بذلك، وكذلك في الأوامر المتعدية، إذا أمره أن يفعل فعلا بالآخرين ويعلم هذا المأمور أن هذا الفعل معصية، فإنه لا يجوز له أن يطيعه في ذلك، فكونه يتحمل ما يأتيه من مخالفة الأمر أسهل من أنه يخالف أمر الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
قال بعدها (وَالْجِهَادِ) الجهاد المراد به هنا جهاد الأعداء، وجهاد العدو على قسمين:
¨ منه جهاد بالحجة والبيان.
¨ ومنه جهاد بالسنان والسلاح.
أما الأول: وهو الجهاد بالحجة والبيان فهذا واجب مأمور به لكل من قدر عليه، في كل زمان وفي كل مكان وفي كل حال بحسبه، وقد أمر الله جل وعلا نبيه بذلك في مكة قبل أن يشرع الجهاد بالسنان فقال جل وعلا ?فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا?[الفرقان:52]؛ يعني جاهدهم بالقرآن، فهذا جهاد بالحجة والبيان وهذا يعم الأزمنة والأمكنة، ولا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، وهذه الطائفة دائمة قائمة بالجهاد بالحجة والبيان.
أما الثاني: وهو الجهاد بالسنان والجهاد بالسنان على قسمين:
· جهاد عيني.
· وجهاد كفائي.
(35/163)
يعني إما أن يكون فرض عين وإما أن يكون فرض كفاية، والله جل وعلا أمر بالجهاد كما في هذا الحديث، وهذا الأمر يعني يكون مأمورا به إما أمر عين على من تعين عليه، أو أمر كفاية على عموم الأمة إذا نابها شيء احتاجت إلى الجهاد في سبيل الله، أو كانت الشروط مجتمعة في جهاد نشر الإسلام وإقامة توحيد الله جل وعلا وعبادته وحده دونما سواه.
ثم قال (وَالْهِجْرَةُ) والهجرة في النصوص قسمان:
¨ هجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
¨ والثاني هجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده
والأول: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام كهجرة الصحابة من مكة إلى الحبشة، وكهجرة الصحابة أيضا من مكة إلى المدينة، وقد يعرض هذا في أنه يكون هناك هجرة من دار كفر قد تظهر بعد زمن النبوة أو قد ظهرت بعد زمن النبوة إلى دار يعلو فيها الإسلام، وأما قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، فالمقصود منه لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأنه بعد الفتح فمن كان في مكة بعد الفتح فقد أصبحت مكة دار إسلام، فمن كان فيها بعد الفتح فإنه يمكث فيها ولا يلزمه الهجرة إلى المدينة؛ بل يبقى فيها، ولا تزال مكة دار إسلام إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها حرسها الله وبلاد المسلمين.
وهذه الهجرة لها أحكام ولها شروط، وتفصيلها في مواضعه من كتب العلماء في العقيدة أو في التوحيد والفقه ولا نطيل في بيانها في هذا الموطن؛ لكن ننبه إلى أن الهجرة هذه من دار الكفر إلى دار الإسلام هي بشروطها، هي واجبة بشروطها.
وقد يكون ثم هجرة واجبة أخرى أيضا وهي من دار بدعة إلى دار سنة، أو من دار لا يستطيع فيها إظهار الدين إلى دار يستطيع فيها إظهار الدين؛ إلى دار يستطيع فيها أن يظهر دينه، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، ولها تفاصيل.
(35/164)
كذلك إذا كان لا يستطيع البقاء في دار بدعة أو تظهر فيها البدع لأجل ما ينوب نفسه من الحزن أو من الضيق على ظهور البدع ولكنه يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلي أمر السنة؛ لكن يريد بلادا يأمن فيها أكثر ولا يعرض فيها دينه للفتن، فهذا يكون حكم الهجرة في هذا الحال مستحبة؛ لأنه يستطيع أن يظهر دينه والبلد أو الدار ليست دار كفر، وإنما هي دار فيها السنة وفيها البدع.
وثَم تفاصيل أخر تطلب من مظانه.
القسم الثاني: الهجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل جلاله ? فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ?[الذاريات:50]، بأن يهجر كل ما يُشغِل عن الله جل وعلا ويتجه ويهاجر إلى الله جل وعلا، ولهذا جاء في الحديث «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وهذا يعمّ أشياء كثيرة تدل على أنَّ حقيقة الهجرة هجرة ما لا يحب الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وهذه يختلف فيها الناس وتختلف مقاماتهم في ذلك بحسب عِظم محبتهم لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه الهجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده تكون في الاعتقادات، وفي عمل القلب، وفي كلام اللسان، وفي استعمال الحواس والجوارح، والأمر فيها عصيب، والفتن بعمومها إنما يبتلى الناس فيها في هذا المقام العظيم؛ هل هاجروا مما نهى الله جل وعلا عنه إلى ما أمر الله جل وعلا به، أم أنهم قصروا في ذلك؟ والتقصير يكون سببه ضعف المحبة وضعف الإيمان، ويكون أصحابه ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
(35/165)
الخصلة الخامسة والأخيرة قال (وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَراجِعَ)، قوله (وَالْجَمَاعَةُ) هنا أمر بالجماعة، والمراد هنا بالجماعة في هذا الحديث جماعة المسلمين في أبدانهم وأن لا يخرج عنهم ويفارق جماعة المسلمين في أبدانهم لأجل ما يترتب على ذلك من المفاسد التي نهى الله جل وعلا عنها.
وأصل الجماعة التي أمر الله جل وعلا بها -وضدها وهو الافتراق الذي نهى الله جل وعلا عنه- يشمل الاجتماع في الدين ويشمل الجماعة في الأبدان، إذِ الجماعة نوعان:
¨ جماعة الدين.
¨ وجماعة الأبدان.
(35/166)
وكل منهما متعلقة بالأخرى فإذا تمت جماعة الدين أو الاجتماع على الدين الواحد دون تفرق في الإسلام دون تفرق في الدين فإنه يجتمع الناس في أبدانهم، وإذا اجتمعوا في أبدانهم فإنه أحرى أن يجتمعوا في دينهم؛ لأن الفرقة في هذا تنتج الفرقة في هذا ولابد، فمن فرق في دين الله فإنه يحصل بينهم الفرقة في الأبدان والبغضاء والشحناء والتقاذف وكراهة بعضهم لبعض، والاجتماع في الدين أمره عظيم بأن لا يُسلك غير طريق الجماعة الأولى وهي جماعة الصحابة والتابعين وتبع التابعين الذين لم تظهر فيهم البدع ولم تفشو فيهم الأهواء، وإنما وجدت وأنكرت، هؤلاء هم الذين كانوا على الجماعة الأولى، وإذا كان الأمر كذلك فإن لزم المر الأول هو طريق النجاة بيقين، وأما غيره من الإجتهادات فقصارى ما يصل إليه أصحابه أنهم يظنون أنه طريق نجاة، وقد يكون ظنهم غلطا وقد يكون ظنُّهم باطلا، وقد يعتري الظن بعض الصواب لكنه مظنون، ولهذا من سلك غير طريق الجماعة الأولى فإنه قد عرَّض نفسه لمخالفة الجماعة وإحداث الفُرْقة، وبالتالي يكون قد عرَّض نفسه للوعيد الذي جاء في قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في الافتراق «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة»، وهذا الأمر مهم وجلل، وكل من أراد نجاة نفسه فعليه أن يلزم الطريقة الأولى؛ لأن الطرق المحدثة ربما فيها خير وربما فيها شر، ولهذا لما سأل حذيفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن ذكر له الشر فقال له: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال «نعم وفيه دخن» قال: وما دخنه؟ قال «قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي تعرف منهم وتنكر»، قال: فما تأمرني؟ قال «أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قال: فإن لم يكون لهم جماعة ولا إمام؟ قال «فاعتزل تلك الفرقَ كلها» مع أنه قال فيها (تعرف منهم ونكر) قال «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على اصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك»، وفي
(35/167)
رواية أخرى قال فيه: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال «نعم وفيه دخن» ثم فسر ذلك بأنهم قوم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويهدون بغير هدي المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كما جاء في الحديث.
فإذن أمر الاجتماع على الدين والاجتماع في الأبدان هذا أمر عظيم جدا واحده ملازم للآخر، فالذي يريد النجاة فعليه بطريق الجماعة الأولى فإنها هي على الحق بإجماع المسلمين، حتى أهل البدع يقولون طريقة الصحابة والتابعين وطريقة السلف أسلم، فحتى في السلوك يقولون أسلم، حتى في الزهد يقولون أسلم، فهي باتفاق المسلمين هي أسلم؛ لأنها هي الطريقة التي أجمع عليها الناس؛ لكن دخلت اجتهادات أفسدت الأمر وفرَّقت المسلمين ومن اجتهدت فإنه يظن أنه على شعبة نجاة وقد لا يكون الأمر كذلك.
قال (فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ)، قوله (فَارَقَ الْجَمَاعَةَ) يعني فارق جماعة المسلمين في الدين أو في الأبدان، والأبدان هو المقصود هنا لارتباط الأوامر الخمسة هذه بعضها مع بعض، قال (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ) بمعنى أنه لم يدن بلزوم الجماعة، ولزوم طاعة الإمام وعدم الخروج عليه والنصيحة له فإنه من فارق الجماعة بهذا المعنى (قِيدَ شِبْرٍ)، (قِيدَ) بمعنى مسافة، وهو خلاف القَيْد، القَيْد هو القيْد المعروف وهو التكبيل أو التوثيق إما القِيد فهو المسافة ارتفعت الشمس قِيد رمح يعني مسافة رمح (قِيدَ شِبْرٍ) يعني مسافة شبر، وهذا كناية عن قلة المفارقة يعني فارق الجماعة ولو شبرا وجلس منفردا ولو شبرا واحدا بعيدا عن الجماعة قال (فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ)، وهذا من أحاديث الوعيد التي تُمَرُّ كما جاءت وفيها تهديد وتخويف للمسلم أن يفارق الجماعة بقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَراجِعَ).
(35/168)
(خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ) هل يفهم من ذلك تكفيره؟ المعتمد عند أهل السنة أنه لا يفهم من ذلك تكفيره؛ ولكنه قد فعل أمرا عظيما وجللا أوجب أن يخلع الإسلام الذي يدعو إلى الاجتماع وعدم الافتراق من عنقه.
قال (إِلَّا أَنْ يَراجِعَ) يعني إلا أن يتوب لأنه من تابَ تاب الله عليه.
قال بعدها (وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم) قوله (وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) يعني دعا إلى أمر أبطله الإسلام، وكان مما تميز به أهل الجاهلية فإنه حينئذ من أهل الكبائر ومن أهل الوعيد، وتوعده بقوله (فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم).
وهنا قوله (دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) لها تفسيران:
التفسير الأول: أنها بما ذكرت لك من كل خصلة من خصال الجاهلية أبطلها الإسلام فيأتي أحد يدعو إليها، فهذه كما جاء في الحديث الذي مر معنا (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ) وذكر منهم (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ).
والتفسير الثاني: قوله (وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) أي تسمَّى بأسماء الجاهلية التي كانت تدعو إلى العصبية، وأرجع الناس إلى عصبيات الجاهلية وإلى فخرها إلى الآباء والقبائل، وهذا يُفرِّق ولا يجمع الناس على كلمة الإسلام واسم المسلمين واسم المؤمنين.
وهذان الصنفان معا توعدهم عليه الصلاة والسلام بقوله (فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم) ، و(جُثَا) لها ضبطان (جُثَى) هكذا بالقصر والثانية (فَإِنَّهُ من جُثِيِّ جَهَنَّم)، وهي القراءة المعروفة في آية سورة مريم ?وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِيًّا?[مريم:72] بضم الجيم، وهذه مأخوذة من الجُثُو على الركب والعذاب على هذا النحو؛ يعني أنه ممن يكب في النار على وجهه وعلى ركبه ونحو ذلك.
(35/169)
(فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ؟ قَالَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ») وهذا يدل على عِظم هذه الكبيرة، وأنَّ أصحابها متوعدون بأشد الوعيد والعياذ بالله، ثم قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ آمرا (فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ) يعني تسموا بتسمية الله التي سماكم أو قال (الَّذِي سَمَّاكُمْ) وهذه التسمية هي (الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّه) يعني يا عباد الله، فالله جل وعلا سمى عباده المسلمين كما في قوله (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا)، وأيضا سماهم المؤمنين فيما نادهم به في القرآن ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا? وفي قوله ?واتقوا الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون? فسماهم بهذين الاسمين الشريفين الذي يجمع أعظم خصلتين وهما الإسلام والإيمان، وسيأتي نزيد بيان في كلام ابن تيمية رحمه الله.*******
ثم قال الإمام بعد ذلك (وفي الصحيح: « مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمَاتَ فَمِيتَتُه جَاهِلِيَّةٌ») يعني أنه من فارق جماعة المسلمين جماعة الأبدان أقل افتراق وخالفهم وانحاز إلى غيرهم (فَمَاتَ فَمِيتَتُه جَاهِلِيَّةٌ) لأن أهل الجاهلية لم يكونوا يذعنون لولي أمر بل كانوا متفرقون في ذلك قد ذكر الإمام في خصال الجاهلية وهي ثالث خصلة فيما أورد أو من أوائل الخصال التي ذكر: السمع والطاعة. وقال فيها بعدها: وأبدى فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعاد. يعني كرر هذا الأمر لأجل أن لا يشابه أهل الجاهلية، حتى إن أهل الجاهلية لا تقر قبيلة بأن تكون سامعة مطيعة للقبيلة أخرى.
(35/170)
ومن آثار ذلك لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجتمع المهاجرون والأنصار اجتمعت قريش يعني الصحابة ([13]) من قريش والصحابة من الأوس والخزرج على الإمارة، بدت فيهم إذْ ذاك نزعة من نزعات الجاهلية، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. وهذا يدلك على أن النفوس مُشْرَبَة بحب الفرقة وحب الاعتزاز بالنفس وبالميل إلى القبيلة وبالميل إلى القريب، وأن هذا الأمر مفرق للمسلمين ومفرق للجماعة، ولهذا كان من أعظم مواقف أبي بكر الصديق رضي اله عنه أنه ألزم الناس إذْ ذاك بحجته القوية أن تكون الوِلاية في قريش؛ لأنه ساق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الأئمة من قريش» وقال: نحن الأمراء يعني وأنتم الوزراء، أو المستشارون. ونحو ذلك مما يكون فيه الأنصار مقربين لكن ليست لهم الولاية.
إذا تبين هذا فمن أعظم ما حدث في هذه الأمة من أول الأمر الافتراق، بداية الافتراق في الوِلاية بداية عدم الرضوخ للجماعة، بداية الاعتزاز بأشياء جاهلية، بدأت هذه في أول الأمر، ثم حصلت فُرقة الدين بعد نوازع فرقة الأبدان، فبدأت فرقة الأبدان في النفوس، ثم كان من نتائج ثم كان من نتائجها أن انحاز بعض الناس إلى من وجدوا فيهم من يسمع للأهواء، وألقوا فيهم الأهواء حتى حدثت بدعة الخوارج في عهد عثمان، وتجمعوا حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه باسم الدين وباسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعياذ بالله.
(35/171)
ثم قال رحمه الله (وفيه «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»)، (وفيه) يعني وفي الصحيح، (أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ) يريد رحمه الله تعالى القصة التي حصلت بين غلام من المهاجرين وبين غلام من الأنصار؛ حيث اختلف الغلامان على شيء حتى اختصما وتشابكا فأراد المهاجري أن ينتصر بالمهاجرين وأراد الأنصاري أن ينتصر بالأنصار، فقال الغلام المهاجري: يا للمهاجرين. ينتخي بهم ويندبهم ويدعوهم لنصرته، وقال الآخر: يا للأنصار. يدعوهم لنصرته ويندبهم لنصرته، فلما سمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟) يعني أبتسمية الجاهلية وبسنة الجاهلية وأنا لا أزال حيا بين أظهركم، وهذا فيه التغليظ والإنكار الشديد على ذلك، وهذا يدل على أن الاسم إذا تُعُصِّب له فإنه مذموم، حتى ولو كان الاسم اسما شرعيا فكيف بالأسماء المحدثة كما سيأتي بيانه.
(قال أبو العباس) يعني به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني رحمه الله تعالى من الأئمة الصالحين السابقين الذين نصروا الإسلام بالرد على أهل البدع وبنشر السنة ولفت النظر إلى لزوم متابعة الدليل عليه رحمة الله ورضوانه، قال(كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجريٌّ وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار! قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، وغضِب غضباً شديداً. انتهى كلامه رحمه الله تعالى)
(35/172)
وهذا الكلام من نفيس كلام أهل العلم الذين تفقهوا في النصوص وعلموا مدارك السلف في فهم الأدلة وعلموا حدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن العلم النافع كلما زاد في حق العبد كلما زاد في العبد المؤمن زاده بصيرة في دينه وبصيرة فيما حوله حتى لا يلتبس عليه الحق بالباطل، والله جل وعلا قال في وصف نبيه؛ بل قال آمرا نبيه عليه الصلاة والسلام ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي?[يوسف:108]، وهو عليه السلام (عَلَى بَصِيرَةٍ) يعني على إدراك تام وعلم كامل بأمر الدين وأمر الدعوى التي يدعو إليها، وكذلك من اتبعه في الدين وكان على هديه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فهو على بصيرة، وأهل البصيرة ناجون، وشيخ الإسلام ابن تيمية كغيره من الأئمة الأعلام الذين رفعوا راية السنة، ونصروا مذهب السلف الصالح نصيحة للأمة وطاعة لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هؤلاء لا يكتمون نصيحة للعباد؛ بل يؤدونها لهم، وقد لاقوا ما لاقوا في زمنهم من أنواع الابتلاء لكن بقي كلامهم ينفع؛ لأنه من مشكاة الكتاب والسنة وليس فيه هوى وليس فيه خروج عن طريقة الجماعة الأولى وصراط السلف الصالح رضي الله عنهم.
وهذا الكلام من الكلام الجزيل المفيد غاية الفائدة، قال (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن) يعني كل تسمية خرجت عما سمَّى الله جل وعلا بها عباده في القرآن أو عن تسمية الإسلام، قال (من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية) فكل تسمية حينئذ تكون من عزاء الجاهلية، ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه متوعد.
(35/173)
قال(من نسب) كأن يُخرج عن اسم المسلمين واسم المؤمنين إلى اسم يُنتسب إليه إلى قبيلة فلانية من القبائل كقريش مثلا أو الأوس أو الخزرج أو تميم أو [سُبيع] أو أي قبيلة من القبائل الموجودة فهذه كلها خارجة عن دعوى الإسلام، سيأتي تفصيل الكلام عما يجوز وما لا يجوز من ذلك.
فإذا خُرج عن دعوى الإسلام إلى نسب يوالى ويعادى فيه وينصر صاحبه ولا ينصر الآخر؛ بل يظلم لأجل النسب ولا يقام لاسم الإسلام ما يستحقه مما أمر الله جل وعلا به فإنه حينئذ من عزاء الجاهلية.
قال (أو بلد) يعني أن تكون النسبة إلى بلد من البلاد تعز ويوالى عليها ويعادى كما ينسب مثلا يقال مصري شامي سُعودي يماني كويتي مغربي إلى آخره، ويكون يوالي ويعادي على هذه الأسماء فإن هذا من عزاء الجاهلية.
قال (أو جنس) جنس يوالي على جنس العرب فقط، أو جنس البربر فقط، أو جنس من الأجناس الموجودة في الأرض فقط، ولا يقيم لاسم الإسلام ولا لدعوى الإسلام مقامها، فيوالي من والى هذا، ويعادي من عادى هذا، وهي القوميات التي انتشرت في الزمان الأخير، هذه كلها من عزاء الجاهلية.
قال (أو مذهب) هذا المذهب سواء أكان مذهبا عقديا أو مذهبا فقهيا أو مذهبا سلوكيا.
المذهب العقدي: مثل المعتزلة الخوارج الإرجاء، ونحو ذلك من المذاهب العقدية التي جاءت تسميتها بعد مُضِي الجماعة الأولى.
أو كان مذهبا فقهيا: حنبلي شافعي حنفي مالكي ظاهري إلى آخره.
أو كان مذهبا سلوكيا: أو صوفيا كما يسمى ونحو ذلك مثل الطرق المختلفة في الصوفية التي تعزى كل فرقة إلى صاحبها؛ قادرية نقشبندية شاذلية إلى آخره.
فهذه كلها من النِّسب التي هي من عزاء الجاهلية إذا تجاوزت التعريف إلى اعتقاد صحة ما عليه أهلها في كل شيء، كما سيأتي تفصيلها.
(35/174)
قال (أو طريقة من الطرق) مهما كانت، (مذهب أو طريقة من الطرق) مهما كانت سواء كانت طريقة كما ذكرنا في الأول طريقة صوفية أو كانت طريقة دعوية أو كانت حزبية أو سياسية إلى آخره، فإن هذا كله كان عند أهل الجاهلية فجاء الله جل وعلا بالإسلام وأبطل كل عزاء جاهلية إلا ما كان فيه اسم المسلمين والمؤمنين.
إذا تبين ذلك فإننا نقول إن هذه التسميات الحادثة في هذه الأمة بأنواعها سواء أكانت بنسب أو قبيلة أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فإن الأحوال فيها ثلاثة:
الحال الأولى: أن تكون ممدوحة.
والحال الثانية: أن تكون مذمومة.
والحال الثالثة: أن تكون مباحة.
أما الحال الأولى: وهي أن تكون ممدوحة فهي إذا كانت التسميات من التسميات التي تميز المسلمين بما نُصَّ في الكتاب والسنة على حسنه على اعتباره، فالله جل وعلا سمى المسلمين باسم الإسلام والإيمان.
وكذلك وصْف مثلا المتقين مع أن فيها تزكية.
كذلك وصف بالأبرار مع أن فيها تزكية، ونحو ذلك، فهذه تسميات هي من قبيل الأوصاف لاسم المسلم واسم المؤمن، وكل مسلم لديه تقوى بحسبه، وكل مؤمن لديه تقوى وبر بحسبه.
(35/175)
وكذلك ما جاء بالوصف كلزوم السنة والجماعة، فاسم السنة واسم الجماعة هذه من الأسماء التي جاءت في الأحاديث وأصلها في القرآن، ولهذا يسمى خاصة أهل الإسلام أهل السنة والجماعة؛ لأنهم لزموا سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولزموا الجماعة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أذن بهذه التسمية بقوله في حديث الافتراق قالوا: من هم؟ قال «هي الجماعة»، من هي؟ يعني الفرقة الناجية، فقال (هي الجماعة)، وفي ورواية أخرى قال «هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، وقال «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، ولذلك أئمة السلف وأهل الحديث أقاموا هذا الاسم مقام الأسماء المحدثة، فلما تفرقت الأسماء وتعددت رجعوا إلى الاسم الذي يميز أهل الإسلام المتمسكين بالأمر الأول عما عداهم؛ لأنهم بين أمرين:
¨ إما أن يسلبوا اسم الإسلام عن أصحاب الأهواء المحدثة، وهذا ليس بصحيح لأنهم مسلمون.
¨ وإما أن يصفوا من كان على الإسلام الأول باسم يُخَصُّون به ويكون منصوصا عليه في الأدلة، فهذا يكون سائغا.
وهذا إجماع منهم على أن من كان على الأمر الأول فإنه يسمى مثلا أهل السنة والجماعة، أو قد يقال أهل الحديث؛ لأن السنة هي الحديث، أو يقال مثلا أهل الأثر أو أتباع السلف ونحو ذلك، هذه كلها في معنى واحد؛ لأنها ترجع بالأمر إلى ما كانت عليه الجماعة الأولى التي نص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أنها ناجية، فهذه تسمية مأذون بها كما ذكرت لك. هذه تسمية ممدوحة.
(35/176)
القسم الثاني: الأسماء والدعاوى المذمومة، وهذه مما حدث في الأمة من ألهواء المختلفة التي اتخذت لنفسها اسما يخالف اسم الذي كان عليه الصحابة كالخوارج والمرجئة المعتزلة وأشباه ذلك؛ لأنهم يدعون إلى ذلك ويرون أنهم على صواب فيه، وربما سموا أنفسهم أهل السنة والجماعة بأحد الاعتبارات، وكل تسمية فيها إشارة لمذهب يشتمل على باطل في العقيدة أو باطل في السلوك فإن التسمية في نفسها مذمومة ولو لم يقترن بها شيء آخر، فكيف إذا اقترن بها التعصب أو اقترنت بها بدع أخرى أو أهواء أخر؟ لهذا فإن الأصل أن لا يخرج عن دعوى الإسلام كما قال شيخ الإسلام هنا، وكل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن فهو من عزاء الجاهلية إلا ما أذن به مما ذكرت أو سنذكر.
فإذن هذه التسميات كلها باطلة وهي تقول إنها من عزاء الجاهلية؛ لأنها تفرِّق مثل الطرق الصوفية المختلفة الأسماء.
ويدخل فيها أيضا الأسماء المحدثة للجماعات الإسلامية بأنواعها التي جعلت لها اسما يصدق عليه أنه اسم لحزب يميز هذا الحزب عن غيره، كحزب التحرير مثلا، وكحزب الإخوان المسلمين، وكجماعات أخر تظهر في بلد دون بلد، فهذه تسميات محدثة وهي مذمومة؛ لأن الاسم في نفسه مشتمل على دعوى تفرِّق المسلمين وتنصر من كان في هذا الحزب دون غيره.
ولهذا نقول إن هذه الأسماء المحدثة، الجماعات مثلا الإسلامية للأحزاب على نوعين:
¨ منها ما هو للتعريف.
¨ ومنها ما هو للتنظيم.
فما كان منه للتعريف فالأصل في باب التعريف في الأسماء أنه واسع، مثل ما سيأتي في الأسماء المباحة تفصيله عن شاء الله تعالى.
(35/177)
وأما ما كان من قبيل التنظيم وأن يوالى فيه ويعادى ويُتعصب له دون غيره ويُنصر صاحبه دون غيره، فهذا لاشك أنه من عزاء الجاهلية، وأعظم منه انتصار المهاجري؛ يعني أعظم مما رغبوا فيه انتصار المهاجري باسم شرعي وهو (المهاجرون) وانتصار الأنصاري لاسم شرعي وهو (الأنصار) ومع ذلك لما انتصر لاسم ولأهله دون غيرهم فصار من دعوى الجاهلية بنص كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا كان الأمر في الأسماء المحدثة وانتصر لها ودُوفع عنها دون غيرها؛ بل ربما حُورب غير من كان معهم من المسلمين مع أنهم على طاعة وعلى خير فإن هذا يدخل في دعوى الجاهلية وعزاء الجاهلية من باب أولى.
والمتأمل اليوم ينظر إلى أن واقع الجماعات الإسلامية بعامة في الأسماء أنَّ هذه التسميات لو كانت للتعريف فقط لكان الأمر أسهل؛ لكنها ليست للتعريف بل هي للدلالة على الحزب أو على التنظيم، ولكي يتعارف أصحابها فيما بينهم، فتجد أن المسلم مثلا يذهب اليوم إلى بلد من البلاد فتجد أن أصحاب الحزب المعين يسألون هذا من أي فئة أي جهة إلى آخره، فإذا كان أثني عليه أنه كان من داخل هذه الجماعة أو من أهل الحزب أو أنه متعاطف معهم تبنوه وإن لم يكن بذاك، وإذا كان عالما جليلا وليس من تلك الفئة فإنهم يرفضونه ويتواصون برفضه مع أنه عنده علم كثير أو قد يكون عنده علم كبير بكلام الله جل وعلا وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا جاءت مشكلة أو جاءت منافَسة على شيء فإنهم يجتمعون على ذلك الاسم ويتعصبون له دون غيره.
والذي نظر فيما أحدثته الحزبيات والأسماء في أقرب شيء إلينا وهو ما حصل في أفغانستان في العشرين سنة الماضية بجد ذلك ماثلا في أن وجود الأحزاب والأسماء فيه لم تكن للتعريف، وإنما كانت للاجتماع عليها التعصب لها دون غيرها، فلما خرج العدو ونصر الله عباده ظهرت المفاسد الأخرى للتعصب المذموم للحزبيات هذه في أن الله أوقع المسلمين فيما بينهم.
(35/178)
وهذا كله يدل على أن كل مخلص لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل مخلص لدين الإسلام وكل راغب في رفع راية الإسلام يوجب أن لا يُتعصب لاسم دون اسم الإسلام؛ بل يكون التعامل مع المسلمين على اسم الإسلام ما داموا على التوحيد، ولم يكونوا من أهل الشرك الأكبر، فإذا كان كذلك قَرُبت.
ومن المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن كل مسلم يوالى بحسب ما عنده من الإسلام وبحسب ما عنده من الإيمان، فوَلاية المسلم للمسلم تتبعض بقدر ما عنده تحقيق الإسلام وتحقيق الإيمان، وهذا هو نظر السلف في الشرع، فيما تعاملوا به مع الناس.
أما الولاء والبراء والحب والبغض والمكايد ونحو ذلك مما يحصل فهذا كله من فهل الجاهلية وأثر من آثار التسميات التي لا يقرها أهل الحق البتة.
فإذن نصل من ذلك إلى أن الأسماء المذمومة هذه في الجماعات أو في غيرها يجب على كل مخلص أن يسعى إلى أن لا تبقى في الناس؛ بل أن يبقى المؤمنون إخوة يبحثون على الحق في كتاب الله جل وعلا وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي هدي السلف الصالح، فلو زالت هذه الشعارات وهذه الأسماء لزالت الشحناء من النفوس و لاجتمع هذا الكم من المؤمنين على كلمة سواء وجاهدوا في الله حق جهاده ولحصل .... جل وعلا بها إذا اجتمع العباد على كلمته.
أما إذا رضينا بعزاء الجاهلية وبهذا الموجود فالله المستعان، وأنتم تنظرون هذا -وقلَّ من يتخلص منه- وواجب على العبد أن يكون الأمر بينه وبين ربه جل وعلا وأن يخلص نفسه من الهوى وأن ينظر لكل مؤمن بميزان اسم الإسلام والإيمان، وأن يكون ميزانه هو ميزان أهل السنة والجماعة في ذلك، وألا يكون الميزان ميزان أحزاب أو ميزان تنظيمات، أو أن هذا من هؤلاء أو ليس منهم، ونحو ذلك من الأسماء.
(35/179)
كذلك مما يجب على عباد الله المؤمنين، ألا يحدثوا أسماء تزيد من الافتراق، وهذا حصل ويحصل في كل زمن من أنه إذا تباغضت فئتان لمز هؤلاء باسم، والآخرون سموا أولئك باسم، فنشأت فرق جديدة أو نشأت جماعات أو نشأت مذاهب أو أفكار جديدة زادت من فرقة المسلمين، ومن قواعد أهل السنة والجماعة أنَّ البدعة لا ترد ببدعة، والغلط لا يرد بغلط؛ بل يصبر، حتى الإنسان إذا أعتدي عليه ونيل منه يصبر ويحتسب عند الله جل وعلا، ولا يقابل الباطل بباطل أو يقابل التسمية بتسمية، أو يقابل البدعة ببدعة؛ لأن هذا يفرق أكثر وأكثر ولا تجمع النفوس، وقد جُرِّب ذلك وجد أن انتصار الناي للأسماء أعظم من انتصارهم للحق، وقلَّ من ينتصر للحق المجرد؛ ولكنه إذا جاء الاسم فإنه يتحرك أكثر وأكثر، وجرِّب هذا في أنه يذكر اسم أهد من المعظمين عند أي فئة من الفئات، يُذكر بشيء مما قد لا يليق أن يذكر به لكن -يعني من باب المثال- فستجد أنه يتعصب له وينتصر له أعظم مما لو خولفت مسألة شرعية أو وقع الناس في منكر أو في باطل، وهذا من استيلاء عزاء الجاهلية على النفوس، وهذا كثير في كل بلاد المسلمين بلا استثناء والله المستعان.
لهذا الواجب على كل مخلص أن يسعى إلى أن يجمع الناس على كلمة سواء فيها تحكيم الكتاب والسنة واتباع طريقة السلف وإلغاء الأسماء، وعدم إحداث التعصبات التي قد تثير الناس وتفرق عن الاجتماع، وكل ناصح لابد أن يسعى في ذلك.
وأما إذا أقررنا في أي بلد كان هذه التسميات وسعينا فيها، أو أن أهلها رضوا بها، فإن الواقع لن يكون سارا لنا وأمامنا تجارِب كثيرة دلت على أن الفرقة لا تأتي بخير كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الفرقة عذاب»، وهي الآن الناس في سعة والتراجُم بالكلام؛ لكن لا ندري ما المستقبل وربما تحول التراجُم بالكلام إلى تراجم بغيره كما حدث في بعض البلاد.
(35/180)
لهذا أوصي طلاب العلم ممن يسمعني الآن أو فيمتا نستقبل أوصيهم على أن يجمعوا الناس على تقوى الله جل وعلا، وعلى لزوم الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح، وأنَّ إلزام الناس أو دعوتهم إلى الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح يجب أن تكون متخلِّصة من التنابز بالألقاب ومن القدح ومما يجعل النفوس تثور فيها ثوائر الجاهلية، ويثور فيها الغضب الباطل والحمية حمية الجاهلية بعد أن أذهب الله جل وعلا عنا ذلك، وإذا رضينا بما نحن عليه فإننا نرضى بغير الحق، وواجب أن يبرئ الإنسان ذمته تجاه ذلك وألا يخوض فيما يحب الله ويرضى.
النوع الثالث: التسميات المباحة، التسميات المباحة هذه كل اسم أحدث وكان للتعريف، وليس للموالاة والمعاداة فيه أو للتعصب عليه، وأصل الإباحة في ذلك من الله جل وعلا سمى المهاجرين مهاجرين وصار هذا الاسم باقيا عليهم، وسمَّى الأنصار كذلك والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى قريشا باسمها، ونادى القبائل باسمها؛ بل جعل في الحروب كل قبيلة لها جناح من الجيش ليكون ذلك أدعى باجتهادهم وجهادهم لأعداء الله جل جلاله.
وهذا كله للتعريف فإذا كانت الأسماء للتعريف فلا حرج في التعريف، سواء كانت النسبة هذه أو الأسماء لنسب لأسماء القبائل للتعريف هذا قال الله جل وعلا ?وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا?[الحجرات:13]، التعريف لا بأس به بأي صفة كانت.
وكذلك إذا كانت النسبة لمذهب من المذاهب مما لا يشتمل في نفسه على باطل؛ يعني أن يكون مؤسَّسا على باطل، كالنسبة مثلا للمذهب الحنبلي، النسبة للمذهب الشافعي، مذهب المالكية، مذهب الحنفية، مذهب الظاهرية ونحو ذلك، فهذه مذاهب للتعريف.
كذلك ما نسب إلى مذهب معين، قال هذا فلان كذا بالنسبة إلى بلد أو إقليم أو نحو ذلك أو جنس، هذا للتعريف الأمر فيه واسع.
كذلك الطرق المختلفة والجمعيات أو الجماعات إذا كانت للتعريف فلا بأس بذلك.
(35/181)
وخذ مثلا على ذلك جماعات تحفيظ القرآن الكريم في هذه البلاد المباركة، موجودة باسم الجماعة ولا تشتمل على موالاة ومعاداة على من فيها وعلى من ليس فيها، وذلك أن الاسم للتعريف ليس إلا ولتنظيم العمل، وهذا أمر سائغ؛ لأن الله جل وعلا أذن بالأسماء خلاف اسم المسلمين والمؤمنين.
وهذه الأسماء في نفسها إذا تحولت إلى تعصب وموالاة ومعاداة، فإنه يجب إبطال هذا التعصب وهذه الموالاة والرجوع إلى الأصل في ذلك.
فإذا مثلا أتى أتباع المذهب الشافعي وأتباع المذهب المالكي وتعصبوا لأنفسهم ضد مذهب آخر لينتصروا لمذهبهم، كان هذا من عزاء الجاهلية.
وكذلك إذا أراد أهل قبيلة ما أن ينتصروا لقبيلتهم ضد قبيلة أخرى كان هذا بمجرد الاسم كان هذا من عزاء الجاهلية.
كذلك كل ما يتصل بهذه الأسماء المباحة لو أرادوا أن ينتصروا للاسم وأن يوالوا ويعادوا عليه وأن يُضعفوا اسم الإسلام أو أثر الإسلام والإيمان هذا كله من آثار الجاهلية في ذلك.
لعل في ما ذكرنا إشارات إلى أصول هذه المسائل، وقد بيَّن هذه الأصول شيخ الإسلام ابن تيمية، وبينها غيره أيضا، ويمكن أن يراجع مثلا كتاب اقتضاء الصراط المستقيم أو نحوه من الكتب التي فيها مخالفة أهل الجاهلية ومخالفة أهل الجحيم.
سلك الله بي وبكم صراطه المستقيم، والزمنا طريق السلف الصالحين، وجعلنا ممن تخلَّص من هواه ولزم الحق في قوله وعمله، إنه سبحانه جواد كريم.
صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([14])
?????
[المتن]
باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه
وقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[البقرة:208].
وقوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك?[النساء:60].
وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ?[الأنعام:159].
(35/182)
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ?يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ?[آل عمران:106]: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والاختلاف.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وليتأمل المؤمن الذي يرجو لقاء الله، كلام الصادق المصدوق في هذا المقام خصوصاً قوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» يالها من موعظة لو وافقت من القلوب حياة! رواه الترمذي، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة وصححه، ولكن ليس فيه ذكر النار، وهو في حديث معاوية عند أحمد وأبي داود وفيه: «أَنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ»، وتقدم قوله: «وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ».
?????
باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر
وقوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48].
وقوله: ?فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:144].
(35/183)
وقوله تعالى: ?لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ?[النحل:25].
وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد».
وفيه أنه: «نهى عن قتل أمراء الجور».
وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رجلاً تصدق بصدقة ثم تتابع الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ». رواه مسلم.
وله مثله من حديث أبي هريرة ولفظه: «من دعا إلى هدى، ثم قال: ومن دعا إلى ضلالة».
?????
باب ما جاء في أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة
هذا مروي من حديث أنس ومن مراسيل الحسن، وذكر ابن وضاح عن أيوب قال: "كان عندنا رجل يرى رأياً فتركه فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلاناً ترك رأيه؟ قال: انظر إلى ماذا يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله. «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه». وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال: لا يوفقون للتوبة.
?????
باب قول الله تعالى:?يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ? إلى قوله: ?وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[البقرة:135]
وقوله: ?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ?[البقرة:130].
(35/184)
وفيه حديث الخوارج وقد تقدم. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما أوليائي المتقون»، وفيه أيضاً عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر له أن بعض الصحابة قال: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أُقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللًّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». فتأمل! إذا كان بعض الصحابة أراد التبتل للعبادة قيل فيه هذا الكلام الغليظ وسمي فعله رغوباً عن السنة فما ظنك بغير هذا من البدع؟ وما ظنك بغير الصحابة؟.
?????
باب قول الله تعالى: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ?[الروم:30]
وقوله تعالى: ?وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[البقرة:132].
وقوله تعالى:?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:123].
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه - أن رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنْ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمُ أَبِي إِبْرَاهِيم وَخَلِيلُ رَبِّي» ثُمَّ قَرَأَ:? إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ? رواه الترمذي.
(35/185)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُم وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ».
ولهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، ولَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَصْحَابِي! فيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».
ولهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا» قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ» فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا».
(35/186)
وللبخاري: «بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ فَقُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ -فذكر مثله- قال: فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ».
ولهم في حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- فأقول كما قال العبد الصالح: { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة:117].
ولهما عنه مرفوعاً: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ حَتَّى تَكُونُوا أَنتُمْ تَجْدَعُونَهَا» ثم قرأ أبو هريرة - رضي الله عنه - { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم:30] متفق عليه.
(35/187)
وعن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ! فِتْنَةٌ عَمْيَاْء، وَدُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ». أخرجاه. وزاد مسلم: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مَعَهُ نَهْرٌ وَنَارٌ فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ وَجَبَ أَجْرُهُ وَحُطَّ وِزْرُهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ وَجَبَ وِزْرُهُ وَحُطَّ أَجْرُهُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ هِيَ قِيَامُ السَّاعَةِ». قال أبو العالية: "تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم وإياكم وهذه الأهواء ". انتهى.
(35/188)
تأمل كلام أبي العالية –رحمه الله تعالى – هذا ما أجله وأعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام، وتفسير الإسلام بالسنة، والإسلام وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } [البقرة:131]. وقوله: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [البقرة:132] وقوله تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة:130]، وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة وبمعرفتها يتبين معنى الأحاديث في هذا الباب وأمثالها، وأما الإنسان الذي يقرأها وأشباهها وهو آمن مطمئن أنها لا تناله ويظن أنها في قوم كانوا فبادوا. { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [لأعراف:99].
و عَنْ ابن مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ تَلَا: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام:153]». رواه أحمد والنسائي.
?????
باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء
وقول الله تعالى: ?فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ?[هود:116].
(35/189)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -مرفوعاً: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». رواه مسلم وأحمد من حديث ابن مسعود وفيه: "من الغرباء؟" قال: «النُّزَّاعُ مِنَ القَبَائِل». وفي رواية: «الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس»، وللترمذي من حديث كَثِير بن عبد الله عن أبيه عن جده: «طُوبَى لِلْغُرَبَاء الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي».
وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ فَقُلْتُ لَهُ: "يَا أَبَا ثَعْلَبَة!كَيْفَ تَقُولُ فِي ِهَذِهِ الْآيَةِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة:105] ؟"، فَقَالَ: "أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ كَالْقَابِْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» قلنا: "مِنَّا أَمْ مِنْهُمْ؟"، قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ». رواه أبو داود والترمذي.
(35/190)
وروى ابن وضاح معناه من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ولفظه: «إن بعدكم أياماً الصابر فيها المتمسك بمثل ما أنتم عليه اليوم؛ له أجر خمسين منكم»، قيل: يا رسول الله منهم؟ قال: «بل منكم». ثم قال: أنبأنا محمد بن سعيد أنبأنا أسد قال سفيان بن عيينة عن أسلم البصري عن سعيد أخي الحسن يرفعه، قلت لسفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: «إنكم اليوم على بينة من ربكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله، ولم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش، وستحولون عن ذلك فلا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر، ولا تجاهدون في الله، وتظهر فيكم السكرتان، فالمتمسك يومئذٍ بالكتاب والسنة له أجر خمسين» قيل: منهم؟ قال: «لا بل منكم».
وله بإسناد عن المعافري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسنة حين تطفأ».
?????
باب التحذير من البدع
عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه كَأَنَّهَا موعظة مودع فأوصنا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وعن حذيفة قال: "كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم". رواه أبو داود.
(35/191)
وقال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك أنبأنا عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقال: "أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى، ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ فقالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تُبل، وآنيته لم تكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم؛ وأيم الله لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج. والله المستعان وعليه التكلان.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
?????
تم بحمد الله
---
(35/192)
([1])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([2])انتهى الشريط الأول.
([3]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([4])هود:7، الملك:2.
([5]) انتهى الشريط الثاني.
([6]) الشيخ يقصد آخر تفسير.
([7]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([8]) انتهى الشريط الثالث.
([9]) انتهى الشريط الرابع.
([10]) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.
([11]) قارن هذا الكلام بما جاء في شرح مسائل الجاهلية للشيخ صالح آل الشيخ تحت: المسألة السادسة والعشرون.
([12]) انتهى الشريط الخامس.
([13]) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([14]) انتهى الشريط السادس وهذا أخر هذا الشرح المبارك نفع الله وبه.
(35/193)
كتاب أصول الإيمان
لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله تعالى-
بشرح الشيخ : صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
إعداد : أبو عبد الله اليماني
أصول الإيمان لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
شرح الشيخ : صالح آل الشيخ
بدأ الشرح : 10/7/1417هـ وانتهى : 29/12/1419هـ
قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
( باب معرفة الله عز وجلَّ والإيمان به )
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : (( أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )) رواه مسلم
الشرح : هذا الكتاب كتاب أصول الإيمان جمع فيه الإمام المجدد رحمه الله الأحاديث التي في الإيمان: ( الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وما يتصل بذلك من الأمور ) فهو جمع أحاديث متنوعة أصول في هذا المبحث العظيم مبحث الإيمان .
والإيمان أركانه ستة ( كما هو معلوم ) الركن الأول : هو الإيمان بالله .
والإيمان بالله ثلاثة أقسام :
1- إيمان بربوبية الله بأنه واحد جل وعلا في ربوبيته لا شريك معه .
2- إيمان بألوهية الله وأنه واحد في إلاهيته . يعني : في استحقاقه للعبادة لا ندَّ له .
3- إيمان بالأسماء والصفات وأنه سبحانه واحد في أسمائه وصفاته لا مثيل له .
والشيخ رحمه الله هنا يذكر من الأحاديث الآن ما يرجع إلى كل واحدة من هذه لينبه على أصول الإيمان .
فذكر حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء .......) وهذا يفيد فوائد في الإيمان :
(36/1)
1- توحيد الربوبية . إذ قوله :( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ) وذلك لكمال ربوبيته سبحانه وانفراده بها ، فلكونه الرب وحده هو أغنى الشركاء عن الشرك ، إذ الإشراك به جل وعلا باطل لأنه هو الرب وحده دونما سواه .
2- وقوله : ( من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري ) : هذا فيه توحيد الإلهية . ( وهذا مبسوط في شرح كتاب التوحيد وغيره ) والمقصود التنبيه على أن الحديث يدل على نوعين من التوحيد ، توحيد الربوبية وتوحيد الألهية . وبه يصلح الاستشهاد على تفسير الإيمان بأنه الإيمان بالله يعني : بربوبيته وبألوهيته .
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ خَلْقِهِ وَقَالَ حِجَابُهُ النُّورُ )) . رواه مسلم .
(36/2)
الشرح : هذا الحديث شروع من الشيخ رحمه الله في بيان الصفات وذكر أحاديث الصفات داخل في الإيمان بالله لأن الإيمان بالله : إيمان بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات . فكل حديث فيه ذكر للأسماء والصفات للحق جلَّ وعلا فهو مسوق يساق في باب الإيمان بالله . وهذا يدل على أن أحاديث الصفات هي أحاديث الإيمان بالله جل علا إذ بمعرفة الحق جل وعلا والعلم بأسمائه وصفاته والإيمان به . فإيماننا بالحق جل وعلا إيمان عن علم بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله وكريم أفعاله سبحانه وتعالى .
وقوله هنا : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ) : لا ينام لكمال قيوميته وكمال حياته سبحانه وتعالى . فهذا النفي مقصود به كمال ضده . ( على قاعدة : أن النفي المحض ليس كمالاً ) ، فإذا جاء نفي في الكتاب والسنة فيقصد به إثبات كمال الضد ، فضد النوم : الحياة والقيومية . لهذا نقول في قوله : ( إن الله لا ينام ) فيها : إثبات كمال حياة الله جل وعلا وكمال قيوميته . ولهذا في آية الكرسي قال سبحانه وتعالى : (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)
،ولكمال حياته جل وعلا ولكمال قيوميته جل وعلا ( لا تأخذه سنة ) غفلة ولا فتور ولا إعراض (ولا نوم ) لا يشغله سبحانه وتعالى عن قيوميته شأن عن شأن .
(36/3)
وقوله : ( يخفض القسط ويرفعه ) المقصود بالقسط هنا : الميزان . لقوله جل وعلا : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )(الانبياء: من الآية47) ، وظاهره : أن الله جل وعلا يخفض الميزان ويرفعه كما يليق بجلال الله جل وعلا .
قوله : ( لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) هذا تعليق بكل شيء لأن القسمة قسمان : الله جل وعلا شيء ومخلوقاته شيء آخر وليس ثم قسم ثالث . الله جل وعلا ومخلوقاته ، فما هو ليس من الله جل وعلا فهو مخلوق من العرش وحملته إلى آخر ملكوت الله سبحانه وتعالى . فلو كشف الحجاب سبحانه وتعالى لأحرقت سبحات وجهه – النور القوي – لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه يعني : كل الخلق لأن بصر الحق سبحانه وتعالى ليس له حد ولا نهاية متعلق بجميع المخلوقات .
فقوله : ( ما انتهى إليه بصره من خلقه ) يعني : كل شيء . وبصره وسع المخلوقات جميعاً ، بمعنى : أحرق كل شيء تبارك ربنا وتعالى وتقدس .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (( إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْضُ أَوْ الْقَبْضُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ)) . أخرجاه .
(36/4)
الشرح : هذا فيه إثبات صفة اليد لله جل وعلا بل إثبات صفة اليدين للحق تبارك وتعالى . والحق جل وعلا ثبت له هاتين الصفتين كما قال : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )(المائدة: من الآية64)، وقال سبحانه وتعالى : (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)(صّ: من الآية75)، وقال جل وعلا : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يّس:71) ، وأشباه هذه الآيات والأحاديث التي فيها إثبات صفة اليدين للحق جل وعلا .
وهذا من الإيمان فهو سبحانه متصف بذلك على ما يليق بجلاله وعظمته : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11).
( وكلتا يدي الرحمن يمين ) فهل يقال : إن للرحمن جل وعلا يميناً وشمالاً ؟
هذا فيه بحث : والذي في الحديث أن الله سبحانه وتعالى سمى يديه يعني : وصف يديه واحدة باليمين ، وقال في الثانية : ( وبيده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه ) ، و ( كلتا يدي الرحمن يمين ) كما جاء في الحديث : ( إن المقسطين على منابر من نور وعلى يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ) .
وقوله : ( وكلتا يديه يمين ) قال العلماء معناه : أن يدي الرحمن سبحانه وتعالى كلها يمين ، يعني : في الخير وفي الإنفاق ، ولأن العرب تجعل الشرف لليمنى على اليد الأخرى ، وأن اليد الأخرى في الإنسان يعنى اليسرى : أقل وأوضع من اليد اليمنى ، فاليد اليمنى هي الشريفة والثانية ليست كذلك . فقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وكلتا يديه يمين ) يعني : أن يدي الرحمن جل وعلا في الشرف والصفة سواء ليس ثم فضل ليد على أخرى .
(36/5)
هذه الأخرى هل يقال : إنها الشمال ؟ جاءت في صحيح مسلم في حديث ، والحديث في إسناده ضعف وساقه مسلم رحمه الله في الشواهد ولذلك أعله طائفة من أهل العلم في التنصيص على ذكر الشمال ، وقالوا : إن ذكر الشمال فيه ليس محفوظاً وأن الصواب في الحديث : ( الأخرى ) وليس ( بشماله ) . وهذا ظاهر من حيث الإسناد : فإن مسلماً رحمه الله تعالى ساقه في الشواهد ، ومعلوم أن سياق الحديث في الشواهد لا يعني تصحيح كل كلمة فيه . ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى عدم إثبات كلمة (الشمال) في صفة اليد لله جل وعلا .
وقال طائفة من المحققين من أهل العلم : تثبت اليمين والشمال ، والشمال شريفة يمين هي كاليمين ، والشمال ليس نقصاً لها ولكن هي يمين وشمال مثل ما جاء في الحديث الذي في مسلم ما دام أم مسلماً رواه قد صححه . ومال إلى هذا : إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر كتابه التوحيد ، فإنه ذكر في المسائل في آخر الكتاب فقال : التنصيص على الأخرى بأنها الشمال وهذا يقول به طائفة من أهل العلم المحققين في هذا والمسألة تحتاج إلى مزيد نظر والحديث كما ذكرت لكم في إسناده ضعف ويكون ذكر الشمال فيه شاذاً وقد نص على ذلك بعض أئمة الحديث كالبيهقي وغيره .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ ؟ قَالَ: لَا قَالَ لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا وسيحكم بينهما ) رواه أحمد .
الشرح : هذا في تتمة الكلام على الإيمان بالله جل وعلا وقد ذكرنا لك أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى إيمان بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات وهذا ذكر لبعض الصفات .
(36/6)
قال : ( ولكن الله يدري ) ودراية الله جل وعلا بـ ( فيم ينتطح الكبشان أو العنزان ) يعني : علمه سبحانه وتعالى بذلك . ومعلوم أن باب الإخبار أوسع من باب الوصف ، فإن لفظ أو صفة ( الدراية ) لا يوصف الله جل وعلا بها لكن يطلق على الله جل وعلا من جهة الإخبار أنه سبحانه وتعالى يدري بهذا الشيء لأنها من فروع العلم .
فهناك صفات لها جنس ، فالعلم جنس تحته صفات ، فجنس ما هو ثابت يجوز إطلاقه على الله جل وعلا من جهة الخبر .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58) ، ويضع إبهاميه على أذنيه والتي تليها على عينيه . رواه أبو داود وابن حبان وابن أبي حاتم .
الشرح : هذا الحديث مشهور من جهة دلالته على الصفة بالإشارة . وإثبات الصفة بالإشارة كان يفعله بعض السلف في أنه يشير إليها بيده فيشير إلى الأصابع بأصابعه ويشير إلى اليد بيده يشير إلى السمع والبصر بهما كما فعل هنا أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : ( إن الله كان سميعاً بصيراً ) ووضع يده هكذا . وهذا عند أهل العلم معناه : إثبات الصفة بمعناها المتعارف عليه عند الإنسان المخاطب ، ومعلوم أن المسلم يثبت الصفة مع قطع المماثلة على قاعدة : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، فإذا أشار إلى عينه أو أشار إلى سمعه فإنه لا يعني بذلك المماثلة وإنما يعني بها أن العين هي ما تعلم أنها عين والله جل وعلا له عين سبحانه لا تشبه الأعين ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، وكذلك له سمع ليس كمثل سمع المخلوق .
فإذا الإشارة معناها : إثبات معنى الصفة بما يعهده المخاطب من معناها ، فيشير لأجل تحقيق ذلك .
(36/7)
وبعض أهل العلم قال : الإشارة لأجل إثبات الحقيقة ، وهذا ليس بجيد لأنه يقتضي أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز موجود عند الصحابة وهذا ليس بصحيح ، فإن
الكلام عند الصحابة حقيقة كله لآن الكلام العربي حقيقة وظاهر ، والمجاز المدعى نوع من الحقيقة التركيبية والظاهر التركيبي .
فالمقصود هنا أنه إذا قيل لبيان الحقيقة ، فإنه لبيان حقيقة المعنى لا بأس ، وإذا ظُنَّ أن الحقيقة هنا يعني : الحقيقة المقابلة للمجاز فهذا غلط ولا يصح أن ينسب إلى الصحابة لأنه لا تقسيم للكلام عندهم إلى حقيقة ومجاز .
إذا تبين هذا فلا يناسب عند الناس وعند العوام أن يشار بالأصابع أو يشار باليد أو يشار بالعين أو نحو ذلك لأن العامة قد تفهم من هذا التمثيل والتشبيه ، ولهذا أنكروا على كثيرين ممن قال : إن الله يقبض السماوات بيده ولو أشار لا إرادياً ينكر عليه العامة لعدم قبولهم مثل هذا . وهذا أوجه من الإشارة لأن الزمن مختلف .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله . لا يعلم ما في غدِ إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله . ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله تبارك وتعالى) الحديث رواه البخاري ومسلم .
الشرح : ما يختص الله جل وعلا به هو الغيب الذي سيأتي ، الذي لم يقع بعد فهذا لله جل وعلا .
(36/8)
الغيب الماضي علمه بعض الناس أن رأته الجن ، لهذا يحصل من العرافين أنهم يستدلون على مكان المسروق مع أنه غيب بالنسبة للناس لكن لا يدخل هذا في ادعاء الغيب لأنهم تخبرهم الجن بمكانهم فهو ليس من الغيب الذي اختص الله جل وعلا به ، والله جل وعلا قال : (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)(الأنعام: من الآية59)) ، وهذا هو الغيب الذي يكون في المستقبل والقدر القادم لا يعلمه على ما سيقع عليه من هيئته وصفاته وزمانه ومكانه وقدره إلى أخر ذلك إلا الرب سبحانه وتعالى .
فالحديث في إثبات علم الرب جل وعلا بما سيكون . وعلم الله جل وعلا المختص به في أشياء حادثة لا يعلمها إلا هو كعلم مافي الأرحام ، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله جل وعلا .
وعلم ما في الأرحام المختص به الله جل وعلا يشمل كل ما في الأرحام من جنين ومن حالته وحال الرحم وغيب الرحم وازدياده وإتيان الغذاء والدم وقلة ذلك وترقي الجنين في خلقه ، يعني على هذه التفاصيل هذه لا يعلمها إلا الله جل وعلا فإن الإنسان مهما وصل علمه فإنه لا يستطيع أن يعلم ذلك على وجه التفصيل في كل ما يحصل .
(36/9)
ولهذا كلمة ( ما ) في آية (لقمان) في قوله : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)(لقمان: من الآية34)) هذه عامة ، بمعنى الذي ، والأسماء الموصولة كما هو معلوم تعم ما كان في حيز صلتها ، فقوله : ( ويعلم ما في الأرحام ) يعني : الذي هو كائن في الأرحام ، فكل ما يكون في الرحم يعلمه سبحانه . وأما معرفة هل الذي في الرحم جنين هل هو ذكر أو أنثى فهذا يختص بالله جل وعلا في ما قبل نفخ الروح وأما ما بعد نفخ الروح فإنه يخرج عن العلم المختص بالله جل وعلا لأنه قد ثبت في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن النطفة إذا صارت في الرحم أتى الملك بعد أربعين ، قال له الله جل وعلا : أكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد وذكر أم أنثى ) ، وفي رواية : ( يقول الملك : أي رب شقي أو سعيد ؟ فيأمر الله ويكتب الملك . ثم يقول : أي رب ذكر أو أنثى ؟ فيأمر الله ويكتب الملك ) فيعلم الملك بعد مضي هذه المدة هل هو ذكر أو أنثى ؟
قال طائفة من العلماء : كان بعض الناس يعلم إذا رأى بطن المرأة يعلم ما فيها هل هو ذكر أم أنثى ؟إما بدلائل وإما بكشف يعني : يكشف من باب الكرامات ، أو بدلائل يستدل بها إما بشكل البطن أو الحركة أو غير ذلك .
المقصود : أن ما في الأرحام عامة في التفاصيل ومسألة هل ما فيه ذكر أم أنثى هذه خاصة ليست هي كل ما يدل عليه اختصاص الله بعلمه بما في الأرحام ، ومعناها وضابطها ما ذكرنا . والباقي واضح إن شاء الله .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :قال :رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها فقال ن شدة الفرح : اللهم إنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) أخرجاه .
الشرح : هذا الحديث فيه فوائد كثيرة نذكر منا فائدتين :
(36/10)
1- إثبات صفة الفرح لله جل وعلا والله سبحانه وتعالى يفرح ويرضى ويسخط ويغضب ويأبى لا كأحد من الورى سبحانه وتعالى ، فرحه بحق كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى .
2- في آخر الحديث قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) أخطأ من شدة الفرح : دل على أن الأخطاء المكفرة إذا أتت على اللسان من غير قصدٍ إلى هذا اللفظ ، من غير قصد إلى إنشائه وإنما تقدم لفظ عند المتكلم أو تأخر فصار اللفظ كفرياً أن هذا من الخطأ المعفو عنه لأن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ إلا بما تعمد المرء إليه قلبه فقال سبحانه : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )(البقرة: من الآية225) ) ، وقال في الآية الأخرى :(وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)(الأحزاب: من الآية5)) . فالخطأ يما لم يقصد إليه ، ليس الجهل ، هذا معفو عنه .
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم .
الشرح : هذا الحديث من النوع الثالث وهو الإيمان بالأسماء والصفات وذلك أن فيه إثبات عدد من الصفات وأظهرها في الحديث صفة اليد لله جل وعلا .
قال في الحديث : ( إن الله يبسط يده بالليل .....) دال علىإثبات صفة اليد للرحمن جل وعلا ، ووجه الدلالة : أنه أضاف اليد إلى ذاته العلية حيث قال : ( يبسط يده ) ومن المتقرر عند أهل العلم أن الإضافة إلى الله جل وعلا نوعان : إضافة مخلوق إلى خالقه ، وإضافة صفة إلى متصف بها .
(36/11)
فإضافة المخلوق إلى خالقه : كإضافة الروح إلى الله جل وعلا في قوله : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )(الحجر: من الآية29)) ، وكقوله جل وعلا : ( نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)(الشمس: من الآية13)) ، ونحو ذلك كقوله : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)(الاسراء: من الآية1) ، فإضافة الروح والناقة والعبد إلى الله جل وعلا إضافة مخلوق إلى خالقه وهذه الإضافة تقتضي التشريف لأن تخصيص بعض المخلوقات إلى الرب جل وعلا معناه : أن هذه المخلوقات لها شأن خاص وذلك تشريف لها .
والنوع الثاني : إضافة الصفة إلى متصف بها وهو الله جل وعلا وهذا ينضبط بكل ما لا يقوم بنفسه من الأشياء سواء كانت من الأعيان ، أو من المعاني ، فمن الأعيان اليد فإنها لا تقوم بنفسها ، والوجه فإنه لا يقوم بنفسه يعني لا يوجد وجه بلا ذات ولا توجد يد بلا ذات إلى آخر أنواع ذلك ، ومن المعاني : مثل الغضب والرضى وأشباه ذلك والرحمة إلى غير ذلك . إذاً فهذا الحديث جارٍ مع القاعدة .
(36/12)
إذاً قوله في الحديث : ( إن الله يبسط يده بالليل ....) هذه إضافة صفة إلى متصف بها فهذا يمنع أن تكون اليد مؤولة بمعنى النعمة أو بمعنى القدرة وأشباه ذلك ، فإن اليد في اللغة قد تأتي بمعنى النعمة لكن لا تضاف كقول العرب : لفلان علي يد يعني : نعمة ، لكن لا تقول العرب إذا أرادت النعمة : يد فلان علي ، إنما تقول : ( لفلان علي يد ) بقطع الإضافة ، وحتى هذا الإطلاق من العرب لأجل أن وسيلة إيصال النعمة إلى المنعم عليه بواسطة اليد . فربما دخل من إطلاق الشيء وإرادة لازمه . ومن المعلوم أنه في اللغة العربية لا يمتنع إطلاق المفرد على المثنى ، ولا يمتنع إطلاق الجمع على المفرد ولا يمتنع إطلاق المثنى على الجمع كلها سواء ، فإذا أطلق المفرد فقد يراد به المفرد المعين وقد يراد به الجنس ، ولكن لما سمعنا قول الله جل وعلا : بل يداه مبسوطتان علمنا أن قوله : (يبسط يده بالليل) يعنى : يديه .
ولهما عن عمر – رضي الله عنه – قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم – بسبي هوازن فإذا إمرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبياً في السبي فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ " قلنا : لا والله ! فقال : " الله أرحم بعباده من هذه بولدها" ) الحديث .
(36/13)
الشرح : هذا الحديث فيه إثبات صفة الرحمة لله جل وعلا ، وفيه امتناع تأويل صفة الرحمة بإرادة الإنعام أو الإحسان ، لأنه عليه الصلاة والسلام مثَّل والله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى ، فلما مثَّل عِظَم رحمة الله جل وعلا برحمة هذه المرأة بولدها علمنا أن المراد هنا الرحمة المعروفة المعهودة عند الناس التي يجدها كل إنسان في نفسه يعرف معنى الرحمة ، والكلمات إنما هي للتعبير عن الأشياء والرحمة معلومة يعلمها المرء من نفسه لأنها فيه غريزة ، فلهذا قوله : ( الله أرحم بعبده من هذه بولدها ) يدل على إثبات صفة الرحمة وعلى أنها صفة لله جل وعلا على ما يليق به سبحانه وتعالى ، وعلى أنه يمتنع تفسير هذه على بإرادة الإنعام لأن السياق والتمثيل يمنع ذلك .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي ) رواه البخاري
الشرح : كذلك هذا فيه صفة الرحمة لله جل وعلا ، وهذا الحديث فيه بحث من جهة هذا الكتاب الذي هو فوق العرش ، وفي رواية : ( فهو عنده في العرش ) . فيه بحث من جهة هذة الكلمة : ( إن رحمتي غلبت غضبي ) هل هو كتاب من اللوح المحفوظ فيكون في اللوح المحفوظ ذكر صفات الرب جل وعلا ؟ ، أو هو كتاب مستقل جعله الله فوق عرشه ليبين عظم سبق رحمته لغضبه ؟ وهذا يدل على أن الرحمة : صفة ذاتية ، وعلى أن الغضب : صفة اختيارية ، فالرحمة ملازمة للرحمن جل وعلا فهو سبحانه وتعالى لم يزل رحيماً فهو رحيم لا تنفك عنه الرحمة ، أما الغضب فهو صفة اختيارية تكون بالرحمن جل وعلا إذا شاء بمشيئته وقدرته فيغضب في حين ولا يغضب في حين آخر ، أما الرحمة فهو دائماً سبحانه وتعالى رحيم ولأجل رحمته قامت هذه المخلوقات ، فقيام هذه المخلوقات وظهور النعم فيها كلها من آثار رحمة الرب جل وعلا وهذا يدل على أن آثار الرحمة دائمة وعلى أن آثار الغضب غير دائمة .
(36/14)
ففي قوله تعالى : ( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)(طه: من الآية81) فجعله حالاَّ ،(ومن يحلل ) يعني : ليس دائماً وإنما يحل في حينٍ دون آخر ، كما جاء في حديث الشفاعة المعروف قال : ( إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله ) فدل على قيام الغضب به جل وعلا بمشيئته واختياره وقدرته سبحانه وتعالى .
فإذاً هناك فرق كبير بين صفة الرحمة وصفة الغضب لله جل وعلا ، فالرحمة ذاتية والغضب اختياري ، والرحمة آثارها دائمة والغضب آثاره ليست دائمة ، والرحمة من آثارها ما يتقلب فيه الخلق من النعم الدينية والدنيوية مصالح أمور دنياهم وآخرتهم كلها من آثار الرحمة . وأما الغضب فآثاره عقوبة لمن يستحق ذلك وهذا مغلوب بالرحمة ( إن رحمتي غلبت غضبي ) أو ( سبقت غضبي ) .
ولهما عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ) الحديث .
الشرح : هذا الحديث كسابقيه في إثبات صفة الرحمة لله جل وعلا ولكن فيه مزيد فائدة وهي : بيان أن الصفة لله جل وعلا لها آثارها في الخلق ، فرحمته سبحانه وتعالى جعل جزءاً منها له أثر في الأرض فبها يتراحم العباد ، فجزء من أجزاء رحمة الرحمن جل وعلا جعلها في عباده فكل ما تراه من التراحم هذا من آثار اتصاف الرحمن بالرحمة .
ويدل هذا أيضاً على أن الرحمة كما ذكرنا هي الرحمة المعهودة لأنه جعل رحمة الرحمن منها جزء يتراحم بها الخلق فدل على أن رحمة الرحمن من جنس رحمة المخلوق للمخلوق يعني أنها الرحمة المعهودة وإن اختلفت في قدرها وصفتها لأن الصفات تبع للذات ، فالمخلوق يناسبه من هذا الوصف ما يلائم ذاته والرحمن جل وعلا له من هذه الصفة ومن غيرها كمال ذلك وشموله وإطلاقه .
(36/15)
الأحاديث من حديث أنس : ( إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طُعمة في الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويُعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته ) رواه مسلم .
وله عنه مرفوعا : ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها )
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أطّت السماء وحُقَّ لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملَكٌ ساجد لله تعالى ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبيكتم كثيراً وما تلذّذتم النساء على الفرش ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله تعالى ) الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن .
قوله : (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) في الصحيحين من حديث أنس .
ولمسلم عن جندب مرفوعا : ( قال رجل والله لا يغفر الله لفلان ! فقال الله عز وجل : من ذا الذي بتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ) .
وله عن أبي هريرة مرفوعاً: ( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد ) .
وعن أبي هريرة : مرفوعاً : ( إن امرأة بغياً رأت كلباًفي يوم حار يُطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فسقته فغُفِر لها به " ، وقال : " دخلت النار امرأةٌ في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خَشاش الأرض " قال الزهري : لئلا يتَّكل أحد ولا ييأس أحد . أخرجاه .
وعنه مرفوعاً : ( عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ) رواه أحمد والبخاري
حديث أبي موسى : ( وما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله ، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم ) رواه البخاري .
(36/16)
الشرح: هذه الأحاديث من كتاب أصول الإيمان للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى كما ذكرنا لك فيها ذكر صفات الله تعالى وذكر الجنة والنار ، وسبق أن ذكرت بعض الصفات في الأحاديث كالرحمة واليد وغير ذلك ، وهذه الأحاديث التي ذكرها فيها ذكر القدر وذكر صفة المغفرة وذكر الجنة والنار.
فالحديث الأول حديث أنس : ( إن الكافر إذا عمل حسنة ..... ) فيها إثبات كمال عدل الله جل وعلا وأنه لا يضيع إحسان محسن وعمل عامل حتى الكافر ولكن ثوابه يكون عليه في الدنيا وذلك لكمال صفاته سبحانه وكمال عدله . إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا فأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته ، يعني أن الله سبحانه وتعالى يثيبه على حسنات في الآخرة ويمن عليه ويبتدؤه برزق في الدنيا وإحسان إلى المؤمن . فالمؤمن والكافر وجميع الخلق قائمون مع رحمة الله جل وعلا إذ رحمته وسعت كل شيء ، لهذا ذكر هذا الحديث بعد حديث الرحمة لأن العدل مع الكافر لفي أنه يثاب على حسنته في الدنيا هذا من الرحمة به ، كذلك يثاب المؤمن على حسناته في الآخرة ويعطى على أنواع الطاعات في الدنيا رزقاً وسعة وصحة إلى آخره إبتداء من الله جل وعلا ومنة فإن هذا أيضاً من آثار سعة رحمة الله جل وعلا .
ثم قال : وله مرفوعاً ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة .... )
(36/17)
الشرح : هذا الحديث فيه ذكر لأصل من أصول الإيمان والصفات ألا وهو الإيمان بالصفات الاختيارية لأن الرضى والغضب وأشباه هاتين الصفتين من الصفات الاختيارية من الصفات الفعلية التي يتصف الله جل وعلا بها بمشيئته وقدرته إذا شاء كيف شاء ، والأولى صفة الرحمة هذه صفة ذاتية فالله جل وعلا لا ينفك عنه اتصافه بالرحمة بل هو سبحانه رحيم في كل حال ولو لم يكن رحيماً في آنٍ من الأوان لهلك خلقه أجمعون ولهذا عقب الشيخ رحمه الله بذكر الصفات الاختيارية على الصفات الذاتية لأن الصفات الذاتية أعظم ، والصفات الاختيارية يتصف الله بها سبحانه في حال دون حال بمشيئته وقدرته .
( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ) وهذا دليل على أن الرضى يكون حين الأكل وحين الشرب إذا حمد العبد رضي الله عنه ذلك ، بخلاف قول الأشاعرة والمبتدعة : ( إن الرضى قديم فيقولون : رضى الله عن عبده المؤمن قديم رضي وانتهى رضاه . فإذا كان كافراً في أول عمره ثم كان مكتوباً له أن يؤمن فإنه مرضي عنه حتى في حال كفره ، فالصحابة في حال كفرهم مرضي عنهم ولو في حال عبادتهم أ, عبادة بعضهم للأوثان ، والمؤمن الذي يختم حياته – نسأل الله العافية والسلامة – بردة فإنه مغضوب عليه حتى حين كان يصلي ) وهذا باطل من القول لأنه في أساسه ناشئ عن نفي الصفات الاختيارية والله سبحانه وتعالى بين في كتابه أن صفته الاختيارية تحل بعد أن لم تكن حالة كما قال سبحانه : (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)(طه: من الآية81) ، فيحل بعد أن لم يكن حالاً ، وكما جاء في حديث الشفاعة المعروف قال : ( إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ) فدل على أن الغضب يتفاوت من جهة الصفة يعني بعض الغضب أهون من بعض ، وأيضاً يتفاوت كمن جهة الزمن يغضب في حال دون حال فيتصف بذلك سبحانه كيف شاء .
(36/18)
ثم ساق حديث أبي ذر : ( أطت السماء وحق لها أن تئط .... ) الحديث .
الشرح : فيه عظمة الحق جل وعلا وعبودية الملائكة له سبحانه وأن ، السماء مملوءة بعباد الله جل جلاله بالملائكة الذين هم ما بين ركع وسجود وقيام لله سبحانه وتعالى .
ولمسلم عن جندب مرفوعا : ( قال رجل والله لا يغفر الله لفلان ...) الحديث .
الشرح : هذا الحديث معلوم شرحه وبيانه في كتاب التوحيد ، وننبه فيه إلى أن قول القائل : ( لا يغفر الله لفلان ) يعني أنه تحكم في صفة الله جل وعلا يعني أنه قال : هذه الصفة لا تكون لفلان ، وهذا له نظائر ويكون عند الناس في حديثهم في صفات أخر . ومن أصول الإيمان عند أهل السنة توقير الله جل وعلا وتعظيمه والإنابة إليه والاستكانة له وعدم التألي عليه والقول عليه بلا علم .
فمثلا يقول الناس في ألفاظهم : هذا ما يستاهل ، أو حرام أن يصيبه كذا ، أو مثل هذا لا يعاقب ، أو هذا تنزل عليه العقوبة .. وأشباه هذه الألفاظ التي فيها تحكم في صفات الله جل وعلا .
فأي صفة أردت الكلام عليها فاستحضر الاضطراب والخوف من الله جل وعلا لا تتحكم في صفات الله جل وعلا تخبر عنها بشيء ليس لك ، كأن يقول : مثل هذا يعاقبه الله ، أو هذا ستحل عليه عقوبة من الله جل وعلا ، أكيد ستأتيه العقوبة ، وأشباه ذلك مما يستعمله الخاصة والعامة في ألفاظهم ، وهذا مما لا يجوز أن يستعمله الناس بل يذكرون ما دلت عليه الأدلة من الرجاء للمحسن والخوف على المسيء : نخشى أن تكون عقوبة ، نخشى أن يحل علينا كذا ، وأشباه هذه العبارات التي فيها تعظيم أمر الله وتعظيم صفاته سبحانه .
وله عن أبي هريرة مرفوعا : ( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ....) الحديث
(36/19)
الشرح : هذا فيه ذكر صفتي العذاب والرحمة وهما صفتان متقابلتان ، وعذابه سبحانه وتعالى لمن عصاه أو من كفر أو من نافق هذا لو اطلع عليه لوجد أن الجنة لا يطمع فيها طامع كمل قال سبحانه تعالى : (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ( 2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ) ولكن رحمة الله سبقت غضبه ، ولهذا في هذه الآية ذكر ثلاث صفات من صفات الرحمة وذكر صفة عقاب واحدة فقال : ( غافر الذنب وقابل التوب ) وهذه من فروع الرحمة ، ثم قال : ( شديد العقاب ) وهذه عقوبته سبحانه ، ثم ذكر فرعاً ثالثا من فروع الرحمة وهو قوله : (ذي الطول ) يعني : ذي الإنعام والفضل والإحسان على خلقه أجمعين .
وللبخاري عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله .....) الحديث
الشرح : إيراده لهذا الحديث في أصل الإيمان باليوم الآخر ، والإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة إيمان بالجنة والنار .
وحديث المرأة البغي وحديث المرأة التي دخلت النار بسبب هرة هو في هذا المعنى . فالمؤمن ما بين خوف ورجاء يعمل الأعمال الكثيرة من الخير ويعمل أعمالاً من السوء فإذا هو غلَّب جانب الرجاء رأى الخير فيه طاغٍ فقال : سيُغفر لي ، فنبه عليه الصلاة والسلام أن امرأة دخلت النار في هرة بسبب أنها حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض لماذا تحبس الهرة والهرة مثلها لا يحبس فماتت وهذا تعدي عليها ، وهذا يجعل المؤمن خائفاً لئلا يتكل أحد على عمله الصالح ولئلا ييأس أحد من المغفرة إذا أناب وأتاب ، وتفسير الزهري واضح في هذا .
(36/20)
وله عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى يا جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبَّه فيحبُّه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه فيحبُّه أهل السماء ويُضع له القبول في الأرض ) .
وعن جرير رضي الله عنه قال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم – إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامُون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لاتُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ : ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)(طه: من الآية130) ) . رواه الجماعة .
الشرح : الحديث الأول فيه إثبات صفة المحبة لله جل وعلا ، لأن هذا الكتاب ذكر في أوله الإيمان بالله فذكر صفات الربوبية والألوهية والآن في الأسماء والصفات فهنا ذكر صفة المحبة لله جل وعلا : ( إن الله إذا أحب عبداً .. ) الحديث . ومحبة الله جل وعلا لعبده صفة اختيارية متعلقة بالحال عند أهل السنة ليست متعلقة بالمآل ، وأهل السنة في صفة المحبة وصفة الرضى وأشباه ذلك يعلقونها بالحال يعني : أن الله يحب من كان على الإيمان ولو كان سيؤول أمره إلى غيره لأنه وهو موحد مؤمن قام بقلبه إخلاص العبادة لله وتوجه إلى الله فاستحق على ذلك المحبة ، ومحبة الله في حالها مقتضية آثارها على العبد .
(36/21)
والمبتدعة يجعلون المحبة واحدة أزلية غير متغيرة فيقولون : إن الله يحب من علم موته على الإيمان ولو في حال كفره ، فعمر رضي الله عنه في حال الجاهلية في حال كفره كان محبوباً لله جل وعلا وفي حال إيمانه محبوباً لله جل وعلا لأنه سبحانه علم أنه سيموت على الإيمان فأحبه من حين خرج من بطن أمه ، وقولهم لأنه ليس عندهم صفات اختيارية ولا صفات تقوم بالرب جل وعلا بمشيئته واختياره سبحانه لانتفاء تنزيه عندهم للقول بتجدد الصفات أو ما يسمونه بحلول الحوادث لله جل وعلا .
فإثبات صفة المحبة لله جل وعلا على ما يليق به سبحانه حق كما نطقت بذلك النصوص والمحبة معلومة المعنى كما يليق بجلاله وعظمته ويرضى ويغضب سبحانه وتعالى وأن ذلك متعلق بالحال ليس متعلقاً بالمآل عند أهل السنة فيرضى عن العبد في حال إيمانه ويحب العبد في حال إيمانه ويغضب عليه في حال كفره قبل إيمانه ويبغضه ولا يحبه في حال كفره قبل إيمانه أو لو ارتد فيجتمع في حقه أنه أُحبَّ في حال وأُبغض في حال ، حتى المؤمن لواحد يحبه الله سبحانه وتعالى إذا أحسن العمل ويبغضه إذا أساء العمل ، فإذا اجتمع في المؤمن إيمان وفسق يكون مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته فيُحبُّ على الإيمان ويبغض على الفسق ، يعني : أن المحبة والبغض تتبعض ويكون في حال دون حال وهذا عند أهل السنة والجماعة خلافاً لأهل الكلام والبدع الذين يقولون : إن المحبة واحدة حتى المؤمن في حال كفره قبل الإيمان محبوب ، وإذا آمن وعاشر كبيرة فهو في حال معاشرته الكبيرة محبوب إلى آخر ذلك مما لا يليق أن ينسب أو يضاف إلى الرب جل وجلاله .
وفي قوله : ( إن الله إذا أحب ) فيه : أن المحبة صفة اختيارية وأن المحبة متفاضلة ليس كل مؤمن فيه ذلك .
(36/22)
وقوله : ( يوضع له القبول في الأرض ) يعني : يقبله أهل الإيمان ويحبونه ويميزونه على غيره فيتولونه مثل ما حصل للصحابة رضوان الله عليهم فأهل الإيمان يحبونهم ومثل سادات التابعين ، ومثل الإمام أحمد والشافعي ومالك وهذه مرتبة عظيمة لمن تحصل له .
حديث : ( إنكم سترون ربكم ....) الحديث
الشرح : فيه إثبات الررؤية لله جل وعلا ، أي رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا .
والرؤية تكون في العرصات وتكون في الجنة ، فتكون في العرصات عامة أولاً للجميع ،ثم يحجب عنها أهل النفاق يعني : من هذه الأمة ، وأما الكفار فهم لا يرون ربهم أصلاً لأنهم محجوبون عن الله كما قال سبحانه : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين:15) ، وأما هذه الأمة المؤمنون منهم والمنافقون الرجال والنساء فإنهم يرون الله سبحانه وتعالى ثم يحجب عنها أهل النفاق وتبقى رؤية أهل الإيمان ثم تكون الرؤية التي هي محل اللذة والنعيم في جنة الخلد .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تبارك وتعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب عبدي إليَّ بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرّبُ إلي َّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءتَه ولا بد له منه ) . رواه البخاري .
(36/23)
الشرح : هذا الحديث أيضاً فيه إثبات صفة المحبة لله جل وعلا ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ) يعني : يُسَدّد في سمعه ( بصره الذي يبصر به ) يعني : يسدد في بصره ( ويده التي يبطش بها ) يعني : يسدد في يده فلا يحصل منه بهذه الجوارح إلا ما يحب الله جل وعلا فيوفق ويعان فيها على فعل الخير وعلى ترك الشر من جهة سمعه وبصره ويده ورجله .
وقوله عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث القدسي قال الله جل جلاله : ( وما ترددت في شيء أنا فاعله ) فيها ذكر التردد مضافاً إلى الله جل وعلا وهل هو صفة لله أم لا ؟!
بعض أهل السنة لا يضيف التردد إلى الله جل وعلا صفة لأنه منقسم إلى محمود ومذموم ، وإطلاق الإضافة يعني إطلاق الوصف فيما ينقسم إلى محمود ومذموم الأصل خلافه ولأن الأصل ألا يضاف إلى الله جل وعلا إلا ما هو محمود والتردد قد يكون عن نقص علم والله جل وعلا منزه عن ذلك . ولهذا ذهب من ذهب من أهل العلم إلى عدم إثبات صفة التردد إلى الله جل وعلا لأنهم جعلوا منشأ التردد عن عدم علم أو عن جهل أ, عن عدم قدرة أو عن عدم قوة على إنفاذ الشيء وأشباه ذلك فمنعوا وصف الله جل وعلا بالتردد .
والقول الثاني عند أهل السنة أن التردد صفة من صفات الله جل وعلا وأن تردده سبحانه وتعالى بحق ، وأن حقيقة التردد ليس معناها أنها تنشأ عن جهل أو عن عدم قوة أو قدرة كما قاله الأولون ، بل حقيقىة التردد أنه : تردد الإرادة في أي الأمرين أصلح للعبد أو في أي الأمرين أوفق للحكمة أو نحو ذلك أو تردد الإرادة في المصلحة المقتضية لذلك .
(36/24)
وتردد الإرادة ليس ناشئاً عن الجهل وعدم العلم أو نحو ذلك فهذا منزه عنه الرب جل وعلا وإنما هو ناشئ عن محبة الله لاختيار الأصلح لعبده لهذا وقع التردد بين الصالح والأصلح يعني : في الاختيار ، وإذا كان كذلك فإن التردد على هذا يكون كمالاً لأنه لم ينشأ عن جهل ولا عن عدم قدرة أو قوة وإنما هو راجع إلى الحكمة ومقتضى قدر الله وحكمة الله سبحانه . وهذا الثاني هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وعزاه إلى السلف وإلى مذهب سلف هذه الأمة .
الصفة الثالثة في الحديث قال : ( يكره الموت وأكره مسائته ) ووصف الله بأنه يكره جاء في القرآن والسنة في أحاديث كثيرة مثل قوله تعالى : ( وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)(التوبة: من الآية46) ، فكُره الله جل وعلا هذا يتعلق بالأعيان أي الذوات وبالصفات وهو صفة اختيارية ، وهو هنا في الحديث يتعلق بالمساءة (وأكره مساءته ولا بد له من ذلك ) .
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنياحين يبقى ثلُث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفرَ له ) متفق عليه .
الشرح : هذا الحديث فيه إثبات عدد من صفات الرب جل وعلا أظهرها صفة النزول له جل وعلا ، والنزول لله جل وعلا نقول فيه ما نقول في الاستواء والنزول معلوم أو غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب .
(36/25)
ونزول الرب جل وعلا إلى سماء الدنيا جاء في بعض الروايات أنه : ( في نصف الليل الآخر ) ، وجاء في بعضها : ( في ثلث الليل الآخر ) - كما في الرواية التي ساقها الإمام رحمه الله – وجاء في بعض الروايات : ( آخر كل ليلة ) بلا ثلث ولا نصف ، وأهل العلم منهم من حمل هذا على الفضل والأفضل أو أن الثلث الأخير آكد وأن النزول يبدأ في نصف الليل الآخر ، ومنهم من حملها على أن حساب نصف الليل غير حساب ثلث الليل الآخر فإذا قيل نصف الليل فهو حساب ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني مقسوماً على اثنين تضيفه على ساعة الغروب يعطيك ابتداء نصف الليل .
وأما ثلث الليل الآخر فيكون ما بين الغروب إلى الإشراق والوقت مأخوذ الثلث الآخر منه ، والوقت على هذين متقارب ، ولما قال شيخ الإسلام هذا ، قال وهذا القول وجيه . يعني أن حساب نصف الليل يكون غير حساب ثلث الليل .
وعلى العموم نقول : إن الروايات متفقة في أن النزول يكون في ثلث الليل الآخر وهو الأكثر رواية والأثبت – كما ساق الإمام رحمه الله هنا – أو في نصف الليل الآخر على اعتبار .
النزول في صفة الله جل وعلا لا نخوض فيه بأكثر مما جاء فيه النص ، فمن خاض فيه بذكر مسائل مثل قولهم : هل يخلو منه العرش أو لا يخلو منه العرش ، وهل إذا نزل إلى سماء الدنيا يخلو منه ما فوق السماء السابعة ، وأشباه ذلك كل هذه مباحث طائلة لأنها مبنية على تشبيه النزول بنزول المخلوق والله جل وعلا لا نعلم كيفية اتصافه بصفاته فهو سبحانه أجلُّ وأعظم م أن نعلم بكيفية اتصافه بصفاته .
فإذاً إثبات صفة النزول إثبات صفة لا إثبات كيفية ولا نخوض بأكثر من ذلك ، والأحاديث في النزول قريبة من التواتر م كثرتها .
(36/26)
وقوله عليه الصلاة والسلام هنا : ( ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل فيقول هل من داعٍ فأستجيب له هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له ) مرتبة الدعوة أولاً لأنها أعم والسؤال بعدها لأنه أخص والاستغفار الأخير لأنه خاص الأخص ، لأن الداعي قد يكون عابداً وقد يكون سائلاً ، وإجابة الداعي قد تكون إثابة الداعي بالثواب أو قد تكون أو قد تكون إعطاء السائل ، لذلك لما بدأ بالعام قال : ( هل من داعٍ فأستجيب له) يدخل في ذلك أهل الصلاة وأهل تلاوة القرآن وأهل الذكر في آخر الليل فيعطيهم رب العالمين أجرهم بغير حساب . ثم السؤال ( هل من سائل فأعطيه ) يعني من يسأل مسألة خاصة وهي بعض الدعاء . ثم قال : ( هل من مستغفر ) السؤال قد يكون سؤال دنيا أو سؤال استغفار يعني عام ثم خصه بالاستغفار في آخرها .
وهذا الحديث أيضاً فيه : إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وإثبات صفة المغفرة له سبحانه والإجابة والإعطاء وهذا فيه الرد على من أبطل فائدة الدعاء وفائدة السؤال وفائدة الاستغفار وفائدة العبادة في التأثير على القدر كما هو قول طائفة من الصوفيه في زعمهم أن الأمور مقدرة ولا حاجة للدعاء لتحصيلها ، وهذا باطل بل الأمور مقرونة في القدر وفي الكتاب السابق بأسبابها والدعاء والسؤال من جملة تلك الأسباب .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ن وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنَّة عدن ) . رواه البخاري .
الشرح : قوله : ( جنتان ....وجنتان ...) هذا كالتفسير لقوله الله جل وعلا : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن:46) . ثم قال بعدها : (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) (الرحمن:62) فهذا تفسير للجنتين والجنتين . وفيه إثبات صفة الكبرياء لله جل وعلا .
(36/27)
والرداء والإزار الذي جاء في الحديث الذي رواه مسلم : ( الكبرياء ردائي والعزة إزاري من نازعني واحداً منهما عذبته ) – الرداء والإزار : ما يكون ملابساً للموصوف لا ينفك عنه ويحجب صفته عن الرائي ، فالإزار بالنسبة للإنسان يحجب الصفة يعني بعض الصفات ، والرداء أيضاً يحجب بعض الصفات فلا يتصور من مجي الرداء والإزار لوازم ذلك من أن الإزار لا يكون إلا على حقوين وعلى جنب وأن الرداء كذلك لا يكون إلا على منكبين كما التزمه طائفة من غلاة الحنابلة فأثبتوا عدداً من الصفات بهذه اللوازم هذا باطل حتى من جهة اللغة . فالإزار والرداء هذان اسمان لما يحجب رؤية الرائي إلى صفات المرئي ولهذا هنا قال : ( وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم إلا رداء الكبرياء ) فدل على أن الكبرياء هو الرداء ، فالذي حجب رؤية الرائين إلى صفة الرب جل وعلا إلى وجهه الكريم هو الرداء ، وكذلك العزة حجبت أن يُرى صفة الرب جل وعلا .
المقصود من ذلك أن هذا هو معنى قوله الرداء هنا وكذلك قوله ( الرداء والإزار ) في غيرها ، وهذا موطن تحتاجه لأن كثيراً من الشراح لم يحسن هذا المقام .
(باب) قول الله تعالى : (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(سبأ: من الآية23)
(36/28)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار فقال : ( ما كنتم تقولون إذا رُمِي بمثل هذا ؟ ) قالوا : كنا نقول وُلِد الليلة عظيم أو مات عظيم ، فقال : ( إنها لم تُرمَ لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا عز وجل إذا قضى أمراً سبَّحت حملة العرش حتى يسبِّح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا ، فيقول الذين يلون حملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيُخبرونهم ماذا قال ، فيستخبِر أهل السماوات بعضهم بعضاً حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم فما جاءوا به على وجهه فهو الحق ولكنهم يقذفون ويزيدون ) رواه مسلم والترمذي والنسائي
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل .... ) الحديث رواه ابن جرير وبن خزيمة والطبراني وابن أبي حاتم واللفظ له .
(36/29)
الشرح : هذان الحديثان في باب واحد هما دالان على إثبات عدد من صفات الرب جل وعلا ومن نعته الحسن سبحانه وتعالى ، فمنها : صفة العلو لله جل وعلا ومنها صفة الكلام له جل وعلا ، ومر معكم تفصيل الكلام على الحديث الأول في شرح كتاب التوحيد والمقصود من إيراده من الشيخ رحمه الله : أن ذلك من الإيمان إيمان بالله بعلوه بصفاته بملائكته بكلامه جل وعلا كذلك فيه الإيمان بالملائكة وهذا كله من أصول الإيمان بقي الكلام عل مسألة فيه وهي من المسائل المهمة : وهي أن صفة كلام الرب جل وعلا – إضافة للحديث الذي سمعتم – قال فيها : ( إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا ) هذا مر معكم أن سماع الملائكة للصوت وصف بأنه كجر السلسة على الصفوان يعني على الصخر ، وهذا جعله بعض الناس صفة للكلام وظاهر الحديث كما هو دال عليه هذا الحديث أيضاً أنه وصف للسماع لا وصف للكلام فكلام الله جل وعلا ثابت في الصفة – كما هو معلوم – ولكن صفة كلامه جل وعلا لم يثبت فيها شيء من جهة التفصيل إلا ما جاء في الصحيح : أنه جل وعلا يوم القيامة يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب فينفذهم كلامه سبحانه وتعالى ) ، وهذا الحديث حديث النواس قال فيه : ( إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي .... ) يعني : أن السماوات تأخذها الرعدة أو الخوف من كلام الله جل وعلا ، والقصد من ذلك أن صفة الكلام غلا فيها طائفة من المنتسبين للإمام أحمد ولغيره من أهل السنة فجعلوا صفة كلام الله جل وعلا بما في هذه الأحاديث التي فيها تكلم الله جل وعلا بالوحي وأن صفة كلامه كجر السلسة ... كما ذكرها أبو يعلى في ( إبطال التأويلات ) وغيره فهذا ينبغي أن لا يقال به وإنما يؤخذ بما دل عليه النص الذي لا يحتمل التأويل لأن صفة الكلام الواردة في الأحاديث محتملة لأن تكون صفة للسماع يعني لما
(36/30)
سُمِع لهذا جاء هنا : ( أخذت السماوات منه رجفة ..) يعني : أن هذا محتمل أن يكون بعد إرادة الكلام ، أو أنه وصف لما سُمِع من حال السماوات أ, ما سمع من ذلك أما وصف كلام الله جل وعلا فهذا لا يقال فيه بشيء إلا ما ثبت في الحديث : ( أنه يسمعه من قَرُب كما يسمعه من بَعُد ) .
(باب) قول الله تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)
عن أبي هريرة رضي الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ ) رواه البخاري .
وعن ابن عمر ...إن الله بقبض يوم القيامة .. ) الحديث
الشرح : هذا الباب ذكره الإمام في آخر كتاب التوحيد . ومناسبة هذا الباب لكتاب أصول الإيمان أن الإيمان بالله الذي هو أعظم أركان الإيمان كما هو معلوم أركان الإيمان ستة ... والإيمان بالله يشمل ثلاثة أنواع : الإيمان بالله رباً والإيمان بالله إلها والإيمان بأسماء الله وصفاته يعني : أن الإيمان بالله يشمل أنواع التوحيد الثلاثة فلا يكون المرء مؤمناً بالله حق الإيمان حتى يوحد الله في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات . هذا الباب في توحيد الربوبية وفيه ذكر بعض صفات الله جل وعلا وبعض أسماء الله جل وعلا .
(36/31)
قوله جل وعلا : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) هذه من الآيات العظيمة التي تكررت في غير موضع من القرآن مثل قوله تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )(الأنعام: من الآية91) وهذه الآية في الزمر .قوله : ( وما قدروا الله حق قدره ) يعني : أنه ما من أحد سيبلغ قدر الله حق قدره لا بد أن يكون ثم نقص عما هو حق لله جل وعلا في تقدير عظمته لأن ذلك يعني بلوغ الحق في القدر مبني على العلم التام بالله جل وعلا وبما هو عليه سبحانه في أسماءه وصفاته وأفعاله وربوبيته إلى آخره ، وهذا العلم إنما كمل بكمال البشر في الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه فهم أعظم الخلق تعظيماً لله جل وعلا وأعظم الخلق قدراً لله جل وعلا حق قدره والله سبحانه وتعالى قدره أعظم ولا يعلم ذلك إلا هو سبحانه وتعالى . ( وما قدروا الله حق قدره ) معناها : وما عظموا الله حق تعظيمه ، فمن عبد غير الله ما عظم الله حق تعظيمه ، من ألحد في أسمائه وصفاته ما عظم الله حق تعظيمه ، من أنكر الرسالة وأنكر إنزال الكتاب ما عظم الله حق تعظيمه وما علم صفة الله جل وعلا ولم يعظمه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه فالمسألة عظيمة جداً وإذا تأملت في صفة من الصفات وهو أن الله سبحانه وتعالى هو العظيم جل وعلا وهو الواسع سبحانه وتعالى تأمل كيف أن الأرض قبضة الله سبحانه وتعالى على كبرها عندك وأن السماوات على اتساعها وكبرها وعظمها وتباعد ما بينها أن مطويات بيمين الرحمن جل وعلا وأن السماوات السبع فوق بعض إلى أن تكون السماوات على عظمها وكبرها أن تكون تحت الكرسي وأنها بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وأن الكرسي هو موضع قدم الرب جل وعلا وأن فوقه العرش وفوق العرش رب العالمين سبحانه ، وأن الكرسي الذي السماوات كسبعة دراهم فيه بالنسبة إلى الأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض والله
(36/32)
جل وعلا مستو على عرشه وعرشه لا يحيط به سبحانه وتعالى علمت عظم الله جل وعلا وعظم صفاته وأن الإنسان جُبل على أن يكون ظلوماً جهولاً ، لا بد أن يكون ظلوماً فهو يغفل عن تعظيم الله وقدره حق قدره سبحانه وأن يكون جهولاً بصفات الله جل وعلا وبأسمائه ولو نال من ذلك ما نال فهو مقصر لأن عظم الله جل وعلا وعظم قدره لا يحيط به محيط ، وهذا معنى كون الله جل وعلا محيط وكونه سبحانه واسع وكونه سبحانه العظيم وكونه سبحانه الجليل ونحو ذلك من أسماء العظمة والجلال .
فإذاً من تأمل صفات الله جل وعلا ومن تأمل الربوبية وتأمل عظم الله وأسماءه كالجليل والعظيم والواسع والمحيط وأشباه ذلك علم أن العباد ما قدروا الله حق قدره وأن العبد إنما يعظم بتوحيد الله بأنواعه الثلاثة الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ، وأن توحيد الربوبية مهم لمن كمله ، وتوحيد الأسماء والصفات مهم لمن كمله ، وتوحيد العبادة هو المهم لمن عبد الله جل وعلا وذلك لأنه هو رسالة الأنبياء والمرسلين .
إذاً الإيمان بالله حق قدره والتأمل في ذلك ووعظ القلب بذلك هذا يوجب الإيمان ولهذا جعلها شيخ الإسلام في هذا الكتاب من أصول الإيمان ، من أصول الإيمان الإيمان بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ومن أصول الإيمان التفكر أيضاً في عظمة الله جل وعلا وعظمة ربوبيته وجلاله وما يجريه في خلقه سبحانه وتعالى وقد أمر الله بذلك في مواضع من القرآن وأمر به النبي عليه الصلاة والسلام في مواضع أيضاً.
(36/33)
إذاً لا بد للعبد من التفكر في عظمة الله جل وعلا وعظمة صفاته وكيف أنك إذا تأملت تركيب السماوات بعضها على بعض وعظم السماوات وعظم الأرض بالنسبة لك أنت ثم عظم السماوات بالنسبة للأرض ثم عظم الكرسي بالنسبة للسماوات تتصاغر وتتصاغر حتى توجب على نفسك تعظيم الله جل وعلا حق تعضمه وتوجب على نفسك الذل لأن العبد لا ينفك إذا آمن بهذا حقيقة أن يكون أذل وأن لا يترفع ولا يتكبر لأنه يعلم حقيقة نفسه وحقيقة خلقه ومقداره ثم هو يعظم الله حق تعظيمه ، وأصل الإيمان التذلل لله بعد الإيمان بربوبيته سبحانه وأسماءه وصفاته وألوهيته التذلل ، فكلما كان العبد أكثر ذلاً وتعظيماً لله جل وعلا وخشوعاً في القلب كلما كان أكثر إيماناً وأعظم مقاماً عند الله جل وعلا : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: من الآية13)
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقبلوا البشرى يا بني تميم قلوا قد بشرتنا فأعطنا قال : " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن " قالوا : قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر ؟قال : " كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكَتَبَ في اللوح المحفوظ ذِكْرَ كل شيء " قال : فأتاني آتٍ فقال : يا عمران انحلَّت ناقتك من عقالها قال : فخرجت في إثرها فلا أدري ما كان بعدي ) .
الشرح : هذا الحديث فيه من الفوائد ما فيه من الدلالة على الإيمان والتوحيد لكن في قوله : (انحلت ناقتي ..) فيه دليل أو شاهد على أن صاحب المقام العالي والفضل هذا أحد الصحابة قد يكون عنده في بعض الأحوال إيثار للمفضول عن الفاضل ولذلك لا ينتقد المرء إذا ترك الفاضل للمفضول بعض الأحيان وهذا من طبيعة البشر فقد يحصل للمرء نوع تقصير في هذه الأشياء أو إيثار لما هوأدنى وترك ما هو أفضل .
(36/34)
وعن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ، ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق لنا ربّك فإنا نستشفع بك على الله وبالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك أتدري ما تقول ؟ وسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبِّح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال : " ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحدٍ من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله ؟ إن عرشه على سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ) . رواه أحمد وأبو داود .
الشرح : هذا الحديث إسناده فيه ضعف قد تكلم عليه عدد من أهل العلم لكن ما زال علماء السنة يتتابعون على إيراده فما خلا مصنف في السنة من إيراد هذا الحديث وذلك لدلالته على أمرين معروفين في كلام أهل السنة :
الأول : علو الله جل وعلا . وهذا أمر متواتر وأدلته كثيرة في الكتاب والسنة .
الثاني : أن العرش فوق السماوات . وهذا أيضاً ثابت عندهم وأن العرش ليس في داخل السماوات ، وهذا فيه رد على من زعم من الفلاسفة أو المعتزلة أو غيرهم أن العرش له صفة أخرى وهذا فيه أيضاً تنبيه على أن العرش له أركان لأنه قال : ( وعلى سماواته لهكذا وقال بأصابعه ...) فيه رد على بعض الطوائف الضالة في هذا الباب .
المقصود أن الحديث أهل السنة متفقون بلا خلاف بينهم على إيراده في الأدلة وضعف إسناده لا يعني عدم إيراده في ذلك لأنه اشتمل على أمرين وقد تقدما .
(36/35)
والأمر الثالث الذي اشتمل عليه هذا الحديث : أن العرش يئط وهذا لم يأتي إلا في هذا الحديث وقد أيد من حيث المعنى من قوله جل وعلا : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ )(الشورى: من الآية5) ، ويدل عليه أيضا قوله جل وعلا : (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً)(المزمل:18) ، لهذا يورد أهل السنة بالاتفاق هذا الحديث ولا ينظرون إلى ما في إسناده من الضعف .
جاء كلام للمتأخرين أن الحديث الضعيف لا يعمل به في باب العقائد ولا يعمل به في الفقه ، أما السلف والأئمة فمنهجهم :
أن الحديث الضعيف لا يستدل به في أصل من الأصول ، بل إما في تأييده أو فرع من الفروع ، ونص عبارة شيخ الإسلام قال : ( أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول بل إما في تأييده أو في فرع من الفروع ) يعني : أن أهل الحديث يستدلون بالحديث الضعيف في الفقهيات وهذا منهج معروف ، فالأئمة مالك والشافعي وأحمد ومن صنف في السنن يحتجون بأحاديث ضعيفة على السنة لأن الحديث الضعيف عندهم خير من الرأي وأما في العقيدة فإذا كان الحديث الضعيف أصلاً لم ترد العقيدة إلا في هذا الحديث فإنه لا يعتمد عليه ، لأنه لا يستدل بحديث في أصل من الأصول وتبنى عليه عقيدة بل لا بد أن يكون الحديث صحيحاً وفي الحسن خلاف والصواب أن الحسن مثل الحديث الصحيح في الاحتجاج به .
(36/36)
والقسم الثاني : أن يورد الحديث الضعيف في تأييد ما دلت عليه النصوص وفي الشواهد ، فهذا كل عمل أئمة السنة على ذلك . فلو نظرت في كتاب العرش لبن أبي شيبة لوجدت أن ثلثه أسانيده صحيحة والباقي وهو أكثر من ستين إسناد ضعيفة لكن لأنها في أصل ثابت استدل به وهذا عندهم له أيضاً أصل وهو : أن الحديث إذا كان ضعيفاً واشتمل على أشياء منها ما يؤيد الأصل ومنها ما هو جديد فإنهم يستدلون به في التأييد لما ثبت في الأصل وأما ما انفرد به الحديث الضعيف من الاعتقاد أو من الأمر الغيبي فإنهم لا يثبتونه . مثل هذا الحديث فإنه اشتمل على أشياء ثابتة مؤيدة للنصوص فلا بأس بإيراده وما دل عليه ، واشتمل على ذكر الأطيط وهو لم يرد إلا في هذا لذلك نقول : نحن لا نثبت الأطيط لأجل أنه ما ورد إلا في هذا الحديث ونجعل الأطيط في معنى قول الله جل وعلا : (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)(المزمل: من الآية18) ومعنى قول الله جل وعلا : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الشورى:5) .
(36/37)
المتأخرون وخاصة لما نشأت مدرسة أهل الحديث في الهند في القرن الثالث عشر بالغوا في نفي الاستدلال بالحديث الضعيف ثم ورد هذا إلى البلاد الإسلامية الأخرى وكثر حتى ظُنَّ أن هذا هو المنهج الصحيح هذا ليس بمنهج وهو مخالف لطريقة أهل العلم المتقدمة وطريقتهم هي ما ذكرت لك من التفصيل فينتبه لهذا ويعتبر منهج حتى ما يضلل المتأخرون أئمتهم وسابقيهم هذا بلاء ، لأجل هذا الأصل الذي ليس بأصل وهو أنهم قالوا : لا يحتج بالحديث الضعيف ، ظن الظان أن معناه : أن الحديث الضعيف كالموضوع لا قيمة له ألبتة ، والاستشهاد به أو الاستدلال به دليل ضعف المتكلم علمياً إلى آخره ، هذا ليس بجيد ، نعم ينبغي على من استشهد بحديث ضعيف أن يبين ضعفه إذا كان ضعفه غير محتمل يعني : لا يقرب من التحسين وأشباه ذلك فيبين ضعفه ثم يذكر ما فيه من الفوائد حسب القواعد التي ذكرت لك .
أنت لو رأيت كتب أهل العلم لوجدت أنهم يستشهدون بأحاديث كما ذكرنا لك ، اعتبر هذا أو استقرأ هذا بما في كتب أهل الحديث المتقدمة والمتوسطة إلى قرابة هذه الأزمان لوجدت هذا هو المنهج الذي عندهم كتب التفسير كتب الحديث كتب الرقائق كلها على هذا المنوال .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك – أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : إتّخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " ، وفي رواية : عن ابن عباس رضي الله عنهما – وأما شتمه إياي فقوله : لي ولد وسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً " رواه البخاري .
(36/38)
الشرح : قوله عليه الصلاة والسلام : ( كذَّبني ابن آدم .... وشتمني ابن آدم.. ) إلى آخره هذان الحديثان فيهما : عِظم صبر الله جل وعلا على خطايا عباده وعلى ما ينسبونه إليه جل وعلا ، ومن أسماء الله جل وعلا : الصبور وهو أنه عظيم الصبر على ما يكون من فعل عباده ومن مجاهرتهم في حق الله جل وعلا بالشرك وغيره ، وتكذيب الله جل وعلا فيما أخبر أو فيما جاء به رسله عليهم الصلاة والسلام لا شك أن هذا م أعظم عدم قدر الله جل وعلا حق قدره وذكر مثال ذلك بقوله : ( أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته ) وهذا مثال لما فيه تكذيب الرب جل وعلا وإلا فأنواع التكذيب كثيرة ، ( وأما شتمه إياي فقوله : اتخذا لله ولداً ) وادعاء الصاحبة مع الله جل وعلا أو لله جل وعلا وادعاء الولد لله جل وعلا هذا شتم لله لأن حقيقة الشتم والسب أنه التنقص وعزو الصاحبة لله وإضافة الولد إلى الله جل وعلا هذا فيه إثبات النقص له سبحانه لأن الله سبحانه غني عن العالمين وغني عن أن يتخذ صاحبة ولا ولداً كما قال سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:95) .
(36/39)
فمن أعظم السب أن يجعل لله الصاحبة أو يجعل له الولد أو أن يجعل له شريك سبحانه وتعالى في الربوبية أو في الألوهية ، لأن اتخاذ الشريك مع الله جل وعلا سب له سبحانه ، فكل من أشرك بالله جل وعلا إلهاً آخر عبد الأصنام أو عبد الأوثان أو عبد الأولياء أو عبد الصالحين ، أو ادعى مع الله جل وعلا إلهاً آخر على أصناف الآلهة فهذا قد سب الله جل وعلا أعظم مسبة ولهذا يجد المؤمن في قلبه البغض للمشرك لأنه المشرك سب الله سبحانه وتعالى ولأن المشرك شتم الله جل وعلا ولو شتم أحد من الناس فلاناً لأبغضه ولو سبه لأبغضه فكيف بمن يسب الرب جل وعلا ولو أخذ فلاناً يسب أبا الرجل ويسب آباءه وأجداده أو يسب نفسه ونحو ذلك ويشتمها ويتنقصها بأنواع النقائص لصار مبغضاً إليه ولربما قامت أشياء عظيمة بين الساب والمسبوب والشاتم والمشتوم وذلك لما جرت عليه النفوس من الاعتداد بحقها فكيف بسب الله جل وعلا ، ولهذا المشرك يبغض ولو كانت حاله في الدنيا ما هي أو كانت حسناته الدنيوية في أي شأن يبغض لما اشتمل عليه صدره واشتملت عليه روحه من مسبة الله جل وعلا ومن بغضائه . والله جل وعلا صبور يسمع أذى العباد ويرى شتمهم ويسمع شتمهم ويرى سبهم والله جل وعلا صابر عليهم كما قال : ( وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(البقرة: من الآية126) . لهذا بغض المشرك قائم على بغض من سب الله جل وعلا وشتمه ، وبغض المبتدع قائم على بغض من ادعى أن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يكمل لنا البلاغ كما قال الإمام مالك : ( ما أحدث أحد بدعة إلا وقد زعم أن محمداً خان الرسالة ) ، هذا ولا شك مبناه عظيم ، التوحيد والسنة .
(36/40)
فإذاً مسألة بغض المشرك وبغض أهل البدع وكراهة أولئك ليست مسألة أهواء إنما هي مسألة أنهم عادوا الله جل وعلا وعادوا رسوله صلى الله عليه وسلم وإن ادعوا أنهم يحبونه ففي الحقيقة من ابتدع ودعا إلى البدعة فهو عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه قال لنبيه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3) ومن أتى بشيء جديد فقد ادعى أنه لم يتم لنا الدين .
قوله : ( سبحاني ) يعني : تنزيهاً لنفسي عن كل أنواع النقص كما قال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً) (الاسراء:43) .
ولهما عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر بيدي الأمر أقلِّب الليل والنهار " .
الشرح : سب الدهر راجع إلى سب الله جل وعلا بالوسيلة لأنه إن سب الدهر فسب الدهر راجع إلى سب مقلب الدهر ، فقوله سبحانه : ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر ) يعني : سب من لا يملك شيئاً من هو مدبَّر فيرجع السب إلى من دبَّره فإذا سب الدهر فقد سب الله جل وعلا ، يعني : شتم الدهر وصف الدهر بالنقائص أو قال : هذه الأيام إنما هي خبط عشواء مثلاً ، أو قال : هذه السنون تأتي وتذهب دون حكمة ، أو يقول : الأيام تأخذ وتعطي عمياء وتميت بعمى ونحو ذلك مما فيه سب وانتقاص ، وهذا سب لله جل وعلا في المآل لأن الدهر مخلوق يقلبه الله جل وعلا كيف يشاء .
وقوله : ( وأنا الدهر ) ليس فيه أن الدهر من أسماء الله جل وعلا ولكن بوسيلة قوله : ( يسب الدهر وأنا الدهر ) يعني : إذا سب الدهر وهو لا يستحق هذا السب لكونه مدبَّراً ( فأنا الدهر ) لأن المسبة إذاً وقعت على الله جل وعلا والإيذاء وقع على الله جل وعلا .
(36/41)
وينبغي أن يُعلم أن وصف الأيام بالسوء أو بالنحس أو بالسواد أو بالظلمة ونحو ذلك مما فيه إضافة للعبد أن هذا ليس من سب العبد كما يقال مثلاً : هذا يوم نحس ، أو هذا يوم أسود وهذه أيام مظلمة أو سنة مظلمة وأشباه ذلك ، هذا وصف وليس من السب فهو وصف لتلك الأيام بالإضافة إلى من حصل له فيها أشياء سيئة وهذا كما قال جل وعلا : ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ)(القمر: من الآية19) ، وكما قال جل وعلا : ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ )(فصلت: من الآية16) . ووصف الأيام بالنحس والسوء أو الإظلام أو يوم أسود أو نحو ذلك بقصد أنه بالنسبة للقائل هو كذلك ، أي حصل له فيه سوء فهذا لا بأس به لأن الشر ليس إلى الله جل وعلا وإنما هو قد يضاف إلى العبد فيكون يوم نحس بالنسبة للعبد ، يوم سوء بالنسبة للعبد وهكذا .
(باب الإيمان بالقدر )
وقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) (الانبياء:101) وقول الله تعالى : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(الأحزاب: من الآية38) ، وقوله تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96) ، وقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قدَّر مقادير الخلائق ) الحديث .
الشرح : هذا الباب من كتاب أصول الإيمان فيه ذكر الإيمان بالقدر ، والإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان التي دل عليها حديث جبريل المعروف حين سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإيمان فقال : أن تؤمن بالله وملائكته ... وتؤمن بالقدر خيره وشره ..) الحديث . فالإيمان بالقدر واجب وفرض وركن من أركان الإيمان لا يصح أحد حتى يؤمن بالقدر .
(36/42)
وأدلة ذلك كثيرة في القرآن ، قال جل وعلا : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(الأحزاب: من الآية38) ، وقال سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) وقال جل وعلا : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2) وقال أيضاً : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96) ، وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) (الانبياء:101) وقال أيضاً : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) وقال أيضاً : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29) .
هذه الأدلة تدل على أن الأشياء بقدر ، والإيمان بالقدر معناه : اعتقاد أن الله جل وعلا قدَّر الأشياء بمقاديرها ( بهيئاتها وصفاتها ووقت وقوعها وتفاصيل ذلك ) قبل أن يخلق السماوات والأرض وأنه سبحانه يخلقها إذا شاء وأنه هو الخالق وحده وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهذه الجملة يمكن أن تفصَّل بتعريف القدر وذكر مراتب القدر وهذه قد بيناها لكم بالتفصيل في شرح الواسطية وفي مواضع متنوعة .
ولا شك أن الاهتمام بركن الإيمان بالقدر لطالب العلم لا بد منه وأنه من المهمات لأنه لا تتضح له كثير من المسائل ولا معنى كثير من الآيات إلا بمعرفة تفصيل كلام أهل السنة والجماعة في مسائل القدر .
(36/43)
قوله هنا : ( إن الذين سبقت لهم من الحسنى ) يعني في القدر السابق أي في الكتاب السابق ، وقلوه تعالى : ( وكان أمر الله قدراً مقدوراً ) يعني : أمر الله الذي يقع ويأمر به ليحدث في ملكوته ويخلق ما يشاء بقوله ( كن ) فيكون ، كان قدراً مقدوراً ليس أُنُفاً ولا مبتدأً من غير تقدير سابق بل الله سبحانه علِم ما سيكون وما اختار أن يكون وما أراد أن يكون وكتب ذلك في اللوح المحفوظ .
وقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) ، ( ما ) في هذه الآية لها تفسيران : الأول : أن تكون ( ما ) اسم موصول بعنى ( الذي ) ومعنى الآية حينئذٍ : والله خلقكم والذي تعملونه ، الوجه الثاني : أن تكون ( ما ) مصدرية ، تقدير الكلام : والله خلقكم وعملكم ، هذا وجه الاستشهاد : أن عمل العامل المكلف خَلْقُ الله جل وعلا ، فكما أن الله خلق المكلف فقد خلق عمله ( والله خلقكم وما تعملون ) يعني : وعملكم .
وقوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) يعني : كل شيء من المخلوقات جعل له قدَرَاً .
(36/44)
الحديث : ( إن الله قدر مقادير الخلائق ....) هذا الحديث دلَّ على أن التقدير سبق خلق السماوات والأرض ، وأن هذا التقدير بمعنى : الكتابة ، ( قدَّر مقادير الخلائق ) يعني : كتب مقادير الخلائق ، لأن المرتبة السابقة للقدر هي : ( مرتبة العلم والكتابة ) هذه المرتبة السابقة ، والعلم – علم الله جل وعلا بالأشياء أول أزلي لا يقدر بخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وإنما الذي كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة هو الكتابة والعلم سابق ، لذلك نقول : إن مراتب الإيمان بالقدر أربعة مرتبتان سابقة قديمة ومرتبتان واقعة أو حالية ، فكلامي هذا من جهة التقدير القديم السابق فإن الله عَلِم وعلمه أزلي أول بمقامي هذا وقراءتي وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلما جاء الإيقاع ، إيقاع المقدر وقضاء المقدر في ذلك جاءت مرتبتان متعلقة بالواقع وهي مرتبة : أن الله خالق كل شيء ومنه عملي هذا وكلامي وقراءتي ومكثي وجلوسي هذا كله مخلوق نفذ فيه القدر وصار الإيمان به من الإيمان بالقدر لأنه لم ينفذ القدر إلا بذلك ،فخلق الله جل وعلا لهذا الشرح حالي حين وقع ، ثم إن الله سبحانه لم يقع ذلك الشيء إلا بمشيئته سبحانه لا بمشيئة العبد فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فمشيئتي ومشيئة كل مكلف داخلة في مشيئة الله جل وعلا ، فإذا شاء العبد فإنه لا يكون ما شاءه العبد إلا إذا أذن الله جل وعلا به .
ولهذا فرَّق طائفة من أهل العلم بين القضاء والقدر فقالوا : القدر والقضاء يختلفان في المرتبتين الحاليتين ، وبعضهم قال : القدر هو القضاء لأن المرتبتين : مرتبة عموم الخلق والمشيئة هذه من القدر وهي القضاء .
فطائفة من أهل العلم قالوا : القدر والقضاء بمعنى واحد ، لأن القضاء من القدر والإيمان بالقدر بأربع مراتب ، ومرتبتان هما القدر .
(36/45)
وقال آخرون : يُفَرَّق إذا ذكر القضاء والقدر بين القضاء والقدر بأن القضاء هو : ما وقع وقُضِي من القدر ، والقدر أعم يشمل ما قُضي وما لم يُقض .
فالقضاء هو : ما قُضِي وانتهى من القدر ، وهذا أولى وهو المتجه بدلالة اللفظ وبدلالة الكتاب والسنة ، قال سبحانه : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)(طه: من الآية72) وقال جل وعلا : (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْض)(سبأ: من الآية14) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( لا يقضي الله لعبده قضاءً إلا كان خيراً له ) .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم إلا وقد كُتِب مقعده من النار ومقعده من الجنة ...) الحديث متفق عليه .
الشرح : هذا الحديث فيه دليل على مرتبة الكتابة من مراتب الإيمان بالقدر وأن الله جل وعلا كتب ما الخلق عاملون وأن كل شيء عنده مكتوب سبحانه وتعالى وفيه دليل على أن ذاك الكتاب كاشف وليس مُجبِر وأن الله سبحانه هو الذي ييسر للعباد أعمالهم بما فعلوا وبما عملوا فمن سعى في الخير يُسِّر أن يكون من أهل الجنة ، ومن عمل الشر خُذِل ويُسِّر للعسرى – والعياذ بالله – فعند أهل السنة والجماعة : أن ذكر الكتاب السابق وذكر قبْض الله جل وعلا قبضة إلى النار وقبضة إلى الجنة ونحو ذلك هذا كاشف لعلم الله جل وعلا الذي لا تغيب عنه غائبة لا في الحال ولا في الاستقبال ، فالله جل وعلا يعلم ما كان وما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة وما بعد ذلك ، ويعلم شأن ما لم يكن لو كان كيف يكون سبحانه وتعالى .
(36/46)
وهذا له نظائر كثيرة في القرآن مما يذكره الله جل جلاله عن نفسه في التفريق بين علمه الكاشف وكتابه الكاشف وما بين ما يجريه الله جل وعلا في خلقه خلقاً وأمراً كونياً كما في قوله مثلاً : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ )(البقرة: من الآية143) ،(إلا لنعلم ) يعني : إلا ليظهر علمُنَا ، كذلك الكتاب كُتِب وفيه ما سيظهر فيه علم الله جل جلاله ، فالملائكة تأخذ من الكتاب بوحي الله جل وعلا ويكون في أيديها صُحُف تفصيل لما في اللوح المحفوظ من الكتاب السابق .
فإذاً هذا الحديث ليس فيه جبْر ولا منحى لأهل الجبر سواء من الجبرية الغلاة أو من الجبرية المتوسطة الذين هم الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء ، فأهل السنة والجماعة ليسوا بأهل جبر في القدر بل يقولون باختيار العبد بما أعطاه الله جل وعلا من قدرة وإرادة والله سبحانه خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
(36/47)
المكتوب في اللوح المحفوظ هذا لا يتغير وأما المكتوب في صحف الملائكة هذا يتغير ، يعني : أن الله يوحي للملائكة بما في اللوح المحفوظ من كذا وكذا ، والملائكة تفعل ذلك في ملكوت الله جل جلاله بما قدَّر ، وقد يكون في اللوح المحفوظ معلق بأشياء ، يعني مثل أن يكون معلقاً بالدعاء عندها يحصل له كذا وكذا في اللوح المحفوظ لكن في صحف الملائكة مثلاً يكون إنه سيموت وفي اللوح المحفوظ أنه سيدعو وسيصرف عنه ، أو يكون معلقاً : إن دعا فسيكشف عنه أو يؤخر أجله وإن لم يدعو فإنه سيقع فيه أجله ، فكل شيء مكتوب فما في صحف الملائكة قابل للتغيير يعني : ما في صحف الملائكة من التقدير السنوي والتقدير اليومي هذا قابل للتغيير ، أما ما في اللوح المحفوظ فهو ليس بقابل للتغيير وهذا هو أحد معاني قول الله جل وعلا في آخر سورة الرعد : (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :
( يمحوا الله ما يشاء ويثبت ) يعني : مما في صحف الملائكة ، ( وعنده أم الكتاب ) : اللوح المحفوظ الذي فيه لا يتغير ولا يتبدل .
وهذا هو معنى ما جاء في الأحاديث التي فيها تعليق التغيير ، كقوله في الحديث : ( من سره أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه ) الأجل والعمر محدود مكتوب ، يعني التقدير الذي لا يتغير الذي هو الأجل ، وأما العُمُر ( وينسأ له في أثره ) فيطال عمر ه كما قال تعالى : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَاب)(فاطر: من الآية11) فتكون هذه أسباب ، ما في صحف الملائكة يتغير فالله جل وعلا يوحي إليهم أن انسأوا أجل عبدي أو عمر عبدي .
(36/48)
الإيمان بالقدر كما ذكرنا لك على أربع مراتب : مرتبتان سابقتان قبل وقوع المقدر سابقة قبل خلق المخلوقات يعني قبل وقوع المقدر من حيث جنس المقدرات ليس من حيث واقع فلان أو ما سيحصل للأفراد سابقة لوقوع المقدرات وهي علم الله الأول والأزلي ، والكتابة العامة التي هي في اللوح المحفوظ – الكتابة التفصيلية العامة لكل شيء – هذه سابقة ، أما ما في صحف الملائكة فهذه الإيمان بها واجب وهي من فروع مرتبة الكتابة في اللوح المحفوظ لأنها تفصيل لما في اللوح المحفوظ ، يعني : تقدير المتعلق بفلان من الناس مع الملك هذه خاصة ، كما في الحديث : ( قال : اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) هذه كتابة خاصة بالفرد المعين وهي جزء أو تفصيل لما في اللوح المحفوظ ، ما معنى تفصيل ؟ ليس معناه أن في اللوح المحفوظ مجمل وهذا أكثر تفصيل لا ، وإنما المقصود : أنها تخصيص لما في اللوح المحفوظ يعني أنها متعلقة بواحد معين وذاك للجميع فيكون متعلق بهذا الملك بهذا الشخص المعين ( هذا التقدير العمري ) ، أخص منه بالنسبة للفرد ك التقدير السنوي ، وأخص من هذا : التقدير اليومي ، والتقدير السنوي أيضاً يكون عاماً بالنسبة للمخلوقات أو المكلفين وبالنسبة لما في اللوح المحفوظ هو المرتبة الثانية باعتبار التعلق العام .
هنا نأتي إلى مسألة ثانية : هل الاختيار مطلق أم مقيد ؟ وهنا يأتي الفرق ما بين مذهب أهل السنة وما بين الجبرية .
الجواب : الاختيار ليس مطلقاً وذلك أن الله جل وعلا من شاء هدايته أعانه على الاختيار ويسر له سبيل اليسرى ومن شاء إضلاله لم يُعنه وخذله ووكله إلى نفسه .
(36/49)
فإذاً هنا نزيد شيئاً وهو يشتبه بالجبر وهو مسألة التوفيق والخذلان فالله جل وعلا يخص بعض عباده بالتوفيق يعينهم على الخير ويصرف قلوبهم عن الشر – وهذا يلحظه كل واحد منا في نفسه أنه مُعان – فتحس أن ثمَّ إعانة وفتح لأبواب الخير وغلق لأبواب الشر وهذا يسمى التوفيق ، وأما الخذلان فأن يَكِل الله العبد لنفسه فيسلبه الإعانة وهذا عدل منه جل وعلا فكل واحد مختار افعل ما تشاء ، فخص الله بعض خلقه بالإعانة وحرم آخرين من ذلك وهذا عدل منه جل وعلا لأنه لا يظلمه سبحانه واختصاص واختيار .
الله سبحانه هو الذي خلق القدرة وخلق الإرادة إذاً هو خالق لعملك الذي تعمله لأنه ، والقدرة لها صوارف كثيرة والإرادة لها صوارف أيضاً ، تأتي الخطوة الثانية : وهي إرادتك التي تحددت في شيء دون غيره هذه لا بد لها إعانة لأن الشواغل كثيرة كذلك القدرة فصرف الأشياء ليست إليك ، فلذلك توجهك إلى هذا الشيء هذا من الله جل وعلا توفيقاً هذا في الطاعات ، يلحظ الطائع من نفسه أنه أُعين بشيء على ترك المعصية فهو بدأ بإرادته واختياره لكنه صُرف إلى غيره .
فإذاً حصيلة الكلام أن الجبرية يقولون : أن الكتاب السابق يدل على الجبر وعلم الله السابق ( يعني القدر ) يدل على الجبر ، وعندنا : القدر ( العلم والكتابة ) كاشفة بمعنى أنها غير مجبِرة أي أن الله جل وعلا انكشفت له الأمور وهي ليست بخفية عنه وهو على كل شيء شهيد لهذا لا يُجبر أحداً فالعبد يختار لكن يُعين من يشاء ويصرف الإعانة عمن يشاء يهدي من يشاء ويُضل من يشاء سبحانه وتعالى .
(36/50)
الأشاعرة عندهم التوفيق : خلْق القدرة على الطاعة ، والخذلان عندهم خلق القدرة على المعصية ، وعندهم أن العبد مثل السكين أي كالآلة في قدرة الله جل وعلا ، فالسكين لها القدرة على القطع لكن ليس لها إرادة ، فهنا حينما خُلِقَت القدرة ( يعني لما حرَّك الماسك السكين ) هنا بدأ القطع لكن في الواقع السكين لا إرادة لها . لذلك دائماً يُعبِّر الجبرية من المفسرين وغيرهم بقولهم : ( يخلق عنده ) دائماً يستخدمون لفظ : العندية لا يستعملون لفظ ( به ) السببية ، فلهذا تتنبه لمسألة القدر والمذاهب فيه وخاصة تدقيقاته والحمد لله النصوص في ذلك واضحة بيِّنة لا إشكال فيها ومذهب أهل السنة والجماعة واضح صافي وفهمهم للأدلة في القدر لا إشكال فيه تجدها متناسقة مع النصوص ومتناسقة أيضاً مع العقل فيما يدل عليه لأن مسألة القدر ضل فيها الأكثرون –نسأل الله العافية والسلامة .
وعن مسلم بن يسار الجهني قال : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذه الآية : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ )(لأعراف: من الآية172) فقال عمر : رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عنها فقال : ( إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرِّيَّة فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال : ( إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيُدخله النار ) رواه مالك والحاكم وقال على شرط مسلم .
ورواه أبو داود من وجه آخر عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة عن عمر .
(36/51)
الشرح : هذا الحديث من الأحاديث المشكلة التي غلَّط فيها المحققون من أهل العلم الرواة في إدخالهم الاستخراج في الآية ، والصحيح : أن استخراج ذرية آدم هذا حق وميثاق كما جاء في هذا الحديث وأنه استخرج من ظهر آدم ذريته وأنه أشهدهم جل وعلا وجعلهم فريقين إلى الجنة وإلى النار وكانوا كأمثال الذر إلى آخر ما جاء في الأحاديث الصحيحة فالميثاق حق والإيمان به واجب ، لكن جعل الميثاق تفسير لقول الله جل وعلا : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِم) (لأعراف: من الآية172) ، هذا فيه نظر عند المحققين من أهل العلم ويجعلون الأحاديث مثل هذا الحديث أنه دخل على الرواة وجعلوا حديثاً في حديث وأن مسألة أخذ الميثاق في آية الأعراف غير أخذ الميثاق من ذرية آدم من ظهره والفرق في هذا يمكن نفصله في شرح الطحاوية .
قوله : ( من ظهورهم ) : الأخذ كان من الظهور من بني آدم جميعاً ، ( ذريتهم ) يعني : ذراري كل بني آدم من ظهورهم .
المسألة الثانية في هذا الحديث : أن الله قسم خلقه لما استخرج الذرية من ظهر آدم إلى طائفة في الجنة وطائفة في النار وهذا بما علمه جل وعلا من حالهم وأن منهم من هو في الجنة باختياره وعمله ومنهم من هو في النار باختياره وعمله والله سبحانه يُضِل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى .
وقال اسحاق بن راهوية حدثنا بقية بن الوليد أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد ع راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن أبي قتادة عن أبيه هشام بن حكيم بن حزام أن رجلاً قال : يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء ؟ فقال : ( إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه فقال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار .
(36/52)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق - : ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُبعث الله إليه ملَكَاً بأربع كلمات فيَكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم يُنفخ فيه الروح ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليَعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلَها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبِق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ) ., متفق عليه .
الشرح : هذا الحديث حديث جليل عظيم مهيب يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام والمراد منه في هذا الموطن ذكر القدر وهو قوله هنا : (ثم يبعث الله إليه ملَكاً بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ) وهل هو شقي أو سعيد ، هذه الكتابة مرتبة مراتب القدر ، والكتابة - كما ذكرنا لكم فيما سبق – أنواع : منها الكتابة العامة المفصَّلة لكل شيء في اللوح المحفوظ ، وهذه هي التي جاءت في قول الله جل وعلا : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) ، وفي قوله جل جلاله : ( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر:53) ، ونحو ذلك من الآيات ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه : ( إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسن ألف سنة وكان عرشه على الماء ) يعني : كتبها . هذه كتابة عامة مفصَّلة لكل شيء .
(36/53)
تلي هذه الكتابة كتابات عامة في أنحاء منها : الكتابة العمرية يعني : لكل شخص أو لكل إنسان كتابة خاصة به عامة بما سيؤول إليه أمره ، وهذه هي الكتابة في الرحم أي حين يكون المخلوق جنيناً قبل أن تُنفخ فيه الروح يكتب هذه الكلمات رزقه وأجله وعمله هل هو شقي أو سعيد وهذا بما تؤول إليه الحال ، يعني : يكتب رزقه على وجه الإجمال ويكتب عمله هل هو عمله صالح أم لا ؟ ويكتب أجله إلى أين سينتهي ؟ وهل هو شقي أم سعيد ، لذلك هذه الكتابة ليست تفصيلية ، وهناك كتابات أخر تفصيلية : الكتابة السنوية التي تكون في ليلة القدر وتكون تفصيلا لما يكون في هذه السنة بخصوصها لهذا المعين ، وقد يكون في هذه السنة ما يخالف ما هو مكتوب في حين كان في الرحم ، يعني : يكون في هذه السنة - نسأل الله العافية – مسلماً ويُكتب في الرحم شقياً لأنه سيؤول أمره إلى رِدَّةٍ وكفر ، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : ( فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ...) إلى آخر ، وهذا معنى أنه كُتِب شقي أم سعيد يعني : فيما سيؤول إليه أمره ، أما فيما هو تفصيل لما في اللوح المحفوظ فهذا يكون الأمر مختلف ( يعني فيما هو في التقدير السنوي ) لذلك لا نفهم من كتابة : هل هو شقي أم سعيد أو أنه يعمل بعمل أهل الجنة ثم يعمل بعمل أهل النار فيدخلها : أن هذا مخالف للكتاب ، أو أن الكتاب جبر عليه لا ، فالكتاب – كما ذكرنا لكم – كاشف ، وما يُجري الله جل وعلا على عبده هو بقدر – لا شك – والقدر أنواع وهذا الكتاب لا بد أنه سيكون فقد يكون يعمل بعمل أهل الجنة العمر كله ثم يسبق عله الكتاب يعني : ما كتب الله جل وعلا في الكتاب أنه سيكون شقياً فيختار هذا الشقاوة فيُبطل عمله السابق وهو باختياره اختار عمل أهل الجنة ثم باختياره أبطل عمله السابق .
(36/54)
فإذاً كتابة الكتاب في اللوح المحفوظ يكون على الوجه العام ( الإجمالي النهائي ) وعلى الوجه التفصيلي ، ثم هناك كتب تفصيلية لما في اللوح المحفوظ ومنها الكتابة في الرحم . فإذاً الكتابة في الرحم رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد أي باعتبار العاقبة لا باعتبار ما يكون في تفاصيل حياته ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ...) لأنه كُتب أنه سعيد فسيؤول أمره إلى أنه يُسلم أو إلى أنه يتوب إلى أن يموت فيكون من أهل الجنة .
فإذاً هذا الحديث حديث عظيم فيه تقرير كثير من مسائل القدر وأهمها مسألة الكتابة العمرية وأن الله جل وعلا يبعث إليه ملكاً فيكتب هذه الأمور على وجه الإجمال .
وعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يدخل المَلَك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد فيكتبان فيقول : يا رب أذكر أو أنثى فيكتبان ويُكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا يُنقص ) رواه مسلم .
الشرح : وهذا الحديث أيضاً تتمة في المعنى لما في الحديث السابق لأن الملك يأتي بعد زمن فيكتب هذه الأشياء . قال : ( ثم تطوي الصحف ....) هذا فيه دليل على ما ذكرت لك م أن الكتابة هذه لا تتغير وليست مثل الكتابة التي في أيدي الملائكة ، الكتابة السنوية أو اليومية التي يزاد فيها ويُنقص فيما هو موجود في اللوح المحفوظ ، كما قال سبحانه : (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( يمحوا الله ما يشاء وثبت ) مما في أيدي الملائكة من الصحف ، ( وعنده أم الكتاب ) يعني : ما في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل ، وكذلك ما في صحف الملائكة من التقدير العمري للإنسان ، هذا أيضاً لا يتغير ولا يتبدل كما دل عليه هذا الحديث : ( فلا يزاد فيها ولا يُنقص ) .
(36/55)
هذا الحديث فيه مسألة أخرى ليست متصلة بالقدر في قوله : ( يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة ) ، وحديث عبد الله بن مسعود : أن البعث يكون بعد مائة وعشرين ليلة ، كيف يوفق بين هذا وهذا ؟
أجاب أهل العلم عن هذا بأجوبة من أحسنها : أن هذا مختلف باختلاف الأحوال ، وأن الغالب أن يتأخر وقد يتقدم ، ولهذا قد توجد الحركة في الجنين قبل الأربعة أشهر قد توجد بعد شهرين ونصف أو ثلاثة توجد الحركة وأحياناً قبل ذلك ، لهذا هنا لم يُذكر في هذا الحديث أنه تنفخ فيه الروح بعد الأربعين وإنما ذكرت الكتابة ، وهناك في حديث ابن مسعود ذكرت الكتابة ، وذكر أن نفخ الروح يكون بعد الكتابة لأنه قال : ( ثم يبعث الله إليه ملَكَاً بأربع كلمات ثم ينفخ فيه الروح ) وهذا يدل على أن نفخ الروح متأخر بعد الكتابة التي هي بعد عشرين ومائة من الليالي ، ونفخ الروح دليله الحركة ، وحركة الجنين قد تكون قبل ذلك لهذا قالوا : هذا الحديث يدل على أن الروح قد تنفخ بعد زمن وجيز لأنه بعد ما كتب يكون النفخ والله أعلم متى يكون نفخه .
المقصود : أن من أحسن أوجه الجمع بين هذين الحديثين أنه يُحمل على الاختلاف ، اختلاف ما يقدره الله جل وعلا تارة تكون الكتابة مبكرة وتارة تكون الكتابة متأخرة وهو الغالب لما دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه .
المسألة الثانية هنا : ( فيقول : يا رب أذكر أو أنثى فيكتبان ) : علم ما في الأجنة الذي اختص الله جل وعلا به في خمس لا يعلمها إلا الله أعم وأشمل من كون ما في البطن ذكر أو أنثى لأن الله جل وعلا يقول :
(36/56)
( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)(لقمان: من الآية34) ، (ما في الأرحام ) : عام ، يعني : الذي في الأرحام أو كل ما في الأرحام ، لأن الاسم الموصول يعم ، فكل ما في الأرحام : من الجنين ومن تغذيته ومن تقلبه في أنواع الخلق وما تغيض الأرحام وما تزداد ، كل هذا مختص الله جل وعلا به على وجه التفصيل ، فلا أحد يعلم ما في الأرحام على وجه التفصيل إلا الله جل وعلا ، من ذلك هل الجنين ذكر أو أنثى ؟ فيختص الله جل وعلا بهذا العلم في الخمس التي لا يعلمها إلا الله من ضمن علمه جل جلاله بما في الأرحام يختص بما قبل الأربعين أو بما قبل الخمس والأربعين ، لأنه قال هنا إن الملك يعلم ، فإذا كان الملك يعلم خرج عن الاختصاص : ( في خمس لا يعلمها إلا الله ) ، فيعلم الملك بعد الوحي والأمر بالكتابة هل هو ذكر أم أنثى ، ما هو بعد ذلك لا يدخل في الاختصاص لأنه خرج بالخمس والأربعين ليلة عن اختصاص الله جل وعلا بعلمه هل هو ذكرأو أنثى فعلم الملك لذلك لم يكن أمراً غيبياً مختصاً بالله جل وعلا .
ولهذا ما في الجنين ثبت عن أبي بكر رضي الله عنه صح عنه بأنه نظر إلى بطن امرأته فقال : فيها أنثى ، وذُكر عن جماعة من الصالحين وأهل العلم أنهم عندهم كشف علمي بما يُلهمهم الله جل وعلا فيعلمون ما في الرحم يعني بعد مدة فيقولون : هذا فيه ذكر أو أنثى ، ومعلوم أن هذا بعد استبانة المخلوق في البطن ، مثل ما هو حاصل الآن من بعض الأجهزة الطبية أنهم يُصورون فيعلمون هل هو ذكر أو أنثى بالصورة بدلائل وجود علامة الذكورة في فرج الجنين وعلامة الأنوثة كذلك .
(36/57)
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : دُعِي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءاً ولم يُدركه فقال : ( أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل شيء بقدر حتى العجْزُ والكيْس ) رواه مسلم .
وعن قتادة رضي الله عنه في قوله تعالى:(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) قال : يُقضى فيها ما يكون في السنة إلى مثلها . رواه عبد الرزاق وابن جرير وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما – والحسن وأبي عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير ومقاتل .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درّةٍ بيضاء دفَّتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور عرضه ما بين السماء والأرض ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ففي كل نظرة منها يخلق ويرزق ويُحيي ويُميت ويُعز ويُذِل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(الرحمن: من الآية29) . رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبراني والحاكم .
(36/58)
قال ابن القيم رحمه اله تعالى لما ذكر هذه الأحاديث وما في معناها وقال : فهذا تقدير يومي والذي قبله تقدير حولي والذي قبله تقدير عمري عند تعلق النفس به والذي قبله كذلك عند أول تخليقه وكونه مضغة والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن بعد خلق السماوات والأرض والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته وحكمته وزيادة تعريفه الملائكة وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه . ثم قال فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يُجب الاتكال عليه بل يُجب الجدَّ والاجتهاد ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال : ما كنت بأشد اجتهاداً مني الآن ، وقال أبو عثمان النهدي لسلمان : لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره ، وذلك لأنه إذا سبق له من الله سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها .
(36/59)
الشرح : هذه الأحاديث دلت على ما ذكره ابن القيم رحمه الله من تنوع التقدير : تقدير سابق عام وتقدير عمري وتقدير سنوي وتقدير يومي إلى آخره ، وهذه سبق الكلام عليها مفصَّلاً فيما ما مضى والمقصود منها : أن قدر الله جل وعلا عام وأن كل شيء يحصل فهو بقدر الله حتى العجز والكيْس . يعني : حتى ما تعجز عنه وهو بقَدَر ، وحتى ما تدركه وعقله هو أيضاً بقَدَر لعموم قوله سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) ، ولعموم قوله سبحانه : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2) ، وهذا التقدير العام والتقدير التفصيلي يدل على عموم مشيئته جل جلاله وعلى شمول قدرته وأنه سبحانه على كل شيء قدير وهذا يجمع مراتب القدر الأربع التي ذكرناها لكم : مرتبة العلم الشامل لكل شيء السابق الأزلي الأول ، ومرتبة الكتابة في اللوح المحفوظ كتب مقادير كل شيء سبحانه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه على كل شيء قدير وأنه خلق كل شيء جل جلاله .
ولهذا عرَّف بعض أهل العلم القدر – كما ذكرنا لكم – بما يجمع تلك المراتب بقوله : إن القدر هو : علم الله الأول أو الأزلي المحيط بالأشياء وكتابته لها في اللوح المحفوظ وعموم قدرته جل وعلا وخلقه للأشياء وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، أو نحو ذلك مما يجمع المراتب الأربعة .
(36/60)
التفاصيل التي ذكرها ابن القيم أن بعضها تفصيل لبعض يعني : أن ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ هذا فيه كل شيء ثم يُخصَّص إما بتخصيص الأفراد أو بتخصيص الزمان أو بتخصيص المكان ، فما قدره الله جل وعلا في السماء غير ما قدَّره في الأرض ذاك في كتاب خاص بملائكة وهذا في كتاب خاص بملائكة وما قدره الله جل وعلا لعموم خلقه المكلفين هذا شيء ، ثم تنزل درجة إلى خصوص فئة معينة ثم إلى أن تصل إلى فلا المعين ، ثم إلى أن تصل إلى الجنين في بطن أمه ، هذا من جهة الناس ، ثم من جهة الزمان الكلي يعني : كل ما سيكون بعد خلق السماوات والأرض إلى أن تتبدل السماء والأرض ، ثم هناك تقدير أقل : تقدير سنوي ثم تقدير يومي ، هذا بالنسبة لما يحدث في الملكوت وهكذا .
المقصود : أن ما في اللوح المحفوظ هذا لا يغادر شيئاً فيه كل شيء : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر:53) ، كل شيء فيه سواء من جهة الأمكنة أو الأزمنة أو المخلوقات المكلفين من الجن والإنس ،ثم تأتي تفاصيل .
(36/61)
ذكرنا لكم أن ثَمَّ تقدير لا يتغير ولا يتبدل ، وثَمَّ تقدير قد يتغير ويتبدل فأما الذي لا يتغير ولا يتبدل فهو العام الذي في اللوح المحفوظ أو التقدير العمري ونحو ذلك ، هذا العام لا يتغير ولا يتبدل : من الشقاوة والسعادة ومعرفة الأحوال الرزق ما يؤول إليه أمر هذا المخلوق ..، أما ما في صحف الملائكة فهو يقبل التغيير والتبديل وذلك لقوله تعالى : (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39) ولقوله عليه الصلاة والسلام : ( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره ) ، وقوله : ( صلة الرحم منسأة في الأثر مجلبة للرزق ) ، وأيضاً صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يُصيبه ) ، هذا كله من التغيير فيما كُتِب في صحف الملائكة ، وهذا التغيير والعمل كله بقدر وهو موجود في الصحف لكن له من الرزق كذا إن عمل كذا يُحرم الرزق ، فيكون إذاً السبب والمسبب والنتيجة كلها موجودة في ذلك فيمحو الله جل وعلا من صحف الملائكة ما يشاء ويُثبت فيها ما يشاء لأن فيها كل شيء .
(36/62)
كذلك من المسائل التي دلت عليها هذه الأحاديث أن التقدير في ليلة القدر التي قال الله جل وعلا فيها : (ِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)(الدخان: من الآية3) ، وقال : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:4) ، وقال : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) يعني : ليلة التقدير السنوي ، وليلة القدر هذه في رمضان وليست هي ليلة النصف من شعبان ، والأحاديث التي فيها أن التقدير يكون ليلة النصف من شعبان هذه في فيها نكارة في متنها وضعف في أكثر أسانيدها ، فالتقدير يكون في ليلة القدر في رمضان المعروفة ، وسميت ليلة القدر لأنه يكون فيها التقدير ، وهذا التقدير تقدير سنوي يعني : ما يحصل في السنة يُكتب في صحف الملائكة من السنة إلى السنة ، صحف الملائكة يعني : التي بأيدي المكلفين : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) منهم الحفظة ومنهم الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات ومنهم الملائكة الموكلون بابن آدم .
وعن الوليد بن عبادة قال : دخلت على أبي وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال : أجلسوني فلما أجلسوه قال : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قلت : يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خيرُ القدر وشرُّه ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليُخطئك ، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول ما خلق الله القلم قال : اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ) يا بني إن متَّ ولست على ذلك دخلت النار . رواه أحمد .
(36/63)
الشرح : الحديث دلَّ على أن الإيمان بالقدر خيره وشره أنه مما يُصى به ويُحث عليه ويؤمر به ويُفصل للناس من جهة الإجمال ، يعني يُبين لهم الإيمان بالقدر والإيمان بخيره وشره ، وأن ما أخطأ العبد لم يكن ليُصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه وأن هذا لا يُخالف ما جاء من الإمساك عن القدر وعن ذكره – كما مرَّ معنا سابقاً – لأن الإمساك عن القدر : ( إذا ذُكر القدر فأمسكوا ) يعني : عن الخوض فيه بلا علم ، أما ما دلَّ عليه الدليل وعلمه العبد من الشريعة فإنه يذكره ولهذا يوصي بالإيمان بالقدر خيره وشره ، قال : ( كيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك وما أصابك لم يكن ليُخطِئك ) هذه هي الحقيقة يعني : ما أخطأك لا يمكن أنه كان يصيبك لأن الله جل وعلا لم يقدِّره ، وكذلك ما أصابك لم يكن ليُخطئك ، فالجميع بقدر الله جل وعلا .
قوله هنا : ( بالقدر خيره وشره ) الخيرية والشر – كما هو معلوم – بالإضافة إلى العبد ، أما القدر في نفسه ن يعني : المضاف إلى الله جل وعلا الذي هو تقدير الله هذا هو صفة الله وفعل الله جل وعلا ، وأفعال الله تعالى لا يضاف إليها الشر لأن الشر ليس إلى الله جل وعلا لا وصفاً ولا فعلاً سبحانه وتعالى ، فالقدر شره بالنسبة للعبد وخيره بالنسبة للعبد ، أما حقيقة القدر فهو خير وموافق للحكمة والمقاصد الحكيمة للرب جل جلاله .
قوله : ( أول ما خلق الله القلم قال : اكتب ...) (أول) هنا بمعني : حين ، ( أول ما خلق الله القلم ) يعني : حين خلق الله القلم قال له :اكتب ، يعني أنه لما خُلق كان أول ما قيل له : اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة .
وعن أبي خزامة عن أبيه رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أرأيت رُقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتُقاةً نتقيها هل تردُّ من قدر الله شيئاً ؟ قال : ( هي من قدر الله ) . رواه أحمد والترمذي وحسنه .
(36/64)
الشرح : القدر يشمل كل شيء ، يشمل تقدير السبب وتقدير المسبب ، يشمل تقدير الفعل وتقدير النتيجة ، فما من شيء إلا هو بقدر الأسباب والمسببات ، مسك القلم باليد ، والنتيجة : الكتابة ، كلها بقدر ، وتناول الدواء بقدر والانتفاع بالدواء بقدر ، تعاطي الأسباب بقدر والانتفاع بهذه الأسباب بقدر .
فإذاً لا يعني عدم تعاطي الأسباب الإيمان بالقدر ، كما يقول بعض الناس : أنا راض ومؤمن بما قدَّر الله ولا يتعاطى الأسباب ، كما هو عند غلاة نفاة الأسباب والمتصوفة الذين لا يفهمون التوكل على حقيقته ، فهم يرون أن تفويض الأمر لقدر الله جل وعلا يعني عدم تعاطي شيء من الأسباب وهذا باطل ومتناقض في نفسه . فإذاً الأسباب النافعة الموصلة للمسببات هذه من قدر الله ، الرقى ، التداوي ، الأكل ، الشرب هذه كلها من قدر الله جعلها أسباباً ، وما ينتج عنها هو من القدر ، فإذاً العبد حين يفعل الأسباب يفعل ما أمر الله به أو ما أذن الله به فيحصل بذلك النتيجة وهو المسبَّب .
إذاً الرقية والدواء لا يرد من قدر الله شيئاً بل هو من قدر الله سبحانه وتعالى .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان ) رواه مسلم .
الشرح : هذا الحديث فيه دلالة على مسألة القدر من جهة قوله : ( ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل ) فإن تفويض الأمر لمشيئة الله جل وعلا هذا من الإيمان بالقدر ، وقول العبد : (قدَّر الله ) يعني : قضى الله بهذا الشيء وما شاء فعل ، وهذا يدل على عموم قدر الله وعموم مشيئته سبحانه .
(36/65)
قوله : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) القوة هنا : تشمل القوة الإرادية والقوة الإيمانية والقوة البدنية ، يعني : إذا كان مؤمناً قوياً في بدنه فهو خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وذلك لأن قوته فيها إعانة له على الإيمان والجهاد والعلم والأمر بلمعروف والنهي عن المنكر ، وكذلك القوة في العلم ، المؤمن القوي في علمه القوي في دينه خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف في علمه وفي دينه .
فإذاً أنواع القوة متعددة فإذا آتى الله جل وعلا العبد القوة العلمية والقوة الإرادية والحكمة والبصيرة والقوة البدنية فيكون ذلك من النعم الخاصة كما قال سبحانه في نعمته على أحد عباده : ( وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ )(البقرة: من الآية247) .
قال : (احرص على ما ينفعك ) يعني : في أمر دينك ودنياك تعاطى ما ينفعك ، لا تستنكف اتكالاً على القدر أو تقول كل شيء مقدر لن أفعل ، ما ينفعك في أمر دنياك اعمل به بع واشتر ، احرص على التعلم والعلم والحفظ ولا تقل ما يحصل لي هذا بل ما ينفعك احرص عليه فإنه بعد ذلك تكون النتيجة بتوفيق الله جل وعلا .
( واستعن بالله ) يعني : إذا فعلت ما أمرت به أو حرصت على ما ينفعك وفعلت الأسباب فاستعن بالله يعني : اطلب العون من اله جل وعلا ، وطلب العون من اله جل وعلا على مرتبتين :
المرتبة الأولي : طلب العون في تهيئة الأسباب ، أن العبد تهيأ له الأسباب وينشرح صدره لها ويفعلها .
المرتبة الثانية : أن يعينه الله جل وعلا في نفع تلك الأسباب ، لأنه قد يفعل المرء شيء ولا ينتفع به ن ولهذا عظم المطلوب في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) .
(36/66)
قال : ( فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان ) هذا معروف في شرح كتاب التوحيد عند قول الشيخ : باب ما جاء في اللو ، وتلخيص المسألة : أن (لو) إذا جاءت تحسراً على شيء وقع في الماضي مما يسوء العبد فإنها تفتح عمل الشيطان ، وأما إذا كانت في المستقبل أو في تقدير الخير في الماضي لا تحسراً فلا بأس بها .
أما المنهي عنه إذا كان على أمر قضاه الله وانتهى ، فيقول : لو أني فعلت كان أحسن ، لو أني فعلت ما صار لي كذا فهذه إذا كان فيها التحسر على الماضي ففيها اعتراض على القدر وكل شيء بقدر الله جل وعلا ولذلك صارت (لو) في الماضي تحسراً تفتح عمل الشيطان على القلب وهو سوء الظن بالله : ( لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)(آل عمران: من الآية168) ، سوء الظن بالله ، وتفتح عمل الشيطان في روعات النفس وحزنها ويأسها ، وتفتح عمل الشيطان في التحسر على ما فات وأن العبد لو فعل أشياء يمكن أن تصده عن أشياء ، والعبد قبل وقوع الشيء عليه أن يفعل ما ينفعه وما أمر به وألا يعجز وعليه أن يستعين بالله وأن يكون قوياً في أمره ، فإذا وقع المقدر فإن العبد يرضى ويسلم كما جاء في تفسير قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه)(التغابن: من الآية11) ، قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
فإذاً قبل وقوع الشيء ابذل الأسباب واجتهد ولكن إذا وقع وانتهى فيقول العبد : قدّر الل وما شاء فعل ، وهذا فيه التسليم وفيه حسن الظن بالله جل وعلا وفيه فتح أبواب كثيرة من أبواب إيمان القلب ، وأما استعمال (لو) فيفضي إلى التحسر وضعف القلب وانكساره والندم وظن العبد أن بسببه حصل كذا وكذا وأنه ليس بقدر الله وأشياء من تسويلات الشيطان .
(36/67)
كلمة (لولا) فيها الترتيب على شيء مثل قول القائل : لولا الطبيب صار لي كذا وكذا ، لولا السائق لحصل كذا لولا فلان لم أحصل على وظيفة ونحو ذلك ، هذه فيها تعلق القلب بهذا الشخص ممن حدثت له النعمة ، وقوله في الحديث : ( لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) هذا ليس من هذا الباب بل هي من باب التفضل ، والأمر الثاني : أن قوله : (لولا) هذا راجع إلى الشفاعة والدعاء ، والمنهي عنه في (لولا) ليس هو باب الدعاء إنما هو باب إضافة النعم لغير الله جل وعلا .
(باب ذكر الملائكة عليهم السلام والإيمان بهم)
وقول الله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)(البقرة: من الآية177)، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) ،وقوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(النساء: من الآية172) ، وقوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (الانبياء:19) (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) ، وقوله تعالى : ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)(فاطر: من الآية1) وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا )(غافر: من الآية7) .
(36/68)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خلقت الملائكة من نور وخلقت الجن ...) الحديث رواه مسلم . وثبت في بعض أحاديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم رُفِع له البيت المعمور الذي هو في السماء السابعة وقيل في السادسة بمنزلة الكعبة في الأرض وهو بحِيال الكعبة حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملَك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملَك ساجد أو ملك قائم فذلك قول الملائكة : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (الصافات : 165-166) . رواه محمد بن نصر وابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ ، وروى الطبراني عن جابر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعاً سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنَّا لم نشرك بك شيئاً ) .
الشرح : هذا الباب معقود لبيان ركن من أركان الإيمان وأصل من أصوله العظام ألا وهو الإيمان بملائكة الله جل وعلا فإن الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى .
والإيمان بالملائكة ركن لا يصح إيمان أحد إلا أن يؤمن بالملائكة يعني : بأن الملائكة موجودون كما أخبر الله جل وعلا وأنهم عابدون لا يُعبدون ، وهذا القدر واجب وركن وهذا هو القدر المُجزيء من الإيمان ، فمن لم يؤمن بذلك وهو :
1- الإيمان بوجود الملائكة والإقرار أنه ثَمَّ من خلق الله ملائكة اصطافهم جل وعلا .
2- وأنهم عابدون لا يُعبدون وأنهم بأمر الله يعملون .
هذا القدر لا بد منه في الإيمان لأن هذا معنى وجود الملائكة .
(36/69)
لفظ الملائكة جمع ( ملأك ) وأصل هذه الكلمة مقلوبة عن ( مألك ) والمألك : مصدر من الألوكة ، والألوكة : هي الرسالة ، وفعلها أَلَكَ يَأْلَكُ أَلُوكَةً ، يعني : أرسل برسالة خاصة وبمهمة خاصة .
فإذاً الكلمة راجعة إلى معنى الإرسال ، (فالملائكة) من لفظها اللغوي معناها : المرسلون برسالة خاصة والقائمون بمهمة خاصة . فالإيمان بالاسم فيه ذكر المرتبتين اللتين ذكرتهما : الإيمان بالوجود والإيمان بالعمل ، هذا موجود في الاسم لمن يعقل اللفظ العربي .
والملائكة : خلق من خلق الله جل وعلا خلقهم من نور كما جاء في حديث عائشة الذي رواه مسلم : ( خُلقت الملائكة من نور ) فهم أرواح مطهرة مكرمة جعلهم الله جل وعلا عنده يعني : جعلهم في السماء فأصل مقامهم في السماء وقد يوكلون بأعمال في الأرض فينزلون بأمر الله جل وعلا : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) ، و (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:193) ، فأصل مكانهم في السماء كما أن أصل مكان الجن والإنس في الأرض .
(36/70)
الكلام في الملائكة مبسوط في كتب الحديث والتفسير وساق الإمام المصلح هنا شيئاً من ذلك فيمكن أن نقول فيهم : أنهم خلق عظيم يعني في الصفة وأنهم أنوار يعني : خلقوا من نور لا يراهم الإنسان بعينه المجردة ، لكن إن كشف له الغطاء رأى كما قال سبحانه : ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(قّ: من الآية22) ، فالإنسان على بصره غطاء يعني : حدود يرى بها ، لكن بالموت إذا كشف الله عنه الغطاء البشري في الدنيا لأنبيائه ورسله فإنهم يرون ما لا يرى غيرهم فيرى الملائكة على صورتهم التي خلقهم الله جل وعلا عليها كما ثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله علي وسلم قال : رأيت جبريل على صورته مرتين له ستمائة جناح قد سدَّ الأفق ) ، ومنهم ذووا الأجنحة ، ومنهم من ليس بذي أجنحة ، فخلقهم متنوع لكن يجمعهم أن خلقهم من نور .
الملائكة منهم ثلاثة كرمهم الله جل وعلا وجعلهم سادة الملائكة وهم جبرائيل وميكائيل وملك النفخ في الصور إسرافيل وهؤلاء الثلاثة في مهمتهم تشابه : فجبرائيل جعله الله جل وعلا سيداً على الملائكة وموكلاً بالوحي فهو الذي ينزل بالوحي من الله جل وعلا إلى رسله وإلى ملائكته ، وميكائيل موكل بالقطر من السماء يُصرِّفه كما يأمر الله جل وعلا : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا)(الفرقان: من الآية50) ، وإسرافيل هو : الموكل بقبض الأرواح ، وبالنفخ في الصور ونحو ذلك .
والتناسب بينهم كما ذكر العلماء : أن هؤلاء متصلة بهم الحياة فجبرائيل متصلة به حياة الدين حياة الأرواح الحقيقية لأنه ينزل بالوحي ، وميكائيل بحياة الأرض بالقطر من السماء ، وإسرافيل بحياة الأبدان بعد موتها .
(36/71)
أيضاً مما يتصل بذلك أن الله جل وعلا جعل الملائكة موكلين بالأعمال ولفظ ( التوكيل ) جاء في القرآن كما قال سبحانه : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)(السجدة: من الآية11) ، فالله جل وعلا وكَّل الملائكة بأعمال ، فهذا مختص بالسحاب وهذا مختص بالهواء وهذا بالبحار وهذا بالإنسان إلى آخره .. في أعمال كثيرة جداً ، فما من شيء يحصل إلا والله جل وعلا قد أمر به وحدث بأمره وإذنه وقدرته ، والملائكة موكلون بذلك وقد يكون المَلَك الموكل بشيء معه ملائكة كثير يفعلون ما يأمرهم به كما قال سبحانه في ذكر ملك الموت : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: من الآية61) ، فهم رسل وسيدهم أو رئيسهم ملك الموت .
من الملائكة : الملائكة المقربون الذين ذكرهم الإمام فيما سمعت ، والملائكة المقربون أقسام منهم : حملة العرش وهؤلاء يقال لهم : (الكروبيون) في بعض ما جاء في آثار السلف ، وسموا بذلك : لأجل ما يعلوهم من الكرب من حمل العرش وقربهم من الله جل جلاله زخزفهم منه سبحانه شدَّة فزعهم وكثرته من الله جل وعلا.
ومن الملائكة المقربين : الملائكة الذين حول العرش كما قال جل وعلا : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْد رَبِّهِمْ)(غافر: من الآية7) ، وبعض العلماء يجعل حملة العرش ومن حوله جميعاً يدخلون في اسم الكروبيين .
وحملة العرش ومن حوله لهم مزيد اختصاص لقربهم من الله جل وعلا ومزيد فضل واختلف العلماء في حملة العرش كم عددهم على قولين :
1- منهم من قال : إنهم ثمانية لقواه سبحانه : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)(الحاقة: من الآية17)
(36/72)
2- ومن أهل العلم وهم الأكثر قالوا : إنهم أربعة في الدنيا وثمانية يوم القيامة ، يعني أن عرش الرحمن جل وعلا إذا جيء به يوم القيامة لفصل القضاء فإنه يأتي به ثمانية من ملائكة الله جل وعلا ، أما في الدنيا فهم أربعة ويستدلون لذلك بحديث رواه الإمام أحمد بإسناد جيد : أن ملائكة العرش أربعة .
ومن الملائكة : خازن الجنة وخازن النار ، ومنهم : ملائكة موكلون بابن آدم منهم ما يكتب ما يصدر منه ، ومنهم من يحفظه من بين يديه ومن خلفه وهؤلاء هم المعقبات يتعاقبون على ابن آدم أربعة ، والملائكة متنوعون في مهامهم والمؤمن يؤمن بهؤلاء إجمالاً على وجودهم لا ينكر شيئاً منذلك وتفصيلاً فيما علمه بالتفصيل .
فالإيمان بالملائكة على درجتين :
1- إيمان إجمالي فيما علمت وفيما لم تعلم . 2- والإيمان التفصيلي فيما فُصِّل لك في النصوص ، فما جاء في النص م وصف ملك أو ذكر اسمه في دليل في القرآن أو في حديث صحيح ثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فوجب اعتقاده لأن هذا أمر غيبي يجب اعتقاده على ما جاء في الدليل .
من آثار الإيمان بالملائكة على إيمانه ويقينه منها :
(36/73)
1- شدة تعظيمه لربه جل وعلا : لأن إيمانه بالملائكة به يعلم عظمة الرب جل وعلا وأن هؤلاء الملائكة الذين عظُم وصفهم وعظمت إحاطتهم وقدَرهم بما أقدرهم الله جل وعلا وكثرة عددهم وتنوع خلقهم وصفاتهم فيه الإيمان بعظمة الله جل وعلا وشدة الخوف من الله جل وعلا والعلم بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ، فإذا كانت الملائكة : (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم)(النحل: من الآية50) ، فالعبد المؤمن يعلم أنه أحق بالخوف لأنه مكلف متعرض للطاعة وللذنب وأولئك مطهرون وإذا علم أن الملائكة إذا سمعوا كلام الله جل وعلا أصابتهم صعقة أو رعدة شديدة وصعقوا ثم يُفزع عن قلوبهم فإنه يعلم حينئذٍ أن الملائكة – مع شدَّة خلقهم وعِظَم وصفهم –أنهم ينالهم ذلك مع تقواهم له جل وعلا ومع طاعتهم وأنهم ركع سجود يعملون بأمر الله لا يخالفونه فكيف بحال العبد المكلَّف الذي يخالف كثيرا ويعصي كثيرا ويغفل كثيرا .
فإذاً الأثر الأول العام هو : الإيمان بعظمة الله جل وعلا وما يورثه الإيمان بالملائكة من خوف الله جل وعلا ومن الإنابة إليه .
2- محبة الملائكة : فإن الملائكة مطهرون عباد مكرمون مطيعون لله موحدون لله فبين الموحد وبين هؤلاء الموحدين بينه وبينهم سبب وصلة ومحبة ولذلك الملائكة يستغفرون لمن في الأرض ويستغفرون لمن دعا لأخيه ، فبينهم وبينه محبة وكذلك المؤمن يحبهم ولذلك لا يرضى بالتعدي عليهم أو بادعاء أنهم وسطاء عند الله جل وعلا ، أو بأنهم بنات الله جل وعلا – كما يدعيه المشركون – تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .
(36/74)
من آثار الملائكة بالله جل وعلا : أن الإيمان بالملائكة يعرِّف المؤمن الموحد ويجعل المؤمن على يقظة ومحاسبة لما يصدر منه ، لأن الملائكة منهم الموكل بالكتابة ومنهم الموكل بالحفظ وهؤلاء بأمر الله جل وعلا يعملون ولهذا يكرم الملَك عند المؤمن الموحد وعند العالم الراسخ ، يكرم الملَك عن كثير من الأعمال والهيئات والأقوال التي تصدر عن الجهلة فكلما عَظُم الإيمان بالملائكة عظُم إكرامهم عن ما يكرهون مثل : الكلام السئ والأفعال الخبيثة والأقوال الخبيثة ونحو ذلك مما تنفر منه الملائكة . إلى غير ذلك من الآثار التي ربما يأتي – إن شاء الله – بعضها .
قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:193)(عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء:194)
وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) إلى أن قال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) ، يعني : بكل أمر ، فالعلماء يقولون : إن جبريل عليه السلام مختص بوحي الله جل وعلا يعني : بالنزول بالوحي ، وهذا كثير في الأحاديث منها : ( إن روح القدس نفث في روعي ) ، ( إن جبريل أتاني آنفاً فقال ...) وهكذا .
وعن جابر رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أُذِن لي أن أُحدِّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) الحديث رواه أبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة .
(36/75)
فمن سادتهم جبرائيل عليه السلام وقد وصفه الله تعالى بالأمانة وحسن الخلق والقوة فقال تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (النجم:6) ، ومن شدَّة قوته أنه رفع مدائن قوم لوط عليه السلام وكنَّ سبعاً بمن فيهنَّ من الأمم وكانوا قريباً من أربعمائة ألف وما معهم من الدواب والحيوانات وما لتلك المدائن من الأراضي والعمارات على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو ( شديد القوى ) ، وقوله : (ذو مرة ) أي : ذو خلق حسن وبهاء وسناء وقوة شديدة قال معناه ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال غيره : ( مرة ) أي : ذو قوة ، وقال تعالى في صفته : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير:19)(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير:20) ، (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير:21) أي : له قوة وبأس شديد وله مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند ذي العرش (مطاع ثم ) أي : مطاع في الملأ الأعلى (أمين ) ذي أمانة عظيمة ولهذا كان هو السفير بين الله وبين رسله وقد كان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة وقد رآه على صفته التي خلقه الله عليها مرتين وله ستمائة جناح روى ذلك البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها سدَّ الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدرّ والياقوت ما الله به عليم . إسناده قوي .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : رأى ر سول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة خضراء قد ملأ ما بين السماء والأرض رواه مسلم .
(36/76)
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أيت جبريل منهبطاً قد ملأ ما بين الخافقين عليه ثياب سندس معلق بها اللؤلؤ والياقوت ) . رواه أبو الشيخ ولابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جبرائيل عبد الله وميكائيل عبيد الله وكل اسم فيه إيل فهو عبد الله .
وله عن علي بن الحسين مثله وزاد وإسرافيل عبد الرحمن .
من أجل أن آخرها ( فيل ) ( إسرائيل ) وليس ( إيل ) كما في ( جبرائيل ) ( ميكائيل ) فجعل ( إيل ) بمعنى الله في اللغة السريانية ، و( فيل ) بمعنى الرحمن .
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل الملائكة ؟ جبرائيل ) .
وعن أبي عمران الجوني أنه بلغه أن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك ؟ قال : ومالي لا أبكي فوالله ما جفت لي عين منذ أن خلق الله النار مخافة أن أعصيه فيقذفني فيها ) رواه الإمام أحمد في الزهد .
وللبخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل : ( ألا تزورنا ) فنزلت : (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلك )(مريم: من الآية64) .
ومن ساداتهم ميكائيل عليه السلام وهو موكل بالقطر والنبات .
(36/77)
معنى السيادة هنا : أنه معه من الملائكة من يأتمرون بأمره ، فمعنى أنه سيد : أي يأمر وينهى ، فجبرائيل سيد الملائكة يعني : يأمر الملائكة ، فمعنى ( سادات الملائكة ) يعني : الذين معهم جنود ومعهم أعوان ينفذون أمر الله جل وعلا بما وكل إليه فملك الموت قال تعالى عنه : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (السجدة: من الآية11) ، وإسرافيل مثل ما جاء في الحديث : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ) من سادة الملائكة وهو الموكل بالنفخ في الصور وبأخذ الأرواح وإزهاقها حين النفخ في الصور ، لآنه ينفخ نفخة الصعق فيموت الجميع ثم ينفخ نفخة البعث فتعود الأرواح ، فملك الموت يقبض الأرواح ومستودع هذه الأرواح في الجنة وفي الصور عند إسرافيل والمقصود هذا معنى من ساداتهم .
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبرائيل ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط ؟ قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار .
ومن ساداتهم إسرافيل عله السلام وهو أحد حملة العرش وهو الذي ينفخ في الصور .
روى الترمذي وحسنه والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر فينفخ ) . قالوا : فما نقول يارسول الله ؟ قال : قولوا ( حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن ملكاً من حملة العرش يقال له : إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله قد مرقت قدماه في الأرض السابعة السفلى ومرق رأسه من السماء السابعة العليا ) . رواه أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية ، وروى أبو الشيخ عن الأوزاعي قال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل فإذا أخذ في التسبيح قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم .
(36/78)
ومن ساداتهم ملك الموت عليه السلام – ولم يجيء مصرحاً باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة وقد جاء في بعض الآثار تسميته بعزرائيل فالله أعلم قاله الحافظ ابن كثير . وقال : إنهم بالنسبة إلى ما هيأهم له من أقسام فمنهم حملة العرش ، ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش وهم مع حملة العرش أشرف الملائكة وهم الملائكة المقربون كما قال تعالى : ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ )(النساء: من الآية172) ، ومنهم سكان السماوات السبع يعمرونها عبادة دائمة ليلاً ونهاراً صباحاً ومساءً كما قال تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) .
ومنهم الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور .
قلت : الظاهر أن الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور سكان السماوات ومنهم موكلون بالجنان وإعداد الكرامات لأهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها ، من ملابس ومآكل ومشارب ومصاغ ومساكن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
(36/79)
ومنهم الموكلون بالنار أعاذنا الله منها وهم الزبانية ومقدَّموهم تسعة عشر وخازنها مالك وهو مقدَّم على الخزنة وهم المذكورون في قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ) (غافر:49) ، وقال تعالى : (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) (المدثر:30)( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )(المدثر: من الآية31) .
ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم كما قال تعالى : ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(الرعد: من الآية11) ، قال ابن عباس : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء أمر الله خلَّوْا عنه ، وقال مجاهد : ما من عبد إلا وملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له وراءك إلا شيء يأذن الله تعالى فيصيبه .
ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد كما قال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) (قّ:17)(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18) ، وقال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (الانفطار:10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ) (الانفطار:11)(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار:12) .
(36/80)
روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ينهاكم عن التعرِّي فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات : الغائط والجنابة والغسل فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجذم حائطٍ أو بغيره ) ، قال الحافظ ابن كثير : ومعنى إكرامهم : أن يستحِي منهم فلا يُملي عليهم الأعمال القبيحة التي يكتبونها فإن الله خلقهم كراماً في خلقهم وأخلاقهم ثم قال ما معناه : إن من كرمهم أنهم لا يدخلون بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جُنُب ولا تمثال ولا يصحبون رفقة معهم كلب أو جرس .
وروى مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرُج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ) ، وفي رواية : أن أبا هريرة قال : اقرءوا إن شئتم : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)(الاسراء: من الآية78) .
وروى الإمام أحمد ومسلم حديث : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) .
وفي المسند والسنن حديث : ( إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ) .
والأحاديث في ذكرهم عليهم السلام كثيرة جداّ .
(36/81)
الشرح : هذه الأحاديث المتنوعة منها ما هو صحيح الإسناد ومنها ما لا يصح ، وأهل العلم إذا أتوا إلى أصل من الأصول في تقريره فإنهم يسوقون ما في الباب من الأحاديث – كما هي طريقة أهل العلم الراسخين فيه من المتقدمين والمتأخرين . قال شيخ الإسلام في أحد أجوبته على منهج أهل الحديث قال : وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول بل إما في تأييده أو في فرع من الفروع – أو كما قال – يعني : أنه لا يخترع أصل بحديث ضعيف لا يثبت وإنما إذا كان الأصل ثابتاً فإن منهج أهل الحديث أنها تساق الأحاديث سواء منها ما صح أو ما لم يصح إسناده تأييداً لذلك الأصل وبياناً لكثرة ما ورد في ذلك لأن الحديث الضعيف قد يكون صحيحاً وإنما حكمنا بضعفه لسوء حفظ راويه أو لانقطاعٍ فيه أو نحو ذلك رعاية وحماية لكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلا فقد يكون صحيحاً ولذلك إذا كان في أصل من الأصول فإنه يؤيد به ، وهذا التأييد على قسمين في طريقة أهل الحديث المتقدمين منهم والمتأخرين يعني من حفاظ الحديث ورواته هذا التأييد على قسمين :
1- إما تأييد كامل يعني : تأييداً لجميع الأصل .
2- وإما تأييد ناقص يعني : تأييداً لبعض ما جاء في الأصل .
وفي بعض الأحاديث التي ذكرها الشيخ روايات ضعيفة ولكنها دالة على وجود الملائكة وعلى أسمائهم وعلى تقاسيمهم ونحو ذلك .
(36/82)
فالأصل هو وجود الملائكة وأنهم أقسام وأن منهم كذا ومنهم كذا وأنهم متنوعون إلى آخر ذلك ، هذا هو الأصل الذي تحشد له الأدلة لأن المقصود الإيمان بالملائكة والإيمان بالملائكة يحصل بمجموع هذه الأحاديث فنعلم منها أن الملائكة خلق عظيم من خلق الله جل وعلا مكرمون مقربون وأنهم عباد إلى آخره فيحصل من جملة هذه الأحاديث صفات عامة هي ثابتة لكثرة ما جاءت الروايات في تدعيم هذا الأصل العظيم ، يأتي بعض الفقرات يكون هل هذا ثابت أو غير ثابت في بعض الصفات أو غيرها هذا يتبع صحة الحديث من عدمه ، وهذا حتى في العقائد في مباحث العقيدة في صفات الله جل وعلا أو في العرش وما جاء فيه أو في العلو أو نحو ذلك تجد أن طريقة أهل الحديث – رحمهم الله تعالى – أن طريقتهم أن يحشدوا ما في الباب فيكون إيرادهم مدعماً لما في الأصل فيكون هذا التأييد كما ذكرت لك هناك تأييد إجمالي وثَمَّ تأييد تفصيلي ، فالتأييد الإجمالي بكثرة الروايات يحصل التأييد ، أما التأييد التفصيلي فمن أراد أن يحتج بكلمة على عقيدة أو على أمر غيبي فلا شك أنها لا بد أن تثبت لكن لا يمنع هذا من رويتها والاستدلال بها والاستشهاد كما هو طريقة أهل العلم – كما ذكرنا لكم .
من حيث الأحاديث التي ذكرها واضحة بينة لا تحتاج إلى مزيد بيان . الكروبيون أوضحنا لكم معناه في الدرس الماضي ، وتقاسيم الملائكة ومهمتهم كلها موضحة هنا لا يوجد إن شاء الله ما يشكل .
( باب الوصية بكتاب الله عز وجل )
(36/83)
وقول الله تعالى : (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف:3) . وعن زيد بن أرقم – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – ( خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به فحثَّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : ( وأهل بيتي ) وفي لفظ : ( كتاب الله هو حبل الله المتين من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة ) رواه مسلم .
وله في حديث جابر الطويل : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة : " وقد تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به – كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟" قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت قال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : (اللهم اشهد) ثلاث مرات .
الشرح : هذا الباب ذكره الإمام رحمه الله تعالى في أصول الإيمان لأن الإيمان بكتب الله جل وعلا ركن الإيمان فأركان الإيمان ستة والإيمان بالكتب أحد هذه الأركان الستة وأعظم درجات الإيمان بكتب الله جل وعلا الإيمان بأعظم كتب الله وأفضلها وحجتها على المكلفين بعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام وهو القرآن هو الذي أمر الله جل وعلا باتباعه وتوعد من خالفه ولم يأخذ به فقال سبحانه : (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (لأعراف:3) ، فالله جل وعلا عظَّم الأخذ بكتابه من جهة الإيمان به وتصديق ما فيه والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه .
وحقيقة الإيمان بالقرآن أنها تشمل مراتب وهذه كلها واجبة ومن معني الركنية أو داخلة كلها في الإيمان بهذا الركن :
(36/84)
المرتب الأولى : أن هذا القرآن كلام الله جل وعلا المنزّّل على عبده محمد عليه الصلاة والسلام .
المرتبة الثانية : أن القرآن حق لا باطل فيه .
المرتبة الثالثة : أن القرآن هو آخر كتب الله جل وعلا وأنه لا كتاب بعده ولا هدى يأتي من الله جل وعلا بعده لعباده ، فكما أن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين فكذلك القرآن هو خاتم كتب الله جل وعلا وحجة الله على هذه الأمة وهو الصراط المستقيم وهو حبل الله المتين من أخذ به هدي ومن تركه ضل .
الإيمان بالقرآن على درجتين : درجة واجبة والتي هي الركن من لم يأت بها فلا يصح منه الإيمان وهي التي ذكرت لك في المراتب الثلاث .
والدرجة الثانية : مستحبة وهي الإيمان بكل التفاصيل التي جاءت في القرآن أو في السنة وما جاء من تفسيرها ، فهذه مستحبة إجمالاً يعني : قبل علم الإنسان بها ، فإنه يقال : إنه يؤمن ولو لم يعلم بمل للقرآن من فضل ، ويجب الإيمان بها لمن علمها على وجه التفصيل ، وقال كثير من أهل العلم : إنها واجبة وليست مستحبة من جهة الإجمال ، فإنه يجب عليه أن يؤمن بما للقرآن من فضل علمه أو لم يعلمه – من جهة الإجمال – وإذا علم التفصيل فإنه يجب التفصيل .
وعند التحقيق القولان متقاربان لأنه في الحقيقة من جهة عملية لا فرق بينهما كبير .
(36/85)
ذكر لك حديث زيد بن أرقم وفيه وصية النبي عليه الصلاة والسلام للناس ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به ) قال : فحث على كتاب الله جل وعلا ، ثم قال : ( وأهل بيتي ) وهذه العبارة استدل بها على أن الثقلين : كتاب الله جل وعلا وأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، والمحققون من أهل العلم يقولون : إن حديث زيد بن أرقم هذا فيه اختصار ودخل كلام زيد بعضه في بعض ، وزيد في أوله كما رواه مسلم ذكر أنه نسي أشياء ، فهذا الحديث يحمل فيه قوله : ( وأهل بيتي ) أنها جملة مستقلة لا علاقة لها بالثقلين فذكر عليه الصلاة والسلام أحد الثقلين وهو كتاب الله ، ( إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله ) وسكت عن الثاني أو لم يذكره ، يعني سكت ( زيد) في سياقه عن الثاني – ثم انتقل إلى قوله : ( وأهل بيتي ) ، وهي منصوبة ومعناها : وأذكركم الله في أهل بيتي أو أوصيكم بأهل بيتي ، أو لا تنسوا أهل بيتي ، لأن التمسك في الواقع ليس هو بأهل البيت وإنما هو بما أنزل الله جل وعلا من الحجة ، وهذا ما جاء في حديث آخر رواه الحاكم وغيره : أن الثقلين كتاب لله جل وعلا وسنتي ، كما قال : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ) .
فإذاً لفظ ( أهل بيتي ) هذا يستدل به الرافضة والرواية في صحيح مسلم لكن على التحقيق لمن قرأ الحديث كله حتى في الصحيح فإنك تجد أن زيداً – رضي الله عنه – ذكر أنه نسي أشياء وذكر ما ذكر ولم يترتب الكلام ، واتفاق الأحاديث أولى من تعارضها ، وأهل البيت – لا شك – أن تقديمهم واعتقاد فضلهم ومحبتهم وأشباه ذلك أن هذ فرض على كل مسلم ، أن يحب أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ولكن أن يكون أهل البيت أحد الثقلين ويقرنون بكتاب الله جل وعلا فهذا ليس على ظاهره – كما جاءت في الرواية – وإنما دخل فيها حذف .
(36/86)
والحديث الثاني المعروف حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه في سياق حجة لنبي عليه الصلاة والسلام ذكر فيه خطبة النبي عليه الصلاة والسلام وفيها : ( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به : كتاب الله ) – ولم يذكر السنة لأن السنة في كتاب الله جل وعلا فإذا ذكر الكتاب فإن السنة مذكورة في ضمن الكتاب لأن الله جل وعلا هو الذي أوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيَّن أنه أنل عليه الحكمة وأعطاه البيان عما في القرآن .
وعن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ألا إنها ستكون فتنة ) قلت : ما المخرج يا رسول الله ؟ قال : ( كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بنك ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبَّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلَّه الله وهو حبل الله المتين . وهو الذكر الحكيم وهو الصراط لمستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الردّ ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : ( إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ) ، من قال به صدق ، ومن عمل به أُجِر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ) رواه الترمذي وقال : غريب .
الشرح : أما حديث علي ففيه وصف القرآن وهو حديث مشهور معروف عند أهل العلم ، وهذه الأوصاف التي وُصِف بها القرآن كلُّها حقٌ وكلها صواب فالقرآن موصوف بهذه الأوصاف الجليلة العظيمة ن بل كتاب الله جل وعلا كما وُصِف وأعظم من ذلك .
والحديث الصواب أنه موقوف على علي رضي الله عنه ولا يصح مرفوعاً لأنه من رواية الحارث الأعور عن علي ، والحارث ضعيف أو اتهم بأعظم من الكذِب ونحو ذلك .
المقصود : أن هذا يصح موقوفاً على علي وقد قال جمع من أهل العلم بأنه موقوف على علي أشبه بكونه مرفوعاً .
(36/87)
ولا شك أن القرآن هو المخرج من الفتنة ( ألا إنها ستكون فتنة ) يعني : جنس الفتن ، ما المخرج من الفتن إذا أقبلت ؟ كتاب الله جل وعلا ، فالذي يستمسك بما في القرآن ويؤمن بالمحكم ويدع المتشابه فقد خرج من الفتنة لأن كل فتنة تأتي لا بد لها مستمسك من بعض الحق ، ولا تأتي فتنة في المسلمين وهي واضح أنها على باطل واضح أنها من بدايتها باطل في باطل لأنها لو كانت كذلك لما اشتبهت ولما أُقرَّت ولما افتُتِن بها الناس ، فلا تكون فتنة إلا إذا كان فيها نوع لبوس حق يشتبه معه الباطل الذي فيها ولذلك الفتن من جنس البدع في ذلك فإذا أقبلت فإن الذي يأخذ بالمحكم فيها وينظر الأمر في بصيرة بما جاء في القرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يخرُج من الفتنة .
(36/88)
أما الذي يأخذ بالشبهة فإنه يقع في الفتنة لهذا فإن الفتن التي وقعت في تاريخ الإسلام من فتن الصحابة إلى يومنا هذا كل فتنة تحصل تجد أن عند الطرف المذموم عنده نوع حق لكنه ليس بصاحب حق فإن الذي معه من الباطل أكثر مما معه من الحق ولهذا فإن النظر والبصر النافذ وقت حلول الشبهات ووقت حلول الفتن إنما يكون بمعرفة كتاب الله جل وعلا وما فيه من الأوامر والنواهي ، ولهذا ذكر الله جل وعلا أهل الزيغ فقال جل وعلا في أول سورة آل عمرا ن : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ )(آل عمران: من الآية7) ، يعني : هم يقصدون الفتنة أو أن حقيقة فعلهم أنهم لما تركوا المحكم واتبعوا المتشابه لأجل الزيغ الذي في قلوبهم سلكوا الفتنة وإن لم يعترفوا بأنهم سلكوا الفتنة ، ولهذا جرى ما جرى في عهد الصحابة من فتنة الخوارج . عثمان ما قُتِل إلا بالتأويل بتأويل القرآن ولا قام معاوية رضي الله عنه على علي إلا بتأويل القرآن بتأويل قوله : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً)(الإسراء: من الآية33) ، ولا قاتل من قاتل في يوم الجمل وصفين إلا بالتأويل ، ولا سُفِك دم علي رضي الله عنه إلا بالتأويل إلى آخره فكل هذه الفتن التي حصلت وأعظمها قتل عثمان رضي الله عنه إلى آخر الفتن من التقرُّب – والعياذ بالله – إلى الله جل وعلا بالفتنة فإن هذا إنما حصل بأنواع التأويل ذلك من استمسك بالقرآن فإنه يخرج من الفتنة وهذا من نعم الله جل وعلا على الراسخين في العلم ، ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(آل عمران: من الآية7) ، فما يدخل في الفتنة إلا ناقص العلم وأما من كان علمه راسخاً أو أخذ عن الراسخين في العلم فإنه لا تنطلي عليه الفتة لأن حقيقة الافتتان اشتباه الحق
(36/89)
بالباطل ، والباطل – في الواقع – لا يشبه الحق ولهذا فإن الواجب على كل مسلم وعلى طلبة العلم بالخصوص أن يعتوا بكتاب الله جل وعلا أعظم عناية وأن يعلموا المحكمات فيه والمتشابهات وأن يعلموا ما أجمع عليه السلف من عقائدهم وما ذكروه في كتبهم وما ذكروه في مجمل السنَّة التي بينوا بها القرآن فإن الاستمساك بذلك هو تفسير الاستمساك بالقرآن فم معه القرآن فقد خرج من الفتنة .
ومن الفتنة أن يقول المفتتن للآخر أنت الذي وقعت في الفتنة لأنك لم تأخذ بالقرآن فيستدل بالمتشابه ثم يتهم غيره بأنه هو الذي افتتن عن القرآن لأنه ما أخذ بما أخذ به .
فالخوارج ذمُّوا الصحابة ن عبد الرحمن بن ملجَم رأس من رؤوس الخوارج الذي قتل علي كان من خاصَّة أصحاب عمر ولما رآه عمر في المدينة – وكان كثير التلاوة عابداً كثير القرآن يرغب في إقراء القرآن – قال لعمر : أريد أن أنفع الناس ، فكتب عمر إلى واليه في مصر – أظنه عمرو بن العاص – فقال له : إني مرسل إليك رجلاً آثرتك به على نفسي هو عبد الرحمن بن ملجَم فإذا أتاك بكتابي هذا فاتخذ له داراً يقريء الناس فيها القرآن ، فلما ذهب إلى عمرو أكرمه بإكرام أمير المؤمنين له واتخذ له داراً لكنه لم يكن فقيهاً ولم يكن عالماً يعرف المحكم والمتشابه ولم يكن عالماً بالسنة لم يأخذ عن الصحابة أخذاً كثيراً وإنما كان عنده عبادة وعناية بالقرآن بخصوصه فدخله أصحاب ابن السوداء وضللوه بأشياء وقعت من عثمان من التصرفات المالية والولايات ونحو ذلك مما عثمان فيها معذور رضي الله عنه وأرضاه – آل به الأمر إلى أن يشترك في قتل عثمان ثم يخرج ثم يصل به الأمر إلى قتل علي رضي الله عنه ولما قتله قتله احتساباً ولهذا قال شاعرهم شاعر الخوارج عمران بن حطّان عليه من الله ما يستحق قال مادحاً لعبدالرحمن بن ملجَم في قتله لعلي رضي الله عنه وأرضاه :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
(36/90)
إني لأذكره حيناً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً
فهذا مدح متأخر لقاتل علي ديانة يرون أن هذا ديانة ، قتل علي ديانة ويرون أنه أوفى البرية عند الله ميزاناً حينما خلّص الناس من أفضل من على الأرض في وقته وهو علي رضي الله عنه ، ولما أرادوا قتل عبد الرحمن بن ملجم قال لهم – وكان بعد قتل علي يسبِّح ويذكر كثيراً – فلما أرادوا قتله قال : لا تقتلوني دَفعة واحدة بل قطِّعوا أطرافي وأنا أنظر حتَّى أسبِّح الله جل وعلا وأذكره أطول ، وهذا كما قال لنبي عليه لصلاة والسلام في صفة الخوارج : ( يحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميِّة ) .
فإذاً المسألة في الفتنة ليست هي في الواقع الرجل صالح أو ليس بصالح مطيع أو غير مطيع عابد أو ليس بعابد هذه أشياء ليست هي الميزان إنما الميزان : هل هو متبِّع لكتاب الله جل وعلا بما قرَّره السلف بما قرَّره الصحابة بما قرّره أئمة الإسلام أم لم يتَّبِع ذلك فإن كان أخذ بهذا فهو الناجي وإلا فإن الفتن كثيرة والاحتجاج بالشبهات كثيرة ، لهذا قال تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتَّبعون ) فالحظ وجود الزيغ قبل المتشابه ، ولو لم يكن في القلب زيغ لكان آمن بالمتشابه كما آمن بالمحكم ولم يشتبه عليه الأمر .
فالحقيقة أن المخرج من الفتنة هو كتاب الله جل وعلا وما فيه من الأحكام – الأمر والنهي وما فيه من الأخبار والعقائد وهذه المسألة عظيمة عظيمة جداً لكن الله جل وعلا ابتلى عباده بالفتن والأقوال المضلَّة لينظر من يتبع القرآن ومن يتبع هواه والله المستعان .
أنجانا الله وإياكم من الفتن المضِلَّة ما ظهر منها وما بطن اللهم ألزمنا السنة قولاً وعملاً واعتقاداً ونعوذ بك من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدى اللهم ثبتنا يا كريم .
(36/91)
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً : ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ن وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية , فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)(مريم: من الآية64) ) رواه البزَّار وابن أبي حاتم والطبراني .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط داعٍ يقول : استقيموا على الصراط ولا تعوجوا وفوق ذلك داعٍ يدعوا كلما همَّ عبدٌ أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلِجْهُ ) ثمَّ فسَّره فأخبر أن الصراط المستقيم هو الإسلام ، وأن الأبواب المفتَّحة محارم الله وأن السُّتور المرخاة حدود الله ، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كلِّ مؤمن ) رواه رزين ، ورواه أحمد والترمذيُّ عن النواس بن سمعان بنحوه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ )(آل عمران: من الآية7) ) ، إلى قوله : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(آل عمران: من الآية7) ، قالت : قال : ( فإذا رأيتم الذين يتَّبعون ما تشابه منه لإأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) . متفق عليه .
(36/92)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّاً بيده ثم قال : ( هذا سبيل الله ) ثمَّ خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال : ( هذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه وقرأ : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153) رواه أحمد والدارمي والنسائي .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن أحمق الحُمْق وأضلَّ الضلالة قوم رغِبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى نبي غيِر نبيِّهم وإلى أمةٍ غير أمتهم ثم أنزل الله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:51) . رواه الإسماعيلي في معجمه وابن مردُويَهْ .
وعن عبد الله بن ثابت ببن الحارث الأنصاري رضي الله عنه قال : دخل عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم : بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيُّراً شديداً لم أر مثله قطٌّ . فقال عبد الله بن الحارث لعمر رضي الله عنهما : أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: رضينا بالله ربَّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً فسرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم أنا حظُّكم من النبيين وأنتم حظِّي من الأمم ) رواه عبد الرَّزاق وابن سعد والحاكم في الكنى .
(36/93)
الشرح : هذه الأحاديث فيها ذكر أوصاف للقرآن والوصية بكتاب الله جل وعلا وهذه الوصايا من النبي عليه الصلاة والسلام والأوصاف تجمع للقرآن أوصاف الهداية والتشريع وما هو في باب الأخبار وما هو في باب الأحكام .
الحديث الأول في باب الأحكام قال : : ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ن وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ) فهذا في باب الأحكام ،لا شك أن المرجع في الحكم إلى القرآن فما وجدناه في القرآن حلالاً أحللناه وما وجدناه في القرآن حراماً حرمناه وما حرمه النبي عليه الصلاة والسلام هو في القرآن كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لما ذكر لعن الله جل وعلا للنامصة والمتنمصة ، قال : وإن ذلك لفي كتاب الله . قالت امرأة : إني عرضت ما بين دفتي المصحف فلم أجد فيه ما تقول ، قال : لئن كنت عرضتيه قد وجدتيه ألم تقرئي قول الله جل وعلا : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لعن .... ) إلى آخره ، فاللعن الذي في هذا الحديث ما جاء في القرآن وابن مسعود قال إنه في القرآن ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي لعن وهو الذي أخبرهم ، فهذا الحديث وأمثاله ما فيه ذكر القرآن ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام ) السنة داخلة مما أحل الله في كتابه أو ما حرم في كتابه ولا يصدق هذا على ما جاء في الحديث الآخر : ( أنه يوشك رجل شبعان على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول ك ما وجدنا في كتاب الله من حلال أحللناه وما وجدا من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ) فهذا باب آخر .
(36/94)
فهذا وصف للقرآن في باب الحكم والتشريع والتحليل والتحريم ، فلوصية إذاً لمعرفة الحلال والحرام والحكم به ألا يخوض الناس بآرائهم بل عليهم بهذا القرآن والشيء إذا ما ذكر في القرآن فالأصل فيه أنه عفو ، إذا لم يذكر في القرآن لا نص ولا مضمون ولا في السنة فالأصل أنه عفو كما قال هنا : ( وما سكت عنه فهو عافيه فاقبلوا من الله عافيته ) هذا أصل شرعي عظيم لأن الأصل في الأشياء العفو ، الأصل في الأشياء عدم التحريم ، الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا ورد دليل في ذلك بالتحريم والواحد ما يتكلم في الأدلة لأن تحريم الحلال كتحليل الحرام ، بعض الناس يتورع ويخاف ويحصل عنده رعدة شديدة إذا أراد أن يقول إن الزنا حلال – لا شك لأن ذلك كفر – أو يقول إن مقدمات الزنا حلال أو يقول إن الربا أو صور الربا إنها حلال هذا يرتعد منه ويخاف لأنه يعلم أن هذا تحليل محرّم ، كذلك تحريم الحلال أيضاً محرم ومن القول على الله لا علم ، والقول على الله جل وعلا بلا علم أعظم من الشرك – يعني : من حيث الجنس – لذلك جعله الله جل وعلا آخر المراتب فقال : ( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(لأعراف: من الآية33) ، فالقول على الله بلا علم كتحليل الحرام أو تحريم الحرام كذلك ، ولهذا ما يجوز لأحد أن يقول : هذا الشيء حرام إلا وعنده برهان واضح ، ولهذا تجد أهل الورع من أهل العلم والفتوى والذين يخافون على أنفسهم لا تجدهم يستعملون ( هذا حرام ) إنما يقولون : هذا ما يصلح ن اتركه ، نكرهه أو مثل ما يقول الإمام أحمد : ( أكرهه ) الكراهة التي استعملت في كلام العلماء وجاء الفقهاء في تفسيرها وقالوا : إنها كراهة تحريم ، لأنه أحياناً ما يكون عنده نص واضح فيها ولا يجوز له أن يصف شيئاً بالحرمة وهو ليس عنده من الله برهان واضح في ذلك ثَمَّ حساب تقول على الله بلا علم ، حرم الله جل
(36/95)
وعلا هذا ما هو برهانك على أن هذا حرام ؟ لهذا ينبغي على المرء جداً في الكلام ، إذا كان من باب الإرشاد : هذا ما يصلح اتركها .. كذا ، لكن لا يحرم شيء ما عنده فيه بيِّنة واضحة من الله جل وعلا لأن هذا قول على الله جل وعلا بلا علم .
الحديث الثاني : فيه مثل عظيم من الأمثال التي ضربها النبي عليه الصلاة والسلام للقرآن فقال في وصفه : (( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة ) ، هذا الصراط المستقيم هو : القرآن ،(وعلى جنبتي الصراط سوران ) ، السوران : يعني أنه يوجد حاجز على اليمين والشمال فالمرء ماش على الصراط بمقتضى الفطرة مقتضى إيمانه ، لكن ثم أبواب مفتحة والنفس يغريها الباب المفتوح أنها تلتفت إليه وتلج وتنظر ما ذا فيه ، قال : (وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة ) الأبواب المفتَّحة أيضاً ما تركها الله جل وعلا مفتحة لكن جعل عليها ستور مرخاة فتحتاج إلى جرأة إنك تفتح الستر وتزيله وتدخل لتنظر قال : ( على الأبواب ستور مرخاة ) ، فالأبواب عليها ستور والستور تحجز من أنك ترى فأنت منشغل بالقرآن باتباعه والأنس به منشغل بهذا الأمر العظيم الذي تنادى عليه وهذه أبواب مفتحة لكن عليها ستور يعني : مثل المساكن التي تستر أهلها على ما فيها من النظر إليها ، فالله جل وعلا بعظم القرآن في نفوس أهله وعظم الإيمان في نفوس أهله جعل ثمة حاجز يجده كل مؤمن في نفسه أن يلتفت إلى أبواب الذنوب المختلفة التي جعل الله عليها ستوراً لا بد من كشفها لا يمكن أن تلج إلا أن تكشف واحد بمحض اختيارك وإلا بينك وبينها شيء في نفسك لا تقبل عليه لكن يأتي الشيطان وتأتي حظوظ النفس فتدخلها فالقرآن مُثِّل بهذا التمثيل العظيم ، قال : ( وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط داعٍ يقول : استقيموا على الصراط ولا تعوجوا وفوق ذلك داعٍ يدعوا كلما همَّ عبدٌ أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا
(36/96)
تفتحه فإنك إن تفتحه تلِجْهُ ) ثمَّ فسَّره فأخبر أن الصراط المستقيم هو الإسلام ، وأن الأبواب المفتَّحة محارم الله وأن السُّتور المرخاة حدود الله ، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كلِّ مؤمن ) ، الصراط هو : الإسلام والقرآن مثل في تفسير الصراط المستقيم كل هذه ألفاظ متقاربة فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل الداعي هو القرآن والصراط هو الإسلام ، يعني : من حيث الإستقامة عليه ، والقرآن لا شك أنه يأمر وينهى فهو داعي : ( يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة ) ، (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم ) إلى آخره ، دعوة أمر نهي والإسلام في النفس وواعظ الله في قلب كل مؤمن
قوله : ( رواه رَزِين ) والمراد برزين – كما هو معروف لديكم أنه : رزين بن معاوية العبدري ، جمع الأصول الخمسة وكان له فيها زيادات على الصحيحين وعلى السنن لذلك تارة يزيد الرواية ويزيد اللفظ وتكون في أحد السنن مثل ما قال هنا : ( رواه رزين ورواه أحمد والترمذي ) وإذا كان موجود في مصنف رزين فإنه يكون في أحد الأصول الخمسة إلا ما زاده رزين عليها ولذلك تجد في جامع الأصول في عدد من الأحاديث يقول رواه رزين ولا يذكر غيره من أصحاب الكتب .
(36/97)
حديث عائشة في اتباع المحكم وترك المتشابه بأنه يجب أخذ القرآن المحكم وترك المتشابه واضح والأحاديث بعدها واضحة ، أما ما جاء في ذكر قراءة التوراة وذكر الحديثين فيه : حديث عبد الله بن ثابت الأنصاري وحديث أبي هريرة فإن فيها النهي عن قراءة التوراة والإنجيل لأننا أُعطينا القرآن والوصية بالقرآن ولا يجوز لأحد ولا يحل له أن ينظر في التوراة والإنجيل نظراً للقراءة ، لكن أباح العلماء للعلماء أن ينظروا فيها للرد على اليهود والنصارى ولإقامة الحجة عليهم أخذاً من إقرار النبي عليه الصلاة والسلام طلب عبد الله بن سلاّم في أن يؤتى بالتوراة لمعرفة حد الزاني فوضعوا يدهم على آية الرجم ، والله جل وعلا يقول : ( قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(آل عمران: من الآية93) ، فهذا في مواضع الرد عليهم لا لمجرد القراءة إعمالاً للدليل فيما جاء فيه .
(36/98)
أيضاً مما له حكم التوراة والإنجيل كل ما فيه إضلال عن هدي النبي عليه الصلاة والسلام وسنته من الكتب المضلة ككتب السحر والكهانة وضرب الرمل وكتب الضلال المختلفة في ذكر النجوم والأفلاك وتأثيراتها أو كتب الصابئة أو كتب الوثنيين في الاطلاع عليها ، هذه لا شك أنها كلها من الدين الباطل أصلاً ، والتوراة والإنجيل فيها تحريف ، تحريف ألفاظ وزيادات وفيها حذف إلى آخره ، ففيها حق كثير ولذلك نؤمن بأصل التوراة والإنجيل الموجودة هذه التي أنزلها الله جل وعلا نؤمن بها ولا نكذب بشيء مما أنزل ربنا لكن هذه لما جاء فيها التحريف وصارت الرسالة من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة لم يجز النظر فيها كيف يجوز النظر في كتب الوثنيين وكتب أهل السحر والشعوذة ونحو ذلك ، ولهذا ضل قوم زعموا أن تعلُّم الأوقاط جائز وأن النظر في هذه وتعلمها للردع أنه لا بأس ونحو ذلك ، لا شك أن هذا من أبطل الباطل فلا يجوز لأحد أن يقرَّ ذلك ولا أن ينظر فيه هو إلا لعالم يريد الردِّ أو عالم يريد إيضاح الشريعة عالم مأمون على ذلك يريد الرد فإن هذا يجوز بشرطه دون غيره .
هل يقاس على التوراة استماع للإذاعات التي تتحدَّث عن دين النصارى وعقائدهم ؟ طبعاً ، لا شك بل تلك أخطر لأن فيها دعاية وفيها أسلوب قد يكون مؤثراً فالاستماع لهم في بعض الإذاعات التي تنشر دينهم لا شك أن هذا أعظم في التأثير في قراءة التوراة مجردة لأن هذه يصبغونها بدعاية وبألفاظ جميلة وربما بأصوات حسنة تغري السامع ، فالمسلم يجب عليه أن يحافظ على دينه .
(36/99)
وسألت مرّة بعض الصالحين من أهل العلم – وأهل العلم إن شاء الله جميعاً فيهم صلاح – قلت له وهو موجود حي – الله يثبتنا وإياه وينفعنا وإياه – قلت له : كيف الحال عسى الأمور مطمئنة وزينة ، قال : الواحد ما يرتاح إلى أن يموت . وهذه كلمة ليست سهلة ، وفعلاً والمؤمن لا يرتاح حتى يموت لأنه يطمئن ، ولأن الحياة تقلُّب فالرجل يصبح مؤمناً قد يمسي غير ذلك فالواحد لا يرتاح ولا يطمئن إلا إذا جاءه الأجل وهو ثابت ، هذا الاطمئنان هذا القلب الحي والقلب عرضة للتقلب والتنقل واليوم المغريات كثيرة والشهوات والشبهات أكثر الآن ن والشهوات تأثيرها وقتي يروح ويجيء لكن الآن الشبهات كثيرة شبهات في أصل دين الإسلام وشبهات من المسلمين فيما بينهم على التمسك بالهدى الصحيح وطريقة الفرقة الناجية وأمور كثيرة ، فالواحد فعلاً لا يطمئن حتى يلقى الله جل وعلا وهو ثابت وعسى الرب جل جلاله أن يكرمنا وإياكم بعفوه ومنته ورحمته فنحن ضعفاء لفضله ولو وُكلنا أو إلى علمنا أو إلى ما قدمنا سنهلِك ، لكن ما ثّمَّ إلا عفو الله جل وعلا ، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة إنك سميع قريب .
باب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
وقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: من الآية59) الآية ، وقول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور:56) وقول الله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) الآية .
(36/100)
عن أبي هريرة رضي الله عه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ) رواه مسلم .
ولهما عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) ، ولهما عنه مرفوعاً : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) .
وعن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدِّث بحديث فيقول بيننا وبينكم كتابُ الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرَّمْناه ، ألا وإن ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرَّم الله ) رواه الترمذي وابن ماجه .
الشرح : هذا الكتاب هو كتاب أصول الإيمان للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رفع الله درجته مع الصديقين والشهداء والصالحين وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء بما بيّن وجاهد وعلّم وترك الناس بعده على سنة محمد عليه الصلاة والسلام .
في هذا الكتاب يبيِّن أصول الإيمان وهي المراد بها أركان الإيمان ويريد بها أيضاً شعب الإيمان العظام التي هي أصول بالنسبة إلى غيرها ، لأن الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان .
شعب الإيمان لها أصول هذه الأصول هي التي تجمع شعباً كثيرة كل أصل يجمع شعباً كثيرة لهذا ذكر إمام الدعوة رحمه الله هذا الباب : باب حقوق النبي عليه الصلاة والسلام وهذا بالنظر إلى جهتين :
(36/101)
الجهة الأولى : أن أركان الإيمان منها : الإيمان بالرسل ، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وقد ذكر قبل ذلك الإيمان بالله وذكر الصفات وما يتصل بذلك ثم ذكر الإيمان بالملائكة والإيمان بالقرآن ، ثم ذكر هنا الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام ، والإيمان به عليه الصلاة والسلام هو أحد أركان الإيمان وأحد ركني الشهادة التي هي الواجب الأول والفرض الآكد في الشريعة .
الجهة الثانية : أن حق النبي عليه الصلاة والسلام تدخل فيه شعب كثيرة أو تتفرع منه شعب كثيرة من جهة الإيمان به ومن جهة متابعته عليه الصلاة والسلام وتقديم قوله وسنته والاستدلال بها وطاعته عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك من شعب الإيمان .
لهذا ذكر الإمام – رحم الله – هذا الباب : باب حقوق النبي عليه الصلاة والسلام لتعلقه بأصول الإيمان من الجهتين .
(36/102)
حقوق النبي عليه الصلاة والسلام متنوعة كثيرة دلت الآية والأحاديث على أنواع من الحقوق له عليه الصلاة والسلام فأعظم حق له عليه الصلاة والسلام وأوجب حق له : الإيمان بأنه رسول من عند الله جل وعلا صادق مصدوق وأن ما جاء به حق من عند الله جل وعلا ، فالشهادة له بأنه رسول الله وأنه عبد الله ورسوله هذا من أعظم حقوقه عليه الصلاة والسلام ، لهذا أعظم الحسنات : حسنة التوحيد ، وحسنة التوحيد التحقق بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كما أن أبشع السيئات سيئة الشرك لهذا أعظم حق له عليه الصلاة والسلام هو الإيمان به والشهادة بأنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين وأنه بلّغ ما أمره الله جل وعلا ببلاغه ، وأنه جاهد في اله حق جهاده فحقه عليه الصلاة والسلام أن يؤمن به وأن يشهد له بالشهادة الحق ، ثم من ثمرات ذلك أن يطاع عليه الصلاة والسلام كما قال جل وعلا : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: من الآية59) ، فجعل جل وعلا طاعة الله وطاعة رسوله تجب استقلالاً لما لله جل وعلا من حق عظيم في طاعته ولما لرسوله عليه الصلاة والسلام من حق – أيضاً – عظيم في طاعته إذ هو المبلِّغ عن الله جل وعلا ، لهذا قال العلماء : كرّر الله جل وعلا الفعل (أطيعوا ) في حق الله وحق رسوله ولم يأت به في حق ولاة الأمر فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59) فأمر بطاعة الله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) كذلك كرّر الفعل ولما جاء إلى ولاة الأمر قال : ( وأولي الأمر منكم ) ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم ، لأن طاعة الله تجب
(36/103)
استقلالاً فيما قاله الله جل وعلا في القرآن وأمرنا به أو نهانا عنه ، كذلك طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تجب استقلالاً لأنه عليه الصلاة والسلام المبلّغ عن الله وفي الأحاديث أحكام وأخبار وأوامر وأشياء ليس في القرآن وأما ولاة الأمر فإن طاعتهم واجبة في غير المعصية ولكنها طاعة تبع لطاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ لا تجب طاعتهم استقلالاً فهم لا يستقلون بما يأمرون به أو ينهون عنه بل لا بد أن يكون ما أمروا به أو نهوا عنه أنه معروف في الشريعة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام – لما ذكر الطاعة - : ( إنما الطاعة في المعروف ) يعني : فيما يعرف في الشريعة أما إذا أمروا بشيء مخالف لما أمر الله جل وعلا به وما أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام – يعني : في معصية – فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
والمقصود : أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم حقوقه عليه الصلاة والسلام ولهذا ألّف الإمام أحمد كتاباً في طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو كتب نفيس نقل عنه الإمام ابن القيِّم نقولاً كثيرة في كتابه : معالم الموقِّعين عن رب العالمين أو إعلام الموقعين عن رب العالمين ، ونقل أيضاً عنه في بدائع الفوائد وفي غيره ، قال الأمام أحمد : ذكر الله في طاعة رسوله عليه الصلاة والسلام في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن وهذا لا شك مما يؤكد الأمر جداً .
(36/104)
ما معنى طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ معناها : أن تقدِّم سنته على الأهواء وعلى العقول وعلى الآراء المختلفة ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) ، وأن يُحكم في الكتاب والسنة في الإنسان نفسه ، يعني : يحكم بهما في نفسه ، وكذلك في أقضية الناس وما يُفصل فيه بينهم وسواء في ذلك المسائل العلمية أو المسائل العملية ، ولهذا جاء الفلاسفة والمتكلمون من المعتزلة وأصناف المتكلمين جاءوا ولم يحكموا في الواقع السنة وإنما عارضوها بعقولهم فقد فرّطوا في حق عظيم للنبي عليه الصلاة والسلام .
فإذاً حق النبي عليه الصلاة والسلام أن يُطاع وطاعته ومحبته عليه الصلاة والسلام تبعاً لطاعة ومحبة الله جل وعلا لأنه رسول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه .
ومن حقه عليه الصلاة والسلام الذي ذكره إمام الدعوة هنا ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : ( ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما) ،( أحب إليه مما سواهما ) مثل ما جاء في الحديث الآخر الذي ذُكر وهو قوله : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) . حتى من نفسه ، يعني : من جهة الطاعة ومن جهة المحبة له عليه الصلاة والسلام .
(36/105)
كذلك من حقوقه التي دلَّ عليها الحديث الآخر حديث المقدام بن معدي كرب أن سنته من جهة الاتباع قرينة القرآن ، فالاتباع للكتاب والسنة ، نعم كلام الله أعظم لأنه كلامه جل وعلا وسنة النبي عليه الصلاة والسلام هي أيضاًَ وحي من عند الله جل وعلا كما قال حسان بن عطية : كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن . وهذا هو معنى قوله في حديث المقدام بن معدي كرب : ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله ومعه ) ، مثل القرآن : يعني ما يشتمل عليه من الخبر والأمر والنهي ، فالقرآن مشتمل على الأخبار والأوامر والنواهي التي يجب اتباعها ويجب تصديق الأخبار كذلك السنة مثل تصديق الأخبار أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على الأخبار التي يجب تصديقها والإيمان بها والأمر والنهي الذي يجب اتباعه .
فمن ردَّ السنة أصلاً كحال طوائف من الخوارج والمتكلمين أو الفلاسفة والقرآنيين فهؤلاء قد فرَّطوا في حق النبي عليه الصلاة والسلام ومن ترك بعض السنة فقد فرّط أيضاً فيما يجب أن يقوم به من حق النبي عليه الصلاة والسلام .
فلهذا الوصية لنفسي وللجميع بأن توطَّن النفس على قبول ما جاء في السنة وعلى اعتقاد ما صح في السنة عنه عليه الصلاة والسلام وعلى طاعة نبينا عليه الصلاة والسلام وألا نقدِّم الآراء والأهواء على ما جاء في سنته عليه الصلاة والسلام ، قد يغفل الإنسان وقد يذنب وقد يخالف لكن لا بد من هذه العقيدة : أن يعتقد وجوب الاتباع وأنه لا يخالف ولا يذهب إلى الهوى مخالفة إلى آخره ، وأن حقه عليه الصلاة والسلام في طاعته وطاعة سنته وأنه أوتي مثل القرآن التي هي السنة والحكمة إلى آخر ذلك .
ولقد أحسن ابن القيم – رحمه الله – إذ قال :
فوالله ما خوفي الذنوب فإنها لعلى سبيل العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن
يعني : الكتاب والسنة .
(36/106)
هذه هي المصيبة العظيمة ، الذنب قد يكون أخف ، وقد يكون من الكبائر ، لكنه يكون أخف بكثير من رد السنة وعدم المبالاة بها .
نسأل الله جل وعلا لنا ولكم الثبات ولإخواننا المسلمين التوفيق للهدى والرشاد .
(باب تحريضه – صلى الله عليه وسلم – على لزوم السنة والترغيب في ذلك وترك البدع والتفرُّق والاختلاف والتحذير من ذلك)
وقول الله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (الأنعام: من الآية159) الآية ، وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى: من الآية13) الآية .
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وَعظََنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجِلَت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فما تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه ، وفي رواية له : ( لقد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنهابعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ) ثم ذكر بمعناه .
الشرح : هذا الأصل من أعظم أصول الدين ومن أعظم ما يؤمر به ويُحَضُّ عليه وهو أن يُحَرَّض ويؤُمر بلزوم السنة وترك البدع والتفرُّق .
(36/107)
والسنة : تشمل الاعتقاد بعامة وتشمل متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة وفي الأمر والنهي ولهذا السنة يُعبَّر بها تارة عن التوحيد فيقال : التوحيد والسنة بمعنى واحد والعقيدة ، وتارة يُعبَّر بالسنة عن أوامر النبي صلى الله عليه وسلَّم ونواهيه التفصيلية .
والمراد بقوله : ( باب تحريضه صلى الله عليه وسلَّم على لزوم السنة ) يعني : على لزوم ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي في الاعتقاد والتوحيد وكذلك في الأمور العملية ، فكل المسائل العلمية والعملية يجب فيها لزوم السنة لأن الأصل لأننا لم نعلم شيئاً عن ذلك لا الأمور العلمية ولا الأمور العملية إلا بواسطة النبي عليه الصلاة والسلام ، ولهذا كل مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة والتوحيد فهي مخالفة في السنة فكل أمرٍ أَمَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العملية مخالفته مخالفة للسنة ، وكل ارتكاب نهي أيضاً مخالفة للسنة ، فإذاً قول الشيخ رحمه الله : ( باب تحريضه صلى الله عليه وسلم على لزوم السنة ) يريد به المعنيين :
السنة بالمعنى العام الذي هو التوحيد والعقيدة ، ويريد به أيضاً المعنى الخاص – كما سيأتي – في الأحاديث .
ويقابل السنة : البدعة ، والبدع تارة تكون في الاعتقاد – يعني في الأمور العلمية ، وتارة تكون في الأمور العملية . فكما أن السنة منقسمة فضدها - يعني : البدعة – منقسم .
ولهذا عُرِّفَتْ السنة بأنها : ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر به في العلم أو العمل .
والبدع : هي ما خالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في العلم أو العمل .
والبدعة عُرِّفَت بتعريفات كثيرة معلومة لديكم ، وأصح التعاريف فيها هو ما يُدْخِل المسائل العلمية والعملية جميعاً ، فنقول : هذا قول أهل البدع مع أنها ليست من المسائل العملية مما هي من المسائل الاعتقادية لأن البدعة في الاعتقاد .
(36/108)
فتعريف الشاطبي المشهور : بأن البدعة طريقة في الدين مخترعة ... إلى آخره ، هذا يشمل ما يُلتزم م الأمور الاعتقادية ومن الأمور العملية لأن الدين يشمل هذا وهذا .
والمقصود من ذلك : أن الأمر بلزوم السنة هذا نهي عن البدعة ، والنهي عن البدع أمر بلزوم السنة في المسائل العلمية والعملية فكل هذا من أصول الدين بل هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله ، ولهذا كل عالم أو طالب وكل من ورِث علم محمد عليه الصلاة والسلام فإنه يقوم مقامه هذا في الدعوة إلى لزوم السنة وترك البدع والتفرُّق والاختلاف .
(36/109)
التفرُّق والفُرقة قد تكون فُرقة في الدين وقد تكون – أيضاً – فرقة في الجماعة يعني : جماعة الأبدان ، ولهذا ذكر الله جل وعلا التفرُّق كما سيأتي معك في الآيات ويراد به الفرقة في العقيدة والتفرق في العلم قال جل وعلا : (مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(الشورى: من الآية14) ، وقال جل وعلا : (ِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(الأنعام: من الآية159) ، وقال : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ )(النساء: من الآية150) ، فالتفرق إذا –وهو ما يقابل الجماعة – هذا من لوازم الابتداع سواؤ كانت البدعة كفرية أو البدعة فيما دون ذلك ، فكل بدعة فُرقة وكل فرقة لا بد أنها خلاف واختلاف ، فلهذا ترى أن في نصوص الشريعة أن ثَمَّ تلازم ما بين لزوم لسنة ولزوم الجماعة ، فمن لَزِم السنة لَزِم الجماعة ، والجماعة بالمعنيين : جماعة الدين – يعني اجتماع الدين وعدم التفرق فيه كما ساق لك الإمام آية الشورى وهي قوله جل وعلا : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى: من الآية13) ، لأن دين الأنبياء واحد ( الأنبياء إخوة لعَلاَّت الدين واحد والشرائع شتى ) ، فدينهم الذي هو العقيدة والتوحيد الذي هو مبني على أصول الإيمان الستة هذا مجتمع عليه بين الرسل ، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرِّه ، الإيمان بهذه الأركان الستة وما دلَّت عليه هذا هو الدين الذي اجتمعت عليه الرسل جميعاً هو الدين الواحد ، أما الشرائع فمختلفة كصفة الصلاة وصفة الصيام صفة الحج ، والوضوء والطهارة وأحكام النجاسة والبيع والشراء إلى آخره هذه الشرائع مختلفة كما قال :
(36/110)
( الدين واحد والشرائع شتى ) .
فالمقصود من هذا : أن يتأصل أصل عند كل مسلم وهو أن السنة ملازمة للجماعة وأن البدعة ملازمة للفرقة ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب ، ولهذا لم تتفرق الأمة في أبدانها إلا لما تفرقت في العلم ، لم يحصل التفرق في الأبدان أولاً ثم حصل التفرق في العلميات ثانياً لا ، لما حصل في أول الزمان لما ظهرت الخوارج كان الأصل تفرق في الدين- يعني : في المسائل العلمية – فتبعه تفرق في الجماعة - يعني : في المسائل العملية – وعدم لزوم جماعة المسلمين وإمامهم .
ولهذا كل دعوة إلى العلم النافع كل دعوة إلى معرفة الحق في المسائل العلمية كل دعوة إلى لزوم العلم والكتاب والسنة وتعلم العلم النافع هذه تؤول بصاحبها بل بالناس إلى لزوم السنة ونبذ الفرقة ولزوم الجماعة فلا يحدث تفرق في الأبدان وفتن وهرج ومرج في الناس إلا إذا تركوا المأمور به من لزوم السنة .
لهذا من ترك فإما أن يكون جاهلاً وإما أن يكون مقصراً ، والمقصر لا يعذر ، مقصر في العلم ومعرفة ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العلمية يعني في العقيدة وفي الاعتقاد وهو يمكنه ذلك وبين يديه فإنه قد لا يعذر وهو على هذا النحو فلهذا صار أهل البدع هم شر الناس يعني شر أهل القبلة هم أهل البدع وجاء فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) ، فأعظم ما يدعى إليه ويحرض عليه دائماً وأبداً ونبذ البدع لأن لزوم السنة معناه : لزوم العلم النافع ولزوم طريقة الصحابة رضوان الله عليهم لأئمة وهذا فيه الاجتماع والائتلاف وعدم الاختلاف .
(36/111)
ترى مثلاً في هذا الوقت لما كثرت الأقوال والآراء وإعجاب كل ذي رأي برأيه حتى – مع الأسف ونسأل الله العفو والغفران وأن يجنبنا ضلال الضالين – حتى في المسائل العقدية أصبح هناك اجتهادات وأصبحت أقوال تأتي جديدة إما في المسائل العظام وإما في المسائل التي كان عليها الأئمة من قبل وانتهى الأمر فظهرت فرقة ، لماذا جاءت الفرقة ؟! لأنه ما لزمت السنة تماماً وأقوال الأئمة في المسائل العلمية .
إذاً فالدعوة إلى العلم والسنة ومعرفة ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم هو دعوة إلى الاجتماع وعدم التفرق لهذا من أعظم الذنوب الفُرقة ومن أعظم الأصول التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماع في الدين والاجتماع في الأبدان وعد الاختلاف في ذلك .
قال جل وعلا : : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) ، والأُسوة الحسنة : يعني الائتساء الحسن والاقتداء الأفضل ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو من يُقتدى به في العلم والعمل عليه الصلاة والسلام .
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (الأنعام: من الآية159) وجه الدلالة منه : أن الله تعالى ذمَّ التفرق بقوله : ( لست منهم في شيء ) يعني : هؤلاء الذين فرقوا دينهم أنت لست منهم في أي شيء في أي خصلة ( لست منهم ) يعني أنهم ليسوا معك في أي خصلة لأن أصل الدين : هو الأمر بالاجتماع فيه وعدم التفريق في المسائل العلمية هذا نتبع فيه الدليل وهذا لا نتبع فيه يعني المسائل العلمية الكبار التي هي مسائل العقيدة والسنة .
(36/112)
كذلك قوله : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) فإذاً الفرقة فيما دلت عليه الآيات يراد بها تارة : الفرقة في الدين يعني : الفرقة في العلم في العقيدة والتوحيد في مسائل الإيمان ن ويراد بها : الفرقة في الأبدان .
حديث العرباض بن سارية حديث عظيم يحفظه الجميع لعظم شأنه وعظم الاستدلال به في كل موقع . قال رضي الله عنه : : وَعظََنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجِلَت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فما تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ... ) الحديث . قوله : ( وعظنا موعظة بليغة ) الوعظ والموعظة في الشرع يشمل العلم كله فكل علم موعظة والقرآن كله موعظة ، فالوعظ في النصوص لا يختص بالترغيب والترهيب أو بذكر أمر الجنة والنار أو بالزهديات ونحو ذلك ، ودليل ذلك قول الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57) ، والموعظة التي جاءت من الله والشفاء هو : القرآن ويشمل المسائل العلمية ويشمل الأمر والنهي ، وكذلك في غير ذلك من الآيات التي فيها ذكر الموعظة.
فالرسل وعظوا أقوامهم كما قال سبحانه في الأمر والنهي : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً )(لأعراف: من الآية164) ، ( لِمَ تَعِظُونَ ) : الموعظة التي حصلت بالنهي ، نهوهم عن فعلهم بالاعتداء بالسفك فصار النهي موعظة . إذاَ الأمر بالمعروف موعظة والنهي عن المنكر موعظة في النصوص الشرعية ، العلم والعقيدة موعظة لأن هذه كلها إذا استقبلها المرء استقبالاً حسناً فإنها تعظه ويكون في قلبه خوف وإجلال لربه جل وعلا .
(36/113)
فإذاً قوله : ( موعظة بليغة ذرفت منها العيون ) هذه تشمل المسائل العلمية والمسائل العملية والتخويف من النار والترغيب في الجنة إلى آخر ذلك .
قال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً ) هذا تخصيص بعد التعميم لأن الوصية بتقوى الله تشمل الخوف من مخالفة السنة والتي منها التباين والبعد عن السمع والطاعة .
قوله : ( والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشياً ) لأن الأصل أن السمع والطاعة يكون لولاية الاختيار ، وولاية الاختيار هذه تكون في قريش كما قال عليه الصلاة والسلام : ( الأئمة من قريش ما بقي في الناس اثنان ) يعني : إذا كان الأمر أمر اختيار أما إن كان الأمر أمر تغلب فالولاية أيضاً شرعية يعني : قام قائم فغلب الناس بسيفهم أو يوجد من هو الأصلح من قريش فإن الأمير يطاع والإمام يطاع سواء كان من قريش أو ليس من قريش .
فإذاً الولاية ولايتان – في عقيدة أهل السنة والجاعة - :
1- ولاية اختيار : وهي التي يجتمع لها أهل الحل والعقد فيختارون من فيه صفات الإمام الكاملة من كونه قرشياً عالماً قادراً على أعباء الولاية من الجهاد ونصرة الدين ونحو ذلك سليماً من الآفات أو النقائص مثل عدم السمع والرؤية في البصر ونحو ذلك هذه تسمى ولاية اختيار ، كما فعلوا لما ولى أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه الولاية بعده وكما فعل النفر الستة من الصحابة لما ولوا عثمان رضي الله عنه بعد عمر رضي الله عنه .
(36/114)
2- فأما ولاية التغلب فهي التي لا تجتمع فيها الشروط لكنه تغلب فتجب طاعته والسمع له وله حقوق الإمام من قريش تامة لكن الولاية تامة لهذا قال هنا : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ) يعني : وأوصيكم بالسمع والطاعة ، ( وإن كان عبداً حبشياً ) يعني : حتى ولو وصل الأمر إلى أن يكون الذي تولى ليس من العرب وليس من قبائلها وليس من أشراف الناس بل كان عبداً حبشياً فاسمع وأطع لآن المقصود من السمع والطاعة هو تحصيل الاجتماع في الدين فثم تلازم عظيم بين الاجتماع في الدين والاجتماع على الولاية ، فلا يحصل الاجتماع في الدين إلا بالاجتماع على الولاية وإذا تفرق في الدين تفرق الناس في الولاية وإذا تفرق الناس على الولاية لم يحصل ما أمر الله جل وعلا به من الاجتماع في الدين فهذا يؤول إلى هذا وهذا يؤول إلى ذاك .
وعلل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله : ( وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ) يعني : اختلاف كثير في أمر الدين وفي أمر الولاية وفي أمر الحقوق سيرى اختلافاً كثيراً عما يعلمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( فعليكم بسنتي ) إذا رأيتم الاختلاف عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء تأمر بالاجتماع وتنهى عن الفرقة وتأمر بالسنة وتنهى عن البدع وتأمر بالعلم النافع والعمل الصالح .
(36/115)
قوله : ( وإياكم ومحدثات الأمور ) المقصود بالمحدثات : في أمر الدين أما المحدثات في أمر الدنيا وهي التي تدخل في أحوال الناس أو تكون من باب المصالح المرسلة فليس من البدع المذمومة لأن المحدثات قسمان : محدثات في الدين وهذه هي المرادة بهذا الحديث ( وإياكم ومحدثات الأمور ) يعني في الدين ( فإن كل محدثة بدعة ) يعني : في الدين ، وهناك محدثات في أمور الدنيا مثل الأبنية ومثل طريقة الأكل ، وتنوع المآكل ونوعيته ومثل تأليف الكتب والدوواين وتنظيم أمور الدولة ونحو ذلك مما حصل بداياته في عهد عمر رضي الله عنه ثم تطور إلى ما بعد ذلك فهذا ليس من المحدثات في الدين .
فإذاً لا يدخل في المحدثة ما كان في الدنيا والثاني ما كان من قبيل المصالح المرسلة لا تدخل في البدع فالمحدثات قسمان – كما قال الشافعي – منها ما هو في الدين وهذا هو المذموم ، ومنها ما هو في الدنيا وهذا ليس بمذموم .
قوله : ( وكل بدعة ضلالة ) هذا على عمومه بأن البدع مذمومة كلها وكلها ضلالة .
الرواية الثانية : ( لقد تركتكم على البيضاء ) عدد من الوعاظ أو مما هو شائع يأتون بزيادة ( تركتكم على المحجة البيضاء ) وأنا ما وقفت عليها في حديث بذكر ( المحجة ) وإنما الذي جاء في هذه الرواية وأيضاً في حديث آخر جاء في المسند : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) فلفظ المحجة يحتاج إلى مزيد بحث .
ولمسلم عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهَدْي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة) . للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل : ومن يأبى ؟ قال : ( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) .
(36/116)
ولهما عن أنس رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبِروا بها كأنهم تقالُّوها فقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر فقال أحدهم : أمَّا أنا فأصلي الليل أبداً ، وقال الآخر : أنا أصوم النهار ولا أُفطِر ، وقال الآخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبداً ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأُفطِر وأُصلي وأُرقد وأتزوج النساء فمن رَغِب عن سنتي فليس مني ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) رواه مسلم .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبَعاً لما جئت به ) رواه البغوي في شرح السنة وصححه النووي .
وعنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليأتينَّ على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان فيهم من أتى أمَّه علانية لكان في أمَّتي من يصنع ذلك ، وإن بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين ملَّة وستفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين ملَّة كلُّهم في النار إلا ملَّة واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ( ما أنا عليه وأصحابي ) رواه الترمذي .
الشرح : من أصول الإيمان الإيمان بممحد عليه الصلاة والسلام وهذا من أصول الإيمان من جهتين :
الجهة الأولى : أن الإيمان بنبينا عليه الصلاة والسلام في أول أركان الإسلام الشهادة بأن محمداً رسول الله .
(36/117)
الجهة الثانية : دخوله عليه الصلاة والسلام في الإيمان بالرسل كما قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ )(البقرة: من الآية285) فمن الإيمان بالرسل : الإيمان بخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام وذكرنا لكم معنى الإيمان به عليه الصلاة والسلام لكن من الإيمان به : اتباع سنته ومن كمال الإيمان به ألا يقدم عقل على سنته ولا رأي على ما قضى به عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان ما قضى به عليه الصلاة والسلام قطعي الدلالة في الأمر فإنه لا يحل لأحد مخالفته : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) لهذا كان عليه الصلاة والسلام يكثر – كما في حديث جابر وغيره – من قوله : ( أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام ) - كما في الحديث الأول .
فأكمل هدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام وأكرم هدي وأفضل هدي وأعظم سنة وطريقة وهدي وسلوك هو سبيل محمد عليه الصلاة والسلام لهذا من آمن حقيقة بأنه رسول الله وكمل عنده هذا الإيمان فإنه لا يخالف السنة وإذا خالف السنة فإنه يضعف إيمانه لكونه مرسلاً من عند الله جل وعلا حقاً ، لأن إيمان العبد بالرسل يزيد وينقص وإيمانه بأن محمداً رسول الله يزيد وينقص فيزيد بكثرة المتابعة وينقص بكثرة المخالفة وليس أهله في أصله سواء .
فالمقصود من هذه الأحاديث التي ذكرها الإمام رحمه الله تعالى : هو بيان هذا الأصل والتحريض على اتباع السنة وعدم مخالفتها .
(36/118)
ذكر الحديث الذي رواه مسلم : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) – رواية مسلم انتهت إلى هذا الحد . فما معنى قوله : ( بدأ الإسلام غريباً ) اختلف العلماء في تفسيرها : فمنهم من قال : ( بدأ الإسلام غريباً ) يعني : كان أهله قلة ثم كثروا ، وأيدوا ذلك بقوله في آخره : ( فطوبى للغرباء ) يعني : كأنهم قليل . وفي رواية في المسند وغيره : ( هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يعصهم أكثر ممن يطيعهم ) .
والقول الثاني : أن معنى قوله : ( بدأ الإسلام غريباً ) يعني : أن الإسلام الحق لما صدع به نبينا عليه الصلاة والسلام كان في غرابة فالناس استغربوه واستنكروه ، وستأخذ هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها فتعود إلى أن تستغرب حقيقة الإسلام والدين ، وهذا معنى قوله : ( وسيعود غريباً كما بدأ ) يعني : سينتشر في الناس الجهل والجهالة ويقل العلم ويُرفع حتى تكون حقيقة الإسلام غريبة وهذا أيضاً تفسير مشهور وهو موافق لأحاديث كثيرة في هذا المعنى .
والقول الثالث : أن قوله : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً ) أن هذا منه عليه الصلا والسلام لشحذ الهمة في الاتباع وعدم الاغترار بالكثرة وأن الحق ليس معروفاً بكثرة من يتبعه وإنما باتباع محمد عليه الصلاة والسلام والالتزام بكتاب الله جل جلاله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وهذا في الحقيقة يؤول إلى الأول لأن معنى الأول هو هذا ، يعني : أن من ثمرات الأول هو أنه لا تغتر فالإسلام بأناس قليل ومع ذلك أعزهم الله فلم يغتروا بالكثرة ولا بالسواد وإذا تكرر الأمر فلا يغتر بالكثرة .
جاء في تفسير الغرباء قالوا : يا رسول الله من الغرباء ؟ قال : ( النزاع من القبائل ) وفي رواية قال : ( الذين يعملون بسنتي عند فساد أمتي ) وفي ثالثة قال : ( أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) وهذه ثالثة ، والأولى : جيدة من جهة الإسناد .
(36/119)
إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – له كلام طويل على هذا الحديث في رسائله تكلم على فقهه وعلى زمن الغربة والله المستعان .
حديث : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبَعاً لما جئت به ) معروف الكلام عليه في شرح كتاب التوحيد .
غربة الدين نسبية قد تكون في زمان دون زمان أو قد تكون في مكان دون مكان إذ بعض الأمكنة في الأرض الدين غريب القابض على دينه كالقابض على الجمر الصلاة مشكلة والوضوء مشكلة التزامه وتحليله للحلال وتحريمه للحرام مصيبة كل شيء فيه ابتلاء شديد لذلك القابض على دينه كالقابض على الجمر ، فالغربة العامة تكون في آخر الزمان لكن الغربة الخاصة بمكان دون مكان أو سنين دون سنين يعني في بعض الأمكنة وهذا حاصل لكن الغربة العامة ليست حاصلة الآن لأنه ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ) ، فبقاء الأمة الظاهرة وبقاء الطائفة المنصورة والفرقة الناجية إلى قيام الساعة فقد يقلون فتحصل الغربة وقد يزيدون فترتفع الغربة فقوله عليه الصلاة والسلام : ( وسيعود غريباً كما بدأ ) المراد به : الغربة النهائية التي يكون فيها أهل الأرض كلهم على غير الهدى .
(36/120)
الإنسان الذي لم يسافر لا يعرف نعمة الدين ونعمة عدم الغربة والذي يسافر يحس بالغربة عمله غير أعمالهم وتفكيره غير تفكيرهم فيحس كل شي مختلف حتى من بعض المنتسبين إلى الإسلام أو ممن يدعون إليه يحس أنه مختلف تماماً فلذلك المسألة تريد مجاهدة ودعوة والشكوى إلى الله . أما في البلاد – بلاد السنة والتوحيد – بلادنا هذه لا يحس الإنسان فيها إلا أن الدين عزيز وظاهر وقوي والسنة والتوحيد وتحليل الحلال هو الأصل وتحرم الحرام هو الأصل ولا كلفة ولا شقة في أن يحل الحلال ولأن يحرم الحرام ولا عليه في التزام الشعائر والعبادات وهذا من أعظم النعم ومن سافر يعرف الفرق هذا بالنسبة للرجل فكيف بالنسبة لعائلته وأسرته وكذلك الأولاد ماذا يتعلمون وماذا يتلقون ؟ يعني مصيبة ، فالذين يعيشون في البلاد الغربية خاصة أو الشرقية البلاء عظيم . لذلك الذي يعرف نعمة الله عليه في هذا البلد يحمد الله عليها كثيراً ويسعى لتثبيتها بالدعوة والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى والبعد عن لفتن والاختلاف هذا أصل عظيم ولا بد من التغير وحكمة الله ماضية .
ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تَبِعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تَبِعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ) .
الشرح : هذا الحديث في هذا الباب – الذي فيه اتباع النبي عليه الصلاة والسلام – يدل على فضل محمد عليه الصلاة والسلام وأن أحداً لن يبلغ منزلته لا من الأنبياء والمرسلين ولا من غيرهم ن الأولياء – ما يقوله طائفة من الضُلاَّل ، وتعليل ذلك من جهتين :
(36/121)
الوجه الأول : أن هذا الحديث دلَّ أن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعهلا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً والنبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الهدى من جهة العقيدة والشريعة وإلى تفاصيله وتبعه عليه الناس – يعني : تيعته عليه أمته فهو عليه الصلا والسلام له مثل أجور أمته لا ينقص ذلك من أجورهم شئ .
فلا يبلغ أحد منزلته عليه الصلاة والسلام لأن الفضل بعظم الأجر : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات: من الآية13) فالناس يتفاضلون عند اله بالحسنات ، فأعظمهم حسنات نبينا صلى الله عليه وسلم فهذا فيه إبطال قول غلاة الصوفية : إن الولي قد يكون أفضل من النبي – يعني : من محمد عليه الصلاة السلام – والعياذ بالله من قولهم هذا ، وكذلك قول الرافضة : إن أئمتهم أفضل من الأنبياء بما فيهم محمد عليه الصلاة والسلام .
الوجه الثاني : أن أمة النبي صلى الله عليه وسلم هي أكثر الأمم كما قال عليه الصلاة والسلام : ( وإني لأرجو أن أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) ، فأمته عليه الصلاة والسلام أكثر أمم الأنبياء والهدى الذي بثه عليه الصلاة والسلام في أمته هو أكمل هدي جاء به الأنبياء والمرسلون ، فحصل من هذا أن أجره عليه الصلاة والسلام وما كتب الله له هو أعظم مما كُتِب لغيره . وهذا وجه في كون النبي عليه الصلاة والسلام أعظم أجراً ممن سبقه من الأنبياء والمرسلين .
وهذا الحديث أيضاً دال على مسارعة العبد المؤمن في الدعوة إلى الله جل وعلا في تعليم العلم وفي بث الخير والتقليل من الشر ، فالعلماء ورثة الأنبياء ( ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه )فلا يحقرنَّ أحد من المعروف شيئاً بكلمة أو برسالة أو بموعظة ما دام على ذلك قادر ، فالدعوة إلى الله جل وعلا فضلها عظيم ، تدعو إلى أي شئ مما تعلمه يقيناً في الشريعة فإن لك من الأجر مثل أجور من عمل بذلك الشئ.
(36/122)
وكذلك في الحديث : التخويف الشديد من أن يدعو المرء إلى ضلالة فإن المرء إذا دعا إلى ضلالة وسن سنة سيئة وتبعه عليها أناس فأيضاً عليه إثم من اتبعه في ذلك ، وهذا فيه التخويف نم أن يحدث المرء لنفسه أو لأهل بيته أو لمجتمعه أن يحدِث باباً من أبواب الضلال ، هذا تتراكم عليه الذنوب لأنه هو الذي سنَّ ذلك أو هو الذي دعا إليه ووجه أنظار الناس إليه وجعل بابه مفتوحاً ، كما جاء في الحديث الآخر : ( ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ، وكما جاء أيضاً في الحديث الصحيح : ( لا يُقتل أحد إلا كان على ابن آدم الأول كفل منه ) ثم علل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله : ( لأنه سنَّ القتل ) . فهذا الأصل مما يجب أن يُخاف منه وهو : أن يفتح الإنسان على الناس باب شر إما بكلام أو بتصرفات أو يتساهل في أمر ويدعو إلى شر أو إلى معصية أو إلى ضلالة فيتبعه من يتبعه على ذلك خاصة في الأمور المستأنفة يعني : ليست معروفة ، أما في أمور الذنوب والمعاصي التي جرت عادة الناس عليها وفيما جعل الله جل وعلا في بعض النفوس من الميل إلى ذلك فهذا قد لا يدخل في هذا الباب ، لكن الشيء الجديد الذي يدعو الناس إلى ضلالة – والعياذ بالله – في المهج أو في السلوك أو في أمور جديدة تحدث في الناس تضلهم ، مثل ما هو حاصل الآن من هذه الأمور التي تدعو إلى الفساد من القنوات والفضائيات أو من بعض الأشرطة وأشباه ذلك يكون هو أول من يأتي بها ثم يتساهل الناس فيها هو عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه في ذلك أو تأثر به في ذلك لأنه هو الذي سنَّها ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة – والعياذ بالله - .
(36/123)
فهذا الحديث كما أن فيه الفضل العظيم والترغيب كذلك فيه التخويف والترهيب الشديد ، فالمؤمن وخاصة طالب العلم دائماً يسعى إلى حث الناس إلى الخير حتى يحظى بهذا الأجر ، وأيضاً يُخَوِّف من مثل ما جاء في هذا الحديث ، إنسان يدعو إلى ضلالة مثل مدرس يدرس فيقول كلاماً ما يعقل معناه أو يتساهل فيه وينقله عنه الطلاب ويقولون : قد قال لنا المدرس في يوم كذا كذا وكذا وينقلونه إلى من بعدهم ، وما حصلت التأويلات وما حصلت البدع ولا انتشرت في الأمة إلا بالنقل ، وهذا ينقل عمن قبله ، وإلا لو أنه وُقف عند الأول لما انتشرت لكن الأول سنَّها ثم تبعه من لا يفهم ، لهذا الداعية والخطيب والمدرس هؤلاء يخافون أشد الخوف من الكلام لأنه كيف تُنقل الشريعة إلا بالكلام فإذا قال كلمة لا يعرف معناها أو لا يعرف ثبوتها أو بمجرد رأيه أو عقله أو استحسانه سواء في مسائل الدين الأصلية من العقيدة والتوحيد أو معرفة ما عليه الشريعة أو القواعد ، أو في مسائل العمل أو السلوك أو الدعوة أو المواقف ونحو ذلك ، والإنسان لا يكون رأساً في شئ ليس له عليه بينة في الشريعة ، احرص – إذا أردت أن تكون مبلِّغاً أو قائداً أو نحو ذلك في الخير - أن تكون متثبتاً من هذا الذي تقوله بيقين ما تلحقك عليه فيه غلالة أو إثم أو يلحقك فيه شك بل كن على يقين ( ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) أما إذا صار الأمر مشتبه عليك في المسائل فاتركه فلست ملزماً أن تقول ولست ملزماً بأن تعمل ، والإنسان ألزم ما عليه براءة ذمته أمام الله جل وعلا .
فهذا الحديث فيه الحث على اتباع النبي عليه الصلاة والسلام واتباع صحابته واتباع السنة ولزوم الجماعة والتحريض على لزوم السنة والدعوة إليها والحذر مما يخالف ذلك أعان الله الجميع على الحق والهدى .
(36/124)
وله عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه أُبدِع بي فاحملني ، فقال : ( ما عندي ) . فقال رجل : يا رسول الله أنا أدلُّه على من يحمله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : ( من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله ) .
وعن عمرو بن عوف رضي الله عنه مرفوعاً : ( من أحيا سنَّة من سنتي قد أُميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمِل بها من الناس لا ينقص من أجور الناس شيئاً ، ومن ابتدع بدعة لا يرضاها الله ورسوله فإن عليه مثل إثم من عمل بها من الناس لا ينقص من آثام الناس شيئاً ) رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وهذا لفظه .
الشرح : قوله في الحديث الأول : ( إنه أُبدع بي فاحملني قال : ما عندي ) يعني : أنه احتاج إلى راحلة وانقطع به السير ، أو لم يستطع أن يمشي .
(36/125)
ففيه : أن هذا الرجل أعان أخاه على وسيلة من وسائل الخير فصار له مثل أجر الفاعل ، وهذا يدخل تحت قاعدة أن الوسائل لها أحكام المقاصد – مثل ما ذكرنا لكم – فمن سعى في وسيلة إلى مقصد محمود وكانت الوسيلة مشروعة فإنه يؤجر على الوسيلة ، كما قال جل وعلا في ذكر السير إلى الجهاد قال في آخر سورة براءة : (وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُم)(التوبة: من الآية121) ، لأن المسير في الوادي وسيلة إلى بلوغ الغاية وهي : مواجهة العدو ، فصار قطع الوادي مكتوب الخطوات مكتوبة لهم ، فهذا أيضاً لما كان العمل عملاً صالحاً وهذا الرجل انقطع به المسير وكان المقصد والغاية محمودة فقال : ( يا رسول الله إنه أُبدِع بي فاحملني قال : ما عندي ..) لأن هذا إذا سار لو انقطع ممكن يرجع ويقول : لا أستطيع ، فينقطع الخير الذي أراده وهو : بلوغ الغاية وبلوغ المقصد ، فهذا أعانه على بلوغ الغاية فله مثل أجر الفاعل لتلك الغاية ، يعني : فأجره في المقصد الذي كان سواء جهاد أو حج أو نحو ذلك فهذا من حمل فله مثل أجر فاعله فهذا يدل على أن قوله : ( من دعا إلى خير فله مثل أجر فاعله ) أنه يدخل في الإعانة على الخير ويدخل فيه الدعوة إليه ، وهذا مراد الإمام – رحمه الله – في إيراده بعد حديث : ( من دعا إلى هدى ... ) ليدل على أن الإعانة في وسائل الخير – أيضاً – داخلة في هذا الأصل العظيم فالوسائل لها أحكام المقاصد ، وللإنسان مثل أجر من أعانه على الخير .
حديث عمرو بن عوف قال : ( رواه الترمذي وحسنه ) ونسخة عمرو بن عوف هذه معروفة : كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده ، يحسنها الترمذي كثيراً ، وهي إسنادها : ضعيفة أو ضعيفة جداً ، لأن كثير بن عبد الله فيها صاحب النسخة ضعفوه أو بعض الأئمة تركه ، لكن ما دلَّ عليه الحديث دلت عليه الأحاديث الأخر .
(36/126)
ونقف عند قوله فيه : ( ومن ابتدع بدعة فيه لا يرضاها الله ورسوله ) فإن هذه اللفظة استدل بها بعض من يقسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة لأنه قال : (لا يرضاها الله ورسوله ) قالوا : فمفهومها : أن ثمَّ بدعة يرضاها الله ورسوله ، لكن هذا ليس بفهم صحيح لأن هذه ليس لها مفهوم بل هذا تأكيد للمعنى ، ( بدعة لا يرضاها الله ورسوله ) يعي : كل بدعة لا يرضاها الله ورسوله ، فهي في هذا كفوله جل وعلا : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (المؤمنون:117) ، فقوله : (إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) ليس مفهومه : دعاء إله آخر للمرء له فيه برهان ، وكذلك هنا : ( ومن ابتدع بدعة فيه لا يرضاها الله ورسوله ) لأن كل بدعة لا يرضاها الله ورسوله ، وكذلك دعاء إله آخر لا برهان للمرء به فليس ثمَّ بدعة يرضاها الله ورسوله ، وذلك لأن المراد بالبدعة هنا : البدعة في الدين ، أما البدع في الدنيا فهذه لا تدخل في مسمى البدع الشرعية ، فما نهي عنه من اسم البدع والمحدثات فإنما هي محدثات في الدين أو بدع في الدين .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ( كيف أنتم إذا لبِستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرَم فيها الكبير وتُتَّخذُ سنَّة يجري الناس عليها فإذا غُيَّر منها شيء قيل تُرِكتْ سنة ) ، قيل : متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : ( إذا كَثُر قُرَّاؤكم وقلَّ فقهاؤكم وكثُرت أموالكم وقلَّ أمناؤكم والتمستْ الدنيا بعمل الآخرة وتُفُقِّهَ لغير الدين ) رواه الدارمي .
وعن زياد ين حُدَيْر رضي الله عنه قال : قال لي عمر رضي الله عنه : هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قلت : لا . قال : يهدمه زلَّة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلِّين . رواه الدارمي أيضاً .
(36/127)
وعن حُذيفة رضي الله عنه قال : كلُّ عبادة لا يتعبَّدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبَّدوها فإن الأول لم يدَع للآخِرِ مقالاً ، فاتقوا الله يا معشر القُرَّاء وخذوا طريق من كان قبلكم . رواه أبو داود .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من كان مستنَّاً فليستنَّ بمن قد مات فإن الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة : أبَرَّها قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلَّها تكلُّفاً ، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتَّبِعوهم على أثَرِهم وتمسَّكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسِيَرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم . رواه رزين .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال : سمِع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤن بالقرآن فقال : ( إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يُصدّق بعضه يعضاً فلا تكذِّبوا بعضه ببعض ، فما علِمتم منه فقولوا وما جهِلتم فكِلوه إلى عالمه ) رواه أحمد وابن ماجه .
الشرح : هذه الأحاديث والآثار عظيمة في هذا الباب وهو باب الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصول الإيمان به عليه الصلاة والسلام : أن تلازَم وتُلتَزم سنته عليه الصلاة والسلام ، وملازمة السنة يكون في الأمور العلمية وفي الأمور العملية .
فالأمور العلمية : في مسائل الغيبيات في الله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وكذلك فيما في اليوم الآخر من الحوض والميزان والجنة والنار إلأى آخر ذلك ، وكذلك من الأمور الغيبية من الجن والملائكة وما أخبر يه عليه الصلاة والسلام ، فكلام الله جل وعلا صدق وعدل ، وكذلك كلام رسوله عليه الصلاة والسلام قال سبحانه : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )(الأنعام: من الآية115) .
(36/128)
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ) يعني : الشرعية ،(صِدْقاً ) : في الأخبار لا كذب فيها تعالى الله جل وعلا عن ذلك ( وَعَدْلاً ) يعني : في الأمر والنهي لا ظلم فيها .
فملازمة السنة في الأمور العلمية يكون في مسائل الغيب وهذه من أعظم ما حصل فيه الافتراء والبدع في المسائل الغيبية في الجنة والنار والملائكة والجن والصفات وأشباه ذلك .
وأيضاً في المسائل العلمية وهي الصورة الثانية تلازم السنة في المسائل العلمية بعدم تقديم العقل على السنة ، والعقل والقياس والرأي إنما هو خادم للسنة لا مقدماً عليها ، وقد ضل وابتدع وتنكب الصراط من قال : إن العقل هو القاضي والكتاب والسنة شاهدا عدل ، وهذا يقوله طوائف من المتكلمين وأهل البدع من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم .
فالمسائل العلمية كالعبادات – يعني من جهة كونها علمية – تُقدَّم فيها السنة على العقل ، فالعقل خادم فقد نصل إلى المعنى وقد لا نصل وقد نفهم وقد لا نفهم ، وأيضاً العقل مختلف قد يصل فلان العالم ولا يصل فلاناً الآخر ، والجميع واجب عليهم التسليم وهذا من حقوق النبي عليه الصلاة والسلام .
أيضاً ملازمة السنة في الأمور العملية – وهي القسم الثاني - بترك البدع والمحدثات ولزوم طريقة الصحابة رضوان الله عليهم والذين اهتدوا بهديه عليه الصلاة والسلام ، فكل بدعة : خروج عن السنة ، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( كيف أنتم إذا لبِستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرَم فيها الكبير وتُتَّخذُ سنَّة يجري الناس عليها فإذا غُيَّر منها شيء قيل تُرِكتْ سنة ) فالبدع العملية مناقضة للسنة العملية ، بل كلما زادت السنن ضعفت البدع وكلما ضعفت السنن ظهرت البدع .
مخالفة السنة والأخذ بالبدع والمحدثات – يعني منشؤه في هذه الأمة م الزمن الأول إلى زمننا هذا له عدة أسباب أنشأت الأخذ بالبدع :
(36/129)
1 – الجهل : فالبدعة يُنشئها الجهل بالسنة ، وإلا فالسنة كافية ، فيُنشئ عبادة يتعبدها أو يتأول شيئاً من المسائل العلمية فيصير إلى البدعة لأجل جهله .
2 – الهوى : والهوى لا شك أنه من أعظم أسباب حدوث البدع في هذه الأمة فالخوارج والمرجئة والقدرية عندهم أهواء مع الجهل والتأويل الذي عندهم .
3 – إرادة الخير : فيكون عنده جهل ويكون عنده هوى ويقول : أنا أريد الخير ، وهذا مثل ما ذكر لابن مسعود أن جماعة يجتمعون يقول أحدهم : سبحوا مائة هللوا مائة احمدوا مائة وبين أيديهم حصى يعدون ، فذهب إليهم ابن مسعود رضي الله عنه فلما رآهم على هذه الحال قال : أنتم على أهدى من طريقة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنتم على شعبة ضلالة – يعني : أن هذا الأمر جديد وهم يعرفون ذلك – هذه آنية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُكسر وهؤلاء أزواجه عليه الصلاة والسلام لم يمتن – يعني : أن العهد به قريب – قالوا : يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير !! ( يعني : الذي بعثنا على هذه الصفة وهذا التسبيح وهذا تسبيح وتهليل إنما هو الخير ) قال : كم مريد للخير لم يبلغه .
وهذا يدلك على أن : منشأ كثير من البدع في المسائل العلمية أو في المسائل العملية قول القائل : أردنا الخير ، وابن مسعود رضي الله عنه رد على هذه الفرية أو على هذه الشبهة بأبلغ رد .
4 – الغلو : وهو مجاوزة الحد المأذون به إما في المسائل العلمية أو في المسائل العملية فمن جاوز الحد المأذون به في ذلك فإنه لا يؤمن عليه بل يصير في المخالفة والبدعة .
(36/130)
فالذين جاوزوا الحد في الجهاد صاروا إلى بدعة الخوارج ، والذين جاوزوا الحد في مسألة التحكيم صاروا إلى الخارجية ، والذين جاوزوا الحد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صار بهم الأمر إلى الخروج على الولاة – كما هو دين المعتزلة – والذين جاوزوا الحد في الأذكار صار بهم الأمر إلى بدع الأذكار والاجتماعات ، والذين جاوزوا الحد في السلوك والزهد صار بهم الحال إلى أن سلكوا مسلك التصوف المبتدع ، والذين جاوزوا الحد في تنزيه الله جل وعلا صار بهم إلى التعطيل وهكذا في أشياء كثيرة .
فإذاً الغلو م أعظم أسباب ترك السنن والأخذ بالبدع ، وهذه كلمات لها زيادة تفصيل ، والمقصود مما يتعلق بهذه الآثار العظيمة : أن من حق النبي عليه الصلاة والسلام بل أعظم حقوقه على أمته والإيمان به : أن يُقتفى سبيل المصطفى عليه الصلاة والسلام وأن تُترك الأهواء والبدع وبنيَّات الطريق .
مما ذكر الإمام رحمه الله أثر بن مسعود الأول وذكر فيه التحذير من زمان يكثر فيه القراء ويقل فيه الفقهاء وهذا الزمان الذي نعيشه منه – من هذا الزمان – بل وما قبله كثر فيه القراء والمنتسبين للعلم في الجامعات والجوامع في شتى البلاد الإسلامية ولكن الفقهاء بالدين والفقهاء بالكتاب والفقهاء بالسنة يقلُّون ، والقراء إذا كثروا يعني تكثر مصادرهم في القراءة فتكثر الكتب لكن الفقه بالكتاب والسنة يقل . وهذا يدل على أن طالب العلم يحذر من عدم الفقه في الدين – والفقه في الدين مرتبتان :
1 – الفقه الأكبر : وهو الفقه في الله جل وعلا – يعني : الفهم في الله جل وعلا – وبأسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى ، وهذه أمور العقيدة .
2 – والفقه الأصغر : وهو بمعرفة الحلال والحرام . وأدلة هذين من الكتاب والسنة وملازمة طريقة الصحابة رضي الله عنهم هذا هو الفقه ، أما غير ذلك فإن المرء يبعد عن طريقة السلف والهدي النبوي بمقدار ما تكون عنده المخالفة .
(36/131)
فإذاً الواجب عليك يا طالب العلم وتنتبه لهذه كثيراً في حياتك أن يكون اهتمامك أعظم ما يكون بالفقه في الدين فهو الذي سينجيك في الآخرة عند لقائك لربك جلا وعلا .
والفقه بالدين هو : العلم بالتوحيد والفقه يعني الحلال والحرام ، فإذا عرفت التوحيد والحلال والحرام وبقدر ما يعطيك الله جل وعلا من الفهم والصبر والتؤدة وما تُوفَّق إليه تعرف الأدلة أدلة العقيدة من الكتاب والسنة وأدلة الفقه من الكتاب والسنة فإنك على خير هذه طريقة السلف في العلم والعمل وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم آمين .
( باب التحريض على طلب العلم وكيفية الطلب )
فيه حديث الصحيحين في فتنة القبر أن المنعَّم يقول جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به وأجبنا واتبعنا وأن المعذَّب يقول : سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته .
الشرح : هذا الباب مناسبته لأركان الإيمان هو : أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام والإيمان بالقرآن يعظم بالعلم ، والنجاة – أيضاً – في الإيمان محمد عليه الصلاة والسلام عند السؤال في القبر لا ينجو إلا من يعلم ، ولهذا قدَّم لك ذكر السؤال في القبر وأن المنعَّم يقول : ( محمد جاءنا بالبينات والهدى فآمنا وبه وأجبنا ) وهذا يدل على علمه بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وعلى اتباعه والآخر – الفاجر أو المنافق – يقول : ها ها سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ، فيدل على أنه ردد ما يقوله الناس وليس عنده همة لمعرفة ما أنزل الله جل وعلا على نبيه .
(36/132)
فإذاً أركان الإيمان التي بها يتفاضل الناس وتعظم درجاتهم ومراتبهم عند ربهم جل وعلا إنما يتفاضلون بالعلم فكلما زاد العلم زاد الإيمان ، وكلما زاد الفقه في الدين زاد اليقين – إذا وفق الله جل وعلا عبده إلى العمل الصالح – وهذا فيه النجاة في الآخرة عند السؤال في القبر وما بعده ، وهذا من أعظم ما يحض طالب العلم على أن يتعلم لأن النجاة بالعلم ، وليس سواء عالم وجهول .
وفيهما عن معاوية - رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) .
الشرح : الدين في هذا الحديث : هو ما يشمل العقيدة والشريعة ، لأن الدين له ثلاث مراتب : الإسلام والإيمان والإحسان – كما في حديث جبريل ، قال : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) ، فدين الإسلام له ثلاث مراتب ، ومن ثلاثة الأصول التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها : معرفة المسلم دينه بالأدلة يعني : الإسلام والإيمان والإحسان .
فإذاً : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) يعني : يفقهه في العقيدة ، يفقهه في التوحيد ، يفقهه أيضاً في الشريعة في الحلال والحرام .
ودل هذا الحديث على أن من لم يتفقه فإن الله جل وعلا لم يرد به خيراً – ومعنى ( لم يرد به خيراً ) يعني : أن الله جل وعلا ما هيأ له أسباب الخير لأن أعظم أسباب الخير في العلم والفقه في دين الله جل وعلا .
(36/133)
الفقه في الدين هذا جاء في القرآن في قول الله جل وعلا : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة: من الآية122) فالفقه في الدين في هذه الآية وفي الحديث المراد به : الفقه بما أنزل الله جل وعلا على رسوله في القرآن وما جاء في السنة ، وما جاء في القرآن والسنة يشتمل على العقيدة ويشتمل على الحلال والحرام ، فتخصيص العلماء علم الحلال والحرام بالفقه هذا اصطلاح خاص ، أما دلالة النصوص والذي كان عليه هدي السلف – يعني في زمن الصحابه فمن بعدهم – أن الفقه : يشمل الفقه في الدين بأجمعه وليس مخصوصاً بالفقه في الحلال والحرام بل أعظم الفقه : الفقه بالتوحيد ، الفقه في حق الله جل وعلا ، ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) .
وفيهما عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشي الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الماس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً ، فذلك مثل من فقِه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلت به ) .
الشرح : هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي تدل على فضل العلم وفضل طلب العلم ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الذين استقبلوا ما بعثه الله جل وعلا به إلى ثلاثة أقسام فجعلهم ثلاث طوائف :
(36/134)
الأولى : طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير الذي ينفع الناس وينفع بهائمهم ، وهذا إذا نفع بهائمهم معه شرب اللبن ومعه زيادة اللحم ومعه زيادة الصوف ومعه أشياء كثيرة من المأكول والملبوس وحتى ما يُسكن ، وهذا يدل على أن من قبِل العلم وأقبل عليه فعلِم وعلَّم أنه : مثل الأرض التي أقبل عليها الناس بأنفسهم يشربون من مائها ويرعون فيها أغنامهم فهي خير لهم دائماً .
والفئة الثانية : فئة تحفظ الماء لكنها ما تنبت . وهذا مثال لمن قبل العلم لكنه حفظه ، لم يعمل به – يعني : عملاً كاملاً – ولم يفقه حتى علَّم وإنما حفظ فنقل ، وهذا داخل في قوله عليه الصلاة والسلام : ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع ) ، فمن حفظ العلم ونقله أيضاً داخل في الفضل ، لكن فضله دون الفئة الأولى بكثير .
وأما الفئة الثالثة : الذين لم يرفعوا بالعلم رأساً فهم كالأرض القيعان التي لا تنبت كلأً ولا تمسك ماء ، لا تنبت فتنفع الناس وأيضاً لا تمسك ماء فتنفع الناس فهي لا تحفظ ولا تقبل على العلم بالحفظ والمدارسة وكذلك لا تعلم ولا تدعو إلى الخير ، فهذه قيعان وهي مذمومة ، وذلك مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى ومثل من فقه في دين الله فعلم وعلّم .
(36/135)
هذا الحديث يسمى حديث طالب العلم أو طلب العلم عند طائفة من العلماء وشرح عدة شروح جدير بك أن تطالعها لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً في حقيقتك أنت ، من أي فئة المسلم يمكن أن يحدد فئته من هذا الحديث ، هل هو من الفئة التي قبلت فأنبتت الكلأ والعشب الكثير واستقى الناس وصاروا مصدر خير ، أم من الفئة الثانية التي تحفظ وتنقل لكن لا تعمل ولا تعلم ولا تدعو ، وإما أن يكون ممن لا يعلم ولا يعلم قيعان لا ينفع لا يمسك ماءً ولا ينبت كلأً ، فهذا مثل عظيم تحتاج فيه إلى تأمل وتدبر ، ولا شك أن الإيمان تعظم ، وأركان الإيمان وأصول الإيمان تعظم في النفس بالعلم والتعليم فإذا حصل لك أن تعلم بيقين العلوم الشرعية ، وخاصة التوحيد والعقيدة تعلمها بيقين ، ثم تعلم ذلك للناس بيقين أيضاً دون أن تدخل فيما لا تحسن ، فهذا من أعظم المراتب , والعبد يبارك الله في علمه وعمله إذا أخلص النية والقصد وأتى ما يحسن وترك ما لا يحسن فإذا زاد على ذلك العلم بالفقه والسنة – يعني من جهة الأحاديث – وعلَّم أيضاً الحلال والحرام ونفع الناس فيما يأتون وما يذرون فهذا يكون من الربانيين : ( وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران: من الآية79) جمعوا بين الدراسة والعلم والتعليم .
(36/136)
طالب العلم نفعه متعدي حنى للجبال والشجر والبهائم – وهذه قصة – أنه في سنة من السنين جاء اقتراح من البلدية عندما كثرت الكلاب في البلاد قبل أربعين سنة تقريباً وصارت تضايق الناس فأرادت البلدية أنها تقتل جميع الكلاب وجاء أمر بذلك وكان المفتي العلامة الشيخ الجد محمد بن إبراهيم – غفر الله له – في ذلك الوقت وقف فيها فكلَّم الملك سعود – رحمه الله – وكتب إليه أيضاً : أن الكلاب – مثل ما جاء في الحديث – أمة من الأمم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لو لا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم ) فنهاه عن قتل الكلاب . فالعالم وطالب العلم خيره وفضله على البهائم حتى البهيمة التي تذبح يعلم كيف تُذبح ( إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) ، حتى في الشجر وما يحسن منه وما لا يحسن سواء كان شجر الحرم أو غيره ، والجبال والبيئة كل ذلك يرجع فيه إلى أهل العلم ، فصاحب العلم وطالب العلم فضله على الجميع .
ننهى أيضاً عن التلهي في الصيد يصيد الطيور أو يصيد الحيوانات للهو وهذا أيضاً لأهل العلم فيه كلمة فينهى عنه أصحابها كأن يصيد ثم يرمي لا يريد أن يأكله فهذا منهي عنه . العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء لما له من أثر على الجميع وأما الكافر أو الفاجر فكما قال الله جل وعلا : ( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(البقرة: من الآية159) يعني الكافر والمنافق لعنه اللاعنون حتى يلعنه الجُعَل في جحره ، مثل ما جاء في تفسير الآية يقول : بسببك مُنِعتُ القطر من السماء .
وللحافظ ابن رجب شرح لهذا الحديث تكلم على مسائله فليراجع .
ولهما عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) .
(36/137)
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) رواه مسلم .
وعن جابر رضي الله عنه : أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا أفترى أن تكتب بعضها ؟! فقال : ( أمتهوكون أنتم كما تهوَّكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي ) رواه أحمد .
الشرح : من هنا إلى آخر الكتاب كله في ذكر العلم وفي ذكر فضله وطريقة حمله وآداب حملته ومن العلماء وفضل أهل الحديث والتحذير من الأخذ بالمتشابه إلى غير ذلك مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهذه الأحاديث والآثار التي ستأتي من أول ما قرأنا إلى آخر الكتاب ثم كتب خاصة ببيانها وتفصيل الكلام عليها وخاصة كتاب الحافظ ابن عبد البر : جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ، وهو جدير أن يعتني به طالب العلم وأن يقرأه لأنه مشتمل على كثير من هدي السلف في العلم والعمل .
(36/138)
قال الشيخ رحمه الله : ولهما عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) . اتباع المتشابه مذموم في العلم ، فطالب العلم إذا تعلم وأراد أن يقبل وأن ينفعه الله بالعلم يقبل على المحكمات ويترك الإشكالات والشبه وما يرد على المسائل لا يتتبع ذلك لأن تتبعه لذلك قد يفضي به إلى الزيغ – والعياذ بالله – لأنه لم يتصور العلم حتى يجيب عن تلك الإشكالات والشبه ومن قوة الإدراك والعقل ما يجيب عنها أيضاً ، فالواجب عليه أن يؤمن بالجميع ويقول : ( كل من عند ربنا ) ثم يقبل على المحكم فيتعلم المحكم بدليله يعني الذي دلالته واضحة غير محتملة أو ما لا يشتبه عليه بفهم عالم مأمون يأمنه على دينه وعلمه ، والله جل وعلا ذكر أن القرآن منه متشابه ومنه محكم فقال سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ )(آل عمران: من الآية7) ، وهذه الآية من أعظم ما يحذر به الله جل وعلا من اتباع المتشابه لأنه جعل اتباع المتشابه صفة للذين في قلوبهم زيغ بل جعل الزيغ سابقاً للاستدلال واتباع المتشابه فقال سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) فجعل وجود الزيغ أولاً واتباع المتشابه ثانياً ، فاتباع المشابهات والعناية بها والجدال فيها هذا ليس من صفة أهل التسليم وليس من صفة المتبعين للمحكم الذين يقولون كل من عند ربنا الذين هم الراسخون في العلم ومن اقتدى بهم .
(36/139)
فإذاً الواجب على طالب العلم في أول طلبه للعلم بل في مسيره في طلب العلم في عمره كله أن يعتني بالمحكمات ولا بد أن ترد عليه متشابهات عليه ومشتبهات عليه فيرد ذلك إلى المحكم فإن علِم وإلا قال آمنا به كل من عند ربنا ، وأما الذين يتبعون المتشابه ويتركون المحكمات فأولئك الذين في قلوبهم زيغ يترك الواضح ويبدأ يورد أدلة ، والله جل وعلا جعل من القرآن ما هو متشابه ، فالقرآن لا يخلو من دليل حتى في مسائل العقيدة لا يخلو من دليل استدل به المخالفون للحق فالنصارى استدلوا على بقاءهم على نصرانيتهم وعلى دينهم بل ملتهم استدلوا بالقرآن فقالوا : إن الله جل وعلا أثنى علينا بقوله جل وعلا : ) وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(المائدة: من الآية82) )وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ )(المائدة: من الآية83) ، فيقولون : أثنى عليهم بأنهم يعرفون الحق وأن أعينهم تدمع وذكر الله أنه الله غفر لهم وأنهم مؤمنون ، ويقولون : بأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب بقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ )(الزخرف: من الآية44) وبقوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) ، واستدل الخوارج بمتشابهات من القرآن على أن مرتكب الكبيرة يخلد في النار بقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا)(النساء: من الآية93) ، فذكر أن القتل يخلد في النار ، واستدل المعتزلة على قولهم : إن الله جل وعلا لا يرى في الآخرة بقوله: ( قَالَ لَنْ تَرَانِي)(لأعراف: من الآية143) وبقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)(الأنعام: من
(36/140)
الآية103) ، وكذلك استدل أهل الفجور الذي يشربون الخمر بأن الله جل وعلا ما حرم الخمر وإنما رغب في الانتهاء عنها فقال جل وعلا : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) ما قطع فيها بتحريم إلى آخره في مسائل كثيرة جداً يستدل بها أهل الزيغ ببعض القرآن .
كذلك السنة منها متشابه أيضاً استدل بها من استدل على نحلته وعلى طريقته وكذلك أقوال الصحابة وأفعال الصحابة وكذلك أفعال التابعين وأقوال التابعين منها متشابه وكذلك أقوال العلماء سواء في كتبهم أو فيما نقل عنهم بل وجود المتشابه في القرآن أقل من وجوده في السنة ووجوده في كلام السلف وفي أعمال السلف أكثر ووجوده في كلام أهل العلم في الكتب أكثر وأكثر .
فإذاً إذا صار المرء له شيء ونظر ثم بحث ذهب يجمع يتبع المتشابه ليدلل على نحلته وطريقته هذه سمة أهل الزيغ أما سمة أهل الحق فإنهم يقبلون على الكتاب والسنة متخلين عن آراءهم واعتقادهم فيقبلون ما جاء في الكتاب والسنة وما أجمع عليه السلف وما قرره الأئمة من المعتقدات ، أما يأتي بشيء جديد بتقرير مسائل لا بد تجد من كلام العلماء من يقول كلاماً إما مجملاً أو مطلقاً وإما رأي أخطأ فيه فليست العبرة جمع النقول وليست لعبرة بجمع أدلة ، وإنما العبرة أن تكون الأدلة راجحة محكمة في دلالتها وأن تكون أيضاً ثابتة إذا كانت من السنة .
(36/141)
فإذاً العبرة ليست من الاستدلال ، وكل صاحب زيغ استدل من وقت الخوارج إلى يومنا هذا واتبع دليلاً وظاهر الآية يدل على ذلك (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) يتبعون ولا يأتون بشيء من عندهم يتبعون ما تشابه منه لكنهم تركوا المحكم فاستحقوا الذنب ولماذا تركوا المحكم ؟ لأن في قلوبهم زيغاً فتركوا المحكم واتبعوا ما تشابه منه يستدلون بالمتشابه على زيغهم وهذا أمر عظيم ، واليوم نرى فيما ألف من كتب معاصرة في مسائل تخالف ما قرره أئمة أهل السنة وما عليه الجماعة – قبل أن تفسد الجماعة – وما عليه أئمة الحديث وأهل الحق الذين أخذوا بالمحكم وردوا المتشابه إلى المحكم اليوم يوجد كتب كثيرة ورسائل ونبذ ومطبوعات كلها فيها أدلة وكلها فيها نقول فليست العبرة بالنقول وليست العبرة بوجود نوع استدلال ولكن العبرة بموافقة المرء طالب العلم طالب النجاة في أصول إيمانه وفي العقيدة والتوحيد موافقته للجماعة والأئمة الذين عُرف علمهم وسلامة طريقتهم وعرف اتباعهم لكتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وطريقة السلف الصالح .
(36/142)
هذه مسألة مهمة جداً ولا تغب عن بالك ولو لم تكن في حياتك إلا هذه الوصية فهي وصية عظيمة لنفسي ولكم ، فليست العبرة بالمؤلفات والكتب وإنما العبرة بملازمة الطريق الأولى قبل أن تفسد الطرق ، ةكثرة الطرق وكثرة المؤلفات ما تصد الواحد هذه تعتبرها من المتشابهات – إذا صارت ما عليه أهل الحق والجماعة – الآن كل يقرأ وكل يبحث فيذهب ويقول : قال فلان كذا وقال فلان كذا ، ليست هذه بالوجهة الصحيحة ، أحياناً يأتي متشابه من كلام أهل العلم فيتوقف المرء فيه ، أما الذي يقول قال فلان كذا ويستدل به ونترك المحكمات ونترك الأصول من أجل قول لابن تيمية – مثلاً – في المسألة الذي أصاب رحمه الله في جل أقواله ، أو قول للإمام أحمد ونترك به المحكمات ليس صحيحاً ، أو قول للإمام مالك ونترك به المحكمات ليس صحيحاً ، فكيف بمن دونهم من فلان وفلان من الناس .
فإذاً تنتبه لهذا التأصيل وهو أن الله جل وعلا لما جعل كتابه فيه محكم ومتشابه وجب على طالب العلم والراسخ في العلم أن يردَّ المتشابه إلى المحكم ، اشتبه عليك شيء تأخذ بالأصول العامة بالقواعد التي عليها الأدلة الكبيرة وهذا خاصة في المسائل التوحيد والعقيدة والأصول ، أما مسائل الفقه فهي قابلة للأخذ والخلاف إذا كان الخلاف سائغاً أو له مأخذ من الدليل ، أما الأخبار والعقائد فهذه الحق فيها واحد لكن ليس ثم إلا سنة وبدعة ، وليس ثم إلا هدى وضلال.
قال: "فإذا رأيتم الذين يتبعون" –لاحظ كلمة (يتبعون)- هم اتبعوا دليلاً ، (يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله) –يعني: أنهم أهل زيغ. (فاحذروهم)" هم لا يأتون بشيء بدون اتباع، يتبعون عقلاً أو دليلاً لكن هذا الدليل متشابه وليس محكماً .
س/ كيف تعرف المتشابه والمحكم؟
(36/143)
ج/ المتشابه هو: الذي خالفته الأدلة الكثيرة، خالفته القواعد، لم تأخذ به الجماعة، لم يأخذ به الأئمة وإنما وجهوه وبينوا معناه، مثل: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة: من الآية90)، بينته السنة، ومثل: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(الزخرف: من الآية44)، هذا بينته آية أخرى في ذلك، ومثل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا)(النساء: من الآية93)، خلود: مكث طويل ليس أبدياً ليس مساوياً لخلود الكفار لأن الأدلة الكثيرة المتوافرة (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، فكل أهل التوحيد يدخلون الجنة برحمة الله جل وعلا، هذه أدلة كثيرة لا نستطيع أن نترك الأدلة الكثيرة لأجل دليل واحد يوجه، ولكن نصرف المتشابه، يعني: الذي اشتبهت دلالته فيها إشكال إلى الواضحات الكثيرة من الأدلة.
كذلك كلام العلماء نصرف بعضه إلى بعض ويتضح بعضه من بعض.
ذكرنا لكم في عدة مواضع في شرح الواسطية والطحاوية، أن المتشابه المطلق لا وجود له يعني: لا يوجد في القرآن والسنة آية أو حديث لا يعلم أحد من الأمة توجيهها أو معناها - متشابه مطلق – هذا لا يوجد وإنما يوجد متشابه نسبي إضافي اشتبه مثلاً على ابن عباس رضي الله عنهما أو اشتبه على عمر معناه ، لكن يوجد من الصحابة من يعلم المعنى.
(36/144)
كلمة (الأب) اشتبهت على أبي بكر رضي الله عنهما وهو الصديق لكن علمها غيره. وكذلك ( التخوف) اشتبه على عمر رضي الله عنه لكن علمها غيره، وهكذا في غيرها آية اشتبهت عليه لكن يوجد من أهل الزمان من يعلم معناها وتوجيهها فقد يكون العالم لا يعرف فتأتي إلى عالم فتحاجه بمتشابه فتسأله عن جوابه فلا يعلم جوابه ، هل معنى ذلك أن الذي عليه ليس حقاً ؟ ليس كذلك لأن المتشابه نسبي ، يوجد من أهل العلم من يجيب لكن كونه اشتبه المعنى على عالم فردك إلى المحكم وقال : هذه لا أدري وجهتها لا يعني أنه يتمسك بالمتشابه لكن الراسخ في العلم يقول: (آمنا به كل من عند ربنا) ، فكل راسخ في العلم إذا اشتبه عليه شيء يقول هذه الآية ، والله جل وعلا ابتلى الناس بهذا .
فإذاً : المتشابه المطلق – على الصحيح – لا وجود له ، إنما يوجد متشابه نسبي إضافي يشتبه على فلان دون فلان ولا يخلو عصر من قائم لله بحجة ، ولا بد أن يوجد في زمان من يعلم وهذا ما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) ، يعني : أنهم يعلمون الحق .
(طائفة) : يصدق على شيء واحد ، لا بد من وجود من يظهر على الحق وهو الذي يسميه الأصوليون : (القائم لله بالحج) وهذا تعبير أصولي ، ولا يخلو عصر من قائم لله بحجة، ليس في بلد دون بلد ولكن في الأرض في عصر من الأعصار قد تعلمه وقد لا تعلمه وقد تصل إليه وقد لا تصل إليه.
وعن أبي ثعلبة الخُشَني – رضي الله عنه – مرفوعاً : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة 0 رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )
(36/145)
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفِظها ووعاها وأداها فرُبَّ حامل فقه غير فقيه وربُّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه : ثلاث لا يَغِلُّ عليهم قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم ) رواه الشافعي والبيهقي قي المدخل ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( العلم ثلاثة آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما كان سوى ذلك فهو فضل ) رواه الدارمي وأبو داود .
الشرح:حديث ( العلم ثلاثة : آية محكمة ...) .
هذا الحديث في إسناده ضعف ، لكن معناه صحيح ،ويستشهد به الأئمة كثيراً وذلك لأن العلم النافع أقسام ثلاثة – كما جاء في هذا الحديث - :
آية محكمة : والآيات نأخذ منها التوحيد والعقيدة والأخبار التي يجب التصديق بها والإيمان بها ، ونأخذ منها الأوامر والنواهي .
قال : ( أو سنة قائمة ) : وهذه استفاد منها أهل العلم : أن السنن التي تنسب إلى العلم أو تكون معرفتها علماً والمحافظة عليها علماً هي السنن القائمة ، يعني : التي بردت عليها الأمة .
أما في الزمن الأول ،تكون سنة يزعمها بعض الناس تكون مهجورة عند الصحابة هذه لا شك أنها ليست بسنة وإن كان جاء فيها بعض الأحاديث التي يستدل بعمومها .
وأهل البدع دخلوا من هذا المدخل واستدلوا بأحاديث بعمومها على أن بعض الصور سنة وهي ليست سنة قائمة بمعنى أنها ليست معمولاً بها في زمن الصحابة – رضوان الله عليهم - .
(36/146)
ولذلك نقول : إن مهمات العلم بالسنة والحديث أن تعرف ما كان عليه العمل في زمن السلف مما لم يكن عليه العمل ، لهذا الترمذي في كتابه ( الجامع ) ألفه لهذا الغرض ، رأى كتاب البخاري – وهو شيخه – ورأى كتاب مسلم ، فرأى أن الناس بحاجة إلى معرفة السنن التي عليها العمل ، لهذا تجد أنه يورد الأحاديث الصحيحة والحسنة وربما الضعيفة ويقول : هذا عليه العمل ، وهذا ليس عليه العمل عند أهل العلم ، وذكر في آخر كتابه – يعني : في العلل – قال : كل ما في كتابي هذا من الحديث فمعمول به خلا حديثين :
حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ، وحديث أبي هريرة في شارب الخمر إذا عاد في الرابعة فاقتلوه . قال : وما سوى هذين فمعمول به – يعني : عملت به طائفة .
وابن رجب – رحمه الله – عند شرحه لكتاب العلل ، توسع عند هذه الكلمة – مما ينبغي لك أن تطالعه – في أحاديث كثيرة قال طائفة من أهل الحديث : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا هذا الحديث لم يعمل به .
وهذا غير المسألة المشهورة : أنه إذا صح الحديث فهو مذهب الإمام لكن بشرط أن لا يخالف العمل ، فإذا كان العمل على شيء فهو السنة القائمة إذا كان دليلها واضحاً ، والصحابة – رضوان الله عليهم – لن يعملوا إلا بالسنة ولن يرضوا ولا يتفقوا إلا بشيء دلَّ الدليل عليه ، ولهذا جاء في هذا الحديث قال : (آية محكمة) يعني : ليست متشابهة ، ولكن الآيات ذات المعنى الواضح التي يصار عليها ونرجع المتشابه عليها .
(36/147)
والثاني : السنة القائمة المعمول بها لا السنة المهجورة أو التي لم يعمل بها ، ونعني بكلمة ( المهجورة ) يعني : التي ما عمل بها أحد ، توهم المتوهم أنها سنة فيقول : دل عليها حديث كذا ، مثل : الأذكار يستدل بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل حال و ( رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل علي ) بإضافة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان إما قبله أو بعده على المنارة أو في ( الميكرفون ) ، مثل ما يفعل في بعض الدول، ويقولون : دل الحديث عليه، ولكن نحن نقول : دل الحديث على الصلاة لكن هذه المقصود بها السنة القائمة هل العمل بهذا الحديث في هذه الصورة هل هو سنة قائمة أو ليست كذلك ؟
أما ورود الحديث نعم فهو سنة لكن هل هذه الصورة تدخل في هذا العموم أم لا ؟ .
وهذا ضابط مهم سواء كان في باب البدع أو في مسائل الأحكام الفرعية ، وهذه يحتاج إليها العلماء في مسائل متعددة.
ومما يدخله بعض أهل العلم في هذه الصورة في قوله: ( أو سنة قائمة) ، الحديث امشهور حديث أم سلمة في رجوع الحاج الذي رمى جمرة العقبة ولم يطف يوم النحر رجوعه محرماً إذا غابت عليه الشمس ذلك اليوم ، حديث أم سلمة المشهور الذي رواه أبو داود بإسناد جيد، أن من لم يطف يوم النحر وكان رمى جمرة العقبة ؛ فإنه يرجع محرماً ، هذا الحديث قال به طائفة من العلماء المعاصرين ، وقال به قلة من العلماء السابقين ، لكنه من الأحاديث التي قال فيها بعض أئمة الدعوة وهو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - : إن الحديث صحيح ، لكن هبنا العمل به لأجل أن الأئمة تركوا العمل به ، لأنه كيف نعمل بشئ بعد هذه القرون وهو لم يكن من السنن القائمة في عهد السلف ، ومثل هذا حكم عظيم يتعلق بعامة الأمة.
المهم : تنتبه إلى مسألة ما عليه العمل ، والترمذي ركز عليه ، ومن ما يتميز به جامع الترمذي للفقيه وطالب الدليل أنه يركز على ما عليه العمل وما ليس عليه العمل .
(36/148)
كذلك انتبه لهذا ابن المنذر في (إجماعاته) ، ابن المنذر نقدوه في (إجماعاته) ، وكذلك ابن عبد البر وكذلك محمد بن نصر ، وجماعة ممن كتبوا في الإجماع لأنهم يذكرون مسائل في الإجماع لكن لم يُجمَع عليها فيه مخالف ، وهم نظروا في الإجماع أيضاً إلى ما عليه العمل وهذا دليل لهم .
يعني : إذا خالف القول وجاء بعد (150) سنة قول فيه نظر في الحديث ونظر في الدليل وقال : هذا يدل عليه كذا وكذا ، فيدل على أن الأمر هذا مستحب لكن هذا الأمر يدل على أنه ليس مفضلاً في القرون الأولى لا نعلم أحداً عمل به أو قال به فكيف يأتي من يستنتجه في القرن الثالث أو الثاني أو نحو ذلك لهذا ابن المنذر ونحوه ممن ألف في الإجماع لا ينظرون إلى مخالفة من خالف العمل على أنه فادح في الإجماع بل الإجماع ما انعقد عليه العمل ، يرون المسائل التي انعقد عليها العمل في عهد الصحابة وفي عهد التابعين يعدون هذا إجماعاً ولو وجد من خالف فيها من الأئمة ، لهذا لا يقول ابن المنذر مثلاً : ( أجمعوا وخالف سفيان ) ، لأن هذا ليس من شرطه ، ولكن ما أجمع عليه العلماء من قبل وكان عليه العمل ، فإذا كان العالم ليس له حجة ، أو كان له حجة لكن خالف العمل السابق فإنه لا يعده ابن المنذر وطائفة ممن ألفوا في الإجماع ، مخالفاً للإجماع ، هذا معنى قوله : ( أو سنة قائمة ) .
الثالث : ( أو فريضة عادلة ) وهي علم الفرائض ، وهي أول علم يفقد في الأمة وهذا يعني : أن الاهتمام به من فروض الكفايات ، أن يبقى في الأمة من يعرف القسمة ويعرف الفرائض المقدَّرة في كتاب الله جل وعلا ، ويعرف ترتيب أصحاب الفروض وما يستحقه، كذلك يعرف أهل التعصيب وطبقات العصبة ، كذلك يعرف أحكام بقية أصحاب الفرائض .
فالفريضة العادلة هذا من العلم في الفقه فطالب العلم الشرعي ينبغي له أن يهتم بالفرائض لأن الفرائض نصف الدين – كما يقال – لأنها متعلقة بما بعد الحياة .
(36/149)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ) رواه الترمذي .
الشرح :هذه كلها من الإمام – رحمه الله – يذكر آداب طالب العلم ، وما ينبغي له والأشياء التي يحتاجها طالب العلم .
أعظم ما يكون به الاستدلال وكلام طالب العلم واستشهاده وعظة الناس به هو القرآن ولهذا جاء التحذير في أن يقول قائل في القرآن برأيه أو بغير علم : ( من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) .
يعني : من قال في القرآن برأيه الذي حمله عليه الهوى ، لأنه توعده بالنار ، وأما الاجتهاد المبني على دليل فإنه لا بأس به ، فإن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ، إذا كان اجتهاده في التفسير مبنياً على دليل ، كذلك : من قال في القرآن بغير علم ، فقد أخطأ ولو أصاب ، يعني : رجل لا علم له باللغة ولا علم عنده بالشريعة وبقواعد الشريعة وبالسنة ، فيقول بالقرآن برأيه لكن ليس عنده علم ، نظر فقال : إن تفسير الآية أظنه كذا وهو ليس عنده علم بذلك فهذا ولو أصاب في الحقيقة فقد أخطأ لأن القرآن لا يجوز أن يتكلم الإنسان فيه ويفسره بغير علم بالقرآن بحفظ القرآن ومعرفة الآيات التي في الموضوع ، كذلك بغير علم بالسنة التي جاءت في تفسير القرآن ، بغير علم بمنهج السلف في التفسير ، كيف كانوا يفسرون ، وأقوال العلماء في ذلك ، ونحو هذه الضوابط .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) رواه أبو داود .
وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأُغلوطات . رواه أبو داود أيضاً.
(36/150)
وعن كثير بن قيس قال : كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال : يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئتك لحاجة قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) رواه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وابن ماجه .
الشرح :أما الحديث الأول – وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات – فهذا من آداب العالم والمتعلم .
والأغلوطات فسرت بعدة تفاسير منها :
1- أن الأغلوطة : هي المسائل التي يراد منها غلط من سئل عنها ، إما غلط المفتي أو المعلم ، أو غلط المتعلم ، يعني : المسائل المشكلة المعقدة التي لا يفهم وجهها كل أحد إنما يراد منها إظهار غلط المعلم أو المتعلم ، يعني لما فيها من التباهي وتعقيد العلم ، والمأمور به تيسير أخذ العلم .
2- والتفسير الثاني : هي المسائل التي لم تقع ، لأنه يؤول الكلام فيها إلى الغلط فإذا وقعت اتضحت .
(36/151)
3- التفسير الثالث : المسائل المشكلة عموماً التي يستشكلها المتلقي ، وهذا النهي أدب عام للمعلم والمتعلم ، فالواجب على المعلم أن يبذل نصيحته للطلاب والمتعلمين وييسر عليهم مسائل العلم ويربيهم بصغار العلم قبل كباره وليس كل ما عند المعلم يعطيه المتعلم ليس كل ما عند الأستاذ أو الشيخ يعطيه ويلقيه لأن المجال ليس مجال استعراض معلومات ولا إعطاء كل ما عندك ، الطالب يريد ما ينفعه ، أما إذا أعطيته شيئاً لا ينفعه فلم تربِّه في الحقيقة .
والله جل وعلا أثنى على طائفة من عباده بقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79)، وجاء في تفسيرها – في أحد أوجه التفسير – أن الرباني في العلم : هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره ن ولا يعطيهم أغلوطات المسائل التي تجعلهم يصدون عن العلم ويبعدون عنه .
وهذا الذي نهجه أئمة الإسلام وأهل الصلاح في العلم أنهم لا يعطون شيئاً صعباً وإنما يدرجون العلم شيئاً فشيئاً وفوائد ميسورة بأحسن عبارة حتى يتلقفها المتعلم ويستفيد منها .
أما الحديث الثاني : فهو حديث عظيم ، وأبو الدرداء جاء في وصفه في حديث مروي ، روي مرسلاً وروي متصلاً قال : ( أبو الدرداء حكيم هذه الملة ) ، وذلك لما جعل الله معه من الفطنة والحكمة في التربية وفي العلم، وكان يقرئ الناس القرآن في الشام ، وله في التربية وفي أحواله حكم كثيرة .
(36/152)
هذا الرجل الذي جاء من الشام لطلب حديث واحد (إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني عنك أنك تحدثه)، وهذه همة عظيمة بأن المرء يرحل من المدينة في ذاك الوقت مع ضعف الرواحل فيمشي لمدة شهرين على الراحلة لأجل حديث سمع أن أبا الدرداء يحدث به ، لا شك أن هذه الهمة همة دين وليس همة التزيد أو همة رغبة في لفت وجوه الناس إليه أو رغبة في الثناء ؛ إنما همة دين وخوف من الله جل وعلا ورغبة فيما قاله عليه الصلاة والسلام فهذا يدلك على أن العلم إنما يكون بعلو الهمة ، فكيف إذا كان العلم ميسوراً عندك وقريب منك ، ومع ذلك لا تسعى إليه ، ولذلك أكثر الناس رعاع أتباع كل ناعق لا يهتمون بالعلم ولا يرفعون له وبه رأساً ، وهؤلاء مذمومون ، بخلاف الذين يسعون إلى العلم وتعبون فيه فإنهم حقيقون بما روى أبو الدرداء - رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن : (( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم .. ) الحديث .
وهذا من سعى فيه فقد سعى إلى العلم ، فكيف بمن يسعى كل يوم ، فكيف بمن يرحل فيه .... الخ ، فهذا يعطيك مناسبة ذكر الإمام – رحمه الله – لهذا الحديث في آخر هذا الكتاب وأحاديث العلم .
إن أصول الإيمان والعقيدة التي عقدها الكتاب لها تحتاج منك إلى ممارسة ، وتحتاج منك إلى همة عالية ، ولا تحقر نفس ، تقول : هذا صعب ، والعلماء كثير ، وقد يأتي يوم والحاجة تكون لك ، والناس ينظرون إليك الحاجة في تبليغ دين الله .
(36/153)
وكان ابن عباس يحرص على أن يجلس في مجالس الصحابة يأخذ العلم ، فيقول له الأنصاري : أتظن الناس بحاجة إليك ؛ وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فترك ذاك صحبة ابن عباس في العلم ، وابن عباس استمر ، فما هي إلا سنوات قليلة ، عشرين ، ثلاثين سنة حتى احتاج الناس إلى ابن عباس أعظم من حاجتهم حتى إلى بعض كبار الصحابة ، لكثرة ما تلقف من العلم ، فالعلم لا تسيء به ظناً ، العلم من يحتاج إليه ، تذهب إلى بلد كلها جهل ، بلد لا تعرف العلم ، والله جل وعلا يقدر ما يشاء ، وقدَر الله يجري في عباده ، فإذا لم يكن مع المرء علم راسخ أخذه في وقت السعة ، وأكَّد على نفسه ؛ فإنه لن ينفع الناس ، قد يأثم في بعض الحالات ؛ إذا كانت كل الأسباب ميسرة له ، عنده فهم ورغبة واستعداد ، ولكن يؤثر الدنيا على العلم وتبليغ دين الله جل وعلا ؛ فلا شك أنه قد يأثم في بعض الحالات إذا تعيَّن عليه ، لهذا هذه الأمة ليس ثَمَّ نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، أما بنو إسرائيل فكان النبي يأتي بعده نبي ، وكان فيهم علماء ، أما هذه الأمة ورَّاث النبي صلى الله عليه وسلم فيها هم العلماء ، فإن العلماء ورثة الأنبياء .
(36/154)
لهذا استحضر الفضل ، واستغفار الملائكة ، ورضا الملائكة ، ووضعها لأجنحتها ، واستحضر ( من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ) ، واستحضر ( العلماء ورثة الأنبياء ) ، واستحضر وقت الحاجة ، الأمة الآن ، كم فيها – الآن ملايين – كم طلاب العلم ؟ طلاب العلم بحق قلة نوادر ، هل هؤلاء يكفون الأمة ؟ لا يكفون ، لو ندرِّس ملايين ، وتخرج ملايين أيضاً لا يكفون ، لأن الأمة – الآن – ملايين ، كيف يكفيهم هؤلاء في بلد ، وهؤلاء في بلد ، والبلدان والقرى تُعدُّ بمئات الآلاف في الأرض ، فمع توسُّع الناس ؛ طلاب العلم يقلُّون ، لا تنظر إلى الرياض مثلاً ، وتنظر إلى حلق بعض المشايخ ، وتقول : كثيرين ، أو تنظر إلى طلاب الجامعة ، وفي الواقع العلم – الآن – أندر من النادر ، صحيح أن القراء كثير ؛ لكن طالب العلم الراسخ الذي أخذ العلم بأصوله وبلَّغ دين الله جل وعلا ، أو يصلُح أن يبلغ دين الله جل وعلا ، ويعلم الناس بمعاني الكتاب والسنة هؤلاء قلة ، لهذا التعب وعلو الهمة هي الطريق مع سؤال الله جل وعلا التوفيق والإعانة ، ولا تحقرن نفسك .
ولهذا الذي ينبغي ويتأكد عليك أن يكون العلم أهم شيء ، والعلم واسع ، فخذ منه ما ينفع ن خاصة التوحيد والعقيدة لأن فيها صلاح الباطن وصلاح العمل ثم معرفة السنة في العبادات ، وما يحتاج الناس إليه يعلمهم السنة فيما يحتاجون إليه في أمر عباداتهم ومعاملاتهم ، هذا - في البداية - يكفي ، ومع الزمن يتوسع شيئاً فشيئاً حتى تأخذ من العلم ما كتب الله جل وعلا لك ، أسأل الله لي ولك التوفيق ، وأن لا يحرمنا ثواب العلم ولا فضل أهله .
كيف يأخذ طالب العلم تصوير المسائل ؟
(36/155)
يأخذها بالتلقي ، تصوير المسائل ؛ أهم العلم ، أهم من الحكم والدليل ووجه الاستدلال والتفصيل والخلاف ، أهم منه ما بني عليه ذلك كله وهو ( صورة المسألة ) ، صورة المسألة في العقيدة والفقه ، معنى الحديث ، معنى الآية ، وبعضهم يستدل بشيء ليس في الآية ، إذا عرفتَ صورة المسألة أولاً ؛ فما بعده يتنزل علي الصورة ، يأتيك التعريف فينزل على الصورة ، والدليل على الصورة ، وهكذا .
مهمة المعلم : أن يصيغ ذهن الطالب في العلم ، كيف يكون ذلك ؟
يكون : 1- بالأناة في العلم والرفق وحسن التصور وحسن الاستدلال وحسن الأداء .
2- الاهتمام بالتحري في اللفظ والمعنى .
كيف يؤدى العلم ؟ كيف يبلغ العلم ؟ بلغة أهله ، وهذا يجعل الطالب كيف يفهم كتب العلماء .
3- أن يعلم الطالب كيف يتعامل مع شيخه ومع المجتمع ومع الكتاب ، وهذا ينقل بالتلقي والسمت .
4- أن يعطي المعلم للطالب أنه ليس كل يجاب عنه ، من الغلط أن يتجرأ الطالب على العلم ، فكل ما كان المعلم أهيب ؛ كان انتفاع الطالب به أكثر .
و مرفوعاً : (( الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا )) . رواه الترمذي وقال غريب ، وابن ماجه .
الشرح : الحديث حسن ، وقوله : ( رواه الترمذي وقال : غريب ) ، من فهم العلماء : أن غالب ما قال الترمذي ( غريب ) ؛ يعني به : أنه ضعيف ، لأن الغرابة عنده تعني الضعف ، وليست الغرابة عند المتأخرين – يعني عند أهل الاصطلاح – التي هي وصف للسند ، وقد يكون الرجال ثقات ، كحديث عمر بن الخطاب المعروف : ( إنما الأعمال بالنيات ) ، فإن غريب ، يعني : أنه لم يأت إلا عن راوٍ واحد في الطبقة الأولى والثانية والثالثة إلى آخره ن فقد يكون الحديث في الصحيحين وهو غريب .
لكن مصطلح الترمذي أنه إذا قال : ( غريب ) ، فإنه يعني به : أنه ضعيف في الغالب ، أو الجُلّ الأكثر مما أورده ن لكن هذا الحديث له طرق ، فهو بها حسن .
(36/156)
( الحكمة ضالة المؤمن ) معنى ذلك : أن ( الحكمة ) التي هي الكلمة الصواب ، أو الرأي الصواب فهي ضالة المؤمن ، لأن المؤمن يسعى للحق ويتحرى الصواب ، والصواب والحق في الحكمة من الأقوال والأفعال ، ولهذا أثنى الله جل وعلا على من أوتي الحكمة ، فقال جل وعلا : ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(النساء: من الآية113) ، والحكمة : السُّنَّة من الأقوال والأفعال ، وهي الأقوال الصائبة في الحق ، والأفعال الصائبة في الحق .
فإذاً المؤمن من صفاته – وطالب العلم بالخصوص ، لأن هذه جاءت في ذكر صفات طالب العلم – أنه يتحرَّى الحكمة في الأقوال والأعمال ، لا يتصرَّف بمحض رأيه ، بل ينظر في الحكمة ، والحكمة أعلاها : ما وُجِد في سنى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هدي الصحابة – رضوان الله عليهم – في أفعالهم وكلامهم ، وكذلك في هدي وأفعال وكلام أئمة الإسلام ، هذه هي الحكمة ، لأن الحكمة مكتسبة ، تكتسبها مما عقلت من الكلام والأفعال .
لهذا الحكمة عُرِّفَتْ بتعريفات منها : أنها وَضْعُ الشيء في موضعه اللائق به .
ومنها : وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها الموافقة للغايات المحمودة منها ، وهذا التعريف الثاني هو الأولى والأظهر ، للتفريق ما بين الحكمة والعدل ، لأن العدل هو : وضع الشيء في موضعه ، يقابله الظلم الذي هو : وضع الشيء في غير موضعه ، والحكمة : عدل وزيادة ، لأن كل حكيم عادل ، وكل حكمة عدل في التصرُّف ، وضع الشيء في موضعه ، لكن تختلف الحكمة عن العدل بأن الحكمة ينظر فيها في الأقوال والأفعال إلى الغاية المحمودة منها ، فقد يضع المرءُ الشيءَ في موضعه ويكون عادلاً ، لكن لا يكون حكيماً في موافقة الأمر للغاية المحمودة ، بأن يكون فعله وقوله في المصلحة في ازدياد المصالح وتقليل المفاسد .
(36/157)
الحكمة لها أوجه ، ولها أسباب ، ربما ما يكون مناسباً بيان ذلك الآن ، وقد ذكر ذلك ابن القيِّم في موضع في ( مدارج السالكين ) .
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : (( إِنَّ الْفَقِيهَ حَقَّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطْ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَدَعْ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا وَلَا عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ وَلَا قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا )) .
الشرح :
الفقيه في الكتاب والسنة يعنى به : من أدرك معاني القرآن والسنة ، فأعلم الناس هو الأفقه فيهم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) ، يعني : بالأقرأ هنا : الأفقه ، لأنه كان عُرف السلف.
ومنه قول الله جل وعلا : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(التوبة: من الآية122)، فإذاً الفقه في الدين : هو العلم بحدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو الفهم ، ولا خير في عبادة لا فقه فيها ، ولا خير في قراءة لا فقه فيها ن يعني : لا يفهم معنى الآية ولا الحديث ، ولا يفهم معاني الأحكام ، من لا يُدرِك هذا ؛ لا خير فيما يعمله ، ويعني : أن خيره قليل .
الحديث قال : ( إن الفقيه حق الفقيه ) ، يعني : الفقيه المتحقق بالفقه ، الموصوف بالعلم بما أنزل الله جل وعلا في كتابه وعلى سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ؛ هو من اتصف بهذه الصفات أنه : لا يقنِّط الناس من رحمة الله ، ولم يرخص لهم في معصية الله ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، وهذه لا شك أنها صفة لأهل العلم .
(36/158)
أما من قصُر علمه ؛ فتجده في الوعظ والإرشاد ، أو تجده في دروسه إلى آخره ، تجد أنه يغلب عليه جانب من هذه الجوانب ، إما أنه يغلب عليه جانب الرجاء في الناس حتى يُجرِّئهم على المعاصي ، يفتح لهم باب الرجاء حتى يجرئهم على المعاصي ، أو أنه يشدد عليهم ، أو أنه يصف لهم العقوبة والعذاب وصفة النار ؛ حتى يقنِّطهم من رحمة الله جل وعلا ، ويظنون أنهم قد هلكوا . والفقيه حق الفقيه هو من يعامل الناس بطريقة الكتاب والسنة ، وهو أنه يعطيهم الرجاء ، ولكن أيضاً يخوفهم من العذاب ، فلا يومِّن ولا يقنِّط ، لأنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ، وكذلك الأمن من مكر الله محرم .
وهذا هو الذي ينبغي عليك أن تعتني به ، سواء في العلم ، أو إذا كتب الله جل وعلا لك إرشاد طائفة ، أو درس أو محاضرة ، أو إرشاد جهال في أي مكان في أن يكون عندك غرس في قلوب الناس الفرح بالطاعة ، والخوف من المعصية ، فتْح باب الرجاء وعدم التقنيط من الذنوب ، فتفتح لهم باب التوبة وباب الرجاء في قبول الطاعات ، وأيضاً تخزفهم من أثر المعصية والذنب ، وهذا يوافق طريقة أهل السنة والجماعة ، ووسطية ما قالوا به في باب الخوف والرجاء .
وعن الحسن رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ )) . رواهما الدارمي .
الشرح :
تخريجه : ضعيف ، وإسناده مرسل ، نصر بن القاسم مجهول ، وعمرو بن كثير لم أجد ترجمته ، ورواه الطبراني ، وفي إسناده – كما قال الهيثمي – فيه محمد بن الجعد وهو متروك ، والعباس بن دكار وهو كذَّاب .
(باب قبض العلم)
(36/159)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: (( هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ )) . رواه الترمذي .
وعَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ ((ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ)) قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ : (( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا )) . رواه أحمد وابن ماجه .
الشرح :
الأحاديث في قبض العلم وذهابه في آخر الزمان كثيرة ، منها في الصحيحين أحاديث عدة كقوله عليه الصلاة والسلام : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) ، ذهاب العلم من أشراط الساعة الصغرى ، أن يقل العلم ويُرفع ، وأن يكثر الجهل وفشو ، وكثرة القراءة الموجودة في هذا الزمان ؛ لا تدل على ازدياد العلم لأن الناس يقرأون ولكنهم لا يعلمون إلا القليل .
(36/160)
لهذا إذا نظرت – الآن – في عدد الأمة وعدد الناس ، كم منهم من يطلب العلم ؟ كم منهم من يعلم ، نادر ، يعني : إذا ذكرتَ ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف ، إذا كانوا يوجدون في ألف مليون ، لا شك أن هذا نادر جداً، وأيضاً هم متفاوتون في العلم ، وفي إدراكه وتحصيله ، فهذا يخوِّف ، وهذا الحديث مما ينبغي لك أن تستحضره دائماً في التخويف ، أن تدرك الزمن الذي ينزع فيه العلم ، وينتشر فيه الجهل ، لماذا ؟ لأن هذا يدل على فساد الزمان ، حتى ربما الواحد تدركه هذه البلية أن يكون جاهلاً فيتخذ رئيساً فيُسأل فيُفتي يغير علم وهو يظن عن نفسه أنه عالم لكنه سئل بغير علم فأفتى فضلَّ وأضل ، وهذه ظهرت بوادرها الآن فيما ينشر ويقرأ ويراه البعض في القنوات أو يسمعونه في الإذاعات أو في الصحف ، أسئلة كثيرة وأجوبة بغير علم ، يعني أجوبة من جهة الاستحسان والرأي أو الضعف أمام ما يجري في العصر ونحو ذلك مما هو سبيل ضعف العلم وعدم رعاية الدليل من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذاً هذه الأحاديث التي فيها رفع العلم في آخر الزمان وقلة العلم وكثرة الجهل ؛ تخوِّفك ، وإذا خفت أدلجت ، ( من خاف أدلج ) ، إذا خفت أدركت أن المسألة صعبة ، وأن مسؤولية الأمة ومسؤولية بقاء وراثة النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي عليَّ وعليك ، وعلى الثاني والثالث ممن أدركوا .
(36/161)
إذاً لا بد أن نبذل أنفسنا في العلم ، وطلب العلم جهاد ونشره جهاد ، النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً يجاهد بالعلم وبالقرآن ، (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) ، لذلك جهاد العلم هو أعظم من جهاد السنان ، ولهذا قول المحققين من أهل العلم : أن طلب العلم والتفرغ له والعناية به حفظاً ودرساً أنه أفضل من النوافل ، حتى أفضل من جهاد التطوع ، لماذا ؟ لأن النفع عام ، وجهاد التطوع قد يكون خاصاً ، لكن العلم فيمن أخذه بحزم وجد ؛ فإن نفعه عام له ولمن حوله وللناس ، ويبقى على مدى سنين طويلة ما أحياه الله جل وعلا .
(36/162)
فالمجاهدة بالعلم ؛ هذه من أعظم الجهاد ، بل هي سبب لكل خير ، لكن هذا لا يعني أن المرء يتصدَّر قبل أوانه ، أو يذكر ما لا يعلم ، أو يقول أشياء بالظن ، أو يتجرأ على ما ليس له ، وبالتجربة ، والذي وجدناه أن الله جل وعلا يبارك للعبد إذا علَّم ونشر ما علِم بيقين ، والذي لا تعلمه ، أو أنت شاك فيه ، أو لم تُحسن فهمه فاتركه ، ولا يلزمك أنك تعلم ، أو تنشر في كلمة أو محاضرة أو في خطبة شيء لا تعلمه ، فشيء مشتبه عليك ؛ اتركه أصلاً حتى تتحقق منه مائة بالمائة ، والناس الآن يحتاجون إلى اليقينيات ، يحتاجون إلى ما يعلمه طلاب العلم بوضوح ، يحتاجونه الآن ، نسوا أكثر العلم والدين من أمور الدين العظام في التوحيد وتعظيم القرآن وتعظيم السنة ، والإتيان بالعبادات ونحو ذلك ، طاعة النبي عليه الصلاة والسلام ، ونحو ذلك من الأمور التي هي أصول الدين ، فإذاً الواجب عليكم جميعاً الجد في طلب العلم ، لا يسبقنكم الزمان وفترة الشباب ، وهي فترة العلم والتعلم ، فإذا راحت ، وبدأت في الثلاثينيات ؛ صارت المسألة وسط ، يعني تبدأ تبني على ما مضى ، ويصير تحصيلك بحسب ما مضى ، فإذا صار ما مضى مركَّزاً وقوياً وبناؤه جيداً ؛ يكون تحصيلك تعطفه على ما سبق ، تبني بنياناً جيداً – بإذن الله وتوفيقه - ، إما إذا كان الأول مهزوزاً ؛ فستظل بعدها في الثلاثينيات وما بعدها ؛ ستظل مهزوزاً ، لأن ما بني على ضعيف ؛ سيكون ضعيفاً ، ولا وسيلة لتثبيت العلم مثل التقوى والإنابة إلى الله جل وعلا ، قال جل وعلا : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )(العنكبوت: من الآية69) ، وقال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)(النساء: من الآية66) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( من فعل ما يوعظ به ؛ ثبَّت الله العلم في صدره ) وكان ربما استغلقت عليه المسألة من مسائل العلم – يعني ابن
(36/163)
تيمية – يقول : ( فأسجد لله جل وعلا وأتضرع وأبكي وأعفر وجهي بالتراب حتى يُفتح لي ، وهذا لأجل الذل ، لأنه ما يستغلق القلب إلا لشيء عليه ، لأن هذا نور الله جل وعلا ، فكيف ما يدخل القلب ، كيف ما يفهم ؟ لا بد أن فيه شيء ، قد يكون من عدم استعدادات فطرية من عدم الذكاء وعدم الفهم ، هذا أمر آخر ، لكنه إذا كان لدى المرء استعدادات فكيف ، وهذا تجده أنت في نفسك ، فتجد أحياناً تلحظ أنك يأتيك انشراح فتفهم المسألة بسرعة ، وأحياناً تكون المسألة واضحة فتقول : كيف جاءت هذه ، حتى تقرأ الكلام الواضح ، تجد أن على القلب حاجزاً يمنع من فهمه ، لكن بتقوى الله جل وعلا ؛ يعظم الله جلا وعلا للعبد الأر وييسر له سبل الفهم .
وبالمناسبة هناك من يكثر الاستدلال على هذه المسألة بقول الله جل وعلا : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)(البقرة: من الآية282) ، والاستدلال بالآية على : أن من اتقى الله جل وعلا يعلمه الله ؛ ليس صحيحاً ، بل هو غلط من جهة اللغة العربية ، وكذلك من جهة حسن القراءة .
أما من جهة حسن القراءة : فإن الوقف الحسن على لفظ الجلالة : ( واتقوا الله ) ، وبعد ذلك تقرأ: ( ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) ، أما من جهة العربية ( واتقوا ) : أمر ، وإذا كان الأمر له جواب ؛ فإن يكون مجزوماً ، لو كانت ( ويعلمكم ) إنها خبر وأثر للتقوى نتيجة للتقوى ؛ لكانت مجزومة ، وبلا ( الواو ) ، فتكون – واتقوا الله يعلمْكم الله – هذا مقتضى النحو والعربية ، هذا كثير في القرآن ، مثل الشاهد عليها قوله في سورة نوح :( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ* يَغْفِرْ لَكُمْ) ، فالمغفرة جُزمت لأنها مرتبة على الأمر ، وهذا يسمى جواب الأمر في النحو ، ويكون مجزوماً لأنه في مقام جواب الشرط .
هنا : ( واتقوا الله ) ، ثم استأنف ، لأن ( الواو ) استئنافية ، ( ويعلمكم الله ) ، الفعل مرفوع بعدها .
(36/164)
بعض أهل العلم حاول أن يخرِّج هذا على أن تكون ( الواو ) حالية ، وحنى لو كانت حالية ؛ فإنها لا تكون مرتبة ، فالمعنى : واتقوا الله حالة كون الله يعلمكم ، وهذا أيضاً لا يستقيم مع الاستدلال .
لكن التقوى سبب للعم ليس بهذه الآية ، ولكن بقوله جل وعلا في سورة الفرقان : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً )(لأنفال: من الآية29) ، وأعظم الفرقان : الفرقان في المسائل العلمية بين الصواب وغيره ، تفهم وتفرق بين هذا وهذا ، فرقان ، مما يعطيه الله جل وعلا للمتقين .
فإذاً الاستدلال على مسألة أن المتقي يعلمه الله جل وعلا هذا من الاستدلال بآية الفرقان هو الصواب ، أما الاستدلال بآية البقرة ؛ فلا يستقيم من جهة العربية والنحو ، مع أن عدداً من المفسرين راج عليهم صنيع الوعاظ ، وقالوا : الآية يستدل بها على كذا ، ولكن رد عليهم طائفة من المحققين ، منهم أبو حيان في البحر المحيط وغيره .
وعن ابْنُ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – قال : ( عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ ) . رواه الدارمي بنحوه .
الشرح :
(36/165)
هذا الأثر أثر عظيم فيه : الوصية والحض والحث على أخذ العلم عن أهله قبل أن لا تعرف كيف تأخذ العلم ، وهذا في الواقع مشاهد فإن الإنسان تأتيه أحوال يكون مهيئاً له أن يطلب العلم ، مهيأ له أن يحفظ وأن يبحث ويقرأ ، فينبغي له أن يلزم العلم والعمل ومجالسة العلماء لأنه لا يدري متى يحتاج إلى العلم ، ولا يقول : العلم معروف وسهل ، والذي أحتاجه في حياتي مسألة أو مسألتين ، والعبادات عرفتها ، وأصول التوحيد عرفتها ، ويكفي ، لا تدري متى تحتاج إلى العلم ، لا تدري متى تحتاج إليه ، ومتى تفتقر إليه ، ومتى يُفتقَر إليك ، ولهذا كان من المصائب العظيمة في آخر الزمان أن يتخذ الناس رؤوساً جهالاً فيُسئلون فيُفتون بغير علم فيضلون ويُضلون ، فالواجب على طالب العلم بالخصوص وعلى كل من يأنس من نفسه رشداً في العلم أن يحرص على العلم ، وأن يلزم أهله لأن هذا أعظم القُرَب ، لهذا قال بعض السلف : ( كانت العبادة أفضل ما يُعمل في أول الإسلام ، والآن : العلم هو أفضل ما يُعمل ) ، يعني : أفضل من نوافل العبادة ، لماذا ؟ لأن الحاجة إليه عظيمة ، وكان سابقاً في أول الإسلام الكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع الصحابة ، وحال المجتمع وحال الناس يدل على الخير ويحث عليه ، والشُّبَه منفية ، والشهوات قليلة ، وما يحتاجه الإنسان في دينه - في الغالب – أنه قريب منه ، لكن بعد ذلك جاءت الشُّبه ، وجاءت الشهوات ، فاحتاج الناس – لكثرة جهلهم – إلى العلم وإلى الإرشاد وإلى البيان وإلى بقاء فهم حكم الله وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما وَرَّثوا العلم ، لهذا أعظم ما تتقرب به إلى الله جل وعلا بطلب العلم ، لأنك لا تدري متى تفتقر إليه – كما قال ابن مسعود رضي الله عنه – ولا متى يُفتقَر إليك فيه ، متى يُحتاج إليك في بلد قد يكون تحصل فتنة للناس ففيتفرق الناس ، متى يحتاج إليك ، وهل الناس
(36/166)
دائماً تتسر لهم اتصالات .
والآن لو كل طالب علم جلس في مسجده ونفع من حوله لكان خيراً عظيماً ، يعني بحسب ما عنده ، مع التثبت والسؤال وتقوى الله عز وجل ، ينفع نفسه وينفع الآخرين ، فلا شك أن الحاجة – كما قال ابن مسعود رضي الله عنه – إلى مزيد ومزيد في الاجتهاد في طلب العلم .
ثم ذكر الوصية بالقرآن ولزوم القرآن يكون مع الحذر من مخالفته ، فإن قوماً يزعمون أنهم يأخذون بالقرآن وهم قد تركوه وراءهم ظهرياً ، وهؤلاء هم أهل الشبهات والمشتبهات الذين أخذوا بالبدع وتركوا المحكمات من القرآن ، ولهذا الله جل وعلا وصف – في آية آل عمران – وصف المنحرفين الزائغين بأنهم يتبعون المتشابهات جزماً وقوة فيها ، ووصف الراسخين في العلم بالتواضع والذل ، وأنهم يجهلون أشياء كثيرة ، فقال جل وعلا : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)(آل عمران: من الآية7) ، وفي قوله : (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) ؛ ما يُشعِر بأنهم جازمون ، وأنهم أقوياء في اتباعهم للمتشابه ، ثم وصف الراسخين في العلم قال: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، على الوقف هنا ، ثم قال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، يعني : مع كونهم أهل ثبات وأهل رسوخ في العلم ؛ لكن عندهم تواضع وأناة لأن هناك أشياء يجهلونها ، لا نعلمها ( كل من عند ربنا ) سلمنا وآمنا ، وهذا هو الذي حصل في الأمة ، لأنه كلما زاد المرء زيغاً – والعياذ بالله – كلما ازداد شدة في تفسير القرآن ، أو في اتباع ما يريد من المتشابه ومجادلة عليه وقوة عليه ، والراسخون في العلم عندهم المحكمات والمجمع عليها
(36/167)
مسائل قليلة ليست بالكثيرة ، وما اشتبه عليهم يقول العالم الراسخ في العلم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، الله أعلم ، ما ندري ، هذه تحتاج إلى مراجعة ، وأما الآخرون فتجد عندهم جزم وخوض في كل شيء ، وقلَّ أن تجد عند زائغ أن يقول ( لا أعلم ) أو ( لا أدري) ، بينما تجد عند الراسخين في العلم الذين تحققوا في العلم بوصية ابن مسعود هذه ، وتحققوا بالقرآن ؛ أنه يقول: لا أعلم ، أجهل ، حتى بينه وبين نفسه يهرب من المشتبهات ، ويأخذ المحكمات طلباً للسلامة ، فما حدث في الأمة من الانحراف ، ومن الزيغ ؛ كله بسبب ترك العلم النافع ، وترك الأخذ بالسنة ، وترك معرفة القرآن والعلم بحدود ما فيه من العقائد والغيبيات والأحكام والشرعيات .
(36/168)
الواجب عليكم جميعاً الجد في العلم ، لأن الزمن هذا ليس زمن علم ، إنما هو زمن جهل ، فالناس – الآن – كلما زاد بهم الزمان ؛ كلما زاد بهم الجهل ، وكما قال من قال : ( كفى بالاغترار بالله جهلاً ، وكفى بخشية الله علماً ) ، ليس المقصود الثقافة والكلام ، هذا أكثر الآن ، الصغير الآن يجادلك ، يقول : لا ، هذا يدلك على كذا ، وهذا يدل على كذا ، فالمقصود : العلم النافع الذي قرره أهل العلم ، وأهل السنة ، وأئمة السلف، في المسائل الخلافية يعرف المرء ما ينجيه فيها ، ويأخذ بما دلت عليه الأدلة ، إذا اتضحت له ، أو يحتاط لدينه ، هذا يحتاج إلى مصابرة وصبر وبذل ، فالعلم ليس سهلاً ، فمن أراد لزوم الطاعة ، هذا معه إلى الموت ، وليس سنة أو سنتين ، كذلك العلم يبقى معه إلى الموت ، ليس قليلاً ويذهب ، ولكن معه إلى الموت ، فلا بد أن توطِّن نفسك أنك إذا صرت طالب علم ، فهو معك إلى الموت ، وهذا أعظم ما تتقرب به إلى الله جل وعلا ، وأعظم من نوافل العبادات ، لأنك أنت – الآن – في مقام جهاد ومقام حماية للشرع ، كيف يعلم من في بيتك ، ومن حولك ، كيف يعلمون ؟ خاصة في أصول الدين العظيمة ، كالتوحيد والعقائد ونحو ذلك ، يدخلهم الشيطان فيوقعهم في أعظم مصيبة ، وهي البدع وقبلها الشرك – والعياذ بالله - ، رحم الله ابن مسعود ورضي عنه .
(36/169)
( العتيق ) : هو الأمر الذي كان عليه السلف ، كان عليه من قبل ، وهذا يفسره قول ابن مسعود لما أُخبِر عن جماعة في الكوفة ، أنهم يسبحون مائة ، ويهللون مائة ، ومعهم حصى ، فقيل له ، فذهب إليهم ، فوجد قائلاً منهم يقول : سبحوا مائة فيسبحون على انفراد ، ثم يبدأون يعدون بالحصى أمامه ، فقال لهم : لأنتم أهدى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أنتم على شعبة ضلالة – وهذه ثنائية صحيحة إما هذا أو هذا- هذه آنية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُكسَر ، وهؤلاء زوجاته لم يمتن ، وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ! الخير أردنا ، - يعني : يا ابن مسعود ما أردنا إلا الخير ، هذا تهليل ، ونعد بالحصى ونحن مجتمعين – فقال : ( كم من مريد للخير لم يبلغه ، أو لم يحصله ) ، هذا لأنهم لم يأخذوا بالعتق .
فالعتيق هو : الأمر الأول قبل ما تحصل الخلافات والافتراق والبدع ، هل كان عليه الزمن الأول أم لا ؟ هل كان عليه الأمر من قبل أم لا ؟ هذه حجة السلف دائماً ، هل فعله السلف أم لم يفعلوه ؟ أحياناً بعض المسائل تدل عليها عمومات ، مثل الآن فِعْل هؤلاء لما اجتمعوا على الذكر على هذا النحو قد يستدل له بعموم : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ) ، أو : ( ما اجتمع قوم يذكرون الله .. ) ، أو ( ما جلس قوم مجلساً ثم قاموا ولم يذكروا الله إلا قاموا على مثل جيفة حمار ) ، يعني : ثَمَّ عمومات تدل على فضل الذكر ، وفضل الاجتماع ، لكن إدخال صورة ما في عموم ، وهو من جهة العمل الجماعي الذي تضاهي به الشريعة ، إدخاله في عموم يقولون : هذا دلَّ عليه الدليل ؛ هذا ليس بحجة ، لأن المسألة إذا دل العموم ( عموم الدليل ) من الكتاب والسنة على هيئة مضاهية للهيئات الشرعية ، فالحال قسمان :
(36/170)
إما أن تكون هذه الهيئة المضاهية عملها السلف ، أو لا يكونوا عملوها ، فإن كانوا عملوا بها فدخولها في العموم الاستدلال بها واضح ، لأن السلف فهموا دخول هذه الصورة في العموم وعملوا بها .
وإما أن يكونوا لم يعملوا بها ؛ فهذا يدل على أن هذه الصورة التي هي الهيئة المضاهية للشرع أنه لا يجوز أن تدخل ن لأن السلف تركوها ، الصحابة تركوها ، وهذا معنى قول ابن مسعود : ( عليكم بالعتيق ) ، يعني : من جهة السلوك والسبيل ، كذلك عليكم بالعتيق فيما يختلف فيه من الاستدلالات ، لأن أصحاب الاحتفالات والموالد وأشباهها استدلوا بعمومات ن جاء في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم الاثنين والخميس ن وسئل عنه فقال : ( ذاك يوم ولدت فيه وبعثت فيه ) ، الحديث رواه مسل، فالنبي صلى الله عليه وسلم صام يومي الاثنين والخميس ، وعلَّل صيامه بأنه ولد فيه ، وبعث فيه ، فصيامه – عليه الصلاة والسلام – له شكراً على نعمة ولادته ، وعلى نعمة بعثه ، والإيحاء إليه عليه الصلاة والسلام .
وكذلك ما ورد من أن الأعمال ترفع فيه : ( وأحب أن يرفع العمل وأنا صائم ) ، فجاءوا وقالوا : هذا احتفاء ، فإذاً نقيم الموالد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتفل ، فنقول لهم : هذا الدليل الذي أوردتموه إذا قلنا يحتمل هذا المعنى أو يدل عليه ؛ فلماذا تركه الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم الذي صام فيه لم يفعل هذا النوع الذي هو الاحتفاء وإطعام الطعام والاجتماع ، إذا كان مشروعاً ،لماذا لم يُفعَل ؟ إذاً هنا يأتي : ( فعليكم بالعتيق ) .
وكلما حصلت فتنة واختلاف ؛ انظر ما عليه الناس قبل الفتنة – يعني في المسألة في الدين عظيمة – انظر ماذا عليه الناس قبل الفتنة ، تجد أن الأمر يتضح لك ، وهذه قاعدة صحيحة ومجربة وواضحة من عمل السلف .
(36/171)
فالتزام طريقة الصحابة – رضوان الله عليهم – والسلف الصالح ، والأمر الأول أنجى ، كلما كان الناس أقرب إلى زمن النبوة كلما كانوا أسلم من البدع والجهل والضلالات .
مثل : ( التكبير الجماعي في العيدين ) يستدلون له بفعل ابن عمر وأبي هريرة – رضي الله عنهما – لما كانا يدخلان السوق فكبرا وكبر الناس بتكبيرهما ، قالوا : هذا يدل على التكبير الجماعي .
هذا لا يدل ، لأنهما ذكَّرا الناس فتذكر الناس لما سمعوا تكبير ابن عمر وأبي هريرة كبَّروا من باب التذكر ، (كبّر الناس بتكبيرهما) ، يعني : يكبرون بسبب تكبيرهما ، فإذا جاء واحد يكبر في المسجد ، والناس يكبرون ؛ فهذه هيئة اجتماعية ، ولو كان ثَمَّ مستمسك ، لنفرض أن فيه استدلالاً لكن هل فُعل في المساجد ، هل فعله ابن عمر وأبي هريرة في المسجد ، لنفرض – تنزلاً – أنه فُعل في السوق لكن هل فعل في المسجد بهذه الهيئة الجماعية ؟ فقد يكون هناك مستمسك في الدليل لكن يُنظر في عمل السلف .
وفي الصحيحين عن ابن عمرو مرفوعاً : (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )) .
الشرح :
هذا الحديث فيه التخويف من هذا الزمان الذي يقبض فيه العلم ، ونقف عنده وقفات :
(36/172)
1- أن حقيقة قبض العلم إنما هو قبض من يحمله ، قال : ( ولكن بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً .. ) وهذا مما يجعل العبد يفرح كثيراً بوجود العلماء الذين يحملون هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحملون العلم بالكتاب والسنة ، لأن ببقائهم بقاء العلم ، ويموتهم وعدم وجود من يخلفهم ، ويحمل العلم ؛ هذا من علامات نزع العلم ، والضلال والإضلال ، وإذا تبيَّن هذا ؛ فالواجب على إذاً على طالب العلم ، بل على كلم مسلم أن يكون من المعزِّرين والمناصرين والحافين بالعلماء ، لأن في تأييدهم تأييد الدين ، ولأن في الأخذ عنهم بقاء العلم وعد اندراسه وقبضه ، قال : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ، كيف إذاً يُقبض العلم ؟ ( ولكن يقبضه بموت العلماء ) ، يموت العلماء شيئاً فشيئاً ، وهذا جاء في تفسير قول الله جل وعلا : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا )(الرعد: من الآية41)، جاء في تفسيرها : أن نقص الأرض من أطرافها يموت العلماء ، لأنها تبدأ تنقص تنقص حتى تصير أرض ضلال ، والعياذ بالله .
2- عند قوله : ( حتى إذا لم يبق عالم ) ، هذه ضُبِطَت بوجهين :
- ( حتى إذا لم يَبقَ عالمٌ ) ، فتصير ( عالمٌ ) : فاعل ، وهذه هي المشهورة .
- ( حتى إذا لم يُبقِ عالماً ) ، يعني : الله جل وعلا ، والأولى هي المشهورة في الرواية .
3- ( اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ) ، هذا يدل على أن الناس يحتاجون إلى من يؤمهم في دينهم ، ويُعلِمْهم بالأحكام ، فإذا لم يجدوا أحداً فإنهم لا بد أن يتخذوا رؤوساً ، وهؤلاء الرؤوس أيضاً لا بد أن عندهم علماً ميزهم عن غيرهم ، لماذا اتخذ فلاناً وفلاناً رؤوساً ؟ لأنهم وجدوهم أمثل منهم ، وجدوا عندهم خبراً ، وجدوا عندهم علماً ، لكنهم في الحقيقة جهال ، وجهلهم من جهتين :
الأولى : عدم العلم . الثانية : عدم العمل .
(36/173)
لأن الذي لا يعلم جاهل ، والذي يعلم ولا يعمل ولا يحل الحلال ولا يحرم الحرام ولا يخشى الله جل وعلا فهو مغتر بالله جل وعلا ، وكما جاء في الأثر : ( كفى بالاغترار بالله جهلاً ) ، وعدم العمل ممن عنده علم ؛ يعني عدم تحليل المحلل ، وعدم تحريم الحرام وعدم القول بالحق ؛ هذا يورث أن هذا المنتسب للعلم يجتريء على الأحكام ، فيحكم في شرع الله برأيه ، أو بحسب ما يراه من المصالح الدنيوية لمن سأله ، أو للوضع ، أو نحو ذلك مما لا يكون فيه مراقبة لله جل وعلا ، فهذان نوعان من الجهل يوجدان .
إذا مات العلماء العاملون ، قال : ( اتخذوا الناس رؤوساً جهالاً ) في الحقيقة هم جهال إما بعد العلم ، أو بترك العمل ، لا يحللون الحلال ، ولا يحرمون الحرام ، وليسوا بذوي خشية من الله جل وعلا ، وهذا يجعلهم ذوي جراءة وإقدام على تحريف الشرع ، كما حصل لأناس كثير في زماننا هذا ممن أحلوا بعض المحرمات المشهورة ، فهناك من قال مثلا: إن الرجل له أن يستمتع بمن يريد أن يتزوجها ، يعني قبل الخطبة ، هناك من هو منتسب للعلم سئل فأفتى ، وهناك من سئل أيضاً في مسألة معاشرة الرجل لزميلته في الجامعة ، فقال : من الأشياء الضرورية التي لا يمكن التخلص منها فكون الشاب يجلس مع زميلته في خلوة وفي الجامعة ، ويذهب معها ، وربما يحصل بينهم أشياء من وسائل المحرم ، يعني من مقدِّمات الجماع ، يقول : هذا من الأشياء التي تعم بها البلوى ، وسهَّل فيها ، ومنهم ومنهم ممن سُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا .
(36/174)
3- أنه في آخر الحديث : ( سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) ، مما يجعل طالب العلم دائماً في حذر أن يفتي بغير علم ، فإذا أفتى بغير علم ؛ فالنتيجة : أنه يَضِل ويُضِل ، والذي يَضل ويُضِل هذا إثمه عظيم أعظم من إثم من أخذ بالفتوى وعمل جهلاً ، وارتكب المحرمات بشهوته ، ( فأفتى بغير علم ) ، يعني : تجرأ ، قال على الله بلا علم ، فضل وأضل ، لهذا الله جل وعلا جعل القول عليه بلا علم قريناً للمحرمات الكبيرة ، قريناً للشرك بالله جل وعلا ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33) ، وقال سبحانه : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36) وقال : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف:6)(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (لأعراف:7) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ) (الأعراف:9) ، والآيات في هذا التخويف شديد .
(36/175)
فالواجب عليك أن لا تتخذ رأساً جاهلاً ، لأن الناس قد يتخذك أهل بيتك رأساً جاهلاً ، وقد يكون أهل قريتك يتخذونك رأساً ، يسألونك وأنت تفتيهم بغير علم فتضل وتُضل ، لأنه ليس عندهم علماء راسخين فيسألون من عندهم فيتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، وهذه تخوف كل طالب علم من أن يفتي بغير علم ، لا تُفْتِ إلا بحجة ، ولو ما أفتيت إلا في السنة مرة واحدة على الدليل ولا تأثم ، لأنه يجب على من احتاج إلى الفتوى أن يسعى هو ، يسأل أهل العلم ، وأنت لا يلزمك أن تفتي بغير علم وبغير تثبُّت ، لا تعلم الحكم في المسألة تجتهد فيه وأنت لا تعلم ، تعلم أن نفسك مترددة وليس عندك علم واضح .
فالواجب عدم التجرؤ على الفتوى ، وإجابة السؤال بغير علم سواء كان الإنسان إمام مسجد أو كان خطيباً ، مثل ما يحصل لإمام المسجد يأتي من يسأله ، أو بعد الخطبة ، أو يكون في قرية معروف أنه ديِّن وطالب علم ، وعنده كتب ، فيسألونه ، وقد لا يسأله من لا يعرفه أصلاً ، وهذا أعظم لأنه لو سألك من تعرفه وأخطأت ؛ تتصل به وتبين له ، لكن الذي لا تعرفه ربما بقيت معه الفتوى طول عمره ويعلِّم بها عياله ن وكثير من العبادات الباطلة إنما فشت في الناس بقول مرجوح ، وأحياناً بقول باطل ، وبعض البلاد كيف انتشرت البدع؟ بالأقوال الباطلة من العلماء الذين أفتوا بغير علم .
فالواجب الحذر الحذر الشديد من القول على الله بلا علم ، فطالب العلم يتعلم ، ويعلم ويدعو إلى كا تعلمه ، إذا سئل يجيب عما يعلمه بدليله ، أو يعلَم أحداً من أهل العلم قاله في هذه المسألة ، ينجو بإذن الله ، لكن إذا هو فكَّر واجتهد بحسب ما عنده من المعلومات وهو ما عرف الفقه ، ولم يصرْ راسخاً في فهم الدليل ؛ هذا ربما نشأ عنه ما جاء في هذا الحديث ( ..فضَلُّوا وأضلُّوا ) ، وقاني الله وإياكم من عثار اللسان والكلام .
(36/176)
وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى ، علماؤهم شرٌّ من تحت أديم السماء ، من عندهم تخرُج الفتنة ، وفيهم تعود ) رواه البيهقي في شعب الإيمان
الشرح :
هذا الحديث الثاني الذي رواه البيهقي في ( شعب الإيمان ) ، دال على هذا الأصل ، وهو أن الناس سيأتيهم زمن يُقبَض فيهم العلم الذي هو العلم بالكتاب والسنة ، أو العلم بمعنى العمل الصالح ، فيأتون إلى المساجد وليس فيهم هدى ، وليس فيهم خشية ويفعلون أمورهم .
( هنا ...... سقط يسير في آخر الوجه الأول من الشريط السابع )
ثم قال الشيخ صالح : ( من الوجه الثاني / 7)
والثاني : أهل الأهواء ، كما قال سبحانه وتعالى : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد:14) ، أي : لا يستوي هذا وهذا ، من عنده بيِّنة من ربه ، ومن زُيِّن له سوء عمله واتبع هواه في أمره ، أو فيما يأمر به .
(باب التشديد في طلب العلم للمراء والجدال )
عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ ) رواه الترمذي .
الشرح :
(36/177)
هذا الحديث فيه التحذير الشديد من النية الفاسدة في طلب العلم ، والواجب على طالب العلم أن يُصلح النية ، لأن طلب العلم عبادة بل من أجلِّ العبادات الواجبة أو النفل ، وقبولها ونفع الله جل وعلا به شرطه الأول ، أن تكون النية صالحة يطلبه لله جل وعلا ، وهذا الحديث فيه ذكر أشياء مما يفسد النية في طلب العلم ، يطلب العلم للمراءاة أو للمجاراة ، يجاري به السفهاء ، أو يباهي به طلبة العلم والعلماء ، يعني : يكون عند خبر ، وعنده تأليف أو نحو ذلك ، هذه نية فاسدة .
والنية الفاسدة كثيرة الأشكال والصور ، أما النية الصالحة التي يتقبل الله جل وعلا بها هذا التعبُّد لطلب العلم ، أن ينوي بطلبه للعلم ؛ رفع الجهل عن نفسه ، الجهل بمراد الله جل وعلا ، فالنية الصالحة أن ينوي رفع الجهل عن نفسه .
سئل الإمام أحمد – رحمه الله – ما النية في طلب العلم ؟ قال : ( أن تنوي رفع الجهل عن نفسك ) ، ثم إذا كان هو سيظن أنه سيُعلِّم غيره ، ويأمل أنه يتعلَّم ليكون مرشداً ، ليُعلِّم الناس أصول الدين ، ويعلم الناس مبانيه العظام ، أو يُرشد أو يُعلِّم أو نحو ذلك ؛ فإنه تكون نية أخرى مع ذلك : أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره أيضاً ، هذه نية صالحة ، لأن بعض الناس ينوي رفع الجهل عن نفسه ، ويأتي يتصدَّر ، لكن ما ينوي رفع الجهل عن الناس ، لكن ينوي – والعياذ بالله – أن يتوجَّه الناس إليه ، وأن يحضروا درسه ، وأن يكون مشهوراً ، أو أنه إذا اشتهر ؛ صار الناس يُعطونه ، أو يُقبلُون عليه ، أو نحو ذلك من النيات الفاسدة ، هذا مبطل لأجره – والعياذ بالله – يتعرض به لسخط الله جل وعلا .
إذا كانت النية للدنيا ؛ فعمله مردود يكسب بها دنيا ، وقد تكون وبالاً عليه ، وقد تكون مما يباح .
(36/178)
مثل : الآن الطلب في الكليات الشرعية ، يطلب فيها العلم الشرعي ، يطلب به الشهادة والوظيفة ، ليس له همٌ في أن يعرِف مراد الله جل وعلا منه ، ليس له همٌ أن يعلم معاني الكتاب والسنة ، وأن يرفع الجهل عن نفسه بما بَعث الله نبيه – عليه الصلاة والسلام - ، ليس له همٌ في معرفة العقيدة الصحيحة ؛ فهذ نيته فاسدة ، وعمله مردود وغير متقبل منه بل يأثم عليه إذا كان طلبه للعم في الأشياء التي تجب عليه ثم هو ينوي بها الدنيا ، هذا - والعياذ بالله – مأزور غير مأجور ، وهذه من الأمور التي يحتاج فيها المرء أن يصحح قصده بين الحين والآخر ، أن تكون نيته صالحة ، ما ينوي أنه يتوجه الناس إليه ، ويظهر هذا في أشياء ، وهي أنه أحياناً تجد المرء تغلبه نفسه على التأليف ، وفي أن يكون باحثاً ، والأشياء الضرورية من الدين ما تعلَّمها ، وإذا تعلَّمها ما يستحضرها دائماً لينفع بها نفسه ، وينفع بها غيره ، إذاً يكون استكثاراً في كل شيء ، ليس مرغوباً فيه .
فالواجب الحرص على تصحيح النية ، والقلب هو مدار العمل على ما يكون من صحة النية ، وصحة المتابعة والإخلاص لله جل وعلا وعدم الرغبة في توجيه أنظار الناس إليه ، رضوا الناس أم لم يرضوا ، أثنوا عليه أم لم يُثنوا ، المقصود صلاح القلب فيما بينه وبين ربه ، وأن يكون طلبه للعلم لله ، يبارك الله جل وعلا له .
(36/179)
الناس درجات منهم من يأخذ العلم كثيراً ، ومنهم من يأخذ العلم قليلاً ، والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – أيضاً درجات ، (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض)(البقرة: من الآية253) ، فليس أيضاً ضرورياً أن يكون طلاب العلم كلهم في مرتبة واحدة ، لأن الله جل وعلا هو الذي قسَّم هذا الشيء ، فلان عالم حافظ في كل فن ، وفلان متوسط ، لكن لا يعني هذا أن تكون نيته فاسدة ، أما أنه ينقطع عن العلم يعطي ما عنده ، يعلِّم من يستفيد منه ، وسيجد من يفيد ، وعلماء السلف كانوا على ذلك ، فالصحابة ليسوا على مرتبة واحدة في العلم ، لكن كلٌ علَّم بما عنده ، وأئمة الإسلام وعلماء الدين – أيضاً – لم يكونوا على مرتبة واحدة ، لكن النية الصالحة في أنهم يطلبون العلم لله جل وعلا ، وينوون رفع الجهل عن أنفسهم وعن من يلونهم ، ويستعينون بالله ، ويجاهدون بحسب الإمكان ، ولا يقولون على الله بغير علم ، هذا الأصل ، أن تكون النية صالحة ، لا يطلبها للدنيا ، لا للمماراة ، ولا للمجاراة ، ولا للرياء ، ثم في نيته وعمله يعلِّم بحسب ما يَعْلَم ، لا يقْفُ ما ليس له به علم ، لا يتجرأ ، لأنه ليس بلازم أن تتكلم في كل شيء ، علِّمْ بما تعلم ، إذا احتيج إليك ، مدرس في الكلية أو الثانوية أو الابتدائي ، تأتيك أسئلة لا تعلمها ؛ قل : لا أعلم ، أو تبحث وتأتي بما يفيد ، أما الكلام بعلم وبغير علم ليس من سيما من أصلح الله نيته .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه .
الشرح :
(36/180)
هذا حديث عظيم – أيضاً – يحتاجه طلاب العلم كثيراً ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : (مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ) ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) ، والعلم النافع يورث صاحبه السكينة والطمأنينة ، والجدل مذموم ، بخلاف المجادلة ، فالمجادلة غير الجدل .
فالجدل في الشريعة مذموم ، وهو : المناقشة والمحاورة والكلام فيما لا ينفع في الشريعة ، أو المقصود به : التعالي.
وأصله مأخوذ من لف الحبل ، جدل الحبل والشَّعر ونحو ذلك ، إذا أُدخل بعضه في بعض ،يقال : هذه جديلة ، يعني : مجدولة ، يعني : إدخال بعضها في بعض ويسمى الحبل – أيضا: جديل ، لأنه مدخل بعضه في بعض ومحكم ،كذلك : الكلام إذا تداخل ؛ هذا يورد كذا وهذا يورد كذا ، يسمى مجادلة ، ويسمى جدل ، فإن كان المقصود منه الحق وليس الترفُّع والمقصود منه إدراك الصواب ؛ سُمِّيت المناقشات : مجادلة ، ولهذا أوصى الله جل وعلا في القرآن بالمجادلة بالتي هي أحسن ، أي المحمودة ، قال الله جل وعلا : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125) ، وقال جل وعلا أيضاً : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من الآية46) ، فأصل المجادلة مأذون بها بآدابها وشروطها .
(36/181)
أما الجدل ، فهو يشتبه مع المجادلة في المعنى ، لكن في الشريعة جاء ذمُّه في قوله تعالى : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)(الزخرف: من الآية58) ن يعني : ما يطلبون الحق ، ولا يريدون زوال الشبهة ؛ وإنما الغرض – فقط – الكلام دون رغبة في الحق ، ولا صيرورة إليه إذا اتضح ، ولهذا قال جل وعلا – بعدها - : ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(الزخرف: من الآية58) .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) ، يعني : أن الجدل صفة الضالين ، لأنهم يتحاوروا ويتجادلوا في أمر لا ينفع ، أو في أمر مضرته عليهم ظاهرة ، أو في أمر لم يؤذن لهم فيه ، مثل مسائل القدَر ، ومسائل الصفات فيما لم يؤذن لهم فيه ، ومثل مسائل الأفلاك ، ونحو ذلك ، وأشباهها .
فإذاً المباحث العلمية تكون لغرض معرفة الصواب والحق ، أما الكلام الذي ليس لمعرفة الحق إنما هو لمناظرات باطلة ، أو الترفع ، أو لإظهار ما عند المر من قُدُرات ؛ هذه كلُّها مذمومة ، وهذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه هذا صار في هذه الأمة ، وإنما نشأت الفرق الضالة من الجدل ن تجادلوا في مسائل الدليل فيها واضح ، ولو وقفوا على الدليل ؛ لكان خيراً لهم وأحسن تأويلاً .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة يوماً – وهم يتنازعون في القَدَر – فكأنما فقيء في وجهه حبُّ الرُّمَّان .
ومرَّةً خرج عليهم وهم يتنازعون في القرآن ، كلٌ يورد آية على مراده – وهذا ضَرْبٌ للقرآن بعضه ببعض ، لأن القرآن مؤتلف غير مختلف ، فالمحكم فيه واضح ، والمتشابه يُرَدُّ إلى المحكم ن والمسائل التي يكون فيها سبب للخلاف والاختلاف هذه قليلة – فغضب عليه الصلاة والسلام .
(36/182)
فالمقصود : أن الجدل مذموم ، والمرء يتباحث مع إخوانه فيما ينفع ، أما إذا رأى أن المسألة توجهت للانتصار للنفس ، وهذه تراها معك في جلساتك اليومية ، تتباحث مع واحد ، تلحظ أنه اتجه النقاش لا إلى المسألة ، لكن إلى بيان أن قوله صواب ، وهذا يدافع عن قوله ، وأنا أرى كذا ، وهكذا .
فالمرء لا يعين الشيطان على نفسه ولا على أخيه ، لأنه ربما يقول على الله بلا علم فيأثم ، فيسكت ، ولو علِم أنه هو المصيب ، لأن السكوت فيه إعانة له ولأخيه على الخير .
إذا كانت مجادلة في بحث علمي المراد منه الإيراد والفهم بدون انتصار للنفس ، أو تأويل للقول ، فأحياناً الإنسان وهو يتكلم يخطئ فيحضر أشياء شرعية من أجل تبرير خطئه ، وهو يعرف في داخل نفسه أنه مخطئ ، نسب شيئاً خطئاً ، أو قال شيئاً خطئاً ، وهذا عرضة لكل واحد أنه يقع فيها ، وهو نوع من الجدل المذموم ن ولهذا يحذر من أن المرء يتكبَّر عن الحق ، فإن هذا من مواريث الجدل ، ويسبب الضلال – والعياذ بالله – وأعاننا على أنفسنا .
ولهذا ما أحسن كلمة الإمام مالك حينما قيل له : الرجل تكون عنده السنة أيجادل عليها ؟ قال : ( لا ، يُخبر بالسنة ، فإن قُبلت منه ، وإلا سكت ) ، لأن السنة لها نور ، وتقع في قلب المخاطب ، فلا تظن أنك تضعف بل تقع في قلب خصمك ، لأن حجتك قوية ، فإذا كانت الحجة قوية ولو لم يستسلم لك ، لكن هي تقع في قلبه أنك كانت حجتك قوية ، وتنفع ولو بعد حين .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ ) . متفق عليه .
الشرح :
(36/183)
هذا أيضاً من الآداب العظيمة التي أدبنا بها النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم تحذير وهو أن الرجل ( الألد الخصم ) يعني : التي خصومته شديدة ، سواء في العلم أم في غيره ، وإذا أراد أحداً فإنه يلادُّه بالكلام حتى يسقطه ، وشديد الخصومة في ألفاظه وأقواله ونحو ذلك ، فهذا مبغض عند الله جل وعلا ، الذي لا يتكلم إلا بهذه الأمور ، ألد خصِم الناس ، له خصوم ، كل من خالفه صار خصماً له ، هذا – والعياذ بالله – من صفات المذمومين ، ولا تكون عند أحد ممن له نية صحيحة في العلم وطلبه ، فهذا الحديث يحذِّر كل طالب علم من أن يكون كثير الخصومة ، عنده لدد في أقواله وخصومته ومعاداته للناس إذا اختلفوا معه ، بل المرء فيما يختلف فيه الناس يكون على سعة في الصدر وسعة في البال ، ولا يجعل من كل اختلاف سبباً للخصومة ، ولا من كل خلاف سبباً للعداوة ، واللدد : التطاول .
فيجب تبيين الحق ، والرد على أهل الباطل ، لكن ما يكون فيه الخصومة التي فيها انتصار للنفس ، يعني : الجدل المذموم ، لكن المجادلة بالتي هي أحسن ، هذه مطلوبة ، بيان الحق بدليله ، والرد على الأقوال المخالفة والشبه بالأدلة الشرعية الواضحة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة ، هذا متعيِّن ، من الجهاد ، أما صياغة الردود ليظهر قوة المرء لإنقاص الآخرين ؛ هذه مقاصد فاسدة .
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنه - قَالَ : ( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِأَرْبَعٍ دَخَلَ النَّارَ - أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ - لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ ) . رواه الدارمي .
(36/184)
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال لقوم سمعهم يتمارون في الدين : (( أما علمتم أن لله عباداً أسكتتهم خشية الله من غير صمم ولا بكم ، وإنهم لهم العلماء والفصحاء والطلقاء والنبلاء . العلماء بأيام الله ، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت عقولهم وانكسرت قلوبهم ، وانقطعت ألسنتهم ، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعُدُّون أنفسهم من المفَرِّطين ، وإنهم لأكياس أقوياء ومع الضالين والخطَّائين وإنهم لأبرار برءاء ، ألا إنهم لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له بالقليل ، ولا يُدِلُّون عليه بأعمالهم حيث ما لقيتَهم مهتمون مشفقون ، وَجِلون خائفون )) رواه أبو نعيم ، قال الحسن – وسمع قوماً يتجادلون : (( هؤلاء قوم مَلُّوا العبادة ، وخفَّ عليهم القول ، وقلَّ ورعُهم فتكلموا )) .
الشرح :
(36/185)
الحمد لله وبعد : هذه الأحاديث في آخر كتاب أصول الإيمان يبين فيها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – ما ينبغي لطالب العلم أن يتحلى به من الأخلاق والآداب الواجبة والمستحبة ، فذكر من الآثار شيئاً كثيراً ، ومنها قول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : (مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِأَرْبَعٍ دَخَلَ النَّارَ - أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ - لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ ) وهذه المقاصد كلها خلاف النية الصحيحة والقصد الصحيح في طلب العلم ، فمن طلب العلم للدنيا كان داخلاً في قول الله جل وعلا : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15) (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16) ، فالذي يعمل العمل الصالح لغير الله ، أو يريد به الدنيا - وهو مما يراد به وجه الله جل وعلا – فهذا متوعد بالنار ، لهذا قال هنا – من فهمه للآية وعلمه بالقرآن – قال : ( من طلب لأربع دخل النار ) ، لا يقال هذا من قبيل المرفوع لأنه مما لا يقال بالاجتهاد ، لأن هذا يقال بالاجتهاد ، وهو أنه أخذه من فهمه للآية ، لأن طلب العلم لمباهاة العلماء ، أي ليكون بهياً بين العلماء ، وليذكر بين العلماء ، لأن هذا طلب لغير الله ، وكذلك نشر العلم لأجل لأن يُنظر إليه ، أو لأجل أن تنصرف وجوه إليه ؛ هذه نية فاسدة ، إنما النية الصالحة في طلب العلم : أن يكون لله رغبة فيما عنده ، وأن يرفع الجهل بذلك عن نفسه بطلبه للعلم .
(36/186)
فهذه المقاصد من مقاصد الدنيا ؛ إذا كان قصده مباهاة العلماء ، وأن يُذكر بينهم ، وأنه إذا جلس بينهم إذا عنده مسائل ، وإذا هو يفهم في العلم ؛ هذا قصد سيء ، وليس قصد الخائفين من الله المتقربين إليه بطلبهم للعلم .
كذلك : ( أو ليماري به السفهاء ) يعني : ليرد به على كل سفيه تكلم ، أو يكون ذا جدال في المسائل مع كل سفيه ممن يُحسن ولا يحسن ، ممن يتكلمون بغير علم ، ويتجرأون على الحق ، هؤلاء هم السفهاء ، فمماراة السفهاء خلاف السنة ، إذا كان يقصد أنه إذا جاءه أحد فإنه يظهر نفسه فيماري هذا وهذا ؛ هذا خلاف النية الصحيحة والقصد الصحيح ، لأنه يطلب العلم لله جل وعلا ، إذا احتاج بعد ذلك إلى رد منكر ، أو إلى رد قول من الأقوال الباطلة ؛ فهذا واجب عليه أو مستحب بحسب الحال ، لكن يطلبه ليحصل له ذلك ، يطلبه ليتحدَّث في الجرايد ، أو ليكون ذا كتابات ، أو ليظهر في الشاشات ، أو نحو ذلك ، أو يكون عنده خبر ، أو قد يكون طلبه للعلم لمنشئه ، وقد يطلبه لتنصرف وجوه الناس إليه والزيادة وهو غير مريد لوجه الله ، أو ليصير ذا ثقافة ، وهو في داخله غير متعبد لله بذلك ، نسأل الله العافية والسلامة .
أو ليترزق به ، يعني يدخل على الأمراء ، ويقال هذا عنده علم ، وكذا ، فيعطى لأجل ذلك ، وهذا نيته فاسدة وهذه كلها مقاصد فاسدة .
(36/187)
ومن أحسن ما يذكر في هذا من مقاصد العلماء المحمودة ، ما ذكره أحد تلامذة الحافظ ابن رجب حيث قال: كنا مرة في مجلس شيخنا بعد صلاة الصبح ، وذكر مسألة من المسائل الفقهية من غرائب المسائل وفصَّل فيها القول ، وذكر أقوال العلماء والفقهاء والتخريج ..الخ ، مما تعجَّبْنا منه ومن حافظته وحسن استخراجه ، ثم دُعينا ذلك اليوم مع شيخنا في مجلس فيه عدد من القضاة ومن أكابر العلماء ، قال : فذُكرت المسألة ، فلم يُحسنوا الكلام عليها ، وكان شيخنا ساكتاً وودنا لو أنه تكلم حتى يظهر فضله ، ثم لما انصرفنا ذكرنا له سكوته ، فقال : ( هذا مجلس يراد للدنيا ، ومجلسي معكم يراد للآخرة ) ، وهذا ظاهر في كثير من المباحث التي تجري وليس المقصود منها الفائدة في المجالس العامة ، وفي مخالطة الناس لا يكون القصد الفائدة ، المقصد المراء ، هذا يُظهِر علمه وهذا يُظهر علمه ، وليس المقصود تحقيق المسألة وإفادة الحاضرين وأشباه ذلك مما يوجب السكوت .
**** حديث ابن عباس أنه قال : لقوم سمعهم يتمارون في الدين : (( أما علمتم أن لله عباداً أسكتتهم خشية الله من غير صمم ولا بكم ، وإنهم لهم العلماء والفصحاء والطلقاء والنبلاء . العلماء بأيام الله ، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت عقولهم وانكسرت قلوبهم ، وانقطعت ألسنتهم ، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعُدُّون أنفسهم من المفَرِّطين ، وإنهم لأكياس أقوياء ومع الضالين والخطَّائين وإنهم لأبرار برءاء ، ألا إنهم لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له بالقليل ، ولا يُدِلُّون عليه بأعمالهم حيث ما لقيتَهم مهتمون مشفقون ، وَجِلون خائفون )) .
(36/188)
وظاهر السياق وطول الرواية يدل على ضعفه ، يعني : وعدم صحته عن ابن عباس – رضي الله عنهما – لكنه متضمن لمعانٍ صحيحة ، وهي : أن طالب العلم والعالم أعظم ما يزينه خشية الله جل وعلا ، والخوف منه فيما بينه وبين ربه ، لأن هذا سبب من أسباب حب الله جل وعلا وأيضاً سبب من أسباب ثبات العلم في صدره وانتفاعه بالعلم ، لأن هؤلاء إذا تذكروا عظمة الله جل وعلا صار لهم في قلوبهم انكسار وإسراع لمرضاة الله جل جلاله ، وهذا يظهر في مسائل منها : النطق بالحق في وقت يحتاج فيه إلى النطق بالحق في المسائل العظام التي تُحتاج في الدين ، ويقوم فيها العلماء مقام الأنبياء في التذكير بحق الله جل وعلا ، وبتوحيده وردِّ الإشراك به وأشباه ذلك من الدعوة إلى السنة وترك البدعة وتحليل الحلال وتحريم الحرام ، فإنه من تذكَّر عظمة الله جل وعلا وقرَّت في صدره من العلماء وهان عليه الخلق ولم يأبه بهم ، هذا صنيع الأئمة في الدين وذوي المقامات العالية الذين شغلت قلوبُهم عظمة الله جل وعلا فلم ينظروا إلى رضى الراضي وإلى سخط الساخط ، بخلاف من ينظرون إلى أهل الدنيا فيتزلفون لهم بالأقوال التي يعلمون أنها مخالفة للشرع أو يعلمون أنها مخالفة لما يجب أن يقولوه لهم ، لكن تزلَّفوا إليهم بهذه الأقوال ، وهذا كثر جداً وحصل من الوقائع المعروفة في الماضي وفي الحاضر ، نسأل الله العافية والسلامة .
فإذاً الواجب على طالب العلم أن يكون همه إصلاح قلبه وإصلاح ما بينه وبين ربه وخوق الرب جل جلاله لأن هذا مدعاة لانتفاعه بعلمه وثباته عليه ، والله جل وعلا يقول : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)(النساء: من الآية66) .
أما الأثر الثالث : قال : قال الحسن - وسمع قوماً يتجادلون - : (( هؤلاء قوم مَلُّوا العبادة ، وخفَّ عليهم القول ، وقلَّ ورعُهم فتكلموا )) .
(36/189)
المجادلة لا تُحمد إلا إذا كانت لبيان الحق ، أما المجادلة للمغالبة ولإظهار العلم فهذا قصد سيئ ، وبعدها يكون قسوة في القلب ولا بد ، وتحدث المراء والشحناء في النفوس ولهذا ينبغي على طالب العلم أن لا يشتغل بالمجادلة التي ليس المقصود منها الوصول إلى الحق ، فإذا تناقشت مع أحد – حتى لو كان من طلبة العلم ، أو من إخوانك أو من زملائك – فلا تفتح سبيلاً للشيطان ، النقاش لبيان حكم المسألة وبيان الحق فيها ، فإذا تحول النقاش إلى مجادلة ؛ فخيرهما الذي يصمت ، لأنها ما صارت لبيان الحق ، أما إذا كانت لبيان الحق والوصول إليه ، ويتباحثون في وجه الاستدلال بالدليل وإيراد الأدلة ونحو ذلك ، أما هذا ينتصر لرأيه وهذا ينتصر لرأيه بقصد المغالبة فخيرهما الذي يسكت ، ولهذا قال الحسن هنا في القوم الذين يتجادلون : ( هؤلاء قوم ملُّوا العبادة وخفَّ عليهم القول وقلَّ ورعهم فتكلموا ) .
( ملُّوا العبادة ) أي : العبادة بنشر العلم والعبادات المعروفة ، ( فأكثروا الكلام ) ، لأنهم ملُّوا الخير ، الكلام الذي نشأ في عهد الحسن ، إما من النقاشات في العقيدة ، أو مما هو ليس مقصوداً به الحق ، وإنما المغالبة .
هذه آداب مهمة لطالب العلم ، إذا تركها أصيبت مقاتله ولا بد .
( باب التَجَوُّز في القول وترك التكلف والتنطع )
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ )) . رواه الترمذي .
الشرح :
هذا الباب هو آخر أبواب هذا الكتاب ، في بيان الصفات المحمودة في القول أو في تبليغ أصول الدين ، وفي تبليغ العلم ، وما ينفع الناس ، فذكر فيها أحاديث وآثاراً منها :
(36/190)
حديث أبي أمامة ، والشاهد منه : أن العي شعبة من الإيمان ، والعي هو الضعف أو عدم التمكن من الإفصاح عن كل ما يريد ، وهذا محمود من الإيمان باعتبار أن خوفه من الغلط وخوفه أن يقول على الله بلا علم ؛ جعله يكون كأنه ذو عي ، ينقطع في كلامه ولا يتواصل كلامه لأجل تحرزه وتحرسه من أن ينطق بشيء يغلط فيه على الشريعة ، أو أن يقول على الله بلا علم .
فالعي مذموم عند بلغاء العرب وعند خطباء العرب وقد قال شاعرهم :
أعذني ربي من حصر وعي ومن نفس أعالجها علاجا
الحصر والعي متقاربة ، لكن هنا – في هذا الحديث – مدحها لأنه في الظاهر عي ولا يسترسل في الكلام كأن معلوماته ليست جيدة ، أو كأنه ليس وقَّاد الذهن ولا سيَّال اللسان ، لكن في الواقع إنما حجزه عن ذلك الخوف أن يقول على الله بلا علم ، لهذا صار العي إيماناً بهذا الاعتبار .
وعن أبي ثعلبة – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مساوئكم أخلاقاً الثَّرْثَارُونَ َالْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ )) . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وللترمذي نحوه عن جابر – رضي الله عنه - .
الشرح :
الشاهد منه : أن ممن يبغضه رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الكلام الثرثار ، المتشدِّق : الذي يخرج كلامه من شدقه تفاصحاً وتعالماً باللغة ومخارج الحروف .
(36/191)
والمتفيهق : الذي إذا تكلم فكأنه متمكن من كل شيء ، يفتح فاه ويبالغ في إخراج الصوت ، وهؤلاء مذمومون ، لأن هذه صفات ليست بصفات محمودة لمن تواضع لله جل وعلا ، فأنبياء الله جل جلاله كانوا محمودين ، وكان منهم الخطيب ، ومنهم من يعثر في كلامه كموسى عليه السلام ، ومع ذلك لم يمنع ذلك من التبليغ ، لأن المقصود ما اشتمل عليه الكلام من الحق ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كلامه كلام المتواضع ، يقول الكلام - مثل ما جاء في الحديث الذي سيأتي – حتى لو أن العادّ أراد أن يعدَّه عدَّه ، يكرر الكلام حتى يفهم ويختصر الكلام ، وجُمع له الكلام واختصر له اختصاراً ، لأجل أن كثرة الكلام والثرثرة وتفصيل ذلك ليس بالمحمود ، وهذا كما يدخل في العلم ؛ يدخل في المواعظ ، فالعلم الذي لا ينفع الناس ، كثرة الكلام الذي لا ينفع الناس بل تُظهر فضل المتكلم فقط ؛ هذه مذمومة ، لأنها ما دام أنها لا تنفع الناس ؛ فالأفضل ألا تقال .
قال : ( رواه البيهقي في شعب الإيمان ) ، ومعروف أن هذا الحديث له أصل في الصحيح بدون هذه الزيادة .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ – رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَمَا يَأْكُلُ الْبَقَرُ بِأَلْسِنَتِهَا )) . رواه أحمد وأبو داود والترمذي .
الشرح :
(36/192)
هذا فيه ذم هؤلاء ، وصفتهم في أنهم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها ، يعني : أنهم إذا تكلموا طلبوا الأجر على كلامهم فيما يقولون ، لا يحركون اللسان إلا بثمن ، والأصل في الدين والعلم وفي تبليغ الدعوة أنها تكون لله بلا أجر ، كما قال جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ:86) ، فالذين يأكلون بألسنتهم ، كل ما تكلموا لا بد من أجر ، لا يبلغون دعوة إلا بأجر ، ولا يبلغون علماً إلا بثمن ، ولا يقولون آية إلا بثمن ، إن أُعطوا رضوا ، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون ، هؤلاء مذمومون لأجل نيتهم وعدم رعايتهم للحق في وجوب التعبد بذلك إذا كان عندهم علم ، وذُمُّوا في هذا الحديث وشُبِّهوا بالبقر التي تلوك يألسنتها وتأكل بألسنتها .
أما قوله : ( لا تقوم الساعة ) ، هذا يفيد الذم ، لكن لفظ ( لا تقوم الساعة ) نبهناكم عليه فيما مضى ، أنه في الأحاديث لا تقتضي مدحاً ولا ذماً ، فقد يكون ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يحصل كذا ، قد يكون مباحاً ، وقد يكون مكروهاً ن وقد يكون محرماً ، فلفظ ( لا تقوم الساعة ) ليس من الألفاظ التي يستفاد منها الحكم التكليفي بل قد يكون هذا ، وقد يكون هذا ، بحسب الفعل في نفسه .
مثلاً : ( لا تقوم الساعة حتى تلد الأمة ربتها ) ، هذا ليس فيه ذم لهذا الفعل ولا مدح له ، ولا يستفاد منه الكراهة ... الخ ، بل بحسب الحال .
( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد ) ، ما نستفيد من قوله ( لا تقوم الساعة ) إباحة التباهي أو كراهة التباهي ، أو حرمة التباهي ، وإنما نستفيده بدليل خارج ، نستفيد حكم المباهاة والتباهي بدليل خارج ، التباهي بالمساجد مكروه أو محرم بحسب الحال ، وهكذا في أمثلة كثيرة ، قد يكون كفراً ، ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة )، هذا كفر وشرك .
(36/193)
فإذاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث ( لا تقوم الساعة ) ، لا يستفاد منه المدح ولا الذم ، ولا يستفاد منه الإباحة أو الكراهة أو التحريم أو نحو ذلك ، أو الوجوب ، يعني : أي حكم تكليفي ، وإنما هذا وص كاشف لشرط من أشراط الساعة الصغرى .
وفي المعنى الأحاديث التالية وهي قوله :
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما – مرفوعاً : (( إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بلسانها )) . رواه الترمذي وأبو داود .
وكذلك قوله : وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - أنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (( مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوْ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا)) . رواه أبو داود .
يعني : الذي يتعلم حسن الكلام والمنطق والخطابة ، وكيف يحاضر ، وكيف يلقي العلم ، ولا يقصد نشر الحق ولا تعبيد الناس لرب العالمين ، وإنما مقصوده أن يلتفت الناس إليه ويُعجبوا به ، ويكون له شأن ، ويكسب المال ، هذا – أعوذ بالله – مقصد من أسوأ المقاصد ، ولهذا قال – هنا – في عقوبته : ( لم يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدلاً ) ، لأجل بشاعة جرمه في أنه ما نشر الحق إلا لأجل أن يسبي به قلوب الرجال ، يُثنى عليه ، ما هذا الخطيب ! المحاضر ، والشيخ ، والمدرس ، وهذا راعي المنطق ، ويتعلم الأمثلة والأدلة ويتحفظها ، ويتحفظ أيضاً القصص والحكايات ، وليس قصده من ذلك التأثير على قلوب الناس ، ونفع الناس وتعبيدهم لله ؛ إنما القصد أن يلتفت الناس إليه ، هذا من المذمومين – والعياذ بالله - .
(36/194)
وعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ : ( كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ ، وقالت : كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ . وقالت : إنه لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ) . روى أبو داود بعضه .
الشرح :
سرد الحديث مدعاة للإكثار ، والتأني سبب للإقلال ، ولهذا كان التأني محموداً ، وكان السرد مكروهاً ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتأنى ، ونتيجة تأنيه – عليه الصلاة والسلام – أن كلامه كان معدوداً يُفهم يحصيه العاد ويستوعبه ويحفظه .
والثاني : أن كثرة الكلام تجعل بعض الكلام يُنسي بعضه بعضاً ، ويذهب هذا بذاك ، لهذا كانت عائشة – رضي الله عنها – تقول لعبيد بن عمير : ( يا عبيد بن عمير ! إذا وعظت فأوجز ، فإن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضاً ) ، يعني : فإن الكلام الكثير يُنسي بعضه بعضاً ، وهذا نشاهده في الخطب ، خطب الجمعة إذا طالت ؛ تجد أنك مسكت الموضوع ، لكن بعد ذلك ، إذا طالت الخطبة دخل بعضها في بعض ، حتى لو أردت أن تنقلها لم تحسن نقلها ، إيش تكلم عنه الخطيب ، تريد أن تنقل شيئاً بأدلته ، بوضوحه ، ما تستطيع أن تنقل خطبة الجمعة ، وهي من مقاصد خطبة الجمعة عظة الناس ، المرء ينقلها إلى أهل بيته ، ينقلها إلى من يستفيد .
(36/195)
فإذا كثُر الكلام أنسى بعضه بعضاً ، لهذا عليه الصلاة والسلام كان كلامه قليلاً ليُحفظ ، ولأنه أوتي جوامع الكلم ، ويحصل هذا بالتعود ، الذي يتعود على قلة الكلام ؛ يحصل له ذلك ، ويكون أنفع له ، لأنه يتعلم الكلمات المؤثرة ، حتى يؤثر في عقله وفهمه ، يعني بعد ذلك ، إذ قرأ العلم يذهب على المفيد ، ما يهتم بالتفاصيل التي لا تنفعه ، ومن العلماء الذين أدركنا وكانت فيهم هذه الصفة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله - ، كان كلامه قليلاً يُحفظ ويسير ، وكذلك الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله - ، كان أيضاً كلامه قليلاً يُحفظ ، هذه من الصفات الطبيعية التي تكون في الإنسان ، وربما كانت بالدُّربة ، لهذا دلَّ قول عائشة : ( لم يكن يسرد الحديث كسردكم ) ، أن سرد الحديث من الطبائع التي يتجاوز الله جل وعلا عنها ، لأنها من طبيعة الإنسان ، طبيعته أنه يسرع في الكلام ، طبيعته أن كلامه فيه سرعة ، فيه سرد ، وآخر طبيعته التأني ، لكن من طبيعته التأني محمدو وممدوح ، لشبهه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لاقتدائه برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا رأيتم العبد يعطى زهداً في الدنيا وقلة منطق فاقتربوا منه فإنه يلقَّى الحكمة )) . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وعن بُرَيْدَةَ – رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حُكْمًا وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا )) .
الشرح :
الشاهد منه قوله : ( إن من البيان سحراً ...... وإن من القول عيالاً ) .
(36/196)
( إن من البيان سحراً ) يعني : أن تقليل الكلام بجوامعه وبيانه المفيد يسحر القلوب ، ويفعل فيها فعل السحر ، وهذا فيه – على الصحيح – فيه مدح للبيان الذي معه تقليل الكلام .
ومن أهل العلم من حمل قوله – عليه الصلاة والسلام - : ( وإن من البيان لسحراً ) على الذم ، وهذا متجه إذا كان البيان يقلب الحق ، ولحسن بيانه يظن الظان أنه مصيب ، وهو في الواقع مخالف للحق ، فهذا يكون مذموماً ، أما قوله : ( إن من البيان لسحراً ) ، فيما يكون البيان مؤثراً في النفوس مع قلة في الكلام وبلاغة وإيجاز ، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الكلام يسبي القلوب .
السحر يُفعل ، والإنسان بالسحر يسبى قلبه ، فيحب من لم يكن يحبه ، ويتعلق بمن لم يكن يتعلق به لأجل تأثير السحر على قلبه بغير إرادته ، وكذلك البيان والكلام فإنه يؤثر في النفوس بحيث يتعلق قلب الناس بهذا لأجل كلامه وبيانه ، ففعله في النفوس فِعْل السحر في القلوب ، وهذا إذا كان لنصرة الحق وبيانه والتحبيب فيه والتعبد لله جل وعلا ؛ فهو محمود ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان بيانه معلقاً للقلوب به – عليه الصلاة والسلام .
ثم ذمَّ القول الذي ليس فيه فائدة فقال : ( وإن من القول عيالاً ) ، يعني : أن من القول ما لا يستفاد منه ، وما لا فائدة فيه .
والحديث الأخير :
وعن عَمْرَو ابْنَ الْعَاصِ – رضي الله عنه – أنه قَالَ يَوْمًا وَقَامَ رَجُلٌ فَأَكْثَرَ الْقَوْلَ فَقَالَ عَمْرٌو : ( لَوْ قَصَدَ فِي قَوْلِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( لَقَدْ رَأَيْتُ أَوْ أُمِرْتُ أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ)) . رواهما أبو داود .
آخره والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً .
الشرح :
(36/197)
( لو قصد في قوله ) ، القصد في القول يعني : أن يصل إلى المقصود بأقصر عبارة ، يكون مقتصداً في القول ، يعني مقللاً للكلام واصلاً إلى مقصوده بأقصر عبارة .
( لكان خيراً له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لقد رأيت أو أمرت أن أتجوز في القول ) يعني: أن يقلل الكلام لأن تقليل الكلام – كما ذكرت – لك مدعاة لحفظه ومدعاة للتواضع ومدعاة لخير كثير ، لهذا قال : ( فإن الجواز هو خير ) .
وهذا ختام كتاب أصول الإيمان ، أسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم به وأن يجزي عنا وعن المسلمين خير الجزاء الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى - ، فإن كتبه ومؤلفاته كانت امتثالاً لهذه الوصايا الأخيرة ، كانت قليلة الكلام فيها فوائد قليلة ، لم يكن يحب أن يكثر التآليف التي لاينتفع منها إلا القلة ، والتآليف موجودة ، والكتب الكبيرة موجودة ، فاشتغل – رحمه الله –بالتصنيف الذي ينفع الناس وينشر الدعوة ، ويثبت الخير ، مقتدياً بهذه الخلال الكريمة ، والخصال الجميلة التي أمر بها المؤمنون ، رحمه الله رحمة واسعة ، ثم نصلي ونسلم على خيرة خلق الله الرحمة المهداة ، محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام ، فهو الذي هدى الله جل وعلا به العباد إلى الخير العظيم ، فأنقذهم الله به من الغُمَّة والضلالة والكفر والردى إلى النور والإيمان وسعة الصدور وانشراح القلب ، فله – عليه الصلاة والسلام – أعظم الفضل وأعظم المنة على من اتبعه ، اللهم صل وسلم عليه وآته الوسيلة والفضيلة ، وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته ، اللهم صل وسلم على محمد كلما صلى عليه المصلون ، وكلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون ، وآخر دعوان أن الحمد لله رب العالمين .
تم بحمد الله
(36/198)
شرح كشف الشبهات
في التوحيد
سؤال: ما رأيك يا شيخ في من ينكر أهمية هذا المتن [كشف الشبهات] ويقول إن كان له أهمية تذكر فهي للدعاة في الخارج ونحن تكفينا قراءته؟
الجواب: هذا كلام الشيخ فيه (ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فليحذر على نفسه .[صالح آل الشيخ]
[16 شريطا مفرغا]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبين يدي شرح هذا الكتاب العظيم وهو كتاب كشف الشبهات نقدم مقدمة مهمة بين يدي هذا الموضوع ألا وهو الدعوة إلى التوحيد وكشف الشبه فيه.
(37/1)
من المعلوم والمتقرر في كتاب الله وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنّ الله جل وعلا بعث المرسلين جميعا وأرسل الأنبياء لعبادة الله وحده لا شريك له، وخلق السموات والأرض وخلق الأفلاك وخلق كل شيء ولم يأذن بعبادة أحد سواه، ?إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا?[مريم:93]، وقال جل وعلا ?وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ?[الإسراء:44]، فمن نظر إلى دلائل توحيد الله جل وعلا في الآفاق وفي الأنفس تيقّن أن هذا الملكوت له مدبر واحد، وله خالق واحد، وله متصرف واحد، وهو الله جل جلاله ولا بد من ذلك، وهذه الضرورية التي لا يحتاج معها المرء إلى برهان مفصل؛ لأنه يُحِسُّها في نفسه ويحسها في ما حوله لا بد أن تقوده إلى أن هذا الذي خلق وحده، وأن هذا الذي تصرف في الملكوت وحده أنه هو الذي يجب أن يذل له وأن يخضع له وأن يعبد وحده دون ما سواه، ولهذا كان من براهين توحيد الإلهية توحيد الربوبية، فدلائل توحيد الله جل وعلا في ربوبيته في الآفاق كلُّ دليل منها يصلح أن يكون دليلا على استحقاق الله جل وعلا العبادة وحده لا شريك له؛ لأنه جل وعلا هو الواحد في خلقه في رَزقه وفي ربوبيته، فكذلك يجب أن يوحد في إلهيته سبحانه وأن يعبد ويفرد بالعبادة، لهذا قال جل وعلا ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ?[الأعراف:172-173]، وقول المحققين من علمائنا في هذا الميثاق أنّه هو الفطرة هو دليل وحدانية الله جل وعلا في
(37/2)
الأنفس وفي الآفاق، فكل مولود يولد على الفطرة، وهذه الفطرة هي توحيد الله جل وعلا، وهذا هو الميثاق الذي أُخذ عليهم، وهذا الميثاق ليس هو استخراج ذرية آدم من ظهره كما قاله طائفة؛ لأن هذا غلط في فهم الآية، وفيما نقل من تفاسير السلف أيضا بأن الله جل وعلا قال (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) فليست مسالة الميثاق الذي في هذه الآية والإشهاد عليهم هي الأخذ من هذا بل هي الأخذ من بني آدم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) والظهور ليست هي ظهر آدم بل ظهور ذرية آدم، (ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) وهذا الإشهاد هو بلسان الحال لا بلسان المقال كما هو قول المحققين من أهل العلم، وهذا الذي بهذه الآية غير ما ورد باستخراج ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّر كما جاء في بعض الأحاديث.
دلائل وحدانية الله جل وعلا قائمة في الآفاق وفي الأنفس، ودليل الربوبية قائم ظاهر بيّن، من نظر أدنى نظر وصل إليه، ولهذا لم يجعل الله جل وعلا النظر في توحيده في ربوبيته مطلوبا من أتباع الرسل، ولا أَمرت به الرسل بجعل دعوتهم في ذلك، وإنما أمر الله جل وعلا بتوحيده في عبادته، وبعث المرسلين جميعا لهذا الأمر العظيم.
(37/3)
لهذا نقول إنّ دليل وحدانية الله جل وعلا في الربوبية هذا ليس من منهج أهل السنة والجماعة الذي تبعوا فيه طريقة الأنبياء والمرسلين أنهم يفيضون فيه ولا جعلوه غاية، كما جعله طائفة من المعاصرين غاية في ذلك، والمتكلمون طريقتهم في هذا الباب أنّ التوحيد المطلوب هو توحيد الربوبية، ولهذا يجعلون أو واجب على العباد النظر أو القصد إلى النظر أو الشك كما هي أقوال عندهم، فإثبات توحيد الربوبية وأنّ الله جل وعلا هو الواحد في ربوبيته هذا هو التوحيد عندهم، وهذا ليس بالأمر عندنا، وبهذا أتباع الأنبياء والمرسلين الذين قَفَوا أثر السلف الصالح تجد عندهم من براهين توحيد الإلهية ما فيه التفصيل والتفصيل والكلام والمكرر فيه الذي يعيدون فيه ويبدؤون ويكررون لأجل تثبيته وإقامة الحِجاج والحجة عليهم، أما غيرهم فإنهم يتوسعون في أبواب توحيد الربوبية، ومَن عبد الله جل وعلا وحده لا شريك له فتضمن ذلك أنه مقر بربوبيته وحده دون ما سواه، بخلاف من وحد الله في ربوبيته فإنه قد يعبد معه آلهة أخرى، كما فعل أهل الجاهلية فإنهم موحدون في أكثر أفراد الربوبية ولكنهم مع ذلك مشركون ما قادهم توحيد الربوبية إلى توحيد الإلهية، قال جل وعلا ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[لقمان:25]، وقال سبحانه ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ? إلى أن قال في آخر آية سورة يونس ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31]، والآيات في ذلك كثيرة.
(37/4)
المقصود من هذا أن الغاية بعد الأنبياء والمرسلين هو تحقيق توحيد العبادة وإقامة الحجة فيه وكشف الشبه عنه وإيضاح الدلائل فيه بتفصيل وإيضاح أفراده، ولا يخفى عليكم قول الربّ جل وعلا ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَن اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ?[النحل:36].
الدعوة إلى التوحيد هي ميراث الأنبياء والمرسلين؛ لكن هذه الدعوة من لم يعشها ولم يتوسع فيها لا يعرف كيف يدعو إلى التوحيد، بل قد يأتي من يظن أنه لا حاجة إلى ذلك، وعبودية الخلق لله جل وعلا التي هي غاية وجود الخلق إنما تكون بأن يُدْعَوا إلى الله جل وعلا بتوحيده وفهم ذلك والعلم به وتطبيقه، فإذا هديتَ الناس إلى أن يوحدوا الله في أقوالهم وأعمالهم وبما تعتقده قلوبهم انبعث ذلك الاعتقاد وذلك التوحيد عن عمل صالح وعن نفس مخبِتة منيبة لله جل وعلا، وهذه النفس هي التي تحوز فضل تكفير الذنوب «يا ابن آدم لو بلغتْ ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة»، «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة، يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» هذا لأهل التوحيد، والنفس المشركة أو المترددة أو التي في ريب في أمر التوحيد لا تحصل على فضائل الإسلام ولا على فضل الإسلام على أهله ولا على فضل التوحيد على أهله، ولهذا نعجب أنه مع اشتداد الحاجة إلى دعوة الناس إلى توحيد الله فإنّ من الناس من يقول لا حاجة إلى ذلك، وهذا من جرّاء عدم معرفتهم لعظم حق الله جل وعلا وكيف يعظم ربنا جل وعلا، وإنما تعظيمه بتحقيق التوحيد من حقق التوحيد فقد عظّم، ومن أضاع التوحيد فقد أضاع حق الله، ولو كان السجود في جبهته مؤثرا، ولو كان جلده على عظمه من الصيام مؤثرا، فلا قيمة لذلك؛ بل قد قال جل
(37/5)
وعلا لنبيه ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الزمر:65]، بهذا تعجب أشد العجب أن هناك أناسا كثيرين بلغوا في أمر العلم ما بلغوا، وبلغوا في أمر الدعوة ما بلغوا، وعندهم من الكلمات الشركية ومن عدم معرفة حق الله ومن الغلو المذموم ومن تعلق القلوب أو تعليق القلوب بغير الله ما رأيتموه وسمعتموه في كتب وفي غيرها، وهذا من اشتداد الفتنة التي ستبقى إلى أن تقوم الساعة.
الدعوة إلى التوحيد تكون على جهتين:
الأولى: مجملة.
والثانية: مفصلة.
أما المجملة: فهي ببيان معنى التوحيد وحق الله جل وعلا، وبيان أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وإقامة الدلائل على توحيد الله جل وعلا، وعلى أن التوحيد أهم المهمات، وعلى أنه دعوة الأنبياء والمرسلين، وعلى أن ذلك فيه من الفضل من تكرير الذنوب ومحو السيئات ما فيه، إلى آخر ما في بيان التوحيد وفضله مجملا بلا تفصيل.
وهذا القدر وهو الدعوة إلى التوحيد مجملة دون تفصيل يشترك فيها كثيرون من الدعاة في هذا الزمن؛ لأن الدعوة إلى التوحيد مجملة يتفق عليها الجميع؛ لأن تفسير التوحيد يكون عند المتلقي وليس من جهة الملقي، وإذا أحيل الكلام على فهم المتلقي كان حمّال أوجه يمكن أن يفسر بحسب ما يتلقاه المتلقي، فطوائف المشركين إذا أمرتهم بتوحيد الله مجملا لم ينتقدوا عليك؛ يعني في هذا الزمن، لأن التوحيد عندهم هو توحيد الربوبية، وطوائف الغلاة في عبادة الأولياء والصالحين إذا أمرتهم بالتوحيد ولم تشخص المسألة التي هم فيها ما أنكروا عليك، فكثيرون دعوا إلى التوحيد في أماكن فيها قبور للصالحين وتعبد من دون الله ولم ينكر عليهم أحد ممن هم في حضرة تلك المشاهد التي شُيدت لعبادتها من دون الله أو مع الله جل وعلا لأنها مجملة.
(37/6)
وهذا القدر لا يميّز القائل بأنه من أهل التوحيد أو أنه من الدعاة إلى توحيد الله؛ لأن هذا فيه عموم وإجمال، والإجمال لا يصلح بقدر إصلاح التفصيل، لكن إن كان الإجمال خطوة في الطريق فإنّ هذا يكون مناسبا، لهذا قلنا الدعوة إلى التوحيد تكون بإجمال وتكون بتفصيل، فمن أجمل ثم فصل فكان إجماله خطوة لينقل بها الناس أو ليمهد بها لبيان حق الله جل وعلا، ولو كان التمهيد في أسبوع أو أسبوعين أو شهر، بحسب الحال التي في بلده، فإن هذا مناسب، لكن أن يقال دعا إلى التوحيد، وإنما دعوته بإجمال دون تفصيل هذه ليس من منهجنا ولا من منهج أئمة هذه الدعوة، ولا أئمة الإسلام المتقدمين في الدعوة إلى توحيد الله.
النوع الثاني الدعوة إلى التوحيد مفصّلا: والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والتوحيد يكون بإفراد الله بأعمال القلوب وأعمال الجوارح.
وأعمال القلوب متنوعة منها المحبة والرغب والرهب والرجاء والخوف والتوكل والإنابة والخشوع إلى غير ذلك من أفراد أعمال القلوب وعبادات القلوب، فمن دعا إلى كل مسألة من هذه مفصلا فإنه دعا إلى مسألة من مسائل التوحيد بتفصيلها، فيتكلم عن الرّغب والرّهب، يتكلم عن التوكل، ويتكلم عن المحبة بعلم، فإذا تكلم على هذه بعلم وفصّل على كلام أهل العلم فيها فإنه دعا إلى نوع من أنواع التوحيد مفصلا، هذا من جهة أعمال القلوب، وأعظم أعمال القلوب الإخلاص، وأن يتوجه القلب إلى الله وحده وأن لا يكون في القلب من جهة القصد والتوجه إلا واحد وهو الله جل جلاله وتقدست أسماءه، فالدعوة إلى الإخلاص؛ إخلاص الدين وتوحيد القصد والتوجه وألاّ يكون في القلب إلا الله جل وعلا، إذا كانت من طالب علم يضبط الكلام فهذه دعوة مفصلة في توحيد الله جل وعلا، وهذا له تفاصيل.
(37/7)
أعمال الجوارح من جهة الصلاة والدعاء بأنواعه الاستغاثة والاستعاذة والنداء إلى آخره، وكذلك الذبح وما شابه ذلك، أخذ كل مسألة منها وبيان إفراد الله جل وعلا بهذه العبادة هذا من الدعوة إلى التوحيد مفصلا، تَأخذ الدعاء فتبين الدعاء ما هو ومعنى الدعاء والآيات التي فيه وإفراد الله جل وعلا بالدعاء إلى آخره، كذلك تأخذ الاستغاثة والآيات التي فيها وإفراد الله جل وعلا بها ووجوب ذلك وما جاء في هذا، وكذلك تأخذ بقية المسائل بالذبح والنذر إلى آخره.
كذلك ما يتعلق بإفراد النبي عليه الصلاة والسلام وإفراد شريعته بالحكم والتحاكم بين العالَمين هذا نوع من أنواع توحيد الله جل وعلا أو فرد من أفراد التوحيد، فالدعوة إليه مع غيره هي طريقة أئمتنا وعلمائنا، وبعض الناس يطرق من التوحيد هذه المسألة دون غيرها وهو ما يسمونه بتوحيد الحاكمية، أو الدعوة إلى تحكيم شريعة الإسلام وإبطال تحكيم القوانين، وما جاء في ذلك من النصوص وبيان كلام أهل العلم في ذلك، هذا لا شك أنه من التوحيد، ولكن ليس هو التوحيد فقط، بل توحيد الله جل وعلا -كما هو واضح مما سبق من الكلام- هو إفراد الله بالعبادة، إفراد الله بالعبادة، هذا هو التوحيد، وهذه من التوحيد لأنها تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، فأهل التوحيد يدعون إلى هذه جميعا، وأما غيرهم أو من كانت في قلبه شبهة، أو من كان عنده طريقة أخرى، فإنهم يدعون إلى التوحيد مجملا، وإذا أتى التفصيل فإنما يفصلون في مسألة الحاكمية، وهذا خلاف طريقة أهل التوحيد وأئمة هذه الدعوة، لهذا تجد في كتاب التوحيد كانت مسائل الحكم والتحاكم متأخرة في الكتاب، وكان قبلها ما يتعلق بالدعوة إلى التوحيد مجملا وفضل التوحيد، ثم بيان ضد ذلك ومسائله إلى آخره، فهي جزء من الكلام على التوحيد، فشمولية الدعوة إلى التوحيد تؤخذ من كتاب التوحيد؛ لأن فيه بيان التوحيد مجملا ومفصلا، ولأن فيه بيان ضده مجملا ومفصلا.
(37/8)
يُضاد التوحيد الشرك، والشرك كما هو معلوم أكبر وأصغر، والدعوة إلى التوحيد لا بد وأن يكون معها نهي عن الشرك؛ لأن الدعوة إلى التوحيد هي دعوة إلى لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله كُفِرٌ بالطاغوت وإيمان بالله، فلا بد من النهي من الشرك، فأهل التوحيد عندهم دعوة إلى التوحيد مجملا ومفصلا، وعندهم أيضا نهي عن الشرك مجملا ومفصلا.
والإجمال ببيان شناعة الشرك وأنه أعظم ما عصي الله به وحكم المشرك وصورة الشرك ونحو ذلك مما فيه بيان الشرك بإجمال دون ذكر الصور؛ صور الشركيات الموجودة، هذا قد تجده -كما ذكرنا في التوحيد مجملا- قد تجده عند كثيرين إذا تكلم ونهى عن الشرك كان نهيه مجملا ولا تجد أنه يفصل قبل الكلام ولا بعده، وإنما يحب الدعوة إلى التوحيد أو يدعو إلى التوحيد بإجمال وينهى عن الشرك بإجمال، وهذا لا يفيد الفائدة المرجوة؛ لأن النهي عن الشرك بالإجمال يفسره المتلقي بحسب فهمه، ولكن إذا فصّلتَ وحددتَ فإنه يكون مستوعبا للمراد من الكلام، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
عليك بالتفصيل والتبيين فَالْـ إطلاقُ والإجمالُ دون بيانِ
قد أفسدا هذا الوجود........ ......................... ([1])
أو كما قال.
الإجمال موجود في الكتاب والسنة ولكنه إجمال وثَمّ تفصيل له، فمن اقتصر على الإجمال دون التفصيل فهو على غير السبيل، فالنهي عن الشرك مجملا عرفته.
(37/9)
ومفصلا بأن يذكر الشرك الأكبر الأصغر والأصغر منه الخفي ومنه ما هو ظاهر شرك الرياء أو الأعمال الظاهرة مثل التمائم ولبس الحلقة والخيط الحلف بغير الله ونحو ذلك، الشرك الأكبر أنواعه معروفة مشهورة عندكم فيفصل الداعية كل واحدة، فيأتي إلى دعاء غير الله ويبين أنه من الشرك ويفصل ويقيم الدلائل في ذلك بتفصيلها، ثم يذكر صور دعاء غير الله، كذلك الخوف من غير الله يذكر صور هذا الخوف من غير الله والصورة التي شرك أكبر بالله جل وعلا، يأتي إلى الشرك الأصغر ويعرضه بتفصيل، التمائم يكون الكلام عليها يحتاج إلى جلسة أوجلستين أو خطبة جمعة أو خطبتين أو ثلاثة؛ لأن صور التمائم كثيرة قد تقول للناس إن التمائم شرك، وتأتي في الحديث في ذلك ولكن لا تبين للناس صورة التمائم، فهذا يقع فيه كثيرون ممن ينهون مجملا عن الصورة ولا يفصلون الكلام عليها، الناس لا يتصورن المراد بالتمائم إما بالصور التي كانت في الجاهلية القديمة، لكن الصور الحاضرة اليوم التي تجدها في الشوارع وفي كثير من البيوت لا يتصور أنها من الشرك الأصغر، وهم ربما عملوها ونظروا إليها واستأنسوا لها، فلا بد أن يكون ثَم تشخيص للصورة الشركية، وإعطاء الصور الكثيرة بإعطاء تأصيل لهذه المسألة الشركية، هذه هي الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك مفصلة.
تأخذ الشرك شرك الرياء أيضا تفصل الكلام فيه تأخذ الذبح لغير الله وتفصيل الكلام فيه، النذر لغير الله وتفصيل الكلام فيه تأخذ شرك الألفاظ بنسبة النعم لغير الله جل وعلا وتفصل الكلام فيه، تأخذ الحكم بغير ما أنزل الله وتفصل الكلام فيه وأنّه ليس به حالة واحدة بل له أحوال وأحكام مختلفة ونحو ذلك، بحسب ما قرره أهل العلم.
(37/10)
إذن الدعوة سارت هكذا، وهكذا كانت دعوة الأنبياء ودعوة المرسلين، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نظر في دعوته وجد أنه سار هذا المسير، وهكذا الأئمة من بعده رحمهم الله تعالى وجزاهم عنّا وعن المسلمين خيرا.
لاشك أن الداعية بتفصيل في التوحيد ستَرِدُ عليه شبه، وأما الداعية بإجمال فلن تطرح عليه الشبه، ولهذا تكثر الشبه إذا ازداد التفصيل، فشبه المشبعين في توحيد الله تزداد بازدياد التفصيل في مسائل التوحيد، فإذا شخصت له أن دعاء غير الله شرك ابتدأك بالاستشكالات، إذا شخصتَ له أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - شرك أتى بالشبه إذا قلت له أن دعاء الصالحين شرك أتى بالشبه، إذا قلت إن الذبح لغير الله جل وعلا شرك أكبر أتى بشبه، من الدعاة المنتسبين إلى الإسلاميين وإلى الدعوات الموجودة من يقول في بعض هذه الصور أنها شرك ولكن يجعلها شرك أصغر، وهذه أيضا شبهة عظيمة راجت على كثيرين من أتباع الجماعات الإسلامية في غير هذه البلاد؛ يجعلون الذبح لغير الله شرك لكن يقولون شرك أصغر لا يُخرج من الملة، النذر لغير الله شرك ولكن شرك أصغر، وهكذا في مسائل كثيرة، متى يكون عندهم شرك أكبر؟ يأتي لك بالشبه التي تطعن فيما قررت من توحيد الله جل وعلا النهي عن الشرك مجملا ومفصلا في النوعين، فبقدر فهمك للتوحيد ونهيك عن الشرك مجملا ومفصلا تَرِدُ الشبهات، والشيخ رحمه الله الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما دعا بدعوته مجملة ومفصلة جاءته الرسائل والكتب وكُتبت الأوراق ونُشرت المناشير في زمنه في تضليله وإيراد الشبه على أقواله، ولأجل تلك الشبه التي كانت رائجة في عصره في وقتٍ ما صنّف رسالة كشف الشبهات التي نحن بين يدي شرحها.
(37/11)
والشبهات ليست مقتصرة على ما أورده الشيخ، بل تجد أن الشبهات في التوحيد، كلما ذهبت إلى بلد وجدت عند علماء الشرك والضلال من الشبهات ما ليس عند غيرهم، والشبهة ترد على القلوب وقد تؤثر فيها ولو بالتردد، ولو أن تجعل من سمعها مترددا في داخله، وهذه مصيبة أنْ تأتي الشبهة ولن يقتنع بها ولكن في داخله يكون مترددا، وهذا تجده عند كثيرين وحتى في المنتسبين للعلم في الجامعات أو ممن درسوا دراسات عصرية في هذا العصر حتى في هذه البلاد من أهل الفطرة، تجد عندهم عدم قناعة بالشرك ولا بالدعوة إليه وعندهم قناعة بضده وبالتوحيد، ولكن في القلب تردد بعض التردد من أن ما يصنع عند قبور الأولياء والصالحين أنه شرك وكفر بالله جل وعلا، ويعظم التردد إذا قلت لهم ما قاله الإمام رحمه الله في رسالة كشف الشبهات هذه: إنّ شرك المعاصرين -في زمن الشيخ وفي هذا الزمن من جهة المتعلقين بالأولياء والأموات ونحو ذلك- أعظم من شرك أهل الجاهلية. يعظم التردد ويعظم لأجل ورود الشبهات، ومن الشبهات كيف يقال ذلك وهؤلاء مسلمون يصلون ويزكون يحجون، وقد ترى على بعضهم أثر السجود وأثر الطاعة والزّهادة والبكاء من خشية الله جل وعلا، فتعظم الشبهة، ويبقى من لم يكن متحصنا بالتوحيد دائم التَّكرار له في تردد في هذه الأصل العظيم.
(37/12)
أنتم ولله الحمد في هذه البلاد قد ما تلاحظون أو قد ما تحتاجون إلى كثرة ردّ الشبهات، لكن من كان في غير هذه البلاد يجد الصدام عنيفا، يجد أنّ المواجهة إنما هي مع هؤلاء، فالمواجهة مع أهل الشرك والضلال، من سافر منكم إما أن يكون سافر للدعوة فسينظر وسيحاجّ وسيدعو بإجمال وتفصيل فسترِدُه الأقوال والأعمال والغرائب، إذا لم يتحصن فربما زل الزلة التي بعدها سيكون في أعظم خسارة، ولهذا الشيخ رحمه الله كتب كشف الشبهات هل كتبها للمشركين؟ لا، كشف الشبهات عن المسلمين، صنّفها للمسلم للموحد، لهذا كانت مختصرة كما سترى، الموحد يحتاج إلى أن يكون مكشوف الشبهة؛ يعني أن لا تبقى الشبهة معه، لا شك أن منهج الصحيح ألا تورد الشبهات لأن بعض الناس قد لا يكون عنده في قلبه شبهة أصلا، فإذا وردت الشبهة وبعدها الرد قد تعلق الشبهة ولا يفهم الرد خاصة أن الشبهات هذه التي يوردها خصوم التوحيد تجد أنها عاطفية، ورد الشبهة علمي ومن القواعد المقررة في الدعوة في معرفة نفسيات الناس أن إثارة الناس والتأثير عليهم بالعاطفة يقوى، وبالعلم لا يكون إلا لمن يكون متأهلا للفهم والإدراك، مخاطبة العقل، مخاطبة القلب بالبراهين هذه ما يفهمها إلا الخاصة، أما العاطفة الهياجة والأخذ بالعواطف وبالمد وبالجزر وبتحريك النفوس دون البرهان، هذا يقلب النفوس ويؤثر على النفس أعظم، ولهذا ليس من المنهج الصحيح أن يستفاض في ذكر الشبهات ويرد عليها؛ لأن الشبهات قد تعلق في القلوب، لأن كثيرا من الشبهات مبناها على العاطفة، كقول من يقول هؤلاء الذين تحكمون عليهم بالشرك مصلون مزكون يعبدون الله وحده وما دعوا استقلالا هذه الأموات، وعندهم خشية وتلاوة للقرآن، هذا يحتم كل ثلاث، وهذا يصوم يوم ويفطر يوم، وهذا كثير الصدقة، وهذا كثير العمل، وهذا مجاهد وهذا فعل للإسلام ما فعل إلى آخر الكلمات التي تحرك بها العواطف، البرهان لا يفهمه إلا من كن عقله مستعدا لقبول البرهان، وكما
(37/13)
هو القانون العام أن البراهين لا تصلح إلا لذوي العقول، أما العواطف فتصلح للجمهور.
هذا واضح، لكن من الأمثلة التي قد يمثل بها أن خطبة خطيب ما يخطب في موضوع وعظي مثلا يتكلم فيه بكلام ليس بذي أدلة في الشرع، بكلام فيه مشاهدات أو بكلام عام وخوّف وروّع والكلام نصفه أو أكثر من نصفه غلط في الشرع، كم الذين سيتأثرون بهذا الوعظ الذي حرك العواطف وهذا الخطيب واعظ جيد يحرك النفوس؟ كم الذين سيتأثرون؟ الأكثرون سيتأثرون، والقلة سيقولون هذا خلاف العلم هذا غلط فلان غلط والشرع والوعظ، لا بد أن يرتبط بالشرع، وهكذا، ولكن هؤلاء سيتأثرون لم؟ لأن أكثر الناس جهال، حتى الشباب ليس كل الشباب في مستوى واحد من العلم وإدراكات العلوم، فقد يقنعون بمسائل العلم خلافها، وخاصة في مسائل التوحيد، وهذا الكلام ليس مخاطبا به أهل هذه البلاد وإنما نرجوا أن ينتشر الكلام فيها وفي غيرها، ولهذا أعظم ما يعتني به طالب العلم والشاب الذي رغب فيما عند الله جل وعلا وتوجّه إلى الله وحده وتجافى عن دار الغرور وضحى بما يشتهيه ويلتذ له بما عند الله جل وعلا يتوجه إليه بأن يكون همه في دراسة هذا الأمر العظيم همًّا عظيما، ولن يدرك إلا إذا أكمل، في البدايات لن يدرك، لكن إذا أكمل عرف أنه على خطأ، إلا لما يتابع ويتابع ويتابع.
(37/14)
أحد مشايخنا الذين قرأت عليهم في التوحيد مرة قال له أحد طلاب العلم وهو بجنبه وكان يريد أن نقرأ كما هي العادة رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة قُرئت مرة وكررت فقال: هذه سمعناها وكررناها. فمن غضبه وكزه وكزة، يعني فيها مباشرة الحرارة ظهرت في وجهه، وكز هذا وهذا طالب علم أيضا وكان بجنبه وأنا كنت أمامهم، وهذا ما يستقيم مع كل نفس؛ لكن مع النفس التي عرفت عِظم حق الله جل وعلا في هذا الأمر العظيم؛ لأنه إذا ما كُرر نسي لهذا في هذا الكتاب كشف الشبهات في أواخره قول الشيخ رحمه الله بعد أن قرر مسائل، قال: وبمعرفة هذا -يعني ما تقدم ذلك الكلام- تعلم أن قولهم التوحيد فهمناه من أكبر مكايد الشيطان. وهذا لاشك أنه حاصِل حاصل، وتأمل قول الله جل وعلا مخبرا عن دعاء إبراهيم ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ?[إبراهيم:35]، قال العلماء خاف على نفسه وهو إبراهيم خليل الله خاف على نفسه عبادة الأصنام وخالف على بنيه، قال إبراهيم التيمي في تفسيرها: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. إذا كنت لا تأمن البلاء فلا بد أن تضع حماية قوية وسور منيع أن يتطرّق إليك ذلك، بعضهم يقول يعني يمكن -أعوذ بالله- أن نعبد الأوثان أو الأصنام؟ نقول ربما لم يكن ممكنا بفضل الله وبنعمته في جيلك، ولكن تساهلك عشرين في مائة (20%) بعد زمن يتساهلون عشرين، ثم تصل إلى مرحلة لا تتواصى فيها الأجيال على الحفاظ على التوحيد.
(37/15)
وخُذ مثلا من الأمثلة فيما شاهدت بنفسي وذكرته لبعض الإخوان مرة أنه في مكان قريب من الدار التي أسكنها، مرة بعد صلاة الظهر إذا بأحد البيوت التي بنيت حديثا واحد بل اثنين من الباكستانيين يذبحون عند عتبة الباب خروف والدم يسيل بشدة على العتبة، أنا أسمع بهذه الصورة هذه في كلام أهل العلم، لكن رؤيتها واقعا ما رأيتها إلا في الرياض في حي المحمدية، والذي حصلت له من حيث السلسلة هو من أهل نجد، من أين جاءت هذه؟ هو من التساهل؛ التوحيد فهمناه، فينشأ أجيال ما يعرفونه ولا تغرس في قلوبهم حرارة التوحيد، فيدخل الداخل بهذه الأمور.
من جهة أخرى، من جهة ما يوجب الخوف أنه لا يكون من الحاضرين من يتوجه إلى غير الله والعياذ بالله يعني من هذا الزمن في هذا البلاد، ولكن بعد زمن يمكن أن يكون ذلك لأن الله جل وعلا ما أعطى أهل هذه البلاد ولا غيرهم عصمة، أهل الجزيرة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أسلموا ثم حصل من بعضهم ردة، لكن قد يكون شيء وهو المصيبة -وفتّش نفسكَ- وهو التردد في قَبول ما قاله العلماء في مسائل التوحيد، وهذا يعرض على كثير من القلوب يتردد، والله مشددين، بدأ النقص، والله المسألة فيها نص العلماء هذا فيه شدة، هنا بدأ النقص الفعلي، وإذا تردد القلب ولم يكن على علم ويقين بحق الله جل وعلا بالتوحيد وبالحكم على المشرك بأنه مشرك وهذه الصورة الشركية أنها شرك، فبداية التردد هذه يكون معه القلب في ريب، يكون يتعبد ويتعبد لكن القلب ليس بسليم، فيه تردد في هذا الأمر العظيم، وهذا دخل على قلوب كثيرين وحرك ترى.
(37/16)
نخلص من هذا إلى أن هذه الرسالة كشف الشبهات فيها أصول؛ أصول الشبهات التي كانت رائجة في ذالك العصر في زمن من دعوة الشيخ رحمه الله([2])... التوسع في فهم حال أهل الجاهلية الذين بُعث النبي عليه الصلاة والسلام فيهم، كيف كان شركهم؟ وما كانت أحوالهم في العبادة وفي الديانة؟ ما أصنامهم؟ ما هي أوثانهم؟ عبدوا الملائكة، كيف عبدوها؟ عبدوا الجن كيف عبدوها؟ ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41] في آية سبأ، كيف كانت عبادة الجن؟
لابد لمن أراد أن يكون قويا في رد الشبهات أن يتوسع أولا في معرفة حال العرب في الجاهلية بعبداتهم المختلفة، ما هي آلهتهم ؟ ما هي اعتقاداتهم؟ إلى آخره، وهذه يخدمك فيها طائفة من الكتب:
منها كتاب بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للأديب الموحد محمود شكري الألوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب.
منها أي من المراجع في هذا الباب الكتب التي كتبت عن تاريخ العرب قبل الإسلام، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام، كتب أديان العرب فيمن بحثوا أديان العرب، إلى آخره.
فالتوسع فيما كان قبل مجيء محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بهذا النور وهذا الهدى يُفهمك الحالة الدينية التي كانوا فيها، ما هو الشرك الذي كانوا يمارسونه؟ لأنك إذا عرفت الحال عرفت معنى الآيات، عرفت معنى أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، عرفت معنى دعوته، وتهتم بأشعار العرب فيما ورد في ذلك؛ لأن كثيرا من الصور جاءت في الشعر، الشعر العربي.
(37/17)
النوع الثاني من المراجع: كتب التفسير عند الآيات التي فيها ذكر الشرك أو الأمر بالتوحيد أو ذكر أهل الجاهلية من الأميين أو الكتابيين، الآية تنظر ما قاله السلف فيها؛ لأن المتأخرين من المفسرين صرفوا الآيات عن تفاسير السلف؛ لأن المتأخرين عندهم أن التوحيد وعبادة غير الله هو باعتقاد أنّ الخالق هو غير الله، وأما تفاسير السلف تجد أنها بخلاف ذلك.
الأصنام والأوثان ما هي؟ المتأخرون يفسرونها بتفسير، والمتقدمون –السلف- يفسرونها بتفسير آخر، ولهذا ترى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله توسع في فهم تفاسير السلف، فهو في التفسير في آيات التوحيد حجة، فقد توسع توسعا يعلمه من طالع كتاباته في التفسير -هي موجودة ضمن المجموع- ويجعلها الشيخ رحمه الله على شكل مسائل وفوائد.
النوع الثالث من الكتب: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وشيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم في أواخره، وفي أواخر التدمرية وفي التوسل والوسيلة، وفي الاستغاثة الكبرى المعروفة بالرد على البكري، وفي الرد على الإخنائي، هذه الكتب أصّل فيها شيخ الإسلام مسائل توحيد العبادة، وحال المشركين الذين بُعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
النوع الرابع: مصنفات الإمام الجليل محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومصنفات أبنائه وتلامذته ومن سلك سبيلهم.
النوع الخامس: فتاوى علمائنا المعاصرين؛ سماحة الشيخ عبد العزيز وبقية العلماء حفظهم الله.
بهذا التسلسل يكون عندك وضوح في رد الشبهات، أما إذا عكست، وكنت تعرف التوحيد ولكن لا يكون عندك ملكة في رد الشبهات.
(37/18)
فهذه الكتب التي ذكرنا منها كتب مخصصة في رد الشبهات، وهي كتب الردود منها عند شيخ الإسلام الرد على البكري وهو كتاب عظيم في هذا الباب، ومنها في كتب أئمة الدعوة الرد على عثمان بن منصور للشيخ عبد الرحمن والشيخ عبد اللطيف، وكذلك كشف الشبهات، وكفر تارك التوحيد مفيد والمستفيد للشيخ وغير هذه من الكتب التي فيها ردود ولغير علماء هذه البلاد أيضا.
فكتب الردود تلخص عندك الشبهات وتلخص الرد، وقد كلفت بعض الإخوة أو اقترحت عليه بالأصح أن يكون عنده جمع لنفسه للشبهات التي يحتج بها الخصوم، حتى يكون هناك مؤلف في الشبهة وفي ردها بنشرها عند إخواننا الذين يدعون إلى توحيد الله في الأمصار جميعا، ولكن كثرت، وبعضها فيه طول في ردها، فصار من جراء الجمع شُبه كبيرة قد ما تكون خطرت في بعض البلاد فأرجئ الموضوع بعض الشيء، لأن بعض الشبهات في بلد قد ما تكون في بلد أخرى، قد يِجِي واحد يأخذ الشبهة ويرد عليها في بلد الثاني فتكون شبهة جديدة لا يعرفها أهل تلك البلاد.
فإذن يهمنا في هذا الأمر وكشف الشبهات أن تتوسع -إذا أردت يعني هذا باعطيك إياه إن شاء الله تعالى في الشرح- لكن تتوسع في فهم حال العرب قبل الإسلام فإنها من أنفع الأشياء ولهذا من الأغلاط العظيمة التي يندد بها أئمة الدعوة قول من يقول إن هذه الآيات التي تذكرون وهذه الأحكام إنما هي في المشركين وليست في هؤلاء، ويُردّ عليهم بما قاله العلماء بأن الحال هي الحال «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، «قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة»، فما أشبه الليلة بالبارحة، هذا يتوارد لأن الأفكار محدودة، شبهات الشيطان ليست لا حد لها محدودة، فيتوارثها الناس جيل بعد جيل.
(37/19)
نختم هذه المقدمة ببيان أن هذه الرسالة ثَمّ تردد في شرحها عندي، وذلك لأجل أن مستوى الحضور متفاوت وتفاوت هذا يُحرج الملقي؛ المتكلم، من جهة أن مستوى الكلام قد يفهمه البعض وقد لا يفهمه بعضٌ آخر، وإذا لم يفهم رد الشبهة، قد تبقى الشبهة عنده بلا رد وهذا فيه حرج، لكن نوصي الجميع بأن يدرسوا كتاب التوحيد دراسة مفصلة حتى يستفيدوا من هذه الرسالة، ومن لم يدرس كتاب التوحيد دراسة مفصلة بدقة فقد يكون ورود بعض الشبهات وورود الرد عليها يكون عنده غير واضح، وهذا لا نريده؛ لأننا نسير في منهجية في طلب العلم.
والأصل أن كشف الشبهات يكون بعد كتاب التوحيد، ولما كان حضور كثيرين منكم الأكثر معنا في كتاب التوحيد سواء الشرح الكامل الذي تم في الدورة وربما حضروه أو سمعوه، وكذلك الشرح الذي في فتح المجيد ونحن الآن في أواخره، هؤلاء يمكن أن ينتقلوا إلى هذه الرسالة، وغيرهم من رغب في الحضور فلا بأس؛ لكن إن أحس أن الشبهة تبقى، والرد غير مستوعب، فيؤمر بأن لا يحضر ولو كان درس توحيد؛ لأنه يحصل عنده إشكالات والردود سترون أنها ستكون مفصلة، إلا إذا أخذنا بشيء -هذا نستشيركم فيه- وهو أن يُكتفى بتوضيح مراد الشيخ؛ لأن الشيخ رحمه الله ردّ بردود تناسب المتوسطين فإذا اقتصرنا على إيضاح ما ذكره الشيخ رحمه الله فهذا يقصر مدة شرح الكتاب ويسهل الفهم، ولكن لا يكون الانتفاع به عامًّا في غير هذه البلاد؛ لأن من الشبهات ما يحتاج إلى تفصيل وإلى تقعيد وإلى إحياء روح ردّ الشبه في نفوس إخواننا.
نجيب على بعض الأسئلة إذا عندكم اقتراحات فيما ذكرت في أي الطريقتين ممكن نسمعها.
1/ يقول أرجو ألا يطول هذا الدرس في هذا الكتاب المختصر عن عام يعني سنة.
طيب.
2/ لم أستطع أن أخرج من كلامك بتعريف الدعوة إلى التوحيد المفصلة أي التعريف الجامع المانع.
(37/20)
تسمعون كلمة التعريف لابد أن يكون جامعا مانعا تُريدونها في كل شيء، ما يصلح هذا، الدعوة إلى التوحيد المفصل تأخذ كل مسألة من مسائل التوحيد، التوحيد المتعلق بالقلب بالاعتقاد، يتعلق باللسان، يتعلق بالجوارح، يتعلق بالمجتمع، تأخذ كل مسألة منه وتفصل الكلام عليها، هذا المقصود مثل ما مثلت لك، تتكلم على التوكل، الخوف من الله جل وعلا، المحبة، الرجاء، الرغب، الرهب، ونحو ذلك من عبادات القلوب، الإخلاص، هذا من جهة أعمال القلوب، وأعمال الجوارح كذلك.
3/ هذا سؤال جيد يقول: هل تقسيم الدعوة إلى التوحيد تقسيم لكَ أم هناك من سبقكَ؟
وهو التقسيم ليس حكما، التقسيم للإفهام، فالتقسيم الذي هو حُكم هذا يحتاج أن يكون هناك من يسبق المرء؛ لأنّ الأحكام لا تكون مستأنفة، لا تقلْ في مسألة ليس لك فيها إمام، أما التقسيم الذي هو للإيضاح فإنّ هذا وظيفة المعلم، والقرآن فيه هذا وهذا ?فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ?[البقرة:256]، هذا إجمال فيه تفصيله في آيات أخر، النبي عليه الصلاة والسلام أجمل وفصل، دعوة العلماء، دعوة الشيخ محمد إجمال وتفصيل، كتاب التوحيد إجمال وتفصيل في النوعين جميعا، فالتقسيم هذا من جهة الاستقراء وهو تقسيم للإفهام لا للحكم.
4/ هل بيان الشبهات للعامة والرد عليها أسلوب من أساليب حفظ التوحيد وصيانته؟
(37/21)
لا، -مثل ما ذكرت لكم- الشبهة لا تورد، الشبهة بلاء، وردها بلاء، فأنت ما تأتي بالبلاء وترده، واحد يجيب المرض ويقول بعالجه، ما يصلح، فالشبه لا توردها، وليست هي من المجالات التي يتعالم فيها بعض الناس، الشبهة هذه إيش ترد عليها كيف؟ بعض الناس يورد شبهة هو ما فيه حاجة للكلام أصلا، إلا إذا احتيج إليها عند أهل العلم وعند طلاب العلم، وأصل كتاب كشف الشبهات كان يمكن أن يمر إمرارا سريعا؛ يسمع سماعا مع تعليقات وجيزة، لكن كثير في الناس اليوم وطائفة من الشباب من عنده شبهات في التوحيد، عنده شبهات في الشرك، عنده شبهات في تكفير المشركين، فلا بد من إيضاح المقام.
5/ نقترح أن يكون ثَم شرحان شرح موجز وشرح مفصل.
6/ نعم من أراد أن يحفظ ويسمع يبلغني هو يكون في الأمام ونخليه إن شاء الله يسمع الكتاب.
7/ هل هناك مفهوم قاصر للتوحيد لأني سمعت أحد الإخوة في كلمة له يقول لا نفهم التوحيد بالمفهوم القاصر؟
لا أدري أُوش مراده بالكلمة، لكن أنا مثلا سمعت مرة في مسجد الرياض صليت العشاء في مكان، كان أحد الإخوة يتكلم يشرح نواقض الإسلام، بدأ في أولها وعرض للتوحيد في كلمتين؛ يعني الشرك بالله يعني عبادة غير الله، ثم ربع ساعة وهو يتكلم عن تحكيم القوانين وغيرها، ما أدري يعني إيش مناسبة هذا. هل هذا المنهج صحيح؟
(37/22)
أولا الجواب أنه غير صحيح لأن تحكيم القوانين مثلا في هذه البلاد الناس ما عندهم محاكم وضعية قانونية يتوجهون إليها في خصوماتهم حتى تقول لهم انتبه لا تذهب إلى هذه المحاكم، إنما يجب أن تُقِرَّ في قلوبهم الاعتقاد بوجوب تحكيم شرع الله وأن تحكيم غير شرع الله جل وعلا كفر بالله جل وعلا بشروطه، لكن هم بحاجة إلى أنواع من التوحيد مفصلة أخر؛ التوكل الآن أصابه ما أصابه، المحبة؛ محبة الله جل وعلا، والرغب فيما عنده، الإخلاص، المتابعة، هذه مسائل التوحيد التي الآن بحاجة إليها، أنواع الشرك تروح حتى طلبة العلم تجد عندهم من شرك الألفاظ ما يستغرب تجد نسبة النعم لغير الله، فلان ما شاء الله فلان هذا لو لا فلان كان رُحنا، إيش هذا؟ هذا كلام أهل التوحيد لولا فلان رحنا؟ وأين الله جل وعلا؟ أين فضل الله؟ ?يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، فلان فعل وفعل وفعل، هذا فلان لو راح لكذا لحصل كذا وكذا، مثل هذه الكلمات، صار فيه الآن خلل الناس بحاجة إلى تبيين التوحيد المفصل وإيضاحه والاستدلال عليه، الشمولية مطلوبة، وكل يُعطى ما يناسبه، فكونه يتكلم على بعض مسائل التوحيد في دقيقة، ويجعل ربع ساعة في الكلام على مسائل أخرى، هذا يُفهم منه أن المقصود ليس هو إفهام الناس التوحيد بشموله وإنما التركيز على نقطة منه وهذا قصور.
8/ التدرج في كتب العقيدة إلى آخره.
يطلب من المقدمة لأحد الدروس سجلت بعنوان المنهجية في طلب العلم.
9/ كم مقدار الحفظ؟
هذا بحسب المقطع، تأخذ مقطع متكامل، ما أدري بحسب الوقت، مقطع متكامل وتشوف مناسبته تكون درس، قد نزيد عنه وقد ننقص.
10/ نودّ فرق بين الإشكال والشبهة.
(37/23)
الإشكال شيء يرد على فهم الكلام، لكن الشبهة شيء يرد يصرف الحكم إلى غيره، الشبهة ترد تقول الحكم ليس كذا بل كذا، أما الإشكال مع بقاء الأصل تقول أنا مقتنع بكذا وكذا لكن إشكال يراد أن يجاب عنه، فالإشكال من الموافق والشبهة من غير الموافق.
11/ هل الكتيبات التي أمامكم للتوزيع؟
نعم الذي يأتي يأخذ كشف الشبهات بعد أن ننتهي من الدرس يأخذه.
12/ هل سيعاد شرح كتاب التوحيد؟
الله أعلم.
13/ هل يكفي كقاعدة لهذا الدرس حفظ الأصول الثلاثة وشرحها؟
لا، الأصول الثلاثة سهلة، أذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله ذكرتُ له مرة كان يتكلم في كشف الشبهات وأسأله عن بعض الأشياء قال: كشف الشبهات هي رسالة صغيرة لكن هي أصعب كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب. هذا صحيح ولذلك هي النهاية.
14/ -ما شاء الله- يقترح أن يكون الدرس بعد أذان العشاء بساعة شتاء وصيفا، لكي يستفيد الذي يأتي من بُعد.
ودّي الفائدة للجميع لكن يكون فيه مشقة على آخرين، الصيف مثلا ننتهي من الصلاة التسع نبدأ العشر نخلص الحادي عشر وربع.
14/ يقترحون أن يكون مقتصر على ما أورد الشيخ.
هذا ممكن إذا كنا اقتصرنا على ما أورد الشيخ ممكن أن يكون ثلاثة أشهر، فنحتاج تقريبا إلى اثنتا عشر ساعة؛ اثنتا عشرة درس.
15/ هذا بالعكس يطلب الإسهاب.
16/ وهذا يقول لا المختصر المخل ولا الطويل الممل.
17/ أيضا هذا يقول نريد فترة من الزمن حتى يتمكن من يحضر من بُعد.
18/ شرح مبسط ثم بعد المظان اشرح شرح مطول.
طيب
19/ يقترح أن يغير الكتاب إلى كتاب التوحيد.
20/ بعض المناهج الدراسية الجامعية تذكر الشبهات في علوم القرآن أو غيرها.
هذا صحيح نعم لأنكم طلاب علم تحتاجون إلى...
21/ نقترح أن يكون درس الخميس بعد الساعة التاسعة حتى نتمكن من حضور درس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بعد الفجر.
نشوف إن شاء الله.
(37/24)
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يلهمنا الرشد والسداد وأن يجزيكم خيرا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
[كشف الشبهات عن التوحيد]
[المتن]
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله أنّ التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل، الذين أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ودّ، وسواع ويغوث ويعوق ونَسرٍ، وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى أناس يتعبدون ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين.
[ الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فهذا شروع منا في هذه الرسالة؛ في شرح هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات للإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة، ونستعين الله جل جلاله وتقدست أسماؤه ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أنْ يعلمنا منها علما نافعا وأن يقينا في فهمها الزلل والخطل وأن يجعل أفهامنا صائبة وقلوبنا ذات بصيرة.
هذه الرسالة سُميت كشف الشبهات، وقد ذكر طائفة من العلماء منهم ابن غنام في تاريخ نجد أنه أرسلها للناس في القرى لأجل أن يكشف بعض الشبه التي شبّه بها على التوحيد أعداء دعوة الإمام رحمه الله، فهي مصنّفة لأهل التوحيد الذين نُشرت فيهم بعض الشبه، نَشر تلك الشبه بعض العلماء الذين ورثوا علوم المشركين وحبذوا الشرك بالله وأيدوه ودعوا الناس إليه ودافعوا عنه نعوذ بالله من الضلال.
اسم هذه الرسالة كشف الشبهات
(37/25)
والكشف هو حسر الشيء عن الشيء، كشف الرأس يعني حسره؛ حسر ما عليه حتى ظهر، وكشف البأس إذا أزاله وهذه المادة في القرآن كثيرة (فلما كشفنا عنهم السوء)([3]) كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ?[النمل:62]، ?لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ?[النجم:58] ونحو ذلك، فالكشف بمعنى الإزالة.
والشبهات جمع شبهة، وهي المسألة التي جُعلت شبها بالحق؛ لأن الحق عليه دليل بيّن واضح، والشبهة سميت شبهة لأنها مسألة من مسائل العلم أورد عليها أصحابها بعض الأدلة التي يظنونها علما، فالشبهة عبارة عن تشبيه الباطل بالحق، فإذا شبّه الباطل بالحق من جهة أن الباطل له دليل وله برهان صارت هذه المسألة -إذا عُورض بها الحق- صارت شبهة، والشبهة والمُشَبَّهة هي المسائل المعضلة أو المشكلة التي تلتبس على الناس كما جاء في بعض ألفاظ حديث النعمان بن بشير المشهور قال «الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشَبَّهات» أو «مُشْتَبِهَاتٌ» سميت مشبَّهة ومشتبهة لأنّ الأمر فيها يشتبه على الناظر فيه، وهكذا الشبهة تُلقى؛ يلقيها الشيطان أو يلقيها أعوانه أو تأتي في الذهن فيشتبه معها الحق ويشتبه الباطل معها بالحق، فيصبح الأمر غير واضح بها، ولا شك أنّ إزالة الشبهات وكشف الشبهات من أصول هذا الدين؛ لأن الله جل وعلا رد على المشركين في القرآن ودحض شبهاتِهم وأقوالَهم، قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ?[الشورى:16]، وكل من يجادل بالباطل له حجة وله علم لكن حجته داحضة، وكون الحجة تُدحض هذا أصل في إزالة الشبهة في الدين، فإزالة الشبه التي شبه بها أعداء الملة وأعداء الدين فرض من الفروض في هذه الشريعة وواجب من الواجبات، لا بد أن يوجد من يقوم به وإلا للتبس الباطل
(37/26)
بالحق، وصار هذا يُشبه هذا وضل الناس .
وقد ذكر إمام هذه الدعوة في مسائل كتاب التوحيد حينما عرض لحديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن قاتل له «إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ كِتَابِ فليكن أول ما تدعوهم إليه شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ اللّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ» الحديث، قال في المسائل ما حاصله: في هذا ردّ الشبه عن الدين؛ لأنه مهد له عليه الصلاة والسلام بقوله (إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ كِتَابِ)، وكونهم من أهل الكتاب هذا يعني أن يستعد لمناظرتهم وللحجاج معهم، ثم قال (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ)، فنَفْهَم من قوله (أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أنه سيكون بينه وبينهم حجاج ونقاش وأخذ ورد ولإزالة الشبه التي قد تكون عندهم في رد التوحيد ورد رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، فقوله (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) فيه رد الشبه وأنها من وظائف العلماء الدعاة، ثم قال (فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ) وهذا كله دليل على ما ذكر.
المقصود أن إزالة الشبه عن الدين فرض من الفرائض قام به أهل العلم، وصُنِّفت فيه المصنفات في القرون التي شاع فيها التصنيف في القرن الثاني والثالث وما بعده إلى زماننا هذا.
وكشف الشبه يكون عن طريقين:
@ الطريق الأول: طريق عقلي.
@ والطريق الثاني: الطريق الشرعي السمعي.
أما الأول وهو الطريق العقلي: فهذا قد يكون بإيجاد البراهين العقلية البحتة التي تبطل شبه المشبهين، وقد يكون بإيجاد الأمثلة العُرفية التي تضعف حجة الخصم، وهذا وهذا موجود في القرآن.
(37/27)
والقسم الثاني الأدلة أو الطريق الشرعي السمعي: بأن يكشف ما شبه به الخصوم بأن تُزال الشبه وتقام الحجة بالأدلة الشرعية، وفي الكتاب والسنة من إقامة الأدلة في مسائل العلم خاصة التوحيد ما يُغني عن غيرها؛ لكن طالب العلم قد يحتاج إلى بعض البراهين العقلية، لذلك جاءت في القرآن آيات كثيرة فيها إقامة البرهان العقلي في التوحيد كقوله جل وعلا ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا?[الأنبياء:22]، وكقوله جل وعلا ?قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا(42)سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا?[الإسراء:41-42]، فهذا من جعْل الحجة العقلية، وقوله جل وعلا (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) فيه دِلالة بينة أنّ وجود إله يعبد مع الله جل وعلا لو كان موجودا لفسدت السموات والأرض؛ لأنه لا بد أن يأتي هذا بما يريد وأن يأتي الآخر بما يريد، ومعنى ذلك أنه لن يكون هذا الملكوت على هذا الانتظام لا بد من المغالبة، ولهذا قال في آية الإسراء (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) لابد أن يكون ثم مغالبة حتى يستقيم الأمر فلو كان ثم معبود مع الله جل وعلا بحق لكان لا بد من المغالبة، وإذا انتفت المغالبة وكان هذا الكون والمكلوت يمشي على منوال واحد وبإرادة واحدة دلّ ذلك البرهان العقلي؛ البرهان المحسوس المضبوط على أن المعبود بحق واحد وهو الله جل جلاله.
قال الإمام رحمه الله تعالى في أول رسالته (بسم الله الرحمن الرحيم ) وتفسير البسملة وما فيها من العلم معروف يؤخذ من الشروح الكثيرة لكتب أهل العلم.
(37/28)
قال بعدها (اعلم رحمك الله) هذه البداية تكثر في كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وفي كتب كثير من أهل العلم، فقد قال العلماء فيها من الفائدة أنّ هذا العلم أي علم الشريعة مبني على التراحم، فأعظم رحمة تسديها للناس أن تنشر بينهم العلم، فإذا علمتهم العلم فهي أعظم رحمة ترحمهم بها، ولهذا كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام مبعوثا رحمة للعالمين كما قال جل وعلا ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]، والشريعة كلها عقيدة وأحكاما، خبرا وأمرا ونهيا رحمة، وبعثة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام رحمة، وكل تشريع رحمة، وكل إخبار اعتقاده رحمة بالعبد؛ لأنه إن لم يعتقد الخبر فإنه سيضل وذاك هلاك، وإنقاض الناس من الهلكة رحمة بهم، وإن لم يتبع الأمر والنهي ولم يفعل ما أمر به وينتهي ما نُهي عنه فإنه قد سعى في فساد نفسه وما لا يُحمد له وفي ظلم نفسه فتخليصه منه رحمة، فمبنى العلم على التراحم، المعلم ينشر العلم رحمة مع أمور أُخر، والمتعلم يتلقى العلم وهو مرحوم به أو وهو مرحوم بنشر هذا العلم، ولهذا قال العلماء إنّ الحديث الذي اختاره طائفة من أهل العلم ليكون الحديث المسلسل بالأولية هو حديث «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وهذا هو الحديث المعروف في رواية الحديث وعند المهتمين بالإسناد بالحديث المسلسل بالأولية؛ لأنّ الرواة فيه يقول كل واحد منهم: وهذا أول حديث سمعته. يعني من شيخه فالشيخ أول ما يقرئ الأحاديث هذا الحديث (الراحمون يرحمهم الرحمن) ذكر طائفة من أهل العلم منهم الذهبي وغيره أن سبب تسلسل هذا الحديث بالأولية أنّ هذا العلم علم الحديث وعلم السنة بل علم الشريعة جميعا مبناه على التراحم، فيعلم المعلم هذا الحديث أولا (الراحمون يرحمهم الرحمن) ويكون أول ما يسديه إلى التلميذ أن يعلمه الرحمة والتراحم؛ لأنه لا يكون العم إلا عند رحيم، أما
(37/29)
من لم يكن رحيما بالخلق فلا يكون العلم مستقرا في قلبه، يكون أكثر استقرارا إذا كان أرحم بعباد الله جل وعلا، وكلما ازدادت الرحمة في قلبه كلما زاد العلم ثباتا في صدره لأن الرحمة مأمور بها (ارحموا من في الأرض)، والله جل وعلا ?وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا?[النساء:66]، ومن التّثبيت التثبيت في العلم، فهذا من رحمة الشيخ رحمه الله بالمسلمين حيث يدعو لهم بهذه الدعوة.
قال (اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة) التوحيد مصدر وحّد يوحد توحيدا، وقد جاء في السنة لفظ التوحيد وقد جاء أيضا لفظ وحّد يوحد، فمادة هذه الكلمة جاءت في السنة، خلافا لمن زعم أن هذا اللفظ إنما اهتم به شيخ الإسلام ابن تيمية ومن تابعه، هذا غلط كبير؛ لأن هذا اللفظ قد جاء في السنة في أحاديث كثيرة، وقد جاء في مثل ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الحج أن النبي عليه الصلاة والسلام ”أهل بالتوحيد“ وثبت أيضا في مسلم وفي غيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةٍ. عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللهُ» وفي حديث جبريل أيضا المعروف قال عليه الصلاة والسلام «الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ»، في رواية «الإِسْلاَمُ أَنْ تُوَحّدَ اللهُ»، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يُهِلُّ بالتوحيد؛ يعني يقول لا إله إلا الله وكان يهل في الحج بالتوحيد؛ بمعنى يقول لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك. لأن نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله جل وعلا هو التوحيد.
المقصود أن هذه الكلمة (التوحيد) جاءت في السنة في أحاديث كثيرة وكذلك لفظ (وحَّد) فهي كلمة مستعملة ومشهورة ومن ألفاظ حديث معاذ المعروف «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحِّدوا الله» والبخاري بوّب أو جعل من كتبه في صحيحه كتاب التوحيد.
(37/30)
فالمقصود من هذا بيان أن هذه اللفظة كثيرة في السنة وهي وإنْ لم ترد في القرآن لكن جاءت في السنة وأهل العلم من أهل السنة اعتمدوها وذكروها وصنفوا فيها كتبا.([4]) فاهتمام الشيخ رحمه الله بهذه الكلمة هو اهتمام بأصل الدين وليست كلمة محدثة خلافا لمن زعم ذلك بجهله.
قال (التوحيد هو إفراده سبحانه بالعبادة)، (التوحيد) يعرف بعدة تعريفات أما من جهة اللغة فهو جعل الشيء واحدا، وحد توحيدا يعني جعله واحدا، فوحّد المتوجه إليه في العبادة توحيدا؛ يعني جعل المعبود بحق واحدا، و(التوحيد) عرّفه الشيخ رحمه الله هنا وهو (هو إفراده سبحانه بالعبادة) إفراد الله يعني أن يكون التوجه بالعبادة لله وحده هو فرض في ذلك فلا يجعل من دون الله إلها ولا يجعل مع الله جل وعلا إله.
قال (إفراده سبحانه بالعبادة) و(سبحان) تنزيه كما هو معلوم، (بالعبادة) هذه العبادة ما هي؟
العبادة في اللغة خضوع وتذلل معه حب عن طواعية ورغب ورهب وحسن ظن وما أشبه ذلك من أعمال القلوب، وأصلها الذل؛ ذلل الشيء يعني جعله متطامنا، جعله ذليلا، جعله غير وعر غير مستكبر، فيكون هذا في الناس، ويكون في الطريق ومنه سمي العبد الرقيق عبدا؛ لأنه جعل ذليلا غير متكبر متطامن لسيده، وقيل أيضا للطريق معبد لأنه ذُلل للسير كما قال طرفة
تُبارِي عِتاقاً ناجِياتٍ وأَتْبَعَتْ وَضيفًا وَضيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
وقوله أيضا في البعير
إلى أنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها وأُفرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ
إلى آخر شواهد هذه المادة.
أما العبادة في الشرع فالعلماء عرّفوها بعدة تعريفات نختار منها في هذا المقام ثلاثة:
¨ الأول: أن العبادة هي ما طُلب فعله في الشرع ورُتب الثواب على ذلك وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية لما تكلم عن الوضوء، فإذا كان الشيء طلب فعله في الشرع ولم يكن مطلوبا قبل ذلك ورتب على ذلك الفعل الثواب فهذا الفعل عبادة.
(37/31)
¨ التعريف الثاني: أيضا كلي أيضا ذكره شيخ الإسلام في أول رسالة العبودية هي أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
¨ وعرفه أيضا طائفة من العلماء ومنهم الأصوليون بأن العبادة هي ما أمر به من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي.
فنخلص من هذا إلى أن العبادة شيء جاء بالشرع لم يكن قبل ذلك، لم يكن قبل ذلك ليس من جهة الفعل والحصول، ولكن من جهة كونه مأمورا به لهؤلاء الناس المعينين، فجاء الشرع بالأمر بأشياء كانت موجودة عند العرب، ولكن كانوا يفعلونها من غير أمر خاص شرعي بذلك، وإنما ورثوها هكذا فلما أمر بها الشرع ورتب عليها الثواب كانت مما يحبه الله ويرضاه، وكانت مأمور بها من غير اقتضاء عقلي لها ولا اطّراد عرفي بها([5])، وإنما كانت باطّراد أمر الشارع بها، فخرجت عن كون مقتضى بها جاءت عرفا فقط.
لهذا الأقوال هذه الثلاثة لتعريف العبادة تلتقي ولا تختلف.
فإفراد الله سبحانه بالعبادة معناه أن يفرد الله سبحانه بكل ما أمر به الشرع؛ بكل ما أمر به الشرع من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيدخل في ذلك أعمال القلوب مثل الإخلاص والرغب والرهب والخوف والتوكل والإنابة والمحبة والرجاء والاستعاذة؛ استعاذة القلب إلى آخره، ويدخل فيه أيضا الأفعال الظاهرة مثل الدعاء وأنواعه الاستعانة والاستغاثة والاستسقاء والاستعانة الظاهرة إلى غير ذلك، ويدخل فيها الذبح والنذر والصلاة والزكاة والدعاء والحج والعمرة والصلة؛ صلة الرحم وغير ذلك، فالعبادة اسم يعم هذا جميعا، فكما أنه لا يصلي المصلي إلا لله كذلك لا يستغيث إلا بالله فيما لا يقدر عليه المخلوق، وهكذا في مظاهرها كما أُوضح ذلك مفصلا في كتاب التوحيد وفي ثلاثة الأصول.
قال (وهو -يعني التوحيد- دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده)
(37/32)
(هو دين الرسل) يعني جميعا فالرسل جميعا أرسلوا بالتوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، فلم ترسل الرسل أصلا بالشرائع، لم ترسل الرسل أصلا ببيان ما يجب من الأعمال من الذي هو دون التوحيد، أو ما يحرم إنما أرسلت لتوحيد الله جل وعلا؛ لأن توحيد الله جل وعلا هو العلة المطلوبة من خلق الجن والإنس، كما قال جل وعلا ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات:56]؛ يعني إلا ليوحدونِ، فالعلة المطلوبة من خلقهم أنهم يوحدون الله جل وعلا لهذا أرسلت الرسل بذلك.
هذا التوحيد مفطور عليه العباد للميثاق قال جل وعلا ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا?[الأعراف:172] وهذا الذي أخذ عليهم هو التوحيد وهو الفطرة، فؤخذ على الناس جميعا هذا الميثاق وهو توحيد الله جل وعلا، ولكن هذا الميثاق خرجوا عليه وهم في ظهور آبائهم أُخذ وعرفوا ذلك وشهدوا به، ثم خرجوا على هذا التوحيد خرجوا على الفطرة، خرجوا وهم يوحدون الله جل وعلا؛ لكن تجتالهم الشياطين عن دينهم كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته «كلّ مولودٍ يولَدُ على الفِطرةِ, فأبَواهُ يُهوّدانهِ أو يُنصّرانِه أو يُمجّسانِه, كما تجرجُ البهيمةُ جمعاء هل تحسون فيها من جَدْعاءَ»؟ يعني أن البهيمة تخرج سليمة، ثم بعد ذلك أهلها يقطعون شيئا من أذنها أو شيئا من بدنها إلى آخره، الكمال يخرج المولود عليه، من جهة التوحيد يعني على الفطرة، ثم تتغير هذه الفطرة، معلوم أن ذلك الميثاق الأول لا يُذكر، وأن دلائل إقامة الحجة بذلك الميثاق موجودة في الآفاق وفي الأنفس، والرسل جاءت لإقرار ذلك وجعل الناس يرجعون إلى هذا الأصل الذي ولدوا عليه وهو توحيد الله جل وعلا ثم إضافة بعض الشرائع التي تختلف من رسول إلى رسول.
(37/33)
المقصود من ذلك أن دين الرسل جميعا هو التوحيد، والرسل جمع رسول وهو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه إلى قوم مخالفين له. أما إذا كانوا موافقين فيكون ذلك نبي من الأنبياء كأنبياء بني إسرائيل ونحو ذلك، فالرسل الذين بُعثوا إلى قوم مخالفين هم على التوحيد أمروا بالتوحيد ودعوا إليه قال جل وعلا ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وفي سورة الأعراف في ذِكر نوح عليه السلام وذِكر هود وذِكر صالح وذِكر شعيب وذِكر موسى عليه السلام، كلهم يدعون إلى توحيد الله جل وعلا ?اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?([6]) إذا كان كذلك فإن الدعوة تكون إلى هذا الأصل،الدعوة تكون إلى توحيد الله لأن به صلاح القلوب وصلاح الأعمال.
قال (وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده)، (به) يعني بالتوحيد إلى عباده، فما هو دين الرسل الذي أجمعوا عليه، اتفقوا عليه كل واحد بعث به؟هو توحيد الله جل وعلا وهو إفراد الله سبحانه بالعبادة، لهذا نعلم أن كل من عبد غير الله جل وعلا فهو مخالف لكل رسول ومن عبد غير الله بأي نوع من أنواع العبادة فإنه لم يوحد إنه مشرك وإنه مكذب بجميع المرسلين، قال جل وعلا ?كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ?[الشعراء:105]، فمن لم يوحد الله جل وعلا فقد كذب بالمرسلين جميعا؛ لأن الرسل جميعا أمروا بالتوحيد، فإذا أشرك المشرك فلا يحتج يقول أنا على دين موسى أو على دين عيسى، نقول هو مكذب بجميع الرسل وخارج عن دين جميع الرسل.
قال (فأولهم نوح عليه السلام) نوح هو أول الرسل، وهو من أولي العزم من الرسل، وهو عليه السلام الذي جَعل الله جل وعلا ذريته هم الباقين في الأرض، أما آدم فإنه نبي مكلم وليس برسول، كما جاء في بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال «آدم نبي مكلم».
(37/34)
نوح عليه السلام بعث إلى قوم أشركوا بالله جل وعلا وشركهم كان في الصالحين.
قال (أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين) الغلو هو مجاوزة الحد، غلا في الشيء جاوز الحد فيه، وتأليه البشر مجاوزة للحد، وهؤلاء الصالحون أولهم ودّ، وودّ هذا من عباد الله الصالحين، وهو أول من أُشرك به على الأرض لما مات صوَّروا صورته كما يأتي في حديث ابن عباس، فقوم نوح هم تتابعوا من ذرية آدم وذرية آدم على التوحيد حتى أتى هؤلاء الصالحون ودّ وسواع ويغوث ونسرا كانوا قوما صالحين، فهنا شاع في الناس الرغبة في الدنيا والبعد عن تذكر الآخرة، فكانوا إذا أرادوا أن يتشجعوا في العبادة ذهبوا إلى هؤلاء؛ إلى قبورهم إلى ود وإلى سواع وإلى يغوث وإلى يعوق وإلى نسر، فنظروا في قبورهم وبكوا عندها، فتشجعوا في العبادة ورجعوا، فجاء الشيطان فتكلم عند قبرهم قال: ألا تصنعون أو ألا أصنع لكم صورة تتذكرون بها ودّا وتتذكرون بها سواعا. فصنع لهم صورة على هيئته، فجعلوها على قبورهم وثنا وصنما، ثم بعد ذلك يعني هم حينما جعل ذلك أولا ليس معبودا ولكن للتذكر ينظرونه فيتذكرونه وأعمارهم كانت طويلة، ثم بعد ذلك قال ألا تجعلون من كل واحد صورة في بيت كل واحد منكم حتى يتذكر، ثم نقلهم بعد ذلك إلى أن يصحبوه في السفر إلى آخره، شاع في ذلك لأجل التذكر لأجل الحث على العبادة، ولم يكن أول ذلك الجيل لم يكن مشركا، فيما بعدهم ذهب ذلك العلم، وقالوا ما اتخذ آباؤنا هذه الصور إلا لأنها آلهة إلا لأنها معظمة، فتوجهوا إليها بطلب التوسط، قالوا هؤلاء لهم مكانة عند الله؛ لأنهم صالحون، فنتوسط بهم فيما نريد فصار شرك قوم نوح من جهة التوسط بالأرواح؛ أرواح صالحي بني آدم.
(37/35)
ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ذكرهم الله جل وعلا في القرآن في سورة نوح حيث قال جل وعلا ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا(23)وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا?[نوح:23-24]، قال العلماء (وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ) فيها أن ودّ هو الأول، وسواع هو الثاني، ويغوث هو الثالث، وفيها أيضا تنبيه على أن هذه الآلهة متفاضلة عندهم؛ بأنه أتى في الثالث الأول بحرف (لَا) وفي الآخرة بلا حرف (لَا) فقال (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) فلم يأتِ بحرف (لَا) لأجل أن يفاضلوا بين أولئك وبين هذه، فهذه الآلهة كانت متفاضلة عندهم، وهذا التفاضل عندهم الذي يُشعر به اللفظ كما ذكره طائفة من المفسرين، هذا التفاضل إنما بتفاضل مصلحتهم من هذه الآلهة، والتوجه بها، وهذا هو الموجود بهذا الزمن وفي زمن الشيخ وفي زمن انتشار الشركيات، فإنّ عباد القبور عباد الأولياء أولئك ليسوا متساوين فبعضهم أقطاب وبعضهم أوتاد وبعضهم غوث وهكذا، فإذن التفاضل من جهة الروحانيات من جهة التوسط كان موجودا في زمن نوح عليه السلام، فصرنا على أنّ ما كان فير زمن نوح عليه السلام أنّ هؤلاء صالحون، وأنهم لم يعبدوا باتخاذ قبورهم أوثانا من أول الأمر، وإنما عبدوا بعد زمن، لما نُسي أول الأمر من اتخاذ صورهم للتنشيط في العبادة وعُبد بعد ذلك، ففيه أن الشيطان أتاهم بأن لا تسد الذرائع في هذا الباب، فجاء الأمر شيئا فشيئا حتى عبدوا تلك الآلهة، وفيه أن هؤلاء متفاضلون في الصلاح عندهم، وفيما ذكرنا أيضا أن تفاضلهم إنما هو من جهة أثر توسطهم بهذه الآلهة على ما يريدون من إنجاح حوائجهم، ولهذا ذكر البخاري في كتاب التفسير في تفسير صورة نوح قال باب ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وذكر الحديث المعروف حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن
(37/36)
عباس أنه قال في هذه الآية: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. وهذا القدر -وهو أنهم أسماء رجال صالحين- هو الذي يعرض فيه كثير من المعارضين اليوم، ويقولون إن هذه الأسماء أن تعدّ أسماء رجال صالحين لم تأتِ إلا في هذا الحديث عن ابن عباس.
وهذا الحديث رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وابن جريج له تفسير معروف، وفي تفسيره ذكر التصريح بأن عطاء هذا هو عطاء الخُرساني، كذلك ذكره عبد الرزاق في تفسيره وهو مطبوع؛ طبع مؤخرا، قال: عن ابن جريج عن عطاء الخرساني عن ابن عباس. والعلماء يقولون -علماء الجرح والتعديل-: إن عطاء الخُرساني لم يسمع عن ابن عباس. لهذا قال أولئك هذه الرواية ضعيفة وليست بصحيحة وإن رواها البخاري؟
(37/37)
والجواب عن ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما حينما ذكر أنها أسماء رجال صالحين جعلها البخاري رحمه الله تعالى -يعني جعل تلك الرواية- جعل البخاري رحمه الله تعالى تلك الرواية أصل في تفسير الآية، ورواها بإسناده المتصل لابن عباس، وكون عطاء أتى عند البخاري بلا نسبة، لا يعني أنه عند البخاري عطاء الخُرساني، ودلّلوا على ذلك بأن التفريق في روايات ابن جريج عن عطاء بأن منها عن عطاء الخرساني خاصة بالتفسير إنما هو عن علي بن المديني، وعلي بن المديني معروف بأنه إمام في العلل وله كتاب في العلل وكتبه مشهورة في ذلك والبخاري رحمه الله تلميذه، فلا يخفى عليه تعليل علي ابن المديني لهذه الرواية -أنا أُفَصِّل هذا لأن الدعاة إلى عبادة القبور أو إلى أن التوسط بالصالحين ليس هو شرك المشركين؛ الدعاة قالوا عمدتكم في ذلك هو رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس ضعيفة، ولو رواها البخاري في صحيحه، فهذا رد لهذه الشبهة- نقول: البخاري قال عن ابن جريج قال: قال عطاء عن ابن عباس. ومن المتقرر في علم الرجال أن ابن جريج إذا قال: قال عطاء. وهو يعني ابن جريج ممن عرف بالتدليس، فإن قوله قال عطاء محمول على السماع وسماعه إنما هو من عطاء بن أبي رباح وليس من عطاء الخرساني، فنستدل بذلك على أن هذه الرواية عند البخاري إنما هي عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، وإسنادها متصل في غاية الصحة، وابن حجر رحمه الله حينما عرض لهذه المسألة قال وهي عندي -يعني هذه المسألة- عن عطاء الخرساني وعن عطاء ابن أبي رباح جميعا؛ لأن البخاري رحمه الله مشترط في صحيحه أن لا يروي الحديث إلا إذا كان متصلا، وهو لا يخفى عليه أن ابن جريج يروي عن عطاء الخرساني بانقطاع، وأن عطاء الخرساني راويته عن ابن عباس [منقطعة] لا يخفى عنه ذلك؛ لأنه من مشاهير العلم، ولأنه لم يروِ بهذه الترجمة مما يظن أنه عن عطاء الخرساني لم يروِ إلا حديثين، فهو رواها مسندة متصلة، فمن
(37/38)
نازع في صحتها ينازع البخاري رحمه الله في تصحيحه له هذا واحد.
الثاني أن عطاء في الرواية هو عطاء ابن أبي رباح ولو كان روي في تفسير عبد الرزاق وتفسير ابن جريج التصريح بأنه عطاء الخرساني فإنّ ابن جريج قد يسمع من هذا وهذا، يعني قد يأخذ من هذا وهذا؛ قد يأخذ من عطاء بن أبي رباح، وقد يأخذ بواسطة عن عطاء الخرساني فهذا محتمل, وتغليط البخاري رحمه الله في تصحيحه للحديث هذا غير وارد.
الثالث أن الذين ذكروا هذه العلة ليسوا من المتقدمين من حفاظ الأحاديث، وإنما هم من المتأخرين، والمتقدمون من أهل الحديث أدرى بالبيت؛ لأن فهمهم بالعلل أعظم من فهم من بعدهم.
فنخلص من ذلك إلى أن رواية ابن عباس هذه هي الأصل في هذا الباب، وأنّ ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أنها أسماء رجال صالحين صارت في العرب، وأن أولئك لم يعبدوها أول الأمر وإنما آتاهم الشيطان فمثّل لهم -كما ذكرتُ لكم- مثّل لهم صورا فلما تمسخ العلم وفي رواية فلما نسي العلم عبدت يعني لما نسي التوحيد وتمسخ العلم ورثها أناس لم يعرفوا حقيقة الأمر فعبدت، يدل على ذلك أن ودّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرا هذه صارت في العرب معروفة وأبيات الشعر التي حفظت في ذلك عن العرب في ذكر هذه الأصنام مشهورة، الله جل وعلا ذكرها عن قوم نوح وهي موجودة العرب بهذه الأسماء والأشعار بها محفوظة، ويؤيد ذلك أيضا أنها في العرب أن العرب فيهم التعبيد لهذه الآلهة، فيهم من اسمه عبد ودّ، وفيهم من اسمه عبد يغوث، وفيهم من اسمه عبد نسر وهكذا، فالتعبيد لها يدل على أنها موجودة في العرب، وهي موجودة في قوم نوح بنص القرآن، فلما كان كذلك صارت هذه الرواية متفقة مع ظاهر القرآن، ومتفقة مع واقع العرب المعروف الذي حفظ، فمن طعن فيها فإنما هو من جهة عدم استيعابه للمسألة.
(37/39)
قال (وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - ) ذكرتُ لكم أن عبادة أولئك كانت من جهة الأرواح، وكل شرك في العالم كان راجعا إلى أحد نوعين لا ثالث لهما: الشرك بالله:
الأول: راجع أرواح الناس؛ أرواح الصالحين.
والثاني: راجع إلى أرواح الكواكب.
فالشرك بأرواح الصالحين كان في قوم نوح.
والشرك بأرواح الكواكب كان في قوم إبراهيم، وهل الكوكب له روح؟ الجواب: لا، ولكن جعلوا لكل كوكب صورة وصنما صوروا فيه الكوكب فلما كان كذلك، زعموا أن روحانية الكوكب وروح الكوكب تحل فيه فتتقبل مما يأتي لها ويطلب فترفع الحوائج إلى الكوكب، وعند هؤلاء الصابئة أن الكواكب تُسَيَّر العالم، وأن كل كوكب له أثر في العالم والصابئة الذين هم قوم إبراهيم كان شركهم من جهة الكواكب كما هو معروف، قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا?[الأنعام:65-66] الآيات، فشركهم كان من جهة الكواكب، لم أشركوا بالكواكب؟ لأنهم لما وضعوا الأوثان لهذه الكواكب جاءت الشياطين فتكلمت عند صورة الوثن عند الوثن عند الصنم، فلما تكلمت طلبوا منها أشياء فتحقق لهم ذلك، فظنوا أن الكواكب مسيرة لأحداث هذا العالم.
فإذن نخلص من ذلك إلى أن الشرك وقع من جهة الشياطين في الجهتين:
¨ شياطين تكلّمت بلسان الصالحين، تكلمت على أنها روح الصالح، فطُلب منها وأجابت وعملت أشياء.
¨ وشياطين تكلمت على لسان كما يزعم أصحابه لسان الكوكب.
وكل شرك متفرع على أحد هذين النوعين؛ إما شرك بالعلويات أو شرك بالسفليات.
حقيقة الأمر أن الشياطين حينما تقول ذلك هي عبادة الجن، حينما يُطلب منها فإن المعبود هو الجني وليس هو الإنسي.
(37/40)
قال (وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين)، (وهو الذي كسر) بنفسه أو بمن أَرسل، محمد عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة عام الفتح دخل وكان حول الفتح أصنام كثيرة فجعل يمكُتُهم بعصاه عليه الصلاة والسلام ويقول ?جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا?[الإسراء:81] وكان من الأصنام إساف ونائلة، صنم إساف ونائلة وكانت موجودة بجنب الكعبة، ومنها هبل وكان هبل من الأصنام التي في داخل الكعبة؛ لأن الكعبة كانت بداخلها صور وأصنام، وكان أيضا بقربها يعني على حافة الكعبة كانت ثَم أصنام وهناك أيضا أصنام بعيدة حول المطاف، فالنبي عليه الصلاة والسلام كسر هذه جميعا.
من العجائب في ذلك أن المؤرخين اتفقوا على أن إساف ونائلة؛ إساف رجل ونائلة امرأة، وأن إساف كان يتعشق نائلة وأنهما قدما حاجين وأنه لم يتمكن منها إلا في غفلة من الناس أتاها في الكعبة -والعياذ بالله-، قال المؤرخون فمسخا حجرين في داخل الكعبة فلما نظر الناس إليهما عرفوا أن هذه صورة إساف وصوره نائلة في الكعبة، فعلم أنهما أحدثا حدثا فأخرج الناس الحجرين إلى خارج الكعبة ليعتبر الناس بحال من عصى في الحرم، يكون ذلك أبلغ في إبعاده، أتى الزمان حتى عبد إساف وعبدت نائلة، هبل كان في داخل الكعبة وكان هو أعظم الأصنام والصور التي في داخلها وهكذا.
أما ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر فهذه لم تكن من الأصنام التي حول الكعبة وكانت متفرقة في العرب فقوله (وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين) يعني بمن أرسل، فإنه لما انتشر الإسلام فكل قوم فيهم هذا الوثن أو هذا الصنم كسره أصحابه بأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وقولنا بأمر النبي ليس أمرا خاصا بهذا الصنم ولكن أمرا عاما بكسر الأصنام والأوثان.
ومن أصنامهم اللات والعزى ومناة كما هو معروف.
(37/41)
تعبير الشيخ بقوله (صور هؤلاء الصالحين) هذا مقصود؛ لأن أولئك جعلوا الصورة، وهل جعلهم الصورة لقصدها أم لأجل أنها توصل إلى صاحبها؟ معلوم أنّ المشركين ليسوا قاصدين للصور من حيث هي، بل يقصد الصنم من حيث هو، وإنما عندهم الصنم وسيلة إلى روح صاحبه، الوثن وسيلة إلى ما يحل بالبقعة أو يحل بالشيء من أرواح.
فإذن هم قصدهم الأرواح التي تصعد إلى الملأ الأعلى فتوصل طلباتهم وتوصل حوائجهم وما يريدون إلى الله جل وعلا، فيستجيب الله جل وعلا بهذه الوساطة، هذه خلاصة شرك المشركين.
وأولئك الذين أشركوا هذا الشرك لم يكونوا بعيدين عن التعبد، بل كما ذكر الشيخ رحمه الله هنا قال (أرسله الله إلى أناس يتعبدون) نعم كان أهل الجاهلية كانوا يتعبدون، كان منهم أهل الصيام، كان منهم أهل الصلاة، ومنهم أهل الدعاء، ومنهم أهل الحج، منهم أهل الزكاة، منهم أهل الصدقة، منهم أهل الصلة، منهم أهل الذبح، ومنهم أهل التقرب إلى الله بالطواف والتحنث والاعتكاف إلى آخره والطهارة الكبرى وما أشبه ذلك، فأولئك لم يكونوا يقرّون بأن الله جل وعلا هو الخالق وحده وأفراد الربوبية فحسب، بل كانوا مع ذلك يتعبدون لهم صلاة ولهم زكاة ولهم حج ولهم صيام، وهذا ذكره الشيخ بعد ذلك بقوله ويحجون ويتصدقون.
(37/42)
أما الطهارة فقد ذكر من صنف في أديان العرب أنّ العرب كانت عندهم طهارة من الحدث، فكانوا يتطهرون من الجنابة، وإذا أجنب المرء بمعنى أنزل الماء، فإنه يبعد عن مواقع العبادة ولهذا سموه جنبا، سموه جنبا أي بعيدا ?وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ?[النساء:36] يعني البعيد، فسموا من أخرج الماء يعني من أنزل، سموه جنبا لأنهم كانوا يأمرون بالابتعاد عن الكعبة، بالابتعاد عن مواطن العبادة حتى يتطهر، وتطهره من الجنابة شائع معروف، أما التطهر من الحدث الأصغر فهذا إنما عند طائفة قليلة منهم، حتى النساء كن يغتسلن من الحيض، وهذا معروف عنهم في عدة أحوال وعدة أبيات، ومنها قصة امرأة كانت مع زوجها في سفر وكان معهما ماء قليل، فلما كانت في السفر انقطع عنها الحيض فأرادت أن تغتسل، فأخذت الماء فاغتسلت به وكان قليلا فلم يبلغ أن يعممها وبقيا عطاشا ليس معهما ماء، قيل إنهما هلك في ذلك، فضرب بهما مثل في هذا، وقد قال في ذلك الفرزدق في بعض أبيان نسبت إليه، قال وكنت –يذم رجلا:
وكنت كذات الحيض لم تُبقِ ماءها ولا هي من ماء العذابة طائل
فكان العرب يعتنون بمسألة الطهارة؛ طهارة الجنب وطهارة الحائض، فهذا النوع تعبد منهم بذلك، كذلك الصيام، كان منهم من يصوم وصيامهم مختلف منهم من يصوم يوما، كما كان أهل الجاهلية يصومون عاشوراء، كما جاء في الصحيح «إن عاشوراء يوم كانت تصومه العرب في الجاهلية» وكان لهم صيام من الفجر إلى غروب الشمس، أو من طلوع الشمس إلى غروبها، ومنهم من كان يصوم أكثر من ذلك.
هذه كلها ميراث مما ورثوه من الأديان الصحيحة قبلهم.
وكان منهم أيضا من يصلي وصلاته تكون بركوع وذكر ودعاء ويسمونها صلاة، معروفة عندهم في ذلك، لكن هذه الهيئة والسجود لم يكن عندهم في ذلك.
(37/43)
كذلك كانوا يعتكفون تعبدا، ومنهم حديث عمر المعروف: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام «أوفِ بنذرك».
وكان طائفة منهم يتحنثون ويتخلَّون في الخلاء يتأملون ويذكرون الله جل وعلا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد والتحنث يعني العزلة عن الناس والتعبد بذلك والخلوة كانت معروفة عندهم.
وكذلك الصدقة مثل ما ذكر الشيخ هنا (ويتصدقون) كان فيهم الصدقة كثيرا كما قالت خديجة لما جاءها النبي عليه الصلاة والسلام وقد فاجأه الوحي بحراء فقالت له بعدما قصّ عليها ما حصل قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتُقري الضيف وتعين الملهوف وتعين على نوائب الحق. أو كما جاء في كلامها، فكانت الصلة والصدقة وتسمى عندهم أيضا زكاة كانت موجودة كثيرا.
وكذلك ذكر الله جل وعلا أيضا كانوا أهل ذكر لله جل وعلا، يذكرون بأنواع من الذكر هذه محفوظة في أشعارهم، ومحفوظة في كتبهم؛ يعني في الكتب التي ذكرت ذلك.
واستقصاء ذلك يصعب في مثل هذا الشرح؛ لكن نذكر لك بعض الكتب التي ذكرت منها كتاب بلوغ الأرب للألوسي، ومنها كتاب أديان العرب لعلي الجارم، ومنها تاريخ العرب المفصل قبل الإسلام وغير هذا من الكتب التي شرحت ديانات العرب تطهرها وصلاتها وزكاتها وحجها.
أما الحج والعمرة فهذا معروف مشهور حجهم للبيت تعظيمهم إياه وعمرتهم إليه.
(37/44)
المقصود من هذا أن العرب لم تكن بعيدة عن العبادة، يتعبدون بأشياء ورثوها من دين إبراهيم عليه السلام، ومن بعض الأشياء من دين موسى عليه السلام، إذن هم مقرون بالربوبية لله جل وعلا وأن الله هو الخالق وهو الرازق وهو الرّزّاق وحده، وهو الذي يحيي وهو الذي يميت ويقولون ”ما شاء الله“ ويؤمنون بالله ولكن مع ذلك لم يكونوا مسلمين، بل بعث الله إليهم محمد بن عبد الله يدعوهم إلى أن يوحدوا الله، كيف يكون الحال إذن؟ الحال أننا لا بد أن ننظر فيما كان أولئك على الشرك؟ بما كان أولئك مشركين؟ موحدون في الربوبية؛ الله الخالق وهو الرزاق وهو الذي يحيي ويميت ونحو ذلك، فهل هذا جعلهم مسلمين؟ كذلك عندهم صدقات ودعاء وذكر لله، فهل هذا جعلهم مسلمين؟ إنما الذي جعلهم مشركون أنهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، لم يفردوا الله بالعبادة، يتقربون إلى تلك الأوثان وتلك الأوثان منها صور الصالحين فحصل من هذا برهان عظيم ومقدمة([7]) مهمة لهذا الكتاب، وهي أن المشرك الذي كان في زمن النبوة لم يكن بعيدا من التعبد تماما؛ بل كان يتعبد، كان عنده نوع تعبد، نوع صلاح، من جهة أنه في الناس صاحب خير وصاحب صدقة، صاحب ذكر إلى آخره؛ لكنه صار مشركا لأنه عبد مع الله جل وعلا غيره، فإذا كان الأمر كذلك كان قتال النبي عليه الصلاة والسلام لأولئك وكان تكفيرهم لأجل أنهم أشركوا تلك الآلهة الباطلة مع الله جل جلاله فعبدوا الله وعبدوها.
(37/45)
إذا وصلنا إلى هذه، جاء السؤال المهم وهو كيف عبدوا تلك الآلهة؟ هل ادعوا في اللاّت وفي العُّزى ومناة وهبل وودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وإساف ونائلة، هل ادعوا أنها تخلق ؟ فالجواب لا، هل ادعى أنه ترزق استقلالا؟ الجواب:لا، قال جل وعلا?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31] بلا جدال، يقولون الذي يرزق ويحيي ويميت هو الله، فإذن حين يسألون تلك الآلهة الباطلة الرّزق، حين يسألونها أن ترزقهم هل يعتقدون فيهم أنها تملك الرِّزق استقلالا؟ الجواب: لا؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا بأنهم لو سئلوا من يرزقكم من السماء والأرض لقالوا الله يرزقنا، فإذن لم صاروا مشركين؟ لأنهم جعلوا تلك الآلهة وسائط في طلب الرزق، شفعاء في طلب الرزق ولهذا قال الشيخ رحمه الله بعدها (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله) هذه الوساطة لها جهات:
الجهة الأولى جهة التوجه يعني نوع التقرب لها بالعبادة.
والجهة الثانية مكانتها عند الله حتى ترفع الحاجات.
سيأتي تفصيلها في الكتاب بعد ذلك.
قال (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات) ما هذا البعض؟ سيأتي تفصيله إن شاء الله.
(37/46)
(وسائط بينهم وبين الله) لفظ الوساطة هذا دقيق من الشيخ رحمه الله، وهو الموافق لما جاء في القرآن في أول سورة الزمر حيث قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، قال العلماء قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا) هذا حصر قلب إضافي -معلوم في علم المعاني في علم البلاغة- يعني ما نعبدهم لعلة من العلل أبدا فيهم وأنهم متصفون بأشياء من صفات الإله أبدا، لكن نعبدهم ليقربونا إلى زلفى فقط، وهذا يستفاد من قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) فهو حصر قلب إضافي؛ يعني ما نعبدهم لعلة من العلل إلا لأجل التقريب، فليس لهم شيء وليس من صفاتهم أنهم يرزقون وأنهم يحيون أو أنهم يميتون أو أنهم يفيضون الخير، وإنما لأجل التقرب، وهذا هو معنى اتخاذ أولئك شفعاء عند الله جل وعلا.
(37/47)
فإذن حصرت المسألة في أن اعتقاد المشركين في أوثانهم وفي أصنافهم وفي أصنامهم من جهة الأرواح الشيطانية، ومن جهة التوجه لها لأجل أن ترفع الحاجات إلى الله جل وعلا، فما كانوا يطلبون منها استقلالا، فالتشفع كان هو ديدنهم، فطلب الشفاعة كان هو ديدنهم كان هو بغيتهم، كان كل واحد عنده في بيته وثن أو صنم يزعم أنه إذا توجه له بالعبادة حلّ روح صاحب هذه الصورة فيها فقَبل الطلب ورفعه إلى مكانه في الملأ الأعلى، يعني أن فائدة الصورة، وجود الصورة في البيت أنها تحل فيها الروح روح صاحب هذه الصورة فتقبل الطلب، وليست هي عندهم أصنام محضة؛ لأنهم أعقل من أن يعبدوا حجرا محضا؛ لكن هم عبدوا حجرا معه الروح فصار أيضا ذلك قدح، صار ذلك أيضا قدح في عقلهم من جهة أنهم توجهوا إلى خشب أو إلى تمر أو إلى حجر، إلى آخره زعما بأنّ الروح تحل فيهم فهو قدح في عقلهم لكن أخص من أن يعتقدوا في صنم مجرد يعني في حجر مجرد ليس فيه حلول الروح لتُناجَى ويطلب منها التوسط، فإذن قول الإمام رحمه الله هنا (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله) هذا هو حقيقة الوصف.
(37/48)
قال (يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده) ماذا يريدون؟ التقرب إلى الله، ليسوا ملاحدة، إنما في ألسنتهم ذكر الله جل وعلا، وعندهم صدقة وتعبد، لكن يريدون بذلك التقرب إلى الله، من هذا تعلم جهل طائفة ممن ظنّ أن تعبد المتعبد وصلاته وصيامه وزكاته يمنع من الحكم عليه بالشرك؛ لأنّ أولئك كانوا على دين إبراهيم، يعني لأن المشركين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كانوا على دين إبراهيم، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق» هم كانوا على خلق، كانوا على حسن في التعامل وكانوا وكانوا، ولكن لم يكونوا موحدين، فإذن العبرة كل العبرة في التوحيد، وليست في أنهم يحجون أو لا يحجون، يعتمرون أو لا يعتمرون، يتصدقون أو لا يتصدقون، في ألسنتهم ذكر الله أو ليس في ألسنتهم ذكر الله، ليس هذا هو البرهان، لهذا في بعض هذا الزمن تجد أنه لما فشى الجهل بالتوحيد، تجد أن كثيرين إذا وجدوا ومن يتكلم وفي لسانه ذكر الله جل وعلا، أو أنه يقول الحمد لله أو يقول الله أكبر أو يقول ما شاء الله، أو يذكر الله بلسانه أو يتصدق أو يحضر المسجد أو يقرأ القرآن يزعمون أنه مسلم ولو عبد غير الله جل وعلا، وهذا ليس هو المقصود، وإنما هذه الشرائع جاءت بعد التوحيد، فإذا كان التوحيد لم يقم في قلب صاحبه، فلا تقبل هذه الشرائع.
قال (يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده) وهذه سيأتي بسط الكلام عليها في أثناء الرسالة في مسألة الشفاعة.
قال (مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين) هذا نرجئه إلى الدرس القادم.
(37/49)
أنا أريد من هذه الجملة التي مرّت معنا التأصيلية المهمة أن يتوسّع طالب العلم في معرفة أديان العرب في الجاهلية،كيف كانت؟ لأن هذا من العلم المهم الذي به يتضح قيمة التوحيد، تنظر في تفاسير المفسرين حين يتكلمون عن أحوال العرب وشرك المشركين ونحو ذلك، يتعرضون لأحوال العرب، كذلك في الكتب التي ذكرنا، في كتب الحديث إذا مرت مثل الأحوال التي ذكرنا، منهم من يصلي، ومنهم من يتصدق، أظن في حديث أيضا الذي رواه مسلم أظنه عن أبي ذر أنه كان في الجاهلية قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام هكذا لفظه ”كنتُ أصلي ثلاث سنين قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -“ فهذه المسائل تقعيدية حتى إذا جاءت شبه المشبهة فيما سيأتي يكون عند طالب العلم فرقان، يكون عنده فرقان بيّن بما تميزت به بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ودينُه عن دين المشركين الذين بعث إليهم وقاتلهم وكفَّرهم ولم يقبل منهم صرفا ولا عدلا، فتوسَّع في ذلك وانظر فيه فإنه تقعيد تنتفع به في رد كثير من الشبه التي يشبه بها أعداء التوحيد.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة، وعيسى ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين فبعث الله محمد - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملَك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن والأراضين ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره .
[الشرح]
(37/50)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا، وقلبا خاشعا، ودعاء مسموعا، اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، اللهم وفقنا إلى ما وفقت به عبادك الصالحين، أما بعد:
فهذه صلة لما تقدم من الكلام على أول هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات، وقد ذكرنا فيما مضى في بيان كلام المصنف رحمه الله أن مشركي العرب كانوا يتعبدون بأنواع من العبادات، كانوا يتصدقون في أنواع من الصدقات العظيمة في الحج وفي غيره، وكانوا أيضا يغتسلون من الجنابة، وكانت المرأة أيضا تتطهر من الحيض، وكانوا يصلون بعض الصلوات على طريقة ما، وكانوا يدعون الله جل وعلا في الضراء وأحيانا في السراء، وكان لهم أنواع من العبادات، ولم يكونوا غير متعبدين أصلا بل كان لهم عبادة وتقرب على الله جل وعلا، ولكنهم أشركوا بالله جل وعلا وعبدوا مع الله جل وعلا غيره؛ اتخذوا آلهة من دون الله جل وعلا أو معه، فتوجهوا إليهم ببعض أنواع العبادة، فاتخذوا اللاتّ وهو رجل صالح كان يلتّ السويق فمات وهو يوزعه على الحاج، فرأوا من صلاحه، فمات فعكفوا على قبره، أو أنها صخرة كان يتعبد عندها ذلك الرجل، فرأوا أن ذلك المكان مبارك فتعبدوا عندها وعظموها وتبركوا بها، وكذلك العزى ومناة وكذلك الأصنام الأخر والأوثان ودّ وسواع ويغوث وبعوق ونسر إلى آخر ما يتصل بعبادات المشركين وتوجهاتهم إلى الآلهة المختلفة.
(37/51)
قرر الشيخ رحمه الله فيما سبق أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وأنّ أول الرسل هو نوح عليه الصلاة والسلام وأن آخر الرسل هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء مع بقية الرسل جاءوا بالتوحيد يأمرون الناس بعبادة الله وحده ويبطلون التعلق بالعبادة بغير الله جل وعلا.
بعدما ذكر ذلك ذكر حقيقة شرك المشركين، فقال (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده) وهذا سبق بيان صفاته وأن شرك المشركين كان على نوعين:
¨ إما شرك بأرواح الكواكب على حد زعمهم.
¨ وإما شرك بالأصنام التي تحل فيها أرواح الصالحين بحسب زعمهم، أو الأوثان كالقبور ونحوها بحسب زعمهم أنها تتصل أرواحهم بأرواح الموتى فينفعون أو يضرون.
مثل للمعبودين بقوله (مثل الملائكة، وعيسى، ومريم):
(37/52)
أما الملائكة: فإن طائفة من العرب وغير العرب كانت تعتقد في الملائكة أنها بنات الله جل جلاله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ويقولون إن أرواح الملائكة منتشرة فإذا طلب من الملائكة أجابت، والملائكة عندهم لم يكن لها أوثان وأصنام كما جعلوا للكواكب، أو كما جعلوا للموتى أو للصالحين، وإنما أرواح الملائكة عندهم منتشرة، والاتصال بهذه الأرواح يكون بندائها وبعبادتها إذا احتاجت، فتجيبهم الجن إذا نادوا الملائكة، وتغيثهم الجن فيما أقدرهم الله عليه وظنوا أن ذلك من جهة الملائكة، قال جل جلاله ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، فكانت حقيقة عبادة الملائكة هي عبادة الجن؛ لأنهم ظنوا ذلك ظنا، قال جل وعلا ?وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ?[الصافات:158]، وفي قوله هنا (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) وجهان من التأويل:
¨ إما أن يكون الجنة هنا الملائكة، والنسب كون الملائكة بنات الله جل جلاله، وسميت الملائكة جِنَّة لما في صفتهم من الإجتنان وهو الاستتار.
¨ والوجه الثاني أن يكون الجنة هنا هم الجن كما قال ?مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ?([8]) يعني الجن، والجن يقال لهم جِنّة لأنهم مستترون، فيكون حقيقة قول المشركين أنهم جعلوا بين الله جل جلاله وبين الجن نسبا لأنهم جعلوا بين الله وبين الملائكة نسبا.
(37/53)
وفي الحقيقة إنما أوقعهم في ذلك الجن، كما قال جل وعلا ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، فدل ذلك على أن عبادة الملائكة كانت موجودة وأن اعتقادهم في الملائكة لأجل أن الملائكة أرواح ظاهرة فاستغاثوا بها وطلبوا منها فأغاثتهم الجن فعظم تعلقهم بالملائكة وعظم تصحيح اعتقادهم في الملائكة أنها بنات الله جل جلاله.
المقصود من ذلك أن تعلمَ أن سبب الشرك؛ شرك المشركين بالملائكة هو التعلق بالأرواح الطاهرة، الملائكة أرواح طاهرة بالاتفاق، وذلك عند الأمم جميعا، فجعلوا تلك الأرواح الطاهرة وسيلتهم إلى الله جل جلاله والله جل وعلا بين أن حقيقة عبادة الملائكة إنما هي عبادة للجن لأنهم لما تعلقوا بالملائكة واستغاثوا بها ليست للملائكة في الحقيقة وإنما هي للجن؛ لأن الجن هي التي أضلتهم بذلك كما ذكر في سورة سبإ في الآية التي ذكرتها لكم قوله جل وعلا ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ?[سبإ:40-41], يعني ننزهك عن جميع ما لا يليق بجلالك وعظمتك، ننزهك عن أن نعبد معك ونعظمك جل وعلا بما أنت أهله ?أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ?[سبإ:41] تبرؤوا من أولئك ثم قالت الملائكة ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ?[سبإ:41] (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) هذه هي الحقيقة، وإذا نظرت في حال الذين تعلقوا بالصالحين أو تعلقوا بالموتى، فإنهم لهم شبه من جنس شبه المشركين في عبادتهم للملائكة وعبادتهم للاتّ أو لودّ وسواع إلى آخر أوثانهم، وذلك أنهم يخاطبون ذلك الميت فإذا خاطبوه ظهر لهم إما في سورة أو سمعوا صوته الذي يعلمونه، فإذا سمعوا صوته ظنوا أن هذا هو غوث ذلك الآدمي، أو ظنوا أن المخاطِب لهم الملائكة، أو المجيب لهم الملائكة، فعظم تعلقهم بتلك الأرواح، وفي الحقيقة إنما كان ذلك من جهة الجن؛ لأنّ
(37/54)
شياطين الجن تعهد أبوهم إبليس بأن يُضِلَّ ذرية آدم إلا القليل، قال جل وعلا مخبرا عن قول إبليس ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ?[الإسراء:62]، وقال جل وعلا ?إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ?([9]) فاستثنى أهل الإخلاص الذين خَلَصوا من الشرك، فأخلصوا عملهم لله جل وعلا.
فإذن حقيقة الشرك متماثلة، ليس ثَم فرق بين الشرك في الملائكة والشرك بالأموات والشرك بروحانية الكواكب، الحقيقة واحدة وهي أنه تعلقٌ من بني آدم بأرواح غائبة، وهذه الأرواح الغائبة عظُمت الشبهة بها لمَّا كلمتهم، والشياطين؛ الجن لهم القدرة على التكليم، وعلى أن يتشبهوا بصورة ابن آدم، كما جاء إبليس للمشركين في سورة رجل نجدي، ويسمع الآدمي صوتا يظنه صوت آدمي وهو صوت جني؛ يقلد صوت الآدمي، ومعلوم أنّ مثل هذه الغائبات إذا تعلق بها المرء وقع في إضلال نفسه؛ لأنه تعلّق بشيء ما يدري ما حقيقته، والمعلوم المتقرر عند أهل الشرائع جميعا وعند أهل العقول الصالحة؛ العقول السليمة أنّ الميت لا تخاطب روحه روح الآدمي، حتى في هذا العصر فيما يسمونه تحضير الأرواح في أرواح الموتى ونحو ذلك هذا إنما من جهة شياطين الجن يخدمون ذلك الساحر المحضر للأرواح، فإذا خدموه بعد خدمته لهم وتعبده لهم، فإنهم يتشكلون له بالصورة التي يريد ويسمعونه الصوت الذي يريد، ومعلوم أن أعمار الجن أطول من أعمار الإنس كثيرا بل الموت فيهم بالنسبة لابن آدم قليل، لهذا قال جماعة من الجن لأحد العرب وسمع صوتهم قالوا له:
لقد فُضِّلْتُم بالأكل فينا ولكن ذاك يعقبكم سقاما
(37/55)
يعني أن حقيقة الآدمي غير حقيقة الجني، الجني خُلق من نار وابن آدم خلق مما وصف لكم، فالجني له مقدرة، فالتعلق بالملائكة، التعلق بالصالحين، التعلق بالموتى، كان بعد أشياء سمعوها، كان بعد أشياء أجيبت لهم، فاستغاثوا بالميت فأغاثهم، استغاثوا بالملائكة فأغاثتهم فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وكان في الحقيقة أن الذي أعطاهم الجن، وأن الذي يسّر لهم ذلك أو أغاثهم إنما هم الجن، وذلك ليوقعوا الشرك والبلاء العظيم فيهم بعد إذن الله جل جلاله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع في كتبه: إن الشياطين شياطين الجن تتشكل بصورة الآدمي، يقول حتى إنها تتشكل بصور الأحياء والأموات، ومرة وقع بعض أصحابي في شدة؛ طائفة من تلامذة ابن تيمية يقول وقعوا في شدة فكانوا بعيدين عني، قال فظهرت لهم فيما قالوا فاستغاثوا بي، فلما أتوني وأخبروني الخبر قالوا استغثنا بك فأغثتنا فقال إني لم أبرح مكاني، ذاك شيطان تمثل في صورتي.
وهذا يحصل أيضا عند كثيرين حيث يزعمون أن فلانا رئي في دمشق، أو رئي في مصر، أو رئي في بغداد، أو رئي في المدينة وفي الوقت نفسه رئي حاجا في مكة ورئي معتمرا، ومن المعلوم القطعي عند أهل العقول الصحيحة أنّ الجسم الواحد لا يكون في مكانين متباعدين في الزمن نفسه، ومن قال إنه رآهم هنا ورآهم هنا فهو صادق؛ رآهم في المدينة ورآهم في مكة في الوقت نفسه، يقول رأيناه حاجا، وهل البلد الفلاني يقولون يوم عرفة رأيناه عندنا، فيكون هؤلاء صادقون وهؤلاء صادقون ولكن جاء الاشتباه من جهة تمثل الجني بالإنسي، فمن أخبر بالرؤية فهو صادق، ولكن لا يمكن أن يكون ابن آدم في مكانين متباعدين في وقت واحد، ولكن الجني تمثل بصورته ليضل الناس.
(37/56)
إذن فهذا الباب باب الشرك يدخل منه شياطين الجن الذين قال إمامهم ومقدَّمهم لله جل وعلا ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا?[الإسراء:62]، فالجن أعني شياطين الجن مهمتهم أن يقع بهم الابتلاء في هذا الأمر، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال«قال الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».
قال بعدها (وعيسى ومريم) يعني مثل عيسى ومريم، عيسى عليه السلام ومريم أمه وقع بهما الشرك واتخذ إلهين مع الله جل وعلا قال سبحانه وتعالى في سورة المائدة ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[المائدة:116-118]، وهذا تبرُّؤ من عيسى عليه السلام وإثبات من الله جل وعلا أنه عبد واتخذ إلها مع الله جل وعلا، فطائفة من الأنبياء والمرسلين ضل أتباعهم فاتخذوهم آلهة من جهة الغلو والإطراء، قال عليه الصلاة والسلام «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» قال عيسى عليه السلام لاتباعه ?يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
(37/57)
الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72]، فالأنبياء والرسل تحذر من هذا الشرك وتنهى عنه بل رسالاتهم في هذا الأمر العظيم، وإخلاص القلب لله وتوجهه لله وحده هو زبدة الرسالات الإلهية وهو مدار بعثة الأنبياء والمرسلين، فعيسى ومريم أتخذا إلهين من دون الله جل وعلا، فكيف أُتخذ عيسى إلها؟ الألوهية غير الربوبية أتخذ معبودا بأن يستغاث به بأن يطلب منه بأن يسأل بأن يدعا، والله جل وعلا كفر النصارى باتخاذهم عيسى إلها وجعلهم عيسى ابنا لله أو ثالث ثلاثة، ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ?[المائدة:73]، ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ?[المائدة:72]، وهذا كله لأجل أنهم اتخذوا المسيح وأمه إلهين، ?مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ?[المائدة:75] فالآيات في القرآن في هذا الأمر كثيرة، الذي حصل في هذه الأمة أنهم ما نظروا في كيف صار عيسى عند أتباعه المنحرفين عن سبيله كيف صار إلها؟ اتخاذ عيسى إلها من جنس اتخاذ الأوثان آلهة، ومن جنس اتخاذ الصالحين هذه الأمة آلهة، فالذين اتخذوا عبد القادر الجيلاني إلها أو معبودا من جنس تلك الشبهة، الذين اتخذوا العيدروس إلها ومعبودا هو من جنس تلك العبادات، الذين اتخذوا البدوي أو الحسين أو زينب أو سكينة أو غير هؤلاء من جنس شرك أولئك؛ لأنه تعلقٌ بالأرواح واعتقاد أن هؤلاء لهم مقامات عظيمة عند الله جل وعلا، وحصل لهم ما يريدون في بعض استغاثاتهم من جهة الجن، فصارت الشبهة في الشرك في هذه الأمة من جنس الشبهة التي أحدثت حصول الشرك من جنس الشبهة عند المشركين فضل المتأخرون بما ضل به الأولون، والقرآن من أولهم إلى آخره في رد هذا وبيان ضلال المشركين وبعدهم عن ما يرضي الله جل
(37/58)
جلاله وما يحبه سبحانه وتعالى.
قال (وأناس غيرهم من الصالحين) عُبد صالحون كثير، وعبادة الصالحين من جهة أنّ أرواح الصالحين طاهرة لها المقام العظيم الله جل جلاله، وأنّ الله جل وعلا لا يرد لهم طلبا، يظنون أن مقام الصالح عند الله من جنس مقام المقرب عند الملوك، والملوك؛ ملوك الأرض إذا صار عندهم من هو مقرب ويحترمونه ولهم فيه مصلحة يكون إجابة لطلبه، إذا توسط وطلب أجابوا طلبه لأنهم يرهبونهم لأنهم يريدون أن يبقى على صلته بهم ولأن لهم فيه مصلحة، فاعتقاد المشركين في الصالحين من جنس هذا الاعتقاد، ظنّوا أن العباد مع الله جل وعلا من جنس الوزراء عند الملوك أو المقربين عند الملوك، فجعلوا هذا هو هذا، والله جل وعلا في سورة سبإ أبطل ذلك بقوله ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[سبإ:22-23]، وقال جل وعلا في سورة الإسراء ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا(56)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ?[الإسراء:56-57]، فالصالحون عند الله جل وعلا يرجون الرحمة ويخافون العذاب، والله جل وعلا هو مالك الملك.
(37/59)
فإذن الشبهة التي من أجلها أشرك من أشرك بالصالحين من جهة التعلق بالأرواح، والظن بأن هذه الأرواح مقربة فإذا كانت مقربة عند الله فإنها إذا سئلت فتسأل الله جل وعلا فيجيب الله طلبها ولا يرد طلبها ولهذا من الأدعية البدعية أن يقول القائل أسألك بحرمة نبيك أو بحرمة الولي الفلاني أو بجاه أهل بدر عندك أن تعطيني كذا وكذا، والله جل جلاله ليس لأحد عنده حق بحيث لا يرد ما سأل، حتى الأنبياء عليهم السلام ربما رُدّت أسئلتهم وردت دعواتهم في حياتهم، فالله جل وعلا رد دعاءً إبراهيم ردّ دعاء لإبراهيم وردّ دعاء لنوح إن ابني من أهلي وردّ أيضا دعاء للنبي عليه الصلاة والسلام «سألت ربي ثلاثا فأعطاني واحدة ومنعني اثنتين»ونحو ذلك، فدعواتهم في الحياة على رجاء الإجابة هم أعظم من تجاب لهم الدعوة لكن ليس لأحد المقام عند الله جل وعلا بحيث أنه إذا طلب فإنه لا يُرد سؤاله خلاف ما عليه كل [....] بالقبور والصالحين والأرواح المختلفة.
(37/60)
قال (يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) وهذا فيه أن مشركي العرب كانوا على أثر من الرسالة، وأنهم لم يكونوا بلا رسول قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - بل كانت رسالة إبراهيم عليه السلام فيهم، لهذا كان فيهم بقايا من دين إبراهيم كما ذكرنا من أمور الفطرة من الغسل من الجنابة وغسل المرأة من الحيض والصدقات وبعض الأدعية والصلوات ونحو ذلك، (فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) قول الشيخ رحمه الله (يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ) أخذه من قوله جل وعلا ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(121)وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(122)ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:120-123]، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجدد للعرب دين أبيهم إبراهيم، والله جل وعلا قال ?لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ?[يس:6]، وقوله جل وعلا (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)، (مَا أُنذِرَ) فيها وجهان من التفسير في هذه الآية:
¨ إما أن تكون موصولة يعني لتنذر قوما الذي أنذر آباؤهم فهم غافلون عما أنذر آباؤهم.
¨ والثانية (مَا) نافية (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ) يعني لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم، والمقصود يكون هنا بآبائهم الآباء القريبون المقصود الآباء القريبون؛ لأن أولئك غفلوا عن دين إبراهيم وملة إبراهيم إلا بقايا من العرب أفراد كانوا يسمون الحنفاء اتبعوا ملة إبراهيم في كثير منها.
(37/61)
فإذن لفظ التنديد هنا لأجل ما ذكرت، وهذا يدل على أن مشركي العرب كانت لهم رسالة قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك ظاهر بين والحجة عليهم قائمة به، ووجود الكعبة عندهم وبإقرارهم أنهم من نسل إبراهيم عليه السلام، ورسالة إسماعيل ورسالة إبراهيم عليهما السلام فيهم، والنبي عليه الصلاة والسلام جدد لهم دينهم.
قال (فبعث الله محمد - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) دين إبراهيم هو التوحيد والقنوت لله جل جلاله قال سبحانه وتعالى في سورة الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28] (عَقِبِهِ) من نسل إسحاق، و(عَقِبِهِ) أيضا من نسل إسماعيل وهم العرب، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني إلى هذه الكلمة فدين إبراهيم عليه السلام هو التوحيد والبراءة من الشرك والإخلاص العمل والدين لله جل جلاله، وهو الذي بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم -، كما قال ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:128]، وكما قال جل وعلا ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ?[الأنعام:90] في سورة الأنعام.
المقصود من ذلك أن العرب قامت عليهم الحجة، وبُيِّن لهم الأمر ببعثة إبراهيم عليه السلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بعث مجددا لهم دين أبيهم إبراهيم، ولكن الشريعة مختلفة فإبراهيم عليه السلام جاء بدين الإسلام العام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ([10]) جاء بدين الإسلام الخاص.
(37/62)
قال (ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، لا يصلح منه شيء[لغير الله] لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما) يخبرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أن هذا التقرب وهو التقرب إلى الأرواح، التقرب إلى الصالحين، التقرب إلى الأنبياء، التقرب إلى الملائكة، سؤال أولئك الشفاعة، هذا التقرب والاعتقاد فيها، قال (والاعتقاد) يعني والاعتقاد في تلك الأرواح أنها تنفع أو أنها تضر أو أنها تملك شيئا من الأمر، قال ذلك( محض حق الله)، محض حق الله يرجع إلى المسألتين:
الأولى: التقرب.
والثانية: الاعتقاد.
لأن هناك من يعتقد ولا يتقرب، وهناك من يتقرب ويعتقد، فكل المسألتين محض حق الله جل جلاله، فنفهم من هذا أن من اعتقد الشرك ولم يفعله فإنه مشرك كالذي فعله؛ لأن الاعتقاد لا بد أن يكون -الاعتقاد بأن هذه الروح تنفع أو تضر أو أن أحدا يغيث فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا- هذا يجب أن يكون في الله جل وعلا لا يعتقد في أحد أنه يملك من الأمر شيئا، ولا أنه يملك الشفاعة كما قال جل وعلا ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، الذي يشفع الشفاعة مِلك لله جل وعلا هو الذي يتكرم بها وهو الذي ينيلها من يرضى عنه جل وعلا.
(لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما) هذه رسالة محمد عليه الصلاة والسلام أنّ العبادة لله وحده، وأن التقرب إنما هو لله وحده لا استغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله إلا بالله، لا استغاثة بالأموات لا استغاثة بالأرواح لا استغاثة بالغائبين كذلك لا عبادة بأي نوع من أنواع العبادة إلا لله جل جلاله، فتتعلق القلوب بالله وحده، ويبطل أمر الجاهلية بالتعلق بغير الله جل جلاله.
(37/63)
قال (وإلاّ فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن والأراضين ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره) كما ذكرنا مرارا وتعلمون أنّ المشركين يقرون بالله جل وعلا بالربوبية؛ يعني أكثر أفراد الربوبية يثبتها المشركون لله جل جلاله، فإذا سألت المشرك من العرب من أهل الجاهلية أو من غيرهم من الذي يحيي؟ فسيقول الله، من الذي يميت؟ فسيقول الله، من الذي يدبر الأمر؟ فسيقول الله، من الذي يرسل الغيث؟ فسيقول الله، من الذي يجير ولا يجار عليه؟ فسيقول الله، من الذي يعافي من المرض؟ فسيقول الله، فإذن هذه الأفعال على جهة الحقيقة إنما هي لله جل وعلا، المشركون يعتقدون ذلك، ومع هذا الاعتقاد وكونهم يتصدقون ويدعون ويتقربون إلى بأنواع من القربات ويغتسلون من الجنابة تغتسل المرأة من الحيض ويصلون الأرحام ويتفاخرون بذلك، مع ذلك لم يكونوا مؤمنين ولا مسلمين لم؟ لأن هذا لم يبتلوا به إنما اُبتلوا بأن يكون الله جل جلاله هو المعبود وحده، وهم عبدوا مع الله غيره فمن عبد الله غيره لم تنفعه صلاته ولم ينفعه صيامه، وإن كان زائدا متعبدا ولم ينفعه إقراره لله بالربوبية، وقد قال جل وعلا عن أكرم الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ? يا محمد ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الزمر:65] الله جل وعلا ليس بينه وبين عباده نسب، وليس بينه وبين عباده مجاملة، وليس بينه وبين عباده رعاية، وإنما هو جل جلاله القهار الجبار سبحانه الذي يستحق العبادة وحده، فلو أشرك أكرم الخلق عليه لحبط عمله ولكان من الخاسرين، فكيف بمن هو دونه ؟ كيف بمن هو دون محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ لاشك أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا
(37/64)
يعملون ولبطل ما كانوا يعملون، قال جل وعلا عن المشركين في سورة [الفرقان] ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا?[الفرقان:23]، لهم أعمال ولهم طاعة ولهم أنواع خير، ولكن لما لم يوحدوا الله جل وعلا؛ لم يعبدوا الله وحده دونما سواه، لما توجهوا إلى تلك الأرواح، لما لم يجعلوا الأمر كله لله جل جلاله، فإنهم صاروا مشركين لم ينفعهم ذلك لم يعصم دماءهم ولا أموالهم، وإنما كانوا مشركين مكذّبين للرسل جميعا.
وهذه في الحقيقة مسألة عظيمة وهذا الأمر، والله المستعان بالناس إلى أن كثيرين إذا سمعوا من يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، أو سمعوا من يقول ما شاء الله، أو سمعوا من يقول الحمد لله سموه مؤمنا ولو كان على غير عمل أصلا، بل لو رأوه مجاهدا في سبيل الله كما يقولون، رأوه يقارع المشركين في الميدان، رأوه يقرع الكفار، رأوا عنده من الأعمال والصالحات أمرا عظيما، ونظروا في أمره بهذا الاعتبار عظموه تعظيما وجعلوه من الأئمة ومن المقتدى بهم، وقد يكون في حقيقة الأمر مشركا بالله جل وعلا، إما من جهة الاعتقاد يعتقد في أولئك الصالحين أو لا يكفر بالطاغوت، أو أنه يشرك في الحقيقة؛ يتوجه للموتى بأنواع القربات.
(37/65)
المسألة هذه فيها غربة في هذا الزمن وفي كل زمن، وأصبحت مسألة التوحيد وأصبح هذا الأمر في هذا الزمن محل نظر عند الأكثرين، وصار الشرك إنما هو نفي وجود الخالق جل جلاله، من هو الكافر؟ عند طائفة هو الملحد الذي لا يؤمن بوجود الله/ وجعلت طائفة النصارى من المؤمنين، والصابئين من المؤمنين؛ لأنهم يعبدون الله على طريقتهم، وآخرون قالوا بتوحد الأديان السماوية، وآخرون يردون على من قال بتوحيد الأديان السماوية، ولكنهم إذا نظروا إلى شرك المشرك وتعلقه بالصالحين وما يحصل عند المشاهد والقبور من أنواع عبادة غير الله، أو ما يفعله الضالون من تحكيم القوانين واعتقاد أنها جائزة أن يحكم بها ولم يجعلوا ذلك من المخرج عن دين الإسلام وهذا من الغربة المتحققة في هذا الزمن والله المستعان.
ولهذا يجب على طلاب العلم أن يكونوا متبصرين بهذا الأمر أعظم تبصر، وتبصرك فيه لا يعني الحكم على الأفراد، الحكم على المعيّنين، الحكم ذاك بحث فقهي يرجع فيه إلى أهله يحتاج إلى فتوى لكن اعتقادك بالتوحيد واعتقادك أن الشرك مردود مهما كان من جاء به، وإبطال منزلة المشرك مهما كان فهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول الله جل وعلا عنه ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ?[الزمر:65]، واليوم تجد من يقول بحال بعض ما يضر شركهم، هؤلاء لا تتكلم في هذه الأمور، هؤلاء عندهم من المقامات العظيمة كذا وكذا وكذا، والله جل وعلا يقول عن نبيه ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الزمر:65]، وهؤلاء يقولون إن أولئك الذين لهم أعمال صالحة لما أشركوا لا يضرهم ذلك الشرك ولا عبادة غير الله جل جلاله ولا ما يعتقدون في غير الله جل جلاله، وهذا لا شك يحتاج منك إلى الاهتمام بهذا الأمر اهتماما عظيما.
(37/66)
بعد ذلك ذكر الشيخ رحمه الله أدلة على ذلك؛ يعني على أن الله جل جلاله متوحد في الربوبية عند المشركين؛ يعني اعتقادهم في توحيد الربوبية، قال (فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهدون بهذا فاقرأ قوله جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]، وقوله ? قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ?[المؤمنون:84-89]، وغير ذلك من الآيات) هذه من الأدلة الظاهرة على أن الموحد لله في الربوبية لا ينفعه توحيده إلا إذا وحد الله في الإلهية توحيد الله بأفعاله لا ينفع، إلا لمن وحد الله جل وعلا بأفعال العبد، إذا وحدتَ الله بأفعالك نفعك توحيدك لله جل وعلا بأفعاله؛ يعني الموحد لله في الألوهية ينفعه توحيد الربوبية ويعظم؛ لأنّ توحيد الربوبية له آثار عظيمة وواجب من الواجبات لأنه أحد أنواع التوحيد، لكن من وحّد الله في الربوبية ولم يوحّده في العبادة فلا ينفعه ذلك، وإنْ كان يتكلم في ذلك بعلوم عجيبة وتفاصيل غريبة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وحتى يعتقد أنّ عبادة ما سواه باطلة، وحتى يؤمن بالله ويكفر بالجن والطاغوت بأنواع ذلك.
نقف عند هذا، هذه مقدمة لما يأتي إنْ شاء اللهُ تعالى.
[الأسئلة]
(37/67)
1/ يقول عبادة الهوى من الشرك بالله، فكيف نجمع بين هذه العبارة وقولك أن الشرك راجع إلى أرواح الصالحين وأرواح الكواكب فقط؟
الحقيقة بعض الأسئلة ما تكون دقيقة.
عبادة الهوى من التأليه؛ من تأليه، يعني تؤله، ولكن ليس كل طاعة للهوى شرك أكبر أو شرك أصغر قد تكون طاعة الهوى معصية فقط، فإذا صارت طاعة الهوى في عبادة غير الله مع ظهور الحجة حجة التوحيد صارت هنا شركا أكبر، وذلك برجوعها إلى عبادة غير الله جل جلاله ?أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا?[الفرقان:43]، تأليه الهوى، أنواع المعصية من طاعة الهوى ولكن لا تسمى شركا.
2/ متى يكون إيقاف الدرس لأنه قرب وقت الاختبارات، ويقترح أن يكون هذا الدري آخر درس؟
لا الدرس القادم لأني أظن أن الاختبارات تنتهي يوم (15) يعني بدايتها، الأسبوع القادم يكون عندنا إن شاء الله دروس.
3/ ما هو الإسلام العام الذي ذكرت أن إبراهيم أتى به، وما الإسلام الخاص الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم -؟
الدين عند الله جل جلاله الإسلام كما قال سبحانه ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، والله جل وعلا لا يرضى إلا الإسلام ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]، فآدم عليه السلام كان مسلما وجميع أرسل كانوا مسلمين وجاءوا بالإسلام العام، والإسلام العام معناه التوحيد والاستسلام لله جل وعلا بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. وهذا هو الذي تشترك فيه جميع الرسل، والإسلام الخاص المقصود به ما شمل الاستسلام ذلك، ما شمل الإسلام الذي هم للتوحيد والعقيدة والشريعة أيضا التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(37/68)
وهذا الكلام الإسلام العام والخاص تجده في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة، وفي أوائل الفتاوى تجد ذلك ماثلا، يعني الإسلام الخاص هو العقيدة والشريعة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، والإسلام العام هو الذي لا يرضى الله جل وعلا من أي أحد من الخلق حتى قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون مسلما ذلك الإسلام العام ?وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا?[آل عمران:83].
3/ من تقرّب إلى الله بدون اعتقاد، فما حكمه في الإسلام؟
هو مجنون كيف يتقرب بدون ما يعتقد يعني يتحرك حركات وهو لا يعتقدها، ما الذي حركه؟ ما يمكن حركة تصدر من عاقل إلى بحركة قلب، إرادة القلب هي المحركة محبة القلب للشيء وإرادته هي المحركة، معلوم أنه لا يحصل أي عمل من الأعمال إلا بشيئين:
¨ بإرادة متميزة خاصة بهذا العمل.
¨ وقدرة تامة.
إذا صار عنك لأي عمل تريده إرادة واضحة متميزة وعندك قدرة حصل العمل، وأما إذا تخلفت الإرادة وثَم قدرة لم يحصل العمل، حصل عندك قدرة وليس ثَم إرادة ما حصل العمل أصلا، فإذا حصل عمل ما من المكلف علم أنه أراده وكلن قادرا عليه فأحدثه.
إذا عمل عملا وصار غير مؤاخذ به:
¨ إما أن يكون من جهة أن إرادته لم تكن متمحضة؛ يعني إما أن يكون مجنون أو ساهي أو غافل أو نائم إلى آخره من عوارض الأهلية التي تكون، يعني لا يرفع معها الحكم التكليفي.
¨ وإما أن يكون من جهة عدم إرادته للفعل، وأما القدرة فكانت من جهة الإكراه، والمكره أيضا معروف عنه الحكم التكليفي في أكثر المسائل.
5/ الذين يحضّرون الأرواح هل هم كفار؟ وهل يختلفون عن السحرة؟
(37/69)
تحضير الأرواح هذا باب واسع، يُزعم أنه يحضرون الأرواح في الشرق والغرب، وتحضير الأرواح يأتي واحد مثلا ويقول لك أريد أن أرى أبي وأسمعه وأسأله، فيُحضر له روح أبيه فينظر تارة إلى شكل أبيه شكل روح لا شكل جسم، وتارة يسمع صوت أبيه دون رؤية، يسمع صوت أبيه المعروف، وهذا يكون من جهة الشياطين، هو تحضير للأرواح، لكن لأرواح الشياطين التي تعلم ذلك من قديم.
6/ هل الذي يخاف من الجن ومن أذيتهم يعتبر مشركا؟
هذا فيه تفصيل، الخوف الطبيعي لا حرج للمرء فيه، لكن إذا خافهم خوف السر أنْ يصيبوه بشيء سرا بقدرتهم عليه وبقدرتهم على ذلك؛ أن يميتوه بدون أسباب بشيء سري كما يقدره عليه الله جل وعلا هذا هو الشرك، أما الخوف الطبيعي من أن يضروه فهو ليس بشرك؛ الخوف الطبيعي، لكن الخوف الطبيعي يكون له أسبابه الظاهرة، لكن هو يخاف هكذا من دون شيء، إنما خوف من أراح الجن بدون أسباب ظاهرة تدل على ذلك، هذا لا شك أنه قد يكون شركا أصغر، وقد يكون شركا أكبر بحسب الحال، والشرك الأكبر في الخوف هو خوف السر؛ يعني أن يخاف أن يصيبه ذاك سرا بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا.
7/ هل قصة صنفي إساف ونائلة صحيحة أم لا؟
مذكورة في السير في كتب السير معروفة.
7/ هذه مقولة لشيخ الإسلام نريد توجيهها؟
لا بد أن يأتي بالكتاب الذي قرأ فيه هذه المقولة.
8/ هناك من الصالحين من يكون في دياره في يوم عرفة ويُرى في عرفة في نفس الوقت، وإذا سئل عن ذلك يقول نعم ذهبت إلى مكة فكيف يكون أحدهم جِنِّي علما بأنه يثبت الذهاب إلى مكة؟
(37/70)
هو إذا أثبت هل يُصدَّق، يحكى أن ثلاثة من هؤلاء الذين يزعمون أنهم يذهبون في وقت قصير مع خادم لهم غلام، فأحضر لهم طعاما فأكلوه كلَّه ولم يبقوا له شيئا، وبقيت الفاكهة، فقالوا بعدما شبعوا نترك الفاكهة إلى الصباح، وهذا الغلام ما دَعَوه ليأكل ولا أبقوا له شيئا، فلما كان بالليل جاء ذاك تناول الفاكهة كلها لأنه جائع، فلما أتى الصباح أتى الغلام لهؤلاء المشايخ من جنس هذا الذي يقول أنا ذهبت إلى مكة وهو في دياره، اجتمعوا فصار كل واحد يُظهر فضيلته.
قال أحدهم أنا اليوم -هم كانوا أظن في الشام بحسب القصة موجودة في بعض الكتب- قال أحدهم: أنا صليت الفجر اليوم وصليت الفجر الليلة في مكة في مقابلة الكعبة.
وقال آخر: أنا صليت اليوم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والآخر أراد أن يفضلهم فأبعد قال: أما أنا فصليت الفجر اليوم في مسجد كذا في المغرب.
وهذا الغلام ينظر إليهم وهم يريدون أن يقنعوه بذاك أو بعضهم يقنع بعضا، فلما انتهوا من هذا، قالوا: يا غلام هات الفاكهة. فقال: الفاكهة سرقت البارحة. فقالوا: لِمَ لم تطلبنا؟ فقال: أحدكم في مكة، والثاني في المدينة، والثالث في كذا، ناديت، ناديت فما جاءني أحد.
المقصود أن هؤلاء يُختبرون فإذا اختبروا بان صدقهم اختبارهم بالدنيا، تختبرهم بالدنيا، أما وجود جسم في مكانين في وقت واحد فهذا محال.
9/ لماذا كانت عقوبة قوم نوح بسبب فعل الفاحشة؟
لا قوم نوح عوقبوا بسبب الشرك بالله، أظنه يقصد قوم لوط لكن المكتوب قوم نوح.
10/ هل إذا طلب إنسان الدعاء من إنسان آخر وذلك بنية أن الذي طلب منه الدعاء دعوته مجابة بخلاف الأول، هل ذلك من الشرك؟
(37/71)
طلب الدعاء من المخلوق جائز في أصله إذا كان ذلك المخلوق حيا يقدر على الدعاء، وجاء في السُّنن في حديث يحتج به أهل العلم وإنْ كان في إسناده ضعيف أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر «لا تنسنا يا أخي من دعائك»، وثبت أيضا في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن أويس القرني «من استطاع منكم أن يدعو له فليفعل»، وهذا يدل على أنّ جنس الطلب طلب الدعاء من الحي جائز، والنبي عليه الصلاة والسلام طلب منه الصحابة الدعاء فدعا لهم.
لكن هناك قول لشيخ الإسلام بن تيمية وهو أن طلب الدعاء؛ طلب الحي الدعاء من الحي تركه أولى، إلا في حال أن يكون من طلب من الآخر يأمل نفعه ونفع الداعي معه، يقول إذا كان الطالب يأمل نفع الداعي ونفع المدعو له جميعا جاز، لكن إذا كان يطلب نفعه وحده في اعتقاد في ذاك المسؤول، فإنّ هذا تركه أولى.
وقول السائل هنا من دعوتهم مجابة هذه الكلمة دعوة فلان مجابة، أو فلان من مجابي الدعوة، المقصود منها الغالب ليس المقصود منها أنه لا يدعو بدعوة إلا أن يجاب، المقصود منها أكثر أموره؛ يعني إذا دعا أجيب في أكثر ما يدعو به، وإلاّ كما ذكرت لك فإن الأنبياء وهم من مجابي الدعوة؛ بل هم أفضل من مجابي الدعوة من أقوامهم رُدت بعض دعواتهم كما ذكرت، فإجابة الدعاء منوطة بأسباب شرعية وقدرية ولله جل وعلا الحكمة البالغة.
قد روى ابن جرير رحمه الله في تهذيب الآثار وفي غيره أيضا أنّ حذيفة لما سئل من قبل بعضهم أن يدعو حذيفة لذاك فدعا له، ثم سئل مرة فنفض يديه وقال أنبياء نحن؟ إنكار بتكرر السؤال من هو دون الأنبياء، طلب الدعاء ممن هو دون الأنبياء هذا ظاهر.
فالاعتقاد في فلان أنه مجاب الدعوة يسأل، أدعو لنا يا فلان، هذا قد يكون من أسباب الاعتقاد فيه بعد مماته فإذا سئل مرة مرتين ونحو ذلك، أما أن يجعل فلان يقال له دائما أدعو لنا يا فلان هذا غير طريقة السلف.
(37/72)
11/ أليس الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية، فلماذا لم يؤمن المشركون بتوحيد الألوهية؟
نعم، توحيد الربوبية يلزم منه أن يوحد المرء في الإلهية، هذا لازم قطعي، لكن أولئك ما التزموه، ولذلك في القرآن جعل جل وعلا من البراهين الدالة على توحيد الألوهية إقرار المشركين بتوحيد الربوبية:
كما جاء في الآية -آية يونس التي ذكرنا- قال جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ?إلى قوله ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ? يعني مرتِّبا على قولهم على تلك الإجابة ?فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]، يعني الشرك.
وقال جل وعلا في سورة الزمر ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الزمر:38].
وفي سورة النمل قال جل وعلا ?بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60) أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ?[النمل:60-61] إلى أن قال ?أَإِلََهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?[النمل:64].
فدليل وجوب توحيد الله جل وعلا في العبادة أنه جل وعلا هو الواحد في الربوبية وأنه لا رب معه ولا رب سواه سبحانه وتعالى، فمن أيقن بذلك على الحقيقة فإنه يقوده إلى توحيد العبادة، لكن ما قاد أكثر العرب وإنما قاد ذاك من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والأكثرون أعرضوا عن تلك الحجة.
توحيد الإلهية متضمن بتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية لمن نظر فيه وعقل مستلزم لتوحيد الإلهية، تنظر إلى السموات من خلقها، تنظر إلى الأرض من خلقها، إلى نفسك من خلقك، إلى من حولك كذا، فليس ثم جواب إلا الله جل وعلا، دليل حتمي ضروري، لا يستطيع عاقل أن يخرج منه فهو متجرد من الهوى لا يستطيع أن يخرج منه دليل حتمي على أن الله جل وعلا هو الرب سبحانه وتعالى.
(37/73)
إذا كان كذلك، وأن الخلق لم يخلقوا شيئا وإنما هو جل وعلا الخالق وحده وهو الذي يملك الأمر وحده فيجب أن تتعلق القلوب به جل وعلا وحده دونما سواه، وأنْ يكون الحكم إليه جل وعلا دون ما سواه في العقيدة وفي الشريعة.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
[المتن]
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهدون بهذا فاقرأ قوله جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ?[يونس:31]، وقوله ?قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ?[المؤمنون:84-89]، وغير ذلك من الآيات.
فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة هو الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد) كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلا ونهارا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
(37/74)
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، وأن يقينا فتنة الدنيا وفتنة الممات، اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك.
هذا الكلام صلة لما سبق، وقول الإمام رحمه الله تعالى في أوائل هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات، قوله (فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا) إشارة إلى إقرارهم بما جاء في الآيات السابقة وهو الإقرار بتوحيد الربوبية، وقد ذكرتُ لك أنّ إقرار المشركين بالربوبية يختلفون فيه:
¨ فمنهم من يقر بأفراد منه كثيرة.
¨ ومنهم من يقر بأكثره.
¨ ومنهم من يقر بأنواع الربوبية لله جل وعلا، وأنه واحد في ذلك.
(37/75)
فإقرار المشركين بتوحيد الربوبية مختلف ليسوا جميعا فيه على مرتبة واحدة، لكن يجمعهم أن جميع من أرسل إليهم الله جل وعلا إليهم الرسل، لم يكونوا منكرين لوجود الصانعذ، لم يكونوا منكرين لوجود الرب الخالق الرزاق الذي يدبر هذا الملكوت ويجري الأفلاك ويجري ما به صلاح العباد، لم يكن أحد ينكر هذا، إلا طائفة كما قال الشهرستاني في بعض كتبه قال: إلا طائفة لا يصح أن تنسب إليهم مقالة. لأنهم كانوا أفرادا متفرقين، كلّ من بعثت غليهم الرسل كانوا يقرون بأن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الخلق، وهو الذي خلق الأفلاك والسماء، وهو الذي خلق الأرض، وهو الذي أجرى المياه، وهو الذي خلق الإنسان والحيوان، وهو الذي قسم الأرزاق، وهو الذي من توكل عليه لم يَخِبْ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي إذا فتح رحمة فلا ممسك لها، وهو الذي جل وعلا بيده ملكوت كل شيء يدبر الأمر، يحيي ويميت، ويمرض ويصح، ويفقر ويُغني، كما شاء جل وعلا، هذا الإقرار لا يُدخل المرء في دين الله لا يدخل المرء في التوحيد، ولهذا عظمت الشبهة بهذه المسألة في كل زمان، وتحقيق هذه الشبهة التي أراد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أراد كشفها هي شبهة من يقول: كيف يُحكم بالشرك على من يقر بوجود الله وأنه هو الذي يتصرف في الملكوت، ويقول ما شاء الله، ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله وربما دعا وصلى وتصدق إلى غير ذلك مما ذكرنا سابقا من أنواع العبادات؟ فما الذي جعل أولئك كفارا؟ ما الذي جعلهم مشركين؟ ما الذي جعلهم يشركون؟ ما الذي جعلهم ليسوا بأتباعا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؟ لا بد من تحقيق ذلك، إذا تحققت أنهم مقرون بأفراد الربوبية وأنهم يعظمون الله جل وعلا في بعض ما يستحق سبحانه وتعالى تقرَّر ذلك في قلبه وعرفته معرفة يقين، فلا بد أن تعلم أن ذلك الإقرار لم يدخلهم في توحيد الله جل وعلا، ولهذا قال هنا (فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا -يعني بما سبق إيضاحه وأنه
(37/76)
يعني ذلك الإقرار- لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لا بد أن تبحث وأن تعلم ما الذي جحدوه؟ ما الذي به صاروا مشركين؟ وإذا تأملت حالهم وجدت أنهم صاروا مشركين بعبادة غير الله جل وعلا.
فإذن صارت الأفعال قسمين:
¨ القسم الأول: أفعال الرب جل وعلا.
¨ والقسم الثاني: أفعال العباد.
أفعال الرب: توحيده بها لا يكفي؛ لأنّ المشركين كانوا موحّدين لله جل وعلا بأفعاله؛ يعني كل فعل لله يعلمون أنه ليس له شريك فيه على الكمال والحقيقة.
والقسم الثاني من الأفعال أفعال العباد: هي التي من جهتها صاروا مشركين فالواجب في التوحيد الذي دعت إليه الرسل أن يوحَّد الله جل جلاله بالنوعين من الأفعال أفعاله سبحانه وأفعال العباد أيضا، وإنما صار ابتلاء الناس بالرسل من جهة توحيد العباد ربهم جل وعلا بأفعالهم وليس بأفعاله سبحانه وتعالى.
(37/77)
لابد أن نعلم ما التوحيد الذي جحدوه علمنا التوحيد الذي أقروا به وهو توحيد الربوبية، لكن ما التوحيد الذي جحدوه؟ قال الإمام رحمه الله هنا (وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة) توحيد العبادة هو الذي جحده المشركون لم؟ لأنه قال لهم عليه الصلاة والسلام قولوا لا إله إلا الله فقالوا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5]، ومن المتقرر المعروف أن معنى الإله في لغة العرب المعبود؛ لأن كلمة إله مشتقة من أله يأله إلهة وألوهة، وهذا بمعنى العبادة، فالإله هو المعبود، وقول لا إله إلا الله يعني لا معبود حق إلا الله، ويدل على تفسير العبادة بذلك قول الله جل وعلا ?كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، هذه وصية الله جل وعلا لجميع المرسلين ولجميع الناس، (لا تعبدوا إلا الله) مساوية لـ(لا إله إلا الله)، فصار بالمطابقة الإله هو المعبود، والإلهة هي العبادة، لا إله إلا الله يعني لا معبود إلا الله، يعني لا تعبدوا إلا الله المشركون يفهمون اللغة ويفهمون معاني الكلام في زمن النبوة، فلما قال لهم قولوا لا إله إلا الله؛ دعاهم إلى لا إله إلا الله علموا أن المعنى أن يدعوا جميع الآلهة وأن لا يتوجهوا بنوع من أفعالهم إلى شيء من تلك الآلهة، فقال الله جل وعلا عنهم في سورة الصافات ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ?[الصافات:35-36]، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال جل وعلا عنهم أيضا في سورة ص ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5].
(37/78)
أما الأرباب بمعنى الربوبية الخلق والرزق والإحياء والإماتة فهم لم يجعلوا لهم أربابا مختلفين، لكن الرب بمعنى المربوب بالتلازم هذا يكون بالمعنى الأول يعني المعبود كما ذكرنا في نحو قوله ?ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ?[يوسف:39]، وفي نحو قوله?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا?[التوبة:31].
إذن المشركون صاروا مشركين بعبادتهم غير الله جل وعلا، وذكرنا لك فيما مضى أن تلك العبادة لغير الله كانت من جهة الاعتقاد في الأرواح الطيبة؛ الأرواح الخيّرة، اعتقدوا في الملائكة لأن الملائكة أرواح خيّرة، اعتقدوا في الأنبياء لأن الأنبياء أرواح طاهرة، اعتقدوا في الصالحين لهم أرواح طيبة، فمن جهة خيرية الأرواح وزكاء الأرواح وطهرتها وقربها من الله جل وعلا اعتقدوا في تلك الآلهة، فصار سبب شرك المشركين؛ صار سبب شرك المشركين الاعتقاد في الأرواح، –خلُّوكم معي- صار شرك المشركين الاعتقاد في الأرواح، هذه الحقيقة هي حقيقة الشرك بالله جل وعلا في جميع رسالات الرسل جاءت لدحض هذه المسألة؛ وهي بيان أنّ من جعل للأرواح تأثيرا، من جعل أن للأرواح خواص ليست بشرية([11]) وإنما خواص من جهة خواص الآلهة فهذا هو الشرك بعينه فنوح عليه السلام [أُرسل] إلى قوم يعتقدون في أرواح الصالحين وقالوا ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا?[نوح:23] قال ابن عباس: أسماء رجال صالحين. الملائكة اعتقدوا فيها لطهرة أرواحها، اعتقد المشركون في الصالحين وفي بعض الرسل والأنبياء لأجل طهرة أرواحها.
(37/79)
إذا تقرر هذا وصار عندك حقيقة واضحة؛ لأنّ أعظم مسألة أنْ تعلم لما صار المشركون مشركين في دعوة كل نبي وكل رسول، علمت حقيقة الشرك ما هو، فإذا علمت حقيقة الشرك، فأي شيء سمي به ذلك الشرك فلا يغير الحقيقة؛ لأن الأشياء تعرف بحقائقها وبمعانيها لا بألفاظها، المشركون في الزمن المتأخر في القرون الماضية غيّروا الأسماء فسموا الشرك في العبادة الاعتقاد، كما ذكر الشيخ هنا قال ( الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) يعني توحيد العبادة (يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) يعتقد في الولي، هذه كلمة تسمعها إلى الآن بكثير من الأمصار يقول هذا له روح فيها سر، والروح يسمونها السر أيضا، فيعدلون مثلا عن قدس الله روحه إلى قدس الله سره، ما الفرق بين الروح والسر؟ السر عندهم هو الروح التي يُعتقد فيها فتغيث، فصار لها سر من الأسرار.
تسمية الشرك بالاعتقاد، تسمية الشرك بالتوسل، تسمية الاستغاثة بالتوسل، وتغيير حقائق الأسماء وحقائق الألفاظ، هذا لا يعني تغير حقائق الأشياء وحقائق المعاني؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فالخمر لو سميت بغير اسمها لو سميت شرابا روحيا بقيت خمرا محرمة، ولو سميت بأحسن الأسماء وبأقرب الأسماء للنفوس، لو سمي الربا بتسمية جائزة يعني بتسمية لائقة سمي فائدة أو سمي مكسبا أو سمي مضاربة وحقيقته هي حقيقة الربا يبقى الربا، فالعبرة في الشرع بالمعنى وليست العبرة بالألفاظ، قد جاء في الحديث أن قوما يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها.
(37/80)
الألفاظ لا تغير الحقائق فلما كان المشركون في زمن الإمام المصلح الشيخ محمد رحمه الله غيروا الأسماء إلتبس هذا على كثير من أهل العلم كيف يكون هذا هو الشرك الذي به صار أهل الجاهلية مشركين، لأجل تغير الأسماء، إذا قلت إنهم يستغيثون بغير الله قالوا هذا توسل والتوسل بالصالحين جائز، كما هو مذكور في كتب الفقه، ذاك التوسل شيء وهذه الاستغاثة التي أسميتوها توسلا اشتباها هذه حقيقتها شيء آخر، إذا قلت إن الذبح لغير الله شرك الأكبر من جنس تقرب المشركين لأولئك بالقرابين لتلك الأصنام والأوثان بالقرابين قالوا ليس هذا ذبحا للميت وإنما هو تقرب لله لكن باسم الميت حتى يشفع الميت عند الله وإلا فإن المقصود هو الله جل جلاله، فغيروا الأسماء وبقيت حقيقة الاعتقاد.
ولهذا الشيخ سماه هنا (الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) والاعتقاد هو تعلّق القلب بمن تقرب إليه ذلك المتقرب، فإذا تعلق قلب المسلم بالميت –تعلق به من جهة كشف ضرٍّ أو من جهة جلب نفع أو بالتوجه إليه بأي نوع من أنواع العبادة- صار ذلك شركا منه مخرجا له من الملة ولو كان مصليا صائما.
فإذن حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك لا بد أن تتضح كمقدمة لكشف الشبهات، بما صار المشركون مشركين؟ من جهة الاعتقاد في الأرواح، بما صار الموحدون وأتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام صاروا موحدين ومسلمين؟ من جهة تعلقهم واعتقادهم بالله وحده دونما سواه ونبذ التعلق بالمخلوقين وبالأموات والأوثان والأصنام الذي حقيقته التعلق بالأرواح.
(37/81)
ذكرتُ لك أن المشرك ليس عادما العقل حيث إنه يتعلق بحجر لا معنى له، أو يتعلق بشجر لا معنى له، أو يتعلق بخشب لا معنى له، وإنما يتعلق بهذه الأشياء لما لها من الخاصية، من جهة حلول الأرواح فيها إما أرواح الصالحين أو أرواح الكواكب أو أرواح الملائكة باعتقادات مختلفة، صاروا مشركين لأجل اعتقادهم، سواءً أكان ذلك الاعتقاد في نفسه موافقا لحقيقة الأمر أم لم يكن موافقا.
مثال ذلك ما يحصل الآن عند قبر الحسين في مصر، من المعلوم عند المؤرخين أن رأس الحسين لم يحمل إلى مصر، وإنما حمل رأسه إلى الشام، ومصر لم يصلها رأس الحسين فجعل هناك قبر ومدفن فمن تعلق بذلك القبر تعلق بالحسين، وإن كان المدفون ليس بالحسين أصلا، فصار مشركا ولو لم يوافق اعتقاده الحقيقة؛ لأنه تعلق قلبه بغير الله جل وعلا في هذه البقعة.
فإذن مدار الشرك والاعتقاد في المخلوق أن له بعض خصائص الإله؛ له أن يشفع عند الله جل وعلا بدون إذنه ورضاه، يجعلون له خاصية أنّ الله جل وعلا لا يردّ له طلبا، ويجعلون له خاصية أنه يسمع ما يُتكلم به وأنه يغيث من استغاث به وأن أكثر الناس تقربا إليه هو يكون أقرب الناس من غيره، فيشفع له ويعطيه طلبته وحاجته.
إذن من المهمات في هذا الباب قبل الدخول في الكتاب ما قدم به الشيخ هذه الرسالة هذه المقدمات المهمة أن تعلم أولا حقيقة شرك المشركين، تعلم حقيقة عبادة أولئك، وأنهم كانوا يتعبدون، لم يكونوا خالين من التعبد كما ذكر بأول الكتاب؛ أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويحجون و[يتفاخرون] بالمعروف، ولكن صاروا لم يكونوا موحدين وصاروا مشركين من جهة أنهم اعتقدوا بغير الله جل جلاله وأنهم تقربوا إلى تلك الآلهة بأنواع القرابين والعبادات، واعتقادهم في الآلهة كان من جهة الاعتقاد في الأرواح، الاعتقاد في أسماء تلك الآلهة وتمثيل تلك الأسماء بأرواح طاهرة لها عند الله جل وعلا المقام الأعظم.
(37/82)
فإذا كان كذلك فمن أشرك بالله جل وعلا بأي نوع من أواع الشرك الأكبر فإنه حابطٌ عمله ولو كان مصليا صائما؛ لأنه كما قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ?[الزمر:65] وهو النبي عليه الصلاة والسلام فكيف بمن دونه.
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (عرفت أن التوحيد الذي جحدوه) يعني جحده المشركون (هو توحيد العبادة) يعني أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يتوجه إلا إلى الله، أن لا يدعا إلا الله وأن لا يستغاث إلا بالله جل وعلا بما لا يقدر عليه إلا الله وسائر أنواع العبادة، قال (هو الذي يسمه المشركون في زماننا الاعتقاد كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلا ونهارا) فهل المشركون لم يكونوا يدعون الله؟ كانوا يدعون الله وكانوا يتقربون لله، ومع ذلك هم مشركون، لم؟ لأنه أشركوا؛ دعوا الله ودعوا معه غيره، ذبحوا لله وذبحوا مع ذلك لغيره، نذروا لله ونذروا مع ذلك لغيره، استغاثوا بالله ومع ذلك استغاثوا بالأرواح الملائكة بالجن بالصالحين الأنبياء إلى غير ذلك، فصارت هنالك شركة؛ جعلوا لله عبادات وجعلوا أيضا تلك الأرواح شيئا من أنواع العبادة.
(37/83)
قال رحمه الله بعد ذلك (ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الملائكة ليشفعوا له) من المشركين من يدعو الملائكة كما قال جل وعلا في سورة سبأ ?وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40]، لأنهم عبدوهم، فهل كانوا يعبدون الملائكة في الحقيقة؟ أجابت الملائكة بما أخبر الله جل وعلا به في قوله قالوا يعني الملائكة ?قَالُوا سُبْحَانَكَ?[سبإ:41] يعني تنزيها لك عن أن يكون معك معبود بحق، تنزيها لك أن نستحق العبادة تنزيها لك عن ذلك الظلم الذي وقع من الناس بإشراكهم من الملائكة مع الله في الدعاء وفي العبادة، ?قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، فحقيقة أولئك في اعتقادهم أنهم سألوا الملائكة، في اعتقادهم أنهم توسلوا بالملائكة، في اعتقادهم أنهم استغاثوا بالملائكة، لكن حقيقة الأمر أنهم استغاثوا بالجن؛ أنهم عبدوا الجن؛ لأن الجن تأتي وتتكلم عند ذلك الوثن، تتكلم عند القبر، تتكلم عند الصنم، فيظنون أن الذي كلّمهم الملك، يظنون أن الذي خاطبهم وخاطبوه وأجابهم وسألوه إنما هم الملائكة، وفي الحقيقة إنما هم شياطين الجن؛ لأن الجن مهمتهم أن يغووا الإنس لأنّ إبليس قال لربنا جل وعلا ?لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا?[الإسراء:62]، وقال جل وعلا عنه في آية أخرى ?إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ?([12]) فدلّ على أن الذين استثنى الله جل وعلا من أن يقعوا في حبائل إبليس إنما هم عباد الله المخلَصون، وهم الذين أخلصوا لله جل وعلا دينهم فخلصوا لله سبحانه وتعالى وأخلصهم الله جل وعلا من الشركة في العبادة والتوجه.
(37/84)
قال (منهم من يدعوا الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله) هذه مقدمات مهمة يعني لم عبدوا الملائكة؟ هل رأى الناس الملائكة؟ ما رأوا الملائكة، هل اعتقدوا في الملائكة اعتقاد وهم لا يعرفون الملائكة؟ لا، وإنما اعتقدوا في الملائكة لأنهم يعلمون أنّ الملائكة:
¨ أولا: الأرواح طاهرة صالحة لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم لم يعصوا الله جل وعلا ما أمرهم ولم يرتكبوا خطيئة.
¨ والثاني: أنهم مقربون عند الله جل وعلا.
فإذن شرك المشركين بالملائكة كان من جهة شبهتين:
الشبهة الأولى: أنهم أرواح طاهرة صالحة لم تعصِ، ولذلك كانت أرفع من البشر، أرفع من المخطئين من العصاة، فإذا أراد العاصي أن يتقرب إلى الله ضعفت نفسه فذهب يتقرب بأرواح طاهرة إلى الله، بظنه أنه لأجل معصيته لا يستطيع أن يصل إلى الله جل جلاله، هذا واحد.
الثاني: لأجل قرب الملائكة من الله جل وعلا.
فتعلق المشركون بالملائكة لأجل هاتين العلتين؛ صلاح الملائكة وطهرة أرواحهم ثم لأجل قربهم من الله جل وعلا إذا تأملت وجدت أن هذه الحقيقة هي الموجودة في المشركين في كل زمان ومع تغير الأحوال وتغير المتعلقات إذا سألت النصارى لم دعوا مريم؟ لم يستغيثون بمريم عليها السلام؟ لم يستغيثون بالرسل رسل المسيح؟ لم يتغيثون ببطارقتهم الأموات والأحياء؟ لم يصورون التصاوير ويجعلونها في كنائسهم؛ تصاوير الرجال الصالحين أو مريم وعيسى؟ لم يعبد اليهود بعض البشر ويتعلقون بأرواحهم؟ لم عبد قوم نوح تلك الأرواح؟ لم عبد قوم إبراهيم تلك الأصنام والأوثان؟ وهكذا إلى زمن المشركين في الجاهلية؛ جاهلية العرب إلى زمننا هذا، وجدت أن الشبهة هي الشبهة الشبهة هي الشبهة في الملائكة:
أولا أرواح طاهرة.
ثانيا قربها من الله جل وعلا.
(37/85)
فمن أراد أنْ يجعل لله جل وعلا شريكا في العبادة يُتوجه إليه بأي نوع من أنواع العبادة، فنقول له الملائكة أحق، الملائكة أحق بأن تكون آلهة؛ لأن الملائكة أرواح طاهرة بالاتفاق وهي مقربة عند الله جل وعلا بالاتفاق، ?الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [وَيُؤْمِنُونَ بِهِ]([13]) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ?[غافر:7] الله جل وعلا يخبرنا عن الملائكة بأنهم صالحون لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم مقربون عنده، وأنهم يستغفرون للذين آمنوا، فسؤال الملائكة أولى من سؤال غيرهم؛ لأن طهرة أرواحهم متفق عليها ولأن صلاحهم متفق عليه ولأن قربهم من الله جل وعلا متفق عليه ولأنهم يستغفرون عند الله للذين آمنوا باتفاق، وهذا معناه إذا كان ذلك الشيئان صحيحين فمعنى ذلك أن الشرك بالملائكة جائز، إذا كان التعلق بأرواح الصالحين واعتقاد أنه لقربهم من الله يكون لهم بعض العبادة فمعنى ذلك أن سؤال الملائكة والشرك بالملائكة جائز، والله جل وعلا أخبرنا في القرآن بأنه يقول للملائكة يوم القيامة ?أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40]، فتقول الملائكة ?قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، فمن أجاز الاستغاثة بالأولياء أو بالصالحين فقل له الملائكة أليست الملائكة أرواح طاهرة صالحة وأليست الملائكة مقربة عند الله جل وعلا، فإذا قال: بلى هي كذلك. فقل فلم لا تقول بجواز الاستغاثة بالملائكة؟ لم لا تقول بأن الملائكة لها الأحقية بأن يطلب منها؛ لأن السبب الذي من أجله توجه للموتى للصالحين والرسل والأنبياء متحقق في الملائكة. والعرب ومن قبلهم من أجل قوة
(37/86)
أذهانهم في مسائل العبادة وحرصهم عليها جعلوا المسألة واحدة بدون تفريق؛ عبدوا الملائكة وعبدوا الصالحين وعبدوا الأنبياء؛ لأن القدر المشترك بين هؤلاء موجود وهو أنهم صالحون وأرواح طاهرة ومقربون عند الله جل جلاله، لكن المشركون من هذه الأمة لم يعبدوا الملائكة وإنما عبدوا من زعموهم صالحين أو من هم صالحون في نفس الأمر.
وبهذا نعلم أنّ حقيقة شرك المشركين في كل زمان إنما هو راجع إلى هاتين الشبهتين:
¨ شبهة صلاح المستغاث به صلاح المعبود.
¨ والشبهة الثانية قربه من الله جل جلاله.
قال هنا (لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له) هذه الغاية، ذاك سبب لم تؤله الملائكة؟ للسببين اللذين ذكرنا، ما الغاية من سؤال الملائكة؟ ما الغاية من عبادة الملائكة؟ غايتها أن يشفع الملك عند الله للسائل، نفهم من ذلك أن سؤال أولئك للملائكة لم يكن عن اعتقاد بأنّ الملك يعطيه مباشرة وأنه يستقل في الإعطاء ويستقل بالإمضاء وإنما هو اعتقاد في الملك بأنه لأجل صلاحه وقربه يملك أن يشفع عند الله، ولأجل قربه وجاهه لا يرد الله جل وعلا طلبه.
(37/87)
إذا تقرر ذلك، فبه تعلم أنَّ: ليس من شرط الشرك أن يكون السائل لتلك الأرواح وللأموات وللملائكة أنْ يعتقد أنها تنفع السائل استقلالا، كما زعم أكثر مشركي هذا العصر أنهم -يعني عباد القبور وعباد الأوثان- لا يسألون الموتى باعتقاد أنهم ينفعون استقلالا وإنما يقولون: نسألكم لما لهم من المقام عند الله حتى يشفعوا لنا. إذا كان هذا الأمر واقعا من أهل العصر ومن عصر الشيخ ومن قرون، فالملائكة أشركت العرب بها وأشرك المشركون بالملائكة لأجل الشفاعة فقط، ومع ذلك قال الله جل وعلا ?أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40]، فالغاية وإن كانت ربما تكون يُعذر بها المرء لكن الوسيلة كانت بالشرك، فالطمع في رضا الله جل وعلا هذه غاية طيبة، وكل العباد يطمعون في رضا الله جل وعلا، لكن لا بد أن يكون طلب رضا الله جل وعلا بوسيلة مشروعة، وعبادة الملائكة وعبادة الصالحين لا يحصل بها رضا الله جل وعلا ولو كان الذي عبد قال ما عبدتهم إلا لأجل أن يعفو الله عني، وإلا فالله جل وعلا هو الذي يعفو هؤلاء وسائط، يقول هذا هو الذي من أجله حُكِم على أهل الإشراك بالشرك، كما قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا? في أول سورة الزمر ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، فإذن غاية أن يقرب المسؤولُ السائلَ إلى الله زلفى، ليست غاية المشرك في الزمن الأول أنْ يعبد المسؤول لقصد أن يعبده، هذا غير موجود؛ يعبد الصنم لغاية أن يعبد الصنم لذاته أو يعبد الملك لغاية أن يعبد الملك في ذاته؟ لا، وإنما يتقرب بالقرابين حتى يعطف عليه الملك ويرفع حاجته إلى الله، يتقرب بالقرابين للميت حتى يعطف عليه الميت بروحه، وكلما تقرب أكثر ازدلف منه وقرب منه فيرفع حاجته إلى الله جل وعلا.
(37/88)
فإذن غاية المشركين في عبادتهم غير الله جل وعلا أن يصِلُوا إلى الله جل جلاله، وهذه هي الغاية الموجودة في أهل هذا الزمان يقولون: ما نعبد هذه ما نتوجه هذه التوجهات بأننا نعتقد في هذه الأموات أوفي الأرواح أنها تملك الأشياء استقلالا حاشا وكلا، وإنما لأجل أن تتوسط عند الله جل وعلا فهي أرواح طاهرة وهم مقربون عند الله. يقول هذا هو عين شرك الأولين، هو عين الإشراك الذي وقع في كل أمة بعث إليه رسول ينهاهم عن الشرك ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.
مهمٌّ أن تفهم الحقائق لأن تغير الصور وتلبيس الأمور وتسمية الأشياء بغير اسمها هذا لا يغير الحقائق في الشرع وما جاء التلبيس إلا من جهة الألفاظ أنْ تسمى الأشياء بغير اسمها.
قال بعد ذلك في صورة ثانية مثل آخر، قال (أو يدعو رجلا صالحا مثل اللاتّ) قال جل وعلا ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20]. وفي قراءة ? أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى? واللاتَّ رجل –كما قال ابن عباس- كان يلتُّ السويقَ، رجل صالح كان يلت السويق ويُطعمه الحاج وكان يجلس ويفرق ذلك عند صخرة، فلما مات جعلوا قبره عند ذلك المكان، وصروا يتناوبون عليه لصلاحه، ويستغيثون به ويسألونه لأجل أنه أمضى حياته في صلاح وفي نفع للناس، فاعتقدوا فيه، فهذا اللاتّ أشرك به العرب لأجل أن روحه طاهرة وأن أعماله في الدنيا صالحة فقالوا هو إذن مقرّب عند الله جل وعلا، فإذا كان كذلك فلنتقرب إليه بالقرابين بالذبح والنذر، فلنستغث به، فلندعه ليرفع الحاجات إلى الله جل وعلا، وهذا هو عين الشرك المشركين الآلهة المختلفة، بالموتى، بالأنبياء، بالحسين، وبزينب، وبالبدوي وبالعيدروس وبعبد القادر وأنواع الموتى من الأنبياء والصالحين لأجل هذه الشبهة؛ الصلاح والقرب من الله جل وعلا.
قال (أو نبيا مثل عيسى) مثل الشيخ رحمه الله بثلاثة أمثلة:
الأول: الملائكة.
(37/89)
الثاني: رجل صالح اللاتّ.
الثالث: بالأنبياء عيسى.
وعيسى اتخذ إلها يسأل ويطلب منه ويستغاث به وتنزل الحاجات به.
النصارى مختلفون في عيسى:
¨ إما أنه يرفع الحاجات إلى الله جل وعلا ولا يرد الله جل وعلا طلبه، كما هو اعتقاد طائفة من النصارى.
¨ أو لأنه تَشَخُّص للإله، أو كما يقولون أحد الأقانيم الثلاثة يعني صفة وصورة من صور الإله في بعض أحواله حيث إتحد كما يقولون اللاهوت في الناسوت في هذه الصورة، فصورة حلول الإله في البشر متمثلة في عيسى عند طائفة من النصارى.
فالنصارى يستغيثون ويسألون عيسى إما على أنه بعض الإله أو على أنه مقرب عند الله الواحد ويسأل لأجل قرب مقامه عند الله.
هذه ثلاثة أمثلة:
استغاثة أو تأليه الملائكة بسؤالهم ودعائهم والاستغاثة بهم وإنزال الحاجات بهم والتعلق بهم ورفع ما يريده العباد عن طريقهم يعني أن يكونوا وسطاء.
الثاني في الصالحين الرجال الصالحين مثل اللاتّ.
وبعيسى.
فهذه الأمثلة الثلاثة، إذا تأملتها وتدبرت وفهمت لما أشرك من توجه إلى الملائكة؟ وبما وكيف أشرك من توجه إلى الرجل الصالح اللات؟ وبما أشرك من توجه إلى عيسى؟ علمت حقيقة الشرك، ولم يلبّس عليك أو يقول قائل هذا الذي يمارَس اليوم ليس بشرك وإنما من سماه شركا أكبر مخرجا من الملة تشديد من المتشددين أو من الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته ومن اتبعه على ذلك؛ لأن حقائق الأشياء هي التي تفصح لك عن [الغرور].
(37/90)
قال رحمه الله بعد ذلك (وعرفت)، طبعا قوله (أو نبيا مثل عيسى) دليله قول الله جل وعلا في سورة المائدة في آخرها ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ?[المائدة:116]...([14]), مع قول عيسى عليه السلام ?يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ]([15]) إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].
(37/91)
قال بعد ذلك (وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك) لِمَ قاتل النبي عليه الصلاة والسلام قريش والعرب؟ لأنهم كانوا مشركين، بما كانوا مشركين؟ بما ذكرنا سالفا بعبادة غير الله، هل كانوا يعبدون غير الله لقصد ذلك الغير أم لأجل الوساطة والتوسل؟ لأجل الوساطة والتوسل بنص القرآن؛ ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، لم يكونوا يتوجوه إلى الله أو الرجل الصالح أو الأنبياء بقصد أن يتوجهوا إليهم استقلالا إنما كان من أجل التقرب لله جل وعلا فكل يريد التقرب إلى الله وهذا التقرب يكون عن طريق واسطة ولأجل هذه الواسطة صاروا مشركين لما توجهوا إلى الموتى وإلى الغائبين وإلى الملائكة بأنواع العبادات، قال (وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك) قاتلهم استحل دماءهم وأموالهم وجعل من يقاتل أولئك شهيدا إن مات في قتالهم وجعله موحدا وأولئك جعلهم مشركين ومن قُتل من أولئك شهد عليه بالنار ومن قتل من المسلمين شهد له بالجنة إن كان قتاله لله وهكذا، لم قوتلوا ولم استحلت أموالهم ودماؤهم؟ لأجل أنهم مشركون ذلك الشرك، ولهذا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال في رسالة له ”وعرضت ما عندي من التوحيد على علماء الأمصار فوافقني طائفة والأكثرون وافقوني على التوحيد لكن عَظُم عليهم التكفير والقتال“ وهاتان المسألتان ترتيب حتمي لما قدمناه، يعني إذا ثبت أنهم مشركون فلا بد أن تترتب أحكام المشركين، لا بد أن يقاتلوا مع القدرة على ذلك، لا بد أن يقاتلوا إذا قوتلوا لابد أن يكون هناك تميز، هؤلاء موحدون وهؤلاء مشركون، ولا بد أن يكون هناك نشر للتوحيد ودحض للشرك وإقرار لما يحب الله جل وعلا ويرضى من الإخلاص وعبادته وحده لا شريك له في القتال، قال ”خالفوني في القتال والتكفير“ لأن التخلص من تأثير الناس في حقائق الأشياء يحتاج إلى علم راسخ وإلى تجرد
(37/92)
من [.....] الناس وشبهاتهم.
الشيخ رحمه الله في هذه الرسالة يريد منها أن يكشف الشبهات ويبين أن التوحيد هو حق الله جل وعلا، وأن ما يمارس الناس في هذه الأزمنة بما يسمونه الاعتقاد والتعلق بالأرواح ونحو ذلك والاعتقاد في الميت، ويسمونه السيد أن هذا عين الشرك، يترتب على ذلك الأحكام بقية الأحكام من التكفير أولا، ثم قتالهم على أنهم كفار ومشركون.
وشرح الله جل وعلا صدر الشيخ وصدر أئمة الدعوة في أول هذا الزمان حتى انتشرت دعوة التوحيد ولله الحمد بهذه الدعوة المباركة وبتأليف من نصرها وأيدها بالسيف والسنان وهو الإمام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله تعالى وكذلك أبناؤه من بعده، وبقيت هذه الدعوة في الناس إلى اليوم لتساند السنان مع القرآن في ذلك، وهذا لابد منه لا يمكن أن تنتشر إلا بقوة تحميه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دعوته وعلمه كان واسعا ونشر التوحيد ودعا إلى ذلك وصنف المصنفات، لكن لم يكن له سيف يحميه فسجن ولم يتمكن من نشر التوحيد في الناس، لكن الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أيده الله جل وعلا بالأئمة بآل سعود المبارك، ونشروا هذه الدعوة في الناس وبقيت إلى هذا الزمان.
الناس الذين اعترضوا على هذه الدعوة قالوا هذه الدعوة قاتلت الناس، تجد في كتب تواريخ نجد يقولون قاتل المسلمون المشركين، ويستعظم الناس كيف يسمى أتباع الدعوة مسلمين وكيف يسمى الآخرون مشركين، نقول هذه حتمية؛ لأن توحيد الله ليس فيه مجاملة إنما هو حق وباطل ?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ?[يونس:32]، فلا بد من ترتب الأحكام ترتب أحكام التوحيد والشرك في الأرض، فإذا وجد الشرك لا بد أن توجد المناطة بذلك، وهو أن يوصف أولئك بأنهم مشركون وأنهم كفار، ولابد من قتالهم مع القدرة حتى يكون الدين كله لله جل وعلا.
(37/93)
قال الشيخ رحمه الله هنا (وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18])، (قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده) يعني إلى التوحيد إلى أن لا يعبد إلا الله ألا يتوجهوا في شيء من أنواع العبادة إلا لله جل وعلا وحده.
وهذه الرسالة موضوعة لبيان حقيقة التوحيد وكشف كل شبهة أدلى بها خصوم الدعوة في مسائل التوحيد وبيان أنّ هذا الأمر حق لا لبس فيه، ومن درس التوحيد حق الدراسة انشرح صدره لهذا الأمر أعظم انشراح، وصار في قلبه من تعظيم الله جل وعلا وتعظيم دعوة التوحيد ما به يستطيع أن يرد على المبطل في هذا الأمر.
(37/94)
ولهذا يذكر أن أحد العامّة من أتباع الدعوة، قال له بعض المشككين أنتم متعصبون للشيخ محمد بن عبد الوهاب تعصب لأنه من نجد وأعلم وكذا فتتعصبون له، فقال هذا العامي لذلك المدلي بهذا الكلام، قال لو خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قبره، وقال ما دعوتكم إليه وما ذكرته لكم غير صحيح، ما قبلنا كلامه واستمررنا على التوحيد، لأنهم ما أخذوا به تقليدا وإنما أخذوا به عن حجة بينة واضحة، فلو أتى آتٍ وقال هذا غير صحيح، مثلا ضل ضال كان من الموحدين كان من أتباع السلف كان من السلفيين ثم بعد ذلك انقلب إلى شيء آخر، انقلب إلى طائفة المشركين أو المبتدعة فهل يشك الموحد فيما عنده من الحق؟ لا، لم؟ لأنه عرف الحق بدليله، عرف الحق بنص من الكتاب والسنة وفعل سلف الأمة، والعلماء في هذه الأمة ليسوا كعلماء النصارى، يُقبل ما يقولون هكذا مطلقا، بل هم أدوات لفهم نصوص الكتاب والسنة، ليسوا مستقلين، ما يقال يطاع فيه دون نظر إن قال الشيء وبيّن الحق قبلت منه الأمة، والأمة لا تقر أحدا على ضلالة فإذا ضل ضال بينت الأمة ضلاله ولله الحمد؛ لأنه لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
هذه المقدمات من المهم أن تراجعها مرة تلوى الأخرى؛ لأن فيها بيان ما في هذه الرسالة.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع بما سمعنا والانتفاع بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
هذا الدرس بمناسبة الاختبارات يكون آخر درس، ونعود إن شاء الله بعد رمضان؛ يعني مع أول أسبوع من الدراسة حتى يتمكن الإخوة الطلاب من الحضور للدرس.
[الأسئلة]: نأخذ ثلاثة أسئلة فقط.
1/ ما رأيك في كتاب الأصنام للكلبي؟
(37/95)
الكلبي متهم في حديثه، ولكن من جهة الأخبار والتاريخ والأشعار يقبل العلماء ما يذكره من ذلك لأنه أخباري أو إخباري نسّابة معروف من العلماء المعروفين في التاريخ من حيث الأخبار والنسب، وما ذكره في كتاب الأصنام مما كان عند العرب أكثره صحيح؛ يعني العلماء تتابعوا على النقل عنه.
2/ يقول أليس شرك هذا العصر أعظم من شرك المشركين الأولين؛ لأنهم يعتقدون فيها أنها تنفع وتضر بذاتها؟
لاشك طائفة من أهل هذا العصر زادوا على المشركين مشركي الجاهلية بأشياء، كما ذكر ذلك الشيخ محمد رحمه الله في القواعد الأربع في آخرها القاعدة الرابعة أن مشركي زماننا أعظم شركا من المشركين الأولين لأن الأولين يشركون بالله جل وعلا في الرخاء أما في الضراء إذا أصابتهم الشدة توجهوا إلى وحده كما قال تعالى ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65], وقال جل وعلا ?[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]([16]) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ?[لقمان.32], وقال جل وعلا ?حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ([17]) فِي الْفُلْكِ?[يونس:22]، قال جل وعلا في سورة يونس ?وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ? إلى أن قال ?دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(22)فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ?[يونس:22-23] وشرك المشركين الأولين يشركون في الرخاء أما في الضراء فيتجه إلى الله وحده، وأما أهل هذا الزمان فإنهم يشركون بغير الله في السراء والضراء.
3/ ما حكم الصلاة في مكان فيه صورة أو تمثال.
(37/96)
إذا كانت الصورة أو التمثال في غير جهة المصلي؛ يعني في غير القبلة فالصلاة صحيحة، لكن بالجملة الصلاة في مكان فيه صورة لا تجوز، صورة أو تمثال؛ يعني صورة معلقة أو تمثال منصوب أو نحو ذلك في نفس المكان لا تجوز، لكن إذا لم يكن في جهة المصلي أو في بقعته يعني في مكان سجوده وصلاته فإن الصلاة صحيحة؛ لأن النهي ما توجه إلى البقع، قد علمت أن النهي يقتضي الفساد إذا كان راجعا إلى شرط من شروط الصلاة، والبقع من الشروط ولكن المقصود البقعة التي يصلي فيها لا ما حولها، والصحابة رضوان الله عليهم صلوا في الكنائس فيها صور؛ لأنهم توجهوا إلى القبلة في مكان ليس فيه صورة يعني في قبلتهم لما صلوا.
نكتفي بهذا القدر.
نعم آية سورة المائدة ?يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].
بارك الله فيكم أستودعكم الله، يوم الثلاثاء ما فيه درس إن شاء الله يوم الخميس في الصباح إن شاء الله، وفقكم الله([18])
?????
[المتن]
وتحققت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع أنواع العبادات كلها لله، عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليما مزيدا، أما بعد:
(37/97)
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح الخاتمة الحسنة.
هذا الكتاب -وهو كتاب كشف الشبهات لإمام هذه الدعوة الإمام المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- معقود لبيان الشبهات التي احتج بها أعداء الدعوة على الإمام فيما أوردوه، وقد بينت لكم فيما سلف أن تلك الاحتجاجات وذلك العلم الذي عند المشركين احتجاجات باطلة وعلم غير نافع؛ لأن الله جل وعلا بيّن أن مجادلة أولئك إنما هي عليهم كما قال حل وعلا ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ?[الشورى:16]، فلو سموها حججا ولو سموا ها عندهم أدلة وبراهين، فإنها حجج داحضة وأدلة راجعة بالإبصار على مقالهم، وبراهين لا تستقيم لهم إلا بما عندهم من الفساد في التصور أو الفساد في التعلق بغير الله جل وعلا، كذلك ذكرنا أن من أعظم السبل التي يدين لك بها دين المرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أنْ تعلم حال أهل الجاهلية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن حال أهل الجاهلية معروف بيّن، وطريق معرفته ما جاء في القرآن من وصف مقالهم ووصف فعالهم ووصف اعتقاداتهم ووصف أحوالهم، فهذا فيه تقرير للحال التي كانوا عليها، كذلك من سبل معرفة ما كانوا عليه من الأحوال والاعتقادات الباطلة معرفة أشعار العرب؛ لأن فيها ما كانوا عليه، ومن سبل ذلك معرفة قصص العرب والتاريخ الذي نقله المؤرخون عنهم.
(37/98)
ومن الأمر المقرر الواضح في الكتاب والسنة عن حال المشركين من أهل الجاهلية ومما بينه المؤرخون بما هو واضح أنّ أولئك الذين بعث إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعبدون الله جل جلاله وكانوا يصلون وكانوا يتصدقون وكانوا يحجون البيت ويعتمرون وكانوا يتنزهون من بعض النجاسات وكانوا يغتسلون من الجنابة كما سبق أن ذكرت لكم أدلة هذه الجملة مفصلة في أول الشرح عند قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول الرسالة (وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله).
(37/99)
إذن فمدار الصواب في العبادة أنْ لا يعبد إلا الله الملك الحق المبين، وأنّ دعوة غيره باطلة ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[الحج:62]، وإقرار المشركين بأن لهم ربا خالقا رازقا ويقولون ما شاء الله ويقولون لا حول ولا قوة إلا بالله وما شاكل ذلك الكلام، ويدعون ويتصدقون ويحجون ويعتمرون، لم يجعلهم ذلك مسلمين بل كانوا مشركين؛ لأنهم لم يوحدوا الله جل وعلا في العبادة، وهو الذي نقول إن معناه لم يفردوا الله بأفعالهم التي يتقربون بها يرجون الثواب ويخافون بها العقاب، وإنما توجهوا بها إلى آلهتهم المختلفة، ولما جاءهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وبيّن لهم الدين، وبيّن لهم توحيد الإلهية لم ينكروا أحقية الله جل وعلا بالعبادة، ولكن أنكروا إبطال استحقاق تلك الآلهة بشيء من العبادة، كما قال جل وعلا عنهم في سورة الصافات ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ?[الصافات:37]، وقال جل وعلا في سورة ص ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
(37/100)
إذن هذه القاعدة هي أعظم ما يكون به تكون المقدمة لردّ أي شبهة يحتج بها المشركون ويحتج بها علماء المشركين في التعلق بغير الله جل وعلا بأي نوع من التعلقات، فإنهم استعظموا أن الذين يعبدون الموتى ويعمرون المشاهد بالذبح والنذر للأموات وما أشبه ذلك، يستبعدون بل يتعاظمون أن يكون أولئك مشركين، وإذا قلت لهم: لم؟ قالوا لأنهم يذكرون الله ويصلون وهم إنما أرادوا بذلك الله جل وعلا، اتخذوا هؤلاء واسطة فقط، ولم يريدوا الاستقلالية، وإلا فإنهم يعلمون أن الرازق على الحقيقة هو الله، ولكن هؤلاء الأموات واسطة.
فهذه المقدمة من الشيخ رحمه الله وما ذكرتُ لك من بيانها تُبين لك أن هذه الحجة من المشركين هي الحجة التي سلفت، فهي احتجاج قوم نوح على نوح، وهي احتجاج أقوام المرسلين على المرسلين، وهي احتجاج قريش العرب على محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال سبحانه وتعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، إذا عرفتَ أنهم أرادوا الواسطة، عرفتَ أنهم كانوا مُقرين بتوحيد الربوبية، مُقرين بأنه لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله ولا يحيي ولا يميت إلا الله جل جلاله، وأنهم كانوا يذكرون الله ويتعبدون ويصلون الصلاة على حسبها ويحجون ويعظمون البيت، وربما كان من بعضهم إخبات وإنابة، لكن لما لم يكونوا مفردين الله جل وعلا بالعبادة قاتلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(37/101)
إذن فالعبرة في تحقيق كلمة التوحيد لا إلا الله، ومشركوا العرب يعلمون معنى هذه الكلمة، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قولوا كلمة، كلمة واحدة قولوا كلمة واحدة، فقالوا: نقول وربك عشر كلمات. قال: قولوا لا إله إلا الله. فأبوا؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة إذا قالوها وشهدوا بها أنّ فيها إبطال كل التعلقات بالآلهة؛ لأنه معنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله جل جلاله. ومعنى ذلك أنّ كل من عَبد غير الله جل وعلا فإنما عُبد بغير الحق عبد بالبغي بالظلم بالعدوان من الناس على حق الله جل جلاله.
(37/102)
لهذا لما ذكر الشيخ هذه المقدمات قال في هذا المقطع الذي وقفنا عنده (وتحققت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله) هذا من جهة التمثيل مثل بالنذر والذبح والاستغاثة؛ لأن الشرك بالله جل وعلا في هذه الأشياء كان أكثر شيوعا في زمن إمام الدعوة رحمه الله تعالى، وإلا فإن أصناف شرك المشركين وصرفهم العبادة لغير الله جل وعلا كثيرة، ويجمعها قوله في آخر الكلام (وجميع أنواع العبادات كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام) هذا احتجاجهم أننا موحدون لله، لا نقول إن ثم رازق إلا الله وليس ثم محيي إلا الله، نحن مؤمنون بالله بأنه يرزق ويخلق ويعطي وأنه يجيب دعوة المضطر وأنه وأنه، لكنهم لم يبطلوا الوسائط، لم يبطلوا قصد غير الله جل وعلا بالعبادة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106]، قال السلف في تفسيرها لهذه الآية في آخر سورة يوسف معنى قوله (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) يعني وما يؤمن أكثرهم بالله بأنه هو المتفرد بالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة إلا وهم مشركون به في العبادة، فقد جمعوا إيمانا وشركا، فلا تتصور أنّ المشرك الذي يُحكم عليه بأنه مشرك أنه خِلْوُ الوثاق وخلو القلب من الإيمان بالله أصلا، هذا لا يتصور، وإلا لكان المشرك هو الذي يجحد كل أنواع الإيمان يعني الذي يجحد الربوبية ويجحد وجود الله جل وعلا، وهذا ليس هو الذي احتج القرآنُ على أصحابه، بل القرآن فيه إقامة الحجج على أن الله جل وعلا واحد وأنّه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، ?قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ?[النمل:59] إلى آخر الآيات في سورة النمل، وفي كل آية?
(37/103)
أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ?[النمل:60]، ?أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?[النمل:61] إلى آخر ذلك.
فإذن نسأل ونقول بما صار أولئك مشركين؟ قال الشيخ رحمه الله هنا (وأنَّ قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم) يعني أنّ سبب كفر المشركين وسبب الحكم عليهم بأنهم كفار مشركون حلَّت دماؤهم وحلت أموالهم هذه الأشياء، قصد غير الله جل وعلا، قصد الملائكة قصد الأنبياء قصد الأولياء.
أما قصد الملائكة فإنهم كانوا يقصدون الملائكة بطلب الحاجات، كما قال جل وعلا في آخر سورة سبأ عنهم ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41] فكانت الملائكة تُعبد، لكن في الحقيقة الذي عبد هو؛ الذي عبد هم الجن لأنهم طلبوا من الملائكة والذي أجابهم بطلبهم الجن ليبقوا على الشرك.
(37/104)
وكذلك الأنبياء سئلت الأنبياء في قبورها واستغيث بها وذبح لها ونذر ومن سئل ربما أجيب سؤاله، وإجابة السؤال من جهة الجن، فيكون الجن ربما أحضر شياطين الجن؛ أحضر لذلك السائل بعض الأشياء أو عرفه ببعض الأشياء لتقع المصيبة وهذا في أكثر الأحوال وإلا فإنه من المقرر أن إجابة الدعاء من فروع الربوبية وليس من فروع الإلهية؛ لأن المشرك قد يدعو الله جل وعلا ويستجيب الله جل وعلا لدعائه كما قال سبحانه وتعالى ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ?[العنكبوت:65]، فإجابة الدعاء من جنس إعطاء الرِّزق، من جنس إعطاء المآكل والمشارب والأولاد، فإنه قد يدعو الكافر ويستجاب له لأن إجابة الدعاء ليست خاصة بإجابة المسلم بل هذا عدو الله إبليس سأل الله وقد أبى واستكبر وكان من الكافرين أن يؤخره إلى يوم الدين فأجاب الله دعاءه وسؤاله فأخره.
فإذن هنا حينما يسأل نبي من الأنبياء أو يسأل ولي من الأولياء عند القبر فيُجاب السؤال أو يحصل له ما طلب، فسبب حصول ما طلب أحد شيئين:
الأول: أن يكون شياطين الجن أحضرت له ما طلب، أو كان ثم سبب فأزالته الجن؛ يعني بسبب من جهة الجن إما امرأة ما تحمل بسبب شياطين الجن، أو شيء مفقود كان بسبب شياطين الجن، أو نحو ذلك، أو أراد أن يكلم هذا الميت فكلمه شيطان، وما أشبه ذلك يعني مما تقدر عليه الجن هذا نوع.
والنوع الثاني: أن يكون سأل متوسطا بصاحب القبر لكنه قام بقلبه حين السؤال اضطرار وحاجة ملحة فأجاب الله جل وعلا لأجل الاضطرار، والله جل وعلا أطلق إجابة المضطر فقال سبحانه ?أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ?[النمل:62]، فالمشرك إذا كان مضطرا يجاب، ولو كان في سؤاله بعض الشرك؛ لأنه يكون هنا غلب عليه جهة الاضطرار.
(37/105)
ولهذا حقق العلماء أنّ إجابة سؤال المشرك عند القبر ليس السر فيه القبر كما يقوله المشركون، وإنما يكون ثم شيء آخر إما جهة شياطين الجن وإما أمر آخر قام بالقلب منه مثلا الاضطرار وإنزال الحاجة والانكسار بين يدي الله جل وعلا، فيظن الظان أن سبب إجابة الدعاء بركة القبر، وإنما هو من جهة ما قام بالقلب من الاضطرار لأن إجابة الدعاء من فروع الربوبية، والربوبية ليست خاصة لمسلم دون كافر، إعطاء الأرزاق ليس خاصا بالموحدين، بل يعطي الله جل وعلا الجميع كما قال جل وعلا في جواب سؤال إبراهيم قال ?وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ?[البقرة:126].
قال (وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء ) الأنبياء قصدتها العرب وقصدها المشركون من أهل الملل، عُبد موسى، وعُبد عزير، وعُبد المسيح من دون الله جل وعلا، وقُصد أولئك لأجل الوساطة، لأجل التقرب إلى الله جل وعلا به فصار من قصدهم مشركا حلال الدم والمال لا لأنه طلب منهم استقلالا ولكن لأنه طلب منهم بالوساطة.
قال (أو الأولياء) والأولياء أشرك بهم كما قال جل وعلا ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20].
قصدوا هؤلاء الملائكة والأنبياء والأولياء، يريدون ماذا؟ هل قصدوهم يعني العرب يريدون أن يجيب هؤلاء استقلالا؟ أم قصدوا أولئك بالعبادة يريدون الوساطة، يريدون الزلفى، يريدون الشفاعة؟ قال الشيخ رحمه الله هنا (يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك).
إذن فشرك الأولين من جهة الوساطة، شرك قوم نوح من جهة التوسط بالصالحين، وشرك قوم إبراهيم من جهة التوسط بما زعموه رَوحانية للكوكب، وشرك العرب فيه هذا وفيه هذا وإن كان الغالب عليه بأنه شرك بالصالحين.
(37/106)
قال (هو الذي أحلّ دماءهم وأموالهم) إذن مع كونهم يُقرون بالربوبية، ومع كونهم يتعبدون ولهم أذكار ونحو ذلك، لكن لما قصدوا غير الله بالعبادة ولو كان على جهة التوسط، فإن ذلك أحل دماءهم وأموالهم؛ لأنّ عندنا مقدمة يقينية ونتيجة متيقنة:
المقدمة اليقينية الأولى: أنهم قصدوا الملائكة والأنبياء والأولياء، هذا بيقين من القرآن، ومن حال العرب.
المقدمة الثانية: أنهم قصدوا الملائكة والأنبياء والأولياء وغير هذه الأشياء، يريدون التقرب إلى الله زلفى، ولا يريدون الاستقلال؛ لا يريدون الطلب على جهة الاستقلال، وإنما أرادوا الطلب على جهة التوسط.
فهذه المقدمة الأولى يقينية، والثانية أيضا يقينية، لقول الله جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]. قد ذكرت لكم أن قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) هذا حصر العلة في عبادتهم لإنتاج المعلول وهو التقرب إلى الله زلفى؛ يعني أنه ما توجهوا لهم لأجلهم لذاتهم، ولكن لأجل أن يوصلوهم إلى الله جل وعلا فهاتان المقدمتان يقينيتان.
والنتيجة أيضا يقينية: وهو أن دمائهم حلت وأموالهم حلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه بإحلال الله جل وعلا ذلك لهم وأن سبب الحِلّ، سبب جعل هذه الأشياء حلالا هو شركهم بالله جل جلاله.
قال بعد ذلك (عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون) وهذه النتيجة من دخلت إلى قلبه بالبراهين السابقة فقد أوتي حضا عظيما لأن الشبهة إذا تكسرت في البداية فما بعدها أهون أن يتقرر ما ذكرنا وأن يبطل استبعاد شرك المشرك لأجل أنه يصلي أو يزكي أو يحج أو يعتمر أو أنه يذكر الله أوْ أو إلى آخره.
(37/107)
إذن مدار الحكم بالشرك واضح؛ وهو صرف العبادة أو صرف شيء من العبادة لغير الله جل جلاله، فمن أتى به فهو حابط العمل مشرك ولو كان أرفع الخلق ولهذا قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ? للنبي - صلى الله عليه وسلم - ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66]، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ولو كان سيد الخلق؛ لأن مقام الخالق جل وعلا مقام الرب العظيم أعظم وأعظم وأعظم، وحقه أعظم من أن يحابى فيه لأجل إنسان كائنا من كان، قال (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ) يعني وحده دونما سواه (وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ)، ونحو هذا في غير هذه الآية.
فإذن إذا صرف أحد العبادة أو صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك وعمله حابط ولو كان أثر السجود في وجهه؛ لأنه أشرك، وليس المدار هنا موازنة أشرك بشيء وتعبد بشيء، ولو كان في الموازنة هنا قائمة بين السيئات والحسنات كما في حال الموحّد فإنّها يكون ثم موازنة في حال المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل من مشرك صرفا ولا عدلا، لم يقبل منهم إلا التوحيد، إلا أن يأتي بلا إله إلا الله التي يعلمون معناها.
إذن بهذه المقدمة إلى هنا يسهل الدخول إلى ما بعده في الكتاب، وأنّ التوحيد هو أعظم المهمات وأعظم الواجبات وأول واجب وآخر واجب، وأنّ من صرف شيئا من العبادة لغير الله فإنه حابط العمل ولو كان ما كان في عمله، هذه إذا دخلت في القلب ولم يكن في القلب تردّد لأجلها، صار إبطال أي شبهة احتج بها المشركون راجعا إلى هذا المحكم.
(37/108)
ولهذا يقرر الشيخ بعد ذلك أن ما ذكرنا من وصف حال المشركين والمقدمات هذه والنتيجة اليقينية المقدمات اليقينية والنتيجة اليقينية، أنّ هذا محكم إذا احتج أحد من المشركين بحديث أو بآية وأولها على غير تأويلها فلك أن ترجع إلى هذا المحكم وأن تترك ما اشتبه عليك علمه؛ لأن هذا يقيني كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، فهذه المقدمة مهمة للغاية، وهي أساس محكم يمكن أنْ تحتج به في أي مقام على من عاند وأشرك بالله جل وعلا أو حسّن الشرك أو لم يكفر بالطاغوت. نعم
?????
[المتن]
وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد، فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: ? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
فإذا عرفت أن جُهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفارأعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
[الشرح]
(37/109)
قال رحمه الله (وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله) هذا التوحيد الذي سبق بيانه وهو إفراد الله جل وعلا بالقصد بالذبح بالنذر بالاستغاثة بجميع أنواع العبادة، هذا هو التوحيد، وهو معنى (لا إله إلا الله)؛ لأن كلمة (لا إله إلا الله) مشتملة على نفي وعلى إثبات:
¨ النفي بـ(لا).
¨ والإثبات بـ(إلا).
والذي نُفي بـ(لا) هو استحقاق العبادة، أو أن يكون ثَم إله حق غير الله جل وعلا، فلا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله؛ لأن كلمة إله هذه معناها معبود، وهذا هو المعروف في العربية وهو المعروف بحال العرب أيضا؛ لأن إله هذه فعال بمعنى مفعول، مثل فراش بمعنى مفروش وأشباه ذلك، وبناء بمعنى مبني، فإله بمعنى مألوه، وأله يأله إلهة معناها عبد يعبد عبادة مع الحب والتعظيم.
فإذن يكون معنى الألوهية العبودية، ومعنى توحيد الألوهية توحيد العبودية، توحيد الإلهية توحيد العبادة، يكون معنى الإله المعبود، ولهذا اسم الله الذي ترجع إليه أو تجتمع فيه صفات الكمال الله هذا معناه المعبود الحق، قال بعضهم الله علم على المعبود بحق، فالله أصلها الإله -على الصحيح- لأنها مشتقة، وإنما أُطلق عليها يعني خففت الهمزة في الإله فصارت الله لكثرة دعائه ورجائه والتوسل إليه باسمه هذا، ونحو ذلك.
المقصود أن كلمة (لا إله) هذه فيها العبودية وهذا هو المتقرر في العربية وفي القرآن كما قال جل وعلا في سورة النمل فيما ذكرنا ?أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ?([19]) يعني أمعبود مع الله؟ لأنهم إنما جعلوا معبودا مع الله ولم يجعلوا ربا مع الله جل جلاله، ومن ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس المشهورة في سورة الأعراف ?أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإِِلهَتَكَ?[الأعراف:127] يعني وعبادتك، ومنه أيضا قول الراجز في شعر ذكرناه لكم مرارا:
لله درّ الغانيات المُدّهِ سبّحن واسترجعن من تألهي
(37/110)
يعني من عبادتي، فالتأله وأله يأله والإلهة والألوهة إلى ما يُشتق من هذا المصدر هذا كله راجع إلى معنى التعبد العبادة، فإذن هذه المادة مادة العبادة، وليست مادة للسيادة والتصرف في الأمر، وهذا هو المعروف عند العرب، وهو المعروف عند الصحابة والتابعين، إلى أن تُرجمت كتب اليونان، وصار هناك خلط بين ما جاءت به الشريعة وما في علوم اليونان، فالذين ترجموا هذه الكتب، قرأها من قرأها، وجعلوا القصد الأعظم أن ينظر المرء بهذا الملكوت ويثبت ربوبية الله جل وعلا، لهذا قالوا المقصود الأول هو الربوبية، فإذا أثبت المرء بالنظر أنّ الله جل وعلا هو الموجب لهذا الملكوت صار مقرا ومؤمنا، فالمتكلمون حين تأثروا باليونان في مدارسهم في النظر وفي الفلسفة جعلوا معنى الإله راجع للربوبية، والمتكلمون في ذلك على قولين:
¨ منهم من يقول الإله هو القادر على الاختراع، وهذا في كثير في كتب المتكلمين.
¨ ومنهم من يقول الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
(37/111)
والأول والثاني وكل منهما قول لطائفة من المتكلمين والأشاعرة والماتريدية إلى غير هذه الفئات، فعلى كل قول منها يكون الإله مفسر بالربوبية؛ لأن القادر على الاختراع، القدرة على الخلق هذه ربوبية، والمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه هذه أيضا ربوبية، فهي من صفات الربوبية لا من صفات الألوهية، لَمّا حصل لهذا في المسلمين وتدوّل هذا القول، صار معلم الإيمان عند أولئك ألا يقر بوجود رَبَّيْنِ، ويعبرون عن ذلك ألا يقر بوجود إلهين، ولهذا في آية صورة الأنبياء ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا?[الأنبياء:22] يجعلون هذه الآية دليلا على إثبات تفرد الله جل وعلا بالربوبية، فيقولون هذه الآية هي دليل التمانع، ومعنى ذلك عندهم أن وجود إلهين يقاضي أن يتصرف هذا في ملكوته؛ وأن يتصرف هذا في جزء من الملكوت وهذا في جزء من الملكوت، ولابد أن يحصل تمانع لا بد أن يحصل اضطراب؛ لأن هذا له إرادة وهذا له إرادة وجعلوا الإله هنا هو الرب في نفسه، ولهذا جعلوها دليلا على توحيد الربوبية الذي هو الغاية عندهم، فدخل هذا في المسلمين، ولما دخل وتوسع الناس في اتباع مذهب الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وطرق المتكلمين صارت الغاية عندهم هي توحيد الربوبية، فلهذا لم يصر أولئك عندهم مشركين هذه أعظم فتنة حصلت في الصد عن لا إله إلا الله وتفسيرها بتوحيد الربوبية.
(37/112)
ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة كما في السنوسية الكبرى المسماة عندهم بأم البراهين يقول فيها ما ذكرتهم لكم قبل ذلك يقول: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه. فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، هذا التفسير وهذه الكلمة على هذا النحو ليست هي كلمة لا إله إلا الله، إنما هي كلمة لا رب في الوجود إلا الله، والإله غير الرب الألوهية مادة والربوبية مادة، ولهذا صاغ نعت اسم الله برب العالمين في قوله جل وعلا ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?([20]) ولو كانت الربوبية هي الألوهية أو كانت الألوهية هي الربوبية هي الألوهية لكان نعتا للشيء في نفسه، وهذا زيادة في الكلام ننزه عنها القرآن.
المقصود من ذلك أن معنى الإلهية عند المتكلمين ومن نحى نحوهم هو الربوبية، ولهذا دعا المشركون وعلماء المشركين إلى التوسط بهؤلاء الأموات بأنّ هذا لا يقدح في التوحيد؛ لأن التوحيد عندهم هو الربوبية، فالقاعدة التي بني عليها استحسان الشرك والتساهل فيه هو الخلاف في تفسير كلمة التوحيد، وذلك لأنهم جعلوا كلمة التوحيد معناها القدرة على الاختراع وأنه لا قادر على الاختراع وعلى الخلق إلا الله جل وعلا، وهذا يؤمن به أبو جهل وأبو لهب وكلّ من قتلهم النبي عليه الصلاة والسلام. ([21])
(37/113)
قال الشيخ رحمه الله (وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله ) يعني الذي سبق ذكره قبل ذلك، (فإن الإله عندهم)يعني عند العرب (هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده) وهذا بيقين؛ لأن الله جل وعلا قال ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، وقال ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الزمر:38] الآية، وقال ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31].
فإذن كل مفرادات أو نقول جل مفردات الربوبية نسبوها لله جل وعلا وحده ولم يجعلوا لآلهتهم منها شيئا، لم يجعلوا لآلهتهم شيئا، ولهذا لما ركبوا في الفلك دعوا الله وحده لأنهم يعلمون أن هذا المطلب العظيم إنما يستقل به الله وحده ولا يحب إلا أن يكون إلا الإقبال عليه وحده فيه، ولأن آلهتهم بعدت عنهم، وهذا مخالف لقول المتكلمين ومن نحى نحوهم: إنّ لا إله إلا الله هي لا قادر على الاختراع إلا الله. لأن أولئك لم يشكُّوا في أن هذه الكلمة يعني بأن العرب لم يشكوا بأن هذه الكلمة إنما جاءت للألوهية لا للقدرة على الاختراع، وإلا لقالوا نحن نؤمن بهذا، ولكن قالوا ? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ?[ص:5] فهذا بيقين.
(37/114)
قال الشيخ رحمه الله (لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد)، (السيد) في لغة العرب هو المتصرف المطاع في ملكه، المتصرف المطاع في ملكه، والسيادة تختلف مثل الرب، فتكون مضافة هذا سيد فلان، سيد البيت، وهذا سيد القبيلة وهذا رب الإبل، وهذا رب المال وأشباه ذلك، فلفظ السيد هو بمعنى لفظ الرب مع اختلاف بينهما.
فمعنى السيد في لغة العرب المتصرف الذي يدبر الأمر ويرجع إليه تدبير ما يملك، هذا هو السيد له السيادة في الملكوت، له السيادة في ملكه.
لكن في العرف الذي عليه الناس في زمن الشيخ وما قبله إلى وقتنا هذا أطلق لفظ السيد على خلاف معناه في العربية، ويُراد بالسيد الذي بيده التوسط أو بيده [....] والمنع أو الذي فيه السر ولهذا يستعملون في السادة الذين يقصدون لأجل العبادات والتوسط يقولون فيهم قدس الله سر فلان، فلان قدس الله سره؛ لأنهم يجعلون لروحه سرا ويطلقون على هؤلاء لفظ السيد، فمثلا السيد البدوي، السيدة زينب، السيد الحسين، السيد العيدروس، السيد المرغني، السيد فلان، السيد فلان، السيد عبد القادر الجيلاني وأشابه هذا.
فيطلقون على الإله لفظ السيد، الإله في العربية الذي ذكرنا عند الناس في هذا الزمان وزمن الشيخ هو ما يسمونه بالسيد، ومن المتقرر أن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، العبرة كما حرره وقرره وهو معروف لكن أطال عليه في هذا الموضع الشوكاني والصنعاني قالوا إنّ تغير الأسماء ومدلولاتها لا يغير الحقائق فإنهم إذا سموا السيد، سموا هؤلاء بالسيد وعنوا بالسيد الإله فإنهم يحاسبون على ما قصدوا لا على أصل اللفظ الذي لم يخطر لهم على بال أو لم يعنوه.
(37/115)
فإذن كلمة السيد يراد منها الإله، يراد منها ما يفهم من معنى كلمة الإله عند أهل العربية، لهذا قال هنا (وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) من هو السيد؟ الذي يُقصد لأجل التوسط عند الله، بل زاد بعضهم وجعل لهؤلاء السادة نصيبا في الملك من جهة التفويض، فيقولون هناك أوتاد في الأرض أُعطوا بعض التصرف في ملكه؛ في الملك، وبعد الأوتاد هناك أقطاب لهم تصرف، هؤلاء يرجعون إليهم، والأقطاب ترجع إلى الغوث الأكبر في البلد، والأرض قسموها قسمة رباعية وجعلوا لها أربعة أشخاص هم الملاذ والغوث الأعظم، ففي قسم البدوي، وفي قسم عبد القادر وفي قسم فلان وفلان؛ يعني أنهم زادوا على شرك العرب في أن جعلوا لهؤلاء تصرفا في الملك، وهذا شرك في الربوبية مع كونه شركا في الإلهية.
قال (فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرَّد لفظها) قوله (والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرَّد لفظها) لأن الإجماع منعقد على أن من بَلَغَ مجنونا فقال لا إله إلا الله فإنه لا يحكم له بالإسلام؛ يعني إذا كان مشركا قبل ذلك، أو من وُلد مجنونا ثم استمر وقال لا إله إلا الله فإنه لا يحكم له بالإسلام بهذه الكلمة، وإنما يكون تبع لأبويه بتفصيل معروف، فالمشرك الذي كان على الشرك ثم جُنّ وقال لا إله إلا الله في جنونه مائة مرة أو أكثر، بالإجماع عند أولئك المخالفين وعند أهل الحق أنه لا يدخل في الإسلام؛ لأنه تكلم بكلام لم يقصد معناه؛ لأنه لا يعقل المعنى. لهذا فالعبرة فيما تعبد فيه من الألفاظ العبرة بالإقرار بالمعنى لا بمجرد اللفظ، وذلك لأنّ المنافقين قالوا هذه الكلمة ظاهرا وهم بنص القرآن والسنة هم كفار في الدرك الأسفل من النار، فلم ينفعهم قول لا إله إلا الله لأنهم لم يقصدوا معناها أو لأنهم خالفوا ما دلت عليه.
(37/116)
إذن فهذه الكلمة دليلها أنواع من الإجماع هي قوله (والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرّد لفظها) وهذه الإشارة منه رحمه الله لأجل أنّ كثيرين قالوا هؤلاء الذين كفرتموهم أو قلتم هم مشركون يشهدون أو يقولون لا إله إلا الله ويتكلمون بذلك ويذكرون الله في اليوم ألف مرة بلا إله إلا الله، فكيف تقولون ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالكف على من قال لا إله إلا الله وقال لخالد «قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله» إلى آخر ذلك، فيقال إنّ قول الكلمة مع مخالفة المعنى هذا غير نافع بالإجماع فيما ذكرنا في المنافقين وفي حال من بلغ مجنونا.
قال (والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه) المراد بهذه الكلمة ثلاثة أشياء في كلمة الشيخ هذه:
الأمر الأول: إفراد الله تعالى بالتعلق به، وهذا مأخوذ من النفي والإثبات بأنّ لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله، لا أحد يستحق العبادة والتعلق والقصد لأجل العبادة إلا الله جل وعلا. فإذن المراد بهذه الكلمة أولا إفراد الله تعالى بالتعلق به يعني حين التعبد.
(37/117)
والثاني: والكفر بما يعبد من دونه، والكفر بما يعبد من دون الله هذا نفهمه من النفي؛ لأن النفي معناه ما جاء في سورة الزخرف في قول الله جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?[الزخرف:26-27], بضميمة قول الله جل وعلا في سورة الممتحنة عن إبراهيم ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ?، (فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني من المرسلين الذين معه على التوحيد من المرسلين والأنبياء ?إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ? كل نبي قال لقومه ?إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4]، إذن في آية الزخرف قال جل وعلا الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ?[الزخرف:26-28]، هذه الكلمة قال المفسرون هي كلمة لا إله إلا الله، فتكون كلمة لا إله إلا الله معناها (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)، ومعنى البراءة هنا هو ما دلت عليه آية سورة الممتحنة، فشمل ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله؛ الكفر بما يعبد من دون الله وشمل البراءة منه، ولاحظ تعلق الكفر والبراءة بما يُعبد وليس بالعابدين لأن الكفر بالعابدين من اللوازم، وليس من معنى الكلمة، والبراءة من العابدين هذا من اللوازم وليس من معنى الكلمة.
الكلمة معناها: كلمة التوحيد يشمل الأمور الثلاثة التي ذكرها الشيخ رحمه الله هنا:
¨ إفراد التعلق بالله.
(37/118)
¨ البراءة من كل معبود سوى الله جل وعلا، أو البراءة من كل عبادة لغير الله جل وعلا.
¨ والثالث: الكفر بكل معبود أو بكل عبادة إلا عبادة الله جل وعلا، الكفر بعبادة مَن دون الله جل وعلا، وهو كله راجع للعبادة نفسها، أما العابدون فهذا له حكم آخر وتفاصيل أخر.
إذن ظهر لك وجه الحجة من كون هذه الثلاثة أشياء التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى من معنى الكلمة وهو مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الكلمة.
قال رحمه الله (فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: ? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5]) هذا ظاهر في أنهم يعبدون آلهة ولا يقرون بأن العبادة والقصد يتوجه به إلى واحد بل يتوجه به إلى متعدد، وما بعده واضح حيث قال (فإذا عرفت أن جُهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة) إذا كان الكفرة مع علمهم بالمعنى كفروا فكيف يكون حال الذي لا يعلم المعنى أصلا يعني لم يعلم المعنى أصلا ولم يأتِ على باله هو يقع في الشرك مع عدم العلم بالمعنى، لا شك أنه أسوأ حالا من الذي يقع في الشرك مع علمه بالمعنى، فهذا يقع في الشرك وهو غير آمن بالمعنى لأن هذا فرط في واجب وهو أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله لا تنفع إلا من علمها فعمل بمقتضاها، وأولئك علموا فخالفوا وهؤلاء المشركون في الأزمنة المتأخرة جهلوا وخالفوا، فقالوا كلمة لم يعلموا معناها فلم تنفعهم من هذه الجهة، ثم خالفوها من جهة العمل فلم تنفعهم أيضا من هذه الجهة، ولو كان هؤلاء تنفعهم الكلمة لكان المنافقون الذين قالوا لا إله إلا الله ينفعهم قولها؛ لأنهم يعلمون المعنى وتلفظوا بها ومع ذلك لما أبطنوا الكفر وعملوا به كانوا أشرّ من الكفار.
(37/119)
قال (بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني) وهذا فيه إبطال التقليد في التوحيد فإن توحيد الله جل وعلا لا يصلح على جهة التقليد، بل لابد أن يعتقد المرء الحق بدليله مع علمه بمعنى كلمة التوحيد ومعنى ما دلت عليه، وهذا الاعتقاد يكفيه أن يكون في عمره مرة بدليله؛ يعني لو علمه لحين دخوله في الإسلام وعلم واستمر على المقتضى واستمر على ما دلت عليه، ثم لو سألته نسي ما عرفه واعتقده بدليله فإنه غير مؤاخذ، مثله المسلم الصغير المميز فإنه إذا عُلِّمَ هذه الكلمة وأخبر بمعناها وفهم ذلك وحفظه دليله أوعرف دليله من الكتاب أو من السنة واستمر على ذلك، فإنه يكفيه لأنه اعتقد الحق واعتقد معنى هذه الكلمة بالدليل غير مقلِّد في ذلك مرة في عمره ثم لم يأتِ بناقض لذلك الشيء، ولهذا عندنا في المدارس في الابتدائي يدرَّس الطالب أو الطالبة ثلاثة الأصول فيها معنى كلمة التوحيد والدليل عليها، وكذلك أركان الإيمان يعني مسائل القبر الثلاثة المعروفة، والعلماء من قديم جعلوا ذلك للمتعلمين الصغار؛ لأنهم إذا عرفوا ذلك بدليله مرَّة في العمر صار إيمانهم بما دل عليه التوحيد عن دليل لا عن تقليد، ولو نسوا بعد ذلك فإنه لا يؤثر ذلك؛ لأن نسيانهم ليس من جهة ترك العمل بما دلت عليه، ولكن من جهة نسيان تفسير الذي يُفصح لك به، لكن لو سألته قلت: هل يُدعا غير الله جل وعلا؟ فيقول لا. لأنه علم معنى الكلمة لو سألته هل يستغاث بغير الله؟ قال: لا، لأنه يعلم معنى الكلمة، بخلاف من خالف المعنى وما دلت عليه بشيء حدث له، يعني تسأله فيجيب بخلاف ما تعلم سابقا هذا يكون لابد له من تجديد علم بدليله، حتى يصبح خالصا من التقليد.
(37/120)
المقصود من هذا أن التقليد في التوحيد لا يجوز، ومن قلد في التوحيد فإنه لا ينفعه؛ لأن الله جل وعلا لام وذم أهل الشرك بقولهم ? إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ?[الزخرف:22]، وفي الآية الأخرى ?مُقْتَدُونَ?[الزخرف:23]، فلا بد في التوحيد من دليل ولا ينفع فيه التقليد، وقد أوضحت ذلك مع زيادة بيان وضوابط في شرح ثلاثة الأصول لأن هذا إنما أتى عَرَضا.
قال(والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله) هذا الحاذق من أهل هذا الوقت من المشركين نسأل الله العافية وما قبله بأزمان، [...] عن كلمة التوحيد يفسرها بالربوبية لماذا؟ لأنه هو الذي درسه في مذهب الأشعرية ومذهب الماتريدية أو مذاهب المتكلمين، معنى كلمة التوحيد عندهم لا قادر على الاختراع إلا الله لا رازق إلا الله لا محيي إلا الله لا مميت إلا الله، هذا هو الحاذق المتعلم فيهم، (فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله) ولو كان صاحب عمامة وجبة ولو كان ما كان فإن علمه غير مناسب لأن هذه الكلمة هي أساس كل خير، فإذا كان يجهل معناها فإنه لا خير فيه ولو ادّعى فيه الناس ما يدعون.
نقف عند هذا ونجيب على بعض الأسئلة.
[الأسئلة]
1/ هذا يقول من فسّر كلمة التوحيد بقوله لا حاكمية إلا لله متعلقا بقوله تعالى ?إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ?([22]) وهل هذا التفسير مستقيم أم هو غير ذلك نرجو التوضيح؟
(37/121)
من فسر كلمة التوحيد بقوله لا حاكمية إلا لله، ويقول هذا هو معناها فهذا من جنس قول الخوارج؛ لأنهم هم فسروا التوحيد بتوحيد الحكم لقول الله جل وعلا ?فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ?[غافر:12]، ولقوله جل وعلا (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) والحكم يجب إفراد الله جل وعلا به، وهو من مفردات توحيد الإلهية؛ لأنّ الحكم يعني في الشرع الحكم بالقرآن هذا تحكيم لله، فهو قصد لله جل وعلا طلبا للحكم، فهو من هذه الجهة فيه القصد، قصد القلب والعمل لطلب حكمه فيها، فمن قال معنى لا إله إلا الله لا معبود حق إلا الله كما هو تفسير أهل العلم فإنه يدخل فيه هذا المفرد من المفردات وهو إفراد الله جل وعلا بأنه هو المستحق للتحاكم إليه، لهذا إمام هذه الدعوة جعل من أبواب كتاب التوحيد أبوابا تخصّ هذه المسألة وهي مسألة التحاكم تحليل الحلال وتحريم الحرام وعدم طاعة أحد في تحليل الحرام أو تحريم الحلال في أبواب معروفة، فالمقصود أنّ تفسير لا إله إلا الله بلا حاكمية إلا الله هذا من جنس تفاسير المبتدعة؛ لأنّ لا حاكمية مساوية لـ: لا إله؛ فيعني أنّ الإله هو الحاكم وهذا غلط لأنّ الإله لا في اللغة ولا في العرف ولا في ما جاء به القرآن أن الإله هو الحاكم، وإنما الإله هو الذي يستحق العبادة، ومن العبادة القصد لأحدٍ لتحكيمه بغير شرع الله أو بشرع الله إذا قصد أحدا لتحكيمه راضيا بذلك مختارا فإنه قد عبده، وهذا هناك فرق بين مسألة الحكم والتحكيم قال جل وعلا في سورة النساء ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ?[النساء:60] قال طائفة من أهل العلم قوله هنا (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا) فيه اعتبار الإرادة وذلك أن يتحاكم عن رغبة ورضا بحكم الطاغوت، بخلاف ما لو أكره عليه أو
(37/122)
أجبر أو أضطر إلى ذلك غير راغب ولا مريد في أشباه هذه الحالات.
المقصود من هذا أنه يكون عابدا لغير الله إذا تحاكم راغبا في ذلك مُعظِّما له كحال العابد المحكم في الله جل وعلا في ذلك، فالحكم لله تبارك وتعالى تحكيم القرآن تحكيم لله، تحكيم السنة تحكيم لله جل وعلا، ولهذا لا يطلق الحاكم إلا على من حكم بشرع الله جل جلاله.
2/ هذا سؤال عرضنا له مرارا: هل هناك فرق بين أهل الحديث والفرقة الناجية المنصورة، وما حجة من فرق بينهما؟
مرّ علينا عدة مرات.
3/ من وقع في شرك الأولياء وكان كما ذكرت مصليا عابدا يظن نفسه موحدا مؤمنا، وكان في بلاد علماؤها يلبسون على العوام، ولا يبينون أن هذا شرك بل يفعلون ما يدل على إقرارهم على هذا الشرك من شهود الموالد وإقامة الدروس في المساجد التي بها قبور الأولياء فهل يعذر هؤلاء العوام بجهلهم وعدم وجود من يبين لهم؟
هذه المسألة معروفة بمسألة العذر بالجهل، ونرجئ الكلام عليها إلى مقام آخر إن شاء الله تعالى.
4/ هناك بعض الناس في بلاد أخرى يأتون إلى بعض الناس يزعمون أنهم أولياء فيطلبون منهم أن يدعوا لهم الله عز وجل فما حكم هذا العمل؟
(37/123)
إذا أتى إلى ميت؛ ولي أو نبي أو نحو ذلك فطلب منه أن يدعو الله له؛ يعني قال: يا فلان أدعو الله لي. هذا ميت، هذا هو معنى الشفاعة فمعنى طلب الشفاعة من الميت طلب أن يدعو الله له، أن يسأل الله، فإذن قول القائل للميت أدعو الله لي، أو يأتي للنبي - صلى الله عليه وسلم - خارج الحجرة والأسوار ويقول يا رسول الله أدعو الله لي أن يرزقني بكذا، ومعنى هذا اشفع لي بهذا المطلب، لهذا معنى أدعو الله لي اشفع، وحكمها حكم الشفاعة وقد مر معنا في هذا الكتاب أنّ أولئك ما قصدوا إلا الشفاعة، وهم حين يتقربون للموتى يريدون في النهاية أن الموتى يشفعون لهم إذا طلبوا ومنهم شيئا، فيأتي يذبح له ينذر له في المواسم وبين الحين والآخر لظنه أن هذا الميت أو هذا الولي أو هذا النبي أو هذا الجني أو إلى آخره يعرفه بأنه يتقرب إليه، فإذا سأله عند حاجته فإنه مباشرة يرفع حاجته ويدعوا له ويطلب له ما سأل؛ لأنه يتقرب إليه، فهم ما عبدوا إلا للقربى، ولا ذبحوا ولا نذروا ولا استغاثوا ولا عملوا هذه الأشياء بأنواع العبادات إلا لأجل أن يُشفع لهم يعني أن يشفع لهم من سئل.
فإذن من طلب من الميت أن يدعو له هذا معناه أنه طلب منه أن يشفع له والشفاعة لا تصلح إلا لله.
5/ هل يصح ما يقال أنه أشرف من عبد من دون الله هم الملائكة؟
ما لها حاجة العبارة هذه أصلا؛ أشرف من عبد من دون الله الملائكة، لا حاجة للعبارة أصلا، والملائكة على الصحيح يفضُلُهم الأنبياء والمرسلون، فالأنبياء والمرسلون والأولياء أفضل من الملائكة على الصحيح في هذه المسألة.
هذه هي المسألة المعروفة بالتفضيل بين الملائكة والبشر، عفوا البشر عن الملائكة، هناك أقوال فيها والتحقيق أن صالحي البشر الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين من عباد الله أفضل من الملائكة لأدلة كثيرة في هذا المقام، وقد بسطها العلماء في مواطنها.
(37/124)
شيخ الإسلام كان إذا سئل عن هذه المسألة يسكت، يقول كنت أظن أن الكلام فيها محدث وأن السلف سكتوا عنها كنت أسكت عن الكلام فيها كما سكت السلف، حتى وجدت أن الكلام في التفضيل بين الملائكة والبشر سلفيٌّ أثري ثم ساق أقوال الصحابة والتابعين فيما وقف عليه في هذه المسألة.
6/ هل إجابة دعاء من كان يدعو عند القبر فيه ابتلاء لهذا الداعي؛ لأنه سوف يظن أن المجيب له صاحب القبر؟
هذا لاشك والابتلاء وقع في هذه المسألة وفي غيرها، فإذا أجيب دعاء من دعا عند القبر فإنه وقع له هنا المخالفة وابتلي بسببها بأنه لو أجيب لظن أن سبب الإجابة صاحب القبر أو بركة المكان، وهذا ابتلاء وشبهة وقع فيها لأنه فرّط في الحق، وكما ذكرتُ لك أنه يكون الإجابة لسِرٍّ؛ لسبب تعلّق بدعائه، وهو يظن أن السبب هو القبر، هذه المسألة مذكروة في شرح الطحاوية في أواخرها.
7/ ذكرت أن المنافقين قالوا لا إله إلا الله مع أنها لا تقبل منهم، ولكن يمكن أن يجيب عليها فيقول لا تقل له إنه كافر في الدنيا بل نقول إنه مسلم ونرد علمه إلى الله، هؤلاء الذين يصلون إلى القبر ويعبدون عبد القادر مثلا لا نطلق عليهم لفظ الكفار بل هم مسلمون، ونرد أمرهم إلى الله؟
(37/125)
هذا يعطينا دخول في بحث نريد أن تتنبهوا له فيما تسمعون أو تقرؤون، يكون هناك تنظير شيء بشيء لمعنى من المعاني أو لقدر من الاحتجاج، فلا توسع أنت ذاك إلى شيء أوسع مما كان الكلام فيه، لأن هذا يعطيك لبسا في الفهم وأيضا يوقعك في إشكالات علمية دائما، فالتنظير لا يكون دائما على جهة التكامل أو التماثل ما بين الأول والثاني، وإنما قد يكون لجهة من الجهات مثل ما ذكرنا في ورود الشبه بين المنافقين وبين من يقول لا إله إلا الله ويريد الاكتفاء بلفظها، وجه المشابهة قلنا إنه بالإجماع المنافق لم تُفده كلمة لا إله إلا الله، لم تفده في الظاهر أو في الباطن؟ الكلام معروف أنها لم تفده في الباطن، لكن هي لم تفده، ولو أفادته لنجى بها من النار، لكن لم تفده، كذلك من قالها ولم يعلم معناها فإنها لا تفيده من باب أولى؛ لأنه اشترك مع المنافق في القول، والمنافق زاد عليه في العلم، وذاك جهل فهذا قال لفظا ظاهرا وجهل المعنى، وذاك قال لفظا وعلم المعنى ومع ذلك في الدرك الأسفل من النار، لا يعني هذا أن ترتب جميع اللوازم على هذا التنظير من أن تقول أن هؤلاء مسلمون ظاهرا فهل نحكم لهؤلاء بالإسلام الظاهر إلى أشباه هذه الكلمة وإنما القصد أن نمثل للقول بالقول.
8/ ما معنى البراءة والكفر بما عُبد من دون الله؟
ذكرنا هذا.
9/ هل إجابة الله دعاء الحي من صاحب القبر من الاستدراج؟
لا، هو من الفتنة له.
10/ نسمع في كتب العقيدة كثيرا ما يُكررون قولهم هذه المسألة شرك أصغر لأنها اعتقاد السببية فيما لم يجعله الله سببا لا قدرا ولا شرعا كحال في التمائم والطيرة، فهل هذه الحالة مطردة؟
هذه مسألة طويلة والجواب عليها يحتاج على وقت، لكن تلخيصها أن في مسائل الشرك الأصغر نُرجع كثيرا ما يُحكم عليه بأنه شرك أصغر بالتعلق بالأسباب.
الأسباب منها شيء أذن الله جل وعلا به ومنها شيء لم يأذن الله به شرعا، هذا واحد.
(37/126)
والأسباب منها ما جعله الله جل وعلا كونا وقدرا في كونه وما جعل سنته عليه –الأشياء-، ما جعله يعطي المسبب؛ ينتج النتيجة ومنها ما جعله لا ينتج النتيجة التي يظنها الظان.
مثلا الماء سبب لإزالة العطش أليس كذلك؟ الماء الحلو، لكن الماء المالح لم يجعله الله سببا كونيا لإزالة العطش، وإنما جعل الله جل وعلا الماء العذب هو سبب إزالة العطش.
الماء والنار، الماء تطفئ النار، فإذا احتجت إلى إطفاء النار لا تأتي بنار أخرى وإنما تأتي بماء.
يعني جعل الله جل وعلا لكل شيء سببا، وجعل هذه الأسباب تُنتج المسبَّبات، فمن جعل شيئا من الأشياء سببا لشيء آخر لم يكن في الشرع سببا له، فهذا مشرك الشرك الأصغر، بمعنى في الشرع ليس هذا السبب جائزا أو لم يُجعل في الشرع التعلق بهذا السبب أو استعماله جائزا، فإنه يكون ذلك منه تعلق بسبب ليس بسبب شرعي، فيكون شركا أصغر مع ضميمة الشيء الثاني وهو أن يكون هذا السبب لا ينتج المسبب كونا؛ لأن الأسباب قد تكون تنتج المسببات قدَرا ولكنها ممنوعة شرعا مثل الشفاء أو الاستشفاء بالمحرمات يشرب الخمر فيتداوى بها، يسمع موسيقى فينتفع بها في الدواء، هذه أسباب كونية قد تكون تؤثر في إنتاج مسبَّباتها، لكنها شرعا ممنوعة.
فمن استعمل سببا كونيا في إنتاج المسبَّب -الذي هو النتيجة- فيما نعلمه كونا أنه ينتج هذا السبب، نقول هذا لا يجوز شرعا وليس بشرك.
ولكن من جعل سببا ليس بسبب كوني ولا شرعي وتعلق به فإنه يكون مشركا الشرك الأصغر .
نرجع في تلخيص هذا أن الأسباب منها ما ينتج المسبب، ومنها ما لا ينتجه، فإذا كان ينتج المسبب كونا يعني فيما تعارفه الناس فتنظر، هل أباحته الشريعة أم لم تبحه؟
فإن أباحته الشريعة فهذا جائز استعماله لأنه سبب شرعي وقدري هذا نوع.
إذا لم تجزه الشريعة فيكون سببا كونيا مثل التداوي بالمحرمات، ولكنه ليس بسبب شرعي فهذا نقول غير جائز.
(37/127)
والحالة الثالثة ما ليس بسبب لا شرعي ولا كوني فإن هذا يكون التعلق به شركا أصغر؛ مثل تعليق خيط، يعلق خيط ويتعلق قلبه به فيدفع عنه العين، ما علاقة خيط من حبال أو قطن ما علاقتها بدفع العين؟ هذا ليس في الكون ما يثبت السببية، وليس في الشرع أيضا ما يجعل هذا السبب مأذونا به، فيكون التعلق به شركا. كذلك التميمة، تميمة طلاسم أو تميمة بها أشياء أو تميمة وضع خرز أو تميمة وضع جلد أو إلى آخره، هل هذا السبب ينتج المسبب قدرا لا ينتجه، وهو غير مأذون به شرعا، فإذن اجتمع فيه أنه ليس بمأذون به شرعا وأنه لا ينتج المسبَّب قدرا فصار التعلق به شركا أصغر.
يوضحه التميمة من القرآن، تميمة من القرآن هل هي شرك؟ ليست بشرك مع أنها تميمة، لكن اختلف العلماء هل يجوز تعليق التميمة من القرآن أم لا؟ وبالاتفاق لا تسمى شركا لأنّ التعلق بالقرآن من جهة كونه شفاء سبب كوني وسبب شرعي -صحيح؟- التعلق بالقرآن، لكن تعليق القرآن وإن كان سببا كونيا لكنه ليس بسبب شرعي، فلهذا لا يصح أن يطلق على تعليق التمائم من القرآن أنها شرك، ولكن نقول الصحيح أنها لا تجوز، و...([23])
?????
[المتن]
إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?([24]) وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبَل الله من أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين:
الأولى الفرح فضل الله ورحمته كما قال تعالى ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58].
(37/128)
وأفادك أيضا الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يُخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظنّ المشركون، خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?[الأعراف:138].
فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
[الشرح]
بسم الله الحكيم، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لمجده، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
قال إمام الدعوة الإصلاحية السّلفية في هذه القرون المتأخرة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بعد أنْ ذكر أصولا ومحكمات في فهم التوحيد وفهم الشرك وما كان عليه أهل الجاهلية من الإشراك بالله جل وعلا وصفة ذلك الشرك وما يتصل بذلك، قال (إذا عرفتَ ما ذكرتُ لك معرفة قلب) يعني أنّ الذي سلف يحتاج إلى العلم، فالعلم منه ما يُعلم بإدراكٍ لأول وهلة ثم يترك، ومنه ما يُعرف معرفة قلب، فيكون مدركا ومستقرا في القلب ومعلوما بأدلته وبراهينه.
(37/129)
قوله هنا رحمه الله (إذا عرفتَ ما ذكرتُ لك معرفة قلب) المعرفة هي العلم في هذا الموضع يعني إذا علمت ما ذكرت لك علم قلبٍ، والعلم والمعرفة في ابن آدم متقاربان، أما في حق الله جل وعلا فإنما يوصف سبحانه وتعالى بالعلم دون المعرفة، والمعرفة في القرآن أكثر ما جاءت في سبيل التهجين لها وأنها لا تنفع؛ لأنها معرفة بالظاهر لا معرفة القلب، كما قال جل وعلا ? يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، وكما قال ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?([25]) فأتت المعرفة لا في مقام المدح في القرآن بل في مقام الذّم، وهذا لأجل أن المعرفة لا يتبعها العلم بالحق دائما والإذعان له والعمل به، وإنما قد تكون قائدة لذلك وقد لا تكون وهو الأغلب، وعامة العلماء على أن المعرفة والعلم في ابن آدم متقاربان؛ لكن يختلفان في أن المعرفة قد يسبقها؛ بل المعرفةُ يسبقها جهل بالشيء أو ضياع لمعالمه، فجهل ثم عرف أو ضاعت معالم الشيء عليه ثم اهتدى إليه وعرفه، كما قال جل وعلا في قصة يوسف ?فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ?[يوسف:58] هذا من جهة العلامات والصفات.
(37/130)
فإذن المعرفة والعلم بمعنى واحد، ولهذا جاء في حديث معاذ حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن أنّه قال عليه الصلاة والسلام «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أنْ يعرفوا الله، فإذا هم عرفوا الله فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة» في بعض ألفاظ ذلك الحديث، نعم المحفوظ فيه «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» لكن عُبّر عن ذلك تارة بالتوحيد وتارة بالمعرفة، وهذا يدل على أن المعنى عند التابعين الذين رووا بهذا وهذا متقارب، لهذا يستعمل العلماء كلمة المعرفة وكلمة العلم متقاربة، وهذا هو الذي درج عليه الشيخ رحمه الله تعالى هنا؛ لأنه مخاطب من ليس عنده ذلك التفريق الدقيق بين المعرفة والعلم.
قال (إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب) وهذا المقصود به علم القلب؛ لأن المعرفة معرفة اللسان أو معرفة الظاهر قد لا تقود للإذعان للحق، لكن معرفة القلب معها الاستسلام لذلك الحق.
قال (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?([26])) هذه المعرفة الثانية عرفت الشرك من حيث دلالته وصفته وحكمه وما كان عليه المشركون في إشراكهم بالله جل وعلا، فإذن هذا النوع الثاني من المقدمات، والشيخ رحمه الله في هذا الكلام يقدم بمقدمات للنتيجة التي يصل إليها وهي قوله بعد ذلك (أفادك فائدتين)، قال (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?) الشرك اتخاذ الشريك، واتخاذ الشريك قد يكون على جهة التنديد الأعظم، وقد يكون على جهة التنديد الأصغر، حقيقة الشرك أن يُتخذ النّدّ مع الله جل وعلا واتخاذ الند مع الله قسمان:
(37/131)
إتخاذ للند فيما يستحقه الله جل وعلا على العبد من توحيده بالعبادة، وهذا التنديد هو الشرك الأكبر، كما جاء في حديث ابن مسعود حين سأله أي الذنب أعظم؟ قال عليه الصلاة والسلام «أن تجعل لله ندا وهو خلقك»، وكما قال جل وعلا ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22] ونحو ذلك.
وهناك تنديد أقل يعني أن يجعل للمخلوق شيء من الندية ولكن لا تصل إلى صرف العبادة لغير الله، وهذا من جهة التعلق ببعض الأسباب التي لم يأذن الله جل وعلا بها، أو تعظيم بعض الأشياء تعظيم الذي لا يوصل إلى ما يناسب مقام الربوبية مثل الحلف بغير الله، ومثل قول لولا الله وفلان وأشباه ذلك.
فإذن الشرك هو التنديد، وهو اتخاذ الشريك مع الله جل وعلا، والتنديد قسمان:
¨ تنديد أعظم: وهو أن يجعل ما هو محض حق الله جل وعلا للمخلوق.
¨ وتنديد أصغر: وهو أن يجعل للمخلوق شيئا مما يجب أن يكون لله، لكن لا يبلغ أن يصل إلى درجة الشرك الأكبر.
ولهذا اختلف العلماء في تعريف الشرك الأصغر وفي ضابط الشرك الأصغر ما هو، كما سبق أن مرّ معكم في كتاب التوحيد:و
منهم من قال الشرك الأصغر هو ما دون الشرك الأكبر مما لم يوصف بالنصوص بأنه مخرج من الملة أو أنه فيه صرف العبادة لغير الله جل جلاله.
وقال آخرون الشرك الأصغر هو كل وسيلة إلى الشرك الأكبر.
والثاني ينضبط في أشياء ولا ينضبط في أشياء أخر.
(37/132)
فمدار ضابط الشرك الأصغر على أشياء ورد النص بتسميتها شركا أو أن حقيقتها تشريك ولا تبلغ التنديد الأعظم في صرف العبادة لغير الله جل جلاله، فقوله جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?، ظاهر في التحذير والتخوف من الشرك لأن الشرك لا يغفر (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) وأما الذنوب فهي على رجاء الغفران كما قال هنا جل وعلا ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وكما قال جل وعلا ?قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا?[الزمر:53]، أجمع العلماء على قوله (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) نزلت في حق من تاب، فإذن قوله جل وعلا (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) في حق من مات على غير التوبة مصرا على معصية فهو على رجاء الغفران تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه بذنبه، وأما من تاب فإنه لا يدخل تحت المشيئة لقوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) ولقوله جل وعلا ?وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى?[طه:82]، في آيات كثيرة في هذا المقام.
(37/133)
وهاهنا في هذه الآية بحث وهو أن قوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فيه النكرة في سياق النفي، ومن المتقرر في الأصول؛ أصول الفقه وفي علم العربية أن النكرة في سياق النفي تعم، وهنا وقعت النكرة في سياق النفي، والنكرة هي المصدر المنسبك من (أنْ) والفعل المضارع يشرك؛ لأن معنى الكلام إن الله لا يغفر شركا به والمصدر نكرة، وهذا يعني العموم؛ عموم الشرك، فيكون المراد هنا أن الله جل وعلا لا يغفر أي نوع من أنواع الشرك، فالشرك على هذا لا يدخل تحت الغفران سواء أكان أكبر أم كان أصغر أم كان في شرك الألفاظ وأشباه ذلك، بل إنما يقع فيه من الموازنة بين الحسنات والسيئات، وإما يؤخذ العبد به فيعذب عليه، وهذا اختيار جمع من المحققين منهم شيخ الإسلام بن تيمية، ومنهم أكثر أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، بناء على القاعدة الشرعية على ذلك.
قال آخرون من أهل العلم إن قوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) هو عام لأن أن يشرك نكرة أتت في سياق النفي فهي دالة على العموم، لكن العموم تارة يراد به الخصوص لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة:
¨ مراتب عموم باق على عمومه.
¨ وعموم مخصوص.
¨ وعموم مراد به الخصوص.
(37/134)
فيكون اللفظ عاما ولكن المراد به شيء خاص، كما في قوله جل وعلا ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام:82]، فهنا قوله (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) هذه نكرة أيضا في سياق النفي بـ(لم) وهذه تدل على عموم الظلم، ولهذا فهم الصحابة ذلك فقالوا: يا رسول الله أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال «ليس الذي تذهبون إليه فإنما الظلم الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?[لقمان:13]»، فأفهمهم عليه الصلاة والسلام أنّ المراد هنا بالظلم خصوص الشرك، فإذن يكون اللفظ عاما ولكن المراد به خصوص الشرك، وهذا ما يسميه الأصوليون عموم مراد به الخصوص، ففي هذه الآية قال طائفة من أهل العلم اللفظ عام ولكن المراد به خصوص الشرك الأكبر؛ لأنه هو الذي نعلم من النصوص أنه لا يُغفر وأنّ صاحبه متوعد بالنار كما قال جل وعلا مثلاً في سورة الحج إنه ?وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ?[الحج:31]، وكما قال جل وعلا في سورة المائدة ?وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72]، قوله في سورة المائدة (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (مَنْ) هذه شرطية و(يُشْرِكْ) فعل فيه الحدث فيه المصدر وهي نكرة هذا يدل على العموم، لكن لما رتب الأثر وهو أن الله حرم عليه الجنة ومأواه النار علمنا أن المراد خصوص الشرك الأكبر، فقالوا هذه الآية مثل تلك.
(37/135)
قال الأولون هذه الآية فيها عدم المغفرة وعدم المغفرة لا يستلزم الخلود في النار، وهذا غير الآيات التي فيها الخلود في النار، فتلك الآيات دالة على أن المراد بالشرك الخصوص؛ خصوص الشرك الأكبر لأن السياق يقتضيه، وأما هذه فلا دليل عليها.
وعلى العموم كما ذكرنا القول الأول هو قول الأكثرين، وعليه يتم الاستدلال هنا، وهو أن من عرف من الشرك الأكبر والأصغر في قول الأكثرين من أهل العلم لا يدخل تحت المغفرة أفاده الخوف من الشرك بالله جل وعلا؛ لأنه ليس ثَم شركا على هذا القول يدخل تحت المغفرة، بل إن الله جل جلاله لا بد أن يؤاخذ بالشرك، فإنْ كان شركا أكبر فالخوف عظيم منه فلا بد من معرفته ومعرفة وسائله ومعرفة أفراده حتى يحذره العبد، وإن كان شركا أصغر فلا بد أيضا من معرفته ومعرفة أفراده ومعرفة وسائله حتى يحذره العبد؛ لأن الجميع لا يدخل تحت المغفرة.
فإذن قول الشيخ رحمه الله تعالى هنا (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?) يريد منه وضوح صورة الشركن ثم الخوف من الشرك، وأثر ذلك الخوف وهو أن يسعى العبد في تعلم التوحيد وتعلم ضده الذي هو الشرك الأكبر والأصغر حتى لا يخاطر بدينه وبنفسه وبمستقبله في الآخرة لأشياء يتساهل فيها في هذه الدار الفانية.
هذه النقطة الثانية التي تكلم عليها الشيخ.
(37/136)
الثالثة من المقدمات قال (وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه) دين الله الذي أرسل به الرسل هو الإسلام، الإسلام المراد به هنا الإسلام العام الذي يشترك في الدعوة إليه كل رسول، فكل رسول أتى بالإسلام العام، وأما محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فأتى بالإسلام العام والإسلام الخاص الذي هو شريعة الإسلام، والرسل من قبل مسلمون وأتباع محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام مسلمون، وإسلام من قبلنا دخول بالإسلام العام، وأما إسلام هذه الأمة فهو إسلام من جهة العقيدة ومن جهة الشريعة.
وما هو الإسلام العام؟ الإسلام العام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
هذا التعريف للإسلام دعا إليه الرسل جميعا، أن يُستسلم لله بالتوحيد وأن يُنقاد له بالطاعة والطاعة هنا بحسبها طاعة لكل رسول جاء كل أمة بحسب الرسول الذي جاءها والبراءة من الشرك وأهله.
فإذن هذا الأصل هو الدين عند الله جل وعلا الذي قال الله فيه ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، وبقوله ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]، قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كل مخاطب بالإسلام الذي بعث به الرسول الذي أرسل إلى تلك الطائفة، وبعد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام لا يُقبل من أحد لا الإسلام الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام.
فإذن دين الله الذي أرسل به الرسل مشتمل تحقيق التوحيد لله وخلع الأنداد والكفر بالطاغوت، كما قال جل وعلا في سورة النحل ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وقال ?وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ?[فاطر:24] ونحو ذلك من الآيات.
(37/137)
فإذن العلم بدين الرسل هذا مهم للغاية، وتعلم دين نوح عليه السلام، وتعلم دين إبراهيم عليه السلام، وما خالف به نوح قومه وما خالف به إبراهيم قومه، وكذلك دين موسى عليه السلام ودين عيسى وما خالفوا به أقوامهم، وكذلك الدين الذي بُعث به سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام وما خالف به أقوامهم.
إذا عرفت حقيقة دين المرسلين فإنه يسهل عليك أن تعرف ما عليه الناس في الأزمان التي غلب فيها الجهل.
قال –هذه الأخيرة؛ الرابعة من المقدمات- (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين) التوحيد ترْكه ممن تركه راجع إلى أحد شيئين أو هما معا في بعض الأحوال:
¨ الأول: الجهل به.
¨ والثاني: العناد.
والجهل قد يكون لعدم وجود من ينبه وقد يكون للإعراض عن البحث فيه.
والعناد والاستكبار هذا يكون مع العلم وإقامة الحجة.
وكل من الأمرين مُكَفِّر؛ فمن لم يأتِ بالتوحيد عن إعراض منه وجهل فهو كافر، ومن لم يأتِ بالتوحيد ويترك الشرك بالله جل وعلا عن عناد واستكبار فهو كافر، لهذا قال العلماء الكفر كفران:
1. كفر إباء واستكبار كقوله جل وعلا ?إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ?[البقرة:34].
2. والنوع الثاني الإعراض كما قال جل وعلا ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24].
فليس كل من كفر كَفر عن عناد واستكبار، بل قد يكون كُفره عن الإعراض، ولهذا جاء في أواخر نواقض الإسلام التي كتبها إمام الدعوة رحمه الله؛ الناقض العاشر الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به. لا يهمه أن يعلم التوحيد ولا يهمه أن يعرف الشرك ولا يهمه هذه المسائل، يُعرض عن دين الله أصلا.
(37/138)
وإذا تقرر ذلك فهنا ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بذلك، هذا من جهة الحكم على الواقع ذاك الذي تكلمنا عليه من جهة التأصيل؛ أنّ الكفر قد يكون من جهة الإعراض والجهل، وقد يكون من جهة الإباء والاستكبار، ومن جهة الواقع يعني الحكم على الناس فإن المتلبس بالشرك يُقال له مشرك سواءً أكان عالما أم كان جاهلا، والحكم عليه بالكفر يتنوع:
فإن أُقيمت عليه الحجة؛ الحجة الرسالية من خبير بها ليزيل عنه الشبهة وليُفهمه بحدود ما أنزل الله على رسوله التوحيد وبيان الشرك فترك ذلك مع إقامة الحجة عليه فإنه يعد كافرا ظاهرا وباطنا.
وأما المعرض فهنا يعمل في الظاهر معاملة الكافر، وأما باطنه فإنه لا نحكم عليه بالكفر الباطن إلا بعد قيام الحجة عليه؛ لأنه من المتقرر عند العلماء أن من تلبس بالزنا فهو زان، وقد يؤاخذ وقد لا يؤاخذ، إذا كان عالما بحرمة الزنا فزنى فهو مؤاخذ، وإذا كان أسلم للتو وزنى غير عالم أنه محرم فالاسم باق عليه؛ لكن –يعني اسم الزنا باق أنه زانٍ واسم الزنا عليه باق- لكن لا يؤاخذ بذلك لعدم علمه.
وهذا هو الجمع بين ما ورد في هذا الباب من أقوال مختلفة.
فإذن يفرق في هذا الباب بين الكفر الظاهر والباطن، والأصل أنه لا يُكَفَّر أحد إلا بعد قيام الحجة عليه لقول الله جل وعلا ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، والعذاب هنا إنما يكون بعد إقامة الحجة على العبد في الدنيا أو في الآخرة، قد يُعامل معاملة الكافر استبراء للدين وحفظا له، من جهة الاستغفار له، ومن جهة عدم التضحية له، وألاّ يزوج وأشباه ذلك من الأحكام.
(37/139)
فإذن كلام أئمة الدعوة في هذه المسألة فيه تفصيل ما بين الكفر الظاهر والكفر الباطن، ومن جهة التطبيق في الواقع يفرقون، فإذا أتى للتأصيل قالوا هو كفر سواء أكان كفره عن إعراض وجهل أو كان كفره عن إباء واستكبار، وإذا أتى للتطبيق على المعين أطلقوا على من أقيمت عليه الحجة الرّسالية البينة الواضحة أطلقوا عليه الكفر، وأما من لم تقم عليه الحجة فتارة لا يطلقون عليه الكفر كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في موضع: وإن كنا لا نكفر من عند قبة الكوّاز وقبة البدوي لأجل عدم وجود من ينبههم. الشيخ ما كفر أهل [الجبيلة] ونحوهم ممن عندهم بعض الأوثان في أول الأمر لأجل عدم بلوغ الحجة الكافية لهم، وقد يطلق بعضهم على هؤلاء الكفر ويراد به أن يعاملوا معاملة أهل الكفر حرزا ومحافظة لأمر الشريعة والإتباع، حتى لا يستغفر لمشرك، وحتى لا يضحي عن مشرك، أو أن يتولى مشركا ونحو ذلك من الأحكام.
فإذن نخلص من ذلك (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا ) أنّ هذا الجهل بالتوحيد مذموم غاية الذم، سواء أطلقنا عليه حكم الكفر ونعني به الظاهر، لا الكفر الكامل الذي هو ردة مخرج من الدين أصلا، وإنما الكفر الظاهر الذي تترتب عليه الأحكام الظاهرة في الدنيا، أو قلنا أنه في هذا أتى بخطر عظيم في جهله بالتوحيد، فهذا ينبئك عن أن غالب الناس اليوم كما قال الله جل وعلا ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106]، وكما قال بل أكثرهم ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]، فالحق بين وواضح وجلي من أراده أدركه ولكن سبب علمهم بالحق ليس هو خفاء الحق في نفسه ولكن سببه إعراض من أعرض، قال( بل أكثرهم لا يعلمون الحق) لم؟ هل لأدل أن الحق خافٍ أو يحتاج إلى معلومات خاصة بل السبب أنهم معرضون، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ذلك سبب عدم علمهم بالحق الإعراض.
(37/140)
فهذا الإعراض عن الدين والإعراض عن التوحيد وعدم تعلم التوحيد والجهل به، هذا قد تجده في أناس من الخاصة، وقد تجده في دعاة وقد تجده في بعض طلبة العلم، فمن أنعم الله جل وعلا عليه بمعرفة التوحيد ومعرفة ضده ومعرفة أنواع التوحيد وبيان ذلك والأدلة عليه، وعرفتَ ما أصبح غالب الناس فيه، بل أكثر وأكثر الناس فيه من الجهل بالتوحيد حتى وإن زعموا أنهم من أهله (أفادك فائدتين الأولى الفرح فضل الله ورحمته) فإنه لا شيء يعدل العلم بالتوحيد والعلم بضده والاستجابة لأمر الله بالتوحيد والاستجابة لنهي الله جل ولا عن الشرك ووسائله، فإن العلم بذلك هو أصل الاعتقاد، والعمل بذلك هو أصل الملة فأصل بعثة الأنبياء والمرسلين وزبدة الرسالات الإلهية، فمن رأى ما من الله به عليه من الإقبال على هذا العلم وفهمه وفهم حدوده وفهم أدلته وكلام أهل العلم فيه أفاده هذه الفائدة العظمى ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58]، ولهذا الفرح (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) يعني بالدين وبالتوحيد وبتعلمه وبالإقبال عليه، هذا خير من كل ما يغشاه الناس من أمور الدنيا ومن الأمور التي يظنون أنها فاضلة لأمور الدين كالاهتمام بالعلوم المختلفة أو الاهتمام بأشياء متنوعة، فأصل الملة أن تعلم التوحيد وتتعلمه، لهذا خاف إبراهيم على نفسه من عبادة الأصنام فدعا ربه بقوله ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ?[إبراهيم:35] خاف على نفسه وخاف على بنيه، قال إبراهيم التيمي رحمه الله: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. لهذا بوب الشيخ في كتاب التوحيد باب الخوف.
(37/141)
فهنا إذا عرفت المقدمات الأربع، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا التوحيد والجهل بالشرك وعدم إعارة ذلك أو الاهتمام بذلك الاهتمام الواجب الذي يليق به لعظم مسألة التوحيد، أفادك فائدتين الأولى الفرح بفضل الله ورحمته، والحق أننا إذا تدبرنا ذلك فإننا نرى أنه لا شيء لنا، وإنما هو فضل الله جل جلاله، فالله ساق لنا هذا الفضل ويسر لنا ذلك بفضله وبرحمته، ثم نفرح بفضل الله وبرحمته كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
واجعل في قلبك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربُّك كنت أيضا مثلهم القلب بين أصابع الرحمن
إذا عرفت هذا الفضل وهذه الرحمة التي غشيت بها ومن الله عليك بها فلا تتركنها إلى غيرها حتى يأتينك اليقين؛ لأن هذه أعظم نعمة تنعم بها على العبد أن يكون عالما بالتوحيد عالما بالرسل مخالفا لأهل الجهل والجهالة.
(37/142)
قال (أفادك فائدتين الأولى الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58])، وفضل الله ورحمته الدّين والقرآن وفقه الدين وفقه القرآن والتوحيد والإسلام ونحو ذلك، ولهذا روى ابن أبي حاتم وغيره عن عمر رضي الله عنه أنه دعا غلامه يوما إلى أن يخرج إلى إبل الصدقة الزكاة جُمعت له خارج المدينة فلما ذهب إليها اهتال غلامه من كثرتها فقال لعمر فقال لأمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين هذا فضل الله ورحمته. فغضب عمر وقال: كذبت ولكن فضل الله ورحمته القرآن، قال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) -يعني القرآن في نزوله وتشريعه وما حبى الله هذه الأمة به- (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فإن كان ثم فرح فليفرح المرء بهداية الله جل وعلا له بالالتزام بدين الله وبمعرفة التوحيد والعلم به وما يتصل بذلك وهذا هو الفضل، وبه تعلم أن المحروم من حرم وأكثر الخلق حرموا هذا الفضل العظيم.
ثم الفائدة الثانية قال (وأفادك أيضا الخوف العظيم فإنك إذا عرفت...) إلى آخره، والخوف العظيم ملازم لن الشيطان أضل الأكثرين، فتفرح بفضل الله وبرحمته وتخاف:
فالفرح بفضل الله وبرحمته يعني بمعرفة التوحيد والعلم به ومعرفة الشرك ووسائله والابتعاد عن ذلك والدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النهي عن الشرك إجمالا وتفصيلا، هذا الفرح بفضل الله وبرحمته يفيد الثبات على ذلك، فكلما استحضرت الفرح هذا وكنت فرحا به كنت مستمسكا به.
(37/143)
ثم الخوف أو الفائدة الثانية يجعلك لا تلتفت عنه يمينا ولا شمالا، فكلما التفت كلما رجعت لأجل شدة الخوف، مستحضرا خوف إبراهيم وخوف عباد الله الصالحين، والخوف من الشرك لأجل ألا يقع العبد فيه، وأنتَ ترى اليوم أن أهل هذه البلاد مثلا مع ما هم عليه من أثر هذه الدعوة الإصلاحية العظيمة التي قربتهم إلى الله جل جلاله بالتوحيد وبالبعد عن الشرك ووسائله، لكن لأجل عدم الخوف من الشرك وقعوا في شركيات؛ من شركيات الألفاظ وبعضها من الشرك الأصغر وبعضها قد يكون من الشرك الأكبر في حق بعض الناس.
وهذا ونسأل من الله جل وعلا السلامة والعافية لأجل عدم الخوف من الشرك، فيكثر عند الناس أن يقولون نحن على الفطرة، والناس في هذا البلد أهل فطرة يستمرون أهل الفطرة إلى متى؟ الأجيال التي بعد آدم التي بعد آدم عليه السلام كانوا على الفطرة ثم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
إذن ما أمن أحد على دينه وهو عالم بحقيقة عداوة الشيطان، بل لا يأمن إلا من يخاف، من يستحضر الخوف دائما يحذر ويحذر ويستحذر الحذر فإذا غابت عنه مسائل التوحيد راجع وتأكد، وهكذا إذا تفهم وحفظ وراجع ودعا حتى يثبت وحتى يستقيم له دينه.
(37/144)
قال (وأفادك أيضا الخوف العظيم، فإنك إذا عرفتَ أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) يُشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى ما جاء بالحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام «وإنّ الرّجل ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا» فقول الشيخ رحمه الله (يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) من جهة أنه لا يلقي لها بالا؛ لأنه لا يعلم أنها مكفرة فقوله عليه الصلاة والسلام لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا يعلم أنه منهي عنها لكن لا يلقي لها بالا من شدة الخوف منها، لهذا قال (فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه) بكلمة يحصل الكفر، سواء كان معتقدا لها؛ يعني لما دلت عليه، أو كان قوله لهذه الكلمة من الكفر بالله ناتج عن الإعراض عن دين الله وهو متمكن من معرفته.
فإذن الإعراض لا يُعذر به العبد إذا كان إعراضا مع التمكن من المعرفة؛ عنده أهل العلم يمكنه أن يسألهم، عنده أهل الديانة يستطيع أن يبحث عن الحق، ثم هو لا يبحث عن ذلك، فهذا يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام (لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا) .
قال (وقد يقولها وهو جاهل فلا يُعذر بالجهل) لأنه أعرض مع تمكّنه من المعرفة، أعرض مع قرب الحجة منه، فجهله لا بسبب خفاء الحق أو بسبب وجود من ينبهه وإنما جهله بها لأجل الإعراض.
فإذن هنا نلحظ التفريق في الجهل ما بين الجهل الذي سببه عدم وجود من ينبه بالحق، والجهل الذي سببه الإعراض.
¨ فالجهل الذي سببه الإعراض مع وجود من ينبه هذا لا يعذر به العبد.
¨ وأما الجهل الذي يكون لأجل عدم وجود من ينبه فإنه يعذر به حكما في الآخرة حتى يأتي من يقيم عليه الحجة، ولا يعذر به في أحكام الدنيا، فهو على كل حال متوعد هذا التوعد العظيم.
(37/145)
إذا كان الإنسان قد يعوي في النار سبعين خريفا يعني يكون في قعرها، هذا يعني أنه فارق نار الموحدين بكلمة يقولها، هذا من خاف هذا الشيء يلزمه أن يتعلم أسباب الرّدة وأسباب الكفر والكلمات التي قد يكفر بها وهو لا يشعر بذلك، وهذا مضبوط بضوابطه الشرعية، فإنه ليس كل من قال كلمة الكفر كفر، ولهذا الشيخ قال هنا (إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) قد يقول ذلك (وهو جاهل فيعذر بالجهل) يعني في بعض أحواله (وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظن المشركون) المشرك في أي زمان ومكان ما أشرك محادّة لله ولرسله قصدا في المحادّة وإنما حصلت المحادّة نتيجة لشركه، فهو إن أشرك محادّ، ولكن إذا قلت للوثني المشرك الجاهل أنت مبغض لله كاره لله جل وعلا محادّ لله يقول لا؛ لأنه يقول أنا ما فعلت هذه الأفعال إلا بقصد التقرب إلى الله حتى يرتفع مقامي عند الله.
فإذن لا يتصور في المشرك أنه أشرك للبعد عن الله بل أشرك ليتقرب إلى الله، كما قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3].
(37/146)
قال رحمه الله بعد ذلك (خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?[الأعراف:138]) قوم موسى مروا على قوم يعبدون آلهة ويعبدون معبودات، فنظروا إلى ذلك فظنوا أنه محمود؛ لأنه مخالف لدين فرعون فقالوا لموسى ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[الأعراف:138-139]، وفي حديث أبي واصب المعروف أنه قال: مررنا ونحن حدثاء عهد بكفر بسدرة([27]) وكان للمشركين سدرة ينوطون بها أسلحتهم فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي عليه الصلاة والسلام «الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ».
قال العلماء أصحاب موسى لم يكفروا وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام الذين كانوا حدثاء عهد بكفر لم يكفروا بتلك الكلمة، ولكن لو تبعها عمل لكفروا؛ لأنهم طلبوا شيئا عن جهل فلما بُيِّن لهم انتهوا.
وهذا يفيد -يعني قصة قوم موسى وقصة ذات أنواط- تفيد أنّ الموحد قد يخفى عليه بعض أفراد التوحيد، وهذا يفيده الخوف؛ لأن قوم موسى وهم خاصّة أصحاب موسى منهم من قال تلك الكلمة، وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ممن أسلم حديثا منهم من قال تلك الكلمة، مع أنهم يعلمون معنى لا إله إلا الله ويعلمون ما يدخل تحتها من الأفراد، لكن جهلوا بعض الأفراد، هذا يفيد أن من دونهم لا بد أن يخاف الخوف الشديد؛ لأن جهله ببعض الأفراد أولى من جهل أولئك، فإن أنعم الله عليه بمنبِّه له بعد الكلام يحجزه عن العمل وينبهه، فهذا من نعمة الله عليه وإن لم يجد بل قال ذلك الكلام واتخذ إلها مع الله فإنه يكون قد ناقض بفعله توحيده.
(37/147)
قال (فحينئذ يعظم حرصُكَ وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله) وهذا لاشك أن يوجب الخوف الشديد.
إذن هذا المقطع من كلام الإمام رحمه الله تعالى فيه تهيئة نفس الموحد لكشف الشبهات التي يأتي بيانها، فهيأ نفسه لبيان حال المشركين الذين أشركوا من أقوام كل رسول، وبيّن ديانة كل رسول، بيّن معنى التوحيد ومعنى ضده، وبيّن أن أكثر الناس مخالفون للتوحيد معرضون عنه جهال به، وبيّن أن هذه المقدمات تفيدك أولا الفرح والثاني الخوف، وهذا تهيئة لنفسيتك حين تتلقى كشف تلك الشبه، فكشف الشبه إذن الذي سيأتي يكون مع فرحك بالتوحيد وخوفك من الشرك، وهذا يقيم حاجزا قويا نفسيا من أن تتلقى الشبهة تلقيا عقليا بحتا، كما عليه علماء الكلام وأشباههم دون وضعٍ تعبدي نفسي من الوجل والخوف والفرح والرضا، ثم أنْ تكون حين تعرض لك جواب الشبه يكون في نفس الفرح بفضل الله بالتوحيد والفرح بفضل الله جل وعلا ورحمته أن كُشفت لك الشبه.
فإذن الشبه مَزَلَّة أقدام من جهة عرضها ومن جهة كشفها، فلابد لها من قاعدة تقوم عليها نفس الموحد، وهذه القاعدة هي التي قدمها الشيخ رحمه الله فأول الكلام قواعد علمية، والآن هذا الفرح والخوف قواعد نفسية حتى تكون فيما تستقبل من عرض الشبه ونقدها وكشفها، تكون ما بين قواعد علمية محكمات لا تزول بعدها، وما بين تحسينات نفسية لا تتأثر بالشبه مهما جاءت، فإذا جاءت الشبهة صار عنك خوف من ضد التوحيد وفرح لما أنت عليه من التوحيد، وهذا يجعلك في قوة وتحصن وأمان بفضل الله وبرحمته.
(37/148)
الحمد لله جل جلاله على ما أنعم به علينا من نعمة التوحيد ودراسته وتعلمه ونبذ الشرك والبراءة منه وبُغض الشرك وبغض أهله ومعاداة أولئك والتبرِّئ منهم قولا وعملا واعتقادا، ونسأله جل وعلا بكل اسم له حسن وبصفاته العلا أن يديم علينا هذا الفضل وهذه الرحمة، وأن يجعلنا فرحين بذلك خائفين من ضده ما حيينا، نسأله جل وعلا أن لا يزيغ قلوبنا إذ هدانا، وأن ينعم علينا ويتم نعمه ذلك بأن يتوفانا وهو راض عنا غير مغيرين ولا مبدلين، نعوذ بك اللهم من كل فتنة، نعوذ بك اللهم من كل فتنة تصدنا عن هذا الأمر الجلل في التوحيد ودعوة الأنبياء والمرسلين.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[الأسئلة] نأخذ بعض الأسئلة.
بالمناسبة في مواقف السيارات، أهل المسجد يودون من الإخوة أن يقفوا في المواقف الشرقية أو في الجنوبية في هذه الجهة؛ لأن الوقوف في الجهات الضيقة قد تضيق على من يريد أن يخرج من بيته ونحو ذلك من بعض الإخوة.
هنا فيه سيارتين تضيق على أصحابها تقول سيارة [...] رقمها مائتين وخمسة، صفر ثلاثة وخمسين و[...] سبعمائة وعشرين أربعة وخمسين سبعة وتسعين استحضر دائما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا ضرر ولا ضرار» لا تضر إخوانك، قد يكون أحدهم عنده موعد يريد أن يستفيد بعض الوقت من العمل ثم يذهب إلى موعد مهم له إما لمستشفى أو ضروري بمصالحه أو لأهله أو نحو ذلك، فلا تفترض أن الذي يحضر يحضر كل الفترة، وأنهم جميعا سيخرجون خروجا واحدا، لا تفترض هذا، بل استحضر أن منهم من سيخرج مبكرا منهم من عنده كذا ولا يفترض أن الذي سيحضر يتخلص من كل المشاغل، يحضر نصف ساعة يستفيد بعض الشيء ثم أذهب إلى بعض الأعمال فيعين بعضكم بعضا على أمر دينه ودنياه.
1/ هل صفة العلو ذاتية أم فعلية ؟
صفة علو الله جل وعلا ذاتية، هو جل وعلا لم يزل عاليا على خلقه سبحانه وتعالى، له علو الذات وعلو الصفات.
(37/149)
2/ نسأل الله بكل اسم له حسن، فهل هناك لله بعض الأسماء السيئة؟
أعوذ بالله، أعوذ بالله، فأسماء الله جل وعلا حسنى حسنة، والشر ليس إلى الله جل وعلا لا في ذاته ولا في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله؛ يعني لو قال الداعي أسألك اللهم بأسمائك الحسنى هل يفهم منه أنه ثم أسماء غير حسنى؟ لا يفهم ذلك.
3/ هذا السؤال فيه طول بعض الشيء نقل قول بعضهم.
الكفر الظاهر والباطن هو الذي ذكرت لكم تفصيله، وأما الجاهل قد يكفر قد يكون جهله عن إعراض مع وجود من ينبه، مثل مثلا واحد في هذه البلاد يجهل التوحيد ويعمل الشرك مع قيام الحجة وقيام الدعوة ووكل يبلغ ومن يبلغون هم موجودون في المجلات وفي الصحف وفي مناهج التعليم وفي كلماتهم وفي الإذاعة إلى آخره، فهذا من أعرض من قيام تمكنه، مع تمكنه من السؤال وطلب الحق هذا لا شك أنه لا يعذر بجهله في هذه المسألة؛ لأنّ جهله لا بسبب عدم وجود من ينبهه، ولكن بسبب إعراضه أصلا عن هذا الأمر، لأنه هناك من ينبهه.
أما إذا جهل لأجل أنه لم يأتِ من ينبهه هو الذي ذكرنا لكم قول الشيخ رحمه الله فيه وإن كنا لا نكفر من عند قبة الكوّاز لأجل عدم وجود من ينبههم، والكفر إنما قلنا كفر ظاهر وباطن تبع لقول بعض أئمة الدعوة كالشيخ ابن معمر وغيره، وهو ظاهر كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض المواضع، وتفصيل هذه المسألة يأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الإباء والإعراض وأشباه ذلك.
4/ هل هناك فرق بين المشرك والكافر؟
نعم، الكافر قد يكون كافرا بلا شرك؛ يكون كافرا بلا شرك، يكون كافر بلا شرك، مثل من ارتكب شيئا من الأمور التي يرتد بها غير الشرك فإنه يكون كافرا وإن لم يحصل منه شرك فالشرك تشريك في العبادة، والكفر قد يكون ببعض ما يحكم عليه بالكفر والردة لكن ليس ثم تشريك.
إذن إذا راجعت باب حكم المرتد في كتب أهل العلم لوجدت أنّ من أحوال الردة الشرك قد يكفر بغير ذلك.
(37/150)
5/ هذا ينبه على أن الشيخ محمد العثيمين حفظه الله قد نقل اللقاء اليومي والدرس اليومي من مسجد علي بن المديني إلى جامع ذي النورين.... اعتبارا من غد يوم الأحد
?????
[المتن]
واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال الله تعالى ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ?[الأنعام:112]، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال الله تعالى ?فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ ?[غافر:83].
(37/151)
إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل ?لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ?[الأعراف:16-17]، ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن?إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا?[النساء:76]، والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال الله تعالى ?وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:173] فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى ?وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا?[الفرقان:33]، قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو ولي من تولاه، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(37/152)
اللهم إنا نسألك عما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا، اللهم أعِنا على الحق، اللهم أعنا على الحق، اللهم أعنا على الحق، اللهم لا تجعلنا إلى الباطل سبيلا، نعوذ بك من الحور بعد الكور، نعوذ بك من الضلال بعد الهداية، نعوذ بك أن نضل أو نضل أو نزل أو نزل أو نجهل أو يجهل علينا.
قال الإمام رحمه الله تعالى في مقدماته العظيمة في الفائدة بين يدي كشف شبهات المشركين التي لبَّسوا بها أهل عقول الجهلة في توحيد الله جل جلاله وما يستحقه سبحانه وتعالى من إفراده بالعبادة وحده دونما سواه وأن يكون الأمر كله له وأن يكون الحكم كله لله جل وعلا فيما يختص بالشرعيات وفيما يختص بما يعمله المكلف.
فالحكم جميعا لله جل وعلا، فالواجب على العبد أن يجعل الفيصل فيما يطلبه وفيما يريد الصواب فيه أن يجعل الفيصل كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه ?إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[يوسف:40]، فكما أنه سبحانه الحكم بأمره في ملكوته، كذلك هو الحكم فيما يختلف الناس فيه وفيما يطلبون العلم فيه والصواب والحق فيه في الشرعيات والعمليات.
(37/153)
قال رحمه الله بعد أن ذكر المقدمات التي سلفت (واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال تعالى ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ?[الأنعام:112]) قد يأتي الشيطانُ للعبد بشبهة أن التوحيد والدين إذا كان من عند الله حقا وإذا كان ذلك فيه مرضاة الله جل وعلا والله ينصر أولياءه ويعز أولياءه ويخذل أعداءه فالمفترض أن يكون –يعني في إيقاع الشيطان في النفوس- أن يكون أهل التوحيد هم الغالبين، وأن يكون الرسل ليس لهم أعداء لأنهم من عند الله جل وعلا، وهذا الظّن قد ظنه طائفة من المشركين فرغبوا في إنزال ملك حتى يُتفق عليه، ورغبوا في أن يكون للنبي كذا وكذا من الأشياء التي يكون معها الاتفاق وعدم المعاداة له وعدم الجحود ما جاء به، كما قال جل وعلا ?وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا?[الإسراء:90] الآيات في سورة الإسراء، وكذلك الآيات في سورة الفرقان ?وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا(8)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا?[الفرقان:9]، فمن حكمة الله جل جلاله أنه بعث الرسل وجعل لكل رسول أعداء، وأعداء الرسل من الإنس والجن؛ لأن بَعثة الرسل للإنس أقوامهم وللجن الذين يسمعون حديثهم، إلاّ محمدا عليه الصلاة والسلام فإن بعثته للعالمين جميعا للإنس كافة وللجن كافة، فلكل رسول أعداء وهؤلاء الأعداء جعلهم الله جل وعلا
(37/154)
أعداء لحكمة؛ لأن أمر التوحيد عظيم، فلهذا قال سبحانه (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ)، وقال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا?[الفرقان:31]، فحكمة الله جل وعلا اقتضت أنْ يجعل لكل نبي أعداء، وهكذا لكل أتباع الرسل والأنبياء جعل لهم أعداء؛ لأن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن يُفْرَق بين حزب الله وحزب الشيطان، هذا الفرق بين حزب الله وحزب الشيطان قد يكون فرْقا بالعلوم وقد يكون فرْقا بالسيف والسنان، لهذا القرآن فرقان فَرَقَ الله جل وعلا فيه بين علوم الحق وبين علوم المشركين.
المقصود أن حكمة الله اقتضت أن يكون لكل نبي عدوا، فلا ينظر الموحد في زمن ما إلى أنّ أهل التوحيد قلة، أو إلى أنهم مزدرَوْن، أو إلى أنهم لا يؤبه لهم، أو إلى أنهم مكثوا زمنا طويلا لم يُنصروا، أو نحو ذلك من الأشياء، أو أنهم يُعذبون، أو أنهم يُطردون، أو ما يفعله الأعداء بأهل التوحيد، لا ينظر إلى ذلك وإنما ينظر إلى الحق في نفسه، وحكمة الله عرفها أهل السنة بأنها وضع الأشياء في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، وضع الأشياء في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، والله جل وعلا أَذِنَ بالشر في ملكه والشر ليس إليه ليظهر طيب الطيب وليظهر طيب أهل الحق على خبث غيرهم، فأذِن به جل وعلا أذِن بالشر فِداءً بالخير حتى يظهر، فلولا هذه العداوة ما ظهر المستمسك بالتوحيد من غيره ما ظهر الذي على قناعة تامة من توحيد الله جل وعلا من المتردد الذين هم في ريبهم يترددون، ونحو ذلك من الحِكم العظيمة.
(37/155)
فالله جل وعلا أنزل العداوة في موضعها، وهذه العداوة موافقة لغاية محمودة منها، فَجَعْلُ بعض الجن والإنس بل الأكثر من شياطين الإنس والجن أعداء للرسل هذا فيه غايات محمودة، ومن هذه الغايات المحمودة التي هي حكمة الله جل وعلا أنْ يظهر أنصار الله جل وعلا الذين يستحقون فضله ومِنَّتَه ودار كرامته، ومنها أن يظهر الفرقان بين أهل الحق وأهل الباطل بشيء بشري وليس سماوي، وربما يُنعم الله جل وعلا بشيء من عنده من السماء كتأييد بملائكة أو نحو ذلك، ومنها أن يظهر أن هؤلاء الذين نصروا دينه ليس عندهم شك ولا شبهة مع كثرة المعادين ومع كثرة الشبه ومع كثرة ما يَرِد فإن استمساكهم بالحق دليل على صحة التوحيد، فالرسل مع قلة من استجاب لهم استمسكوا بالحق وبعضهم مكث مدة طويلة، فظهر أنّ هؤلاء الذين استمسكوا بالحق وثبتوا عليه، حتى إن أحدهم ليؤخذ فينشر بالمنشار نصفين ما يَرُدُّه ذلك عن دينه هذا شهادة عظيمة بأنّ هذا الذي حملوه حق لأن الله جل جلاله جعلهم مكرمين بهذا الأمر ومكرمين باتباع الرسل يعني باتباع الحق، فيه حكم شتى.
والشيخ رحمه الله هنا (لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء) وهذا الحصر مأخوذ من الآية ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا?([28]) فلفظ (كل) ظاهر في العموم وهو بمعنى لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء.
وأعداء التوحيد أعداء الأنبياء والرسل على قسمين: أعداء رؤساء، وأعداء تبع.
¨ فالرؤساء: إما أهل الرئاسة والتدبير في أمور الدنيا، وإما أهل الرئاسة في أمور الفكر والدين، هؤلاء هم الذين تزعموا العدواة وصدوا الناس عن الدين، هذا الصنف من أصناف الأعداء.
¨ والصنف الثاني منهم الأتباع الرّعاع: الذين أعرضوا عن الحق، أو الذين أخذتهم الحمية والعصبية في ألا يقبلوا التوحيد وأن ينصروا رؤساءهم.
(37/156)
فلا يوصف بالعداوة العلماء فقط أي الرؤساء فقط، بل أعداء التوحيد العامة والرؤساء جميعا؛ لأن من لم يستجب للتوحيد فقد سب الله جل جلاله كل مشرك بالله فهو متنقص الرب جل وعلا ساب له، فمن ادعى أن مع الله إله آخر يتوسط به ويزدلف به إلى الله جل وعلا عن طريقه بوساطته وشفاعته سواء كان ذلك عالما أو لم يكن عالما وإنما يكن تبعا لرؤسائه فإنه عدو للتوحيد، وربما كان هؤلاء من جهة انتشارهم في الناس أبلغ في إحياء عداوة التوحيد وبثها من الخاصة، وهذا ظاهر بيّن؛ لأن العامة ينشرون من الأقوال والأكاذيب أعظم مما يبثه الخاصة.
وإذا نظرت إلى دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فإن الذي نشر أنه صابئ والذي نشر أنه ساحر والذي نشر أنه مجنون أتباع الكبار أتباع الرؤساء والملأ في العرب.
وكذلك إذا نظرت إلى دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنّ الذي نشر في الناس مقالة أعداء الشيخ من علماء زمانه إنما هم العامة، فالعامة عداوتهم تأتي من جهة التعصب ومن جهة نصرة الباطل لقناعتهم بمن قال لهم ذلك، فعندهم علماء معظمون ورؤساء معظمون فيقتدون بهم ويحتجبون لمقالهم دون نظر وتدبر، فهؤلاء أعداء لتوحيد الله جل وعلا.
وكلٌّ من هذين الصنفين يجب الحذر منه ويجب على الموحد أن يعاديه، فليست عداوة الموحد لعلماء المشركين خاصة، أو الذين أعلنوا الحرب على التوحيد خاصة هؤلاء لهم نصيب من العداوة أكبر، وكلّ من لم يوحد الله جل وعلا وانغمس في براثن الشرك وأشرك بالله فهو عدو لله جل وعلا، فكلّ مشرك عدو لله جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى ?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ?[التوبة:114].
(37/157)
قال جل وعلا?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا?[الأنعام:112]، و(شَيَاطِينَ الْإِنسِ) جمع شيطان والشيطان هو البعيد عن الخير مأخوذ من شَطَنَ إذا بَعُدَ، فالشَّاطِن هو البعيد، والشيطان -النون فيه أصلية- وهو البعيد من الخير، والخير بما يناسبه، ولهذا قيل لبعض الحيوانات شيطان لما يناسبه من بعده عن الخير وما يلائمه، وقيل للحمامة في الحديث شيطانة في قوله «شيطان» حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو داوود وغيره «شيطان يتبع شيطانة» فالشيطان هو البعيد عن الخير، والخير في كلٍّ ما يناسبه، وقد قال الشاعر في ذلك:
أيام كنا يدعونني من الشيطان من غزل وكنا يهوينني إذ كنت شيطان
يعني كنت بعيدا عن الخير مع بقاء اسم الإسلام عليه، لكن يكمن البعد عن الخير في الكفر، فالكافر والمشرك شيطان من شياطين الإنس، ولابد أن يمدَّه شيطان من شياطين الجن لأنه ما من أحد إلا وابتلى به القرين.
قال (عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ) شياطين الإنس يرون وشياطين الجن لا يرون، وهم الذين يلقون أيضا بعض الشبه في نفوس شياطين الإنس من جهة الوسواس والقرين.
(37/158)
قال(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) في قوله (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) ما ينبئ على أنّ علوم المشركين وشبه المشركين.... ([29]) الشيء الناصع البيّن الجيد ومنه قيل للذهب زخرف؛ لأنه ناصع واضح، فزخرف القول الذي له مشروع وضياء يبصره ببصيرته المتأمل له فيخدعه، فقال جل وعلا هنا (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) لهذا أنّ ما عند المشركين من العلوم لها زخرف فليُحذر منه، لا يتصور في هذا المقام مقام كشف الشبهات أن شبهة المشرك ليس لها وجه البتة، لا تتصور هذا، فإن المشرك يوحي بعضهم يوحي بعض المشركين إلى بعض بزخرف القول حتى تزين الشبهة، فلا يقال هذه الشبهة فيها نصيب من الحق فتكون حقا، أو أن يظن أن شبهة المشرك ليس لها نصيب من النظر البتة، بل يكون لها زخرف ويكون لها نظر، فإذا تأملها أهل العلم وجدوها داحضة، كما قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ?[الشورى:16]، فالحجج التي يدلي بها أهل الشرك فيها زخرف وفيها تدليس وفيها تلبيس، ولها بعض الشبه لها بعض ما يجعلها ملتبسة بالحق.
ولهذا لا تتصور أن الشبه التي تأتي، التي أدلى بها أعداء التوحيد أن كل واحدة لا تدخل العقل أصلا، بل منها أشياء خدع بها الشياطين هؤلاء من خدعوا من أمم الإنس والجن، ولكن هذا القول غرور يعني أنه يُظهر و[...] ويتزخرف عند سماعه أو عند رؤيته، ولكنه عند التحصيل ليس بشيء وهذا لأنه إذا تدبر وفحص وجد أن حججهم داحضة.
(37/159)
قال (وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج) وهذه مقدمة مهمة في سبيل كشف الشبهات التي أدلى بها علماء المشركين، (قد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج)، العدو للتوحيد لا تتصور خاصة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من العلماء الذين جاؤوا في هذه الأمة لا يتصور أن عدو التوحيد لا يكون عنده البتة لا يتصور أن عدو التوحيد لا يكون فقيها لا يكون محدثا لا يكون مفسرا لا يكون مؤرخا بل قد يكون مبرزا في فن من هذه أو في فنون كثيرة، كحال الذين ردوا على إمام هذه الدعوة فإنهم كان يشار إليهم بالبنان فيما اختصوا فيه من العلوم، منهم من كان فقيها، منهم من كان مؤرخا، وهذا حال أيضا من رد عليهم أئمة الدعوة فلا تتصور أن عدو التوحيد لا يكون عالما، وهذه شبهة ألقاها الضُّلال في نفوس الناس، فجعلوا اعتراض العالم على العالم دال على صحة كل من المذهبين، هذا وهذا [والمعنى] واسع، ولهذا بعضهم يقول في مسائل التوحيد هذا أصح من القول الثاني أو في أصح قولي العلماء هو كذا وكذا، هذا لا يسوغ أن يقال في مسائل التوحيد؛ لأن من خالف في مسائل التوحيد فإنه ليس من علماء التوحيد ولا علماء السنة الذين يصح أن تنسب لهم مقالة أو أن يؤخذ بقولهم في الخلاف، بل التوحيد دلت عليه الدلائل الكبيرة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وبينه الأئمة فمن خالف ولو كان من العلماء الكبار في الفقه أو في التاريخ أو في الحديث أو غيره فإنّ مخالفته لنفسه، ولا يقال إن في المسألة خلافا.
(37/160)
لهذا لا بد أن تنتبه إلى أن عدوّ التوحيد من علماء المشركين ليس من صفته أن يكون غير عالم، بل قد يكون عالما وإمام في فن من الفنون؛ إمام في التفسير، وإمام في الفقه، مرجع في القضاء ونحو ذلك مثل أعداء الدعوة الذين عارضوا الشيخ رحمه الله وعارضوا الدعوة كحال مثلا من المتأخرين داوود بن جرجيش، فإنه كان على علم واسع ولكن من علماء المشركين، وكحال محمد بن حميد الشرقي صاحب كتاب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة أيضا كان من أعداء التوحيد فصنف ردا على المشايخ فيما تكلموا فيه على منظومة البوصيري المعروفية الميمية وأبطل أن يكون ذلك شركا وقرر ما قاله البوصيري إلى آخر ذلك، وللشيخ عبد الرحمن بن حسن صاحب كتاب فتح المجيد المجدّد الثاني رحمه الله له في ذلك رسالة ردّ بها على صاحب هذا الكتاب، فهو بارز في الفقه وأشير إليه في التفسير وبالتراجم إلى آخره ولكنه من علماء أعداء التوحيد من علماء المشركين؛ لأنهم نافحوا عن الشرك، وردوا على أهل التوحيد [........] في تعريف التوحيد والشرك [....] المسلم مشركا مرتدا فأضلوا الناس في ذلك.
فإذن المقدمة المهمة بين يدي هذه الرسالة: ألاّ تظن أن العلماء الذين يشار إليهم بالبنان أنّ هؤلاء لا يكونون مشركين، بل في زمن الشيخ رحمه الله وما بعده كان هناك علماء يشار إليهم ولكنهم كانوا مشركين مثل مفتي الشافعية أيضا في مكة أحمد بن زيني دحلان وأشباه هؤلاء، فالناس يرجعون إليهم ويستفتونهم فيصدرون عنهم، فلا يتصور أن الشرك ليس له علماء تحميه.
(37/161)
فإذن كمقدمة لا تقل في مسألة من المسائل التي يأتي كشف الشبهة فيها قالها العالم الفلاني، وقالها الإمام الفلاني، وكيف يفعلها الإمام الفلاني، فهذا إما أن يكون جاهلا ما حرر المسألة كبعض العلماء المشهورين المذكورين بالخير، وإما قد يكون قد علم فعاند وعارض وصنف في تحسين الشرك، مثل ما فعل مثلا الرازي فخر الدين الرازي صاحب التفسير المسمى بمفاتيح الغيب، حيث صنف في تحسين دين الصابئة ومخاطبتهم للنجوم كتابا سماه: سرّ المكتوم في أسرار الأفلاك ومخاطبة النجوم. وبه كفره طائفة من أهل العلم، فيحسن كيف تخاطب النجوم وكيف يستغاث بها وكيف تستنبط إلى آخره، وصنف في ذلك ليدل صابئة حران على ذلك، وهذا لا شك أنه من الضلال البعيد، فلا يقال في أي شبهة يأتي ردها أو رد عليها أئمة السنة والتوحيد، لا يقال كيف العالم الفلاني قالها؟ كيف راجت على هذا العالم الفلاني؟ وهؤلاء إما أن يكونوا جُهالا فلا يصنفون في أعداء التوحيد، وإما أن يكونوا صنّفوا في الشرك وتحسينه، هؤلاء هم الذين عناهم الشيخ بقوله (وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج)، إذا رأيت نقولهم قد تكون عن شيخ الإسلام وعن ابن القيم كما فعل داوود بن جرجيش مثلا صنف كتابا سماه: صلح الإخوان. نقل فيه عن شيخ الإسلام وابن القيم نقولا، ونقل عن أقوال المفسرين وأقوال كثير من العلماء، مثل في هذا العصر ما صنف مثلا محمد بن علوي المالكي كتابا حشد فيه أقوال نحوا من مائتين أو ثلاثمائة من العلماء الذين أقروا بعض الشركيات وبعض التوسلات ونحو ذلك في كتبهم، هذا ليس هو العبرة.
(37/162)
فإذن القاعدة التي يجب أن يكون عليها قدما الموحّد أن علماء المشركين قد يكون لهم علم كبير وحجج لأنه ليس الشركُ سببا في انسلاخهم من العلم، كما قال جل وعلا عن أوائلهم ?فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ ?[غافر:83]، وقد يكون هذا العلم بالإلهيات كما قالوا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5]، هذا اعتراض شبهة، وقالوا ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، وقد يكون في الفقهيات كما قالوا ?إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا?[البقرة:275] ونحو ذلك، فجنس العلوم جنس العلوم التي وجهت لهذه الأمة موجودة عند أعداء الرسل إما من جهة الإلهيات وإما من جهة الشرعيات، فعارضوا الرسل بما عندهم من العلم بل إن الله جل جلاله سمى قولهم حجة فقال وذلك تعظيما له من جهة قوة الشبهة فيه قال ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ?[الشورى:16].
(وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج) هل هذه الكتب الكثيرة التي له والفقهيات والتراجم والتفسير وما أشبه ذلك، يجعله ليس عدوا للتوحيد إذا صنف في عداوة التوحيد، وصنف في تحسين الشرك، ودعا الناس إلى ذلك؟ لا، فإنه يكون عدوا للتوحيد ناصرا للشرك ولا كرامة، ولو كان أثر السجود في جبهته، ولو كان عنده من المؤلفات أكثر مما عند المكثرين كالسيوطي وغيره، فهذا ليس بعبرة، وكلامه بالتالي ليس بعبرة؛ لأنه ليس من علماء التوحيد فعلومه ضارة وليست نافعة.
(37/163)
قال بعد ذلك رحمه الله (إذا عرفت ذلك ) يعني ما تقدم من أنّ أعداء الرسل قد يكون لهم علوم وكتب يصنفونها وحجج يُدلون بها قد يكون يحتجون بالكتاب، قد يكون يحتجون بالسنة وأشباه ذلك، وبأقوال المحققين من أهل العلم مثل ما ينقلون عن أحمد ببعض الأشياء، ينقلون عن شيخ الإسلام، ينقلون عن ابن القيم، ينقلون عن ابن حجر، ينقلون وينقلون، وهذا كله من العلوم الضارة ليست من العلوم النافعة، قال (إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من ([30]) أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج) انتبه لهذه الكلمة (لا بد له) لا بد لطريق التوحيد طريقة التوحيد لابد لها من أعداء كما ذكرنا، وهؤلاء الأعداء قد يكونون علماء، وهؤلاء العلماء أهل فصاحة وعلم وحجج، لا بد أن تكون حاجزا من أن يصدوك عن الهدى ويدخلوك في الضلال، أو أن يلبسوا عليك الدين، أليست الفصاحة هي المعيار، فإبليس كان فصيحا، وليس العلم في نفسه هو المعيار، بل لابد أن العلم هو العلم النافع وليست الحجج وإيرادات وجواب هو المعيار، فإذا كان هذا موجودا فانتبه إلى وصية الشيخ رحمه الله في مقدمة هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات.
(37/164)
قال (فالواجب عليك) إذا علمت أن ثَم أعداء والأعداء قد يكونون علماء وعندهم فصاحة وعلم وحجج، معناه العداوة استحكمت وتوجه التصديرات عليه، وتوجه الأسلحة عليك أعظم، فما الذي واجب عليك؟ هنا يجب عليك أن تصون نفسك وأن تحمي نفسك أعظم حماية في هذا الأمر الجلل الذي من ضل فيه كان من الخاسرين أبد الدهر، قال (فالواجب عليك) وجوبا شرعيا (أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا)، وقوله (من دين الله) هذا للتبعيض؛ لأن العلم منه واجب عيني ومنه واجب كفائي، وقوله (الواجب عليك أن تتعلم من دين الله ) يعني به ما كان من الدين فرضا عينيا على كل أحد، وهو الذي لا يُعذر أحد بالتقليد فيه وذلك في معنى الشهادتين وتحقيق مسائل القبر الثلاث من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فهذا العلم واجب بأدلته، وهو الذي وصف لك وصنّف فيه الشيخ الرسالة العظيمة ثلاثة الأصول لنجاتك في هذا الأمر الخطير بين علماء المشركين.
(37/165)
قال (فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين) تقاتل به ابتداءً أو تقاتل به دفعا؟ كلاهما؛ لا بد من الدفع في حينه، ولابد من الابتداء في حينه، مقاتلة بالحجة والبيان، إذا لم تكن ذا سلاح فالخوف ثم الخوف عليك، ولهذا تجد أن بعض أهل الفطرة وأهل هذه البلاد وأهل التوحيد الذين يُفترض فيهم ويظن فيهم أن يكونوا حماة لهذا الأمر العظيم -توحيد رب العالمين جل جلاله، الذي هو حق الله على العبيد- أن لا يُصْغُوا لشبهة في التوحيد؛ والآن تجد أن منهم من عنده شبه في السحر، من عنده شبه في الكهانة، وتجد من يردد كلاما في أن هؤلاء الذين يعبدون القبور ويعبدون الأوثان وينادون الموتى والغائبين بما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله أو فيما لا يقدرون عليه يقول هؤلاء فيهم كذا التكفير صعب، الحكم عليهم بالشرك صعب، لهم صلاة يعرفون الله، عندهم محبة للدين ونحو ذلك من الكلام، وهذا يزلزل نفس الموحد؛ لأنه يظن أن المسألة فإن ما دامه صاحب صلاة وصاحب زكاة وعنده حب للخير وكذا، فلا يحكم عليه بحكم الشرك أو الكفر مع أنه ساب لله جل جلاله وذلك بعبادته غير الله جل وعلا، فنفس الموحد في هذا المقام تأتيها أنواع كثيرة من الهجوم؛ تارة في أشياء نفسية، وتارة بشبه علمية، وتارة بأشياء راجعة إلى الضعف الذي في نفس بعض أهل التوحيد.
(37/166)
فإذن لا بد من الانتباه لهذا وهو أن الواجب أن يتعلم المرء من دين الله ما يصير له سلاحا يقاتل به هؤلاء الشياطين، ما هو هذا السلاح؟ هو تعلم التوحيد وضده وتعلم الشرك بأنواعه كما صنف فيه الشيخ رحمه الله في كتابه؛ كتاب التوحيد، ثم إن كان بين قوم عندهم مجادلة في التوحيد لابد من الإطلاع على ردود الأئمة على علماء المشركين الذين شبهوا في التوحيد، كما قدمت لك في المقدمة، أنّ معرفة هذا الباب يعني كشف الشبهات مبنية على أشياء منها مطالعة كتب العلماء في رد شبه المشبهين الذين عارضوا الدعوة وعارضوا التوحيد.
قال(تُقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل ?لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ?[الأعراف:16]) يعني قد تكون سائرا على الصراط ويكون إبليس الشيطان ومن معه من الإنس والجن يأتونك في هذا الصراط المستقيم ليحرفوك عنه، ثم قال ?ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ? يعني وهم على الصراط ?مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ?[الأعراف:17]، يعني هجوم من كل جهة هذا يعظم المصيبة ويعظم الابتلاء فيكون إذن التعلم وأخذ السلاح واجب وجوبا لا محيد له.
قال بعد ذلك رحمه الله (ولكن إذا أقبلت على الله ) أقبلت على الله بصدق وإخلاص وإنابة وتخلّص من الحول والقوة، وانطراح بين يدي الله جل وعلا أن يخلصك من كيد الشيطان وكيد أعدائه بالشبهات والشهوات، قال (وأصغيت إلى حججه) إلى حجج الله (وبيناته فلا تخف ولا تحزن) يعني إذا فعلت السبب الواجب عليك من تعلُّم الحجج والبينات التي بينها الله جل وعلا في كتابه وأقبلت على الله بقلب منيب صادق مخلص محب لما عند الله راغب في الخير ملتمس له فلا تخف ولا تحزن.
(37/167)
الشيخ لما صنف ذلك استحضر زمنه واستحضر بعض البلاد؛ بلاد هذا الزمن التي فيها قلة من أهل التوحيد، وأكثر من حولهم وأكثر أقاربهم وأكثر العلماء في بلدهم ينافحون عن الشرك ويدعون إليه، فإنه يجد نفسه في خوف وفي حذر، في خوف من أن يصاب، وقد يكون إذا كان ضعيفا قد يكون يأتيه التردد في هذا الأمر إلاّ إذا أقبل على هذا الأمر الجلل ولم يحد عنه، قال (وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن ?إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا?[النساء:76]) والله جل وعلا ?مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128].
قال (والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى ?وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:173]) العامي من الموحدين عنده محكمات وهي العلم الواجب الذي ذكرنا أنه لا يصح إسلام العبد إلا به، عنده من المحكمات ما يردّ بها شبه المشبهة وشبه علماء المشركين.
مثاله ما ذكره أئمة الدعوة أن رجلا من عوام الموحدين كان في المدينة في المسجد النبوي فقال له أحد العلماء لما عرف أنه من هذه الجهة هذا في الزمن الأول قال له: أنتم تقولون يطلب من الموتى، هؤلاء الشهداء أحياء بنص القرآن، والله جل وعلا يقول ?وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ?[آل عمران:169]، هؤلاء أحياء وليسوا بأموات، فلماذا لا نطلب منهم؟ قال له العامي -هذا من الموحدين-: لو قال الله جل جلاله (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْزَقُونَ) لطلبنا منهم ولكن قال (يُرْزَقُونَ) فهم يُرزقون مثل ما نُرزق نحن، فنطلب من الرزاق.
وهذا رجوع إلى المحكمات، فالموحِّد ولو كان عاميا لا بد أن يستمسك في هذا الباب العظيم بالمحكمات:
من المحكمات مثلا تعريف كلمة التوحيد.
من المحكمات تعريف العبادة التي تَرجع إليها مهما شبه المشبه.
(37/168)
من المحكمات إجماع أهل العلم على أن صرف العبادة لغير الله كفر، وأنّ من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك.
من المحكمات أنّ المسلم قد يرتد بأشياء، كما نص عليه العلماء في باب حكم المرتد.
من المحكمات التي ترجع إليها أنّ مشركي العرب كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لا لأنها حجارة ولكن عبدوها لأن فيها أرواح الصالحين، تحل في الأصنام أرواح الصالحين والأولياء هل اتخذوا من دونه أولياء؟ ? قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ?[الرعد:16] ونحو ذلك، اتخذوا الأوثان إما [.....] أو أنبياء أو صالحين.
فإذن من المحكمات التي ترجع إليها في هذا المقام أن شرك مشركي العرب ليس هو بعبادة الصنم، هذه مهمة من المحكمات والأساسيات.
فإذا تقرر هذه الأربع محكمات ومنَّ الله عليك بأشياء زيادة على ذلك من حفظ بعض الآيات في هذا المقام كقوله جل وعلا ?وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13)إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ?[فاطر:13-14]، وكقوله جل وعلا ? وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(5)وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ?[الأحقاف:5-6]؛ لأنّ هذا فيمن يبعث، لأن هذه الآيات فيمن يحشر يوم القيامة فيجيب وهو غافل عن الدعاء في الدنيا، وإذا حشر الناس يوم القيامة كانوا لهم أعداء، يعني لمن عبدهم.
(37/169)
فمن المحكمات أن ترد على كل من قال إنّ عبادة المشركين لغير الله هي عبادة الأصنام، كما يدندن حوله أكثر المفسرين المتأخرين، كل ما أتت آية فيها عبادة غير الله يجعلونها في الأصنام، بينما إذا رأيت تفسير ابن جرير رحمه الله تجد أنّ كل نص فيه عبادة غير الله جل وعلا يجعله في الأصنام والأوثان والأنداد جميعا، وهذا لا شك أنه فقه عظيم لنصوص القرآن.
إذن عرفت المحكمات التي ترجع إليها، فلا يحتاج العامي من الموحدين إلى أن يعلم التفاصيل كلها، فإذا علم ثلاثة الأصول بأدلتها، وعلم الذي ذكرنا المقدمات الأربع هذه فإنه يغلب الألف من علماء المشركين، لم؟ لأنّ معه المحكم وأولئك معهم المتشابه والذي معه المحكم يغلب من معه المتشابه لأنه واضح والمتشابه غير واضح، المتشابه مشتبه وأما المحكم فواضح بيّن.
فكل شيء شبه عليك به ارجع به إلى أصله إلى المحكم منه فتجد أن المسألة اتضحت، فتدع المتشابه في النظر وفي الجدال وتردع إلى المحكمات فتعلوا الحجة.
قال (كما قال تعالى ?وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:173])، قال (فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان)، هذه الآية (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) قال فيها شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله وجماعة ممن بعده: إنّ الأمة ظاهرة -لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق- ظاهرة وغالبة في كل زمن، وأنه لا يتصور مجود زمن لا يكون في هذه الأمة طائفة ظاهرة على الحق غالبة لأن الله جل وعلا قال (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) فأكد ذلك بـ(إِنَّ) وأكده باللام، وهذان نوعان من المؤكدات، وهذه لغلبة وهذا الظهور قد يكون بالحجة والبيان، وقد يكون بالسيف والسنان، فإن عَدِم أهل الحق الظهور بالسيف والسنان فهم غالبون في كل زمن بالحجة والبيان، ومعلوم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث مُدَّة في مكة وهو يجاهدهم بالقرآن.
(37/170)
فإذن الجهاد والقتال قائم في كل حين حتى في لحظتنا هذه بيننا وبين المشركين وبين أعداء الملة والدين إما بحجة وبيان نجاهدهم بها، وإما بسيف وسنان والسيف والسنان له شروطه المعتبرة شرعا، والحجة والبيان قائمة في كل زمان، فإذن هذه الأمة منها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها إلى قيام الساعة وهم ظاهرون بالحجة والبيان، وأهل التوحيد ظاهرون على أعدائهم بالحجة واللسان والحجة والييان؛ لأن حججهم محكمات واضحات، ولأن حجج غيرهم داحضة لأنها شبهات.
قال (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح).
الآن كل هذه المقدمات فيها وصف، يأتي بعد إن شاء الله الدرس القادم ابتداء الدخول في لب الكتاب وتفاصيل الشبه وتقعيد الردود عليها في تبيان كلام الشيخ رحمه الله.
قال(وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) وهذا والله حق، فالخوف على الموحد أن يأتي ويسلك طريقا ليس معه سلاح، فقد سُمع من بعض أهل التوحيد والمنتسبين إليه من يسهّل بين خلاف الأديان وربما بعضهم سماها الأديان السماوية الثلاثة، وسُمع منهم من يسهّل في أمر تبيان السحرة وسُمع منهم من يشكك في كُفر أهل الشرك وكُفر عبّاد القبور والأوثان وهكذا، بل حرك ترى في الناس، فقد يكون في هذا الزمان عندنا هذا البلد بخاصة فكيف بغيره من إذا حركته في مسائل التوحيد ربما سلم لك شيئا أو أشياء وجادلك في أشياء كانت من الواضحات، وهذا لأجل أنهم خاضوا الطريق واختلطوا بالناس وذهبوا جاؤوا وسافروا وانفتحوا على الأقوال المختلفة ووسائل الإعلام المختلفة دون سلاح، مثل ما قال الشيخ رحمه الله هنا (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) فكل يصيبه ما معه سلاح هذا يصيبه بطعنة وهذا يصيبه بطعنة من الشبهات، حتى يكون ذهنه قائما على غير الحق نسأل الله جل وعلا العافية.
(37/171)
قال (وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) هذه الكلمة تأصيل لـ: أنّ الردود على المشركين وكشف الشبه الأصل فيها كتاب الله جل وعلا كل حجة عندنا وإنما هي في القرآن في هذا الأمر العظيم أمر التوحيد ومضادة الشرك وأهله، وهي في القرآن، لم؟ لأن القرآن كما قال جل وعلا ?تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ?[النحل:89]، فقوله (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) بما فيه بيان كل الأشياء، وأعظم الأشياء حاجة إلى تبيانها مسألة التوحيد والشرك وبيان التوحيد وبيان الشرك، وهذا أعظم ما يحتاج غليه العباد فكان هذا داخلا دخولا أوليا في قوله (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، فإذن الرجوع في التبيان والبيان والحجة إلى القرآن، وهذا كما سيأتي بأنّ كل الحجج إنما هي من القرآن والسنة مبيِّنة للقرآن.
(37/172)
قال (فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبيِّن بطلانها) هذا حال قاعدة عامة في كل شيء في مسائل العقيدة والتوحيد، وكل مسألة يُحتاج فيها إلى حكم الشرع فإنها في القرآن، كما قال جل وعلا ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ?[الأنعام:38] على أحد وجهي التفسير، قال (إلاّ وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى ?وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا?[الفرقان:33]) المثل ليس المراد به ما يسير مسير؛ كما يقال في الأمثال كذا وكذا، وإنما المثل هو القول الذي يسر في الناس، القول إذا كان له حجة وله مسير في الناس من جهة القناعة به لشبهة فيه، قيل له مثل لهذا قال جل وعلا هنا (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) يعني بحجة باطلة في التوحيد في إبطالهم أو في تحسين الشرك أو في إيراد الشبه وأنهم ليسوا بكفار ولا مشركين إلا جئناك بالحق يعني في رده وبيان بطلانه وبيان الحق في ذلك وأحسن تفسيرا وأوضح تبيانا وأحسن تأويلا وشرحا لذلك المثل وللحق الذي فيه لأن القرآن غامض (قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة).
نقف عند هذا، وما بعده يبدأ الكلام الذي يدخل في العلم الغزير، وما سبق مقدمات، وهذه المقدمات مهمة للغاية، نجيب على بعض الأسئلة:
1/ هذا سؤال جيد يقول: نرجوا عندما تذكر شيخ الإسلام أو قول غيره أن تذكر الكتاب الذي يوجد فيه هذا القول حتى يسهل الرجوع إليه للاستفادة وتدوينه.
(37/173)
بالنسبة لأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية أحيانا أتذّكر مثلا أو يتذكر الذي ينسب القول لشيخ الإسلام ويعزوه عليه، يتذكر المرجع يعني المظنة يقول مثلا في الفتاوى في كذا أو في اقتضاء الصراط المستقيم أو في كتاب كذا من كتب شيخ الإسلام، وتارة يحفظ القول وينسى مكانه بالنسبة للشباب المطالعين القريبين من كتب شيخ الإسلام دائما لقرب عهدهم بالمطالعة، تجد عنده تذكر للقول مستمر للقول ومكانه إلى آخره، لكن إذا تطاول العهد بكلام شيخ الإسلام أو كلام غيره فإنه يؤثر القول، وقد [...] عن الذهن المرجع، فلا بأس إذا حصل مني تذكر للمرجع نذكره إن شاء الله تعالى، وإذا صار به تردد فيه أو نسيان فنرجئه أو نمر عنه.
2/ من ذبح عند قبر مثلا متى يحكم عليه أنه مشرك ؟
إذا ذبح عند القبر متقربا لصاحب القبر فهو مشرك، تحكم عليه بالشرك بذبحه؛ لأنه صرف العبادة لغير الله، ثم تقيم عليه الحجة، فإن مات بعد قيام الحجة عليه فهو خالد مخلد في النار.
يقول ومتى يعذر بالجهل؟
سبق لنا بعض كلام في هذه المسألة.
3/ ما رأيكم فيمن يقول اللهم لا تشغلنا إلا في طاعتك؟
لا تشغلنا عن طاعتك أو لا تشغلنا إلا في طاعتك، دعاء طيب لقول الله جل وعلا ?فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ?[الشرح:7]، يعني في طاعة الله ?وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ?[الشرح:8]، فشغل الإنسان بالنية يكون طاعة فإذا دعا بهذه الدعوة يعني يدعو بتحسين نية كل عمل حتى يكون طاعة.
4/ يقول في هذا العصر نجد من الدعاة إلى الله من مكث سنين طويلة يكتب للإسلام بنية صحيحة حتى الوفاة وعليه بعض الأخطاء في العقيدة والمنهج هل يمكن أن نقول بعد كل ما فعل أن منهجه غير إسلامي؟
(37/174)
بالنسبة للذين يكتبون وعليهم أخطاء ننظر فيه -يعني فيما يخص بحثنا اليوم- ننظر هل هو معاد للتوحيد هل هو يحسن الشرك أو يهون من شأنه فإنّ كان كذلك فلا كرامة، أو على الأقل نقول مثل ما يقول علماؤنا الأوائل إذا واحد مثلا ما يعرفونه في تحقيق التوحيد ولا بنصرة التوحيد يقولون ما نعرفه بشيء، يسكتون عنه لا يمدحون ولا يذمون، إذا ما حقق التوحيد ولا دعا إليه في بلد فيها الشرك بالله جل وعلا.
وكلمة (منهجه غير إسلامي ) إسلامي هذه دخل فيها فئات كثيرة دخل فيها أصناف من الناس، منهم من هو قريب ومنهم من هو متوسط ومنهم من هو بعيد، فهي كلمة لا تقال (منهجه غير إسلامي) كلمة فيها سعة.
5/ لقد قلت أنّ أحمد زيني دحلان من الذين يدافعون عن الشرك لهذا نذكر كتب مثل علوم الآلة في علوم النحو فهل ننتفع بها؟
لا علماء المشركين لا تنتفع منهم بشيء؛ لأن الانتفاع منهم بشيء يجعل في القلب شيء من التعاطف معهم، وهذا مخالف لما يجب من البراءة منهم، فمثل كتاب زيني دحلان هذا في النحو ليس بشيء، وثَم كتب كثيرة جدا بل مئات تغني عنه.
(37/175)
أحمد زيني دحلان له كتاب سماه الدرر السنية في الرد على الوهابية، وكان مفتي الشافعية في مكة وبسببه بسبب هذا الكتاب وبسبب مؤلفه انتشرت الدعايات السيئة على هذه الدعوة وعلى إمامها رحمه الله تعالى، كان إذا أتى الناس إلى الحج جمعهم مفتي الشافعية فيجمع [...] مثلا ويجمع أهل مصر ويجمع أهل الشام ويجمع أهل أفريقيا ويجمع ويجمع ويعطيهم نسخ من هذا الكتاب، ويقول: ظهر في جهتنا رجل يقال له كذا وأصحابه يقال لهم الوهابية هؤلاء خوارج هؤلاء يدعون إلى كذا إلى آخره. ولهذا يردد الناس جميعا ما كتبه أحمد زيني دحلان في كتابه هذا الدرر السنية قد قال عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وكان هذا الرجل يأمر بحلق، يأمر النساء اللاتي يتبعهن بحلق رؤوسهن وكان يختار منهن الزوجة التي يريد، والظاهر من حاله بالقرائن أنه يدعي النبوة -هذا في الكتاب- وقد روى بعضهم حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه يخرج في ثاني عشرة من الزمان رجل يلعق براطنه، يحدث فتنة يعتز فيها الأراذل والسفل، ويذل فيها أهل الفضل والكمل -أو شيء من هذا- وهي فتنة تتجارى بها الأهواء - وما شابه ذلك قال بعدها- وهذا الحديث وإن لم يعرف من خرجه لكن شواهد الصحة تدل عليه. وهو موجود إلا في كتابه ومن نقل عنه، فهؤلاء علماء مشركون حقيقة يعني حسنوا الشرك دافعوا عنه ردوا على أهل التوحيد طعنوا في الدعوة في أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، فماذا يبقى في حالهم لا شك أنه أقل ما يجب العداوة القوية والمفاصلة والبراءة منهم، إذْ هذا هو معنى قوله ? إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ? إلى قوله ?وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4] والله المستعان.
6/ إذا مات عالم يروج شبهة فما موقف أهل السنة منه ؟
(37/176)
هذه الشبهة التي يروجها إن كانت في الشرك يحسّن الشرك فهو مشرك، فهذا يُتبرأ منه، وليس بموحِّد؛ لأن كل عالم حسن الشرك ودعا إليه فهو مشرك لأن الحجة قامت عليه بكونه عالما بالقرآن أو بالسنة والقوة عنده قريبة فلا يعذر لعدم بحثه أو يعذر إذا كان حسن الشرك أو دعا إليه، مثل تحسين الاستغاثة بغير الله، ومثل الدعاء إلى الإشراك بالموتى وأشباه ذلك.
بخلاف من عنده شبهة راجت عليه في مسائل يحرم الاشتباه فيها مثل مسألة الشفاعة في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وهذا لا يتبع فيما وقع فيه وما أروده وإن دعا إلى ذلك فيرد عليه إلا إذا كانت الشبهة كما ذكرنا في التوحيد فإنه يخرج من الدين إذا كان حسّن الشرك رد على التوحيد.
7/ هناك من العلماء من أخطأ في الأسماء والصفات، وقد أولوا بعض الصفات وهؤلاء العلماء لهم جهود كبيرة في خدمة هذا الدين والعلم والعلماء، فهل نحكم عليهم حكما على أهل الشرك من العلماء؟
لا حاشا وكلا، الذي يخطئ في توحيد الأسماء والصفات يؤول بعض الصفات لا نحكم عليه بالكفر بل هو مبتدع مخالف عاصي، فهو ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، ويجب النهي عما أخطأ فيه إذا كان مما أخطا فيه متعديا على الناس يعني منتشر في الناس، يجب التحذير من ذلك، إنكارا للمنكر حتى لا يقتدي الناس به فيما أخطأ فيه.
(37/177)
وبعض الأئمة منهم أحمد وغيره، قيل له ترد على فلان وفلان ولهم من المقامات كذا وكذا، يعني من الصلاح والطاعة، فقال: ويلك أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، ألا ترى كيف أدفع عنه من يقتدي به في سوئه حتى لا تعظم عليه ذنوبه يوم القيامة. يقول: أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، ألا ترى كيف أدفع عنهم الإقتداء بهم في السوء حتى لا تعظم ذنوبهم يوم القيامة. هذا فقه عظيم لأن النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم توجب أن يبين خطأ المخطئ، حتى لا يتبعه الناس في خطئه، الذي صنف أو الذي دعا إذا أخطأ وأخطأ بخطئه اقتدى به أمم مع قرب الحق منهم وإن كان الوصول إليه، فلم يقانعوا بالحق ولم يأخذوا به فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام «ومن دعا إلى ضلالة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء»، وقال أيضا في الحديث الآخر «من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها».
فإذن التحذير من خطأ المخطئ في توحيد الأسماء والصفات أو بدعة المبتدع أو ضلال من ضل في بعض المسائل هذا في مصلحته والإسلام أغلى من فلان أو فلان، حتى ولو كان ممن يشار إليهم من المصنفين القدماء أو المحدثين؛ لأن المقصود حذر التأثير فيما أخطأ فيه عن أن يتبع في ذلك، فالتنبيه ليجتنبهم.
وكل رد له مقام، فأحيانا يكون المقام بذكر حسنات وسيئات، وتارة يكون المقام لا يجوز فيه أن تُذكر حسناته في مقام الرد، والسلف رحمهم الله تعالى في ردودهم على المخالفين تارة يذكرون ما لهم، وتارة لا يذكرون ما لهم بل يذكرون ما عليهم، وهذا لأجل تنوع المقام، فإن كان ذكر ما له في مقام الرد يُغْري به ويوقع الشبهة في تحسين كلامه فإنه يكون ذلك شبهة توقعها في الناس.
(37/178)
مثلا ترد على الرازي مثلا في الأسماء والصفات أو في التوحيد بعامة، أو ترد على فلان، فتقول كان إمام مبرزا وكان ذا علوم، وكان العلماء لا يصلون إلى شيء من علومه، وحفظ كذا وكذا، الذي يقرؤه ينبهر يقول كل هذا ثم تريد أن أصدقك أنه أخطأ أنت من أنت؟ هل أنت في مقامه؟ وهذا وقع في بعض من كتب في ردوده مدحا لمن رد عليه، يأتي القارئ له لا تتصور القارئ طالب علم، الشيء إذا نشر يقرؤه العامي، ويقرؤه واحد في بيته، ويقرؤه مثقف عادي، يقرؤه يقول طيب العلماء إذن كان هذا عالم وأنت الآن مجدته هذا التمجيد وأخطأ، فليش أنا آخذ كلامك ولا آخذ كلامه، فتقع الشبهة.
لهذا هدي السلف في الردود أنه بحسب المقام تارة يذكرون ما له وما عليه، مثل ما ذكر شيخ الإسلام في مقامات ما للمخالفين وما عليهم وتارة لا يحسن أن يذكر ما له؛ لأنه قد يُغري ذلك الجاهل بالإقتداء به أو تكون المسألة فيها قولان واختلاف العلماء وكل يأخذ ما يشتهي.
هذا تحقيق في مسألة ما أشيع أو ما كثر الكلام عليه في مسألة الحسنات والسيئات وفي ذكر الحسنات والسيئات، فيكون تحقيق المقام: أن هذا يختلف فإذا كان المقام مقام تقييم له فيذكر ما له وما عليه وإذا كان المقام مقام رد عليه فلا تذكر حسناته إذا كان في ذكرها إغراء لقَبول ما قال عند بعض الجهلة؛ لأن هذا يحجب عن قبول الحق الذي يأتي به الرأي.
8/ هذا يتكلم على المنهجية في طلب العلم يحتاج إلى تفصيل بعض الشيء.
9/ ما رأيكم في قراءة كتب شبهات المشركين، أو الشبهات التي يلقيها بعض المسلمين على العلماء والدعاة بقصد التحذير منها والرد عليها؟
لا هذه لا تؤخذ ولا تقرأ إلا لمحكِم أمره عالم يمكن أن يرد عليها، أما الذي يخوض في هذا الميدان بلا سلاح ويعرف أن سلاحه ضعيف لا بد أن يحذر ولا يعرض دينه وعقيدته ويقينه للتردد والتذبذب.
(37/179)
10/ من المعلوم أن العقيدة من الأمور التي لا يجوز فيها التقليد البتة، وهناك من العلماء من أراد الوصول إلى الحق ولم يعرف بعدائه للتوحيد، ولكن لمعرفته أن العقيدة لابد فيها التحرير حصّل ما كان مخالفا للصواب، فهل نحمل ذلك على التأويل وأنه كان من تأويله، أرجو البيان، علما أن من أعداء الدعوة من قصد وصول الحق ولعل منهم من رجع وتاب إلى آخره؟
هذا راجع إلى تفصيل الكلام في مسألة الظاهر والباطن، بالنسبة إلى اجتهاده في الوصول إلى الحق هذا بينه وبين الله جل وعلا، لكن إذا كان مشركا دعا إلى الشرك وحسّنه وأبطل حجج أهل التوحيد وعادى التوحيد وأهله، فلا شك أنه مشرك كافر ولا كرامة، إذا كان من العلماء لأن الحجة عليه قامت، والقوة عنده قريبة يمكن أن يبحث ويبحث والحق موجود في الكتب، بل هناك من قال أهل العلم في هؤلاء إنّ الله جل جلاله قال في القرآن ?لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ?[الأنعام:19] وهؤلاء العلماء بلغهم القرآن وفهموا معناه، فإن كانوا أعرضوا على القرآن مع علمهم فهؤلاء قد قامت عليهم الحجة.
فالمقصود أن الرؤساء رؤساء الضلال والكفر والشرك من الذين حسنوا الشرك ودعوا إليه وأبطلوا التوحيد أو أبطلوا حجج أهل التوحيد ودعوا الناس لمعاداة أهل التوحيد، هؤلاء طواغيت مشركون.
11/ الذين خلّطوا في باب الأسماء والصفات قسمان: منهم علماء وصلهم اجتهادهم إلى ذلك ومنهم من هو على جهل واتباع هوى فعل يساوى بينهم؟
لا، لاشك المخطئون والضلاّل ليسوا على درجة واحدة في أبواب الاعتقاد.
نفعني الله جل وعلا وإياكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([31])
?????
[الجواب المجمل]
[المتن]
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر اللهُ في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا.
فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين مجملٍ ومفصّل.
(37/180)
أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: ?هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7] وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى اللهُ، فاحذروهم».
مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62]، أو إن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتّبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرّون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: ?هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18] هذا أمر محكم بيّن، لا يقدر أحد أن يغيّر معناه، وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام الله عز وجل.
وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35].([32])
[الشرح]
(37/181)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا وتُقًى وخشية يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فمِن هذه الجملة من هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات يبتدئ الكلام على الشبهات وعلى إبطالها، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى قبل ذلك مقدمات غاية في الأهمية وهي المحكَمات التي يحتاج الموحد إلى أن يرجع إليها في حجاجه مع أهل الباطل وأهل الظلم والطغيان.
قال الإمام رحمه الله هنا (وأنا أذكر لك أشياء مما ذكره الله في كتابه جوابا لكلامٍ احتج به المشركون في زماننا علينا، فنقول: جواب أهل الباطل علينا من طريقين: مجمل ومفصل) كل شبهة في كلام المشركين أدلَوْا بها فإن جوابها في القرآن، إما عن طريق الجواب المجمل وإما عن طريق التفصيل، لقول الله جل وعلا ?وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا?[الفرقان:33]، فالله جل وعلا أبطل حجج المشركين بالإجمال وبالتفصيل، وقول الشيخ رحمه الله هنا (جواب أهل الباطل علينا من طريقين : مجمل ومفصل).
كلمة (مجمل) تارة يقابل بها المبيَّن، وتارة يقابل بها المفصَّل، ومعناها إذا قوبل بها المبيَّن يختلف عن معناها إذا قوبل بها المفصل:
?والأول هو الذي يبحثه الأصوليون حين يجعلون في مباحثهم في الركن الثالث من أركان أصول الفقه -وهو البحث في الاستدلال- المجمل ويقابلون به المبيَّن، والمجمل الذي يقابل به المبيَّن اختلفت عباراتهم في تعريفه؛ ولكن حاصلها يرجع إلى:
· أن المجمل ما لم تتضح دلالته.
· أو كما قال بعضهم: ما احتمل شيئين ولا مرجِّح.
· أو كما قال بعضهم: ما لم يكن متحد المعنى، ولم يكن ثَم ما يبين ذلك المعنى فيه.
(37/182)
فإذن المجمل الذي يقابَل بالمبيَّن هذا يبحث فيه من جهة دِلالة الألفاظ ومن جهة الاستدلال، فيقال هذا مجمل وهذا مبيَّن.
ومعلوم أن النصوص إذا جاء فيها شيء مجمل فلا بد من البحث عما يبيِّنه حتى يتم الاستدلال؛ لأن الاستدلال بالمجمل لا يصح؛ لأنه محتمل لأشياء ولا مرجح لأحد الاحتمالات من اللفظ أو من التركيب، وإنما لابد من البحث؛ البحث عن البيان في أدلة أخرى.
?وأما في مقام البرهان وعند أهل الحجاج والاستدلال فإنهم يستخدمون لفظة المجمل المقابل لها المفصَّل، وهو الذي عناه الشيخ رحمه الله في هذا المقام حيث قال (من طريقين: مجمل ومفصل)، والمجمل هنا هو المجمل في باب الحجاج وباب الاستدلال وإقامة البرهان، وذلك أنّ البراهين في إقامتها تنقسم إلى براهين مجملة وبراهين مفصَّلة.
ويُقصد بالإجمال البرهان العام الذي يمكن أن تُرجع أفرادا كثيرة إليه من جهة الاحتجاج، فيصلح حجة لأشياء كثيرة دون تحديد.
وأما المفصل المقابل بالمجمل هذا فإنه الرد الذي يقابل به كل شبهة على حدا، وتكون الشبهة لها رد بالتفصيل عليها. وقد يكون هناك في الرد المفصل ما يشترك فيه بين رد ورد، وهذا يأتينا إن شاء الله تعالى.
فتحصّل لك أن قول الإمام رحمه الله تعالى (جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل) أن:
المجمل: هو الجواب العام، والاستدلال العام، والبرهان العام، الذي يصلح لكل حجة يوردها المورد؛ يوردها المجادِل.
والمفصل: هو البرهان والدليل لإبطال كل شبهة على حِدَى ذلك على وجه التفصيل.
فإذن عندنا هنا الإجمال غير الإجمال المعروف في أصول الفقه، الإجمال هنا واضح بخلاف المجمل في أصول الفقه فإنه ما لم تتضح دلالته.
(37/183)
فإذن قول الشيخ رحمه الله (أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة) يعني أما الجواب الذي فيه البرهان والدليل العام والشامل لردّ أفراد كثيرة من شبه أهل الباطل -بل لرد كل شبهة يوردها المبطلون- قال (فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقَلَها) وهذا واضح فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحال على هذا الجواب المجمل وأحال على هذا الأمر العام في قوله عليه الصلاة والسلام في بيان آية آل عمران «فإذا رأيتهم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» وهذا إحالة إلى تحذير عام من كل صاحب شبهة، وهذه يحتاجها كل مسلم كل موحد؛ لأن درجات العلم تختلف حتى بعض أهل العلم قد يخفى عليه جواب بعض الإشكالات؛ لكن إن كان من الراسخين في العلم ومن الموفَّقين آمن بما اشتبه وأحال الجواب على المحكمات، ولا يلزم من ذلك أن تكون كل شبهة مردودة عند كل عالم -كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى-؛ لكن المحكَمات -الأمر المجمل العام- هذا تستفيده في كل موقف من المواقف التي يجادلك من يخالف طريقة أهل التوحيد طريقة أهل السنة والجماعة طريقة السلف الصالح، فالاستمساك بهذا الجواب المجمل هذا غاية في الأهمية؛ لأنه قد لا يستحضر طالب العلم أو يستحضر الموحِّد جواب كل شبهة على تفصيلها، فإذا تمكَّن من هذا الجواب المجمل فإنه يتمكن من رد كل شبهة أوردها المبطلون.
(37/184)
وتفصيل هذا الاستدلال المجمل بردِّ كلام أهل الباطل في التوحيد وبه تنكشف شبههم جميعا قال فيه (وذلك قوله تعالى ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[آل عمران:7]) هذه الآية في بيان من الحق جل وعلا أنّ هذا القرآن أُنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قسمان: منه محكم، ومنه متشابه.
والمتشابه والمحكم راجعان إلى دلالة الألفاظ وراجعان إلى المعنى، لا إلى المراد به.
فالمحكم اختلفت أقوال العلماء في تعريفه، ما هو المحكم وما هو المتشابه؟
فقال بعضهم: إن المحكم هو ما استبان معناه واتضحت دلالته، فلا لَبْسَ فيه متضح لكل أحد، لا لَبْسَ فيه ولا إشكال، والمتشابه ما يشتبه معناه المراد به فلا يتَّضح.
فإذن رجع على هذا التعريف المحكم إلى المتضح البيِّن، والمتشابه إلى ما يحتاج إلى اجتهاد ونظر لا يتضح معناه.
ومن الأقوال في ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة في صحيفته المعروفة في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحكم هو ناسخه وأمره ونهيه وحلاله وحرامه. فأرجع ابن عباس المحكم إلى ما يكون من جهة العمل، وأما الأخبار فإنها لا يعلم تأويلها إلا الله جل جلاله؛ لأنّ حقيقتها غير معلومة -يعني في الأمور الغيبية- كما سيأتي.
وقال آخرون من أهل العلم: المحكم راجع إلى ما لا تعدد في دلالته، والمتشابه إلى ما تتعدد الدلالة فيه.
والأقوال في هذا كثيرة معروفة في كتب الأصوليين.
(37/185)
ومن الباطل فيها ما يجعل المحكم ما رجع إلى أمور الفقه -الأحكام- والمتشابه ما يرجع إلى أمور العقيدة؛ لأن هذا معناه أن الله جل جلاله لم يبين لنا بيانا محكما شيئا من أمور العقيدة، وهذا باطل.
ومن الباطل فيه ما يقال إن من المتشابه أو المتشابه منه آيات الصفات ومنه الحروف المقطّعة في أول السور، وهذا أيضا من الأقوال الباطلة فيه، وليس هذا محل ضبط الكلام في المحكم والمتشابه.
لكن المقصود من ذلك أن الراجح عند أهل العلم أن:
المحكم: هو ما تبينت دلالته واتضحت.
والمتشابه: هو ما يحتاج في بيان دلالته إلى اجتهاد ونظر.
والقرآن جعله الله جل وعلا محكما كلَّه، وجعله جل وعلا متشابها كله في آيات أخر.
قال جل وعلا في بيان أن القرآن جميعَه محكم ?كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ?[هود:1]، فالقرآن على هذا كله محكم، بمعنى أنه لا تفاوت فيه ولا اختلاف، مُتقن لا تفاوت فيه ولا اختلاف لا من جهة الأخبار ولا من جهة الإنشاءات، فهو جل وعلا أحكمه لا اختلاف فيه كما قال جل وعلا ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82].
والقرآن أيضا متشابه كله كما قال جل وعلا ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا?[الزمر:23]، فالقرآن متشابه لأنه بعضه يشبه بعضا آيات في التوحيد وآيات في التوحيد، وآيات في وصف أحد الرسل وبيان حاله مع قومه وآيات كذلك، آيات في الجنة والجنة والنار والنار والآخرة والآخرة، كذلك في صفات الله وصفات الله وهكذا فبعضه يشبه بعضا، في الأمر والنهي وفي الأمر والنهي، في الحلال والحرام في الحلال والحرام وهكذا.
(37/186)
وهذان القسمان غير القسم الذي في هذه الآية، هذه الآية فيها تقسيم ثالث للقرآن، وهو أن القرآن منه محكم ومنه متشابه، والمحكم ما اتضحت دلالته وبان، والمتشابه ما يحتاج في بيان دلالته إلى اجتهاد أهل العلم فيه أو إلى رده للمحكم، ومن الاجتهاد أن يرد إلى المحكم، فالمتشابه من القرآن ما لم تتضح دلالته في نفسه، يشتبه على الناظر فيه، وذلك من قوله تعالى ?إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا?[البقرة:70]؛ يعني لا ندري المراد أي واحدة من هذه البقر (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) فلا ندري أي واحدة من البقر أردت بالأمر، وهذا هو المراد هنا في قوله (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) يعني يشتبه بعضها من حيث الدِّلالة والأمر فلا بد من إرجاعها إلى المحكم.
إذا كان كذلك فالمحكمات التمسك بها هو الأصل الأصيل في رد الشبه، وهذه الآيات المحكَمات أنواع؛ الآيات المحكمات في رد شبه أهل الباطل في التوحيد جميعا.
النوع الأول: الآيات التي فيها بيان أن الكفار مُقِرُّونَ بتوحيد الربوبية، وأنه لا إشكال عندهم في ذلك، هذا نوع.
والنوع الثاني: من الآيات أن الكفار ما أردوا عبادة ما عبدوا إلا لأجل التقرب إلى الله جل جلاله، بالزلفى والشفاعة، إلى آخر الآيات في ذلك.
والنوع الثالث: من الآيات المحكمات في هذا الباب الواضحة أن الأموات التي عُبدت لا تملك شيئا وأنها يوم القيامة تتبرأ ممن عبدها.
والنوع الرابع: من الأدلة المحكمة في هذا الباب في رد حجج المشركين، الآيات التي فيها بيان أنّ الله جل جلاله لم يتَّخذ ولدا ولم يتَّخذ شريكا ولم يتَّخذ وليا ولم يتخذ شفيعا، كآية سورة سبإ، وآية سورة الإسراء، وآية الفرقان، وأشباه ذلك.
والنوع الخامس: من هذه الأنواع المحكمة أن معبودات المشركين في القرآن مختلفة:
فمنهم من عبد الأصنام.
ومنهم من عبد الأوثان، والصنم ما كان على هيئة صورة مصورة منحوتة، والوثن ما لم يكن على هيئة صورة؛ شجر قبر كوكب إلى آخره.
(37/187)
ومنهم عبد الملائكة.
ومنهم من عبد الأولياء.
ومنهم من عبد الجن.
ومنهم من عبد الشجر والحجر إلى آخره.
فهذه التصانيف في الآيات لمعبودات المشركين، هذه تُنزل عليها كل حالة من حالات أهل الشرك في هذا الزمن وفي ما قبله وما بعده.
فهذه آيات محكمات أصول في باب توحيد العبادة؛ هذه الأنواع.
لهذا ترى أن شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكثر من تنويع هذه الأدلة؛ لأنها حجة في هذا الباب محكمة، لا يستطيع أحد أن يَنْقُضها ولا أن يردَّها.
قال جل وعلا (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، معنى (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أي هُنَّ الأصل الذي يُرجع إليه في الكتاب فالمحكمات البينات الواضحات، وما من آية مشتبهة في القرآن إلا ويمكن إرجاعها إلى محكم فيه، فمعنى (أُمُّ الْكِتَابِ) يعني هُنَّ أصل الكتاب الذي يرجع إليه؛ لأن الأم هي أصل الولد، وأم الكتاب الأصل الذي يرجع إليه الكتاب في آيِهِ وذلك أنها مشتملة على معاني الكتاب، ومن هذا كانت الفاتحة أم القرآن؛ لأن جميع آيات القرآن راجعة على آيات الفاتحة إما بظهور أو بشيء من البيان.
قال (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فهنا بين أن القرآن منه كذا ومنه كذا، منه محكم ومنه متشابه -متشابه لم تتضح دلالته- وهذا المتشابه قد يكون في الأخبار، وقد يكون في الأمر والنهي، قد يكون في الأخبار وقد يكون في الإنشاءات، فلا يُحَد المتشابه لقسم الإنشاء دون الإخبار أو بقسم الأخبار دون الإنشاء؛ بل التشابه وقع في قسمي الكلام، الأخبار والإنشاءات، ومعنى الأخبار يعني التي يكون امتثالها بالتطبيق، والإنشاءات معناه التي يكون امتثالها بالعمل.
(37/188)
قال هنا في بيان موقف الذين زاغوا قال (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، وهنا تلحظ أنّ قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) فيه إثبات أنَّ القلوب زاغت قبل النظر في القرآن، فَهُم زاغوا قبل، ثم بعد ذلك تلمسوا الدليل على زيغهم، قال (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ) فزاغت قلوبهم ثم اتبعوا ما تشابه منه، (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يستدلون بما تشابه بما لم يتّضح معناه أو بما يحتمل أو بما لو رُدّ إلى المحكم لبان، (يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يعني يتبعونه ويجمعونه لأجل الاستدلال به، ويتركون المحكم.
وهذا مثل ما حصل من النصارى أنَّهم نظروا في القرآن فزعموا أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصّة بالعرب لقول الله جل وعلا ?وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ?[الزخرف:44]، وأيضا في قول الله جل وعلا ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، فاحتجوا بآيات على خصوص بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - للعرب.
وهذا احتجاج بالمتشابه واتباع له؛ لأن في قلوبهم زيغا، فوجود الزيغ في القلوب، وهو عدم رد الكتاب، وعدم اتباع محمد عليه الصلاة والسلام، فتلمسوا وتتبعوا الدليل.
كذلك كما هو ظاهر في هذه الأمة الفرق الضالة من الخوارج والمرجئة والقدرية والمعتزلة وأشباه هذه الفرق، فإن كل فرقة احتجت بالمتشابه وتركت المحكم.
فأخذت بعض الآيات الخوارج على بدعتهم في تكفير صاحب الكبيرة استدلوا بقول الله جل وعلا ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا?[النساء:93]، فقالوا هذا يدل على أن فاعل الكبيرة كافر لأنه حكم عليه بأنه خالد في النار.
(37/189)
واحتجت المرجئة مثلا على بدعتهم بآيات، واحتجت القدرية على بدعتهم بآيات، والجبرية على بدعتهم بآيات.
إذن القرآن فيه احتجاج لكل صاحب زَيْغ، حتى في هذا العصر أتت طائفة وقالوا الصلوات في القرآن ثلاث؛ لأن جل وعلا لم يذكر في القرآن خمس صلوات فلا نصلي إلا ثلاثا.
وهنا قال عدد من أهل العلم المفسرين وغيرهم إن الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الابتلاء؛ لأنه لو كان القرآن واضحا صار الزائغ عنه معاند فقط؛ لأنه واضح فلم يزيغ إلا المعاند، والله جل وعلا بحكمته جعل القرآن منه محكم ومنه متشابه لم تتضح دلالته؛ ليبتلي الناس كيف يعملون، هل يسلطون أهواءهم مستدلين بالمتشابه أم يتخلصون من الهوى، فيُرجعون المتشابه إلى المحكم، ويرجعون ذلك إلى الراسخين في العلم وإلى أهل العلم الذين يفهمون المتشابه فيفهمون المحكمات.
فإذن الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الابتلاء، والله جل وعلا ابتلى الناس بالحياة ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?([33]) وابتلاهم بالرسول عليه الصلاة والسلام هل يؤمنون به أم لا يؤمنون «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك» كما في صحيح مسلم، وكذلك ابتلى الله جل وعلا الناس بالقرآن بجعل بعض القرآن متشابها؛ هل يُرجعونه للمحكم ويسلمون لأهل العلم أم أنهم يخوضون في المتشابه فيقعون في الفتنة.
لهذا قال أهل العلم بالتفسير معنى قوله (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) يعني ابتغاء فتنة أتباعهم كما نص عليه ابن كثير في تفسيره، فهم اتبعوا ما تشابه منه لأجل أن يُضِلوا ويفتنوا الأتباع معهم.
(37/190)
فهم إذن تقررت عندهم أشياء ثم نظروا ولم يُسلِّموا لأهل العلم الانقياد الراسخين في العلم، فلم يرجع الخوارج للصحابة ولم يرجع القدرية للصحابة، وهكذا في أشياء كثيرة، ولم يرجع المعتزلة لأئمة السنة، ولم يرجع الأشاعرة إلى أئمة أهل الحديث والسلف قبلهم فيما اُختلف فيه، فاتبعوا ما تشابه منه وتركوا المحكمات ابتغاء الفتنة؛ يعني لأجل أنْ يحصل لهم اتِّباع الأتباع.
وقوله (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) نفهم منه أنّ من أضلَّ بشبهة فهو مبتغ للفتنة، سواءً قال أنا لم أرد الإضلال أو قال أنا أردته؛ لأن الله جل وعلا قال (مَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ) وإذا نظرت إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» ما يبين أنهم لم يبتغوا الفتنة في الناس قصْدا في الإضلال فيعلمون أنهم على باطل فيضلون الناس، هذا غير مراد، وإنما ابتغوا الفتنة كحالة لهم فهم حين اتبعوا ما تشابه منه فقد ابتغوا الفتنة في حالتهم، فحالهم حين اتبعوا المتشابه وتركوا المحكم أنهم يبتغون الفتنة، فنُزِّ لوا منزلة القاصد لذلك؛ لأنهم تركوا المحكم واتبعوا المتشابه، فلما أنهم لم يتخلَّصوا من الزيغ مع وضوح الهدى ووضوح طريقه ولم يتبعوا المحكم وإنما اتبعوا المتشابه فالحال أنهم بطريقتهم هذه ابتغوا الفتنة لهم ولأتباعهم، فكأنهم قصدوا ذلك قصدا وإن كانوا يقولون إنما أردنا الخير، فالخوارج كانوا أشد الناس عبادة؛ أشد من الصحابة عبادة، يحقر أحد الصحابة عبادته مع عبادتهم وصلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، فلا يُظن بهم أنهم اتبعوا المتشابه من القرآن قصدا في مخالفة القرآن وقصدا في الإضلال، وإنما حصل منهم الضلال لشيئين:
أولا: أنهم تركوا المحكم واتبعوا المتشابه.
(37/191)
ثانيا: أنهم لم يرجعوا في بيان المتشابه على الراسخين في العلم في زمانهم في زمن الصحابة رضي الله عنهم.
قال جل وعلا (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) والتأويل هنا الذي ابتغوه أن ينزلوا المتشابه على ما أرادوا؛ يعني وابتغاء تفسيره، والذي يجب أنه إذا عرض المتشابه فإنه يُرجَعُ في تفسيره إلى المحكم ويرجع إلى تفسيره إلى أهل العلم، أما من عرض له المتشابه فدخل في تأويله بجهله وبهواه وبما عنده فلا شك أنه سيقع في الزيغ والضلال؛ لأنه ليس متأهلا لرد المتشابه إلى المحكم في كل مسألة أو إلى بيان معنى المتشابه.
والتأويل في القرآن أتى على معنيين:
المعنى الأول للتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء، ما تؤول إليه حقيقة الآيات، والآيات على قسمين: منها آيات أخبار ومنها آيات إنشاء، ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا?[الأنعام:115]، صدقا في الأخبار، وعدلا في الإنشاء يعني في الأمر والنهي. فالأخبار تأويلها ما تؤول إليها حقيقتها، فإذا كانت الأخبار غيبيات عن الله جل وعلا، فتأويل الخبر حقيقته وكنهه الذي عليه الله جل وعلا، وتأويل الخبر الذي هو وصف مثلا للجنة تأويله ببيان حقيقة الجنة ما هي، هذا معنًى للتأويل، ومنه قوله جل وعلا في سورة الأعراف ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ?[الأعراف:53]الآية؛ يعني هل ينظرون إلا ما تؤول إليه حقيقة الأخبار التي أخبر الله جل وعلا بها، (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) يعني ما تؤول إليه حقيقة الأخبار، رأوا الجنة ورأوا النار وحصل يوم البعث (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) إلى آخر الآيات، هذا هو النوع الأول من التأويل في القرآن.
(37/192)
الثاني: التأويل بمعنى التفسير: وهذا في قول الله جل وعلا ?وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:44] ومنه أيضا في هذا قوله جل وعلا ?أَناَ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأَوِيلِهِ?[يوسف:45]، وأشباه ذلك، فالتأويل هنا بمعنى التفسير، تأويل الأحلام بمعنى تفسير الأحلام، فالتأويل بمعنى التفسير هذا في القرآن، وهذا هو الذي اعتمده ابن جرير الطبري في ما اعترى في تفسيره حيث يقول: قال أهل التأويل، وبنحو الذي قلنا في هذه الآية قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك، قال أهل التأويل يعني قال أهل التفسير.
وهناك معنى ثالث للتأويل ليس في القرآن ولا في السنة وإنما هو اصطلاح حادث للأصوليين، وهذا ليس هو المراد هنا؛ لأن التأويل عندهم في مقابلة الظاهر، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى معنًى آخر قريب، هذا معنى جديد اصطلاحي، وهو منقسم إلى ثلاثة أقسام كما هو معروف عند الأصوليين صحيح وضعيف وباطل.
هنا والمراد بـ(وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) في هذه الآية يحتمل المعنى الأول ويحتمل المعنى الثاني، (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)يعني ابتغاء معرفة ما تؤول إليه أخباره وأوامره ونواهيه، أو (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) بمعنى ابتغاء تفسيره، فيصح الأول ويصح الثاني.
وهنا نقف عند قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) اختلف السلف على الوقف هنا، هل الوقف على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)؟ أو الوقف على (الْعِلْمِ)؟ فيكون معطوف على ما قبله، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) على قولين للسلف، وسبب الخلاف أنه هناك قولين، هنا ما المراد بالتأويل؟
(37/193)
فمن نظر إلى أن التأويل هو العلم بما تؤول إليه حقيقة أخباره؛ حقيقة صفات الله جل وعلا، حقيقة الجنة، حقيقة الإخبار عن النار، حقيقة الإخبار عن الملائكة، فهذا لاشك أمر غيبي لا يعلمه أحد، فمن نظر إلى هذا قال: الوقف على لفظ الجلالة. فقال (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ) يعني وما يعلم تأويل ما تؤول إليه حقائق أخباره إلا الله جل وعلا، وهذا المعنى صحيح فإن حقيقة الأخبار وما تؤول إليه ليس ثم أحد يعلمها إلا الله جل وعلا.
ومن نظر إلى أنَّ التأويل المراد به ما تؤول إليه حقيقة الأمر حقيقة النهي، قال: الأوامر تأويلها بامتثالها بفعلها بعملها على وجه أحكام الشريعة، والنواهي تأويلها بالاجتناب لها والبعد عنها على أحكام الشريعة، وهذا من التأويل في الإنشاءات يعلمه الراسخون في العلم من جهة العلم والعمل جميعا، في هذا قال بعضهم هنا: يقف على (الْعِلْمِ)؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون التأويل على ما ذكرنا يعني ما تؤول إليه حقائق الإنشاءات، ما تؤول إليه حقيقة الأمر: امتثال الأمر على الوصف الشرعي، ما تؤول إليه حقيقة النهي: امتثال النهي على الأمر الشرعي يعني الأمر بالكف.
وقال آخرون الوقف على (الْعِلْمِ)، فالعلماء يعلمون كما قال ابن عباس: أنا ممن يعلمون تأويله. فيكون المعنى هنا في التأويل التفسير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس فقال «اللهم علمه التأويل»، قال: أنا ممن يعلمون تأويله. فيكون هنا معنى (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) يعني وابتغاء تفسيره فلا يعلم تفسيره الحق إلا الله جل جلاله وإلا الراسخون في العلم.......([34]) هو الصحيح.
فإذن نقول يحتمل أن يكون الوقف على لفظ الجلالة ويحتمل أن يكون على العلم، فمن وقف على لفظ الجلالة ورأى أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل فهو إنما يعني من أهل السنة ومن الصحابة؛ لأنه مروي عن السلف نوعان من الوقف هنا:
(37/194)
فمن رأى أن الوقف على لفظ الجلالة رأى أن التأويل هو ما تؤول إليه حقائق الأخبار فقط.
ومن رأى أن الوقف على العلم قال التأويل هو ما تؤول إليه حقائق الإنشاءات مثل ما قال ابن عباس: ناسخه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه، أو التأويل هنا بمعنى التفسير.
ومن قال إن المتشابه لا أحد يعلمه البتة إلا الله جل جلاله، فليس علم المتشابه إلى علم أحد من الخلق، فهذا غلط ولا يصح نسبته إلى أحد من أهل السنة، وهذا يعني أن المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد هذا غير موجود في القرآن عند المحققين من أهل السنة والجماعة، فإن المتشابه الموجود في القرآن متشابه نسبي إضافي، فعندنا المتشابه هنا في هذه الآية قسمان: متشابه مطلق، ومتشابه نسبي.
فالمتشابه المطلق غير موجود البتة؛ بمعنى يشتبه معناه فلا يعلم له معنى أصلا.
والثاني المتشابه النسبي الإضافي نقول اشتبه عليّ، اشتبه على العالم الفلاني المعنى، اشتبه على الإمام الكلام في هذه المسألة، اشتبه عليه تأويل الآية وأشباه ذلك، فهذا ممكن، فيكون متشابها إضافيا.
لكن لا يوجد آية في القرآن معناها - ما نقول تأويلها يعني ما تؤول حقائق الأخبار فيها؟ لا- إنما معناها، هذا لا يوجد آية في القرآن يشتبه معناها على جميع الراسخين في العلم من هذه الأمة، هذا القول ليس من أقوال أهل السنة والجماعة وإنما هو من أقوال أهل البدع الذين ذهبوا مذهب التجهيل.
فإذن نقول الصحيح أن الراسخين في العلم يعلمون؛ لكن يعلمون المتشابه الذي يمكنهم علمه وهو ما كان في باب الإنشاءات أو كان باب التفسير تفسير المعنى، وهذا متعيِّن لأن الله جل وعلا قال ?وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا?[آل عمران:7] لو كان الراسخون في العلم لا يعلمون البتة وإنما يقولون آمنا به كل من عند ربنا، فليس لهم فضيلة على ما سواهم في المتشابه.
(37/195)
فما فضيلة أهل العلم الراسخين فيه في المتشابه إذا كانوا كعوام المسلمين إنما يعلمون المحكم والمتشابه جميعه يقولون فيه آمنا به كل من عند ربنا؟ هذا فيه إبطال لمزية أهل العلم في العلم، والمحكمات قلنا إن معناها هي ما تضح معناه وبانت دلالته، والمتشابه ما خفي معناه ولم تتضح دلالته.
فإذن على قول من قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون. فهذا فيه إبطال لمزية أهل العلم كما حرره ابن عطية رحمه الله تعالى والخطَّابي وأجادا في ذلك؛ في هذا البيان، وهذا يعني أن الراسخ في العلم يعلم.
وإذا كان كذلك فهنا يشكل على كثيرين تركيب الآية (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)كيف يكون التركيب على هذا الوجه؟ فنقول قال أئمة التفسير على هذا الوجه يكون التركيب ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ?[آل عمران:7] يعني حالتهم أنهم يقولن آمنا به، فيعلمون مع الإيمان به ويقولون كل من عند ربنا؛ لأجل أنه ليس في قلوبهم شك من ورود المتشابه، وأما ضعاف الإيمان وأما ضعاف العلم فقد يكون في قلوبهم شك من وجود المتشابه في القرآن، كما فعل صبيغ بن عسل المعروف في زمن عمر حيث كان ما ?وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا?[الذاريات:1]، ويشكك الناس بها، فإذا ضعف العلم ربما وقعت الشبهة في القلب من صحة القرآن، أما الراسخون في العلم فيعلمون ويقولون آمنا به كل من عند ربنا، فليس في قلوبهم شك ولا شبهة من ورود المتشابه في القرآن لأنهم يعلمون أن المتشابه في القرآن لأجل ابتلاء الناس.
هذا خلاصة معنى الآية ومعناها مهم في هذا الموضع.
(37/196)
قال (وقد صح هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم») فإذن الواجب على الموحد، الواجب على المسلم، أنه إذا ضبط المحكمات في التوحيد بأنواعه وفي الشريعة فإنه إذا أتى من يتَّبِع ما تشابه منه فإنه يجب عليه أن يعمل شيئين:
الأول: الحذر كما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) والحذر هذا يوجب المفاصلة في القلب بأن لا يصغي إلى حديثه ولا يجعل أحدا يلبِّس عليه دينه، هذا الأول.
والثاني: يجب عليه أن يقول آمنا به كل من عند ربنا، فيُرجع سبب الإشكال إلى جهله، وأما الآية في نفسها فواضحة يعلمها الراسخون في العلم.
ولهذا مثلا في باب التوحيد يأتيك من يحتج بالمتشابهات، مثلا وربما مجالها سيأتي؛ ولكن لإيضاح المقام يقول في قول الله جل وعلا ?وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا?[الكهف:82]، فهذا فيه دليل على تأثير الصلاح فيما بعد، أو يقول الشهداء أحياء وأنت لا تسأل ميتا إنما تسأل حيا بنص القرآن هم أحياء لقوله ?وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ?[البقرة:154]، ?وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا?[آل عمران:169]، ونحو ذلك.
فإذن هناك احتجاجات في توحيد العبادة بآي من القرآن، وفي توحيد الأسماء والصفات بآي من القرآن وهكذا، حتى إن أهل شرب الخمر والعياذ بالله وأهل الربا ونحو ذلك من الموبقات وجدوا لهم بعض المشتبهات فاحتجوا بها.
فالموحد المسلم يحرص تمام الحرص على أن يحذر ممن يوقع في قلبه الشبهة، ولهذا انتبه لقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ)، فاحذر أشد الحذر من أن يوقع أحد في أذنك شبهة تبقى ولا تستطيع الرد عليها، ثم ينميها الشيطان حتى يوقع في القلب الزيغ.
(37/197)
ولهذا قال بعض السلف: لا تُصغي إلى ذي هوًى بأذنيك فإنك لا تدري ما يوحي إليك.
إذا كان الرجل غير محكم العلم قوي لا يجلس مع أهل الشبه، يحذر؛ لأن السلامة في الدين([35]) أعظم ما ينبغي الحرص عليه.
قال الشيخ رحمه الله هنا (مثال ذلك) الآن الجواب المجمل اتضح وأنه في كل مسالة تُرجعه إلى المحكم إذا أتى بشبهة فترجعه إلى المحكمات، وذكرت لك أنواع المحكمات في القرآن من الآيات، فإذا أتى أحد بشيء من المشتبهات فأنت ترجعه إلى نوع من الآيات المحكمات فتبطل شبهته، ولو شبه وشبه فتقول له: ما عندي من الاستدلال محكم بين لا يستطيع أحد أن يدفعه وما أتيت به شبهة، فأنا أومن أن الجميع من عند الله؛ ولكن لا أترك المحكم للمتشابه؛ لأن هذا طريقة أهل الزيغ. فتمسَّك بها فإن هذه من أعظم الفوائد والعوائد.
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (مثال) مثال تطبيقي لما ذكرنا، الجواب المجمل عرفناه بالاستمساك بالمحكم في ورود المتشابه، إذا أتى استدلال متشابه ما عرفت الجواب عليه، أو جاوبت فأورد عليك شبهة ثانية تتمسك بالمحكم واترك الإصغاء للمتشابه.
قال (مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين ?أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62]) استدل هنا المشرك بهذه الآية ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ?[يونس:62-64] الآية دلت على أن الأولياء لهم منزلة عند الله جل وعلا لأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، معنى ذلك أن الولي له المنزلة العظيمة عند الله جل وعلا.
(37/198)
ثم يستدل بأن الشفاعة حق، الشفاعة حق فيقول هنا: الولي له جاه وله حرمة وله منزلة عند الله جل وعلا، والشفاعة حق، والأنبياء لهم جاه أيضا والمنزلة العظمى عند الله جل جلاله، فكيف تجعل من سأل الأولياء من الأموات أو سأل بعض الأنبياء من الأموات ودعاهم يكون مشركا مع منزلتهم الرفيعة عند الله، والشفاعة حق والمنزلة لهم ثابتة؟ فهنا هذه شبهة يأتي جوابها تفصيليا؛ لكن إذا وقعت هذه الشبهة في القلب، أو وقعت على الأذن وعرضت على القلب، فكيف يكون الجواب؟ إذا لم تعرف الجواب التفصيلي -هذه شبهة عظيمة- فماذا تقول؟
تقول: ما عندي من العلم محكم، وهذه محتملة لأنه هو دخل فيها باستدلال؛ لأن الأولياء الله جل وعلا بيّن أن لهم فضل (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، أن الله أكرمهم واستدل بهذا الإكرام على أن لهم جاها عند الله جل وعلا، وهذا النوع صار متشابها؛ لأنه جعل الفضل الذي آتاه الله جل وعلا الأولياء أو الشهداء أو الأنبياء بعد مماتهم دالا على الجاه، وعلى أن هذا الجاه لا يُرَدّ إذا توسطوا به، فتلحظ أنه أدخل أشياء زائدة عن معنى الآية، فالآية فيها اشتباه في المعنى؛ لكن إذا فسّرها أهل العلم أوضحوا معنى ذلك.
(37/199)
فإذن هنا يأتينا رد ذلك تفصيليا؛ لكن هنا كيف ترد عليه فتقول ما عندي محكم وهو أنّ الله جل جلاله بين أن المشركين الذين كفرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم إنما أرادوا الزلفى إنما أرادوا القربى، وهم ما توجهوا إلا للأولياء ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، فأولئك تقربوا للأولياء لماذا؟ لأجل الزلفى فهذه محكمة واضحة المعنى، كذلك بيان أن المشركين كانوا يقرون بالربوبية وأنهم مشركون، وسبب شركهم -مع عبادتهم وطاعتهم بأشياء كما ذكرنا- سبب الشرك هو طلب الشفاعة، كما قال جل وعلا ?أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، فنفاها عنهم فهذا أصل.
كذلك النوع الثالث من الآيات المحكمات التي فيها بيان أن الله جل جلاله حكم على من ألَّهَ عيسى بالكفر ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].
(37/200)
إذن فهو يورد الشبهة وأنت تورد عليه المحكمات، المحكمات واضحة المعنى؛ لكن هذه الشبهة التي أوردها في هذه الآية تلحظ أن الاستدلال بها فيه مقدمات، فقال جل وعلا (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) فهو يأتي ويقول هذا معناه أنَّ لهم جاه عند الله، تلحظ أن هذا الاستنتاج هذا اتباع للمتشابه؛ لأن الآية تدل على أنهم مُكرَمون وليسوا أصحاب جهل؛ لأن الآية فيها ما أعطاهم الله جل وعلا من الفضل؛ لكن أنّ لهم جاها هذه لم تأت في الآية، فجعل من تبع المتشابه هناك تلازما بين المكانة والرفعة وبيّن أن يكون لهم جاها، ما معنى الجاه؟ الجاه معناه إذا توسط فلا يرد، فجعل هذه ملازمة لهذه وهذا لاشك أنه اتباع للمتشابه؛ لأنه ليست دلالة الآية على ذلك.
فإذن هذا مثال لحجة يُدلي بها المشرك فإذا أدلى بهذه الحجة فتدمغه بالمحكمات الكثيرة.
قال هنا (أو ذكر كلاما للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره) يعني لا تفهم معناه الصحيح، لا تستطيع أن توضح له كلام المفسرين فيه كلام أهل العلم فيه إبطال ما أرد من الاستدلال، قال (فجاوبه) يعني أجبه (بقولك إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم ?هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18]، هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه) يعني ليس له معنيان لأن المشركين عبدوا غير الله للزلفى قال ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] هذا بين واضح لا يحتاج إلى مقدمات في الاستدلال، كذلك قولهم (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) فهم طلبوا الشفاعة أيضا هذا أمر بين واضح.
(37/201)
قال الشيخ رحمه الله (هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن أو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعرف معناه) هذا هو الذي يجب به الموحد إذا أدلى أحد بشبهة تقول: أنا لا أعرف المعنى. وهذا ليس بعيب، وأن تكون لا تعلم بعض الآيات؛ لأن العلم واسع فتقول: أنا لا أعرف معنى هذه الآية الصحيح؛ لكن أعلم أن المحكم هو كذا؛ لكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، لم؟ لأن القرآن كله من عند الله جل وعلا وهو محكم وكله حق والحق لا يناقض حقا بل يؤيده ويدلّ عليه.
قال (وأن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام الله عز وجل) لأن الرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إذا ثبتت سنته وصارت مقبولة محتجا بها فإنها مبينة للقرآن ودالة عليه، كما قال جل وعلا ?وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ?[النحل:44]، فأنزلت السنة وكان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما يأتيه بالقرآن لبيان معنى الذكر، تارة يكون بيانا لفظيا وتارة بيانا عمليا، فكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف ما جاء في القرآن؛ لكن التوفيق بين هذا وهذا تقول: أنا أجهله. تقول: كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - هو بيّن لا يخالف كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا لا يناقض كلامه جل وعلا؛ ولكن التوفيق بين هذه الآية وهذه الآية رد هذا المتشابه إلى المحكم حتى يتضح المعنى هذا لا أعلمه أنا، وإنما يعلمه الراسخون في العلم؛ لكن ما عندي من العلم بالتوحيد هذا بين محكم لا يستطيع أحدٌ أن يرده أو يشكك في دلالته.
قال رحمه بعد ذلك في نهاية هذا الجواب المجمل (وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى) تحتاج إلى توفيق بالتخلّص؛ هنا التوفيق يأتي بتخلص العبد من هواه وتخلّص العبد من رؤيته لعقله ونفسه.
(37/202)
بعض الناس يأتي للمتشابه ويخوض فيه؛ لأن عقله جيد، يقول أنا عقلي ليش ما أحاول أفهمها؟ ليش؟ ما أفهم؟ أنا أفهم، فيدخل في المتشابه يغوص ويغوص فيُخرج منه أشياء يضل بها، كما قال جل وعلا ?فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7]؛ يعني ابتغاء تفسيره، فيخوض في المتشابه المشكل المعنى رغبة وطلبا للتفسير فيضل في التفسير فيعتقد أن تفسيره صواب وأن فهمه للآي صواب وفهمه للسنة صواب، فيكون ممن اتبع المتشابه وترك المحكم، والواجب عليه ألا يخوض في ذلك وأن يرد معناه إلى أهل العلم الراسخين فيه.
قال (وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى) وإذا أردت الخير في هذا الباب فإياك ثم إياك من تعظيم عقلك وأن تقول قد حصلت من العلم كذا وكذا، فتخوض في أشياء وتطعن بفهمك على فهم أهل العلم.
فإذا خالفت في فهمك فهم الراسخين في العلم فاعلم أنك لو استرسلت في فهمك فإن هذا من اتباع المتشابه؛ لأننا نقطع بأن الراسخين في العلم يعلمون المعنى، ولا يمكن أن يكون المعنى مفقودا من الراسخين في العلم وأنْ يؤتاه من ليس براسخ في العلم؛ لأن الله جل وعلا قال ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ?[آل عمران:7].
(37/203)
قال(ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى فلا تستهن به فإنه كما قال جل وعلا ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا?[فصلت:35])، يحتاج إلى صبر؛ لأن النفس تُنازع -خاصة طالب العلم أو الذي قرأ عنده قراءات وثقافات وأشباه ذلك- تنازعه نفسه في حل كل إشكال، تنازعه نفسه في الدخول في الاستدلال كل متشابه، ولهذا تجد بعض طلبة العلم الآن أو بعض المنتسبين للعلم والقراء تجد أنهم يوردون إشكالات كثيرة، فالعالم يردّ عليهم بالمحكمات ولا يضطرب لورود المتشابه؛ لكن من ليس براسخ في العلم إذا ورد المتشابه عنده فإنه يضطرب،لم؟ يضطرب لأنه لا يعرف عظمة المحكمات وكثرتها ووضوح معناها، فإن المحكمات في الأدلة والمحكمات في العقيدة والمحكمات في الأحكام هذه واضحة عند أهل العلم بينة ما يمكن أننا نضطرب معها، فقد يرد إشكال فنقول والله هذا مشكل نبحث عن جوابه ماذا قال أهل العلم في جوابه؛ لكن من لم يكون صابرا على الاكتفاء بالمحكمات فإنه سيدخل في المتشابهات متعجلا وسيضل من حيث ظن أنه سيبحث أو سيحل الإشكال، ولهذا هنا لابد في المتشابه من الصبر (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا) مثل ما قال الشيخ رحمه الله وأجزل له المثوبة، تحتاج إلى صبر، كثيرين ما صبروا جاءتهم الشبه فاتبعوها ما صبروا، دخلوا فيها بأهوائهم وآرائهم وما صبروا، ولو صبر زمنا طويلا وتمسك بالمحكمات كان قد أدى الذي عليه.
قال (?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35]) ولا شك أنّ الذي يستمسك بالمحكم في رد المتشابه فإنه قد أدّى الذي عليه وامتثل قول الله جل وعلا وخَلَصَ من الابتلاء والفتنة بالمتشابه، ويكون حاله -إذن- أنه ذو حظ عظيم؛ لأنه سلِم من الابتلاء بذلك وسلِم من الفتنة فنجح حيث لم يتبع المتشابه ورد المتشابه إلا المحكم.
(37/204)
ولا شك أن هذه كلمة ينبغي لك أن ترددها في مسائل العلم جميعا، وخاصة المسائل التي يكون هناك فيها إلقاء للشبه في أمر توحيد العبادة وكذلك في أمور العقيدة بشكل عام:
فلا تجهل لها قدْرا وخذها
شكورًا للذي يحيي الأناما
ونختم بهذا ونسأل الله جل وعلا أن ينور قلوبنا بالعلم الصالح النافع، وأن يجعلنا ممن يحذر من المتشابهات ويفقه المحكمات، ويستعين بالله جل وعلا وبأمره كله.
اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك فأنر قلوبنا بالإيمان، واجعلنا من الصابرين، نعوذ بك أن نَضل أو نُضل أو نجهل أو يجهل علينا أو نزل أو نزل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[الجواب المفصّل]
[المتن]
وأما الجواب المفصّل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدّون بها الناس عنه: منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم.
فجاوبه بما تقدم؛ وهو أنّ الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرّون بما ذكرتَ، ومقرّون أنَّ أوثانهم لا تدبّر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشّفاعة، واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضَّحه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، ربنا اجعل ما علمتنا حجة لنا، نعوذ بك أن نضل أو نُضل أو نزل أو نُزل أن نجهل أو يُجهل علينا.
(37/205)
لما ذكر إمام الدعوة رحمه الله تعالى ورفع درجته أنّ جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصل: ذكر المجمل، ثم ذكر المفصل.
ومن المعلوم في فن التأليف أن التقاسيم إذا وردت فإنه يناسب أن يقدَّم ما كان الكلام عليه مختصرا، وما كان الكلام عليه مطولا فإنه يؤخر، ولهذا الشيخ رحمه الله قدَّم المجمل على المفصل لاعتبارات:
منها أن الكلام على المجمل قليل والكلام على المفصل كثير، ولو أخر الكلام القليل لذهب الذهن في المفصل ونسي أنه سيأتي المجمل.
ومن فوائد تقديم المجمل على المفصل أن المجمل يفهمه كل أحد، يحتاجه كل موحِّد، وسهل الفهم إذا علم عقيدة التوحيد وفهم بعض أدلتها فإنه يمكنه أن يجعل ذلك محكَما، فإذا أتى من يشبِّه عليه دينه ومن يجعله يتردد في بعض هذه أو يشككه أو يورد عليه الشبه فإنه يحتجّ عليه بالمحكَم فلا يجد ذلك صعبا، وأما المفصَّل فيحتاج إلى علم، يحتاج إلى مقدمات تارة لغوية وتارة أصولية وتارة من واقع حال العرب.
وقال رحمه الله تعالى ابتداء بالمفصل بعد المجمل؛ ابتداء برد شبهة وهي شبهة تحتاج إلى تأمل؛ لأنَّ أكثر الذين يكون عندهم نوع قرب أو قبول للتوحيد ربما تروج عليهم هذه أكثر من غيرها.
فقال (وأما الجواب المفصَّل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كبيرة على دين الرسل يصدُّون بها الناس عنه)، هذه الكلمة (وأما الجواب المفصل) ليست موجودة في كثير من النسخ المطبوعة، ولم أرَ النسخ الخطية حتى نتثبت هل هي موجودة أم لا؟
(37/206)
وعلى العموم فإن الشبهة على الجواب المفصل الشبهة التي سيجيب عليها في المفصل هي قوله (نحن لا نشرك بالله) إلى آخره، فقوله إذن (وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كبيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه) هو إيراد لهذه الاعتراضات الكبيرة على التفصيل، ويلزم من إيراد الاعتراضات إيراد الأجوبة فقوله (فإن أعداء الله لهم اعتراضات) هذا لأجل أنه سيورد بعد الاعتراضات الأجوبة، هذا من ناحية الأسلوب ومن ناحية التأليف؛ لكن المعنى ظاهر.
قال (منها قولهم تحت لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عن عبد القدر أو غيره؛ ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم)، قال (فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقِرُّون بما ذكرت ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة واقرأ عليه ما قال الله في كتابه ووضحه) هذه الشبهة يمكن تقسيمها إلى أقسام:
الجملة الأولى: قولهم (نحن لا نشرك بالله)، وهذا القول منهم (نحن لا نشرك بالله) يريدون به الإشراك بالله في الربوبية، ولهذا قالوا بعده (بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق) إلى آخره، وقولهم (نحن لا نشرك بالله) راجع إلى أن الشرك له حقيقة شرعية جاءت في النصوص؛ ولكن حُرِّفت هذه الحقيقة وصُرفت عن وجهها.
ففي النصوص الإشراك والشرك هو اتخاذ الند مع الله جل وعلا في المحبة والعبادة الإشراك أو الشرك هو أن يجعل لله شريك إما في ربوبيته أو في ألوهيته أو في أسمائه وصفاته يعني أن يعتقد أن له مماثلا في اتصافه وفي أسمائه، هذا معنى الشرك.
ولهذا الشرك في النصوص تارة يتوجه إلى الشرك في الإلهية، وتارة يتوجه إلى الشرك في الربوبية.
(37/207)
أما الشرك في الربوبية فكقوله جل وعلا في سورة سبإ مثلا ?وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ?[سبإ:22]، يعني من شركٍ في التدبير والتصريف.
وتارة يكون نفي الشرك أو النهي عنه لأجل الألوهية كقوله جل وعلا في آخر سورة الكهف ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، هذا شرك في الألوهية في العبادة والآيات أيضا في هذا كثيرة.
والشرك الثالث في الأسماء والصفات كقوله جل وعلا ?وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا?[الكهف:26]، وكقوله ?فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ?[النحل:74]، وكقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، وكقوله ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4].
هذا هو الذي يعلمه أهل العلم بما دلّت عليه بالتنصيص الآيات فكان ذلك معلوما عند العرب تفهمه بلغتها.
(37/208)
لما أتى اليونان إلى بلاد المسلمين بكتبهم؛ يعني استقدم بعض المسلمين كتب اليونان في قصة معلومة، ولا بأس أن نذكرها، وهي أن أحد ولاة العباسيين أرسل وفدا إلى ملك الروم، وطلب منه أنْ يُرسل إليه بكُتب الأوائل التي عنده، كتب الأوائل المقصود بها كتب الروم واليونان وكتب من يسمونهم الحكماء والفلاسفة، فعرضوا هذا على الملك الوافدون من عند الوالي المسلم من ولاة العباسيين، فقال: أمهلوني، فاستشار علماء النصرانية وعلماء بلده، فقالوا له وكانت موجودة في بيت للكتب قالوا: هذه هي زينة مملكتنا فكيف تعطيهم إياها، فأجبه بالنفي، فإن هذه لا يجوز أن تُخرج من بلدنا. وسكت واحد منهم فقال له: مالك سكت؟ وكان من حكمائهم وحذاق علماء نحلتهم وملتهم، فقال: يا عظيم قومنا أرى أن ترسل بالكتب إليهم ولا تمنعهم منها. فقال له ولم؟ قال لأن هذه الكتب ما دخلت إلى أمة إلا أفسدت عليها دينها. ووافقه عليه البقية، فحصل أنها أرسلت الكتب -كتب اليونان- وتُرجمت إلى آخر ذلك، اليونان فلاسفة، أرسلت كتب أرسطو وأفلاطون، هذه الفلسفة غايتها توحيد الربوبية، غايتها أن ينظر في الملكوت ينظر في الوجود فيُثبت أن هذا الكون له صانع؛ لأن هذا غاية الحكمة؛ يُثبت أن هذا الكون معلول عن علة، وهذه العلة عاقبة فيسمونها علة العلل أو العقل الأول في كلام فلسفي؛ يعني له تفاصيل.
(37/209)
فدخل هذا على المسلمين، فلما دخل رأى من قرأ تلك الكتب بعد ترجمتها أن هذه هي كتب الحكمة وكتب الحكماء وكتب الفلسفة؛ يعني طلب الحكمة، قالوا: إن هذه هي الغاية، فكيف نوجد وسيلة للجمع ما بين الشريعة ما بين الإسلام -القرآن- وما بين هذه الكتب وفلسفة اليونان؟ فأخرجوا ما يسمى بعلم الكلام؛ وهو خليط من الشريعة -من النصوص- وما بين عقل الفلاسفة، وهذا الخليط جُعلت فيه الشريعة والعقل هذا يقارِن هذا، وهذه تقارن ذاك، يعني ما قدموا الشريعة على العقل ولا العقل على الشريعة، فنظروا في هذا ونظروا في هذا؛ لكن ينظرون في الشريعة بالعقل وينظرون في العقلانيات بالشريعة، هنا نظروا إلى أن غاية الغايات هو النظر في الملكوت، فلهذا أجمع المتكلمون على أنَّ أول مهمة، على أن أول واجب على العبد أن ينظر في الملكوت ويُثبت وجود الله جل وعلا.
هذا الأصل صار مستغرقا عندهم لا مَحيد عنه، وخاصة بعد مرور عقيدة جهم أن الغاية عنده إثبات وجود الله أيضا في مناظرته مع طائفة السُّمنية كما ذكرت لكم فيما سبق.
هذا الخليط الذي نتج صار هو الغاية عند كثير من الناس، فبالتالي نظروا في تفسير كلمة التوحيد، الشريعة فيها لا إله إلا الله هذه أصل التوحيد، وكلام الحكماء -كما يقولون- فيه أن الغاية هو إثبات وجود الله والنظر في علة العلل، والنظر في الملكوت حتى يطلب الحكمة فيما وراء الطبيعة. قالوا: إذن معنى هذا لأن ذاك عقل صحيح وهذه الشريعة صحيحة معناه أن يفسَّر بالعلة؛ علة العلل؛ لأن أول واجب في الشريعة لا إله إلا الله، أول واجب في الفلسفة أن ينظر في الملكوت فيُثبت أن لهذا الملكوت أو لهذا الكون علة نتج عنها.
(37/210)
فخلطوا ما بين هذا وهذا، فقالوا: إذن ولا يمكن للعقل أن يكون مخطئا -عندهم نتاج الفلاسفة عقل قطعي-، ولا يمكن أن تكون الشريعة أيضا فاسدة، فهذا صحيح وهذا صحيح، فقالوا: إذن نفسر الإله بأنه الخالق؛ بأنه القادر على الاختراع. قالوا: إله هنا، نظروا قالوا: لكن إله في اللغة ليس معناها الخالق. فتأملوا في ما جاء في كتب اللغة فوجدوا أن هناك من قال: إله هذا بمعنى آلِهْ إذا جعله غيره متحيِّرا، فَأَلَه الرجل تحيَّر وتردد، وهذه مادة ربما تكون موجودة في بعض استعمالات العرب، أَلَهَ الرجل يعني تحير وتردد، فقالوا: إذن (لا إله إلا الله) إذا كان معنى الإله هو الخالق القادر على الاختراع فهو الذي فيه تتحير الأفهام؛ لأن قصدهم هنا أن ينظر، وهم إذا نظروا وتأملوا تحيرت الأفهام حتى يثبت الوجود، فقالوا: هنا التقت اللغة مع الشريعة مع العقل. وهذا قرروه في كتبهم، فحصل منه أنّ معنى لا إله إلا الله عندهم يعني لا قادر على الاختراع إلا الله، لا خالق إلا الله.
وإذا كان كذلك فيكون الشرك الذي يخرج من كلمة التوحيد هو أن يقول: ثَم قادر على الاختراع، ثَم رازق، ثَم من تحيرت الأفهام في حقيقته غير الله جل وعلا، فمتى يكون مشركا عندهم؟ إذا لم يثبت لا إله إلا الله، ومتى لا يثبت لا إله إلا الله؟ إذا قال إنه ثم خالق غير الله جل وعلا.
هذا الخليط من العقل واللغة الضعيفة التي نقلوها أو القليلة والشرع فيما نظروا فيه -يعني في بعض النصوص- أنتج لهم: أن الشرك هو الشرك في الربوبية؛ يعني اعتقاد أن ثم خالقا مع الله جل جلاله، ودُوِّنَ هذا في كتب المتكلمين الأوائل ونقله عنهم الأشاعرة، وأثبتوا ذلك في كتبهم، ولهذا الأشاعرة يقولون والماتريدية: أول واجب عند العبد النظر، وبعضهم يقول: الشك، وبعضهم يقول: القصد إلى النظر فهذا أول واجب.
والإله من هو؟ الإله:
منهم من يقول: الإله هو القادر على الاختراع.
(37/211)
ومنهم من يقول: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
ومنهم من يقول: الإله بمعنى آلِه وهو المحيِّر، فلا يوصل إلى حقيقته وهو الله جل وعلا.
فنتج من هذا -وهو موجود في كتب المتكلمين وكتب الأشاعرة والماتريدية إلى يومنا هذا- نتج من هذا انحراف خطير في الأمة، وهو أن الإله ليس هو المعبود، وأن لا إله إلا الله معناها لا قادر على الاختراع إلا الله، لا مستغنيا عمل سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، لا متحيِّرا في حقيقته إلا الله، فنتج من ذلك إخراج العبودية عن أن تكون في كلمة التوحيد، ونتج من ذلك الانحراف الخطير أن لا إله إلا الله ليست نفيا لاستحقاق أحدا العبادة مع الله جل جلاله.
فنتج وهي النتيجة قدم لها الشيخ هنا أن طوائف كثيرة من المؤمنين يعني من المسلمين فَشَا فيهم كلام الأشاعرة هذا وكلام المتكلمين وكلام المبتدعة هذا في معنى كلمة التوحيد، فيكون معنى الشرك عندهم راجع إلى واحد مما دلت عليه النصوص وهو الإشراك بالربوبية الذي جاء مثلا في سورة سبإ وفي غيرها.
(37/212)
أما الإشراك في العبادة ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، فهذا عندهم لا يَنْقُضُ كلمة التوحيد طيب نظروا بعد ذلك فيما فعلته العرب -ستأتي في الشبهة التي تليها- فيما فعلته العرب بما أشركت العرب؟ قالوا أشركت بعبادتها الأصنام وفي أنها ما وحَّدت الله في ربوبيته ولم تقل لا إله إلا الله؛ بل قالت إن الأصنام لها نصيب من الإلهية؛ يعني لها نصيب من الربوبية؛ ولهذا من أعظم ما راج على كثير من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين، وراج على كثير من علماء الأمصار أن الألوهية تفسر بالربوبية، وأن لا إله إلا الله تفسر بمقتضيات الربوبية هذا نتيجة إلى هذا الانحراف، لهذا هذا المشرك الذي قال في شبهته -قد يكون عالما وقد يكون غير عالم- يقول (نحن لا نشرك بالله) هو قال هذه بحسب اعتقاده، هو لا يشرك بالله بحسب اعتقاده أن الشرك إنما هو الشرك في الربوبية وليس في الإلهية، وهذا نتيجة لما ذكرت لكم.
فإذن هذه الكلمة (لا نشرك بالله) ردُّك عليها كشف هذه الشبهة كما ذكر الشيخ رحمه الله في آخر الكلام وبما أوضحت لك في أنه:
أولا: تُوضِحُ موارد الشرك في القرآن، ما الذي نُفي من الإشراك بالله، نفيت الثلاثة التي ذكرت لك وكل واحدة عليها أدلة، حبذا تجمع هذه الأدلة في كل موضع يعني في كل نوع وتحفظ ذلك، هذا نوع.
الثاني: معنى الإشراك في النصوص.
الثالث: أن تبين أن الانحراف وقع، فصُرِف معنى الإشراك عن معناه في النصوص إلى المعنى الباطل ونتج عنه أن كلمة التوحيد فهمت أيضا غلطا، وفهم منها أنها نفي لربوبية غير الله جل وعلا، وهذا باطل.
فإذن قولهم (نحن لا نشرك بالله) هذه جملة يمكن أن تردَّها تفصيلا، وهذه الشبهة التي أوردوها لها رد بما أورده الشيخ رحمه الله.
(37/213)
الشيخ ما أجاب عن كل جُملة جملة؛ لكن أجاب عن النتيجة التي وصلوا إليها بهذه المقدمات الباطلة، قالوا (نحن لا نشرك بالله) لِمَ لا تشركون بالله؟ قالوا (لأننا نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له) يعني لا يخلق ولا يرزق استقلالا ولا ينفع ولا يضر استقلالا إلا الله وحده لا شريك له، (وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا) كما جاء في النصوص يقولون نحن نقول ذلك؛ فهو عليه الصلاة والسلام لا يملك نفعا ولا ضرا، استقلالا لا يمكن أن يعطينا شيء؛ ولكن هو عليه الصلاة والسلام يمكن أن يعطينا عن طريق الوساطة، عن طريق التقريب، عن طريق التزلف؛ يعني أن يقربنا زلفا.
(37/214)
وهذه الشبهة أوّل من أوردها فيما أعلم في كتابه إخوان الصفا في كتابهم ورسائلهم المشهورة رسائل إخوان الصفا الرسائل الخمسين المعروفة، فإنهم قرروا أن التوحيد هو الربوبية وأن هؤلاء الأموات من الأنبياء والصالحين أنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا كما قال هنا هذا الذي أورد الشبهة ولكن تتوسط بهم، لِمَ تتوسط بهم؟ عللوا بأن أرواحهم عند الله؛ لأن الله قال عن أرواح الشهداء ?أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ?[آل عمران:169]، والعندية معناها أنهم لهم القربى عند الله، فلهم الجاه ولهم الزلفى عند الله جل وعلا، فإذا سألتهم إذا دعوتهم فإنما تتوسط بهم لا تسألهم استقلالا، فيقول هؤلاء نحن لا نعتقد أن هذا ينفع ويضر بنفسه ينفع ويضر استقلالا ويخلق استقلالا يرزق استقلالا، حاشا وكلا، ولكن يمكن أن يخلق الله بواسطته، الولد في رحم الأم إذا سألناه أن يرزق الله بواسطة شفاعته؛ لأنه مقرب عند الله جل جلاله([36]) ..... هذا التقريب عند الله جل جلاله وَصَفوه بقولهم (ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله) فقدموا هاتين المقدمتين، يقول (أنا مذنب) والمذنب لا يمكن أن يكون وليا لله أو مقربا عند الله، فعلى اعتقاده أنه لا يمكن أن يصل إلى الله مباشرة، وأولئك قالوا (والصالحون لهم جاه عند الله) هذا الجاه ماذا يفعل قالوا هذا الجاه بمعنى أنه لو سأل لم يَرُد، وإن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه، فأتى من هذه الشبهة ورد التوحيد باعتبار أن هذا الصالح الذي عند الله جل وعلا مقرب وهذا الصالح الذي عند الله له الزلفى والمقام الأعظم بحيث إنه لو سأل لم يُرد، تكملة الشبهة قالوا (وأطلب من الله بهم ) أطلب من الله لا منهم؛ يعني أني لا أسألهم؛ ولكن أطلب من الله بهم، كلمة (بهم) هما ليس معناه التوسل بهم يعني بجاههم؛ يقول أسأل الله بالنبي أسأل الله بالولي أسأل الله بأبي بكر وعمر؛ لأن سؤال الله بالصالحين هذا بدعة ووسيلة إلى الشرك وليس شركا أكبر؛
(37/215)
ولكن القصد من قولهم (وأطلب من الله بهم) يعني أطلب من الله بوساطتهم وبشفاعتهم وبتقريبهم إياي عند الله زلفى.
فإذن كلمة (بهم) لا يقصد بها التوسل بالجاه؛ لأن هذه بدعة وليس شركا وإنما يقصدون بها الشفاعة والتقريب زلفى.
قال (فجابه بما تقدم) هذه الشبهة تلحظ شكلها مركبة، لاشك أنها شبهة وهي التي تروج عند الجميع، كيف واحد يؤمن بالله ويقول إن الله واحد في ربوبيته لا ينفع إلا هو، لا يخلق إلا هو، ولا يرزق إلا هو، إلى آخر ذلك، ويقول أنا مذنب؛ ولكن أتوسل يعني أتقرب إلى الله بالصالحين بشفاعتهم، أسألهم أن يدعو الله لي، أتقرّب إليهم بالدعاء حتى يشفع لي عند الله جل وعلا، هذا لا يجعلني مشركا، معناه -على حد قولهم- هو لا يشرك بالله وهذا ليس شركا بالله، فما الجواب؟
قال (فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقِرُّون بما ذكرت).
هذا الآن الدرجة الأولى من الجواب، تقول الآن له: نحن معك فيما ذكرت؛ لكن ننظر إلى حال المشركين الذين قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكم عليهم بالكفر والشرك، ما حالهم؟ ننظر إلى القرآن ماذا فيه؟
(37/216)
القرآن فيه أنهم مقرون بأن الله هو الخالق وحده وهو الرازق وحده وهو الذي ينفع وحده وهو الذي يضر وحده، إذا قال: ما الدليل على هذا؟ هل المشرك كان يعتقد هذا؟ نقول: نعم مشركوا العرب كانوا يعتقدون ذلك كما قال الله جل وعلا ? وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُِم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[الزخرف:87]، ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ?[الزمر:38]، وفي الآية الأخرى ?لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9] وقال جل وعلا ? قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ?[المؤمنون:84-85]، وفي آية سورة يونس ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31]، إذن في آيات كثيرة هذا الاعتقاد الذي وصفت أنك لست مشركا باعتقاده، نقول هذا وصف الله جل وعلا به مشركي العرب مشركي أهل الجاهلية، هذه الدرجة الأولى من جواب هذه الشبهة.
(37/217)
الدرجة الثانية (ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا)، الأوثان جمع وثن وهو المتجَه إليه بالعبادة، وفي غالبه لا يكون على هيئة صورة، والأصنام ما كان على هيئة صورة، وقد يقال للأصنام أوثانا باعتبار أنها معبودة من دون الله جل وعلا كما قال جل وعلا في صورة العنكبوت في قصة إبراهيم ?إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا?[العنكبوت:17]، وفي الآيات الأخرى في قصة إبراهيم قال ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ?[الأنبياء:52]، فإذن هي أصنام وأوثان، فالأوثان ما لم يكن على هيئة صورة، فإذن نذهب إلى شرك المشركين ونقول له: المشركون مقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا. إذن المشرك مقر بأن الوثن ليس له نصيب في التدبير، فإذن ما رفضه من كلمة لا إله إلا الله وصار به مشركا ليس من جهة اعتقاده أن ثَم مدبرا غير الله جل جلاله؛ لأن الله جل وعلا قال ?وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31] هذه المقدمة الثانية.
المقدمة الأولى: اعتقاد المشركين في الربوبية في الله جل وعلا أنه هو المتفرد بالأمر، كما قال ذلك عن نفسه؛ يعني كما قال المشرك عن نفسه أنه يشهد هذه الشهادة.
الخطوة الثانية: اعتقاد أولئك في الأوثان بم؟ قال اعتقد في الأوثان العربُ أنها لا تدبر شيئا.
(37/218)
إذا استدللت على هذه بالآيات وبحال العرب يأتي النتيجة وهي وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، لماذا أرادوا الجاه والشفاعة فقط؟ لأن الله جل وعلا قال ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] ومن المتقرر في اللغة أن كلمة (مَا) وبعدها (إلا)، (ما) النافية التي تأتي بعدها (إلا) هذه تفيد الحصر فكأنه قال عن قولهم: لا نعبدهم لشيء ولا لعلة من العلل، لا لأنهم يملكون الرزق ولا يملكون الموت والحياة، ولا لأنهم يدبرون الأمر، ولا نعبدهم إلا لشيء واحد: وهو أن يقربونا إلى الله زلفى.
فإذن ينتج من ذلك أنّ المشركين كان شركهم باعتقاد أن هذه الأوثان تقرِّب إلى الله زلفى، باعتقاد أن هذه الأوثان لأجل أن لها منزلة عند الله وأن لها جاه عند الله فهي تقرّب، ما هذه الأوثان التي عُبِدت؟ الملائكة، أليس كذلك؟ ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ?[سبإ:40-41]، وقال جل وعلا في الأولياء ?أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ?[الشورى:9]، وقال جل وعلا في قصة عيسى عليه السلام ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[المائدة:116]، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[ الجن: 18 ].
(37/219)
فإذن نُوِّعت المعبودات المنفية ولما نزل قول الله جل وعلا ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا?[الأنبياء:98-99] فرح المشركون قالوا: إذن سنكون مع الصالحين، سنكون مع اللات، وسنكون مع عيسى، وسنكون مع عزير، وسنكون مع كذا وكذا، مع من عبدنا. فأنزل الله جل وعلا قوله ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ?[الأنبياء:101-102]الآيات.
إذن ترتَّب على ما ذكرنا أن ما قاله صاحب الشبهة هي دعوى، لا تجابهه بأن تقول هذه دعوى بل أنت مشرك، لا، تقول له: نأخذها واحدة واحدة، أنت الآن تقول أنا لا أشرك بالله وأنك تشهد كذا وكذا، فنقول ننظر إلى حال المشركين في الآيات.
فإذا تأملت حال المشركين وقصصت عليه وتلوت عليه الآيات وأفهمته إياها كيف كانت حالة المشركين وأنهم مُقِرُّون بما أقر هذا به.
فإذن تنقله إلى الخطوة الثانية: وهي أن المشركين كانوا لا يعتقدون في أوثانهم أنها تدبر شيئا
ننقله بعد ذلك الخطوة الثالثة فيما قدمت لك سالفا في معنى الشرك، ما معنى الشرك، ومعنى كلمة لا إله إلا الله، ثم تنقله إلى أن أولئك لم يرضوا بلا إله إلا الله لأنهم إنما أرادوا الزلفى بنص الآية، وأرادوا الشفاعة بنص آية الزمر أيضا ?أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، فهي له وحده دون ما سواه؛ يعني مِلكا، هو الذي يخبرك عن حكمها جل وعلا لا تبتدئ أنت بتصريف أمرك في الشفاعة كما تريد؟ لا، هي لله جل وعلا سبحانه استحقاقا، وله جل وعلا مُلكا وأمرا ونهيا.
قال(واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه).
(37/220)
بهذا يتبين لك أن هذه الشبهة وهي من الشبه التي قد تواجهها، كثير من الناس تروج عليه؛ يقول كيف أنا مؤمن أنا كذا وكذا، يعني على شان ذهبت إلى رجل من الصالحين والأولياء عند قبره وقلت له: اشفع لي فأن لك جاه عند الله ومقاما عند الله، فاسأل الله لي أن يرزقني ولدا، واسأل الله لي أن يعطيني وظيفة، واسأل الله لي أن ييسر أمري، أكون مشركا كأبي جهل وكذا. هذه تروج على كثير من جهة العاطفة ومن جهة التقريب، إنما أنا أصلي وأنا أزكي وأنا كذا، وأعتقد أن الله هو الخالق الرازق، أنا لا أشرك بالله جل وعلا، فينفي شيئا هو في حقيقته واقع فيه، ولهذا قال الصنعاني في رسالته تطهير الاعتقاد([37])، هذا الصنعاني وكذا الشوكاني في رسالته توحيد العبادة المعروفة قالوا فيما جابهوه في اليمن قالوا: إن الأسماء لا تغير الحقائق؛ يعني إن غير المشركون وعلماء المشركين الأسماء فإن الحقائق لا تتغير، إذا سمَّوْا طلب الشفاعة وطلب الزلفى توسلا فإن هذا لا يغير الحقيقة، إذا سموه سؤالا بهم كما قال الشيخ هنا عنهم (قالوا: وأطلب من الله بهم) فهذا لا يغير حقيقة الأمر وهو أنهم يطلبون من الله صحيح؛ ولكن متوسلين بشفاعة أولئك لا بذواتهم، فالتوسل بشفاعتهم: اشفع لي، واسأل الله لي، وأطلب من الله لي، واسال الله لي وأشباه ذلك، هذا كله هو طلب الزلفى، أو يتقرب إليهم ليشفعوا من دون التنصيص على الشفاعة، يقول: أنا أتقرب إليه أذبح صحيح الولي؛ ولكن أنا أقصد الذبح لله؛ لكن للولي حتى ينعطف قلب هذا العبد الصالح علي لأني ذبحت فيسأل الله لي.
فإذن مقصود من عبد غير الله، من عبد الأوثان، من عبد الأصنام، من عبد القبور، من عبد الأولياء، من عبد الموتى، مقصودهم أن يشفع أولئك لهم، ليس مقصود أولئك أن يتخذوا هذه أربابا أو آلهة استقلالا، ما هذا المقصود أحد ممن أشرك؛ ولكن هذا مقصود أولئك من أنهم يريدون القربى والزلفى.
فإذن تحتاج في رد الشبه إلى:
(37/221)
· أن تتدرج في المقدمات أولا.
· الثاني أن تفهم كيف ترد الشبهة بعمومها وكيف تفصل جمل الشبهة فترد عليها بخصوصها.
· الثالث أن تقدم الرد المجمل أو الرد الإجمالي على ما أورد من الشبهة برد مفصل على تفصيل كل جملة جملة، مثل ما ذكر الشيخ رحمه الله.
هنا قال (حالتهم) أذكر لهم حالة المشركين لا تجادلهم بأنه لست أنت مشرك أو أنه كذا وكذا لا؛ ولكن صف له حال المشركين وتفصيل الكلام الذي ذكرنا، ثم انتقل بعد ذلك إلى معنى كونه مشركا إلى معنى كونه نافى كلمة التوحيد إلى آخر ما ذكرنا.
هذه من المهمات في أن تتصور كيف تتدرج في رد الشبهة، واحذر من أن تنساق وراء الشبهة مع العاطفة فتجبهه بكلام قد يقوي الشبهة عنده، فلا بد أن يكون الانتقال كما عليه قواعد إقامة البرهان وإقامة الحِجاج مع المخالف؛ أن تنتقل في شأنه من المتفق عليه إلى ما هو أقل اختلافا، ثم إلى ما هو أكثر، وهكذا.
المسألة التي يقوى الاختلاف فيها لا تبتدئ بها، ابتدئ بالواضح واضح جدا، ثم انتقل بعده درجة إلى الأقل وضوحا، ثم إلى الأقل وضوحا وهكذا، أما إذا ابتدأت بما هو أكثر إشكالا فإنه لن يقتنع؛ لأن ما هو أكثر إشكالا يحتاج إلى مقدمات كثيرة.
فإذن تبتدئ معه بما هو أكثر وضوحا، والأكثر وضوحا:
· وصف حال المشركين من مشركي العرب من جهة إقرارهم بالربوبية، واحد.
· الثاني إقرارهم بأن أوثانهم لا تدبر شيئا.
· الثالث بأنهم إنما أرادوا الزلفى والشفاعة بنصوص القرآن في ذلك.
لكن لو ابتدأت معه بمعنى العبادة ربما يأتيك بمخالفات، يقول لك: لا العبادة هي كذا، إذا أتيت معه في التكفير، هنا يخالفك يقول لك: لا، هو كذا وكذا وكذا، فتبتدئ معه بتقرير شرك المشركين وترد عليه شبهته هذه بأن أولئك ما أرادوا إلا الزلفى، والتدرج إذن مهم.
(37/222)
وبعض الذين دعوا إلى التوحيد مع الأسف أوقعوا المدعو في شبهة أعظم مما كانت عنده، لأنه جاء للمستغرق من المسائل فأراد أن يجيب عليها بما عنده واضح؛ لكن هي ليست بواضحة، فأراد أن يجيب فزاد الإشكالَ إشكالا.... ([38])
الشبهة الثانية تحتاج إلى وقت أيضا وهي قوله (فإن قال هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟) هذه تحتاج إلى رد أيضا مفصَّل.
ننبه إلى أنه بقرب الحج والمدة القادمة أكثر الوقت ربما أكون في مكة إن شاء الله، فالدروس تقف بعد اليوم، ونبدأ إن شاء الله في 20/12 إن شاء الله.
[الأسئلة]
س1/ هل توزيع رسالة كشف الشبهات مناسب ؟
ج/ نعم مناسب ما فيه شك؛ لأنه هو وضع سهل العبارة واضح البيان.
س2/ هل يمكن لأهل السنة والجماعة أن يستخدموا كلمة إله بمعنى محيِّر؟
ج/ لا، لا يمكن؛ لأنها صارت لها معنى شرعي جاءت في النصوص بمعنى معبود، خلاص لا تستخدم تلك الكلمة في غير ما جاءت في النصوص؛ لكن نقول: هذا المعنى هم قالوا إنه ورد في اللغة هذا على شكل شاذ. بمعنى إذا ورد في نص يعني في شعر أو في خطبة من خطب العرب أو نحو ذلك فنفهم المعنى بمراجعة كتب اللغة، أما كلمة إله فهي لا نستخدمها إلا بمعنى المعبود، إله بمعنى مألوه معبود.
س3/ ما الفرق بين أن يدعو أحد الله بأبي بكر أو بعمر، أو أن يدعو بواسطة أبي بكر أو عمر؟
ج/ أنا نبهتكم على هذا.
التوسل، التوسل بغير الله في الدعاء له قسمان:
(37/223)
الأول: أن يسأل الله بذات فلان، أن يسأل الله بجاهه؛ يعني يقول: اللهم إني أسألك -في دعاء في المسجد أو في بيت أو في أي مكان- اللهم إني أسألك بمحمد عليه الصلاة والسلام، أسألك برسولك محمد، أسألك بأبي بكر، أسألك بعمر، أسألك اللهم بعثمان أن تعطيني كذا وكذا، فيكون هو قد سأل الله؛ ولكن جعل وسيلته فلان يعني عمل فلان وعمل فلان له، وعمل النبي عليه الصلاة والسلام له، عمل أبي بكر له، عمل عمر له، فلا مناسبة بين سؤالك وسؤاله، والنبي عليه الصلاة والسلام ما أرشد إلى هذا، لهذا نقول: هذا النوع بدعة، ولا يجوز لأنه لا مناسبة بين عمل فلان وعمله، وما بين ما عمله وقدمه وما بين ما عملت.
أو يسأله بجاهه فيقول: أسألك اللهم بجاه نبيك، بحرمة نبيك، بجاه أبي بكر، بجاه فلان من الصالحين أن تعطيني كذا وكذا، هذا أيضا بدعة واعتداء في الدعاء، ووسيلة إلى الشرك وهو القسم الثاني.
القسم الثاني: الذي هو شرك أكبر أن يكون معنى التوسل أن يسأل الله متوسطا بأولئك، ما يقول الله أعطني بفلان، لا، يقول: يا فلان اشفع لي عند الله اللهم اعطني كذا وكذا بشفاعة فلان لي؛ هذا التركيب جميعا، أو يقول يا نبي الله اسأل الله لي كذا وكذا، يا حسين اشفع لي عند الله بكذا وكذا، يا عبد القادر أسألك أن تسأل لي الله كذا اشفع لي بكذا، يكون قد صلى مثلا عند قبته عند قبره ركعتين تقربا أو طاف أو ذبح أو نذر أو من دون ذلك، فهذا معنى الوساطة، الوساطة يعني أنه طلب منهم الوساطة، طلب منهم الزُّلفى، طلب منهم الشفاعة، ففرق بين أن يسأل الله بهم وما بين أن يتوسَّط عند الله بهؤلاء، فالسؤال بهم أن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك أسألك بأبي بكر هذا بدعة ووسيلة للشرك واعتداء في الدعاء، أما لو سأل هذا أن يشفع له عند الله أو تقرب إليه بشيء من العبادات ليشفع له عند الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي عناه الشيخ بما ذكرت.
(37/224)
س4/ هل المعبودات من الأحجار والأشجار تكون في النار مع من عبدها؟
ج/ نعم، كلها والأصنام والجن الذين عُبدوا ورضوا بالعبادة.
س5/ الأخ يقول أنا ما اتضحت لي الشبهة ولا ردَّها.
ج/ مع أني اجتهدت أن يكون الأسلوب بأكثر سهولة وأكثر وضوح، ما لأدري إذا كان [...] هذه مشكلة يعني صعب أني أسهّل أكثر من كذا، ودي اتضح له الشبهة ويتضح له الرد يشير بأصبعه يعني يرفع أصبعه، طيب جزاكم الله خيرا، الذي هي واضحة عنده جدا، واضحة جدا، إيراد الشبهة والرد أيضا يرفع أصبعه، طيب، وضوح متوسط واضحة؛ لكن بوضوح متوسط، التوسط معناه أنه يحتاج إلى مراجعة يعني فيما أوردت يحتاج إلى مراجعة حتى يفهمه من؟ طيب الأخير الذي ما اتضحت له يعني كان فيه قصور عنده في إيراد الشبهة أو إيراد الرد عليها يرفع، ما فيه عيب هذا عشان أجتهد لكم أكثر أو أشوف لنا طريقة.
يقول لماذا لا تصاغ الشبهة بأسلوب أكثر وضوحا مما عليه ثم يكون الجواب بأسلوب أوضح كذلك؟
أنا عندي أوضحتها وربما يُعتب علي ليش أوضحت الشبهة بمثل هذا التوضيح، هذا الذي جعلني في ما مضى أتردد في شرح الكتاب كثيرا؛ لأن تعليم الشبهات مشكلة، يعني إيضاح الشبهة ثم الرد عليها صعب ليس منهجا؛ لكن بما أنكم من دعاة التوحيد وممن سينافحون عنه فلابد من إيضاحها؛ لعل الله جل وعلا يجعل منكم مجاهدين في سبيل الله.
س6/ هل تدخلون بعض المناظرات التي تقوم اليوم بين بعض الدعاة مع النصارى وغيرهم من إيراد الشبهة على المدعو وإضعافها؟
ج/ طبعا والمحاجة والمجادلة فن، ولها علم خاص بها؛ علم البرهان وعلم الحجاج، وهي من علوم المنطق أو من علوم الفلسفة بالعموم وعلوم المنطق بالخصوص، تحتاج إلى فهم؛ لأنه لابد من ترتيب المقدمات؛ يعني تهتم في الجواب سواء في الفقه في أي حجة تريد إبطالها أو تريد مناقشتها:
(37/225)
أولا تأتي بالمقدمات جميعا، وتنظر هل النتيجة بنيت على هذه المقدمات مجتمعة أو على واحدٍ منها، فإن كانت عليها مجتمعة نظرت في صلة المقدمات بعضها ببعض، فإن وجدت سبيلا إلى الطعن فيها كان هذا أقوى حجة؛ يعني شيخ الإسلام مع المتكلمين والفلاسفة يأتي للمقدمة ويطعن فيها، لما بنيت عليه النتيجة، يطعن فيها بالعقل ويطعن فيها أيضا بالنقل، إذا كانت المقدمات كل واحدة أنتجت نتيجة، فتناقش كل مقدمة على حِدا، إذا كانت هذه المقدمات ظنية ناقشتها مناقشة الظنيات، إذا كانت قطعية أيضا نظرت إلى النتيجة التي أنتجتها وتناقشها، هنا ترتب الحجاج بالأسهل فالأسهل، لا تأتي بالأصعب ثم الأسهل ثم آخر شيء الأسهل، لا، تبتدأ بالمتفق عليه بالأسهل قبولا، ثم بما بعده.
فإذا تناقش واحد حتى عند في البيت أو المجلس يأتيك مثلا في كلامك يأتي إلى جزئية ويمسكها، تأتي أنت تنشغل عن الكلام كله وهو مهم ويُشغلك بجزئية في كلامك، تروح تناقشه في جزئية ويضيق لب الموضوع، هذا يكون إذن أنت ضعيفا في الحجاج والنقاش؛ لأنه أضاع عليك الأصل بجعلك تلتفت إلى جزئية، وهذا الآن مع الأسف أهل الصحف وأهل المجلات أغرقوا كثير من الذين يكتبون كتابات إسلامية بشبهات صغيرة والتأصيل العام لا يناقش، يأتي في كلام يعني شبهة فرعية من فروع الإسلام، فرع من الفروع ويستغرقون ويسلطون عليه الضوء ويناقشونه وأخذ ورد وأخذ وعطاء ليشغلوا الناس بذلك؛ لكن أين أصول الإسلام؟ هنا تُحجب؛ لأنه لو نوقشت الأصول صار الكلام فيها أقرب وأوضح وصارت الحجة فيها من جهة العمل أقوى وإقامة الحجة على المخالف أوضح، خلاف الفرعيات، الفروع يكون كثير الخلاف فيها أو الجزئيات قد ما تصل مع المخالف فيها إلى نتيجة واضحة.
(37/226)
فينتبه الذي يجيب على الشبهات ويحاج أي مخالف أو أي صاحب شبهة سواء في الأصول يعني في التوحيد أو في الفروع في الفقه فإنه ينبغي له أن ينتبه كيف يورد الجواب، وكيف يرتب الأجوبة حتى يكون ذلك أبلغ في التأثير.
هنا الاعتبار بـ: لا تأتي في رد الشبه في المحاجة بتقديم العذر لمن تحاجُّه، لا تقل له أنت معذور؛ لأن هذا يقويه هو، خل سماعه لك ضعيفا، الأخ يقول فلا أقول له إن هؤلاء معذورون لأنهم جهال، لا تقل له معذور؛ بل تقول له المسألة عظيمة وهذا كفر وإيمان وشرك وإيمان، لابد تفهمها، لابد أن تكلم عنها بوضوح، إذا سهلت له الأمر تساهل صار ما عنده قلق من وضعه.
نكتفي بهذا القدر، أسأل الله جل وعلا أن يجمعنا وإياكم بعد الحج في ثبات على الطاعة وقبول للعمل.
وصلى الله وسلم على محمد.
?????
[المتن]
(37/227)
فإن قال هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام، أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟ فجاوبه بما تقدم، فإنه إذا أقرّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن إذا أراد أن يفرِّق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أنَّ الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم ?أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ?[الإسراء:57] ويدعون عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى ?مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[المائدة:75-76]، واذكر قوله تعالى ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، وقوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ?[المائدة:116]، فقل له: عرفتَ أنّ الله كفَّر من قصد الأصنام وكفَّر أيضا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
[الشرح]
(37/228)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله هو النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد:
فأسأل اللهَ جل وعلا لي ولكَ العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع والدعاء المسموع، وأن يثبِّت العلم في قلوبنا، وأن يرزقنا البصيرة فيما نقول وفيما نعمل وفيما نترك.
ثم إنَّ هذه الرسالة العظيمة -كشف الشُّبهات- ساق فيها الإمام المجدد رحمه الله تعالى مقدِّمات قد مرَّ بيانها مفصلا، ثم ساق أصول شبه المشركين وأجاب جملة يعني بجواب مجمل ثم بدأ في ذكر شبههم والجواب المفصل على ذلك، فذكرنا من ذلك ما ذكرنا، ووقفنا عند قوله رحمه الله تعالى (فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟ فجاوبه بما تقدم؛ فإنه إذا أقرَّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، إذا أراد ذلك فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء) إلى آخر ذلك مما سمعت.
هذه الشبهة راجت على كثيرين، حتى إنّ المفسرين المتأخرين إذا ذكرت عبادة غير الله جل وعلا في القرآن من جهة النهي عنها أو وصف المشركين أنهم يعبدون غير الله فسروا ذلك بعبادة الأصنام، وقد تقرر في اللغة أنًَّ الصنم صورة منحوتة؛ يعني ما نُحِت على شكل صورة، وإذا كان كذلك فإن الصنم إما أن يكون حجرا وإما أن يكون خشبا وإما أن يكون عجينا وإما أن يكون تمرا إلى آخر ذلك.
(37/229)
فعليه جعلوا العبادة التي توجه بها المشركون من العرب وغيرهم إلى غير الله جعلوها متوجَّهة إلى الأصنام، ولهذا جعلوا كفّار قريش ما كفروا إلا بعبادتهم الأصنام، وكذلك الكفار فيمن قبلهم كفروا بعبادتهم الأصنام، وهذا أصل أصّله كثيرون في جملة من المنتسبين إلى العلم في كتب التفسير وفي كتب العقائد المخالفة لعقائد أهل السنة وغيرها، وأصل هذا الباب وأصل هذا الضلال جاء -كما وصفتُ لكم فيما قبل- من جهة الباطنية ومن جهة المتكلمين.
فإنّ الباطنية لمّا قرروا أن التوسل بالأرواح؛ بل لما قرروا أنَّ الأرواح لها تصرف بعد مفارقتها للجسد أعظم مما كانت تفعل لما كانت في الجسد، قالوا: لأنها لما كانت في الجسد كانت محجوزة بهذا الجُثمان، لا تنطلق، لا تتصرف إلا بما يطيقه هذا الجثمان؛ فلا تعطي، ولا تمنع، ولا تأخذ، ولا ترفع، إلا بمقدرة الجثمان، فأما إذا انفصلت عن هذا الجثمان فإنها تعود إلى انطلاقها، وتكون مهيأة لقوة أعظم مما كانت عليه لمّا كانت في الجسد، فالجسد محل الشهوات ومحل العاهات ومحل الأمراض والروح مقيدة مسجونة فيه، فإذا فارقت الروح البدن انطلقت وصار لها من القوة ما ليس لها لما كانت مرتهنة بالجسد.
لما كان كذلك قالوا: إن التوسل بهذه القوى وبهذه الأرواح والرَّغب إليها حتى تتوسط عند الله جل وعلا، ليس هو مثل توسط المشركين؛ لأن المشركين توسَّطوا بأصنام والأصنام لا مكانة لها عند الله جل وعلا، وأما التوسط بالأرواح فإنّ الأرواح الطيبة الصالحة -أرواح الأنبياء والأولياء- هذه لها مكانها ولها مقامُها ولها جاهها وحرمتها عند الله جل وعلا، فجعلوا هذا الفرق لازما.
ولهذا جعلوا الوساطة هذه ليست داخلة في التوحيد، والتوحيد عندهم هو توحيد الربوبية دون توحيد الإلهية؛ يعني هو التوحيد بأن الله هو المتصرف القادر على الاختراع المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
(37/230)
وراج هذا على المتكلمين، فكان المتكلِّمون يجعلون الغاية من تحقيق الإيمان هو الإيمان بالرُّبوبية؛ الإيمان بلا إله إلا الله التي معناها أن لا ربّ إلا الله؛ يعني أن لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله جل وعلا وحده، فمتى أقر بذلك كان مؤمنا وكان مسلما.
فعندهم أن مشركي العرب لم يكونوا على هذا الاعتقاد، وأنهم يعتقدون أن الأنواء تخلق، وأن الأصنام هذه تخلق وأنها تضر وأنها تنفع، وأمّا من وحّد الله في الربوبية فإنه يكون مؤمنا، لهذا قالوا: لا إله إلا الله معناها لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله، أو كما قال الآخر: لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله.
هذه الفكرة وهذا الانحراف راج في المسلمين ولما كان مذهب المتكلمين مذهب الأشاعرة والمعتزلة في التوحيد هو السائد، تأثر أكثر المفسرين وأكثر الفقهاء بهذا القول الخبيث، لهذا يفسِّرون الآيات التي فيها ذكر عبادة غير الله بأنها عبادة للأصنام.
ولهذا استنكر وأنكر طوائف على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دعوته، كيف تجعل الصالحين والأولياء مثل الأصنام؛ لأن الأصنام لا روح لها، والصالحون والأولياء أرواحهم مطهرة مقدسة عند الله جل وعلا.
لهذا أورد الشيخ رحمه الله هذه الشبهة، وأورد الجواب عليها، فقال(فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟) قال (فجاوبه بما تقدم فإنه إذا أقر أنّ الكفار يشهدون بالربوبية كلها) إلى آخر كلامه.
(37/231)
يعني بقوله (فجاوبه بما تقدم) ما قدمه في المقدمات فيما سبق، وقوله (فإنه) هذا تفصيل لذلك الجواب، قال (إذا أقرَّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله) فأوَّل إبطال لقولهم أن يقام عليه حال الكفار مع الربوبية ([39]) والله جل وعلا بيَّن لنا أنَّ أفراد توحيد الربوبية كان الكفار يقرون بها، فلما كان الكفار مقرين بتوحيد الربوبية كان شركهم جائيًا من جهة توحيد الإلهية، فقد بيَّن ذلك جل وعلا في آيات كثيرة كقوله جل وعلا ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، وكقوله ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[لقمان:25]، وكقوله ?[وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ]([40]) مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً?[العنكبوت:63] الآية، وكقوله ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ?[يونس:31] الآيات، وكقوله الآيات التي في أول النمل، والآيات ذكرناها وهي كثيرة في بيان إقرار المشركين بالربوبية.
إذا كان كذلك وأقر بهذا فإن جزءا من شبهته قد زال، حتى يعلم أنَّ شرك مشركي العرب لم يكن من جهة اعتقادهم أنّ هذه الأصنام تخلق أو قادرة على الاختراع أو لها نصيب في الملك.
فإذا كان كذلك نقول: هم من هذه الجهة أرادوا من الأصنام هذه الشفاعة، كما قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، وكقوله جل وعلا ?هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18]، وكقوله جل وعلا ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
فإذن المشركون لهم اعتقاد في إلهية هذه الأصنام، ويرون أنهم إنما يتقربون إليها لأجل التوسط لأجل الشفاعة، فهذا برهان ثاني.
(37/232)
فالبرهان الأول على هذه الشبهة: حال المشركين مع إقرار الربوبية.
والبرهان الثاني في الرد على هذه الشبهة: بيان أنهم مع الأصنام ما قصدوا إلا التوسط والشفاعة؛ لأن الله جل وعلا بيَّن لنا أنهم لا يعتقدون في الأصنام أنها تخلق وترزق وتأتي بالمطر وتسيِّر الرياح إلى آخر ذلك؛ بل إنما قصدوا منها الشفاعة واتخاذ الأصنام وسائل.
البرهان الثالث ما ذكره الشيخ بعد ذلك بقوله: (ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر، فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء).
كما أسلفنا أنَّ عبادة المشركين بغير الله كانت متجهة إلى أربعة أنواع ذكرناها لكم فيما سلف، وتلخيصها:
· أنهم عبدوا الأصنام المصوَّرة.
· وعبدوا الملائكة.
· وعبدوا الأنبياء والأولياء.
· وعبدوا الأشجار والأحجار يعني اعتقدوا فيها وعبدوها.
فهذه جملة الأنواع.
ويدخل في الأشجار والأحجار عبادة الشمس والقمر والكواكب؛ لأن لها نصيبا من كونها أحجارا.
ويدخل في عبادة النوع الثاني أصناف.
ويدخل في النوع الأول أصناف، إلى آخره.
فإذن لم تكن عبادة العرب منصبّة على نوع واحد.
(37/233)
إذا أراد الدليل فنقول له: من جهة أن العرب وغير العرب من المشركين والكفار عبدوا أنبياء وعبدوا صالحين فالآيات في هذا كثيرة كقوله جل وعلا ?مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ?[المائدة:75] وكقوله جل وعلا ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ?[سبإ:40-41]، وكقوله جل وعلا ?أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ?[الإسراء:57] وكقوله جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[المائدة:116]، وكقوله جل وعلا ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20]، على القراءة (اللّاتَّ والعُزَّى) وهو رجل صالح كان يلتُّ السويق فمات فعكفوا على قبره إلى آخر ذلك.
إذن فنجمع لهم الآيات التي هي صريحة في أن الصالحين عُبدوا.
(37/234)
ثم الدرجة الثانية من هذا البرهان الثالث أن نقول في القرآن أيضا بيّن جل وعلا أن الذين عبدهم المشركون كانوا أمواتا غير أحياء كما قال جل وعلا في سورة النحل في ذكر الحِجاج مع المشركين قال في وصف الآلهة ?لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20)أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ?[النحل:20-21]، فهذه الآية فيها بيان أنَّ الذين عَبَدَهم المشركون والكفار من العرب كانوا لا يَخلقون شيئا وهم يُخلقون، وأنهم أموات غير أحياء ومعنى قوله (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) أنهم الآن ليسوا على وصف الحياة بل هم على وصف الموت وهذا يعني أنهم كانوا قبل هذا الوصف أحياء لأن الذي يوصف بأنه ميت هو من كان حيا، قال جل وعلا هنا (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)، ثم أكد ذلك بقوله (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يعني ما يشعرون متى يبعث، والذي يُبعث هو الميت الذي يوصف بأنه كان حيا فمات، وهذا واضح في خروج الجمادات والأصنام عنها، الذي يبعث ذووا النفوس الجن والإنس والحيوان، وهنا معلوم أن المقصود من عُبِدَ من الإنس.
فإذا كان كذلك بطل ادِّعاء أن العرب إنما عبدت أصناما لها وصف الحجارة فقط.
(37/235)
وقد ذكرنا لكم لِم تعلق العرب ومن قبلهم بالأصنام؟ لأنهم يعتقدون أن هذا الصنم الذي هو مصوَّر على هيئة صورة ما تحلُّه روح أو كما يقولون روحانية تلك الصورة، فإذا كانت الصورة صورةَ بشر حلَّت فيه حين الخطاب، وإذا كانت الصورة صورة كوكب حلت فيه روحانية الكوكب حين الخطاب، وإذا كانت الصورة ملك حضر الملك حين الخطاب، وهكذا، فيما يزعمون، وكل الذين يحضرون ويخاطبونهم، وهم صادقون حين يقولون: خاطبنا الصنم فخاطبنا وكلمناه فكلمنا وسألناه فأجابنا. ولكن لم تجبهم الأرواح الطيبة وإنما أجابتهم الأرواح الخبيثة؛ أرواح الشياطين والجن، ولهذا قال جل وهلا في آية سبإ ?وَيَوْمَ يحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، يعني أن الحقيقة أن الذي خاطبهم وأوقعهم في هذا إنما هم شياطين الجن، وقد قال جل وعلا ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوُّ مُبِينٌ(60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ?[يس:60-62]، وكان إضلال الشيطان ليس من جهة الشهوات فحَسْب؛ بل هو في أعظم إضلال وهو في عبادة غير الله جل وعلا.
إذن جواب هذه الشبهة ترتَّب على ثلاث أنواع من البراهين مرتبة:
الأول: كما ذكرنا في أن عبادة المشركين كانت في أنّ إقرار المشركين كان في الربوبية على وجه التفصيل وتسوق الآيات.
الثاني: أنهم ما أرادوا ممن عبدوهم ولو كانت الأصنام إلا التوسّط والشفاعة كما هي الآيات.
(37/236)
الثالث: أن الآيات فيها ذكر أن تلك المعبودات لم تكن أصناما فحسب؛ بل كانت تلك المعبودات من البشر والملائكة والجن يعني أنَّ غير الله جل وعلا عبد بجميع أنواع غير الله، فعُبدت الملائكة وعُبد الصالحون وعُبد الأولياء وعبد الأنبياء.
إذا تبين ذلك واتضح، فنأتي إلى خاتمة هذا البرهان قبل أن نمشي مع كلام الإمام رحمه الله تعالى فنقول: إن هذا البرهان وَرَدّ هذه الشبهة بما ذكرنا واضح؛ ولكن يبقى نتيجته وهو فهم معنى التوسط، وفهم معنى التوسل، وفهم معنى الشفاعة -وهذا سيأتي في جواب الشيخ أو في تكملة جواب الشيخ رحمه الله-؛ لكن المقدمة قبل هذا أنه إن سلم بهذه البراهين الثلاث مرتبة تنتقل معه إلى الكلام على الشفاعة، ولا تتكلم بالشفاعة قبل هذه البراهين؛ لأن الكلام في الشفاعة الشبه القولية فيه والعملية والنقلية كثيرة، فيحتاج إلى محكم وإلى واضح حتى يُرجع إليه عند الاختلاف.
فإذن حين الحجاج مع المشركين يقدم لهم إذا قالوا إنّ الأولين ما عبدوا إلا الأصنام البراهين الثلاثة ولا يُتكلم في الشفاعة إلا بعدها؛ ما معنى الشفاعة وكيف توسلوهم ومعنى التوسل وما شابه ذلك.
سؤال: يسأل فيقول ما الفرق بين درجتي البرهان الثالث؟
الجواب: قلنا:
الدرجة الأولى في البرهان الثالث الآيات التي فيها ذكر عبادة الأنبياء والصالحين صراحة.
والرجة الثانية منه كالاستحضار بأن قال: لا، هذا ليس بصحيح إنما عبدوا الأصنام عبدوا أصنام هؤلاء، ما عبدوهم مباشرة، فيقال له: الله جل وعلا بين أن الذين دعاهم المشركون ?أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ?[النحل:21]، والآيات في أول الأحقاف أيضا واضحة في الدلالة على هذا.
فإذن الدرجة الثانية من البرهان لتبين أنهم ما عبدوا صور الصالحين أصنام فقط، وإنما عبدوا من كان حيا فمات ومن لا يشعر متى يبعث، واضح؟ نعم.
?????
[المتن]
(37/237)
فإن قال: الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصد من الله شفاعتهم.
فالجواب أن هذا قول الكفار سواء بسواء فقرأ عليه قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، وقوله تعالى ?وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18].
[الشرح]
هذه الشبهة وأنهم ما قصدوا إلا الشفاعة تحتاج إلى شيء من التقرير:
فإن المشركين وأشباه المشركين والمدافعين عن المشركين يقولون: إنّ الأسباب جعلها الله جل وعلا منتجة لمسبباتها، فجعل الأكسية سببا في دفع الحر ودفع البرد، وجعل القلم سببا للكتابة، وجعل الطعام سببا لدفع الجوع، وجعل الشراب والماء سببا لدفع الضمأ، إلى آخر ذلك، وجعل بيتك سببا، وجعل العصا التي تحملها سببا، وجعل كذا وكذا سببا.
قالوا: فكيف يعقل أن تكون هذه الأسباب نافعة، والأنبياء والأولياء والصالحون بعد الموت لا ينفعون؟ فلا شك أنهم أعظم قدرا وسببيّتهم أعظم من هذه الأشياء، فكيف يقال أن الطعام ينفع والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينفع -كما يقولون-؟ وكيف يقال أن الأكسية تنفع والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته لا ينفع أو أن الأولياء والصالحين لا تنفع؟
فيدخلون لك في تقرير الشفاعة والتوسل من جهة الأسباب والارتباط بالمسببات.
وجواب هذا يكون بمعرفة حال المشركين، فإن المشركين حين أشركوا ما أرادوا إلا أن يتخذوا هذه الأسباب مسبِّبات، حينما توجهوا إلى عيسى عليه السلام وإلى أمه وإلى اللاتِّ وإلى الصالحين وإلى القبور لِم توجهوا؟ هل يعتقدون فيها الاستقلالية؟ إنما اعتقدوها أسبابا.
(37/238)
فإذن شبهة السببية هي مقدمة شبهة الشفاعة، فإنهم يقررون السببية حتى يصلوا منها إلى أنه لا بأس أن تتشفع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو تتشفع بالأولياء والصالحين.
فإذن فهمُك لعبادة المشركين يقضي على هذه الشبهة من أساسها، وتستطيع بفهمك لعبادة المشركين أن ترد على من أتى بهذه الشبهة التي هي مقدمة للقول بالشفاعة.
الأسباب كما هو معلوم في الشرع نوعان:
· أسباب مأذون بها.
· وأسباب محرمة.
فليس كل سبب جائز في الشرع أن يتعاطى، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سببا بعد موته أو كون الصالحين أسبابا بعد موتهم، هذا عند الجدال والبرهان نقول هذا احتمال؛ احتمال أن يكونوا أسبابا واحتمال ألا يكونوا أسبابا؛ لأن السبر والتقسيم ومقتضى الجدل الصحيح يقضي أن نقسِّم بأنه احتمال أن يكونوا كذلك واحتمال ألا يكونوا كذلك.
فننظر في حال الأولين فنقول: الله جل وعلا بين لنا أن أرواح الشهداء عنده في مقام عظيم وأنه لا يجوز لنا أن نقول إن الشهيد ميِّت كما قال جل وعلا ?تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ?[البقرة:153]، وقال جل وعلا في آية آل عمران ?وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ?[آل عمران:169-170]، وأوَّلهم شهداء بدر وشهداء أحد...
(37/239)
وفي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة الثانية إلى وفاته عليه الصلاة والسلام ننظر في هذا السبب، هل كان شيء من النبي عليه الصلاة والسلام أو فيما تنزل من القرآن وجهنا إلى الانتفاع بهذا السبب على فرض أنه سبب نافع، فهذا باليقين لا يقول أحد إنّ ثمة آية أو حديث أو سلوك للصحابة بأنهم توجهوا إلى أرواح الشهداء -وهم أحياء بنص القرآن- للانتفاع بهذا السبب، وحال الصالحين والأولياء الذين توجه لهم المشركون غير الأنبياء لاشك أنهم أقل حالا من هؤلاء الشهداء الذين شهد الله جل وعلا لهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون؛ لأن أولئك ما شاركوهم في وصف الشهادة، الأنبياء أعظم وأرفع درجة من الشهداء.
فإذا كان كذلك صار هذا إجماعا قطعيا في زمن النبوة -وهو أعلى أنواع الإجماع- صار هذا إجماعا قطعيا في زمن النبوة أنَّ هذا السبب ولو فُرِض أنه ينفع فإنهم تركوه قصدا، ولم ينزل فيه شيء، فدل على أنه سبب غير نافع وأنه سبب غير مأذون به، هذا من جهة.
والدرجة الثانية: أنه بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وكونه عليه الصلاة والسلام مع الرفيق الأعلى واضحا كان هذا عند الصحابة، ومع ذلك لم يتوجه الصحابة ولا التابعون قطعا إلى روح النبي عليه الصلاة والسلام يطلبون منها أو يجعلونها سببا، فهذا إجماع ثانٍ توالت عليه أعصر.
(37/240)
والإجماع الثالث في حادثة نُقلت أن عمر رضي الله عنه لما أصاب الناس في عام الرَّمادة سنة 17هـ، لما أصاب الناس الضيق والكرب والجفاف والجوع كان يستسقي كما في الحديث المعروف في البخاري وفي غيره، فلما خطب قال: إنا كنا نستسقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في حياته، والآن نستسقي بعمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يا عباس قم فادعُ. فقام العباس فدعا وأمَّن الناس على دعائه، وهذا يدل دِلالة قطعية على أنهم انتفعوا بسبب دعاء العباس ولم يطلبوا الانتفاع بسبب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لعلمهم بأنّ ذلك السبب غير مشروع وأنه من توجَّه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طالبا منه أن يدعو أنه مخالف للشريعة وأنه شرك؛ لأنه لا يمكن أن يتوجهوا إلى المفضول ويتركوا الفاضل، لا يمكن أن يتوجهوا إلى الأقل ويتركوا الأعلى وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ بل هذا لو كان..... ([41]) لغير المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهم في حياته كانوا يستغيثون به فيما يقدر عليه ويستشفعون به فيما يقدر عَليه عليه الصلاة والسلام إلى آخر ذلك، وهذا إجماع ثالث لأن الحديث صحيح فيه.
إذا تقرر هذا فنقول هذا كله على فرض أنَّ السبب نافع ولكنه لم يؤذن بالسبب، فقد تكون الخمر نافعة لكن لم يؤذن بها، والله جل وعلا قال في الخمر والميسر ?فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ?[البقرة:219]، ومع ذلك حرمها، وقال عليه الصلاة والسلام «تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام»، وقال «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» الحديث في أبي داوود وفي غيره.
إذا تبين ذلك فنقول إذن على فرض أن هذا السبب ينفع فإنه سبب محرم غير مأذون به في الشرع لتلك الأنواع الثلاثة من الاجماعات.
(37/241)
ثم ننتقل إلى درجة ثانية من الحجاج معهم فنقول: في الحقيقة هذا السبب غير نافع في الدنيا. وهو ما تعلقوا به من جهة الشفاعة أيضا نقول: تقرر أن هذا السبب غير مأذون به وأنه مردود في الشريعة؛ لأنه شرك المشركين. نقول الدرجة الثانية نقول هذا السبب في الحقيقة غير نافع، لم؟ نقول للآتي:
أولا: أنَّ الله جل وعلا بين أن روح عيسى عليه السلام وروح أمَّه لا تنفعهم ولا تضرهم بنص القرآن، فقال جل وعلا ?مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)قُلْ أَتَعْبُدُونَ? يعني عيسى وأمه ?قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?[المائدة: 75-76]، فإذن في هاتين الآيتين من سورة المائدة والتي ساقها الشيخ رحمه الله في الأولى بيان التوجه إلى أرواح الأنبياء والصالحين؛ لأن عيسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، ولأن أمه من عباد الله الصالحين ومن القانتات، فتوجهوا إلى روح نبي وإلى روح أَمَة صالحة وأم نبي وأم أحد أولي العزم من الرسل، بيَّن جل وعلا أن توجههم لتلك الأرواح تعلُّقٌ بسبب غير نافع ما الدليل؟ قال ?قُلْ أَتَعْبُدٌونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا?[المائدة:76]، وهذا يدلُّ على أن هذا السبب غير نافع، وقال جل وعلا في الآية الأخرى في سورة الجن في وصف النبي عليه الصلاة والسلام وبالأمر له أن يقول ?قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا?[الجن:26]، بيَّن جل وعلا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يملك لهم ضرا ولا رشدا إلا فيما جعله الله جل وعلا سببا نافعا في حياته وهو أعظم عليه الصلاة والسلام أعظم سبب نفع الناس وأعظم الأسباب
(37/242)
النافعة في حياتهم حيث هداهم إلى الإيمان وأنقضهم من الضلالة إلى الهدى وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام السبب هذا الذي هو سبب الهداية وما أقدره الله عليه في الدنيا أصبح باطلا لأنه جل وعلا بيَّن أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضرا ولا نفعا لما عبدوه، وقد قال جل وعلا في أول سورة الفرقان ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1)الذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً?[الفرقان:1-3]، اربطها بمن اتخذ ولدا من اعتقد أن لله جل وعلا ولدا قال ?وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَنُشُورًا?[الفرقان:3].
إذن فهذه كلها تبيِّن أن هذه الأسباب غير نافعة، وإنما هي نافعة في حياتها أو يوم القيامة، كيف؟ لأن الله جل وعلا جعلها أسبابا نافعة في هذين النوعين من الحياة.
هذا تدرُّج في البرهان، وإيضاح فيما ذكره الإمام رحمه الله تعالى، وهو الذي فتح هذه المعاني بما ذكر بعد توفيق الله جل وعلا.
قال (فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء؛ ولكن أقصد من الله شفاعتهم.
فالجواب أنَّ هذا قول الكفار سواء بسواء) لأنهم ما عبدوهم إلا ليشفعوا، ما توجهوا إليهم إلا للشفاعة، ما قصدوهم إلا لاعتقاد أنهم أسباب تنفع، الصنم سبب ينفع، والروح سبب ينفع، وروح النبي سبب ينفع والوثن والقبر سبب ينفع، والجني سبب ينفع فيما حرم الله جل وعلا، وهذا من الشرك الذي بينه الله جل وعلا في القرآن.
(37/243)
قال (فقرأ عليه قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، وقوله تعالى ?هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18]) ثم قال (واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه وفهمتها فهما جيدا فما بعدها أيسر منها) ورحمه الله رحمة واسعة كم كان بصيرا بشُبه المشركين وبالحجاج عنها في ذلك وبيان الصواب ووجه الحجة في وضبطها ودحضها، فكانت الشبه واضحة عند إمام الدعوة رحمه الله، وكان فقه الكتاب والسنة والرد عليها أوضح وأبيّن عنده، فشرح الله صدره لذلك، وإلا فإن كثيرين إذا جاءتهم الشبه وراجت عليهم فإنهم يترددون؛ ولكن الله جل وعلا شرح صدره بالقيام بهذه الدعوة وبيان التوحيد فضلا من الله جل وعلا ونعمة.
إذن نقف عند هذا، وليكن لك مراجعة على المقدمات والشبه الثلاث والجواب عليها الجواب المجمل والمفصل؛ لأن تأصيل ما ذكرنا وفهمه فهما جيدا ينبني عليه ما سيأتي من ذكر الشبه والجواب عليها.
أسأل الله جل وعلا أن يرحم إمام الدعوة وأن يرفعه في عليين وأن يجعله مع الأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقا.
اللهم أجزهم عنا أحسن الجزاء على ما أوضحوا وبينوا وجاهدوا في الله حق الجهاد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.
فقل له: أنت تُقِرُّ أن الله افترض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك.
فإذا قال: نعم.
(37/244)
فقل له: بين لي هذا الذي فرضه الله عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك لأنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك قال الله تعالى ?ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ?[الأعراف:55]، فإذا أعلنته بهذا قل له: هل علمت أن هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول نعم فالدعاء مخ العبادة فقل له إذا أقررت أنه عبادةٌ لله ودعوت الله ليلا ونهارا خوفا وطمعا ثم دعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟
فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر:2]، وأطعتَ الله ونحرت له فهل هذا عبادة؟
فلابد أن يقول: نعم.
فقل له: فإن نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟
فلابد أن يقر ويقول: نعم.
وقل له أيضا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة و الصالحين وغير ذلك؟
فلابد أن يقول: نعم.
فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجأوا إليهم في الجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدّا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
نشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والصحب أجمعين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وخالصا.
اللهم نعوذ بك أن نَضل أو نُضل أو نَزل أو نُزل أو نَجهل أو يُجهل علينا.
اللهم اجعل قلوبنا خاشعة لك وعيوننا دامعة لك.
اللهم وهيئ لنا من أمرنا رشدا، نعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة القبر.
(37/245)
وهذه صلة للكلام على ما قرره إمام هذه الدعوة رحمه الله تعالى في كشف شبهات المشركين، فإن المشركين لهم شبهات متنوّعة قد مرّ معنا أعظم شبهاتهم وأكثرها تفصيلا.
ثُم يأتي الآن من شبهاتهم ما انتشر فيهم؛ لكنه عن طريق المكابرة والجهل، فقال طائفة منهم إنهم لا يعبدون إلا الله وإنّ الالتجاء للصالحين وسؤال الصالحين ودعاءهم والاستغاثة بهم ليس بعبادة، وهذا هو الذي ذكره الإمام رحمه الله في قوله (فإن قال أنا لا أعبد إلا الله)، وإذا قال الشيخ في هذا الكتاب (فإن قال) فلا يستحضر أن الذي قول الشبهة هو الذي قال بالشبه التي قبلها؛ بل هو يستحضر جنس المدلين بالشبه، فقال (فإن قال) يعني الذي يورد الشبهة أو الذي يقع في الشرك، وقد يكون من الأولين وقد لا يكون.
قال (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة) وهذه يقولها كل مشرك فإنه ما من مشرك يُقِرُّ على نفسه بالشرك وبأنه يعبد غير الله جل وعلا لأن هذه الأمة ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - أُنقذت من الشرك إلى التوحيد ومن عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده دونما سواه.
وكل أحد من هذه الأمة يقول: أنا لا أعبد إلا الله. وقد يكون مصيبا في قولِه، وفعلُه يحقق قوله، وقد يكون ضالا يقول شيئا وهو يخالفه إلى غيره.
وهذه المخالفة ناتجة عن أنه يظن أنّ ما يفعله من صرف العبادة لغير الله أنه ليس بشرك وليس بعبادة، فعنده أن الدعاء؛ دعاء غير الله ليس بعبادة، وأن الالتجاء إلى الصالحين وسؤال الأولياء الأموات كشف الكرب ورفع الضر والشفاعة وأشباه ذلك أنه ليس من العبادة، وكذلك يزعمون أن النّحر لهم وأن الذبح ليس بعبادة، وأنّ النذر لهم ليس بعبادة، وهكذا، ما من صورة شركية يفعلها أهل الشرك إلا وإذا احتججت عليهم بأنّ فعلهم شرك قالوا نحن لا نعبد إلا الله، وهذه الأشياء التي نفعلها ليست بعبادة، وإنما هي للوسيلة، وأما العبادة إنما هي لله وحده دونما سواه.
(37/246)
وهذا القول منهم دعوى بلا برهان ولا دليل؛ بل هم المشركون الذين عبدوا مع الله جل وعلا غيره، قال رحمه الله مقررا لشبهتهم ومستحضرا الجدال والحجاج مع رجل منهم (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة فقل له) فترتَّبت هذه الشبهة على مرتبتين:
الأولى: زعمه أنه لا يعبد إلا الله.
المرتبة الثانية: زعمه أنّ الالتجاء للصالحين ودعاء الصالحين بأنواع الدعاء من الاستغاثة والاستعانة والاستشفاع إلى آخره أنه ليس بعبادة.
والثانية هي التي قادتهم إلى الأولى؛ لأجل عدم وضوح الثانية قالوا إنهم لا يعبدون إلا الله، فلهذا الشيخ رحمه الله ابتدأ بالثانية لأنها هي وسيلة إثبات صحة الأولى أو خطأ المرتبة الأولى.
قال (فقل له أنت تقر أن الله افترض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك) فتسأله وتقول له: هل تقر بأن الله فرض عليك إخلاص العبادة وأنّ العبادة حق الله عليك؛ لأن الله أمر بها في القرآن في قوله ?فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ?[غافر:14]، وفي قوله جل وعلا في سورة الزمر ?قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ?[الزمر:14-15]، وكذلك قوله في آية البينة، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي فيها إثبات وجوب الإخلاص لله جل وعلا، وهذا نوع من الأدلة التي فيها الأمر بالإخلاص.
(37/247)
والنوع الثاني من الأدلة الذي فيه الأمر بالإخلاص بيان أن المشرك الذي لم يخلص لله جل وعلا أنه كافر ([42]) وأنه من أهل النار، كقول الله جل وعلا ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، وكقول الله جل وعلا ?وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72] ونحو ذلك من الآيات التي فيها بيان مصير المشرك الذي جعل مع الله في العبادة غيره؛ يعني لم يخلص دينه لله، وأشباه ذلك من الأدلة.
فتقول له: أنت تُقِر بأن الله فرض عليك إخلاص العبادة وهو حق الله عليك. وكل منتسب للقبلة يقول: نعم أنا مُقِر أن الله جل وعلا فرض علينا الإخلاص -إخلاص العبادة-، وأن إخلاص العبادة حق الله علينا.
قال الشيخ (فإذا قال: نعم. فقل له: بيِّن لي الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده) تسأله عن بيان هذا الذي يقر أن الله فرضه عليه، وكثير بل الأكثر من المشركين جهّال؛ لا يعلمون معنى العبادة، ولا يعلمون معنى الإخلاص، ولا يعلمون معنى الذي فرض الله جل وعلا عليهم، ولهذا فإذا سألته عن هذه فإنه لن يجيب؛ بل سيقول لا أعرف معنى العبادة أو لا أعرف جواب هذا؛ بل إخلاص العبادة لله أن أصلي لله وأزكي لله وأشباه ذلك، فإنه يجعل الإخلاص في بعض الصور.
(37/248)
لهذا قال الشيخ رحمه الله (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك) إلى آخره، (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له)، وهذا خلوص منه في الحجاج إلى تعليم الجاهل، فإن المحتج على الخصم لا يسوغ أن ينزِّله دائما منزلة المعاند أو أن يجعله معاندا فيُغلظ به في القول ويغلظ له في الحجة؛ لأنه ربما نفر من ذلك وانتصر لنفسه وترك سماع الحجة، فإنك تستدرجه حتى يُقِرَّ بأنه جاهل، فإذا أقر بأنه جاهل لا يعرف معنى العبادة ولا يعرف معنى الإخلاص ولا يعرف معنى الدعاء وأشباه ذلك، فإنك تبين له ذلك حتى تقوم الحجة على أفراد واضحة في قلبه وفي عقله وذهنه.
لهذا هذا الحوار الذي ذكره إمام الدعوة فيه فائدة عظيمة ذكرتُها لك الآن؛ وهي أنه من أقوى وأنفع وسائل الحجاج أن تنزِّل من أمامك منزلة الجاهل، حتى تنقلب معه إلى معلم غير مناظر؛ لأنّ المعلم دائما أعلى من المتعلم؛ أعلى من جهة الحجة وأعلى من جهة قَبول المتعلم لما يقول، فإنّ المقابل لك إذا أحسّ أنه عند علما ليس عنده فإنه سيصير إلى الاستفادة منك، وهذا يثير كثيرا من النفوس في قَبول الحق إذا علم أنه جاهل بما أَوْجب الله جل وعلا عليه وهو يدعي شيئا يجهله، فهذه وسيلة من الوسائل العظيمة في الحجة وفي جواب الشبهة.
فإذن نستفيد من هذا أننا إذا رأينا من هو مشرك بالله جل وعلا أو من جادل عن نفسه بأنه ليس بمشرك فإنه لا يَحسُن أن يُنَزَّل دائما منزلة المعاند الذي تقام عليه الحجة بنوع من الشدة والغِلظة؛ بل يُنظر في أمره ويستدرج حتى يجعله في منزلة الجاهل، وإذا كان كذلك فإنك تقيم عليه الحجة وتعلمه دين الله جل وعلا.
قال (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له) والعبادة سبق أن أوضحنا معناها في شرح ثلاثة الأصول وفي كتاب التوحيد، وأنَّ العبادة تحصل معرفتها في الأدلة من الكتاب والسنة بنوعين من الاستدلال:
(37/249)
أما النوع الأول من الاستدلال: فالنصوص التي فيها الأمر بالعبادة بعبادة الله وحده دون ما سواه، وأن من صرف العبادة بغير الله فهو كافر مشرك.
كقول الله جل وعلا في الأول ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أعْبُدُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلَقَكُمْ?[البقرة:21] الآية في أول البقرة.
ومن الثاني قول الله جل وعلا في آخر سورة المؤمنون ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، ومن السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الدعاء هو العبادة».
فإذا بينت له هذه الأدلة بعامة فتقول له: العبادة نعلم أن هذا الشيء عبادة لأن الله جل وعلا أمر به أو أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان هذا الشيء مأمورا به علمنا أنه عبادة؛ لأن الله جل وعلا لم يأمرنا إلا للتعبّد، فصحّ أن هذا الذي أُمِرنا به أمر إيجاب فإنه عبادة وكذلك أمر استحباب. فتقول له:
أمرنا الله جل وعلا بإخلاص الدين له، فإذن إخلاص الدين لله عبادة.
أمرنا الله جل وعلا بخوفه، فالخوف عبادة.
أمرنا الله جل وعلا برجائه، فالرجاء عبادة.
أمرنا الله بالصلاة، فالصلاة عبادة.
أمرنا الله بالزكاة، فالزكاة عبادة.
أمرنا الله بالنحر، فالنحر عبادة.
أمرنا الله بكذا وكذا فهذه عبادات، وهذا النوع الأول من الاستدلال.
والنوع الثاني: ما جاء في كل مسألة من تلك المسائل التي عددناها من العبادة؛ لأن الله أمرنا بها، ما جاء في كل مسألة من دليل خاص يُثبت وجوب اختصاص الله جل وعلا بهذا النوع من العبادة.
فإذن الدليل الأول دليل عام، تقول: إن هذا الشيء قد أمر الله جل وعلا به فهو عبادة والله جل وعلا أمرنا أن نعبده دون ما سواه وأخبرنا أنّ من عبد غيره فإنه مشرك كافر.
(37/250)
والنوع الثاني من الأدلة والاستدلال ما كان في كل مسألة بحسبها فنقول مثلا: أمر الله جل وعلا بإفراده بالعبادة بقوله ?إَيَّاكَ نَعْبُدُ?[الفاتحة:5] فقدّم المفعول على الفعل والفاعل ليفيد الاختصاص؛ اختصاص العبادة به وقصر العبادة عليه وحده دونما سواه، وقال ?وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]، فقدّم المفعول على الفعل من المفاعيل والفاعل ليدلنا على أن الاستعانة في العبادة إنما تكون بالله جل وعلا وحده هو المختص بها، وكذلك قوله جل وعلا ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163]، فيها أنَّ هذه الأشياء لله وحده المستحقة؛ يعني الصلاة والنسك مستحقة لله دون ما سواه لا شريك له.
كذلك تأتي للإنابة والتوسل فتقول قال الله جل وعلا ?عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ?[هود:88]([43])فدل على أن التوكل عليه وحده دون ما سواه لأنه قدم الجار والمجرور على ما يتعلق به وهو الفعل فدلّ على اختصاص التوكل بالله جل وعلا؛ يعني بأن التوكل يكون عليه وليس على غيره، وكذلك الإنابة فإنها إليه لا إلى غيره، وهكذا في غيرها من المسائل.
وكذلك الدعاء فإن الدعاء أمر الله بدعائه وحده فقال ?فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ?[غافر:14]، وقال?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18].
(37/251)
إذن فتوضح له معنى العبادة، ثم توضح له الأمر بالعبادة بأن يعبد الله دون ما سواه، ثم تبين له ما أمر الله به إن كل مسألة مما أمر الله به أنها تدخل في العبادة؛ فدخل الذبح في العبادة، ودخلت الصلاة في العبادة، ودخل الخوف في العبادة، ودخل التوكل في العبادة، ودخلت الاستغاثة في العبادة، ودخل الرجاء في العبادة، إلى آخر مفردات توحيد العبادة، ثم بعد ذلك تقيم عليه الدليل الثاني أو النوع الثاني من الأدلة والاستدلال بأنّ الله في القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة جعل هذه الأنواع مختصة به وحده دون ما سواه، فصار الدليل من جهتين:
· من جهة دخولها في العبادة والله أمر بعبادته وحده دون ما سواه.
· ومن جهة أن الله جعلها مختصة به دون ما سواه.
وهذان نوعان من الأدلة يكثر أفرادهما، وتكثر الآيات والأحاديث في كل واحد من هذين النوعين.
فإذا بينت له ذلك فقد تم البيان في إيضاح أن هذه المسائل من العبادة.
(37/252)
والشيخ رحمه الله تعالى مثل بذلك بمثال، بمثال في الدعاء لأن الدعاء هو الذي يدخل فيه كثير من الصور، فقال (فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى ?ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً?)، وفي قوله رحمه الله (فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى) أنَّ حجة الموحد يجب أن تكون دائما بالأدلة وألاّ يحتج بحجج عقلية لأنه قد يكون الخصم عنده من العقليات ما ليس عند الموحد فيغلبه إما بتأصيل أو برد إلى المنطق أو ما أشبه ذلك فتضعف حجة الموحد؛ ولكن يبين له الحجة بأدلة ثم يوضح له وجه الاستدلال من الدليل، قال(فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى ?ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً?) ووجه الاستدلال من هذا الدليل أن الله جل وعلا أمرنا بدعائه، فيكون الدعاء عبادة لأنه مأمور به، وأمر بدعائه تضرعا وخفية، وسبب ذلك أن المشركين يدعون آلهتهم التي يعبدونها مع الله أو من دونه يدعونها جِهارا يدعونها برفع الصوت، والله جل وعلا حي سميع بصير أقرب إلى الداعي من نفسه ومن عُنق راحلته، فلما أمر الله جل وعلا بذلك علمنا أن هذا مخالفة لصنيع المشركين، قال سبحانه (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) وذلك لأنه سبحانه يعلم السرَّ وأخفى، وقد قال الحسن رحمه الله تعالى: ما كان دعاؤهم إلا فيما بينهم وبين ربهم إلا همهة. أو قال: إلا حديثا بينهم وبين ربهم حتى إنه يدعو الداعي والرجل بجنبه لا يسمعه. في حديثٍ له ساقه ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره ونقله عنه أيضا ابن كثير وجماعة، فالتضرع والخُفْيَة صفة الداعي.
(37/253)
فنقول له: أليس الدعاء ؛ دعاء الرب جل وعلا على هذه الحالة عبادة لله جل وعلا، (فلابد أن يقول نعم والدعاء مخ العبادة) يعني أن الدعاء لب العبادة، فإن العبادة أنواع وأعظم أنواعها الدعاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة» تعظيما لشأن الدعاء، كما قال «الحج عرفة»، فالدعاء مخ العبادة ومعظمها ولبها، ولهذا قال الشيخ رحمه الله (فلابد أن يقول: نعم)، (والدعاء مخ العبادة) هذه جملة استطرادية، (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة) لأنّ الخصم لابد أن يقر أن دعاء الله وحده عبادة، قال(إذا أقررت أنه عبادة ودعوتَ الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره) تبدأ تناقشه في تعريف العبادة وما قدمنا تقول: إذا دعوت الله وحده ليلا ونهارا في حاجة خوفا وطمعا، ثم في هذه الحاجة بعينها سألت الوليَّ أو الميت أو صاحب السّر أو صاحب المشهد أو صاحب القبة أو ما أشبه ذلك، دعوته وسألته هذا السؤال، هل يكون هذا شركا في العبادة أم لا؟ فلابد أن يقول: نعم. لم؟ إلا أن يكون مكابرا، لابد أن يقول: نعم. لأن عين الشيء سأله الله جل وعلا ودعا به الله وحده طمعا وخوفا ورجاء ليلا ونهارا ثُم تَوَجَّه به إلى غير الله في الحاجة عينها، فلابد أن يقول: نعم، سألتُ الله الحاجة وسألتُ الولي الحاجة، فيقول: نعم هذا شرك بالله جل وعلا، لهذا قال الشيخ رحمه الله (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيرَه؟ فلابد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا عملت بقول الله تعالى ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر:3]) هذه صورة ثانية، الصورة الأولى في الدعاء، الصورة الثانية في النحر قال (فإذا عملت بقول الله تعالى: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?) يعني انحر لربك ولا تنحر لغيره، ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
(37/254)
الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163]، قل له إذا نحرتَ لله وحده وذكرتَ اسم الله على الذبيحة ونحرت الإبل أو البقر أو ذبحت الذبائح متقربا بها إلى الله جل وعلا هل هذا عبادة؟ فسيقول: نعم هذا من أعظم العبادات؛ لأن الذبح في الأضاحي والنحر في الحج وأشباه ذلك، هذا من أعظم العبادات لله جل وعلا، (فقل له: إذا نحرت لمخلوق) يعني تقربت بهذا الدم لمخلوق كما فعلت بأن تقربت بدم آخر لله فتقربت بالدم لمخلوق، فما الفرق بين هذا وهذا؟ لا فرق؛ لأنك تقربتَ بالذبح الأول لله، وبالذبح الثاني تقربت للنبي أو لولي أو لصالح، أو لجني تخاف شره أو لساحر أو ما أشبه ذلك، (هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يُقِرَّ ويقول: نعم) لأنه لا مفرّ له، فعين الفعل فعلته لله والفعل عينه فعلته لغير الله، فهل هذا شرك أم لا؟ فلابد أن يقول: إن هذا النوع عبادة لغير الله؛ لأني قصدت بها غير الله، وذاك عبادة لله لأني قصدت بها الله جل وعلا. ولا يمكن أن يقول في الصورة الثانية: إن هذا ليس بعبادة ولم أقصد بها غير الله؛ لأنه حين فعل تقرُّبا إلى الله بالذبح أقر بأن الذبح عبادة وحين توجه إلى غير الله بهذا الذبح وإراقة الدم أقرّ بأن هذه العبادة توجه بها لغير الله، فلابد إذن أن يقول: نعم. للحجة.
وهذا تمام الوجه الأول من هذا الاحتجاج، وهو ظاهر بين قوي في أن يُتدرج مع المشرك ومع هذا الذي يَعبد غير الله ويدعو غير الله ويستغيث بغير الله -نعوذ بالله من الخِذلان- أو يذبح لغير الله أو أنواع الصور الشركية، فإنه يُتدرج معه في هذا حتى يُقر بأنّ الحجة واضحة، وأنه إذا فعل ذلك فقد عَبَد مع الله جل وعلا غيره، نسأل الله السلامة والعافية.
(37/255)
وعلى هذا الاحتجاج ولابد أن يقر، وما أُمر به فهو عبادة هذا بالاتفاق العلماء، فإنْ جادلت عالما فإنه إن لم يكن مكابرا فسيُقر بأن ما أمر به عبادة؛ لأنّ الله جل وعلا لا يأمر بشيء ويكون مباحا، لابد أن يكون عبادة، إما أن تكون عبادة واجبة أو أن تكون عبادة مستحبة يترتب عليها الثواب.
وإذا كان لا يعلم فليس بعالم فتدرجه مثل ذكرنا مثل ما ذكر الشيخ رحمه الله، حتى ولو كان عالما فإنك إذا ذكرت هذه الحجج مع المقدمات التي ذكرنا فإنها أبلغ ما يكون من الحجاج معه.
والْحَظْ أن الشيخ رحمه الله صار هذا النوع من الحجاج لتجربته ولكثرة ما جادل عن المشركين، فهو أعلم رحمه الله بالحجة الأقوى وبالشبه التي أدلى بها الخصوم وكيف تُكْشَف هذه الشبه، هذا نوع.
وأما النوع الثاني قال (وقل له أيضًا) يعني هذه الوجهة الثانية، وهذه الوجهة أيضا متجهة إلى المرتبة الثانية فيما قاله المشرك حيث قال: هذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة. فبينا له أنه عبادة بما ذكرنا له أولا.
فإذن تكون النتيجة أنه يعبد غير الله، فيكون.. قوله: أنا لا أعبد إلا الله. قول ليس له نصيب من الصحة؛ بل هو قول مجرد دعوى.
النوع الثاني قال (وقل له أيضًا)وهذا وجه آخر من الحجة (المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصّالحين واللاتّ وغير ذلك؟) فإنه (لا بد أن يقول: نعم.) إن كان عارفا لما حصل من المشركين، وإن كان غير عالم بذلك فتُقيم عليه الحجة بإيضاح حال شرك المشركين بما قدمناه لك في الدروس السابقة، فإذا أقمت عليه ذلك وأوضحته فلابد أن يقول: نعم. لأن القرآن أوضح ذلك أتم إيضاح.
(37/256)
قال (فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك) عبادتهم لآلهتهم فيما كانت؟ إنما كانت في الدعاء كانوا يدعونهم قال ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، يعني ما ندعوهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وكانوا يذبحون لغير الله،كما في حديث ثَابِت بن الضّحّاكِ - رضي الله عنه -، أنَّ رَجُلا نَذَرَ أنْ يَنْحَرَ إبِلاً بِبُوَانَةَ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِهم؟». قال: لاَ. قالَ: «فهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟» قال: لاَ. قالَ: «فأوْفِ بِنَذْرِكَ»، فدل قوله (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِهم) أنهم كانوا يذبحون للأوثان، فإذن تعبد المشركين بالذبح وبالنذر وبالدعاء ونحو ذلك هذا أمر معروف، ولم يكن شركهم من جهة أنهم يصلون لهم، أو أنهم يزكون لهم أو أنهم يحجون لها؛ لهذه الآلهة؟ لا، كانوا يحجون لله وكانوا يصلون لهم صلاة وكانوا يغتسلون من الجنابة وكانوا يذكرون الله ونحو ذلك مما ذكرناه من أنواع العبادات في أول هذا الشرح، إنما كان شركهم من جهة أنهم يدعون غير الله ويذبحون لغير الله ويلتجئون لغير الله ويتخذون تلك الآلهة والأولياء والأنبياء وُسطاء بينهم وبين الله جل وعلا.
قال (وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك. وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله وتحت قهره) يعني بما قال الله جل وعلا في آيات كثيرة في إقرار المشركين بالربوبية، (وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكنهم دعوهم والتجأوا إليهم بالجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدا)، لاشك أنه ظاهر جدا وحجة واضحة مبنية على فهم حال المشركين، وقد أوضحنا حالهم مفصلا في أول شرح هذا الكشف المبارك .
(37/257)
بعدها انتقل إلى مسألة الشفاعة، وهي مسألة طويلة تحتاج منا إلى درس مستقل فنرجئها إن شاء الله تعالى.
[الأسئلة] نجيب عن بعض الأسئلة.
س1/ كثير مما شُرح في الدرس الماضي لم يُفهم لدى كثير من الإخوة، ولم نفهم إلا أشياء مما كانت تكرارا لبعض ما سبق؟
ج/ هذه مشكلة؛ لكنها ليست مشكلتي، إنما هي مشكلة من حضر هذا الدرس دون مقدمات؛ لأن كشف الشبهات في الحقيقة ترددتُ كثيرا مثل ما تذكرون في الابتداء به؛ لأنه لا يصلح إلا لمن ضبط ثلاثة الأصول بشرحها، وضبط كتاب التوحيد بشرحه، فينتقل إلى فهم كتاب كشف الشبهات، هذا من جهة.
والجهة الأخرى أن أوائل هذا الشرح فيها كثير من المقدمات التي نحيل إليها فمن لم يستحضر ما ذكرناه في المقدمات في أوائل هذا الشرح ربما يخفى عليه بعض المقدمات التي ينبني عليها الحِجاج.
وكما قال الشاعر:
غيري جنى وأنا المعذَّبُ فيكم فكأنني سبابة المتندم
س2/ شخص ذهب إلى القبر ولكن لم يدعُ صاحب القبر، ولكنه التجأ إلى الله بإخلاص وصدق أن يكشف كربته، ولم يكن لصاحب القبر عند الدعاء شيء في قلبه، ولكن دعا الله بصدق هل هذا العمل جائز؟
ج/ الجواب أن هذا العمل بدعة وخيمة ووسيلة من وسائل الشرك؛ لأنّ تحري إجابة الدعاء عند قبور الصالحين والأولياء هذا يفضي إلى اعتقاد أنّ لهم حرمة وأنّ لمكان قبرهم خصوصية، فيؤدي إلى التوسل بهم وإلى الاستغاثة أو الاستشفاع بهم، فالله جل وعلا يُسأل الحاجات بأي مكان، وأعظم الأمكنة التي يدعى الله جل وعلا فيها المساجد وهي أحق البقاع إلى الله، فمن أراد أن يُجاب طلبه وأن يُعطى ما سأل فليتحرّى الأمكنة التي يحبها الله جل وعلا في المساجد وشبه ذلك وحِلق الذكر، وليتحرّى أيضا أوقات الدعاء التي يجاب فيها، ويتحرّى الدعاء الجامع ويتوسل إلى الله جل وعلا بأسمائه وصفاته، ويكون عنده اضطرار وأشباه ذلك مما هو من أسباب إجابة الدعاء.
(37/258)
أما من دعا عند قبر لنفسه سأل الله جل وعلا ولو كان مخلصا فإنه مبتدع آثم على أمرٍ أكبر من الكبائر.
... لا، القبر ليس الفائدة منه أن تدعو عنده، القبر الفائدة منه أن تتذكر الآخرة، «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» والزيارة المشروعة هي التي فيها تذكّر والسلام على الأموات المسلمين وسؤال الله جل وعلا لهم والدعاء للميت، ويجوز أن يدعو لنفسه عَرَضا مع الدعاء للميت دون القصد، فأما أن يتحرى الدعاء عند القبور فهو بدعة، أو أن يقصد الدعاء لنفسه عند القبور فهو بدعة أيضا؛ لكن يدعو بنفسه عرضا مع الدعاء للميت كما كان عليه الصلاة والسلام يقول إذا زار القبور «نسأل الله لنا ولكم العافية» فهذا على جهة العرض لا القصد.
س3/ قال: قلت أن المشرك لا يشهد على نفسه بأنه مشرك فما معنى قوله تعالى ?شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ?[التوبة:17]؟
ج/ الشهادة في هذه الآية شهادة بلسان الحال لا بلسان المقال كما قال ابن كثير وغيره من المفسرين، الشهادة هنا كالشهادة في قوله جل وعلا ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا?[الأعراف:172]، فهذه شهادة بلسان الحال لا بلسان المقال.
س4/ هل يجوز التوجه بالدعاء إلى الله بالتوسل بجاه محمد عليه الصلاة والسلام أو بحق الصالحين من عباد الله؟
ج/ الجواب أن التوجه أو التوسل في الدعاء بالجاه بدعة ووسيلة من وسائل الشرك، فلا يجوز أن يدعو متوسلا إلى الله بجاه نبيه أو بجاه عبد صالح أو بالحرمة أو بالمكانة أو ما أشبه ذلك..... ([44])
والاعتداء في الدعاء بأن يدعو بما لم يؤذن به، هذا من جهة.
والثانية أن هذا الدعاء وسيلة إلى الشرك بهؤلاء باعتقاد عظمتهم أو أنهم يشفعون أو ما أشبه ذلك.
(37/259)
والثالث أن السؤال بالجاه بجاه فلان وبحرمته سؤال بأمر أو بشيء أجنبي عن السائل وعن الداعي، والمشروع أن تسأل بشيء لك أو بشيء تملكه كالسؤال والتوسل بالعمل الصالح أو أن تسأل بأسماء الله جل وعلا وبصفاته أو أن تسأل الله جل وعلا بإيمانك وطاعتك لله، فهذا توسل بأمر لك وليس بأجنبي عنك، وعمل غيرك وحرمته وجاهه له وليس لك.
ولهذا ترك الصحابة رضوان الله عليهم هذا السؤال وهذا الدعاء فإنه اعتداء وبدعة ووسيلة إلى الشرك.
س5/ تقول كل ما أمر الله به عبادة وقد قال تعالى ?فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا?[البقرة:109] هل هذا عبادة؟
ج/ نعم إذا عفا متقربا بالعفو إلى الله جل وعلا فقد تعبَّد، وإذا صَفَحَ متقربا بالصفح إلى الله جل وعلا فقد تعبّد؛ لأن المأمور به عبادة إذا تقرب به، أما إذا فعله هكذا من غير قربة فليس بعبادة.
س6/ ما حكم قول بعض الصحف إن الغبار الذي أتى مدينة الرياض هو بسبب دخول فصل الخريف؟
ج/ إذا كان قول هذا القائل يعني به أنّ هذه الفصول تسبب هذه المتغيرات الكونية فإن هذا لا يجوز ومحرم وهو نوع شرك بالله جل وعلا، وإذا كان يجعلها زمنا وظرفا ووقتا أجرى الله جل وعلا سنَّته أنه يحصل في هذا الوقت هذه الأشياء هذا لا بأس به، فيفرَّقُ في هذا الباب ما بين الباء التي للسببية و(في) التي للظرفية.
فمثلا نقول: في الوسم تأتي الأمطار؛ لكن ليس معناه أنه بالوسم يأتي المطر، وإنما أجرى الله سنَّتَه أنه في هذا الوقت الذي هو طلوع هذا النجم الذي هو الوسم وأشباه ذلك، طلوع أنجم يكون عنها الوسم، هذا ظرف ووقت يحصل فيه أنواع من سنة الله جل وعلا في كونه، إذا جاء نجم كذا جاء البرد؛ لكن مجيء البرد ليس بسبب النجم وإنما ظهور النجم وقتٌ للبرد؛ مثل ما يكون ظهور الهلال وقت لدخول الشهر، وليس هو الذي أدخل الشهر، وأشباه ذلك.
(37/260)
فإذن هذه الأشياء الفصول والأنجم إذا جُعلت ظرفا ووقتا فلا بأس، وإذا جُعلت سببا باستخدام الباء؛ باء السببية فإن هذا كقول من قال مطرنا بنوء كذا وكذا .
وبهذا القدر كفاية وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟
فقل: لا أنكرها ولا أتبرّأ منها؛ بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشَّافع والمشفَّع وأرجو شفاعتَه؛ ولكن الشفاعة كلَّها لله تعالى كما قال تعالى ?قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، ولا تكون إلا بعد إذن الله كما قال تعالى ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?[البقرة:255]، ولا يَشْفَعُ في أحد إلا بعد أن يأذن اللهُ فيه، كما قال تعالى ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28]، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى ?وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85].
فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيرُه في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن اله تعالى إلا لأهل التوحيد، تبيّن لك أن الشفاعة كلَّها لله وأطلبها منه فأقول: اللهمَّ لا تحرمني شفاعته، اللهمَّ شفّعه فيّ، وأمثال هذا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا.
اللهم نعوذ بك أن نذل أو نذل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.
(37/261)
وقفنا عند قول الإمام المصلح المجدد رحمه الله تعالى (فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشَّافع والمشفَّع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلُّها لله) شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - جنس تحته أنواع، فهو عليه الصلاة والسلام يشفع يوم القيامة؛ في أنواع من الشفاعة وأعظمها وأجلُّها شفاعته عليه الصلاة والسلام في أهل الموقف أن يُعَجَّل لهم الحساب بعد أن نالهم من الكرب والشدة ما جعلهم يستغيثون به عليه الصلاة والسلام في عرصات القيامة في ذلك الموقف العظيم، وهذا هو المقام المحمود الذي خصّ الله جل وعلا به محمدا عليه الصلاة والسلام كما قال سبحانه ?عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا?[الإسراء:79]، وهذا المقام المحمود هو شفاعته عليه الصلاة والسلام في الناس جميعا لكي يُفْصَلَ بينهم ولكي يعجل لهم الحساب، ولهذا جاء في حديث جابر وغيره أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من سمع النداء فقال مثل ما يقول المؤذن ثم قال -في الدعاء المعروف بعد الأذان-: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته. إلاّ حلت له شفاعتي يوم القيامة». وذلك أنه سأل الله جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - المقام المحمود وسأل له الوسيلة والفضيلة ([45]) وهي متحققة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ ولكن السائل إذا دعا الله جل وعلا بذلك وسألها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ففي سؤاله ذلك له عليه الصلاة والسلام أنواع من العبادات التي بها استحق أن تَحِلَّ عليه له شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -:
منها يقينه بما وعد جل وعلا نبيه.
(37/262)
ومنها حبه للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ودخوله في أمته ورغبته ومحبته أن يكون عليه الصلاة والسلام أنفع الخلق للناس يوم القيامة، وهو عليه الصلاة والسلام كذلك إذْ خصه الله جل وعلا بالشفاعة.
ومر معنا في شرح الواسطية، ومر معنا في غير ذلك أنواع الشفاعات التي أعطاها الله جل وعلا نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام العظيم يوم القيامة.
فهنا قال (فإن قال: أتُنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟) هذا يشمل إنكار الشفاعة العظمى والشفاعات الأُخَرْ الشفاعة في أهل المعاصي ألا يدخلوا النار، والشفاعة فيمن دخل النار واستحقها ودخلها أن يخرجه الله جل وعلا منها، والشفاعة في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلهم ربهم جل وعلا الجنة، وأشباه هذا.
(فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشَّافع والمشفَّع)، (الشافع) يعني لما أعطاه الله جل وعلا، (والمشفَّع) فيمن شفع له عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا أعطاه الله جل وعلا ما سأله وإلا أعطاه الله جل وعلا ما شفع فيه، حتى الكافر -عمُّه- فإنه يشفع فيه عليه الصلاة والسلام ويخفّف عنه من العذاب بسبب شفاعته عليه الصلاة والسلام، فهو عليه الصلاة والسلام الشافع وهو عليه الصلاة والسلام المشفَّع، ونرجوا شفاعته، نرجو أن نكون ممن شفّع الله جل وعلا فيهم نبيه عليه الصلاة والسلام، ونأخذ بأسباب تلك الشفاعة فإن شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيمن يشفع فيه هي بإذن الله كما سيأتي ولا تكون إلا فيمن رضيه الله جل وعلا، وهذا يعني أن يبلغ العبد الأسباب التي بها يكون المصطفى - صلى الله عليه وسلم - شفيعا له، وهذه الأسباب كثيرة جاء بيانها في سنة محمد عليه الصلاة والسلام.
(37/263)
قال (وأرجو شفاعته) وكوننا نرجو شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونسأل ذلك ببذل الأسباب الشرعية في هذا لا يعني أن نسأل الشفاعة ممن لا يملكها ابتداء؛ بل الذي يملك الشفاعة هو الله جل وعلا لظاهر قول الله جل وعلا ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، واللام هنا لام الملكية فالشفاعة ملك لله جميعا وجميع أنواعها يملكها الرب جل وعلا، ويعطيها من شاء بشرط الإذن والرضا كما سيأتي.
قال (لكنّ الشفاعة كلَّها لله تعالى كما قال تعالى: ?قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]).
والشفاعة معناها ضم الداعي والسائل طلبه إلى طلب سائل آخر ليتحقق طلبه، ويكون الشافع -يعني الثاني- أقوى من الأول. هذا في مقتضى اللغة، وهي مأخوذة من الشفع وهو ضد الوِتْر كما قال جل وعلا ?وَالفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ?[الفجر:1-3]، فالشفع مغاير للوتر، وسُمِّي الشافع شافعا والشفيع شفيعا لأنه صار بالنسبة للسائل زوجا وشَفْعا بعد أن كان الطالب والسائل واحدا، فشفع طلبه؛ يعني صار هذا الشافع ثانيا في السؤال، فبدل أن يطلب الشيء واحد في الشفاعة صار الطالب له اثنين، الأول صاحب الحاجة والثاني صاحب الشفاعة.
فإذن الشفاعة حقيقتها ضم الشافع طلَبه لطلب السائل ليحقق له مراده، وهذا عامّ في موارد الشفاعة في اللغة.
(37/264)
فإذن على هذا تكون الشفاعة ممن يمكنه ذلك، فإذا دعا الداعي في الدنيا لأخ من إخوانه أو لمن دعا له فإنه شافع له بالدعاء؛ يعني أنه سأل الله جل وعلا أن يعطي فلانا مطلوبه الذي هو كيت وكيت، وكما جاء في حديث الأعمى المروي في السنن بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه الأعمى يشكو حاله علمه دعاء ثم قال له « فقل اللهم إني استشفع إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -» وهذا يعني أنه يجعل دعاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حياته شافعا له؛ يعني دعا هو بما أوصى عليه الصلاة والسلام ثم رغب في أن يكون الشافع له محمدا عليه الصلاة والسلام؛ يعني الداعي له بما أراده من الرب جل وعلا.
فإذا كان كذلك صارت حقيقة الشفاعة قائمة على أن الشافع يطلب كما طلب الأول وأنه لا يشفع إلا فيمن رضي أن يشفع له، لا يشفع ممن طلب منه الشفاعة رغْمًا عنه؛ يعني إذا سأل سائل آخر أن يشفع له فالشافع لا يشفع إلا إذا رغِب أن يشفع، وليس كل من طلب الشفاعة من الناس، من فلان، من النبي عليه الصلاة والسلام، من أهل العلم، أن يجاب إلى طلبه فيشفع فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام ويشفع فيه العلماء إلى آخر ذلك بالدعاء في الدنيا، فإنه قد يطلب ويرد، قد يطلب من الشافع أن يشفع فيقول الشافع لا أشفع لك، والمصطفى عليه الصلاة والسلام هو الذي أنزل الله جل وعلا عليه قوله ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ? ولهذا قال الشيخ رحمه الله (ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?[البقرة:255]) وإذْن الله في القرآن وفي الشفاعة نوعان: إذن قدري كوني، وإذن شرعي ديني.
فحصول الشفاعة لا يكون إلا بعد أن يأذن الله بالنوعين:
(37/265)
فالأول الإذن الشرعي: يعني أن يكون هذا المشفوع له ممن أذن شرعا أن يُشفع فيه، ومعلوم أن الله جل وعلا نهى المؤمنين أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، فقال جل وعلا في سورة براءة ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ(113)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ?[التوبة:113-114]، فدل هذا على أن الشرع نهى أن يُستغفر للمشرك؛ يعني أن يشفع في مغفرة الذنوب عند الله جل وعلا لأهل الشرك.
وإذا كان كذلك فإن اشتراط الإذن الشرعي؛ يعني أن من طلب الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا وهو من أهل الشرك، أو في الآخرة وهو من أهل الشرك، فإنه لم يؤذن الإذن الشرعي في أن يُشفَّع فيهم أو أن يسأل الشفاعة لهم، وكذلك في البرزخ -وهو ما بين الحياتين الأولى والآخرة وهو حياة خاصة- كذلك فإن من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة وهو في قبره عليه الصلاة والسلام فقد سأل ما لم يؤذن به شرعا، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم ما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة بعد موته، وكذلك ما سألوا شهداء أحد الشفاعة، والشهداء يشفعون كما جاء في الحديث؛ لأن الشفاعة مشروطة بالإذن الشرعي، ولو حصل من أحد أنه طلب الشفاعة فإنه لو فُرض أنه عليه الصلاة والسلام يشفع في البرزخ فإنّ هذا الذي طلب الشفاعة فإنه أشرك حيث سأل الشفاعة بما لم يؤذن به في الشرع؛ لأنه طلب الشفاعة ممن لم يؤذن له في ذلك والشفاعة كلها لله جل وعلا.
فتحصَّل لنا من الشرط الأول وهو الإذن أنه ينقسم إلى قسمين:
(37/266)
· الإذن الشرعي وهو أنْ يكون الله جل وعلا أذِنَ للشافع أن يشفع الإذن الشرعي.
· وكذلك أذن للمستشفع أن يطلب الشفاعة الإذن الشرعي.
وربنا جل وعلا قال في الشافع ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?[البقرة:255] يعني لا أحد يشفع عند الله جل وعلا إلا بعد أن يأذن الله جل وعلا الإذن الشرعي، فإن أهل الإيمان من الرسل والأنبياء والصالحين والملائكة لا يشفعون لمن لم يؤذن له شرعا لمن خالف الشرع وطلب الشفاعة من غير الله؛ لأن الله جل وعلا قال ?قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44].
فإذن طلب الشفاعة منهي عنه بقوله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)، وطلب الشفاعة معناه طلب الدعاء، فالشفاعة وطلب الدعاء واحد، فإذا جاء أحد إلى قبر وقال لصاحب القبر: أسألك أن تدعو الله لي. معناه أنه سأل الشفاعة فهي بمنزلة قوله: أسألك أن تشفع لي. لأن الشفاعة -كما ذكرت لكَ- هي طلب الدعاء؛ ضم الشافع طلبه إلى المشفوع له، فقول القائل لأحد: أسألك أن تدعو لي. يعني أن تشفع لي، وهذا بالنسبة للأموات مهما علت مرتبتهم فإنه لا يجوز، وطلبها منهم لا يوافق إذن الله جل وعلا الشرعي.
إذا تبين ذلك:
فالقسم الثاني من الإذن؛ الإذن الكوني القدري: يعني أنَّ الشافع عند الله جل وعلا لا يشفع ابتداءً كما هو الحال في الدنيا في أحوال الشافعين عند البشر، يأتي ويطلب سواءً كان المشفوع عنده يرضى بهذه الشفاعة أو لا يرضى، يرغب فيها أو لا يرغب، هذا من حال أهل القصور حال أهل الفقر والمسكنة؛ يعني هم أهل الدنيا.
(37/267)
أما ربنا جل وعلا ذو الكمال المطلق وذو الإحسان إلى خلقه وذو الغنى التام وذو القدرة التامة جل وعلا فإنه لا يشفع أحد عنده ابتداءً؛ بل لا يشفع أحد حتى يأذن الله للشافع أن يشفع الإذن الكوني القدري؛ يعني يعلم الله جل وعلا أنّ هذا يريد أن يشفع فيقول له: اشفع، كما ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام إذا كانت الشفاعة العظمى يوم القيامة ويأتيه الناس قال «فآتي فأخِرُّ بين يدي العرش، فأحمد ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن» يخر ساجدا فيبتدئ بالحمد والثناء على الله جل وعلا، والله سبحانه يعلم أنه يريد أن يشفع، ولا يشفع ابتداءً؛ لأنه لابد من الإذن الكوني لابد أن يقال له: اشفع، قال عليه الصلاة والسلام «فيقول الرب أو فيقول: يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع» فهذا يدل على أن الشفاعة يوم القيامة لا يبتدئ بها أهلها حتى يأذن الله جل وعلا لهم في أن يشفعوا، وهذا أصل عظيم في هذا الباب.
إذن الإذن الكوني القدري -بالدليل الذي ذكرت لك- يدلُّ على أن هذا الذي شفع لا يملك الشفاعة، وإنما هو محتاج لأنْ يشفع كما أنّ الطالب محتاج في أن يُشفع له، والله جل وعلا هو الذي يملك الشفاعة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يملكها فيشفع شفاعة من يملك، وإنما هو يرجو أن يُقبل منه أن يشفع، كما جاء في هذا الحديث ودِلالته واضحة على ما ذكرنا.
إذن قوله جل وعلا (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه) يعني لا أحد يشفع عند الله جل وعلا إلا بإذنه سبحانه الشرعي وبإذنه سبحانه القدري، فإن شفع من لم يأذن الله فيه شرعا فإنه لا تقبل شفاعته مثل ما شفع نوح عليه السلام في ابنه قال ?رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ?[هود:45]، فأجابه ربنا جل وعلا بقوله ?يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ?[هود:46] الآيات.
(37/268)
فإذن دلَّ على أنه إذا ابتدأ أحد في أن يشفع فيمن لم يُؤذن له بالشفاعة شرعا فإنه لا تقبل شفاعته وترد عليه، وأما الإذن الكوني فإنه في الآخرة لا يحصل يعني بعد الموت لا تحصل الشفاعة ولا تقع إلا بعد الإذن الكوني.
أما في الدنيا فإنه قد يشفع أحد فيؤذن له كونا بالشفاعة بحسَب إرادته، فيبتدئ بالشفاعة ثم ترد عليه إن لم يكن شفاعته موافقة للإذن الشرعي أو لم تكن شفاعته موافقة لحكمة الله جل وعلا.
فتحصّل من هذا أن الشفاعة لها من حيث الزمن حالان: في الدنيا، وما بعد الممات.
أما في الدنيا: فإن الإذن الكوني للشافع يحصل بإرادة الشافع، فقد يشفع والله جل وعلا يأذن سبحانه ولو كانت حكمته في أنْ يرد هذا الشافع في الدنيا، مثل ما حصل من شفاعة نوح عليه السلام في ابنه، ومن شفاعة إبراهيم في أبيه، ومن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام في عمه فأنزل الله جل وعلا ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى?[التوبة:113].
أما بعد الممات: فإنه لا يبتدئ أحد الشفاعة -يعني في يوم القيامة ولا في البرزخ- حتى يأذن الله جل وعلا، ومعلوم أن الله جل وعلا لا يأذن في وقوع الشرك، ولا يأذن إذنا كونيا ولا إذا شرعيا في حصول ذلك من الأموات؛ لكن من الأحياء قد يبتدئون ويطلبون ذلك لأنها دار تكليف، فيأذن الله جل وعلا كونا بحصول ما لم يأذن به شرعا لأنها دار تكليف.
فقوله سبحانه (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه) معناها لا أحد يشفع عن الله إلا بإذنه وذلك لكمال قدرته جل وعلا وقهره وجبروته وكمال مُلكه وكمال عزته وكمال صفاته سبحانه وأسمائه، أما الخلق فقد يُشفع عندهم بلا إذن منهم.
قال الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك (ولا يَشْفَعُ في أحد) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أو (يُشفع في أحد) يعني من جميع أنواع الشفعاء (إلا بعد أن يأذن الله فيه) هذا إذن آخر.
(37/269)
فباعتبارٍ آخر الإذن ينقسم إلى قسمين:
· إذن للشافع أن يشفع.
· وإذن للمشفوع فيه أن يشفع له.
قال (ولا يَشْفَعُ في أحد إلا بعد أن يأذن الله فيه) يعني في حق المشفوع له أن يشفع.
أما أن يشفع لكل أحد، والله جل وعلا لا يأذن لهذا أن يُشفع له فإن هذا لا يحصل، والله سبحانه وتعالى لا يرضى إلا بالشفاعة لأهل التوحيد كما سيأتي.
قال (كما قال عز وجل ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28]) (وَلا يَشْفَعُونَ) يعني الملائكة هذه الآية في سورة الأنبياء (وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى) يعني الملائكة، فلا يشفعون فيمن يريدون كما يظن أهل الشرك؛ بل لا يشفعون إلا لمن رضي الله جل وعلا قولَه وعملَه فيمن ارتضاهم ربنا جل وعلا، والله سبحانه لا يرضى إلا لأهل التوحيد، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» فقوله (أسعد الناس بشفاعتي) قال العلماء (أسعد) هنا جاءت على أفعل التفضيل لكن معناها الوصف لا التفضيل؛ يعني سعيد الناس بشفاعتي يوم لقيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبله أو نفسه، فـ(أسعد) بمعنى سعيد ،كقوله جل وعلا في سورة الفرقان ?أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا?[الفرقان:24]، ومعلوم أن مقيل أهل النار ليس فيه حُسْنٌ بل هو قبيح وشر وعذاب عليهم، فقوله (أَحْسَنُ مَقِيلًا) يعني حسنا مقيلهم.
(37/270)
فهذا معلوم في اللغة أن أفعل قد تخرج عن بابها إلى الوصف وهذا كقوله كما ذكرنا (أسعد الناس بشفاعتي) فسعيد الناس بشفاعتي عليه الصلاة والسلام أهل التوحيد، والذين يرضاهم الله جل علا ورضي لهم قولا هم أهل التوحيد، فإذا كان كذلك فمن سأل من لا يملك الشفاعة الشفاعة فإنه ليس ممن رضي الله قوله ولا رضي عمله؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن ذلك ولأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا ذلك.
قال جل وعلا قال ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28] وهذا هو الشرط الثاني وهو شرط الرضا فإن الشفاعة لا تنفع عند الله جل وعلا إلا بتحقق شرطين: الإذن والرضا.
والرضا نوعان أيضا:
· رضًا عن الشافع.
· ورضًا عن المشفوع له.
فالذين يشفعون هم الذين رضي الله عنهم، وهم الأصناف الذين جاء ذكرهم في الأحاديث: الأنبياء وأولهم محمد عليه الصلاة والسلام، والعلماء، والشهداء، والصالحون. هؤلاء هم الذين يشفعون فرضي الله جل وعلا قولهم.
وكذلك النوع الثاني الرضا لمن شُفِعَ له وهذا الرضا قد يكون رضا عن مآل حاله؛ لأنه من أهل الإسلام، وقد يكون رضًا في الشفاعة لحكمة يعلمها جل وعلا وهذا إخراج لحال أبي طالب.
قال (?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28] وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد) لدلالة الحديث الذي ذكرنا وكذلك دلالة قول الله جل وعلا ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]، وكقوله جل وعلا ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ?[آل عمران:19]، يعني التوحيد الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام وهو التوحيد الذي جاء به الأنبياء والرسل جميعا.
(37/271)
فإذن هو سبحانه لا يرضى إلا الإسلام العام ومن كان من هذه الأمة فلا يرضى يعني بعد بعث محمد عليه الصلاة والسلام لا يرضى إلا اتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام فقوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) يعني من ابتغى غير دين محمد عليه الصلاة والسلام (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)؛ لأن محمدا عليه الصلاة والسلام بعثه الله وبعثه بالإسلام الخاتم الذي نسخ كل دين قبله.
قال رحمه الله بعد ذلك (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله) هذا استنتاج؛ ترتيب النتائج على المقدمات، (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله ولا تكون إلا بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد) يعني هذه أربعة أشياء.
(إذا كانت الشفاعة كلُّها لله) أولا هذه مقدمات في الحجة ليبني على هذه المقدمات النتيجة، وهذه المقدمات كل واحدة منها سبق شرحها ودليلها.
قال (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله) يعني من جهة المِلك، في أن الذي يملكها الرب جل وعلا، فإذن هو الذي يتصرّف ويقول سبحانه هذا يُشفع فيه وهذا يشفع وهذه الحال فيها شفاعة وهذه الحال ليس فيها شفاعة إذْ هو المالك للشفاعة سبحانه بخلاف أهل الدنيا فإنه يملك المرء الشفاعة في أحد، أنا مثلا أريد أن أشفع لفلان فإني أملكها بحيث أبتدئ الشفاعة ولو لم يرض المشفوع عنده، فأبتدئ سواء قبل أو لم يقبل، هذا لأجل حال القصور الذي أنا عليه والضعف والمسكنة فلا أملك ولا أستطيع أن أفرض على أحدٍ شيئا.
أما حقيقة الشفاعة فإنها لله جل وعلا يملكها سبحانه، فالشفاعة عنده جل وعلا ليست كالشفاعة عند خلقه جل وعلا بل هو الذي يملك الشفاعة، فالذي يجيء يطلب الشفاعة لا يجيء وهو يتقدم عند الله جل وعلا بشيء يملكه هو؛ بل الذي يملك الشفاعة الرب سبحانه وتعالى.
(37/272)
فحقيقة الشروط ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?[البقرة:255]، قال ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28] ونحو ذلك من الآيات دالة على أن الشفاعة ملك لله، فآية الزمر ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، دالة وكذلك الشروط دالة على أن الشفاعة كلها لله جل وعلا.
قال في الشرط الثاني (ولا تكون إلا بعد إذنه) مثل ما مر معنا، (ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه) هذا الشرط الثالث، (ولا يأذن إلا لأهل التوحيد) هذا الشرط الرابع، (تبين لك أن الشفاعة كلَّها لله) يعني أن لا أحدا ليس له من الأمر شيء كما قال جل وعلا ?لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ?[آل عمران:128].
قال بعدها (فأطلبها منه) يعني إذن إذا كانت لله وهذه الشروط الأربعة والمقدمات الأربعة واضحة فتحصل ان الشفاعة لله والطلب إذن يكون لمن يملك قال (فأطلبها منه فأقول: اللهمَّ لا تحرمني شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ شفّعه فيّ) فتسأل الله جل وعلا أن يأذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يسخره عليه الصلاة والسلام للشفاعة فيكَ، وهذا هو وجه التوحيد والطريقة الشرعية المأذون بها، قال (وأمثال هذا) يعني من الأدعية التي تناسب هذا المقام.
(37/273)
إذن فهذا الكلام الذي ذكرناه جواب على قول من قال (أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟) وهذه الشبهة كثيرا ما تقال لأهل التوحيد، فإذا قالوا لغيرهم ممن طلبوا الشفاعة من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أو من الأولياء قالوا لهم: الشفاعة لله وطلب الشفاعة من الموتى شرك؛ لأن الله جل وعلا لم يأذن بهذا والله هو الذي يملك الشفاعة، هذا لا يملكها، ومن طلب من الميت ما لا يملكه ولا يقدر عليه ابتداءً فقد طلب منه، ما هو مختص بالله وهذا يعني أنه أشرك به، قالوا أتنكر الشفاعة؟ فإذن هم إذا أُنكر عليهم الشرك قالوا: أتنكر شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؟ لأن أهل العلم من أهل السنة ومن الفرق الأخرى غير المعتزلة -الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء- مجمعون على أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يشفع، وعلى أنّ الأولياء والصالحين يشفعون، فإذا قلت لهم: طلب الشفاعة شرك. أرادوا أن ينسبوك لأهل الضلال ممن يُنكرون الشفاعة فقالوا أتنكر الشفاعة؟ حتى ينسبك إلى الخوارج أو إلى المعتزلة أو ما أشبه ذلك.
(37/274)
فإذن قوله هنا (فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟) هذه يقولها المشرك للموحد حتى ينسِبَه -وحتى ينسُبه يصح الوجهان- لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة، فكأنه قال لك: أأنت خارجي؟ إذا أنكرت عليه طلب الشفاعة. أأنت خارجي؟ أأنت معتزلي؟ فتقول له: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل أنا سلفي سني موحد ولست من أهل البدع والفرق الضالة؛ بل هو عندنا عليه الصلاة والسلام هو الشافع المشفَّع بأنواع من الشفاعات نثبتها قد لا يثبتها بعض أهل البدع كالأشاعرة ونحوهم، وأرجو شفاعته عليه الصلاة والسلام، نرجو شفاعته ونبذل الأسباب في ذلك، ونسأل الله جل وعلا أن يشفع فينا نبيه عليه الصلاة والسلام، وكذلك نأتي بالأسباب من الدعاء بعد الأذان، ومن محبة المدينة، ومن الرغبة في الموت فيها، وكذلك السعي في القتال في سبيل الله، وأشباه ذلك مما هو من أسباب نيل شفاعته عليه الصلاة والسلام([46]) ... وإنما نطلبها ممن يملكها والذي يملكها هو الله جل وعلا.
هذا حقيقة هذا البرهان وهذا التفصيل من الشيخ رحمه الله تعالى.
قال (فإن قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أُعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله تعالى.)
قال (فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا) يعني نهاك عن طلب الشفاعة (فقال سبحانه ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن: 18]، فإذا كنت تدعو الله أن يشفّع نبيّه فيك فأطعه في قوله: ?فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?) وهذا دليل وبرهان سديد للغاية.
(37/275)
كما ذكرت لك أن الشفاعة طلب والشفاعة هي الدعاء، فإذا طلب أحد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في البرزخ -مع حياته الكاملة عليه الصلاة والسلام أكمل من حياة الشهداء عليه الصلاة والسلام- إذا طُلب منه أن يشفع، فهذا الطالب سأله والسؤال دعاء، فحقيقة طلب الشفاعة أنها دعوة الميت -سؤال الميت-، سؤال النبي عليه الصلاة والسلام في قبره وهو في الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام، سؤاله ودعاؤه وقد طلب منه، فإذا قال القائل: يا محمد، يا رسول الله اشفع لي. فقد دعاه وطلب منه، إذا قال: يا محمد، يا رسول الله اسأل الله لي. فقد سأله وطلب منه عليه الصلاة والسلام، وهذا طلب الدعاء ممن ليس في الحياة الدنيا ممن هو عند الله جل وعلا، والله سبحانه نهانا أن ندعوا أحدا غيرَه فقال جل وعلا (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)، وقوله (فَلا تَدْعُوا) هذا نهي، نهانا عن الدعاء.
ومن المعلوم المتقرر في الأصول أنَّ الفعل المضارع لاشتماله على مصدر ينزل منزلة النكرة في سياق النهي أو النفي فتعم أنواع الدعاء، (فَلا تَدْعُوا) هذا يعم جميع أنواع الدعاء؛ لا يدعى مع الله أحدا؛ دعاء استغاثة، دعاء استعانة، دعاء استسقاء، دعاء شفاعة، دعاء نذر إلى آخره، فجميع هذه الأنواع داخلة في النهي في قوله جل وعلا (فَلا تَدْعُوا) دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكذلك دلّت الآية على عموم آخر وهو قوله جل وعلا (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)؛ لأن (أَحَدًا) نكرة جاءت في سياق النهي فدلت على عموم كلِّ أحد، فالملائكة لا يدعون والأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه لا يُدعون، وكذلك الصالحون ممن انتقلوا عن الدنيا لا يُدعون، والأولياء الأموات لا يُدعون، والشهداء شهداء المعركة لا يُدعون أيضا.
(37/276)
وكما ذكرتُ لكم في درس سبق أن الصحابة أجمعوا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام والنبي عليه الصلاة والسلام مقرهم على ذلك بل والتشريع ينزل أنَّ أحدا منهم لم يسأل الشهداء شهداء أحد الشفاعة، ولم يطلب منه شيئا مع أنهم كانوا في حياة أولئك الشهداء ربما طلبوا من أولئك؛ لكن لما ماتوا تركوا الطلب مع أنهم قال الله جل وعلا ?أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ?[آل عمران:169-170]الآية.
فدلّ هذا على أنَّ طلب الشفاعة من الميت داخل في سؤال الميت وفي دعاء الميت، وهذا كما قال الشيخ رحمه الله (فإن قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أُعطي الشفاعة وأنا أطلبُه مما أعطاه الله) قل: نعم النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة في عرصات القيامة بأنواعٍ من الشفاعة؛ لكن الذي أعطاه الشفاعة في عرصات القيامة هو الذي نهاك عن طلب الشفاعة في البرزخ؛ يعني أن تطلبه وأنت في الحياة الدنيا وهو في البرزخ، فالجواب كما ذكر الشيخ (أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا) ما الدليل على النهي؟ قال (فقال تعالى: ?فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?) ووجه دخول طلب الشفاعة في الدعاء ما ذكرته لك وهو واضح تقريره.
فال (فإذا كنت تدعو الله أن يُشفّع نبيّه فيك) إذا كنت تريد أن يشفع فيك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (فأطع الله في قوله ?فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?-، يعني فلا تسأل مع الله أحدا وقوله (مَعَ اللَّهِ) فيه إشارة إلى سؤال من لا يملك شيئا، ومن لا يقدر عليه، وأن من سأل غير الله وهذا الغير لا يملك الشيء فقد دعا مع الله أحدا، وهذا ظاهر من جهة الاستدلال ومن جهة البرهان الواضح القوي.
(37/277)
قال في برهان آخر (وأيضًا) هذا نوع آخر من البرهان على المسألة (فإن الشفاعة أعطيها غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط([47]) يشفعون والأولياء يشفعون أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم؟) فإذا قال إن الفَرَط لأنه يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله، فقل -هذا من جهة الإلزام؛ لأن الإلزام إن التزمه تناقض فصار مبطلا، وإن لم يلتزمه تناقض أيضا وصار مبطلا- فقل له (الأفراط يشفعون) ولهذا إذا مات فرط صغير فندعوا لوالديه بالمغفرة وندعو أن يشفعه في والديه، كما جاء في السنة من الدعاء في الآثار.
فإذن هل يكون هذا الذي احتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة يقول بأن كل من أعطي الشفاعة يُسأل الشفاعة ونقول هؤلاء الأفراط يشفعون فاسألهم الشفاعة، ولا قائل به أن الأطفال الصغار يؤتى إلى قبورهم ويطلب منهم الشفاعة، مع أن الحجة التي احتجوا بها في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الحجة التي تسوغ في حق هؤلاء الصبيان.
كذلك الملائكة إذن الملائكة يشفعون فهل يطلب المسلم الشفاعة من الملائكة ويقول: يا جبريل اشفع لي عند الله، وهذا لا قائل به حتى عباد القبور لا يقول بهذا لأنهم لو قالوا به صاروا إلى دين الجاهلية بالاتفاق وصاروا مشركين بالاتفاق.
(37/278)
فإذن هذه الحجة حجة إلزامية، يُحتج عليهم بما يقرون به على ما يحتجون له، فهم يقرون أن الملائكة يشفعون، ويقال لهم: النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة كما ذكرتم؛ ولكن نهينا أن نسأله الشفاعة، فإن قالوا: لا؛ بل أعطيها ونسأله الشفاعة، نقول لهم الملائكة يعني نبرهن لهم بالبرهان الأول (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) فإن لم ينفع فيهم فنقول لهم الملائكة أيشفعون؟ فإن قالوا: لا. فنقول لهم: بل يشفعون؛ لأن الله جل وعلا قال فيهم قال ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28] ولأنه ثبت في الحديث الصحيح أن الله جل وعلا يقول يوم القيامة«شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفع العلماء ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيخرج بعثا من النار» إلى آخر الحديث.
فإذن إذا قلنا له الملائكة تشفع بنص القرآن، وأخبر الله أنهم يشفعون والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر، فاسأل الملائكة أن يشفعوا لك، فإن قال به ولا قائل به فيصير إلى دين المشركين بالاتفاق الذي بيننا وبين عباد القبور.
كذلك قل (الأفراط يشفعون) لما جاء في الحديث، أفتذهب إلى قبر طفل وتسأله الشفاعة، وهذا لا قائل به بالاتفاق.
إلى أن قال (أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم، فإن قلت هذا فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه.) يعني بالاتفاق هذه عبادة الصالحين، عبادة الملائكة، عبادة غير الله التي أجمع عليها الناس بأن يسألوا الشفاعة ويُتقرب إليهم بطلب الشفاعة.
(37/279)
(وإن قلت: لا)؛ لا أطلبها من هؤلاء، لا أطلب الشفاعة من الملائكة، ولا أطلب الشفاعة من الأفراط، قال الشيخ رحمه الله (وإن قلت: لا.) يعني لا تطلبها منهم (بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله) لأن هذا إلزام بما هو لازم في نفس الأمر، فإما أن يطرق الباب فيجعل هذا وهذا بابا واحدا، وهذا يُرجعه بالاتفاق إلى دين المشركين، وإما أن يفرق بين هذا وهذا فيتناقض فيدل على بطلان حجته التي ادعاها بقوله أطلبه مما أعطاه الله.
نقف عند هذا إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يمنَّ علينا بشفاعة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
[الأسئلة]
... هم احتجوا قالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة، على هذا القدر من الإطلاق نقول نعم أعطي الشفاعة، فيقول إذن أنا أطلبه مما أعطاه الله، فإذن لو ما شفع لي يوم القيامة فأطلبه مما أعطاه الله يشفع يوم القيامة، فيقول أيضا الملائكة تشفع يوم القيامة والأفراط يشفعون يوم القيامة أفتطلب منهم الآن أن يشفعوا لك؟ فإذا قال ذلك رجع إلى عبادة المشركين بالاتفاق.
... هذا من عندك، هذا من كِيفِك؛ لأن أهل التوحيد هم الذين يقولون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الملائكة، أما أهل الشرك يعني الأشاعرة والماتريدية فعندهم أن الملائكة أفضل من الأنبياء والمرسلين، وما أحد يحتج منهم بهذا -واضح؟، يعني أنت جمعت بين قولين متناقضين، هم ما يقولون، واضح.
س/ في الحقيقة سؤال غريب لا بأس أن نذكره -ما له علاقة بالدرس يقول: أعتذر عن هذا السؤال فهو خارج عن الدرس، ظهر فلم فيديو بعنوان فاتح القسطنطينية، وفي هذا الفلم يمثلون القائد محمد الفاتح بشكل أفلام كرتونية مع العلم أن هذا القائد شخصية إسلامية، فما حكم...، وقد رأينا بعض طلاب العلم يشاهدون هذا الفلم ويسهرون عليه الليل أغلبه.
(37/280)
ج/ ما أظن طالب علم يسهر على هذا اللهو وأمثاله قد يستفيد منه لصغار عنده أو نحو ذلك لكن يسهر عليه ويشاهده هذا ما يصلح أن يكون طالب علم، لأنّ طالب العلم عليه واجبات كثيرة والله جل وعلا يعين الجميع على أدائها.
لكن بالنسبة لتمثيله هذا مختلَف فيه؛ يعني تمثيل مثل الشخصيات هؤلاء مختلف فيه ما بين العلماء منهم من يجيز ومنهم من لا يجيز، أنا ما أعرف هذا الفلم على حقيقته كيف هو.
إيش يعني كرتون، إذا كان رسم تصوير، فالمصوِّر له يأثم لكن المشاهد لما صور لا يأثم؛ لأنه ما دخل في التصوير، هذا يحتاج منكم إلى نظر من نظر إليه يعطينا صفة هذا حتى يكون الحكم فرعا عن التصور.
س/ هل تجوز الشفاعة من الشخص الغائب؟
ج/لا، دعاء الغائب هذا شرك بالله؛ يعني يكون في مكة ويقول يا خالد لا تنسني من دعائك هذا شرك بالله؛ لأنه كيف يصل إلى ذلك.
س/ قال: ما جاء في لامية أبي طالب
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال لليتامى عصمة للأرامل
هل يصح قول من قال فيه استغاثة بغير الله؟
ج/ لا، هو عليه الصلاة والسلام يسأل الله أن يسقي الناس، وهو في حال حياته يدعو من جنس دعائه عليه الصلاة والسلام بالاستسقاء وفيمن طلب منه الدعاء في الدنيا، فهذا له أن يدعو؛ بل قد دعا لعمه ولم يستجب له عليه الصلاة والسلام فيه.
س/ ما الضوابط في أسماء الله الحسنى؟
ج/ الأسماء الحسنى موضع الكلام في درس العقيدة العام يعني كالواسطية والطحاوية وغيره؛ لكن نذكره على عجل.
الأسماء الحسنى هي ما جمع ثلاثة شروط:
الأول مجيئها في الكتاب والسنة.
والثاني أنها هي التي يدعا الله جل وعلا بها.
والثالث هي المشتملة على الكمال المطلق الذي لا نقص فيه.
فما لم تتوفر فيه هذه الشروط الثلاثة جميعا فإنه ليس من السماء الحسنى، قد يكون اسما من أسماء لله لكن لا يكون من الأسماء الحسنى، وقد يكون اسما يخبر به عن الله جل وعلا ولا يكون من الأسماء الحسنى.
(37/281)
بالنسبة لدرس يوم الاثنين الزاد لانشغالي ليلة الثلاثاء لفترة تتوقف وأخبركم إن شاء الله باستئنافه، هذا نبهت في أول الدروس لكن بعض الإخوان ما سمعوا صاروا يحضرون جزاهم الله خيرا.
س/ إذا قيل للشهيد أو للرسول عند قبره اشفع لي يوم تبعث فما حكم ذلك؟
ج/ هذا الذي نتكلم فيه من الصباح، هذا هو الذي نتكلم فيه من بعد صلاة العشاء، هو شرك لأنه سأل طلب منه دعاه سأله، هذا شرك.
س/ هذا سائل يقول: مهم. جعل الكتابة بالقلم الأحمر عشان تصير خطر يعني، يقول: ما رأيك فيمن ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية أن سؤال الميت أن يدعو الله لك ليس من الشرك الأكبر بل هو بدعة؟
ج/ هذا جاء في كلام شيخ الإسلام صحيح لكن البدعة يريد بها البدعة الحادثة؛ يعني التي حدثت في هذا الأمة، وليس مراده رحمه الله بالبدعة أنها البدعة التي ليست شركا لأن البدع التي حدثت في الأمة منها بدع كفرية شركية ومها بدع دون ذلك فإذن قوله: وأما سؤال الميت أن يدعو الله للسائل فإنه بدعة. يعني هذا حدث في هذه الأمة حتى أهل الجاهلية ما يفعلون هذا، ما يقولون أدعو الله لنا، إنما يقولون اشفع لنا.
فمسألة أن يطلب من الميت الدعاء هذه بدعة حدثت، حتى المشركين ليست عندهم، وأهل الجاهلية ليست عندهم بل حدثت في هذه الأمة، وإنما كان عند أهل الجاهلية الطلب بلفظ الشفاعة اشفع لنا، يأتون ويتقربون لأجل أن يشفع، يتعبدون لأجل أن يشفع أو يخاطبونه بالشفاعة ويقولون اشفع لنا بكذا وكذا، أما أدع الله لنا هذه بدعة حدثت في الأمة.
(37/282)
فكلام شيخ الإسلام صحيح أنها بدعة محدثة، وكونها بدعة لا يعني أن لا تكون شركا أكبر، فبناء القباب على القبور وسؤال أصحابها والتوجه إليها على هذا النحو الذي تراه من مشاهد والحج إلى هذه المشاهد وجعل لها مناسك كلها بدعة، نقول بدعة حدثت في هذه الأمة، وهي يعني سؤال أصحاب هذه المشاهد والذبح لها وعلى هذا النحو الموجود لم يكن موجودا في الجاهلية على هذا النحو، وإنما كانت عبادتهم للأموات على شكل أصنام وأوثان والتجاء للقبور وأشباه ذلك؛ لكن ليس على هذا النحو، فلم يكن أهل الجاهلية يحجون كالحج إلى بيت الله الحرام يحجون إلى مشهد أو إلى قبر أو ما أشبه ذلك.
نقول هذه بدعة؛ لكن هل يعني أن هذا ليس شركا أكبر؛ لا؟ لأن البدع منها ما هو مكفِّر.
س/ ما حكم إطلاق لفظ خير خلق الله جميعا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولفظ سيد الخلق، وحبيب الله والحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؟
ج/ هو عليه السلام هو سيد ولد آدم وأشرف الأنبياء والمرسلين وخير خلق الله جميعا عندنا لأن الصحيح عندنا في مسألة التفضيل بين الملائكة والرسل والأنبياء أنّ الرسل والأنبياء أفضل من الملائكة، ولا نقول البشر أفضل من الملائكة؛ بل نقول الأنبياء والرسل وأولياء الله أفضل من الملائكة، ولهذا يصح أن نقول خير خلق الله محمد عليه الصلاة والسلام، وهو عليه الصلاة والسلام سيد الخلق وهو حبيب الله وخليل الله.
س/ قول القائل: اللهم إني أسألك بحق جبريل عندك أن تفعل لي كذا وكذا هل يجوز؟
ج/ هذا سؤال بالحق وبالجاه وأشباه ذلك وهو سؤال بأمر أجنبي، قد ذكرت لكم أن هذا ممنوع من ثلاثة أوجه ذكرناهم في الدرس الماضي أو في الدرس الذي قبله.
(37/283)
فمن سأل الله بحق فلان بحق ملك أو حق نبي سأله بأمر أجنبي عنه، وهؤلاء لهم منزلة عند الله وجاه لكن ليس هذا الحق لك، وسؤالك به سؤال بأمر خارج عنه، فسؤال العبد ربه جل وعلا متوسلا يكون بأسماء الله جل وعلا وبصفاته؛ لأن هذا سؤال بإيمانه بالأسماء والصفات وإيقانه بها وإقراره بذلك ووصف الله جل وعلا بذلك وتسميته بها، وسؤال أيضا بالعمل الصالح تسأل الله جل وعلا بأعمالك الصالحة.
أما سؤالك الله بعمل غيرك الصالح أو بمُقامه عند الله أو بالمنزلة عند الله فهو سؤال بأمر أجنبي ولذلك صار اعتداء في الدعاء وبدعة وخيمة ووسيلة أيضا إلى الشرك.
س/ هل يجوز -لا حول ولا قوة إلا بالله- يقول هل يجوز الاستشفاع بأحد من الخلق مثل طلبة العلم، وهل تأذن لي في الاستشفاع بك في دعائي؟
ج/ نحن نذكر في هذه الدروس من أولها إلى آخرها أن مثل هذا لا يجوز، وأن مثل هذا بدعة، حتى ولو استشفعت بحي سواء كان صالحا وعالما أو من تظن فيه، هذا كله من البدع المحدثة في الدين، إنما تسأل الدعاء على قولٍ بجوازه، تقول يا فلان أدعو الله لي هذا الذي يجوز في الحياة، مثل ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يا عمر لا تنسنا من دعائك».
والعلماء مختلفون هل يجوز طلب الدعاء من الحي مطلقا أم يجوز في بعض الأحوال أم هو مكروه؟ على أقوال.
والسلف الصالح رضوان الله عليهم ما كانوا يأذنون لأحد أن يطلب منهم الدعاء فقد جاء مرة رجل لحذيفة فقال: أدع الله لي. فدعا له فجاءه آخر مرة أخرى فصاح في وجهه فقال: أأنبياء نحن؟ فإذا ساغ مرة فلا يسوغ أن يؤتى فلانا حتى ولو كان صالحا أو عالما أو كان يَظن فيه هذا ظن خير أن يطلب منه الدعاء دائما، والمسؤول الدعاء أيضا يجب عليه أن ينكر مثل ما أنكر حذيفة، حتى لا تتعلق القلوب بغير الله، مرة يحصل ذلك فلا بأس.
(37/284)
إلا في حال ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: إن طلب الدعاء يجوز إذا كان من طلب الدعاء من غيره يريد منفعة ذلك الغير ولا يريد منفعة نفسه، وعلى هذا يحمل طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمر أن يدعو له؛ لأن هذا فيه إحسان إلى السائل، فإذا أردت لفلان مثلا من الناس أن يدعو لك لكي ينتفع هو بتأمين الملائكة له بقولهم: ولك بمثل هذا. وأشباه ذلك، يقول شيخ الإسلام هذا هو الجائز.
أما الدعاء أصلا يا فلان أدعو الله لي لا تنسنا من دعائك ونحو ذلك فيقول شيخ الإسلام: هو مكروه.
وإن قيل بجوازه فإنه ليس على وجه الديمومة.
أما أن يقول الطالب في دعائه: أستشفع بفلان أو يا فلان اشفع لي وهو غائب فهذا شرك بالله جل وعلا ولا يجوز أن يحوم حول مثل هذه المعاني ذهن طالب علم أو موحد، ولو قيل مثل هذا لعامي من العامة من أهل نجد أو من غيرهم ممن عرفوا التوحيد لصاح في وجه من قال هذا؛ لأن هذا هو الشرك أو وسيلة الشرك.
فينبغي أن يُنتبه لمداخل الشيطان على النفوس.
س/ ما الفرق بين قول القائل: اللهم مُنّ علينا بشفاعة نبيك وبين سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة؟
ج/ مثل ما ذكر الشيخ محمد رحمه الله: تطلب الشفاعة من الله، تسأل الله أن يُشفِّع فيك نبيه، فإذن طلبت الشفاعة ممن يملكها وهو الله جل وعلا، أما إذا طلبت الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد دعوته عليه الصلاة والسلام ودعوة غير الله شرك، ثم سألته الشفاعة وهو بعد موته عليه الصلاة والسلام لا يملك أن يشفع حتى يأذن الله جل وعلا له، والله جل وعلا لا يأذن في هذه الصورة.
وطلب الشفاعة منه عليه الصلاة والسلام هو الذي بحثناه في هذه الجلسة من أولها.
س/ كيف يكون الذي يطلب الشفاعة من الملائكة كافر بالاتفاق، مع أن هناك من لا يقر أن عبادة المشركين للملائكة هي بالدعاء؟
(37/285)
ج/ أنا لا أذكر أحدا من أهل العلم -يعني من المفسرين- قال: إن تعبد المشركين من أهل الجاهلية بالملائكة أنه ليس بالدعاء، لا أعرف من قال بغيرها؛ يعني على ظاهر السؤال هناك من لا يقر أنَّ عابدة المشركين للملائكة هي الدعاء لا أدري من قال هذا، لعل السائل يفيدنا فإذا كان هناك من يقول به من الأولين يعني من السلف أو من المتأخرين فإنه يمكن حصر الإجماع في فترة زمنية، أما على علمي فإنه لا أحد قال إنّ العرب مثَّلت الملائكة على صور على أصنام وإنما يدعون الملائكة ويطلبون منهم كما قال جل وعلا ?وَيَوْمَ يحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41].
س/ هل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعمر «لا تنسنا يا أخي من دعائك» ثابت؟
ج/ رواه أبو داوود والترمذي وجماعة وإسناده ضعيف.
س/ هل جميع أنواع الشفاعة التي ذكرها الشيخ في كتاب التوحيد ثابتة في الكتاب والسنة؟
ج/ ما أدري إيش يعني كتاب التوحيد، كتاب التوحيد ما ذكر فيه أنواع الشفاعة، أنواع الشفاعة مذكورة في الواسطية وفي كتب العقيدة العامة.
في شرح كتاب التوحيد؟
إذا كان في الشرح نعم ثابتة.
س/ لو بلغ شخصا خبرٌ يسره فقال للذي أعلمه: أشكر حياتك. فما حكم قول هذه العبارة؟
ج/ يعني أشكرك ما فيه بأس إن شاء الله.
س/ قوله جل وعلا ?وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهُمْ وَيُصْلِحْ بَالَهُمْ?[محمد:4-5]، قرأت في أحد مختصرات التفسير أن معنى (سَيَهْدِيهُمْ) إلى العمل فكيف يكون العمل بعد الموت؟
(37/286)
ج/ هذا أحد الأقوال في الآية وهو أن قوله تعالى (سَيَهْدِيهُمْ) يعني في الدنيا وأن مجيء السين فيها مع إفادتها التعقيب هذا باعتبار القَدَر يعني (وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قدرا يعني بما مضى في علم الله، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)سَيَهْدِيهُمْ) في الدنيا ويبين لهم الطريق هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق.
والقول الثاني وهو الصحيح أن الهداية هنا هداية في الآخرة لطريق الجنة فهو ليس اعتبار القتل هنا اعتبار قدري سابق بل هو اعتبار بالواقع فقوله (وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني فحصل لهم القتل (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) يعني أن الله جل وعلا يبارك عملهم القليل وينمي لهم عملهم إلى يوم القيامة كما ثبت في الحديث «أن الشهيد ينمى له عمله إلى يوم القيامة»، قال (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهُمْ) يعني في الآخرة ويصلح بالهم الهداية إلى طريق الجنة يعني سيهديهم على الصراط لأن هذا هو النوع الرابع من أنواع الهداية عند أهل السنة وهو هداية أهل الجنة لطريق الجنة وهداية أهل النار للنار، ففي أهل الجنة في الشهداء قال هنا ?سَيَهْدِيهُمْ وَيُصْلِحْ بَالَهُمْ(5)وَيُدْخِلُهُمْ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ?[محمد:5-6]؛ يعني بعد أن يهدوا إلى طريق الجنة.
في الهداية إلى النار قال جل وعلا في سورة الصافات ?فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ(24)مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ?[الصافات:23-25] الآيات.
س/ من يرى عليه سمات الصلاح تقول العامة لها زرنا تحصل البركة، هل هذا جائز؟
ج/ البركة كما هو معلوم نوعان: بركة ذات، وبركة عمل وإيمان وصلاح.
(37/287)
بركة الذات: بمعنى أن أجزاء الذات تكون مباركة، فإذا لمست هذا المبارك الذات انتقلت لك بركة وحصل لك بركة وانتفاع من ذاته -من شعره من عرقه من بدنه-، فهذه ليست إلا للأنبياء والمرسلين، فهم الذين يتبرك بذواتهم بعرقهم ببقية سورهم بدمهم إلى آخره، فهذا لا بأس به، كما جاء ذلك في السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والنوع الثاني من البركة بركة عمل: وهذه لكل مؤمن بركة راجعة إلى عمله الصالح وذلك من جهة إيمانه وتقواه وصلاحه وعمله الصالح، فلكل مؤمن بركة بقدر ما عنده من الإيمان والعمل الصالح، مثل ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أن أُسيد قال لأبي بكر لما نزلت آية التيمم في قصة عائشة المعروفة تخفيفا على الأمة قال: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر. وثبت أيضا في البخاري وفي غيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن من الشجر شجرة بركتها كبركة المسلم» فدل على أن كل مسلم فيه وله بركة، ولما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية وأعتق قومها وجعل عتقهم صداقها قال: فلم تكن -أو معنى ما جاء- لم تكن امرأة لها بركة على قومها أعظم من بركة صفية. فدل هذا على أن كل مؤمن له بركة؛ بركة عمل.
فإذن إذا أتى رجل صالح أو زارك أحد من إخوان المؤمنين وقال قائل: حلت البركة أو جاءت البركة يعني أن هذا الزيارة عمل صالح والعمل الصالح مبارك، وهذا العبد الصالح إذا جاء، وقال القائل: حلت البركة؛ يعني لأنه إذا جاء العبد الصالح فإنه سيشغل أهل البيت في زيارته لهم بما ينفعهم في آخرتهم فهذه من بركة إيمانه وعمله الصالح فلا بأس.
أما بركة الذات فليست إلا للأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه.
في هذا القدر كفاية، وأسأل الله لي ولكم المغفرة والعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.([48])
??¹™™
[المتن]
(37/288)
فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا؛ ولكن الالتجاء إلى الصّالحين ليس بشرك. فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرّم الشرك أعظم من تحريم الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرّمه ولا يبيّنه لنا؟
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام.
فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبّر أمر من دعاها؟ فهذا يكذّبه القرآن، كما في قوله تعالى ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ?[يونس:31]،الآية.
وإن قال: هو من قصد خشبةً أو حجرًا أو بِنْيَةً على قبرٍ أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له يقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته أو يعطينا ببركته، فقل: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها. فهذا أقرّ أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب.
ويقال له أيضًا: قولك: (الشرك عبادة الأصنام) هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصّالحين ودعاءَهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يردّه ما ذكره الله في كتابه من كُفْر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين، فلا بد أن يُقِرّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهذا هو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله. فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام. فقل: وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي، فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه؟
(37/289)
وإن فسر ذلك بغير معناه، بيّنتَ له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي يُنكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا: ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
[فإن قال: إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنّا لم نقل عبد القادر ابن الله وغيره.
فالجواب: إن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ?[الصمد:1-2]والأحد الذي لا نظير له والصمد المقصود في الحوائج، فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة، وقال تعالى ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91]، ففرق بين النوعين، وجعل كلاَّ منهما كفرا مستقلا وقال تعالى ?وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:100]، ففرق بين كفرين، والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ -مع كونه رجلا صالحا- لم يجعلوه ابن الله، والذين كفروا بالجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضا العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في باب حكم المرتد أنّ المسلم إذا زعم أن لله ولدا فهو مرتد، ويفرقون بين النوعين وهذا في غاية الوضوح.] ([49])
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل، يا أرحم الراحمين.
ربَّنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك.
اللهم كما علمت العلماء فعلمنا وكما فهمتهم ففهمنا، ألحقنا بزمرة ورثة الأنبياء، يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
(37/290)
فهذا الكلام الذي سمعناه جواب على شبهة أدلى بها طائفة أخرى، وهذه الشبه التي ذكرها الشيخ رحمه الله تجد فيها تكريرا؛ وذلك أنه أورد ما أورده الناس من الشبه على التوحيد،وقد يكون ما قاله فلان يدخل بعضه في ما قاله الآخر، ولهذا ترى أنه فيها نوع تكرير ونوع إعادة؛ لأن الشبه متداخلة، وهذا يدلّ على أن القوم يتواردون على شبه أصلها واحد.
فإذا أحْكم طالب العلم المقدمات التي ذكرناها في أول هذا الشرح وجواب الشبه الثلاث التي هي أكبر ما عندهم، سَهُل عليه الجواب عن الشبه الأخرى مهما اختلفت وتلوَّنت، وهذا الذي ذُكر هنا جواب الشبهة التي يمكن أن تُعَنْوَنَ بقولهم: الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، وأنّ الشرك مخصوص بعبادة الأصنام.
وفي الحقيقة أنّ الذين عبدوا غير الله جل وعلا لا يعرفون معنى الشرك؛ كجهلهم بعلوم الشريعة وبأصول الدين، فإنهم لا يعرفون معنى العبادة، ولا يعلمون معنى الشرك ولا يعلمون معنى التوحيد، لهذا قد ينكرون شيئا وهم واقعون فيه، وقد ذكر الشوكاني رحمه الله في رسالته الدّر النضيد([50]) أن عُبّاد القبور عندهم تغيير للأسماء، فيسمونها بغير اسمها؛ فيسمون الشرك توسلا، ويسمون طلب الشفاعة من الأولياء توسلا، ويسمون إنزال الحاجات بالأولياء والأنبياء التجاءً إلى الصالحين؛ لأنَّهم عند الله جل وعلا لهم المقامات العالية وأشباه ذلك، قال الشوكاني: وهذا لا يغير من الحقائق شيئا إذِ العبرة بالحقائق لا بالأسماء، العبرة بالمسميات لا بالأسماء. فلو سُميت الخمر ماءً -هذه تتمة من عندي- فلو سميت الخمر ماء فإنها خمر، ولو سميت سرقة الأموال إنها هدايا فإنها سرقة، فالأسماء لا تغيِّر في الأحكام الشرعية، إذ الأحكام مرتبطة بحقائق الأمور، فإذا وجدت حقيقة الأمر الذي حرّمه الشرع أو أمر به الشرع فإنه هو المقصود بالتحريم وهو المقصود بالأمر وإن اختلفت الأسماء إذْ لا عبرة باختلاف الأسماء.
(37/291)
هنا تفريعا على ذلك قال الإمام رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة (فإن قال) يعني المُدلي بالشبهة (أنا لاَ أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا) وهذا صنيع كل من يعبد غير الله يعبد الأولياء والأنبياء ويتقرب إليهم أو يتقرب إلى المشاهد أو إلى الجن أو إلى ما شابه ذلك من أنواع المعبودات من دون الله، كلهم يقولون: نحن لا نشرك. إذْ لا أحد يقر على نفسه بالشرك والكفر.
قال (فإن قال) يعني بعد ما ذكرنا من مسألة الشفاعة أو من أدلى بهذه الشبهة (أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا) يعني أنا لستُ من المشركين وعندي إباء أن أكون من أهل الشرك أو أن أفعل الشرك، فحاشا وكلا أن أشرك بالله شيئا، لِم؟ قال لأن (الالتجاء إلى الصّالحين ليس بشرك).
فإذن رجع أمر هذه الطائفة إلى أنهم يتبرؤون من شيء يفعلونه، وإذا كان هذا المتبرّأ منه من أصول الدين من التوحيد، فإن فعله يدل على أنهم لم يعلموا معنى الشرك ومعنى التوحيد، فلابد لهم إذن من إقامة الحجة؛ لأنه ينفي عن نفسه أن يكون من المشركين ويكره الشرك ويكره الكفر؛ لكنه واقع فيه، فلابد من البيان لهم والتعليم وإقامة الحجة عليه في أنَّ ما يفعله داخل فيما نفاه عن نفسه.
قال رحمه الله (فقل له) هذا ابتداء جواب الشبهة (إذا كنت تُقِرُّ أن الله حرّم الشرك أعظم من الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره) إلى آخر الكلام هذا الجواب للشبهة ملني على مراتب:
الأولى: هذه المرتبة التي سمعتَ وهي أن يُطلب منه تفسير الشرك، ما هو هذا الشرك الذي لا يغفره الله وأنت تنفيه عن نفسك؟ هاتِ معنى الشرك.
المرتبة الثانية: أن يفسر الشرك بعبادة الأصنام؛ فيُسأل ما معنى عبادة الأصنام؟
الثالثة: هل الشرك مخصوص بعبادة الأصنام أم لا؟
(37/292)
فهذه ثلاث مراتب لجواب هذا الإشكال فمن قال إن التوسل بالصالحين ليس بشرك يعني التوسل الشركي الذي يفعله عباد القبور والخرافيون ويعدونه توسلا وهو دعاء غير الله جل وعلا وطلب الشفاعة من الأموات هذا مبني على هذه الثلاث مراتب، فنأتيها واحدة واحدة.
فالأولى: قال الشيخ رحمه الله (إذا كنت تقر أن الله حرّم الشرك أعظم من الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري) هذا تنزيل لطائفة إذا قلت له: ما هذا الشرك الذي حرمه الله وعظمه بين أنه لا يغفره وأن أعظم من الزنى ومن شرب الخمر ومن إتيان المحارم إلى غير ذلك فطائفة منهم يقولون لا ندري، ما هذا الشرك لا نعلم ما هذا الشرك.
فإذن هذه الطائفة يقال لها: كيف تُبرِّئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ إذا كنت لا تعرف حقيقة الشرك فكيف تقول: أنا لا أشرك بالله شيئا ومعلوم أن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفون عن نفسهم الكفر وينفون عن أنفسهم الشرك بالله جل وعلا؛ لأن هذا الشريك الذي دعوه مع الله جل وعلا هو لله جل وعلا فنفوا أن يكونوا مشركين على الحقيقة، مثل ما قال قائلهم وهو يُلَبِّي: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فإذا كان الشريك لله فإن سؤاله لا يعد سؤالا لأحد غير الله جل وعلا، مثل اعتقاد النصارى واعتقاد الملائكة أنها بنات الله وكذلك الاعتقاد في الأصنام والأوثان.
وهم إذن لا أحد يُقِرُّ على ننفسه أنه مشرك مطلقا، إذْ يلزم من ذلك أن الشرك المطلق يعني أنه يقرّ بأن ثمة مصرّف للأمور غير الرب جل وعلا، والمشركون مُقِرُّون بأن المصرف للأمور هو الله جل وعلا وحده، إذ يلزم لازما عقليا واضحا وأيضا شرعيا أنّ من اعتقد مع الله إله آخر يلزمه أن يعتقد أنه ربٌّ وأنه يعطي ويمنع وأنه هو الذي يسخِّر الأمر يدبر الأمر وهو الذي يسخر السحاب وينزل المطر.
(37/293)
ولهذا تجد أن في القرآن كثيرا ما يحتج على المشركين بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية.
فهم خروجًا من هذا الإلزام قالوا: إن هذه الآلهة لله جل وعلا فهو يملكها وهي تحت تصرفه، وهم ينقلون ما يحتاجه خلقه إلى الله جل وعلا، مثل ما فعل غلاة المتصوفة حيث قالوا: إن العالَم له أقطاب أربعة فوَّض الله إليهم رفع حاجات أهل الأرض، فالقطب الفلاني في مصر، والقطب الثاني في الهند، والقطب الثالث في الشمال، والقطب الرابع في الجنوب؛ يعني أن هؤلاء فوّض الله إليهم أمر رفع الحاجات.
فنخلص من ذلك: أن من وقع في الشرك فإنه قد يقول أنا لم أقع في الشرك وحاشاي أن أشرك، فإذا طُلِب منه تفسير الشرك لم يعرف تفسيره، وهذه مرتبة العوام، فهؤلاء جوابهم أن يقال: كيف تبرئ نفسك من شيء وأنت لا تعرفه؟ كيف تبرئ نفسك من الشرك، وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ لا شك أنّ هذا يدل على عدم رغبة في الخير؛ بل يدلّ عدم معرفة وعلم بما خلق الله جل وعلا العباد له، فإنه إذا علم أن الشرك محرم وأنه لا يغفره الله وأن أهله مخلدون في النار إن لم يتوبوا، فكيف يقول أنا لا أعرف هذا الشرك؟ فهذا إعراض عن الدين كما قال الله جل وعلا ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]،
فإذن لا تسأله عنه؟ كيف تَتَعَرَّفه؟ (أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟) وهذا في الحقيقة جواب يصلح للعوام؛ لأن العامي لا يصلح له ما يصلح لمن يجادل ببعض الشبه العلمية، فهذا يقول: أنا لا أشرك. فتسأله عن الشرك فيقول: أنا لا أعرفه. فيقال له كيف تنفي عن نفسك شيئا وأنت لا تعرفه؟
(37/294)
فهذا يكفي في جواب هذا العامي أن يجعلك معلما له، وكما ذكرنا لك في السابق إذا استطعت في مجادلة عوام المشركين في أنْ تجعلهم في مرتبة أدنى منك فتكون معلما بحسن عبارة في أن تجرَّه إلى أن يعترف على نفسه بالجهل، ثم تنتقل من مناظر إلى معلم، فهذا من أعظم الوسائل للإقناع ولإحداث الخير وإقامة الحجة وبيان المَحَجَّة، فلا ينزل العالم العامي منزلة العالم، لا ينزل من هو خال من الحجة أصلا جاهل من هو عنده شبه، فإذا عاملتَ هذا معاملة هذا فإنك تخسر؛ بل ينبغي أن تسلك ما ذكره الشيخ رحمه الله هنا في أن تطلب منه تفسير الشيء فإذا كان عنده علم ناقشه برد تفسيره، وإذا لم يكن عنده علم فتقول له: كيف تكون على هذه الحال تنفي عن نفسك شيئا وأنت واقع فيه وأنت جاهل بمعناه.
فإذن تنتقل معه إلى التعليم لهذا تقول له كما قال الشيخ رحمه الله (أتظن أنَّ الله يحرّمه ولا يبيّنه لنا؟) فلا شك أنه سيقول: لا، إنّ الله إذا حرّم علينا هذا فهو سيبينه لنا وستبدأ معه في بيان التوحيد ومعنى لا إله إلا الله والشرك والكفر بالطاغوت والعبادة إلى غير ذلك.
ثم قال وهي المرتبة الثانية في أناس من أهل هذه الشبهة وهم الذي قولون: نحن لسنا مشركين وحاشانا من ذلك والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، أهل المرتبة الثانية من هذه الطائفة هم الذين يقولون (الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام) تلحظ أن هذه الكلمة مرت معنا في شبهة قبل ذلك؛ لكنها مرتبة لطائفة ممن يقولون الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، والشيخ رحمه الله كرّر لأن المقام يحتاج إلى هذا؛ لأن هؤلاء يدخلون تحت مَظَلَّة من يقول الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، وأولئك يدخلون تحت مظلة الشفاعة يعني طلب الشفاعة من الأموات، وآخرون يدخلون تحت مظلة أخرى.
إذن أصول الشبهات مختلفة وقد يختلف أهلها في الإيراد في طوائف منهم كما يمر معنا هنا.
(37/295)
إذن فهؤلاء طائفة ثانية مرتبة ثانية من أهل هذه الشبهة قال الشيخ رحمه الله (فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام) قد يكون لُقِّنَ هذه الحجة فيكون عاميا وقد يكون عنده شبهة في هذه المسألة؛ لأن الشرك إنما هو عبادة الأصنام، ولذلك احتاج إلى التفصيل (فقل [له]: وما معنى عبادة الأصنام؟) تسأله ما معنى عبادة الأصنام:
إما أن يقول: لا أعرف معنى عبادة الأصنام.
وإما أن يقول: عبادة الأصنام هي كذا وكذا.
فإن قال: لا أعلم معنى عبادة الأصنام، فنقول له" كيف تفسر شيئا بشيء وتحتج عليه وأنت لا تعلمه؟ فإذا سكت فإنك تدلي عليه معنى عبادة الأصنام.
فإن قال: معنى عبادة الأصنام أنهم يتوجهون إلى هذا الحجر بسؤاله فهو يعتقدون في الأحجار لأنها أحجار، فتقول له مثل ما قال الشيخ هنا (أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبّر أمر من دعاها؟) فتسأله هؤلاء الذين عبدوا الأصنام كيف عبدوها؟ وكيف سُمُّوا عبدة للأصنام؟
فإما أن يقول لأنهم اعتقدوا فيها الخلق والرزق والإحياء والإماتة فتقول له: هذا يكذبه القرآن وتسرد له الآيات مثل ما قال الشيخ (كما في قوله تعالى ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ?الآية) الآية في يونس ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]؛ يعني إذا كنتم مقرِّين بتوحيد الربوبية أفلا تتقون الله في إشراككم معه آلهة أخرى، فهذا نوع، إذا قال: اعتقدوا فيها أنها تخلق وترزق وتنفع وتضر وترسل المطر إذا غير ذلك فقل هذا بكذبه القرآن وتسرد له الأدلة.
(37/296)
(وإن قال) هذا احتمال ثاني (وإن قال: هو من قصد خشبةً أو حجرًا أو بِنْيَةً على قبرٍ أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له) فإنه قد يقول هذا نتيجة لعلم له بحال المشركين؛ لأنه يقصد الخشبة يقصد الحجر يقصد البنية على القبر على أنواع من أشرك بهم في الجاهلية يدعون ذلك، مثل ما أخبر الله جل وعلا في كتابه بقوله ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65]، فإذن صار الشرك دعاء لأنه قال (دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ) ثم قال (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) يعني الشرك في الدعاء، فإذا فسره بهذا التفسير بأنه قصد الخشبة أو الحجر أو البنية على قبر؛ يعني قصد هذه الأشياء لم يقصد من في القبر قصد الخشب قصد الحجر قصد نفس البناء (يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفا ويدفع عنا ببركته ويعطينا ببركته فقل صدقتَ) هذا هو الشرك، وهم ما قصدوا خشبة يدعونها لاعتقاد في الخشبة؛ بل لاعتقاد في الروح التي تحُلُّ في الخشب حين السؤال، فالمشركون يعتقدون أنّه إذا سُئلت الخشبة التي هي ممثلة على صورة كوكب من الكواكب المؤثرة - في اعتقادهم- أو على صورة ملك، أو على صورة نبي، أو على صورة ولي، أو على صورة صالح، أو على صورة من يعتقدون فيه، فإن هذا الصنم أو الوثن إذا سئل تكلم، وهذا الكلام منه إنما هو من شيطان، فهم يعتقدون أنهم إذا خاطبوه ودعوه فإن رَوْحانية هذا الكوكب تتكلم، أو روحانية الملك، تتكلم أو روحانية الولي أو النبي تتكلم، حتى ربما إنه ينطق الجني على لسان الميت وهم يعرفون أن هذا هو كلامه، فيقول سمعنا من القبر كذا وكذا وكذا بصوت الولي فلان الذي نعرفه، ويكونون قد صدقوا فيما سمعوا لأنهم سمعوا صوت الولي نفسِه؛ ولكنه لم يسمعوا الولي نفسَه، وإنما سمعوا صوته الذي قلّده الشيطان والجني،
(37/297)
ومعلوم أن شياطين الجن عندها قدرة على التشكّل بالصور، وعندها قدرة على التشكل في الأصوات، وعندها قدرة أيضا على أن تنزل الأشياء على غير حقيقتها، وهذا مما أقدرهم الله جل وعلا عليه ليحصل الابتلاء وتحصل الفتنة، فإبليس عليه لعنة الله حصل منه ما حصل من التشكل في صورة رجل وصورة شيخ نجدي عند المشركين إلى آخره وفي يوم بدر كذلك، والجن يتشكلون ربما أتاك جني في صورة آدمي وأنت لا تعلم، ربما تكلم من تكلم بصوت وهو شيطان.
فإذن ما يذكرونه من أنهم حين يسألون الأخشاب أو الأحجار أو الغرف التي على القبور أو المشاهد أو يأتون إلى القبر وأن هناك من تكلم وقال سَأُلبِّي حاجتكم أو أمرهم بأشياء فهم صادقون لكن هذا من الجن ودخلوهم في هذا الأمر إنما من جراء الشرك بالله جل وعلا، كما قال سبحانه في آخر سورة سبإ ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41] يعني في الحقيقة مع أنهم إنما دعوا الملائكة ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40] لأنهم كانوا يطلبون من الملائكة، وقالت الملائكة ?سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ? يعني في الحقيقة أنهم كانوا يعبدون الجن؛ لأن الذي تكلم وخاطبهم هو الجني وهم تقربوا لمن خاطبهم وهو الجني، وفي الحقيقة العبادة توجهت للجن لا إلى الملائكة كما قال جل وعلا ? بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، وكما قال سبحانه في سورة الأنعام ?وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:100]، (جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ) فالجن اتخذوا له شركاء، وإن لم يعتقدوا ذلك هم أنهم عبدوا الصنم يعني عبدوا الجن لكن في الحقيقة هم عبدوا ذلك واتخذوهم شركاء.
(37/298)
فإذن فتقول له: صدقت في أنهم قصدوها يدعونها ويذبحون لها ويقولون إنها تقربنا إلى الله زلفا ويُدفع عنا ببركتها ويعطينا الله ببركتها.
مثل ما قال بعضهم لبعض الموحدين من نحو أكثر من مائة سنة، قابل رجل من المشركين فقال له الموحد: كثير من أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون قبر ابن عباس، فأجابه المشرك بقوله: معرفة ابن عباس تكفيهم، معرفة ابن عباس تكفيهم.لم؟ لهذا الأمر؛ لأنهم إذا توجهوا إلى ابن عباس معناه توجهوا إلى الله جل وعلا مثل ما قال هذا القائل.
(فقل له صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها) إذا أتوا إلى البنايات التي على القبور، أكثر القبور الآن التي بنيت عليها بنايات لا يوصل إلى القبر ولا يُخلص إليه، وإنما هم يدعون ويعتقدون ويتمسحون ويطلبون بركة هذه النية وفي قلبهم من في هذا القبر وقد لا يكون في القبر أحد أصلا أو يكون فيه مشرك أو يكون فيه حيوان ونحو ذلك، يكون قد دفن في هذا واعتقد فيه.
فإذن الذي سأله هؤلاء الأولون عند الأصنام والأوثان والخشب والحجر والبنايات التي على القبور هو الذي فعله أهل هذه الأزمان عند البنايات التي على القبور، (فقل له: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور [وغيرها]. فهذا إن أقر أن فعلهم فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب) وهذه حجة واضحة بينة.
إن كابر وقال: لسنا معتقدين فيهم الاستقلال؛ بل نعتقد فيهم الأسباب مثل ما يقول طائفة يقولون: نحن لا نعتقد أنهم يعطوننا استقلالا ولا يغفرون لنا ولا يشفون مرضانا ولا يدفعون عنا الضر بأنفسهم وإنما هم أسباب، فكما أن الله جل وعلا جعل أسبابا تقينا الحر وأسبابا تقينا البرد وأسبابا تقينا كذا وأسبابا تجلب لنا كذا وكذا فإن الله جل وعلا جعل هؤلاء أسبابا.
(37/299)
فيجاب بما أجبته لك مفصلا من قبل ومطولا، فيجاب بأن هذا السبب هو عينه الذي تعلق به المشركون، فإنهم قالوا: ما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. وهذا هو معنى السببية بنفسها، وهذا هو معنى طلب الوساطة وطلب الجاه.
(ويقال له أيضًا) وهذه الفئة الثالثة من أهل هذه الشبهة، (قولك) واضح التعلق بين هذا القول وبين قوله (الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك)؛ لأن الالتجاء معناه عندهم الدعاء؛ دعاء الصالحين، طلب بركة الصالحين بسؤالهم، وطلب الشفاعة عندهم، الالتجاء إليهم بالذبح لهم مثل ما فسره هنا.
فإذن قوله الالتجاء مساو لقوله (يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفا ويدفع الله عنا ببركته ويعطينا ببركته) هذا هو الالتجاء إلى الصالحين، وهذا هو عين ما يُفعل عند الأصنام والأوثان والآلهة المختلفة.
(ويقال له أيضا قولك الشرك عبادة الأصنام)، هذا تتمة لهذا الجواب (هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا) هذا تتمة لهذا الجواب لكنه في طائفة ثالثة؛ فيمن يقول الشرك مخصوص بعبادة الأصنام (هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصّالحين ودعاءَهم لا يدخل في ذلك؟) فإذا قال: نعم الشرك مخصوص بعبادة الأصنام، (فهذا يردّه ما ذكره الله في كتابه من كُفْر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين) وهذا قد قدمناه بوضوح في أن أنواع الشرك عند أهل الجاهلية متنوعة ليست نوعا واحدا، فمنها الأصنام وفيها أدلة في القرآن كثيرة، ومنها الأوثان المصورة الأنبياء الأولياء وما شابه ذلك، ومنها الاعتقاد في الأحجار والأشجار المصورة على صور الكواكب وأشباه ذلك.
(37/300)
قال (فهذا يردّه ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين، فلا بد أن يقِرَّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.) يعني تقول لهذا الذي قال الشرك مخصوص بعبادة الأصنام هل عيسى عليه السلام أُشرك به أم لا؟ فإن قال: لا. فقل بل أُشرك به كما قال جل وعلا في القرآن ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[المائدة:116]، وكذلك كقوله جل وعلا ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إلهاً?[التوبة:31] والآيات في هذا الباب كثيرة.
فإذن قل هل عيسى عبد عليه السلام واتخذ إلها أم لا؟
· فإن قال: لا. بيّن له الآيات.
· وإن قال: نعم. فهو المقصود أيضا.
وعلى كل من الاحتمالين مع الجواب فإنه يردّ هذا تخصيصه الشرك بعبادة الأصنام، وهذه الكلمة الشرك عبادة الأصنام تراها في كثير من تفاسير المتأخرين، فقلّ أن ترى تفسيرا من تفاسير المتأخرين إلا وإذا ذُكر الشرك بالله في القرآن وعبادة غير الله فسروها بأنها عبادة الأصنام، والمفسرون الأولون كالإمام ابن جرير رحمه الله تعالى وكغيره من الأئمة يفسِّرون الشرك حيث ورد بعبادة غير الله بأنواع ما ورد، فيكثر أن يقول ابن جرير رحمه الله تعالى نهى الله عن الشرك به ودعوة غيره من الأصنام والأوثان والأنداد، ابن جرير يكثر من هذه الثلاثة الأصنام والأوثان والأنداد لأنها أنواع ما جاء في القرآن.
(37/301)
قال (فلا بد أن يُقِرَّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك) فهو إذن يكون قوله: الشرك مخصوص بعبادة الأصنام. يكون غلطا فتقول له إذن (فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.)
قال رحمه الله (وسِرّ المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي: فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه؟ وإن فسر ذلك بغير معناه، بيّنت له الآيات الواضحات) يبين لك الشيخ رحمه الله أن سِرّ إقامة الحجة وكشف الشبهة في هذه المسألة مبني على هذه المراتب التي ذكر.
(سر المسألة) يعني سر مسألة جواب هذه الشبهة أن تقول (إذا قال: أنا لا أشرك بالله. فقل له: وما الشرك بالله؟) لكن أن تسأل ما هذا الذي نفيته؟ (إن قال: هو عبادة الأصنام. فقل: ما عبادة الأصنام؟)، (إن قال أنا لا أعبد إلا الله فقل ما عبادة الله وحده؟) فدائما تجعله جاهلا بمعنى تجره إلى ميدان الجهل حتى يقول: أنا جاهل، فإن قال: أنا جاهل. فتنتقل معه من الحجاج إلى التعليم.
وإن فسرها هذا نوع ثاني من الناس إن فسرها بما في القرآن لكنه جهل أو اشتبه عليه دخول المعاصرين وعبادة غير الله في هذه الأزمنة بما جاء في القرآن، ففسرها بما في القرآن، فتقول هذا هو المطلوب فتبيِّن له وجه الشبه.
إن فسر ذلك -هذه الحال الثالثة- بغير معناه، وهذه خاصة بأهل العلم ومن يُدلون بالشبه من المنتسبين إلى العلم وعلمهم غير نافع، إن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحة في معنى الشرك بالله.
(37/302)
إن فسر الشرك بغير معناه الصحيح تذكر له الآيات الواضحة في معنى الشرك، وأنّ الشرك يكون بأنواع كما جاء في القرآن وكما بينه الشيخ رحمه الله في كتاب التوحيد.
بيّن له معنى عبادة الأوثان، فإذا بينت له ذلك يتضح (أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرونها علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5])
قال رحمه الله بعد ذلك (فإن قال) هذا دخول في شبهة جديدة، (فإن قال) يعني نوع من موردي الشبه (إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء) هذا نوع من الناس يقول: لا كفرهم كان بشيء آخر ليس بالشرك بالله ولا بالتوجه بالصالحين ولا التوجه للأنبياء، هذه الأمور جائزة؛ لكن كفرهم كان بشيء آخر ما هذا الشيء؟
قال (وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنّا لم نقل عبد القادر ابن الله ولا غيره) وهذه كثير ما يوردها الصوفية في أن الأولين كفروا باعتقادهم أن الملائكة بنات الله جل وعلا، وهذا الاعتقاد مبين في القرآن في سور كثيرة كسورة النحل وسورة الصافات وسورة الزخرف وغير ذلك من السور.
قال (لم نقل عبد القادر) يعني الجيلاني وهو معظم ومؤلَّه في العراق وفي الباكستان والهند وفي غيرها أيضا إن قال أنا لم أعتقد في عبد القادر أنه ابن لله ولا في النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ابن لله ولا في عيسى أنه ابن لله ولا في كذا أنه ابن لله ولا في البدوي أنه ابن لله ولا في علي رضي الله عنه أنه ابن لله إلى آخر ذلك، وهؤلاء إنما كفروا في أن الملائكة بنات الله؛ يعني اعتقاد البنوة، مثل ما قال البوصيري في قصيدته الميمية المعروفة قال:
دَعْ ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت [مدحا] فيه واحتكم
أو كما قال.
وقال أيضا
لو ناسبت قدْرَه.......... ...........................
يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -
(37/303)
لو ناسبت قدره آياته عظما أحيى اسمه حين يُدعى دارس الرمم
فيقول قل ما شئت في النبي - صلى الله عليه وسلم - من وصفه بما شئت إلا في شيء واحد، وهو ألا تقول كما قالت النصارى في عيسى إنه ابن لله جل وعلا، ويفهمون هذا على الحديث الذي رواه البخاري وغيره في قوله عليه الصلاة والسلام «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» قالوا فمعنى الحديث أنه لا تبلغوا بي مبلغ النصارى في قولهم إن عيسى ابن الله وما هو غير ذلك فجائز لكم، هكذا يفهمونه، وهذه حجة طائفة كبيرة من غلاة الصوفية وأصحاب الطرق في قولهم: إنّ المحرم والشرك هو ادعاء البنوة، أما غير ذلك فليس من الشرك بالله كما قال:
دع ما اعدته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
أو كما قال.
(37/304)
قال (فالجواب) هذا جواب هذه الشبهة (إن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل) بيّن أن نسبة الولد إلى الله كفر لكنها ليست كل الكفر، فقال جل وعلا ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الصمد]، (والأحد الذي لا نظير له) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أحد يعني لا نظير له في ذاته ولا نظير له في أسمائه ولا نظير له في صفاته جل وعلا، واحد في ألوهيته لا شريك له واحد في ربوبيته لا شريك له واحد في أسمائه وصفاته لا سمي له، فكما أنه لا شريك له في الربوبية.....([51]) (المقصود في الحوائج) ودلت الآية على نوعين (فمن جحد هذا كفر ولو لم يجحد السورة) دلت الآية على نوعين النوع الأول هو من لم يجعل الله واحدا وجعله اثنين كاعتقاد طائفة من النصارى، أو اعتقده ثلاثة كاعتقاد طائفة أخرى من النصارى وغيرهم، فقوله جل وعلا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ... لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) هذا فيه رد على من اعتقد البنوة، وقوله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ) رد على أنه يُصمد في الحوائج إلى غيره.
فإذن سورة الإخلاص دلت على كفر نوعين من الناس:
· وهم من لم يجعل الله مختصا بالأحدية.
· ومن لم يجعل الله مختصا بالصمدية، والصمد هو الذي يصمد إليه في الحوائج؛ يعني يقصد وحده كزن ما سواه.
(37/305)
قال (فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة) هذا برهان على أن الشرك في القرآن ليس هو وأن المشركين -مشركي العرب وغيرهم- ليسوا معتقدين في البنوة وحدها بل معتقدين في البنوة ومعتقدين أيضا في الشريك مع الله جل وعلا في العبادة، وقال تعالى ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91]، قال الشيخ رحمه الله (ففرق بين النوعين وجعل كلاًّ منهما كفرا مستقلا) وهذا استدلال واضح قوي؛ إذ قال جل وعلا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) يعني قبل أن يخلق الخلق ولا بهد أن يخلق بعد أن خلق الخلق ولو اتخذ الرحمن ولدا لعبدنا ذلك الولد طاعة لله جل وعلا وامتثالا لأمره كما سبحانه في سورة الزخرف ?قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ?[الزخرف:81]، على الصحيح في تفسيرها أنها على ظاهرها: أنا أول من يعبد هذا الولد لو اتخذه الرحمن امتثالا لأمر الله وطاعة له جل وعلا، والواقع أن هذا لا يكون ولا يمكن إذ الله جل وعلا ما اتخذ مما يخلق بنات ولم يتخذ سبحانه ولدا؛ لأنه لم يلد ولم يولد، ولو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء، بتنزهه سبحانه وتعالى عن الولادة بدأ وأصلا وفرعا.
فإذن فقوله (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) هذا نفي للولادة ولاتخاذ الولد، قال (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) وهذا نفي لنوع آخر، وكما هو مقرر في العربية والأصول أن واو العطف هذه تفيد التغاير -تغاير الذات وتغاير الصفات-.
· فتغاير الذات كما تقول دخل محمد وخالد، فذات محمد غير ذات خالد.
· وتغاير الصفات كما في قوله جل وعلا ?تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ?[النمل:1]، فهنا القرآن هو الكتاب؛ ولكن الواو هنا دلت على تغاير الصفة فهو كتاب وهو قرآن.
(37/306)
فقوله جل وعلا هنا ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91] كما قال الشيخ (فرّق بين النوعين) ودلت الواو على تغاير ذات الإله عن ذات الولد باعتبار اعتقاد المشركين وعلى تغاير صفة الإله عن صفة الولد وهذا هو الواقع في اعتقدهم، فإنهم إذا توجهوا للولد فإنهم إنما يتوجهون إلى الله كما يقول النصارى أب وابن وروح القدس إله واحد يجعلون الإله الواحد له ثلاثة أقانيم، أو كما يقول طائفة أخرى من النصارى إنه أب وابن فيجعلونه أقنومين فقط، فهذا توجه لشيء واحد باختلاف الأقانيم، وهذا داخل في الولادة حيث قال جل وعلا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) الشيء الثاني (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) فالآلهة في الواقع هذه مغايرة في الذات للولد ومغايرة في الصفات، لا يقال إن الولد متخذ إله؛ لأن قول العلماء "مغايرة في الذات" يصدق عليه اختلاف الجمع والمفرد والعام والخاص، فإذا عُطف عام على خاص فيعتبر عندهم تغاير في الذات.
مثل ما قال جل وعلا ?مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ?[البقرة:98]، فعطف جبريل وميكال على الملائكة وهذا تغاير في الذات، واضح؟ تغاير في ذوات؛ لأن الثاني بعض الأول فالعام إذا جاء بعده خاص يعتبر تغاير في الذوات.
?إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ?([52]) هذا تغاير في الصفات -لأني أشوف كثير منكم وأنا أتكلم يفكر في.... يعني ما فهم هذا-.
(37/307)
المقصود أن استدلال الشيخ في محله حجة واضحة حيث قال (ففرّق بين النوعين وجعل كلا منهما كفرا مستقلا وقال تعالى ?وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ?) بعني مع خلقه لهم جعلوا له شركاء الجن (?وَخَرَقُوا لَهُ? -وفي القراءة الأخرى ?وَخَرَقُوا لَهُ?- ?بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ?[الأنعام:100] ففرَّق بين كفرين) فجعل الشرك بالجن هذا نوع، وجعل خرق البنين والبنات له سبحانه نوع آخر، قال (ففرق بين كفرين والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ) إلى آخره.
المقصود من هذه الأدلة أن قول القائل: ما كفرت العرب ولا النصارى ولا اليهود إلى آخره إلا باعتقاد البنوة. فهذا الكلام باطل وهذه الشبهة مردودة على أصحابها بالأدلة التي ذكرت.
وتوسع الشيخ رحمه الله فقال (والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ -مع كونه رجلا صالحا- لم يجعلوه ابنا لله والذين كفروا بالجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضا العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في باب حكم المرتد أن المسلم إذا زعم أن لله ولدا فهو مرتد ويفرقون بين النوعين، وهذا في غاية الوضوح) الأمة مجمعة والفقهاء والأئمة مجمعون على أن الردة ليست مخصوصة باعتقاد الولد لله جل وعلا، فدلّ هذا على بطلان هذه الشبهة، وهذا استدلال واضح بين والحمد لله وهذا كما قال الشيخ في آخره (وهذا في غاية الوضوح).
نقف عند هذا، ونسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم إلى ما يحب ويرضى.
وأكرر في أن الانتفاع فيما نذكر يعظُم عندما تعرف كتاب التوحيد وشرحه، وخاصة ما ذكرناه من الأدلة وأوجه الاستدلال في شرحي على كتاب التوحيد؛ لأن فهم كشف الشبهات مبني على فهم كتاب التوحيد؛ لأنك إذا قلت إيراد: ما معنى العبادة؟ ما معنى عبادة الأصنام؟ الشفاعة؟ كل هذه تفصيلها هناك وليس تفصيلها في هذا الكتاب.
[الأسئلة]
(37/308)
... أنا نبهت في أول الأمر إلى أن هذه الشبهة التي جاءت اليوم هي تكرير لما سبق لكن باعتبار مختلف؛ لأن المُورِد لهذه الشبهة عنده ما ليس عند المورد للأولى، الشيخ قد يكرر لهذا.
... هذا الذي خلاّني أستطرد بعض الشيء، لما قلت المغايرة بين الذات والصفات شفت كثير من الإخوة حلقت عيونهم في السماء، الواو تقتضي في اللغة الجمع مطلق الجمع والمغايرة، وإذا قلنا مطلق الجمع فالمراد بلا ترتيب، بلا ترتيب في الزمان ولا في المكان ولا في الفضل، وتفيد أيضا المغايرة، والمغايرة تعني أنّ ما بعد الواو غير ما قبل الواو، وقد يكون ما بعد الواو يعني المعطوف والمعطوف عليه ما قبل الواو قد يكون هذا وهذا من الذوات.
فإذن الثاني غير الأول مثل ما مثّلتُ لكم دخل محمد وخالد، (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ) كل شيء مختلف عن الثاني هذا تغاير في الذوات واضح؟.
الثاني التغاير في الصفات.
ذكرت لك أن التغاير في الذوات لا يسقط بأن يكون الأول بعض الثاني ولا أن يكون الثاني بعض الأول؛ يعني إذا جاء عام بعد خاص معطوف بالواو، فيصدق عليه أنه تغاير ذوات؛ لأن الذات الثانية أعظم وأكثر من الذات الأولى في عطف العام على الخاص، أو الأولى أكثر ذواتا من الثانية.
فإذن تغاير في الذوات يعني هذا ليس هو هذا، من جهة الذات.
والثاني تغاير في الصفات، والتغاير في الصفات يكون في المعاني مثل ما ذكرت لكم (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الإيمان والعمل الصالح ليس ذاتا، وإنما هو معنى، أليس كذلك؟ الإيمان هل هو ذات تُرى؟ العمل الصالح ذات ترى؟ ليس عينا ولا ذاتا وإنما هو معنى، فإذن العطف بالواو بين المعاني يدل على تغاير الصفات، فيكون الأول غير الثاني من جهة الصفة، ولهذا نقول إنه إذا قيل (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) على تعريف أهل السنة للإيمان ودخول العمل في مسماه هذا يفهم من وجهين:
(37/309)
الأول: أن العمل خاص بعد عام، فالإيمان عام والعمل خاص فحصل تغاير في الصفة من جهة الشمول.
والثاني: أن الإيمان إذا قرن به العمل الصالح فيعنى بالإيمان التصديق الجازم بالأشياء والعمل الصالح هو العمل، فهذا يغاير ذاك في الحيثية.
والثاني اختيار شيخ الإسلام بن تيمية (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدَّا?[مريم:96]، يعني بالإيمان الأصل اللغوي ومعناه وهو أيضا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخره؛ يعني ما هو قسيم للإسلام، الإسلام العمل الظاهر الإيمان الاعتقاد الباطن (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) تغاير في الصفة، إذْ الأول يدل على العمل الباطن والثاني يدل على العمل الظاهر مثل قوله جل وعلا ?تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ?[الحجر:1].
بعض المعاصرين الجهلة قال: هذا يدل على أن القرآن غير الكتاب؛ لأن الواو تقتضي المغايرة فالقرآن شيء والكتاب شيء، والقرآن هو ما لا يقبل التغيير أما الكتاب فيقبل التغيير في مؤلف ألفه باطل معروف، هذا ناتج من الجهل باللغة.
فقوله (تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)، (تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٌ مُبِينُ) في سورتين هذا يدل -العطف بالواو- على تغاير صفة الكتاب عن صفة القرآن، لا على تغاير القرآن عن الكتاب، والصفة التي حصل فيها التغاير أن القرآن فيه صفة القراءة، والكتاب فيه صفة الكتابة.
فإذن هذا دليل على أنه مكتوب وأنه سيُقرأ حيث كان مكتوبا.
وهذا البحث يُبحث في الأصول وأيضا في النحو وفي كتب حروف المعاني وبحث معروف ومهم؛ لأن فهم الاستدلال مبني عليه.
س/ الآية في قوله جل وعلا ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91] ما وجه المغايرة في الصفات؟ يسأل الأخ.
(37/310)
ج/ الجواب: أن الإلهية غير صفة اتخاذ الولد وما كان معه من إله فالاتخاذ اتخاذ الولد شيء غير كون إله معه، فاتخاذ الولد من الله كما يقول أولئك اتخذ الله عيسى ولدا، أو اتخذ الله العزير ولدا.
فإذن جعلوا عيسى ولدا ليس بدعواهم ولكن باتخاذ الله له، وأما وجود الإله (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) فهذا وجود للإله الحق مع الله جل وعلا فمن هذه الجهة كان غير متخذ، فالأولى فيها الاتخاذ والثانية فيها وجود الإله، فهذا كفر وهذا كفر.
نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد وصلى الله وسلم على نبينا محمد
??¹™™
[المتن]
[وإن قال: ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62]، فقل: هذا هو الحق لكن لا يعبدون ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه وإلا فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهلُ البدع والضلال، ودين الله وسط بين الطرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.]([53])
فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا هذا "كبيرُ الاعتقاد" هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عليه، فاعلم أنَّ شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:
(37/311)
أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشّدَّة فيخلصون لله الدين كما قال تعالى ?وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا?[الإسراء:67]، وقوله ?قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ?[الأنعام:40-41]، وقوله ?وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ?[الزمر:8]، وقوله ?وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ?[لقمان:32].
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم، تبيّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟! والله المستعان.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
(37/312)
فأسأل الله جل وعلا لي ولك العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، وأن يجعلنا ممن إذا علموا عملوا، وإذا عملوا سألوا الله جل وعلا الثبات والرشد والسداد، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فلا حول لنا إلا بك.
ذكر الإمام رحمه الله تعالى مسألة جديدة يوردها المشركون ويُلَقَّنُها من يلقنها من عوام المشركين ومن المتعلمين عندهم، وهذه المسألة هي مسألة كرامات الأولياء، فإن عبَّاد الأموات وعبَّاد غير الله جل وعلا في الأعصر المتأخرة يروِّجون كرامات الأولياء ليدلُّوا الناس بذلك على أن هذا الولي الذي صار له من الكرامات كذا وكذا أنه يستحق أن يُدعى وأن يستشفع به وأن يستنصر به وأن يستعاذ به وأن يتوكل عليه إلى آخر أنواع العبادة، فجعلوا حصول الكرامات ورؤية من رأى هذه الكرامات والإقرار بذلك، وأنَّ أهل السنة يقرون بكرامات الأولياء، جعلوا ذلك سُلَّما لدعوة الناس لعبادة غير الله جل وعلا، وهذه حجة كثير ما يرددها الخرافيون، فينبغي لأهل التوحيد وللدعاة إليه أن يقفوا عند هذه الشبهة كثيرا، وهذا الوقوف بيّنه الشيخ رحمه الله تعالى أتم بيان.
(37/313)
فقال (وإن قال ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62] فقل هذا هو الحق ولكن لا يُعبدون)؛ يعني أن قوله تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) رُتِّبَ آخره على أوله فجُعل الأولياء لهم كرامة، وهذه الكرامة هي أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فالولي ولي الله جل وعلا الذي حقق الوَلاية بالإيمان التقوى لا خوف عليه ولا يحزن، وهذا ظاهر الآية ودلَّ ذلك على أن هؤلاء لهم منزلة خاصة عند أهل الإيمان؛ بل عند الله جل وعلا وهذه المنزلة إنما هي لأجل إيمانهم ولأجل تقواهم، ولهذا قال بعدها في وصف الأولياء ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ?[يونس:63-64]، ففي الآية التي ساقها الشيخ ذِكر الأولياء وذِكر أنهم لا خوف ولا هم يحزنون، وهذه يحتج بها كل من يعبد غير الله جل وعلا، ويحتجون بها على أن الوَلي له ما ليس لغيره، فماذا يصنع الموحد لجواب هذه الشبهة؟ قد ينساق إلى أن يقول إنَّ هذا الذي تقول إنه ولي ليس بولي أصلا، وهذا يجعل الموحِّد في زاوية ضيقة ويحرج نفسه كثيرا لأنه يخرج عن ميدان الحجة إلى ميدانٍ الحجة فيه متوهمة.
فميدان الحجة أن الولي يَعبد ولا يُعبد، وهو من جهة غيرته يخطئ فيقول: هذا أصلا ليس بولي.
فمثلا لو ناقش أحدا عن عبادة البدوي وما يحصل عند قبره من الاستغاثة بغير الله ومن النذور للبدوي ومن الاستعانة به ومن طلب كشفه للضر وأشباه ذلك، لو جاء وناقش من يقول هذا ولي والله جل وعلا يقول (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد يبتدئ بعض أهل التوحيد فيقول: من قال لك أن هذا ولي؟
(37/314)
فتنصرف الحجة إلى مسألة يصعب معها الإثبات أو النفي، فيكون ذاك يستدل بما يورده أصحاب الكرامات أنه كان له كذا وكذا، ونذهب عن أصل المسألة وهي أنه لا يُعبد سواء كان وليا أو غير ولي إلى هل هو ولي أم لا؟
وبعض الموحدين في بعض الأقطار الإسلامية يسلكون هذه الطريقة، وهي غلط وليست على طريقة أهل العلم وأئمة الدعوة رحمهم الله، وليس كذلك أيضا ما جاء في القرآن لتقرير التوحيد ومناقشة المشركين في آلهتهم، فإن الذي في القرآن أنَّ ألآلهة التي عُبدت أنها لا تستحق العبادة قال جل وعلا ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20] إلى آخره، بيَّن أنه لا تستحق العبادة، وكذلك فيما هو غير ذلك من عبادة من يُعبد، بين أنه لا يستحق العبادة، أما الكلام في ذاته وأحواله فهذا ليس من الدعوة الحقة؛ بل يترك هذا لأن الغرض هو تقرير التوحيد.
(37/315)
فإذا قال لك هذا ولي من أولياء الله. فلو كان عندك ليس بولي بل نقل عنه العلماء ونقلت عنه التراجم أنه كان ينرك الصلاة أنه كان يقول كلمات كفرية أو لم يكن صالحا أو كان كافرا أو إلى آخره، فلا تذهب إلى هذا؛ لأن مصير هذا الرجل عند الله جل وعلا، ولكن إذهب إلى الحق المطلق وهو أن الولي يَعبد ولا يُعبد، وأن الكرامات التي أعطيها الولي له وليست لغيره، وهذا هو الذي بينه الإمام رحمه الله تعالى هنا فقال (فقل هذا هو الحق)؛ يعني أن الأولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (ولكن لا يُعبدون)؛ يعني أن الأولياء في الآية أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لم يذكر أنهم يعبدون؛ بل في آيات أخر بين أن من اتخذ وليا من دون الله فقد ضلّ وخسر خسرانا مبينا كما قال جل وعلا ?قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ?[الرعد:16]، وكقوله جل وعلا ?وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا?[النساء:119]، يعني أنّ المردّ ليس إلى كونه وليا أو غير ولي، المردّ أن العبادة لله جل وعلا، قال سبحانه (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) فهذه الآية قد تنفع أهل التوحيد في الاحتجاج على أهل الشرك في أن الله جل وعلا ذكر أن الأولياء لا يتخذون من دونه، (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) يعني فيكون من دونه يعني من دونه في العبادة أولياء فجعلتهم الأولياء معبودين، وهذا وإن كان ليس هو من تفسيرها الصحيح؛ ولكنها حجة في رد الاحتجاج بلفظ الأولياء على العبادة، وإلا فمن المعلوم أن قوله تعالى (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) لا يقصد به فلان الولي إنما يقصد به الوَلاية يعني النصرة والمودة وأشباه ذلك؛ لكن هذه الآية وأشباهها في
(37/316)
القرآن يُحتج بها على إبطال التعلق بلفظ الأولياء، والشيخ رحمه الله هنا قال (فقل هذا هو الحق؛ ولكن لا يُعبدون) لأن الآية دلت على أن هؤلاء الأولياء لهم الكرامة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكن ليس في الآية أنهم يُعبدون ولا أنهم يستغاث بهم ولا أنهم يُدعون من دون الله جل وعلا.
قال بعد ذلك (ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه جل وعلا) يعني أننا لم نتكلم معك بأن هذا ليس بولي وليس بصالح وليس له كرامات؛ بل له كرامات وهو ولي وهو كذا وكذا؛ لكن ليس معبودا مع الله جل وعلا، ونحن لم نناقشك في شأنه؛ بل شأنه وكرامته حصلت له والأمر غيبي فهو عند الله جل وعلا ولا يُدرى بماذا خُتِم له؛ لكن إن كان مات على الولاية فهو عند الله جل وعلا له مقام الأولياء، ونحن لم نتكلم معك في شأن ولايته هل هو ولي أو ليس بولي، إنما الكلام في أنه هل يستحق أن يُعبد هل هو يشرك به مع الله في هذه الأفعال أم لا؟ فهذا يجعل الموحد مُنصفا ويجعله صاحب برهان جيد وواضح ويجعله أيضا حاذقا بأن لا يجرُّه الخصم إلى ميدان معركة يصرفه فيها عن الحق.
مثل مرة أتاني بعض الإخوة وقال: هناك رجل من بعض البلاد الأفريقية يريد أن يبحث بعض الأمور وأنا ذكرت له أن يأتيك، جاءني وذكرت له بعض المسائل في التوحيد وتعريف التوحيد والعبادة وكلام أهل العلم في الشرك إلى آخره بكلام مطوّل. فقال: الذي كرَّه الذين يدعون إلى التوحيد في بلادنا -كره الناس فيهم- هو أنهم ينشرون في الناس أن هؤلاء الذين يتعلَّقون بهم أنهم ليسوا بصالحين وليسوا بأولياء؛ بل هؤلاء الأموات منهم المشرك ومنهم الكافر ومنهم الذي كان يفعل كذا ويفعل كذا ويفعل الموبقات، فينشرون أشياء عنهم لا يمكن أن نقبل حمية لهم ولهؤلاء الأولياء لا يمكن أن يتكلم أحد فيهم، فأخذتنا الحمية لهم عن سماع ما عند هؤلاء من الكلام في التوحيد.
(37/317)
وهذه في الحقيقة أفادت كثيرا مع أنها واضحة في كشف الشبهات؛ لكن أفادت من حيث التطبيق فإن الذي ينبغي على طالب العلم أن يكون صبورا في دعوته، وأن لا يستجره الخصوم إلى ميدان ليس هو ميدان الدعوة؛ بل يركِّز على الأصل الذي دعا الناس إليه، وأما الكلام على فلان وهل هذا كان وليا أو ليس بولي صالح أو ليس بصالح ليس الكلام في هذا.
أولياء الله جل وعلا عندنا لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولهم الكرامات؛ لكن الكلام في أنه هل يجعل الولي معبودا مع الله؟ هل يستغاث بالولي؟ هل يذبح للولي؟ وإلا فلا شك أن الولي له المقام عند الله جل وعلا إذا خُتم له بخير.
وهذا يجعل الموحد يحتج بحجة واضحة ولا ينساق بعاطفته إلى إثبات شيء أو إبطاله لا صلة له بمحض الحق أو ربما يكون هذا متأخرا من حيث الاحتجاج.
قال (فقل هذا هو الحق ولكن لا يعبدون ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه) وهنا من قال كيف أُشرك بهم هل عبدوا لم يعبدوا؟ ترجع إلى المسائل التي مرت في الدرس الماضي بتفصيلاتها.
قال (وإلاّ فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم) الواجب علينا جميعا حب أولياء الله جل وعلا إجمالا وتفصيلا فيمن علمنا أنه من أهل الإيمان والتقوى واتباعهم على ما هم عليه من العمل؛ ولأنهم لم يكونوا أولياء إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام، ولهذا نتبعهم فيما به صاروا أولياء، فنحب نبينا عليه الصلاة والسلام ونتبع سنته ونحكِّم ما جاء فيها على مرادات القلب وعلى الظاهر وعلى المقامات وعلى الأحوال التي تعرض، والإقرار بكراماتهم يعني الواجب أن نقر بكرامات الأولياء؛ لأنه لا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال.
وذكرنا لك في الكلام على الواسطية معنى كرامات الأولياء، ومن هو الولي، وما شروط الولاية، ومذهب أهل السنة في كرامات الأولياء، والمذاهب في ذلك، فيراجع في ذلك الموضع.
(37/318)
فقول الشيخ رحمه الله (ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال) يعني بهم الخوارج والمعتزلة فإنه الذين ينكرون كرامات الأولياء كما سبق.
قال (ودين الله وسط بين الطرفين) هذا بعامة دين الله وسط بين الغالي والجافي، الإسلام وسط ما بين غلو النصارى وما بين جفاء اليهود، وأهل السنة وسط ما بين الفرق بين الخوارج والمرجئة وما بين المجسمة والمعطلة وما بين الطوائف المختلفة في هذا الباب في الإيمان وفي أسماء الله جل وعلا وصفاته، وفي الأسماء والأحكام وفي الصحابة وفي أمهات المؤمنين وفي الفتن إلى آخره، وأهل السنة أيضا وسط؛ لأن دين الله جل وعلا وسط، قال (وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين).
أشار بذلك إلى أن مسألة الأولياء منهم من غلا فيها فجعل الولي ينازع الله في الألوهية أو له نصيب من الألوهية كقول غلاة الصوفية والباطنية وطوائف جعلوا الولي له شيء من خصائص الألوهية بل جعلوا الولي يفوض إليه شيء من الربوبية والعياذ بالله فهذا في الجهة الغالية.
والجهة الجافية كالخوارج والمعتزلة الذين أنكروا كرامات الأولياء، وذكرنا لكم أنهم أنكروا كرامات الأولياء حتى لا تشتبه حجج الأنبياء والآيات والبراهين والمعجزات التي يعطيها الأنبياء بكرامات الأولياء فنحن أعني أهل السنة يقرون بأن الأولياء لهم كرامات، وأنهم مكرمون عند الله وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة كما أخبر الله جل وعلا بذلك عنهم؛ لكن لا نغلوا في ذلك ونجعل لهم صفات ليست في البشر ولا نجفوا عنهم وننكر كراماتهم؛ بل نحن وسط بين الجافين والغالين، فهم يَعبدون ولا يُعبدون ويُرزقون ولا يَرزقون، ويدعونه جل وعلا رغبا ورهبا وكانوا له جل وعلا خاشعين، ويدعون الناس إلى محبته جل وعلا وإلى توحيده وإلى نصرته.
(37/319)
كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفسه أنّ أصحابه وقعوا مرة في دمشق ومرة في خارجها في شدة فظهر لهم الشيطان في صورة شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: أتَحتاجون شيئا فأنصركم؟ فمنهم من طلب منه فلما ذكروا ذلك لشيخ الإسلام، ظن بعضهم أنه في دمشق أنه جاءهم فقال لا أنا لم أبرح مكاني وهذا الشيطان عرض لكم ليوقعكم في الشرك.
وإذا تأملت في سيرة الأولياء الصالحين من الصحابة فمن بعدهم ومن أهل البيت وجدتهم جميعا ينكرون الشرك بالله جل وعلا، ويأمرون أتباعهم بالإخلاص -إخلاص الدين لله- واتباع السنة وعدم مخالفة الكتاب والسنة والرغب فيما عند الله وحده وألا يُعَظَّم البشر كتعظيم الله جل وعلا التعظيم الذي لا يجوز إلا له إلى آخر ذلك.
فمن جمع كلام الأولياء في التوحيد وجاء أنهم أقاموا الحجة على من اقتدى بهم أو من اتبعهم، ومعلوم أن الفِرَق الصوفية والطرق المختلفة بَنَتْ كلُّ طريقة على أقوال شيخ لها اعتقدوه وليا فأخذوا كلامه.
فيناسب الموحِّد في البلد الذي يكون فيها طائفة من الطوائف الصوفية أو الطريقة أن يجمع كلمات هذا في مؤلَّف وينشرها بينهم لتكون حجة بين من أخذ بطريقة هذا الشيخ.
فمثلا في البلاد التي فيها عبد القادر الجيلاني عبد القادر له كتب قيمة الغنية وغيرها والفتوحات كتب فيها التوحيد وفيها الأمر بعبادة الله وحده، فلو استخرجت لكان فيها حجة على أقوامهم.
(37/320)
شيخ الإسلام ابن تيمية هو الذي لفت النظر إلى هذه الطريقة حيث كتب الرسالة السنية المعروفة المسماة بالوصية الكبرى لأتباع عدي بن مسافر، وعدي بن مسافر يغلو أصحابه فيه وطائفته يقال لهم العدوية في الشام، وكذلك نقل عن أحمد الرفاعي كلمات في الأمر بالسنة والنهي عن البدع والنهي عن الشرك، فيَحسن أن تكون طريقة الداعية في البلد أن يجمع كلام هؤلاء الأولياء -إذا كانوا بحق أولياء- ويقول للناس هذا كلام الأولياء في التوحيد، فهذا فيه حجة في هذه المسألة ويعطي الحقيقة المخالف أننا نحب أولياء الله بعامة، وأننا نتولاهم ولا ترد كلّ ما يقولون، وإنما نرد ما خالفوا فيه الحق فقط.
قال (فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد والشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه) قوله (الذي يسميه المشركون في زماننا هذا الاعتقاد) أو (الاعتقاد الكبير) أو (كبير الاعتقاد) يعني اعتقاد الناس في الأولياء وما لهم من الكرامات، لأنّ الاعتقاد قسمان عند الضلال عند الخرافيين:
الاعتقاد العام وهو الاعتقاد في الله جل وعلا العقيدة المعروفة كل على حسب مذهبه، الأشعري على أشعريته، والماتريدي على ماتريديته، بحسب البلد الذي هو فيه.
وهناك شيء يتّفقون عليه وهو الاعتقاد الكبير أو كبير الاعتقاد وهو الاعتقاد في الموتى وفي تصرّف أرواحهم، وأن أرواحهم لها من التصرف والجولان في الملكوت ما يمكنها أن تسمع نداء من يناديها، أو أن تجيب طلب من يطلب منها وأنّ لها التصرف في الكون وأنها تطلب من الله وأن الله جل وعلا لا يردّ لها طلبا إلى آخره، ويُدخلون هذا في الحديث عن الأولياء؛ بل يجعلون كرامات الأولياء منشأ هذا الاعتقاد، فيذكرون الكرامات ثم يبعثون هذا الاعتقاد.
وكان هذا موجود في نجد وهناك كتب أو رسائل مؤلفة في هذا في ذلك الزمان.
(37/321)
قال (فإذا عرفت هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد أو كبير الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين).
الأول: التفريق ما بين حال المشركين في هذا الزمان وفي زمان العرب الأول؛ لأن أولئك لا يُشركون إلا في السّراء، وأما إذا جاءت الشدة والكرب يعلمون أنه لا منجِيَ إلا الله، ويخافون أن يفوت الوقت عليهم باتخاذ الواسطة، فيقولون هذا متى يصل إليك ومتى يرفع وهل سيرفع الآن أم لا يرفع الآن([54]) حاجاتهم فيجعلون التشفع في وقت السعة والإخلاص في وقت الضيق كما أخبر الله جل وعلا عنهم بقوله ?[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]([55]) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ?[لقمان.32]، آية لقمان، والآية الأخرى في العنكبوت ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65]، وقال جل وعلا أيضا في الآيات التي ساقها الشيخ (?وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا?[الإسراء:67]) وهذه المسألة مُبَيَّنة على التفصيل في شرحنا للقواعد الأربع هذه هي القاعدة الرابعة الأخيرة في القواعد الأربع.
(37/322)
أهل هذا الزمان من المشركين عندهم أن الإشراك يكون في السراء والضراء على السواء؛ بل ربما عظم الرغب في وقت في وقت الضُّر فكانوا مثلا يعتقدون حتى في الكتب، مثل ما ذُكر مثلا في بعض التراجم أن أهلا بلد سموها كانوا لا يرحلون في البحر إلا وقد وضعوا نسخة من كتاب الشفاء للقاضي عياض المغربي المعروف في السفينة فهو إذن ليس اعتقادا في شخص ولكن هو في كتاب لما اشتمل عليه الكتاب من حقوق النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهذه تراجع في شرح القواعد الأربع.
(37/323)
قال في آخرها (ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهْمًا راسخًا؟! والله المستعان.) صحيح فإن كثيرين ممن عارضوا الدعوة استغربوا من الشيخ أن يقول شرك هؤلاء أعظم من شرك الأولين، قالوا: ما اكتفيت أن جعلتنا مساووين لأهل الجاهلية في الشرك حتى تجعل شرك أهل الإسلام أعظم من شرك أهل الجاهلية، فقال (أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهما راسخا)، وفي قول الشيخ (أين من يفهم قلبُه) فيه إشارة للمذهب الحق وهو أن الفهم والإدراك وأشباه ذلك مردُّها إلى القلب، وليس إذا الذهن أو المخ أو العقل أو أشباه ذلك ولكن العقل إدراكه من جهة القلب كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» والقلب ليس محط الإدراك لأنه مضغة؛ ولكن لأنه المكان الذي فيه أصل انتشار الروح في البدن تعلق الروح بالبدن، ومعلوم أن الإدراكات تبع للروح، فالروح هي المدركة ووسيلة الإدراك الآلات التي في البدن، فكما أن اليد وسيلة تناول الشيء والمحرك الروح، وكذلك المحرك الروح للسان والكلام الطيب أو بالكلام الخبيث المحرك الروح في التصرفات، والبدن أعضاؤه هذه وسائل لتنفيذ ما قام في النفس، لهذا المدرك في الحقيقة ليس هو البدن إنما المدرك الروح، والبدن وسيلة، البدن آلات، العينان آلة، واللسان آلة، والشم آلة، والمخ والدماغ آلة، والقلب آلة إلى آخره آلة لتحصيل المعارف للروح فهذه المسألة طويلة معروفة، قال الشيخ رحمه الله هنا (ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟!)، لاشك أن من فهم هذه المسألة فهما راسخا علِم أن هذا الذي قاله الشيخ حق وأن شرك هذا الزمان أعظم من شرك الأولين لمن أين من يفهمه.
?????
[المتن]
(37/324)
والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أُناسًا مقرّبين عند الله: إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا وأحجارًا مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصّالح والذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يُشاهد فسقه وفساده ويشهد به.
[الشرح]
هذه المسألة لأهل التوحيد، وليست للجواب على أهل الشبهات؛ بل هذه ليفهمها أهل التوحيد فهما راسخا، وهي أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقرّبين عند الله، أو يدعون أشياء مطيعة لله جل وعلا، إما يدعون أنبياء مثل ما كان يدعى موسى ويدعى عيسى وتدعى أنبياء بني إسرائيل ويدعى إبراهيم عليه السلام أو أولياء من الصالحين كاللات وكغيره وإما ملائكة، ويدعون أشجارا أو أحجارا مطيعة لله ليست بعاصية، يدعون أشياء مسبحة لله مطيعة لن تخرج عن توحيده وطاعته، وأما أهل الزمان هذا فيدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، فمثلا قوله (من أفسق) الناس، قد يكون من جهة أنه قد عرف في حياته الفسق والفجور بدعواه أنه سقطت عنه التكاليف، أو بكونه كان مجنونا وكان يفعل الأشياء لجنونه يفعل أشياء من الفسق والمنكرات والكبائر لجنونه، أو لكونه محادا معاندا فاسقا فاجرا أو كافرا في نفس الأمر، هذا نوع.
(37/325)
والنوع الثاني قد يدعون أشياء في محلاَّت يكون الدعاء منصبّ على نصراني، أو يكون الدعاء منصب على حيوان، أو يكون الدعاء منصب على يهودي أو نحو ذلك، وهذه المسائل تختلف باختلاف التحقيق فيها؛ يعني أن يقال هذا الذي يدعى ليس بصالح؛ بل هو نقل عنه أنه قال لأتباعه كذا وكذا، ذكر عن نفسه أنه سقطت عنه التكاليف، كان يعاشر المردان أو النساء فيفعل كذا وكذا من الفواحش، كان يشرب الخمر، كان لا يصلي كان يسرق كان يحتال إلى آخر ذلك، وهؤلاء لاشك أنهم ليسوا بأولياء وليسوا بصالحين؛ بل هم فسقة فجار وقد يكونون كفارا.
صنف من هؤلاء يدعى ويسأل، وهذا عند التحقيق إذا جمعت الكلام وجدت هذا الكلام صحيحا.
المعاندون أو الخرافيون ينقسمون تجاه هذا الكلام إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من يقول هذا الذي تقولونه عنه ليس بصحيح أصلا، الذي ينقل عن عبد الوهاب الشعراني أنه قال كذا وكذا وكذا، يقولون هذا مدسوس على كتبه ليس من كتبه أصلا.
والصنف الثاني من المتأولين من يقول هذا الكلام لأهله فيه تأويل فإن اصطلاحات الصوفية تختلف عن اصطلاحات غيرهم فقد يقولون العبارات التي فيها كفر وليسوا يعنون ظاهرها، إنما يعنون معاني باطنة أخرى يفهمها القوم، مثل ما نقل عن ابن عربي أنه كذا وكذا أراد مقاصد طيبة؛ ولكن فهم كلامه على ظاهره، وهو لم يرد الظاهر ومثل ما ينقل عن التلمساني وابن سبعين وأشباه هؤلاء.
والطائفة الثالثة من تقول هؤلاء سقطت عنهم التكاليف أصلا، والتكليف يُراد منه أن يصفو الباطن ويَفْنَى عن شهود سواه ويفنى عن شهود غير الله جل وعلا، فإذا وصل إلى هذه المرتبة فلم ير إلا الله جل وعلا ولم يتجه إلا إلى الله جل وعلا فإن التكاليف والصلاة وتحريم الفواحش إنما هي لإصلاح نفسه، ونفسه قد بلغت المرتبة العليا فليس لإصلاحها مجال، وهذا قول الغلاة منهم، فيقول لا بأس لو فعل هذه الأفعال هو أصلا وصل وسقطت عنه التكاليف.
(37/326)
وهؤلاء الطوائف الثلاثة موجود حتى في المؤلفات من يتجه إلى فئة من هذه الفئات الثلاث.
هناك من المدفونين من الموتى من يتجه إليه على أن المدفون فلان الولي ويكون المدفون غيره، مثل ما ذكر شيخ الإسلام عن قبر الحسين بن علي رضي الله عنه في القاهرة، فقد حقق والعلماء كذلك حققوا والمؤرخون أنه لم يصل القاهرة، وإنما سيق من العراق إلى دمشق إلى يزيد بن معاوية رحمه الله تعالى ودفن هناك، والآن تجد قبر للحسين في العراق ومشهد عظيم، وفي الشام، وفي القاهرة. قال إن المدفون في القاهرة رجل يهودي في المكان هذا، وقالت طائفة المدفون حيوان أصلا في هذا المكان.
فإذن هم اعتقدوا في شيء؛ اعتقدوا في يهود، اعتقدوا في حيوانات، وهذا الصنف لم يكن يحوم حوله ذهن أهل الجاهلية أصلا ولهذا صار هؤلاء أعظم وأقبح.
هناك عمود كان في دمشق يُذهب إليه بالحيوانات، أو لأنواع من الحيوانات مثل البقر أو الجاموس أو الأغنام أو الإبل أو أشباه ذلك التي لم تلد؛ يعني طالت ولادتها أو صار فيها مرض أو أشباه ذلك فيطوقونها على هذا العمود فتلقي ما في بطنها فورا، فيظنون أن هذا من بركة ما تحت العمود، ويقولون هذا العمود كان يتعبد عنده رجل صالح، وشيخ الإسلام رحمه الله بيّن قال: هذا العمود دفن تحته رجل نصراني وساق الأدلة على ذلك، والحيوانات تسمع تعذيب النصراني في قبره، فلذلك إذا سمعت العذاب لن تتحمل فتسقط ما في بطنها؛ لأنه قد جاء في الحديث أنه إذا تولى عنه أهله طرق بمطرقة يسمعها من يليه إلا الثقلان، فالجن والإنس لا يسمعون العذاب لأنهم مكلفون لو سمعوا لهلكوا ولرعبوا ولما استقامت لهم الحياة أم الحيوانات فربما وصلها من ذلك شيء وربما سمعت، فكان تعلقهم ليس بولي وليس بنبي، وإنما بمكان تحته رجل نصراني وأشباه ذلك.
(37/327)
وهذه الأشياء لم يكن عليها شرك الأولين فالأولون لم يجعلوا يعني ما اتخذوا لعمرو بن لحي المشرك -الذي هو أول من سيب السوائب وساق الآلهة- ما اتخذوا له قبرا يعبدونه إلى آخر أصناف علمائهم المشركين لكن أهل الأزمنة المتأخرة اعتقدوا في أنواع من الناس من فسقة هذه الأمة أو ممن ارتد أو من النصارى أو من اليهود.
لهذا قال الشيخ رحمه الله تعالى هنا (والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور) -وفي النسخة التي عندي (هم الذين يُحِلُّون لهم الفجور) - (يحكون عنهم الفجور) هذا الذي أعرفه (يحكون عنهم الفجور من الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك) والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب أو الحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده، لاشك يراه يزني ويعتقد أنه ولي من أولياء الله، يراه لا يصلي ويعتقد أنه من أولياء الله هذا لاشك أنه ضلال ما وراءه ضلال، ويسأله ويدعوه ويراه أنه يستشفع به لاشك أن هذا أعظم وأبشع مما يذكر عن أهل الجاهلية.
نقف عند هذا لأن التي بعدها يدخل فيها شبهة جديدة.
والمطلوب من كل طالب علم بعد معرفته لدلائل التوحيد والحجج أن يُمَرِّنَ نفسه على جواب الشبه بعد إحكام الأصل، الإخوة الذين لم يحكموا كتاب التوحيد ولم يحكموا ثلاثة الأصول ودخلوا في كشف الشبهات مباشرة أو ما ضبطوا تلك الكتب، فلا يَحسن أن يجيبوا عن الشبه إلا بعد أن يحكموا الأصول؛ لأن هذه فرع عن تلك، من أحكم تلك يدرب نفسه على جواب هذه الشبه على طريقة الشيخ رحمه الله، يتأنى ويكون حليما يعرف موقع الاحتجاج، يعرف كيف يجرّ المخالف إلى الحجة الصحيحة، يعرف كيف يخلي القلب قلب -قلب المخالف-؛ من الحجة ثم يبتدئ يعطيه الحق إلى آخر ذلك فتحتاج إلى دُربة والملاحظ أن كثيرين يرغبون ورغبهم محمود لله جل وعلا ولكن يكون جوابهم للشبهات ليس على أصوله فيوقعون المجادل في شبهة جديدة؛ بل قد يقتنع أن ما عليه حق؛ لأن هذا ما استطاع أن يجيب بجواب جيد.
(37/328)
فالواجب على طالب العلم أن يكون متأنيا في جواب الشبهات، حاذقا، يعرف كيف يسوق المجادل أو يسوق الخصم إلى ميدان الحجة دون أن يلزمه شيء وفي كشف الشبهات......
.... أهل لشرك فيقيده حتى نجمعه في الآخر يكون كالمقدمة و الخاتمة لهذا الكتاب، ذكرنا أنا أذكر ذكرنا أربع أو خمس فيما مضى، وهذه الآن واحدة جديدة لعل أحدكم تنهض همته فيجمع هذه الأصول الهامة في كيفية المناقشة يعني كيف يجمع الموحد نفسيته ليواجه الخصوم.
نكتفي بهذا القدر فيه بعض الأسئلة؟
[الأسئلة]
س1/ ذكرت في الدرس السابق في تفسير قوله تعالى ?قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ?[الزخرف:81]، بأن العبادة تكون للولد إرضاء لله تعالى، فبهذا التفسير يكون حجة للنصارى؟
ج/ هذا ظاهر الآية يحتجون أو لا يحتجون هذا ظاهر الآية، (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ) يعني لو كان للرحمن ولد فأنا سأعبده إرضاء له لأنه هو الذي أمرنا بعبادته، وهذا هو تفسير الجمهور.
والتفسير الثاني للآية أن معنى (العَابِدِينَ) الرافضين فإن كان للرحمن ولد فأنا أول من يرفض هذه العبادة، وهذا التفسير ساقه ابن جرير وابن كثير عن طائفة من المفسرين؛ لكن قالوا هذا الوجه ضعيف لأن هذه اللغة لا يحمل عليها الكلام وإن كانت موجودة في لغة العرب؛ لكن لا يحمل بمخالفتها لتفسير جمهور الصحابة فمن بعدهم.
بالعكس فقد يكون هذا حجة على النصارى (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ) هل له ولد؟ لا، القرآن كله فيه نفي أن يكون لله سبحانه وتعالى ولد ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91].
(37/329)
...?قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(40)بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ?[الأنعام:40-40]، صححوها (قُلْ أَرَأَيْتَكُم) طيب الآية الثانية يصححها الأخ جزاه الله خيرا ?قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ?[الرعد:16].
س2/ ذُكر في الأربعين النووية أن العقل في القلب، وقد أشكلت عليّ، ما هي ولو باختصار؟
ج/ العقل إدراك ليس جرما، العقل إدراك، عَقَل الشيء أي أحاط به فأدركه، هذا العقل من الذي يعقل؟ الذي يعقل إيش البدن أو الروح؟ الذي يعقل الروح والبدن وسيلة، وسيلة لتحصيل معارف الروح مثل ما ذكرنا، الروح منتشرة في البدن، أصلها مركزها -هي منتشرة-؛ لكن مركزها والله أعلم بكيفية ذلك مركز الادراكات في الموقع الذي فيه القلب، ولهذا قال «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله» والأصوليون يبحثون هذا ويفيضون فيه هل العقل أم في القلب، والصحيح أنه في القلب ما هو موافق لظاهر الآيات هكذا.
س3/ كلهم يسألون نفس المسألة: هل يُفهم أن الروح في القلب؟
(37/330)
ج/ لا، الروح ليست في القلب، الروح على هيئة البدن ، الروح منتشرة مثل البدن بمعنى لو فصلت الروح على البدن فصارت نفس الصورة؛ لكنها صورة غير جثمانية؛ لأن الميت يُرى في المنام، يرى الرائي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» ومعلوم أن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام على صورته التي كان عليها رؤية لروحه؛ لأن بدنه مدفون عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء في السماء رأى موسى ورأى آدم ورأى عيسى، رأى إيش؟ رأى أرواحهم، لهذا صورة الإنسان الجثمانية في البدنية، وغير لجثمانية في الروح، الروح منتشرة لها أيضا موقع أصل مثل ما يكون القلب هو الأصل بالنسبة للبدن؛ يعني من حيث ضخ الدم وحركة البدن، كذلك من جهة الادراكات ومن جهة تعلقات الأشياء بالروح فموقعها في هذا الأصل.
هذا ظاهر ما دلت عليه النصوص ويجمع على هذا النحو، وليس هذا من الخوض في الروح المنهي عنه في قوله تعالى ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً?[الإسراء:85]؛ لأن البحث في الروح الذي يكون نتيجة للتفقه في الكتب والسنة هذا مطلوب؛ ولكن إذا كان عن ظن وعن عقل وتجارب وأشباه ذلك بلا برهان شرعي فهذا هو المذموم.
س4/ هل يكون المقصود من الكلام الثاني خاص لأهل التوحيد؟
ج/ نعم، أنا ذكرت أن الثاني أن منهم أنهم يعبدون ويدعون أو أن منهم من لا يصلي ومنهم من يأمر بالفسق ويُحكى عنه الزنى وشرب الخمر إلى آخره هذه لإيقان الموحد لكن لا تدخل معه في النقاش، تقول هذه الأشياء جادلك فيهم، وهيهات كيف تثبت، لا سبيل إلى الإثبات يعني لكل مجادل.
(37/331)
س5/ لو قام دعاة للتوحيد وقالوا لعباد القبور نحن نوافقكم أن هؤلاء أولياء، فإنه يكون هناك تناقض بين الدعاة الذين قالوا أنهم ليسوا بأولياء فيشك المدعوون في هذه الدعوة؟
ج/ الداعي لابد أن يكون حكيما قد يكون المناسب أن يسكت يكون ليس الكلام فيها، إذا كانوا أولياء ومقامهم عند الله تعلقها بالشرط إذا كان يرى مصلحة، وإذا كان هذا المدفون وليا من أولياء الله يقر بذلك، إذا قال الحسين بن علي قال نعم أهل البيت الذين لم يعرف عنهم شيء من الفسق إلى آخره فيقول نعم هم أولياء، لا مانع من هذا، ولو صار فيه تعارض بينه وبين غيره، والحق أحق أن يتبع.
س6/ سؤال لم أفهم المقصود منه لكن أقول:
كتب أهل العلم الراسخين أليس فيها بركة ويؤجر حاملها ويتوسل مقتنيها بطلبه لعلمها الشرعي؛ لأن ذلك مما يتقرب به إلى الله بذلك؟
ج/ الجواب نعم لا شك، كتب أهل لعلم الراسخين فيها بركة، ويؤجر حاملها بنية طلب العلم، ويتوسل مقتنيها بطلبه لعلمها الشرعي، هذا ما لها علاقة بوجود الكتاب في السفينة، أو وجود الكتاب في السيارة، فجعل الكتاب في السيارة توسلا به هذا من التبرك الباطل، حتى المصحف ما يجعل يتخذ تميمة على الصحيح مثل ما ذكرنا لا يجوز، فاتخاذ كتاب آخر تميمة يرجو نفعه ويرجو دفع الضر هذا من الشرك، نوع من أنواع اتخاذ التمائم، التوسل بطلب العلم بعملك أنت للكتاب هذا شرك.
س7/ أستشيرك في حضور هذا الدرس، وهو أني لم أسمع شرح كتاب التوحيد والقواعد الأربع، فهل أستمر؟
ج/ الذي ينبغي أن لا تستمر، فتنظر تحضر درس آخر أو دروس أخر ويكون فيها بداية لطالب العلم، بداية صحيحة.
س8/ ذُكر في كتاب نُزُل الأبرار أن الحامل إذا اشتد عليها الحمل يوضع على بطنها موطأ الإمام مالك فيخف بإذن الله وهو مجرب.
(37/332)
ج/ يمكن الشافعية يقولون تحط مسند الشافعي، هذا المالكية قالوا تحط موطأ الإمام مالك، والشافعية يقولوا تحط مسند الشافعي، هذا يقال مجرب ولا أثر لذلك، قد يتفق أنه حصل مرة حصل مرتين بإذن الله فوافق هذا؛ لكن لا يجوز الاعتقاد في الكتب هذا الاعتقاد أن فيها بركة وتتخذ تمائم.
س9/ الكلام على الشهداء مر علينا، يقول: الذين يطوفون حول أضرحة وقبور الشهداء ويقول الله يقول ?وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ?[آل عمران:169]؟
ج/ ذكرنا في أول شرح كشف الشبهات الجواب عن حال الشهداء بالتفصيل؛ لكن من أقوى الحجج اختصارا أن شهداء أحد الذين نزلت فيهم هذه الآية من آل عمران أجمع المسلمون في حياة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو بينهم وكذلك أجمع الصحابة في حضرة الخلفاء، وأجمع من بعدهم إلى انتهاء القرون المفضلة الثلاث، أجمعوا على أنهم لا يؤتى الشهداء في قبورهم ليسألوا، وإنما يأتي من مر عليها دون قصد أو شد رحل فيسلِّم عليهم السلام المعتاد، فهذا الإجماع قطعي والإجماع حجة وقد قال جل وعلا ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115].
س10/ هل يجوز أن نقول فلان من الناس ولي جازما وهو رجل معروف بالفضل؟
ج/ ترجو أن يكون وليا، وعموما هدي السلف ليس فيه أنه يقل هذا ولي وهذا ولي، يرجون أن يكون فلانا وليا، وتطالع هدي الصحابة والتراجم الصحابة والتابعين لا تجد هذه الأسماء هذا ولي وهذا ولي، إنما يذكرون فضله وصلاحه ليقتدي الناس به، أما منزلته فهي عند الله جل وعلا.
(37/333)
س11/ بعض الناس يشتبه يقول تقسيم التوحيد المعروف لدينا لم يكن على أصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر من أراد الإسلام بالشهادتين ولا يقسم التوحيد المعروف عند الناس؟
ج/ لو كان الناس كألئك ما احتجنا إلى تقسيم التوحيد، إنما لما فشى الجهل في الناس احتاج أن تقول له خرج محمد ومحمد فاعل، أما عند الصحابة تقول خرج محمد فعل وفاعل إيش هذا، يضحكون عليك إيش هذا؟ فحين وقع الناس في الجهل احتجنا إلى التفصيل، وإلا من المعلوم أن من قال أشهد أن لا إله إلا الله فهو مقر بأنواع التوحيد الثلاثة، تكفي لأنها متضمنة لتوحيد الربوبية مطابقة في توحيد الإلهية ومستلزمة لتوحيد الأسماء والصفات، أو تقول أيضا متضمنة لتوحيد الأسماء والصفات، فهذه ظاهرة من كلمة لا إله إلا الله.
فإذا فشى الجهل في لناس فلا بأس أن يفصل لهم من العلم ما هو ثابت في الكتاب والسنة بتقسيمات ليتّضح المراد
مثل: ما عند الصحابة شروط الصلاة كذا، أركان الصلاة كذا، وواجباتها كذا، كل هذه العلوم تقسيمات لأجل حاجة في الناس.
س12/ ما صحة الحديث الذي يحتج به على دعاء غير الله «إذا كنت في أرض فلاة فقل يا عباد الله احبسوا»؟
(37/334)
ج/ هذا الحديث رُوِي من أهل العلم من حسنه، وعلى القول بتحسينه فلا حرج يعني لا إشكال فيه؛ لأن قول الذي ضل الطريق يا عباد الله احبسوا يقصد به الملك الذي معه، لا يقصد به الجن أو يقصد به مخاطبة من لا يقدر أو ما أشبه ذلك، وهذا على القول بصحته وقد استعمله بعض العلماء، فدُلُّوا على الطريق ، فليس في الحديث مناداة الغائبين الذي يحتج به أهل الشرك، وإنما هو قول (يا عباد الله احبسوا) تتمة الحديث «فإن له جل وعلا عبدا حاضرا سيحبسه» والظاهر عند أهل العلم أن المراد بالعبد الحاضر هو الملك الذي يسدده لأن الإنسان معه الملائكة كم قال سبحانه ?لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ?[الرعد:11]، يعني يحفظونه بأمر الله.
س13/ ما معنى قول بعض السلف أن معنى (الصَّمَد) هو الذي لا جوف له. ما معنى ذلك وكيف نوفق بينه وبين المعاني الأخرى؟
ج/ الصمد فسرت بتفسيرات مثل ما ذكرنا لكم آنفا أو فيما سبق:
الصمد الذي يصمد إليه عند الحوائج وهذا أكثر التفاسير على هذا عند السلف.
والصمد أيضا في اللغة يقال فلان صمد إذا كملت خصال سؤدده وصفات فضله، كمال الصفات والخصال المحمودة يقال فلان صمد، يقال لسيد القبيلة التي كملت صفاته هذا صمد؛ يعني بلغ في الصفات البشرية عندهم الغاية؛ في الكرم كذا، وفي التواضع كذا وفي الحنكة كذا وفي الحكمة كذا وفي الرأي إلى آخره.
وفُسرت أيضا الصمد بأن الصمد هو الذي لا جوف له؛ يعني الإنسان والمخلوق لذي تراه هذه لها جوف ولها أحشاء ولها أشياء في داخلها فالصمد هو الذي لا جوف له هذا يخرج مشابهة المخلوقات، فلا يُظن أن اتصاف الله جل وعلا باليد أن ذلك عن طريق تجويف، أو اتصاف الله جل وعلا بالقدم أن ذلك عن طريق تجويف أو اتصاف الله جل وعلا بالعينين أن ذلك عن طريق تجويف إلى آخره، فهو سبحانه وتعالى صمد قد كَمُل سبحانه في أسمائه وصفاته.
س14/ ما معنى الأقانيم؟
(37/335)
ج/ الأقانيم هذه عند النصارى، التي ذكرناها عندكم في الدرس الماضي، الأقانيم النصارى يعجزون عن أن يفسرونها بتفسير صحيح، مثل الكسب عند الأشاعرة يعجزون عن تفسيرها تفسيرا صحيحا، ومعناه القريب.
معنى الأقنوم الصورة أو إحدى الصور للأصل؛ يعني أن الشيء إذا كان له ثلاث جهات يعني أشبه ما تقول يعني شيء له بعد ثلاثي، إذا أتيت من هنا قلت هذا هو، وإذا أتيت من هنا قلت هذا هو وإذا أتيت من الجهة الثالثة قلت هذا هو.
فعندهم أن الله جل وعلا ثلاثة أقانيم إله واحد آب يعني أب وابن وروح القدس هذا عند الكاثوليكيين؛ أب وابن وروح القدس يشكلون جميعا ثلاث صور لشيء واحد وهو الله.
لهذا يقولون بعدها إله واحد وهذا كّرهم الله جل وعلا بهذا فقال ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ?[المائدة:73]، ونعلم أن قول (ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) من حيث اللغة يعني أنه منها وليس خارجا عنها، ففي اللغة أن الشيء إذا كان من جنس عدده أُدخل فيه، وإذا لم يكن من جنسه أخرج منه، تقول مثلا كنت ثالث ثلاثة، كنت رابع أربعة، كنت خامس خمسة إذا كانوا من الإنسان، الله جل وعلا قال ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ?[المجادلة:7]، لاحظ هنا قال (ثلاثة رابعهم) لأن الله مباين لهم أما إذا كان المعدود من جنس المعدود عليه من جنس المعدود فيدخل في العدد، مثل ما قال جل وعلا في سورة المائدة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، فهم قالوا إن الله ثالث ثلاثة يعني داخل في العدد؛ الآب الذي هو الله والابن وروح القدس شيء واحد كلها إلهية لم تأخذ صفة الناسوتية، فلهذا يكون ثالث ثلاثة بحسب تعبيرهم فهو دخل في التثليث، نسأل الله العافية.
س15/ ما حكم الأبيات التي في نهج البردة، وهل يجوز للموحدين حفظها؟
(37/336)
ج/لا، يجوز لأحد يحفظ الأبيات الشركية؛ إلا لأهل العلم الذين يحتاجون إذا حفظوها أن يردوا على الخصوم، أما لسائر الناس أو لعامة طلبة العلم؛ لأن هذا شرك والشرك لا يحث عليه ولا يخاطب المرء بتوحيده فيه، فالأصل السلامة إلا عند الحاجة فيؤخذ الشيء بقدره.
نكتفي بهذا وصلى لله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
إذا تحقَّقتَ أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحّ عقولاً وأخف شركًا من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شُبْهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها وهي:
أنهم يقولون إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث ويكذّبون القرآن ويجعلونه سحرًا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
فالجواب: أن لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضَه، كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقرّ بالتوحيد والصّلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم، أو أقرّ بهذا كله وجحد الحج، ولما لم يَنْقَدْ أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97].
(37/337)
ومن أقرّ بهذا كلِّه وجحد البعث كفر بالإجماع وحلّ دمه وماله كما قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا للكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا?[النساء:150-151].
فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا. ([56])
[ويقال أيضًا: إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء وجحد وجوب الصّلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بذلك كله وهنا لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا.
فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج. فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور؟ كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحان الله ما أعجب هذا الجهل!]
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا، ربنا لا تكلنا لأنفسنا في ديننا وفي دنيانا طرفة عين.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، نسألك أن تجعلنا ممن إذا أُعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
أما بعد:
(37/338)
فهذه شبهة جديدة ذكرها إمام الدعوة رحمه الله تعالى مما يورده الخصوم، وهذه الشبهة شبهة العلماء لأنّ الذي يوردها من أهل العلم، فإن لشبه التي ذكرنا فيم سبق وإن جوابها الذي ذكره الشيخ أقرّ بحسنه جمع كثير من أهل العلم في الأمصار كما قال إمام الدعوة رحمه الله تعالى: وقد عرضت ما عندي على علماء الأمصار فوافقوني في التوحيد وخالفوني في التكفير والقتال. يعني وافقوه في معنى العبادة وفي معنى التوحيد وفي معنى الشرك بالله جل وعلا؛ لكن خالفوا بأن عبّاد القبور وعبّاد الأضرحة والأوثان والأشجار والأحجار إلى آخره خالفوا في أن هؤلاء مشركون تقام عليهم الحجة فإن استجابوا وإلا قوتلوا.
خالفوا لشبهة وهي أن هؤلاء ليسوا كالأولين؛ لأن الأولين الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعثت إليهم الأنبياء هؤلاء يقرون بأنهم اتخذوا آلهة مع الله جل وعلا ولم ينقادوا للرسل؛ بل قالوا: إن هناك آلهة مع الله، كما قال سبحانه مخبرا عن ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلهَِتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ?[الصافات:35-36]، وكقول الله جل وعلا ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5) وَانْطَلَقَ المَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ?[ص:5-6]، وكقوله جل وعلا في سورة هود ?إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ?[هود:54]، إلى آخر الآيات في هذا الباب التي فيها اعتقاد أولئك بأن هناك آلهة مع الله جل وعلا.
(37/339)
قال طائفة من الناس من المنتسبين للعلم: إن المشركين من هذه لأمة من عباد القبور هؤلاء وقعوا في الشرك، نعم؛ ولكن هذا الشرك ليس كفرا منهم لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، فإذا سألتَ الواحد منهم هل هناك إله مع الله؟ قال: لا. فحين يَفعل يفعل الشيء بعدم اعتقاد أنه تأليه لغير الله جل وعلا فخالف صنيع أولئك المتقدمين الذين اعتقدوا بإلهين؛ بل اعتقدوا بآلهة مع الله جل جلاله كذلك قالوا هؤلاء إن وقعوا في هذه الأشياء فهي كفر عملي لا يُخرج من الملة ككفر من قاتل مسلما، وكفر من أتى حائضا، وكفر من أتى امرأة في دبرها، وكفر كذا وكذا مما جاء في النصوص تسميته كفرا وليس بالكفر الأكبر؛ بل هو كفر أصغر وأشباه ذلك.
وقالوا أيضا إن هؤلاء الذين من هذه الأمة فعلوا تلك الشركيات هؤلاء لا يكذِّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا ينكرون البعث ولا يكذبون القرآن ويجعلونه سحرا، ولا ولا يقولون بإنكار الزكاة والصلاة أو بعد تحريم الخمر أو بعد تحريم الزنى كفعل المشركين في الزمن الأول؛ بل هم مقرون بكل هذه التفاصيل لكنهم فعلوا ما فعلوا، فهذا يعني أنه لا يُخرجهم من الملة وليسوا بمشركين الشرك الأكبر.
وإذا تقرر هذا فإن هذه الشبهة كما ذكر الإمام رحمه الله تعالى وما عرضه من شبه القوم قال (فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها) ففي هذه الجملة ذكر أنّ هذه الشبهة يوردونها على ما ذكر الإمام؛ يعني ما ذكره في المحاجة ورد الشبه في التوحيد، في معنى التوحيد، ومعنى الشرك، ومعنى عبادة غير الله، ومعنى الالتجاء؛ إلى الالتجاء إلى لصالحين والالتجاء إلى الصالحين شرك أم لا؟ ومعنى التوسل وأشباه ذلك وتفاصيله مما ذكر من أول الرسالة إلى هذا الموضع.
(37/340)
فإذا تبين ذلك قال (لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا) يعني من كل جواب الشبه السالفة فإن محصل الشبه السالفة أن يقال أنت محق في هذا الجواب، وأن هذا لذي يفعل شرك، وأن الالتجاء إلى الصالحين شرك، وأما طلب الشفاعة من الأموات شرك، إلى آخر ذلك وأن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله شرك، وأنت محق وأن هؤلاء لذين أدلوا بالشبه في استحسان الأفعال مبطلون، وما ذكرته صواب بأن هذه الأشياء شرك؛ لكن هذه الأشياء شرك ولكنها لا تخرج من الملة من صنعها من فعلها، وهذا هو جواب هذه الشبهة فيما يأتي من كلام الإمام رحمه لله تعالى.
قال الشيخ رحمه الله (وهي من أعظم شبههم) لم صارت من عظم الشبه؟ لأنها كما ذكرت شبهة العلماء التي يذكرونها ويروجون به على العامة، فكثيرون من الذين ردوا على الشيخ نقلوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم وقالوا أنت محق في ما تقول؛ لكن كون هؤلاء يكفرون الكفر الأكبر هذا ليس بصحيح؛ بل هؤلاء على كفر أصغر، هؤلاء على شرك أصغر وليسوا بمشركين الشرك الأكبر.
هذا تقرير الشبهة على حسب ما يوردونها وهذه الشبهة أجاب عنها الإمام رحمه الله تعالى هنا إجابة مختصرة، وفي ردود أئمة الدعوة ابتداء من الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه إفادة المستفيد في كفر ترك التوحيد، وكتب تلامذته وأبنائه وتلاميذهم إلى هذا الزمن ما يُبين رد هذه الشبهة.
فإن هذه الشبهة من أعظم الشبه فتفصيل رد هذه الشبهة في ردود أئمة الدعوة المختلفة من وقت الشيخ محمد رحمه الله إلى زماننا هذا فيها تفصيل الرد على هذه الشبهة، ولا يتسع المقام لإيراد كل ما ذكروه؛ لكن نذكر تقرير ما ذكره لإمام رحمه الله وهو أصل هذه الردود وبه كفاية.
(37/341)
قال (وهي: أنهم يقولون: إنّ الذين نزل فيهم القرآن) يعني من المشركين (لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويُنكرون البعث ويكذّبون القرآن ويَجعلونه سحرًا، ونحن) يعني نفارق أولئك (ونحن نشهد أنّ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟) وهذه لاشك إذا أوتي إليها من ناحية عاطفية فإنها تروج، وأن الناظر نظرا عاطفيا مجردا عن الحجة والبرهان قد يروج عليه ذلك، فيقول هؤلاء مصلون ويصومون، وقد يكون بعضهم في جبهته أثر السجود، وبعضهم يصوم يوما ويفطر يوما، وبعضهم تصدق بكل ماله، وبعضهم مجاهد في سبيل الله وحارب الكفار، وفعل ما فعل من أنواع الجهاد وبعضهم كذا وكذا، فيسرد جملة الأعمال الصالحة التي عملهاذ، فيقول كيف تجعله كأبي جهل؟ كيف تجعله مثل أبي لهب؟ كيف تجعله مثل فلان وفلان؟ كيف تجعله مثل المشركين؟
وهذه حجة عاطفية ومعلوم أن الديانة قامت على البرهان، والبرهان العاطفي أو القضية العاطفية ليست برهانا باتفاق العقلاء؛ لأن العاطفة لها مدخل أو للهوى مدخل عليها، والبراهين خارجة عن مقتضى الهوى.
البرهان يقام بالحجة المتفق على الاحتجاج بها شرعية سمعية أو عقلية في كلام العقلاء وكلام النظّار من جميع الفرق؛ يعني في كون الحجة تمضي والحجة العاطفية ليست بحجة؛ لأنها ناشئة عن رغبة وهوى.
فلذلك نقول: هذه الشبهة ينبغي أن يتخلص صاحبها أولا من العاطفة، والعاطفة لا مدخل لها في الدين؛ لأنها ليست أحد الأدلة، وإنما الأدلة على المسائل التي يُحْتَجُّ بها في هذه الشريعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح والعقل الصريح وأقوال الصحابة إلى آخر الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها؛ يعني أن الحجج في الشريعة ليست فيها الحجة العاطفية؛ كيف نجعل هذا مثل هذا؟ هذا أمره عظيم، هذا فيه كذا وكذا فكيف يجعل على شبه بأولئك.
(37/342)
فقال الشيخ رحمه الله مبديا حجة علمية وإبطالا لهذه الإيرادات العاطفية قال (فالجواب: أنّه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام) وهذا حكاية للإجماع وهذا القدر من الحجة صحيح كما أورده الإمام رحمه الله تعالى في أنّ الإجماع انعقد باتفاق الأئمة الأربعة وأتباعهم، وكذلك غيرهم في أنه من أراد الدخول في الإسلام، فقال: أنا أدخل مصدِّقا بأشياء ومكذبا في أشياء أنه لا يدخل في الإسلام وإن قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن ومحمدا رسول الله فإن تصديقه ببعض الأشياء في الدين وتكذيبه ببعض آخر لا يدخله في الإسلام أصلا وهذا من جهة أنه أول ما يدخل في الإسلام كذلك من دخل في الإسلام فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم كذب ببعض القرآن ولو بحرف واحد متفق عليه فإنه لا يدخل في الملة ويخرج منها بتكذيبه؛ لأن العلماء نصوا على أن من أنواع الردة أن يكون مكذبا أو شاكا أو جاحدا فمن كذب بشيء؛ ولو بحرف واحد من القرآن متفق عليه فإنه كافر ولا تنفعه صلاته ولا صيامه بالاتفاق؛ قال (وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه) آمن ببعض القرآن يعني من حيث الألفاظ، وجحد بعضه يعني من المتفق عليه، ولم يؤمن به لو قال هذا ليس من القرآن والأمة متفقة على أن هذا اللفظ الذي جحده من القرآن يعني لفظا فإنه يكون كافرا بالاتفاق بالإجماع، وكذلك من آمن ببعض أحكام القرآن المتفق عليها وجحد بعض أحكام القرآن المتفق على معناها؛ يعني التي دلالتها قطعية فإنه يكون أيضا كافرا خارجا من الدين باتفاق العلماء وبالإجماع، حتى من أورد هذه الشبهة فإنه لا ينكر هذا الإجماع.
(37/343)
مثّل لهذا بقوله (كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصلاة) من أقرّ بالتوحيد موحد مؤمن بأنه لا إله إلا الله وبأنّ محمدا رسول الله، وكثير الزكاة والصدقات، ويصوم فرضا ونفلا، ويحج بيت الله جل وعلا كل سنة؛ لكن قال: هذه الصلاة ليست بواجبة إما مطلقا أو ليست بواجبة عليه، فإن هذا يعد كفرا بالإجماع لأنه جحد معلوما من الدين بالضرورة، وبالإجماع لا يشفع له توحيده، وبالإجماع لا يشفع له كثرة زكاته وصدقاته، وبالإجماع لا يشفع له صومه الفرض والنفل، وبالإجماع لا يشفع له التزامه بقية أحكام الشريعة؛ لأنه جحد وجوب الصلاة إما مطلقا أو عليه.
فإذا كان كذلك صارت هذه القاعدة التي أوردوها أو هذه الشبهة منتقِضة بالإجماع إذْ إنهم قالوا كيف تجعلون من جحد الرسالة من المشركين ومن لم يؤمن بالله إله واحدا ومن كذّب الرسول كيف تجعلونه من كذب بالبعث يعني لم يؤمن بالبعث كيف تجعلونه كالذي يصلي ويصوم ويفعل ويفعل من هذه الأفعال والأعمال الصالحة؟ ونقول بالإجماع هذه منتقضة بالصلاة، وكذلك منتقضة بالزكاة بالاجماع، فإنه لو كان مصليا كثير الصلاة وجحد وجوب الزكاة إما مطلقا -يعني على الناس جميعا-، وإما عليه بخاصة ولم يلتزم، فإنه يكون كافرا بالاتفاق.
فإذن يدل على أن الإيراد العاطفي الذي أوردوه ليس بواردٍ شرعا باتفاق أهل العلم.
(37/344)
قال (أو أقرّ بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم، أو أقرّ بهذا كله وجحد الحج) العلماء من كل مذهب من المذاهب الأربعة المتبوعة مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى جميعا، وكذلك غيرهم من المذاهب المهجورة كمذهب سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق ابن راهوية وابن جرير وجماعات أهل العلم وكذلك مذهب الظاهرية الذي ألف فيه ابن حزم وقبله داوود الظاهري متفقون على أنّ المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يخرج من الإسلام بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك، فذكروا أن المكفرات بالاتفاق أربعة تُخرج الموحد من الدين وهي: القول والفعل والاعتقاد والشك.
وذلك لأنهم اتفقوا على أنّ من قال قولا يناقض الشهادة أو يناقض أصل توحيده أو يناقض أمرا معلوما من الدين بالضرورة فإنه يخرج من الدين، وكذلك إذا عمل عملا أو اعتقد اعتقادا يعني مكفرا يعني شركا؛ اعتقد في الله بأنه جسك كالأجسام أو اعتقد في الله صفة قبيحة، أو شك في أمر من الأمور فإنه يكفر لو كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
إذن الأئمة متفقون على أن المسلم الذي يعمل بأركان الإسلام ويعمل بفروعه قد يكفر بعمل أو قول أو اتقاد أو شك.
فإذن هذه الشبهة التي أوردوها مخالفة أيضًا لإجماع علماء الذين ألفوا في هذا الباب، وفي كل مذهب تجد بابا خاصا بهذا وهو باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه.
(37/345)
وفي الحقيقة قولنا عن هؤلاء -يعني عباد القبور- الذين نشأوا على ذلك أنهم مرتدون، أصعب من أن نقول إنهم كفار أصليون، ولهذا ذهب جمع من علماء الدعوة بل الأكثر منهم ومن غيرهم أنّ هؤلاء الذين لم يعرفوا التوحيد أصلا ونشأوا عليه وشبوا عليه وكانوا مشركين بالله جل وعلا ولم يعرفوا الإسلام الصحيح أنهم لم يدخلوا في الدين أصلا حتى يقال إن أحكام المرتد تجري عليهم؛ بل هم كفار أصليون ومعلوم أن الكافر الأصلي في أحكامه أخص من أحكام المرتد لأن لهم في ذلك تفاصيل معلومة في بابها.
نقول: وهنا الإجماع إذن منعقد على هذا، ومن احتج بهذا القول من أتباع مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو الإمام أحمد يقال لهم ما قاله علماؤهم في كتب مذاهبهم، فإنه سيقف.
ولهذا يناسب أن يقوم الدعاة إلى الله جل وعلا في كل بلد فيه أنواع الشرك بالله بالمقبورين والمدفونين والأولياء وغيرهم أن يوردوا الأدلة والأقوال من أقوال علماء مذهبهم، ويجمعونها وينشرونها في الناس؛ لأن في هذا إقامة للحجة عليهم؛ ولأن في هذا أيضا إبعادا للشبهة التي أوردها هذا المورد؛ لأنه قد يتخيل بعض من لم يحقق من طلبة العلم أو بعض العوام أن هذا القول إنما جاء به الوهابية، وليس عليه علماء المذاهب، فإذا جمعت هذه الأقوال ونشرت في البلد؛ البلد الذي يشيع فيه مذهب الإمام مالك ينقل فيه كلام المالكية، والمالكية لهم توسع في هذا أيضا، والحنفية أيضا أكثر منهم، والشافعية والحنابلة في باب التكفير أقل؛ يعني فيما يحصل به الكفر، فيُنقل من كتبهم ما به يكون رد هذه الشبهة، حتى لا يتوهم أن هذه الشبهة تفرّد به الوهابية كما يزعمون.
(37/346)
والدعوة السلفية بعامة في كل بلد إنما عمدتها الكتاب والسنة وإجماع هذه الأمة؛ إجماع علمائها وما كان عليه سلفنا الصالح وما عقده أئمة أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وأتباع الأثر، هذه عمدتهم في أي بلد، فالوسيلة التي يقررون بها الحجة ويُضعفون بها الشبهة ينبغي لهم أن يسلكوها؛ لأن الحق أحق أن يُتَّبع.
قال رحمه الله بعد ذلك (ولما لم يَنْقَدْ أُنَاسٌ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97])، قوله (ولما لم يَنْقَدْ أناس) عبر رحمه الله بانقياد الذي معناه الالتزام، وإلا فإن عدم الحج مع الانقياد للحكم -يعني مع اعتقاد وجوبه على المخاطب به- ليس بكفر، وإنما يكفر من جحده أو من لم يلتزم به -يعني قال لا يجب علي وإنما يجب على غيره-، من لم ينقد للحكم؛ قال: هم واجب على الناس واجب على غيري وأنا لا يجب علي الحج. فهذا غير ملتزم به، كحال الرجل الذي نكح امرأة أبيه بعد نزول قول الله جل وعلا ?وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا?[النساء:22]،لم يلتزم بالحكم، لم ينقد له، فقال: أنا غير مخاطب بذلك. ولم يلتزم به ولم ينقد له فصار كافرا.
خلاف من لو التزم وانقاد يعني قال: أننا ملتزم، وهذا حرام علي. لكن فعله فهذا له حكم أمثاله من أهل الكبائر.
فقول الشيخ رحمه الله (ولما لم ينقد) هذا تعبير دقيق.
(37/347)
ولهذا قرأتم في شروط لا إله إلا الله وتعلمتم أنّ من شروطها الانقياد، فالانقياد معناه الالتزام، التزام بما دلت عليه ولو لم يفعل؛ لكنه يلتزم أن يقول: هذا واجب وأنا مخاطب به وهذا محرم وأنا مخاطب بذلك بتحريم كذا، لكنه لم يفعل، فله حكم أمثاله من أهل الكبائر؛ لكن إن قال هذا غير واجب عليّ، أنا ممن ارتفعت عنه التكاليف هذا يجب على الناس، وأما أنا فلا يجب علي هذا يحرم على الناس أما أنا فلا يحرم علي، فيعتقد أنه واجب في نفسه هذا الأمر محرم في نفسه يعني محرم؛ لكن يقول أنا لا ألتزمه لأني غير مخاطب به، كفعل طوائف من هذه الأمة فهؤلاء لم ينقادوا للحكم الشرعي.
فالشيخ عبر بالانقياد وهو تعبير علمي له دلالته في الأحكام الفقهية وفي التوحيد.
قال (ولما لم يَنْقَدْ أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97]) قوله (عَلَى النَّاسِ) هذا من ألفاظ الوجوب عند الأصوليين (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) عليك كذا وأشباه هذا، فإن ألفظ الوجوب عندهم كثيرة متعددة، ومنها كلمة (عليك) وعلى وأشباه ذلك ولله على الناس يعني يجب عليهم (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ) بهذا الحكم ولم ينقد له (فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
(37/348)
بعد ذلك قال الإمام رحمه الله (ومن أقرّ بهذا كلِّه وجحد البعث كفر بالإجماع) ما رأيكم فيمن قال: أنا موحد أقول لا إله إلا الله محمد رسول، لا أعبد إلا الله مقر لله بالواحدنية في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، ومقرّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشاهد له بالرسالة وبأنه خاتَم المرسلين، وأصلي وازكي وأصوم وأحج؛ لكن مسألة البعث هذه فيها نظر عندي والأقرب أنْ لا بعث بعد الموت. ولو كان من أتقى الناس في تلك الأمور؛ لكنه قال: أنا أتعبد لله وأصلي وأصوم هذا طاعة لله جل وعلا؛ لكن لا بعث فإنه بالإجماع كافر ويحل دمه وماله لإجماع المسلمين لذلك (كما قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا للكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا?[النساء:150-151]) فهذه الآية دلت على أن من فرّق بين حكم وحكم فجحد حكما وقبل حكما فإنه يكون كافرا لقوله تعالى (أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا).
(37/349)
قال رحمه الله (فإذا كان الله قد صرّح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة) لأن الذي أنكر عبادة الذي قال إن عبادة غير الله جل وعلا ليست شركا أكبر وإنما هي شكر أصغر فإنه لم يؤمن بقول الله جل وعلا ?إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72]، وبقول الله جل وعلا في سورة الحج ?وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ?[الحج:31]، ونحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الباب فآمن بأن المشرك بدعاء غير الله مشرك؛ لكنه ليس بالمشرك الشرك الأكبر الذي يستحق معه النار، فإن هذا لاشك جحْد أو عدم إيمان ببعض ما أنزل الله جل وعلا.
هذا من حيث التأصيل العام.
(37/350)
ومن حيث التفصيل قال رحمه الله بعد ذلك (ويقال أيضًا) يعني تفصيلا للجملة السالفة، (إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء وجَحَدَ وجوب الصّلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع) يعني بعد أن تقوم عليه الحجة (وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بذلك كله وهنا لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا) يعني إذا كنت تقر هذا؛ يعني ما أوردناه من الإجماع وأن المذاهب متفقة على هذا، وأن من أنكر البعث فهو كافر حلال الدم والمال باتفاق العلماء وبإجماعهم ويذكر هذا في كتبهم، فنرجع إلى خصوص المسألة التي أوردت الشبهة فيها وهي مسألة التوحيد قال (فمعلوم أنّ التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج.) وجه كونه أعظم أنه بدأ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة، فالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ دعا الناس سنين عددا إلى التوحيد فقط، ولم تُفرض الصلاة ولم تُفرض الزكاة ولم يفرض الصوم ولم يفرض الحج، ومعلوم أنه في هذا الحال -يعني في حال الأمر بالتوحيد دون غيره- أنه إنما تكون البداءة بالأهم كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لمعاذ حين أرسله إلى اليمن «إنك تأتي قوما أهل كتاب» يعني من اليهود وثم نصارى هناك «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»، «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله» فهذا يدل على أن هذا أعظم من غيره، ومعلوم أنّ الصلوات الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة من البعثة، ومعلوم أن صوم رمضان الفرض لم يكن إلا في السنة الثانية من الهجرة، ومعلوم أن الزكاة المفروضة بأنصبائها المعروفة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة، وأن الحج فلم يفرض إلا في السنة التاسعة من الهجرة، وهذا يدل على تأخر هذه المسائل
(37/351)
التي تقول إن من جحد واحدة منها ولم يأت بها فإنه يكفر بالإجماع، فما شأن أصل الأصول؟ ما شأن أول واجب؟ ما شأن الأمر الذي دعا إليه النبي في مكة سنين عددا؟ ما شأنه؟ هل هو أقل من هذه في الحكم؟
فالجواب: أن التوحيد هو أعظم فريضة بالاتفاق. ولهذا يذكر العلماء في المكفرات في باب حكم المرتد أول ما يذكرون في المكفِّر ما يتصل بالتوحيد؛ توحيد العبادة أو توحيد الربوبية أو توحيد الأسماء والصفات، فإنهم يذكرون هذا قبل غيره؛ لأنه أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعت بها الأنبياء، ومعلوم أن الصلوات والزكاة والصوم والحج إلى آخره اختلفت فيه الشرائع والأنبياء جميعا اتفقوا في التوحيد، فدل على أنه حق الله الأعظم وعلى أنه الفريضة العظمى فإذن يكون منزلتها أعظم من غيرها.
قال (فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحان الله ما أعجب هذا الجهل!) وهذا الاستدلال بالقياس وهذا قياس صحيح قوي.
ومعلوم أن قاعدة الشريعة العظيمة التي دلت عليها النصوص واتفقت عليها العلماء أنّ الشريعة لا تفرّق بين المتماثلات، ولا تماثل بين المختلفات، فإن المتماثلات في العلّة لا تفرّق بينها الشريعة إذِ الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
(37/352)
ومما جاءت به الشريعة وجاء في القرآن الاستدلال به والاستدلال بقياس الأولى، فإنه القياس الذي اتفقت عليه هذه الأمة حتى الظاهرية لا ينكرون القياس المسمى عند الفقهاء الأربعة بقياس الأولى، لا تنكره الظاهرية وإن كانوا لا يسمونه قياسا؛ بل يسمونه تمثيلا أولويا، فيقال هذا مثل هذا عندهم بل أولى منه، ويخرجون من تسميته قياسا، وفي الحقيقة أنهم يقرون به، فالقياس الأولوي؛ يعني أن هذا أولى من هذا فهذا بالاتفاق عند الجميع، وإذا أنكر المرء متفقا عليه بين العقلاء وبين الفقهاء ومجمعا عليه من الدليل فإنه يكون ليس على أصل لا في التفريع ولا في التأصيل، ومعلوم أن هذا رد قوي على الذين يفرقون فإن الشريعة لم تأت بالتفريق بين المتماثلات، فكيف بالتفريق ما بين هو أدنى وأعظم رتبة.
التوحيد أعظم رتبة، كيف يتفق العلماء، كيف تقول أنت أيها المورد لهذه الشبهة كيف تقول إن الذي جحد الصلاة وهو يقر بغيرها، أو جحد الزكاة وهو يقر بغيرها، أو جحد الصوم وهو يقر بغيره، أو أقر بهذه كلها وجحد البعث، كيف تقول أنه يكفر وحلال الدم والمال، ومن ترك التوحيد وجحده لا يكفر ولا يكون حلال الدم والمال بعد إقامة الحجة عليه؟ كيف تقول هذا سبحان الله ما أعجب هذا الجهل؛ لأنه جهل بالعقليات وجهل أيضا بالشرعيات وجهل بكلام العلماء!!!
نقف عند هذا([57]) ....
....قتال بني حنيفة وقتال المرتدين وهذه تحتاج إلى تفصيل ونأتي إليها إن شاء الله في المرة القادمة.
فتحصل من هذا إلى أن هذه الشبهة هذا جوابها العام، وحبذا لو يطالع الإخوة وطلاب العلم الردود التي صنفها إمام الدعوة على المخالفين، وخاصة كتابه (مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد) وكتب أئمة الدعوة في الردود على المخالفين، فإن فيها تفصيلا لهذه الجملة التي أوردها الإمام رحمه الله تعالى، والحجة التي ذكرها كافية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
[الأسئلة]
(37/353)
الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان عظيم الإطلاع على كتب التفسير، وله عناية بالتفسير وكلام السلف فيه عناية عظيمة جدا، ولهذا من أشْكَل عليه شيء مما يذكره الإمام رحمه الله تعالى في مسائل الآيات ومعاني الآيات فإنه يرجع إلى التفاسير وسيجد ما ذكره، وقد اختبرتُ ذلك مرارا فوجدته كما قال رحمه الله تعالى، فيُراجَع ما أشكل مما ذكره أحد السائلين فستجد في كتب التفسير ما ذكره الشيخ رحمه الله.
س/ يقال: إن الأشاعرة كما ضلوا في باب الأسماء والصفات فهم ضالون أيضا في توحيد الألوهية فأكثرهم يعتقد في القبور ويتوجه إلى الأموات بالدعاء والاستغاثة إلى آخره، فما مدى صحة هذا القول؟
ج/ الجواب أن قول الأشاعرة ضالون في باب الأسماء والصفات فقط دون غيره هذا غلط، فالأشاعرة ليس خلافهم مع أهل السنة في باب الأسماء والصفات؛ بل في مسائل كثيرة؛ فهم في معنى الربوبية يخالفون أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح، وفي معنى الألوهية يخالفوننا، وفي معنى توحيد السماء والصفات أيضا يخالفوننا، وفي التطبيق العملي لكل هذه المسائل في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وما يجب على المكلَّف فيها وما يُعتقد أيضا يخالفوننا، وفي معنى الإيمان يخالفوننا في ذلك؛ لأن الأشاعرة مرجئة في باب الإيمان، وكذلك في القدر يخالفوننا، وهم جبرية في باب القدر وفي مسائل تفصيلية وتفريعية كثيرة يخالفون أهل السنة.
(37/354)
لهذا شاع عدم التكفير؛ تكفير عباد القبور لأن الأشاعرة أصَّلوا أنَّ التوحيد هو اعتقاد وحدانية الله جل وعلا في ربوبيته وأسمائه وصفاته، فمن اعتقد أن القادر على الاختراع والخلق هو الله وحده فهو موحِّد عندهم لأنهم يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع، ومن اعتقد بأن الله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه فهو موحد عندهم، فمن اعتقد هذه العقيدة في الربوبية وعبد غير الله فلا يكون ناقضا لتوحيده، وهذه شاعت في الناس ببلاء عظيم عندهم وعند الماتريدية في أصناف كثيرة.
ولهذا نقول الخلاف مع الأشاعرة ليس في مسألة واحدة في الأصول والفروع؛ يعني في الأصل وفي فروع ذلك الأصل والله المستعان.
س/ ما رأيك في من يقول إن القياس كالميتة لا يرجع إليه إلا عند الضرورة؟
ج/ هذا القول معروف عند طائفة من أهل العلم، والجواب عليه: أن الضرورة هذه ما هي؟ الضرورة لهم تعاريف فيها لا تنطبق على هذا الكلام.
فالقياس يقال: يؤخذ به عند الحاجة، إذا احتيج إليه أخذ به، والحاجة إلى القياس تكون في مسائل:
(37/355)
الأولى: عند تدعيم دليل شرعي؛ يعني إذا دلّ الدليل على شيء فإن دعم هذا الفهم من الدليل بالأقيسة يقوّيه، وهذا الذي يسمى عند العلماء ذكر النظائر في المسائل، وهذه طريقة أهل السنة وقد امتثلها كثيرا في الفقه شيخ الإسلام ابن تيمية، فتجده يذكر دلالة القرآن والسنة على مسألة، ثم يذكر النظائر الكثيرة ويفرِّع ويقول هذا نظيره كذا ونظيره كذا، مثل مثلا في أول كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم تجد أنه نحو 150 صفحة كلها تنظير، هذا الاستدلال بالقياس؛ يعني أن هذا مثل هذا وهذا مثل هذا وهذا مثل هذا، وهذه لها نظير كذا ونظير كذا، والاستطراد في هذا الباب يقوي الاستنتاج والاستدلال من الدليل؛ لأنه قد يأتي آت ويقول فهمك للدليل قاصر وناقص فليس الكلام في الدليل؛ ولكن في وجه الاستدلال، فيأتي الفقيه والعالم فيُنَظِّر ويأتي بنظائر كثيرة -يُنَظِّر يعني يأتي بنظائر ليس معنى يُنَظِّر يعني يقول فيه نَظَر، يُنَظِّر يعني يأتي بنظائر كثيرة- فيقول هذه مثل هذه مثل هذه مثل هذه مثل هذه ليقوي استدلاله وأن استدلاله لم يخرج عن القواعد.
ثانيا من إيراد القياس: أن يورِد القياس لإلغاء الفارق، ومعلوم أن الجمع والفرق من أصول قواعد الفقهاء، فإن فقه المسائل مبني على فهم الجمع والفرق في التعليل ما بين المسائل، وعلم الجمع والفرق كعلم المقاصد من أهم علوم المجتهدين، فيَحتاج المجتهد إلى أن يقيس ويذكر المسائل واحدة تلوى الأخرى ليبين الجمع بينها وليبين إلغاء الفارق بينها، ومعلوم أنه إذا حصل الجمع وأُلغي الفارق قامت الحجة.
الثالث أن تكون المسألة لا دليل فيها نقلي؛ يعني من الكتاب أو السنة، وإنما هي مسألة اجتهاد، فيحتاج إلى القياس ليلحق الفرع بالأصل لعلة جامعة بينهما، أو يلحق الحكم المسكوت عليه بالحكم المنصوص عليه لعلة جامعة بينهما.
(37/356)
وهذا النوع الثالث هو الذي يجري فيه قول بعضهم القياس كالميتة لا يرجع إليه إلا عند الضرورة، وهذا ليس بجيد؛ يعني هذه المقالة ليست بجيدة على إطلاقها، ومن قالها فيُفهم منه هذا النوع الثالث لأنه إذا احتيج إلى القياس قيل به وتفاصيل هذه الكلمة معلومة في الركن الرابع في مباحث القياس في الأصول.
... لا، لا يكفَّرون، الأشاعرة مبتدعة ضلال على بدعة عظيمة راجت في الأمة بسببهم، لا يكفَّرون؛ ولكن يضللون ويبدعون على اعتقاداتهم الفاسدة في صفات الله جل وعلا وفي ربوبيته وإلهيته وفي الإيمان وفي القدر وفي بعض مسائل البعث، إلى آخره.
س/ ماذا تعلمون عن الرسالة التي أُرسلت إلى الشيخ من الأحساء؟
ج/ هناك عدة رسائل تأتي للشيخ من بعض علماء الأحساء، وأخص منهم الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي، عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف له عدة رسائل مع الشيخ، والشيخ رحمه الله لما رجع من البصرة مرّ عليه في الأحساء وجلس عنده عدة ليالي، وفرح الشيخ رحمه الله بعبد الله بن عبد اللطيف فرحا عظيما؛ لأنه وجده يخالف الأشاعرة الذين مشى على طريقتهم في مسائل الإيمان، حيث قال له مرة في رسالة له: ولما كنتُ جئتك ورايتك كتبت على أول صحيح البخاري في مسائل الإيمان هذا هو الحق الذي يجب القول به، فرِحتُ بذلك لأنك خالفت ما عليه أهل بلدتك من كلام الأشاعرة. يعني في مسألة الإيمان، وقال الشيخ رحمه الله في رسالته أيضا لعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي هذه: وأنا كثير الدعاء لك، وأدعو لك في سجودي، وكنت أقول أرجو أن تكون فاروقا لهذه الأمة في آخرها كما كان عمر بن الخطاب فاروقا للأمة في أولها.
(37/357)
ورسائله مع عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي هذه فيها فوائد كثيرة في العلم تبين لك عظم علم الشيخ لأنه إمام الدعوة؛ لأن إمام الدعوة إذا كاتب العلماء كاتبهم بلهجة علمية قوية وتفصيل في المسائل، وإذا خاطب العوام أو المتوسطين في العلم خاطبهم بما يعرفون، حدثوا الناس بما يعرفون.
س/ أليس الشك إذا دافعه الإنسان واستعاذ بالله من الشيطان ليس خروجا من الملة ومجرد الشك لا يخرج من الملة؟
ج/ معلوم أن الشك ليس هو العارض، الشك حين يعبّر به العلماء يريدون الشك في اصطلاحهم، والشك عندهم استواء طرفي القضية في العلم، استواء طرفي القضية يسمى شكا، وأما العارض والتوهمات التي تأتي للقلب والأوهام التي يلقيها الشيطان هذه لا تسمى شكا عند العلماء، الشك أن يقول هذه وهذه مستوية عندي، فيكون شاكا ليس من جهة اعتقاد سريان الشيء على قلبه؛ ولكن يقول جواز البعث وعدم جوازه، إمكان البعث وعدم إمكانه في حد سواء عندي، قد نبعث وقد لا نبعث، هذا قد وقد، هل تُرجَّح أحد الجانبين على الآخر؟ قال لا هذه وهذه مستوية، فهذا يسمى شكا.
وإذا قال: نعم أرجح جانب البعث ولكن قد يكون ألا نبعث فهذا يسمى ظنا.
فإن قال لا البعث قائم وأومن به ولا احتمال عندي لعدم البعث، فيكون هذا علما.
وهذا على حسب كلامهم، ففهم مصطلحات العلماء ينبغي أن يكون على لغتهم لا على لغة العوام.
س/ ذكرتَ بأن من شك في شيء مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر؟
فما معنى الحديث الصحيح الذي جاء فيه أن رجلا قال: «إذا مت فحرقوني وذروني في اليم والله لئن قدر الله علي ليعذبني» إلى آخره، الحديث المعروف الذي في الصحيح.
ج/ هذا الحديث اختلف العلماء في الإجابة عليه.
(37/358)
والتحقيق فيه الذي يتفق مع أصول الشريعة من جهة الاعتقاد والفقه أنّ هذا الرجل لم يشك في صفة من صفات الله، وإنما شك في تعلق الصفة ببعض الأفراد، فهو لم يشك في القدرة أصلا، ولو شك في قدرة الله لكفر ولم ينفعه إيمانه، إذا قال: أنا لا أدري هل الله قدير أم ليس بقدير؟ يعني شك في أصل القدرة، فهذا يكفر، أما شك هذا ففي نعلُّق القدرة بإعادة الأجزاء، وهذا فرد من الأفراد التي تتعلق بها القدرة، ومعلوم عندنا أنَّ من أنكر فردا من الأفراد في أصلٍ ليس كافرا، وإنما هو على ذنب عظيم.
لهذا نقول: هذا الرجل شك في فرد من أفراد القدرة، فرد من أفراد تعلق القدرة بذلك الفرد ولم يشك في قدرة الله أصلا، وحاله كحال حواريِّي المسيح الذين قالوا لعيسى عليه السلام ?هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلُ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ? -وفي القراءة الأخرى ?هَلْ تَسْتَطِيعُ ربَّك أَنْ يُنَزِّلُ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ?- ?قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:112]، هل يستطيع الله أن ينزل علينا مائدة فهم لم ينكروا القدرة وإنما شكوا في تعلق القدرة بهذا النوع، هل يستطيع أو لا يستطيع؟ فتعلق القدرة بإنزال مائدة من السماء حصل لهم شك فيها، فقال لهم عيسى عليه السلام (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فبينوا وجهتهم قالوا ?نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنَّكَ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ?[المائدة:113]، إلى آخر السورة.
المقصود أن الشك في فرد من أفراد الصفة ليس كالشك في أصل الصفة، وهذا الرجل غُفر له بسبب خوفه، ومعلوم أن الحسنات يذهبن السيئات، فأحسن إذ خاف من الله جل وعلا، وأساء إذ شك في تعلق قدرة الله بهذا الفرد من مخلوقات الله وهو الأجزاء التي فرقها بإحراقه.
(37/359)
ولهذا تلحظ في الحديث قال: لئن قدِرَ الله علي ما قال لئن قدر الله مطلقا، قال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين؛ يعني أنه تعلق قوله ذلك بقدرته عليه بالخاصة لما ذر جسمه ورماده.
وهذا هو التحقيق لهذا القول في هذا الحديث وهو الذي يستقيم مع الاعتقاد ومع الفقه.
س/ ما رأيك فيمن يقول إن مجرد الطواف على القبر ليس عبادة؟
ج/الطواف عبادة؛ لأن الله جل وعلا أمر به ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ?[الحج:29]، معلوم أن الله إذا أمر بشيء وأثاب عليه فإنه عبادة، وإذا كان كذلك فمن تعبَّد؛ يعني طاف على مكان يرجو الثواب ويتقرب إلى الله أو إلى هذا المقبور بالطواف على غير الكعبة وما بين الصفا والمروة فإنه صرف العبادة لغير الله.
س/ إذا رأى أحد الناس في منامه أنه يفعل منكر كجماع من لا تحل له أو لواط، هل يدل هذا على فسق في دينه، مع أنه في المنام لا يرى أنه محرم وأنه فاعل لمنكر؟
ج/ الجواب أن هذا تكلم عليه العلماء وذكروا فيه تفصيلا، قالوا هذا له حالان:
الحال الأول أن يكون هذا الذي يرى معروف بالفسق فهذا إذا رأى مثل هذه المرائي فإنها إنذار له وتخويف ويُخشى أن يفعلها.
وإذا كان وهو القسم الثاني من الصالحين فإن فعله لذلك لا يكون في خاطره فعل بالمحارم أو يدور في ذهنه استحسان المرأة التي هي محرم له أو استحسان الرجال أو أشباه ذلك فإنه يكون دليلا على أنه سيصل هؤلاء؛ لأن الذَّكر من الذِّكر، والصلة من الوصل؛ يعني إذا كان صالحا فإنه سيصلهم ويزيد في صلتهم.
ولا شك أن مثل هذه المرائي ينبغي أن يستعيذ العبد بالله جل وعلا إذا رآها وأن ينفث عن يساره ثلاثا وأن يغير جنبه الذي نام عليه وألا يحدث بها أحدا.
س/ هل زوجة المرتد تطلق من حين ردته ولو رجع بعد ردته بساعات؟
ج/ لا، تطلق إذا حكم حاكم شرعي قاضٍ بردته أما دون ذلك فلا يتفسخ العقد تلقائيا لابد من حكم حاكم.
(37/360)
س/ ما مدى صحة العبارة لكل نبي حوض إلا صالح عليه السلام فحوضه ضرع ناقته؟
ج/ هذه ذكرها بعض من صنّف في السنة كالبربهاري وهو على عهدته فإني لا أعلم لها أصلا.
س/ ما معنى قول شيخ الإسلام في التدمرية وقوله ?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ?[الذاريات:47]، أي بقوة فما معنى تفسير الأيد بالقوة؟
ج/ الجواب أن الأيد هنا هذه مصر آدَ الشيء أو آد فلان يئيد أيدا إذا قوي، وليست جمع يد كقوله جل وعلا ?وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ? يعني ذا القوة ?إِنَّهُ أَوَّابْ?[ص:18] فالأيد هذا مصدر بمعنى القوة، هذا في اللغة ليس جمع يد.
س/ متى يعذر بالجهل وما الضابط في ذلك؟
ج/ هذه لها تفصيل إن شاء الله.
نكتفي لهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ويصلّون ويؤذّنون فإن قال إنهم يقولون: إن مسليمة نبي. قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شَمْسَان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى مرتبة جبَّار السماوات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه ?كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ?[الروم:59].
ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنَّار كلهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب كفر؟
(37/361)
ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياءَ دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل وأنتَ أرحم الراحمين.
أما بعد:
(37/362)
فهذه صلة لما سبق تقريره من كشف شبهةٍ أدلى بها الأكثرون؛ وهي أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلي ويزكي ويصوم رمضان ويحج بيت الله الحرام ويأتي بنوافل الطاعات والعبادات، كيف يُجعل مثل مَنْ عبد اللات والعزى والأصنام ويُكفَّر ويخرج من دين الإسلام ويقاتل إلى آخر ذلك، فأجاب الإمام رحمه الله بما أجاب به في أول الكلام، ثم واصَل أيضا الأوجه التي بها يجاب عن هذا الإيراد أو هذه الشبهة، فقال رحمه الله تعالى (ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلّون ويؤذّنون، فإن قال إنهم يقولون: إن مسليمة نبي. قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شَمْسَان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه: ?كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ?[الروم:59]) خلاصة هذا أنَّ بني حنيفة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكفروا بكل أمور الدين؛ بل كفروا بأنَّ محمدا خاتَمُ الأنبياء والمرسلين فرفعوا مسيلمة الكذّاب إلى مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة، وهذا النوع من كُفرهم تبعه معه أنهم أطاعوا مسيلمة فيما أمرهم به وجعلوا رسالة مسيلمة الكذاب لهم، فمَا أمرهم به ائتمروا به وما نهاهم عنه انتهوا عنه، وهذا هو الذي جعلهم كفّارا وذلك لأنهم جعلوا مسيلمة الكذاب نبيا بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يجعلوا رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمة الرّسالات والاستدلال هذا الذي أوردوه كما قال الشيخ رحمه الله (هذا هو المطلوب)؛ لأن
(37/363)
كفر هؤلاء دون ما يكفَّر به غيرهم من عبدة القبور والأوثان وعبدة الصالحين وعبدة الأولياء وغير الأولياء والأشجار والأحجار؛ لأنَّ من عبد هؤلاء واستغاث بهم وأنزل بهم حاجتَه طلب منه دفع الضر ودفع المدلهمات في الواقع قد رفع منزلة هذا المدفون إلى منزلة رب العالمين، فقتال الصحابة رضوان الله عليهم لبني حنيفة الذين اتَّبعوا مسيلمة الكذاب يدل بدلالة الأَوْلى على أن من رفع شخصا مسلما كان أو غير مسلم إلى مرتبة جبار السموات والأرض في استحقاق العبادة أو الطاعة المطلقة الدينية فإنه أعظمُ كفرا من أولئك الذين لم يشركوا بالله جل وعلا أحدا، وإنما كفروا من جهة أنهم جعلوا مسيلمة نبي؛ لأنهم لم يعودوا إلى عبادة الأصنام وإنما جعلوا مسيلمة الكذاب نبيا لهم وبعد محمد عليه الصلاة والسلام إلى آخر تفاصيل قصتهم، وكذب مسيلمة في نبوته واتباع أولئك له.
(37/364)
فتحصَّل من هذا الإيراد الذي أوردوه ليدلُّوا على أن المسلم الذي يدعو غير الله جل وعلا؛ يدعو نبيا أو يدعو صالحا أنه لا يكفر بدلالة أن أولئك الذين قاتلهم الصحابة ما كفروا إلا بادّعاء نبوة مسيلمة، قلنا: ما هو أَوْلى يدل على أن غيرهم ممن ألَّهوا الأشخاص أعظم كفرا من أولئك، فمن انخرم في حقه الشق الأول من الشهادة وهو شهادة أن لا إله الله لاشك أنه أعظم كفرا ممن انخرم في حقه الإقرار بأنَّ محمدا رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين؛ لأن تأليه الله جل وعلا وحده دونما سواه فرْض ودليله الشهادة، وهذه الشهادة تنفي هذا القِسْم، والشهادة بأن محمد رسول الله تنفي أن يكون أحدٌ نبيا بعد محمد عليه الصلاة والسلام، فدلّ هذا على أن من جعل بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا فهو كافر ومن جعل مع الله جل وعلا إلها يعبده ويرجوه ويستغيث به ويسأله رفع الضُّر وجلب النفع أنه كافر من باب أولى؛ لأن حق الله جل وعلا أعظم من حق خلقه، وهذا الذي ذكره الإمام رحمه الله تعالى وجيه وعظيم من جهة أنَّ حال أولئك هو دون ما نحن فيه.
فالذين اتبعوا مسيلمة الكذاب وأقروا له بالنبوة هم أخفّ حالا ممن ألَّه غير الله وسجد له واستغاث به وتقرَّب إليه رجاءَ شفاعته ليكون له شافعا عند الله جل وعلا وطالبا وداعيا له عند الله جل وعلا فَكُفْر هؤلاء أعظم كفرا من الأولين بدلالة القياس الذي ذكرناه.
(37/365)
ثم أيضا يقال: إنَّ قتال مانعي الزكاة وتكفير الصحابة لمن لم يلتزم وجوب الزكاة لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتال أولئك قتال المرتدين لا قتال البغاة يدل على ما نحن فيه من باب الأوْلى، فإن مانعي الزكاة أكثرهم مرتد على الدين ولهذا سماهم الصحابة رضوان الله عليهم مرتدين، وقالوا في قتال بني حنيفة وفي قتال مانعي الزكاة جميعا قتال المرتدين، ولم يفرقوا ما بين طائفة وطائفة؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الطائفة الممتنعة عن تحريم ما حرم الله جل وعلا أو عن تحليل ما أحلّ الله أو الطائفة الممتنعة عن امتثال ما أمر الله جل وعلا أنه يجب قتالها.
ثم إن كان امتناعها من جهة عدم الالتزام والانقياد فإنها تكفر بذلك، ولهذا نص العلماء على أنه لو اجتمع أهل قرية على أن يتركوا الأذان فإنه يجب قتالهم مع أنَّ الأذان سنة عند كثير من أهل العلم وفرض كفاية عند آخرين، ولو اجتمعوا على ترك سنة من السنن فإنهم يقاتَلون حتى يلتزموها يعني حتى يعملوا بها ولا يجتمعون على تركها، فإنْ كانوا غير منقادين ممتنعين امتناع عدم التزام فإنهم مرتدون بذلك.
ومعنى الممتنعة؛ الطائفة الممتنعة يعني غير الملتزمة، ومعنى الالتزام في هذا الموضع أن يقول: إن هذا الأمر إما الواجب أو المحرم حق في نفسه فهو واجب أوجبه الله أو هو حرام حرَّمه الله؛ ولكن أنا غير مخاطب بهذا يخاطب به غيري من الناس فأنا غير داخل في هذا الخطاب، كما قال مانعي الزكاة: إن هذا طلب الزكاة أن ترسل إلى المدينة هذا لغير أهل نجد لغيرنا -يعني فيما قالوا-.... يلتزموا تجاه الخطاب إليهم، فخرجوا إذن بقولهم عن عموم المخاطبة، وهذا رِدَّة عن الدين لنه انتفى معه شرط الانقياد؛ لأنَّ من شروط لا إله إلا الله الانقياد، ومعنى الانقياد الالتزام بتحليل ما أحلَّ الله يعني باعتقاد حله وأنَّ هذا المسلم مخاطَب بهذا التحريم، وتحريم ما حرم الله باعتقاد حرمته، وأنه مخاطب بهذا التحريم.
(37/366)
فمانعوا الزكاة كانوا على صنفين:
منهم من لم يلتزم؛ يعني امتنع حيث قال إنه غير مخاطب بهذا الحكم، ولا يلزمه أن يعطي الزكاة للخليفة، مع إقراره بأنّ هذا الحكم متوجه إلى غيره، فيقول هذا واجب ولكن أنا لا أدخل في هذا الواجب، فلم ينقد لكل الأحكام؛ يعني لم يجعل نفسه داخلا في خطاب الله جل وعلا للمكلَّفين بأحكام الإسلام، فهذا يسمى امتناع؛ امتناع عن دخوله في بعض أحكام الشريعة، وهذا كفر وردة كما ذكرنا.
ومنهم من مانعي الزكاة طائفة أخرى منعوها للتأويل، فقالوا أهل المدينة ليسوا بحاجة ونحن بحاجة إلى الزكاة فنحن أولى بها.
والصحابة رضوان الله عليهم لم يفرقوا بين هؤلاء وهؤلاء؛ بل جعلوا قتال مانعي الزكاة كقتال المرتدين؛ بل لم يجعلوا المرء من المرتدين الأولين من بني حنيفة أتباع مسيلمة ولا من مانعي الزكاة لم يجعلوه سالما حتى يشهد على قتلاهم أنهم في النار وعلى قتلى المؤمنين أنهم في الجنة.
وهذا يدلّ على أن من لم يلتزم توحيدَ العبادة بمعنى جعل توحيد العبادة حقا؛ ولكن قال نحن غير مخاطبين بذلك لأنَّ الناس لهم كذا وكذا من التأويلات فهذا داخل في جنس هذه المسألة.
ولهذا استدلال الشيخ رحمه الله بالاستدلال الأولوي في محله واستدلال وجيه وحكيم؛ لأن هذه المسألة التي نحن فيها أعظم مما قاتل فيه الصحابة رضوان الله عليهم المرتدين ومانعي الزكاة، فقِتالهم لهم في شأن أقل مما نحن فيه، وليس كل طائفة تترك شريعة من شرائع الله أو شعيرة من شعائر الله فتقاتل تعتبر مرتدة؛ بل تقاتل لتلتزم:
· وقد يكون تركها لعدم الالتزام؛ يعني من جهة الامتناع فتكون كافرة.
· وقد يكون تركها لأجل شبهة أو تأويل لا لأجل عدم الالتزام فلا تكفَّر بذلك.
(37/367)
وإنما يكفر من لم ينقد لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وضابط الانقياد هو ما ذكرتُ لك في أن يكون ملتزما، وبهذا يكون هناك فرق عظيم ما بين الجحد والامتناع، وما بين القبول والالتزام، فالجحد في الحكم على الطوائف يقابله القبول، والامتناع يقابله الالتزام، فالامتناع والالتزام لفظان لدخول المخاطََب في الأحكام الشرعية، والقَبول والجحد لفظان لإقرار المخاطب بالحكم له ولغيره.
فمن أقرَّ بأن هذا الحكم شامل له ولغيره هذا واجب عليه وعلى غيري فهذا يُعتبر قابلا.
وإذا قال: هذا الحكم ليس لي ولا لغيري ليس واجبا فهذا يعدّ جاحدا.
وإذا قال: نعم هذا الحكم واجب أداء الصلوات واجب فرضه الله جل وعلا لكن إنما وجب على طائفة من الناس، وطائفة أخرى لا يجب عليها كحال الذين سقطت عنهم التكاليف وارتفعت أحوالهم حتى لا تؤثِّر فيهم الطاعات في زيادة يقين، فهذا كحال غلاة الصوفية فهذا يكون ممتنعا غير ملتزم.
وهذا قررَّه العلماء في مواطن عدة، وبحثه شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث جيِّد في الفرق ما بين الالتزام والقبول والامتناع والجحد في كلامه على ترجيح الطاعة أو ترجيح الأمر على النهي أو النهي على الأمر في مجموع الفتاوى، وهو مقرر عند كثير من أهل العلم.
(37/368)
إذا تقرر هذا: فمسألة مانعي الزكاة ربما تجد من أهل العلم من يقول إنهم قوتلوا قتال بغاة، ومنهم من قال إنهم قوتلوا قتال مرتدين، وهذا لأجل انقسامهم في أنفسهم فليس الجميع غير ملتزم، ليس الجميع ممتنعا؛ بل فيهم هذا وفيهم هذا؛ لكن الصحابة أجمعوا على قتالهم قتال مرتدين، حتى قال عمر رضي الله عنه ما زلت بأبي بكر لعله أن يترك القتال حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو منعوني عَنَاقا كانوا يؤدُّونها للرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة. قال عمر: فما رأيت إلا أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمتُ أنه الحق. وقاتل مع الصحابة رضوان الله عليهم وأقرّ بذلك.
إذا تقرر هذا فالمسألة التي نحن فيها أعظم وأبلغ من هذه المسائل التي قاتل الصحابة الناس عليها، والتي كفَّروا المرتدين بها.
لهذا نقول من رفع كما قال الشيخ هنا من رفع شمسان ويوسف أو تاج أو صحابيا أو نبيا إلى مرتبة الله جل وعلا فأعطاه صفات الحق تبارك وتعالى في كونه يغيث الملهوف وينيب المضطر وكونه يغفر الذنب وكونه يمنع ويعطي ويتصرف في الملكوت، فلا شك أن هذا أعظم كفرا من الأولين وأن قتالهم بعد إقامة الحجة عليهم أوجب من قتال الأوائل، فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوا من لم يلتزم حكم الزكاة وتأدية الزكاة إلى الخليفة وقاتلوا الطائفة الممتنعة عن هذا الحكم فإن قتال الطائفة الممتنعة عن توحيد العبادة أظهر في البرهان وأوجب.
فهذه الشبهة التي أوردوها هي في الواقع تنعكس عليهم، والحجة لنا فيها وليست علينا؛ ولكن كما قال الله جل وعلا ?كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ?[الروم:59].
(37/369)
قال الشيخ رحمه الله (ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنَّار كلهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم([58])من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أنَّ الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟) هذا جواب أيضا من أجوبة على الشبهة التي أوردوها أولا؛ من أنَّ المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأتى بأركان الإسلام أنه لا يكفر، قال الإمام رحمه الله (ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه) لِم حرَّقهم؟ وحديث تحريقهم في الصحيح، هل حرقهم لأنهم أنكروا أمرا من الإسلام أو أنهم عبدوا الأصنام أو عبدوا الأوثان؟ أم أنهم جعلوا لعلي منزلة الإله؟ فجعلوا عليا رضي الله عنه له ما للرب جل وعلا، ولهذا قال علي رضي الله عنه ورحمه لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قندرة يعني مولاه -هذا في الصحيح- فخدّ لهم الأخاديد وأتى بهم واحدا واحدا ورماهم في النار، وخالفه أكثر الصحابة رضوان الله عليهم في التحريق، ولم يخالفوه في قتلهم، واحتج عليه ابن عباس رضي الله عنه بما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنه لا يُعِّذب بالنار إلا ربُّ النار» لكن هم مجمعون على من ادّعى هذا فهو كافر يجب قتله لأنها ردة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث» وذكر منها «التارك لدينه المفارق للجماعة» فالذي يترك دينه ويرتد فإنه يجب قتله ويحل دمه والصحابة أجمعوا على قتلهم وكفرهم، وحرّقهم علي رضي الله عنه لم؟ لأنهم جعلوا لعلي بعض خصائص الألوهية.
(37/370)
وإذا كان كذلك فهذا الإجماع يمكن أن يسلط على هذه المسألة التي يوردون علينا فيها الشبهات، وهي مسألة هؤلاء الذين يعبدون الطواغيت أو يعبدون الأولياء أو يعبدون الصالحين ويقولون: إنَّ هؤلاء يغيثون، وأنهم يُعطون المرأة الولد، وأنهم يغفرون الذنب، وأنهم يقضون الدَّين؛ بل ربما جعلوا لهم أعظم مما للرب جل وعلا وتعالى وتقدس.
هؤلاء لاشك أنهم مثل الذين حرّقهم علي رضي الله عنه فأولئك ادعوا الإلهية قولا وهؤلاء ادّعوا الإلهية فعلا وعملا حيث جعلوا ما للإله من حقه في عبادته وحده دون ما سواه لهؤلاء البشر.
قال (ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما) اعتقدوا في علي مثل هذا الاعتقاد لا فرق بين هذا وهذا، قالوا علي له صفات الألوهية، وهؤلاء قالوا هؤلاء يغيثون، هؤلاء الموتى يغيثون ويُعطون العطايا ويتصرَّفون في الأرض ويغفرون الذنب، والمرأة الحامل يجعلون لها ولدا إلى آخر ذلك، فإذا تُقُرِّب إليهم أعطَوْا السائل هذا، ومنهم من يعتقد فيهم الاستقلال يعني أنه يعطي استقلالا ويمنع استقلالا ويغفر استقلالا بتفويض الله جل وعلا له وهذه الأمور، ومنهم من يقول لا هو يعطي ويمنع بتوسطه عند الله جل وعلا، مثل ما قال الأولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا.
قال الشيخ (فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أم أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفِّر؟) لاشك أن هذا لا يقوله أحد منهم؛ لأن معناه أن مرتبة تاج وشمسان إلى آخره أرفع من مرتبة علي رضي الله عنه، إذا قالوا إن من اعتقد في علي يكفر ومن اعتقد في شمسان وتاج لا يكفر، من اعتقد في علي يكفر ومن اعتقد في البدوي وفي العيدروس وفي المرغني وفي فلان وفي عبد القادر لا يكفر، لا شك أن هذا معناه رفع هؤلاء عن مرتبة علي رضي الله عنه، وهذا تكفيره من باب أولى.
(37/371)
وهذه الحجة واضحة في الدلالة وواضحة في البيان.
قال الإمام رحمه الله في إيراده للأدلة والتقعيدات على جواب هذه الشبهة (ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلُّهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياءَ دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كُفْرِهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين)، (بنو عبيد القداح) هم الذين يسميهم كثير من المؤرخين الفاطميين ويسمون دولتهم العبيدية الدولة الفاطمية، ونسبتهم إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها أو إلى علي نسبة مرفوضة؛ إذْ إنّ المحققين من المؤرخين غلَّطوا هذه النسبة وقالوا: إن هؤلاء من المجوس ومن الفرس ولا ينتسبون إلى علي رضي الله عنه في النَّسب. ولهذا يُقال لهم العبيديون ولا يقال لهم الفاطميون، فهم بنو عبيد القداح.
وهذا القدَّاح قد نشأ على عقيدة الإسماعيلية ثُم هرب بعقيدته إلى اليمن، وأنشأ فيها دعوة إسماعيلية باقية إلى الآن، وانتقل بعد ذلك لما طلب إلى المغرب الأقصى فابتدأ فيها دعوته وانتقل بعد ذلك وقوي، ثم مع الزمن كثر أتباعه وجنده فبدؤوا بالحروب.
فابتدؤوا من المغرب إلى أن وصلوا إلى مصر واحتلوا كل هذه البلاد وغلبوا عليها، وأقاموا فيها الدولة المسماة بالدولة العبيدية.
والقرامطة نوع منهم من الإسماعيليين، وكان بينهم وبين بني عبيد القداح صلات قوية، وهؤلاء خدموا لهؤلاء؛ لكن حصل بينهم خلاف في آخر الأمر أدى إلى استقلال هؤلاء وهؤلاء.
(37/372)
فالقرامطة هم الذين غزوا البيت الحرام وقتلوا الناس فيه مثل ما قال: كبيرهم أنا الله، والله أنا، يخلق الخلق وأفنيهم أنا. وهذا لأجل اعتقادهم في نوع من الحلول واعتقاداتهم الباطنية كفرهم العلماء بها، ولما وَلُوا مصر وكانت شوكتهم فيها لم يتقدموا إلى الشام ولا إلى العراق، وإنما كانت شوكتهم فيها، ودام حكمهم نحو مائتين من السنين.
ابتلوا العلماء في عقائد باطلة حتى ذكر الحافظ الذهبي في العبر وفي غيره أنهم يأتون بالعالم السُّني فيذكرون له أشياء من عقائدهم الباطنية فإن لم يقر سُلخ جلده أمام الناس؛ يعني أحميت الناس والحديد وسلخ جلده كما تسلخ الذبيحة، وعَظُم هذا في الناس جدا.
وأسسوا للدعوة إلى دين الباطنية الأزهر المعروف الآن، ومضى عليه قرون وهو على طريقة الإسماعيلية ثم بعد ذلك لما انتهت الدولة العبيدية رجع إلى جملة أهل السنة مقابلة طوائف الباطنية.
فكانت عقائدهم في الباطن عقائد إلحادية من جنس الذين حرقهم عليه رضي الله عنه وخدّ لهم الأخاديد.
ومنهم ظهرت النصيرية.
ومنهم ظهر الدروز الذين يؤلهون الحاكم بأمر الله العبيدي.
(37/373)
ويعتقدون ولم يُظهروا ذلك أن الإله يَحِل في الأشخاص وأنه تنقل في سبعة حتى كان آخر هؤلاء السبعة هو الحاكم بأمر الله العبيدي؛ لأنهم يعتقدون في هذا الرقم سبعة وأول ما يدعون حين يدعون إلى الحكمة من الرقم سبعة ويذكرون له -لهم كتب كثيرة ومطبوعة وموجودة بينت مذاهبهم على الحقيقة- يذكرون له الرقم سبعة وما فيه يقولون مثلا هل تعتقد أن الله جل وعلا الحكيم يخلق سبعة سموات ويخلق سبع أراضين، ويجعل أيام الأسبوع سبعة، ويجعل الطواف سبعة، ويجعل السعي سبعة، ويجعل كذا سبعة وسبعة وسبعة، ويترك الأئمة بلا عدد سبعة فلا بد أن الإمامة ستقف عند سبعة؛ لأن الإمامة أعظم من هذه الأشياء فإذا أقر لهم بهذه المقدمة، قالوا الأئمة السبعة آخرهم إسماعيل لأن الرافضة افترقوا فرقتين فرقة يعني أبناء جعفر الرافضة بعد جعفر الصادق افترقوا فرقتين فرقة تسمى الجعفرية وفرقة تسمى الإسماعلية.
وكانت القاعدة في بنيهم -لو فصلنا بعض الشيء- كانت القاعدة في الإمامة فيهم أن الإمام هو الولد الأكبر بعد الإمام الذي قبله، وكان جعفر الصادق الإمامة منعقدة عند الرافضة والشيعة له، وكان ولده الأكبر اسمه إسماعيل وولده الأصغر اسمه موسى، فغاب إسماعيل في حياة والده جعفر الصادق في نحو ثمان وأربعين ومائة ذهبت به أمه وغابت به؛ لأن الذين كانوا يحبون أن تكون الولاية في موسى كادوا لأمه في قصة تاريخية، المهم أنها هربت وغاب إسماعيل عن الناس، فلما غاب إسماعيل مات جعفر الصادق رحمه الله تعالى وهو من العلماء الأخيار والفقهاء، لما مات رحمه الله جعفر الصادق اختلفوا من الإمام بعده؟ فقالت طائفة القاعدة أن الإمام هو الولد الأكبر فإسماعيل هو الإمام، وقال آخرون إسماعيل أمره هل نُبقي الناس بلا إمام؟
فمن قال ببقاء الإمامة في الولد الأكبر وأن إسماعيل هو الإمام وأنه هو المستحق سنقف بالإمامة حتى يرجع، سمي هؤلاء إسماعيلية.
(37/374)
ومن قال بإمامة موسى إذ إن الابن ألأكبر في جعفر مات أو انقطعت أخباره سُمُّوا موسوية.
ولهذا تجد أن الرافضة الاثني عشرية يركزون على نسبتهم إلى الاثني عشرية الموسوية الجعفرية، فبنسبتهم إلى جعفر يخرجون عن أهل السنة، وبنسبتهم إلى موسى يُخرجون الإسماعيلية، وبنسبتهم إلى الأئمة الإثنا عشر يخرجون كثيرا من طوائف الشيعة التي كانت في الزمن الأول لا تقول ببقاء الإمامة في اثني عشرة فقط بل تتسلسل وآخر أئمتهم العسكري، حصل له مثل ما حصل لإسماعيل في الاختفاء.
حصل للطائفتين اعتقادات مختلفة في أن هذا الغائب هو المهدي المنتظر.
فالإسماعيلية اعتقدوا في إسماعيل وأنه هو الإمام المنتظر فدعو في مواجهة الموسوية إلى نحلتهم سرا، فأصبح لهم عقائد باطنية مختلفة، وأصبح لهم تفسيرات غير ظاهرة، فهم من جهة تفسير النصوص أكثر غلوا من الرافضة؛ لأنهم يجعلون لكل نص ظاهرا وباطنا، فالظاهر للعامة يعني للسنة، والباطن لأهل الحكمة وهم الإسماعيلية.
فبنو عبيد القداح لما أقاموا دولتهم دعوا في الباطن إلى نحلتهم، بتفاصيل الأحكام الشرعية التي هي عند الإسماعيلية، ومعلوم أن حكم الإسماعيلية من جهة الفقه خارج عن نصوص الكتاب والسنة، فمن جهة فهمهم للأدلة واستنباط الأحكام من الأدلة إنما هو بالاعتقادات الباطنة؛ لأنهم جعلوا لكل نص ظاهرها وباطنا، كذلك عندهم نصوص من الأثر الذي يعتمدون عليه خلاف ما عند السنة.
فصار أمرهم إذن نبذ أحكام كثيرة من الشريعة التي جاءت في الكتاب والسنة وقررها أئمة.
فحاصل أمرهم أنهم في الباطن ملاحدة زنادقة، وفي الظاهر دعوا الناس إلى نبذ أحكا كثيرة من الشريعة، وإبطال كثيرا من ألأحكام التي دلت عليها السنة.
فرجع أمرهم إلى أنهم لم يلتزموا أحكام الكتاب والسنة، وامتنعوا عن أحكام الكتاب والسنة في كثير بل في الأكثر من المسائل الفقهية وكذلك العقدية.
(37/375)
فصار إذن حكمهم حكم الممتنعين عن تحكيم الكتاب والسنة في المسائل، وصار حكمهم حكم المشرِّعين الذين أتوا بدين جديد للناس والزموا به الناس، فينطبق عليهم قاعدة الطائفة الممتنعة الذين لم يلتزموا الأحكام الشرعية؛ بل هم أبلغ من غير الملتزمين؛ لأنهم جحدوا الأحكام وعذبوا الأئمة والعلماء في مصر على تلك المسائل.
فإذن قول الشيخ رحمه الله (فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه) يعني بإظهار مخالفة الشريعة يعني أظهروا عدم الالتزام، وأظهروا جحد الشريعة في الأحكام الشرعية التي هي دون ما نحن فيه من مسألة التوحيد والعبادة، ومن عرف حقيقة أمرهم عرف أن كفرهم وقتال العلماء لهم وتكفير العلماء للدولة العبيدية كان من جهة أنها دولة باطنية في عقيدتها مؤلِّهة لغير الله جل وعلا هذا في الباطن، وفي الظاهر أظهروا جحد الشريعة وعدم الالتزام بأحكامها وعدم الانقياد لها بضابط الانقياد والالتزام الذين ذكرتهما لك آنفا.
فلا شك أن من أله غير الله وتوجه إلى غير الله فحكمه الردة أولى من هؤلاء بحسب الظاهر، لهذا قال الشيخ رحمه الله (قد فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه) وهم الذين سنّوا في الناس الموالد المختلفة، فجعلوا لكل ليلة مولدا، هذا مولد لفلان، وهذا مولد لفلان، وهم الذين سنوا السنة السيئة الاحتفال بمولد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وبمولد الحسين، وبمولد فلان وفلان من الأئمة إلى آخر أمورهم.
المقصود أن كفرهم جاء من جحدهم للشريعة وتكذيبهم لتفسير الأئمة للنصوص وتفسيرهم للآيات القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بتفسيرات باطنية مبتدعة، فلا شك أن هذا إظهار للكفر.
قال (أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب)، وقوله (وأن بلادهم بلاد حرب) لأن هؤلاء تغلبوا عليها وحكموها بتلك العقيدة الباطنية والشريعة الإسماعيلية وغلب هذا.
(37/376)
والبلاد التي فيها اختلاط ما بين أحكتم المسلمين وأحكام الكفار اختلف العلماء هل تسمى بلاد حرب أم لا؟
فقالت طائفة: إنها تسمى بلاد مسلمين باعتبار الأصل، دار إسلام باعتبار الأصل، ما لم يغلب حكم الكفر.
وقال آخرون: إنها دار إسلام ما دام يسمع فيها الأذان.
وقال آخرون من أهل العلم: إن دار الإسلام ودار الحرب -يعني البلد التي فيها هذا وفيها هذا- لا يطلق عليها يتوقف في أن يطلق عليها اسم دار الإسلام أو اسم دار الحرب بل يعامل كل فيها بحسبه ولا تعامل معاملة دار الإسلام من كل وجه ولا معاملة دار الحرب من كل وجه في البلاد المختلطة.
وقال آخرون من أهل العلم: إن أحكام الإسلام، إذا غلبت فالدار دار إسلام، وإذا غلبت أحكام الكفر فالدار دار كفر، فالمدار على ما يغلب منهما.
وهذا الأخير يذهب إليه أكثر أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، والذي قبله من أنه لا يعطى هذا ولا هذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن بلد أظنها [دارين] في سؤال بأنها فيها أحكام الإسلام وفيها أحكام الكفرة.
قول الشيخ رحمه الله (وأن بلادهم بلاد حرب ) لأن أحكام غير الإسلام غلبت فيها فأحكام الإسلام لا توجد..... من بلدان المسلمين .
هذا الذي ذكره الإمام رحمه الله تعال واضح الدلالة فيما نحن فيه من أن العلماء لم يجعلوا من أظهر الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وبعض العبادات أنه لا يكفر مطلقا؛ بل نصوا على أنه يكفر في باب حكم المرتد إذا فعل أشياء أو اعتقد أشياء أو قال أشياء، كذلك هذه الأمة حصل منها تكفير لطوائف كفّروا من قال برسالة مسيلمة وقاتلوهم، وكفّروا ما نعي الزكاة غير الممتنعين عن الالتزام بها، وكفروا بني عبيدة القداح لعقائدهم الباطلة وتأليههم لعلي رضي الله عنه وللأئمة، وعلي رضي الله عنه كفر من ألهه وحرقهم بالنار.
(37/377)
فهذا كله يدل بوضوح على أن ما ذكره صاحب الشبهة من أن المسلم الذي يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلي ويزكي ويصوم ويحج أنه لا يكفر بها أن هذا باطل بالأوجه الكثيرة التي أوردها في الدرس السابق وبهذا الدرس.
نقف عند هذا.
[الأسئلة]
س1/ يقول هل لك مؤلف في كرامات الأولياء وهل هو مطبوع أم لا؟ وإذا كان الجواب لا فكيف أستطيع الحصول عليه؟
ج/ كرامات الأولياء فيها كتاب الفرقان لشيخ الإسلام ابن تيمية الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وفيها كتاب كرامات الأولياء للالكائي هو مطبوع أيضا، ولمقدمة المحقق كافٍ في بابه، كتاب النبوات فيه أيضا بحثا كبير للكرامات والكتب التي بحثت هذا كثيرة.
بالنسبة لدرس فتح المجيد الذي أنهيناه بحمد الله ونعمته، نبتدئ إن شاء الله في كتاب آخر ربما الأسبوع القادم نبلغكم إن شاء الله في حينه، يكون في الغالب الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العشاء، الأسبوع هذا ما فيه، نبلّغكم الأسبوع القادم إن شاء الله إن كنا سنبدأ.
س2/ هل كان المرتدين من كان قابلا للزكاة منقادا لها إلا أنه ممتنع عن دفعها للإمام؟
ج/ الجواب السؤال ينبغي أن يكون كالتالي: هل كان من المرتدين من كان قابلا للزكاة منقادا لها إلا أنه ممانع عن دفعها للإمام؟
يعني لفظة ممتنع ليست هي ممانع، ممتنع مصطلح ممتنع يعني غير ملتزم، ممانع يعني منع هذا الشيء لم يفِ به، منع، مثل ما قال الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع خالد زكاة ماله؛ لكن ما امتنع، فالمنع شيء في النصوص وفي كلام أهل العلم والامتناع شيء، منع خالد زكاة ماله قال «فأما خالد فإنكم تظلمون خالدا إنه احتبس أسيافه وأذرعه في سبيل الله» المنع هنا غير الامتناع، المنع يعني يقول: أنا لن أأدي هذه. هذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب والمعاصي، أما الامتناع يقابل الالتزام، لهذا يقول إلا أنه ممتنع ممانع عن دفعها للإمام.
الجواب كما ذكرنا أن مانعي الزكاة على فئتين:
(37/378)
منهم من كان ممتنعا.
ومنهم من كان مانعا.
لكن المانعين قاتلوا مع الممتنعين قاتلوا قتالا واحدا، فلما صاروا يقاتلون الصحابة تحت هذه الراية راية الامتناع عن أداء الزكاة صار لهم حكمهم من هذه الجهة.
أما مسألة المنع فهي غير مسألة الامتناع، فلا يكفر المانع وإنما المانع غير المستجيب الرافض، وإنما يكفر الممتنع غير الملتزم الذي يُخرج نفسه من الدخول في الخطاب التكليفي في هذه المسألة بخصوصها.
س3/ هل هناك فرق بين الطائفة والفرد في هذه الأحكام؟
ج/ الفرق بين الطائفة والفرد في القتال، أما في مسألة الامتناع والالتزام واحد، الطائفة الممتنعة والفرد الممتنع الطائفة التي تقول لا ألتزم بهذا الحكم يخص غيري، والفرد الذي يقول هذا الحكم لا يوجَّه لي وإنما لغيري، الحكم من حيث الردة واحد، أما في القتال فيفرق ما بين الفرد وما بين الجماعة، فالجماعة التي لها منعة تقاتل، والفرد يستتاب فإن تاب وإلا قُتل.
س4/ كيف خفي على جُلهم كفر من لم يلتزم بالزكاة؟
ج/ ما خفي عليهم كفر من لم يلتزم، خفي عليهم أن هل هؤلاء منعوا أو امتنعوا الزكاة أم لا، يعني ما يدرون أوش حقيقة أمرهم. عمر كان يرى أن يرسل إليهم أحد وينظر حالهم.
س5/ على قول أئمة الدعوة أنه إذا غلبت أحكام الكفر على أحكام الإسلام فهي دار كفر؟
ج/ أنا ما قلت قول أئمة الدعوة، أنا قلت إيش؟ أكثر، أكثر أئمة الدعوة في علمي؛ يعني بحسب ما اطلعت على كتبهم، لكن هذا قولهم يعني قولهم جميعا؟ لا؛ أنه إذا غلبت أحكام الكفر على أحكام الإسلام فهي دار كفر.
هنا نقول يعني يشخَّص على بعض بلاد المسلمين، اليوم نقول هنا هل غلبت أحكام الكفر أم لم تغلب هذه يختلف فيها العلماء؟ فالنظر يكون للعالم في تشخيص البلد، هل هذا البلد غلبت فيه أحكام الكفر أم لم تغلب.
(37/379)
الذين سألوا شيخ الإسلام ابن تيمية عن [دارين] أظن قالوا له أن فيها كذا وكذا فما حكمها، ولهذا ينبغي أن يشخص لأهل العلم والفتوى العلم بأحكام المرتد هذه المسائل، والفتوى تكون تبعا لذلك.
س5/ ...
ج/ دار الكفر ودار الإسلام لا علاقة لها بالحاكم، قد يكون الحاكم مسلما والدار دار كفر، مثل النجاشي في الحبشة هو مسلم وداره دار كفر، وقد يكون الحاكم كافرا والدار دار إسلام، إذا كان حصل منه موجب للردة بشخصه، فلا ارتباط بين حكم الدار والحاكم، الحاكم إذا كفر يجب خلعه مع الاستطاعة مع القدرة؛ يعني إذا لم يكن له شبهة أو تأويل كالمأمون ومن بعده.
المهم أنّ حكم الدار لا صلة له بالحاكم:
· قد يكون الحاكم مسلما والدار دار كفر.
· وقد يكون الحاكم كافرا والدار دار إسلام.
· وقد تكون المسألة مشتبهة.
فهذه الأحكام دقيقة، ودائما أوصي الشباب بأن لا يخوضوا فيها؛ لأن الشاب أو طالب العلم المبتدئ ربما خاض فيها من جهة الغيرة، فأثرت غيرته على الحكم، وهذا غير مطلوب بل ينبغي تركه.
س6/ ما أدري هذا السؤال تحبون نقرأه أو لا، على كل حال ينشطكم شوي يقول: إذا جلست على يدي أو رجلي فترة من الزمان فإنها تنام؛ أي لا أقدر أن أحركها وأحس فيها مثل الدبابيس وهناك طريقة لرفعها.
إذا كان فيه طريقة جزاك الله خيرا.
يعني وضع -ما أدري كذا- على الجسم؛ يعني طريقة خاصة به، أنا ما أعرف أن هذه من الطرق الممنوعة. نكتفي بهذا القدر وفقكم الله.
صلى الله وسلم على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
(37/380)
ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يَكْفُرُوا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] والقرآن وإنكار البعث [وغير ذلك]، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (بابِ حكم المرتد) وهو المسلم يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويحل دمَ الرجلِ وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها؛ مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب.
ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم: ?يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، أما سمعت الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و[هم] يجاهدون معه ويصلّون معه ويزكّون ويحجّون ويوَحِّدون؟
وكذلك الذين قال الله فيهم: ?وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66].
فهؤلاء الذين صرّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزْح.
فتأمل هذه الشبهة هي قولهم تكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون.
ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
ومن الدليل على ذلك أيضًا ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع [إسلامهم] وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?[الأعراف:138]، وقول أناس من الصحابة «اجعل لنا ذات أنواط» فحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا مثل قول بني إسرائيل لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا?.
(37/381)
ولكن للمشركين شبهةٌ يُدْلُون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - :«اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا.
فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا [ذلك]، وكذلك الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا [ذلك]. ولا خلاف في أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم -بل العالم- قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أنّ قول الجاهل: التوحيد فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا من المتقين لك، المنيبين إليك، المتوكلين عليك، المؤمنين بك، الصادقين في دينهم يا أكرم الأكرمين.
نسألك الله أن تعيذنا من مظلات الفتن، وأن تجنبنا ما ظهر منها وما بطن وأن تحملنا على الحق وأن تعيننا عليه، وأنت على كل شيء قدير.
أما بعد:
فهذه تتمة للأجوبة التي ساقها إمام هذه الدعوة على الشبهة التي أوردها المشركون الذين عبدوا غير الله جل وعلا ولم يعترفوا بأنهم يعبدون غير الله جل وعلا.
وهذه الشبهة هي قولهم: كيف تكفرون وتحكمون بالشرك على من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلي ويصوم ويزكي ويحج البيت الحرام ويؤمن بما أنزل الله جل وعلا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(37/382)
فأجاب عن هذه الشبهة بأجوبة متعددة، إلى أن قال في جواب هذه الشبهة ولعله يكون الجواب السابع أو الثامن من الأجوبة قال (ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يَكْفُرُوا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (بابِ حكم المرتد) وهو المسلم يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويُحل دمَ الرجلِ وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب.) وتحصيل هذا أن العلماء من جميع المذاهب المتبوعة من الحنفية والمالكية ولشافعية والحنابلة والظاهرية كل هؤلاء من المذاهب المتبوعة الباقية ومن المذاهب المنقرضة أيضا كمذهب ابن جرير ومذهب سفيان ومذهب الأوزاعي ومذهب الليث إلى غير ذلك، هؤلاء عندهم المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قد يكفر بعد إسلامه، وجِماع أنواع الكفر عندهم -يعني عند جمهور هؤلاء- ترجع إلى أربعة:
الأول الاعتقاد.
والثاني القول.
والثالث الفعل.
والرابع الشك.
فيُرجعون جميع أنواع الكفرات إلى أحد هذه الأنواع: إما باعتقاد يضاد لا إله إلا الله محمد رسول الله ولوازم الشهادتين، وإما بقول يضاد الإسلام، أو بفعل يضاد الإسلام، أو بشك فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فمن اعتقد عقيدة تضاد الإسلام من أصله خرج من الدين، ومن قال قولا يضاد الإسلام من أصله خرج من الدين وكفر بعد إسلامه.
ولهذا قالوا باب حكم المرتد وهو المسلم الذي كفر بعد إسلامه، قالوا: ويكفر المسلم -وبعضهم يقول يرتد المسلم- باعتقاد ككذا وكذا أو قول ككذا وكذا أو فعل أو شك، فهذه الأربعة جعلوها أنواعا لأصول المكفرات.
(37/383)
وإذا كان كذلك فإن العلماء بهذا مجمعون على أن من كان مسلما فإنه قد يكفر ببعض ما يَعرض له مما يضاد الإيمان من أصله، أو يضاد الشهادتين من أصلهما، أو يضاد الإسلام من أصله، والجميع بمعنى واحد.
فإذا كان كذلك لم يكن لهذه الشبهة معنى عند الأئمة وعند أتباع الأئمة؛ لأنهم نصوا على كفر المسلم إذا أتى بشيء من المكفرات.
فإذن قولهم لا يكفر من عبد غير الله، لا يكفر من استغاث بالأموات، لا يكفر من ذبح لغير الله، لا يكفر من استعاذ بغير الله بشرطه، لا يكفر من استغاث بالأموات، لا يكفر من استعاذ بالأموات، لا يكفر من توكل على ميت، لا يكفر كذا وكذا لأنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فنقول هذا باطل، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم تتابعوا على نقل الإجماع على أن من اتخذ مع الله جل وعلا وسائط يدعوهم أو يتوكل عليهم فقد كفر إجماعا، وهذا إجماع أقره عليه علماء الحنابلة وطائفة من علماء الشافعية وغير هؤلاء من علماء المذاهب الأخر.
وهذا من الإجماع المعلوم من الدين بالضرورة المعروف؛ لأن معنى التوحيد معنى الشهادتين أن يوحد الله جل وعلا في العبادة، فمن اتخذ مع الله جل وعلا وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم معنى ذلك أنه توجه بالعبادة لغير الحق جل وعلا، ومن توجه بالعبادة لغير الحق جل وعلا فإنه مشرك كافر.
فإذن هذه الشبهة التي أوردوها يقال لهم فيها: ما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد)؟
ولهذا ([59]) من العلم الجيّد أن يفرد من كل مذهب أنواع المكفرات التي يقولها أئمة ذلك المذهب في كتبهم سواء منهم المتأخرون أو المتقدمون، فإنك تجد أن الجميع قد أقرّ بأن المسلم الذي ثبت إسلامه قد ينتقل عنه بنوعٍ من أنواع المكفرات.
قال الشيخ رحمه الله هنا (ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويُحِل دمَ الرجلِ ومالَه) وإحلال الدم والمال بالمكفرات فيه تفصيل:
(37/384)
منها ما يحتاج معه إلى إقامة حجة، ومنها ما لا يُحتاج معه إلى إقامة حجة.
ومنها ما يستتاب فيه، ومنها ما لا يُحتاج معه إلى استتابة.
كمثل المعلوم من الدين بالضرورة يعني الذي لا يحتاج فيه إلى الاستدلال يُعلم ضرورة لا يحتاج إلى إثباته استدلال فيه إذ كل مسلم ثبت إسلامه فإنه يعلم هذه المسائل بالاضطرار؛ يعني علمها لأن أصل دخوله في الدين متوقف عليها، إلا في حالات نادرة من نزعة بدائية بعيدة أو ما أشبه ذلك؛ لكن المسائل المعلومة من الدين بالضرورة يعني التي لا يُحتاج في إثباتها لاستدلال بل هي شائعة في المسلمين مثل وجوب الصلوات الخمس ووجوب الزكاة في الجملة وتحريم الزنى وتحريم الخمر وأشباه ذلك، فإنه لا يحتاج إلى دليل؛ لأن كل مسلم نشأ على الإسلام أو دخل في الدين وفهمه فإنه يقر بوجوب هذه ويحرم تلك المحرمات، فليست مما تقع في الشبهة.
فإذن التكفير قد يكون في مسائل يحتاج إلى إقامة حجة وفي مسائل لا يحتاج معه إلى إقامة حجة، والذي يكفر ويحل الدم والمال هو الحاكم الشرعي -يعني القاضي أو العالم المفتي- فإنه هو الذي يفتي بكفره وحِلّ دمه وماله، وهذا ليس لآحاد الناس لأن التكفير حكم شرعي يُحتاج في إثباته إلى وجود شرائط وانتفاء موانع وإزالة شبهة فيما يُحتاج معه إلى إزالة شبهة إلى غير ذلك، فيُحتاج في ذلك إلى حكم حاكم.
ثم -كما ذكرت لك- منها ما يحتاج فيه إلى استتابة، ومنها -يعني في القتل- ما لا يحتاج فيه إلى استتابة، فلو تاب تكون توبته بينه بين ربه جل وعلا، وأما في الظاهر ففي مسائل لا تُقبل التوبة الظاهرة، وإن كان يجوز أن تُقبل باطنا؛ يعني إذا صدق في توبته.
(37/385)
قال (حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه) وهذا متفق عليه ما بين علماء المذاهب الأربعة والأئمة الأربعة في أنّ الكفر قد يكون بالكلمة دون اعتقاد القلب، فليس من شروط الخروج من الدين أن يعتقد بقلبه، بل يقول كلمة يذكرها بلسانه دون اعتقاد القلب لما دلت عليه فيكون كافرا بذلك، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب ولا يواطئ قلبُه عليها، لأن حماية الشريعة واجبة، ولأن من فعل ذلك فقد ترك التعظيم الواجب، وأصل الديانة والتوحيد هو تعظيم الله جل وعلا، فإذا وقع في كلمة مكفرة فإن بعض الكلمات لا يحتاج معه إلى اعتقاد القلب؛ مثل سب الله جل وعلا أو سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معيّنا أو سب دين الإسلام هكذا بالإطلاق أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يحتاج معه إلى أن يعتقد؛ بل إذا سب الله جل وعلا كفر ولو لم يعتقد، وكذلك إذا سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر ولو لم يعتقد كما حقق ذلك شيخ الإسلام بن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول.
(أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب) هذا من جنس المستهزئين الذين قال الله جل وعلا فيهم ?قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66].
(37/386)
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (ويقال أيضًا) وهذا جواب آخر لأصل الشبهة (الذين قال الله فيهم: ?يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، أما سمعت [أنّ] الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و[هم] يجاهدون معه ويصلّون [معه] ويزكّون ويحجّون ويوَحِّدون؟) وهذا الذي نسبه الشيخ رحمه الله إليهم قد يكون باعتبار الظاهر والباطن جميعا، وقد يكون باعتبار الظاهر؛ فإن العلماء اختلفوا هل هؤلاء كانوا من المنافقين أصلا أو لم يكونوا من المنافقين؟ يعني الذين نزل فيهم قوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) وعلى كلٍّ فإن قوله (وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) حيث جعل الكفر بعد الإسلام والإسلام هو الظاهر، دلّ على أن الكفر حصل منهم بمنافاة ما قالوا للإسلام الظاهر، وهذا يشمَل أن يكونوا منافقين أو أن يكونوا غير منافقين؛ لأن المنافق أسلم ظاهرا ولم يؤمن باطنا، وهو إذا أظهر شيئا مما يخالف أصل الدين يكفر بعد إسلامه، وكذلك إذا كان من غير المنافقين فإن كلمته تلك جعلته يكفر بعد إسلامه.
قال (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وهذا يدل على أن الكفر يكون بالكلمة ولم يُشترط هنا ولا في آية الاستهزاء الاعتقاد، ولهذا بنى العلماء قولهم: إن المسلم يكفر باعتقاد أو قول أو فعل أو شك على أدلة منها كهذه الآية.
(37/387)
قال الإمام رحمه الله (وكذلك الذين قال الله فيهم:?قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ?) أيضا يضاف إلى ما سبق في تقرير الجواب الأول أنه قال جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ)، قوله جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ) دل على أن الكفر معتبر فيه القول، ولو كان يحميهم منه عدم الاعتقاد لنفوا عن أنفسهم الاعتقاد وأقروا بالقول؛ لأنهم يقصدون البعد عن الكفر، فلما لم يحتجوا باعتقادهم الباطن ولا بإيمانهم الباطن دل على حصول الكفر منهم بالظاهر بكلمة الظاهر، فقوله جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ ) احتاجوا إلى الحلف بالله أنهم لم يقولوا؛ لأن الكفر يعلمون أنه يحصل بقولهم، ولو علموا أنهم لو حلفوا بأنهم لم يعتقدوا أو لم يقروا بهذا أو يلتزموه في قلوبهم؛ يعني لو علموا أنهم لو أحالوا على ما في قلوبهم لنجوا لأحالوا على ما في قلوبهم؛ ولكن الله جل وعلا بيّن أنهم حلفوا على انتفاء قولهم أصلا، وذلك لأجل أن يسلموا من الكفر وقد قال جل وعلا بعدها (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ).
(37/388)
(كذلك الذين قال الله فيهم: ?قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66]) ففي هذه الآية (صرح الله جل وعلا أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح)، وهؤلاء كانوا من المنافقين كما قال الله جل وعلا ?يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً?[التوبة:64-66]، فدلت هذه الآيات على أن هؤلاء كانوا منافقين وأن تكفيرهم لأجل ما حصل منهم من الاستهزاء بالله والآيات والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعليق حكم التكفير في الآية بالاستهزاء بهذه الثلاثة دلّ على أن المسلم الذي يُحكم بإسلامه ظاهرا:
· إذا استهزأ بالله فإنه يكفر بعد إيمانه.
· أو استهزأ بآي الله المتلوة -يعني القرآن- فإنه يكفر بعد إيمانه.
· أو استهزأ بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكفر بعد إيمانه.
(37/389)
(قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ) فدل هذا على تغليق التكفير بالاستهزاء بهذه الثلاثة وهي الاستهزاء بالله ويدخل في ذلك السب واللعن واشباه ذلك أو الاستهزاء القرآن بنفس الآيات في الآيات نفسها أو بالآي نفسها أو بسورة من القرآن، أو استهزاء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو سب القرآن أو سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يقبل منه اعتذاره بأنه لم يعتقد أو أنه إنما قالها على وجه المزح واللعب (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، فدل هذا على أن من حصلت منه كلمة الكفر فإنه يكفر بعد إسلامه ويكفر بعد إيمانه، وهذا هو المراد من تقرير هذا الجواب.
(37/390)
قال رحمه الله بعد ذلك (فتأمل هذه الشبهة [و]هي قولهم تكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون. ثم تأمل جوابَها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق) وهذه الأجوبة أظنها تبلغ تسعة أو عشرة التي ذكرها الشيخ رحمه الله في جواب هذه الشبهة، وهي لاشك مثل ما وصفها الإمام رحمه الله أنها (من أنفع ما في هذه الأوراق)؛ لأن الأكثرين ممن أقروا بالتوحيد واعتقدوا صحته صعُب عليهم أن يُخرجوا أحدا ممن أظهر الإسلام عن إسلامه بدعوة غير الله ودعاء الأموات والذبح لهم وأشباه ذلك مما فيه صرْف العبادة لغير الله؛ لأجل أن هؤلاء مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون إلى آخره، حتى إن بعضهم في جبهته أثر العبادة، وحتى أن بعضهم يصوم يوما ويفطر يوما، فيقول كيف تحكمون عليه بالكفر من الدين وهذه حاله وهذا ديدنه في العبادة وفي الطاعة وفي قيام الليل وفي الصيام وفي كثرة التلاوة وكثرة الصلاة لأجل أنه دعا غير الله أو استغاث بغير الله أو اعتقد في الولي الفلاني أنه يملك له نفعا أو ضرا أو أنه يتصرف بشيء من العالم كيف تكفرونه وهو من أهل الصلاح؟ والجواب أن العلماء -كما ذكر- ذكروا أجوبة كثيرة على هذا، وكل مسلم مهما كانت منزلتُه فإنه يكفر بعد إسلامه بالشرك باعتقادٍ باطل أو بقولٍ باطل يضاد الإسلام من أصله أو بعمل يضاد الإسلام من أصله كالسجود لصنم أو رمي المصحف في القاذورات متعمدا عالما وأشباه ذلك، فإنه يكفر بعد إسلامه لأنه فعل هذه الأشياء، والله جل وعلا قال لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو أكرم الخلق ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66]، قال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ ) يا محمد (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، وفسر الشرك بعد
(37/391)
ذلك بقوله (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ)؛ يعني أن من عبد غير الله فهو المشرك الذي حبِط عمله، فقال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)؛ يعني الذين خسروا عبادتهم وخسروا دنياهم وخسروا آخرتهم، (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) يعني اُعبد الله وحده دون ما سواه (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ).
ثم ذكر تطبيقا لهذا الأصل وهو أن المسلم قد يكفر بعد إسلامه بأشياء بمَثَلَين أو حادثتين:
الأولى لأصحاب موسى عليه السلام.
والثانية لبعض أصحاب محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
(37/392)
قال (ومن الدليل على ذلك [أيضًا]) يعني على الجواب الأخير (ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع [إسلامهم] وعلمهم وصلاحهم)، قوله (ما حكى الله تعالى) يعني قصّ، فالحكاية هنا بمعنى القصة، (حكى الله تعالى عن بني إسرائيل) يعني قص الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم هربوا من فرعون وآمنوا بموسى وهاجروا معه وساروا في التيه حنى حصل منهم ما حصل قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?[الأعراف:138]، قال سبحانه ?وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ?[الأعراف:138-139] وجه الاستدلال أن المسلم والمتبع للنبي المؤمن به قد يتخذ إلها مع الله جل وعلا حيث قالوا لموسى عليه السلام (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وهؤلاء فهموا وهم أهل الفهم والإدراك أن طلب العكوف على الأصنام والتماثيل أو على الأوثان أو على القبور أو ما أشبه ذلك أن العكوف عند هذه الأشياء تقربا بأصحابها عبادة وأنه اتخاذ إله مع الله جل وعلا فقال (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا) يعني يعني نتوجه إليه في الأرض كما نتوجه لله جل وعلا في السماء (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) واحد نتوجه إليه في الأرض تمثال أو وثن أو صنم فقال لهم موسى عليه السلام (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فطلبوا فلما أنكر عليهم موسى وعلمهم الصواب عليه السلام تركوا طلبهم ورجعوا إلى توحيدهم.
(37/393)
قال الشيخ رحمه الله وهو المثال الثاني (وقول أناس من الصحابة « اجعل لنا ذات أنواط» فحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا نظير قول بني إسرائيل لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا?) وهذا حديث ذات الأنواط أنه لما خرج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه إلى حنين وجدوا للمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يعني يعكفون ويعلقون الأسلحة رجاء البركة.
وهذان الفعلان وهو العكوف ونوط الأسلحة نوط الأشياء لتنتقل البركة من الشجر إلى الأسلحة فينتفعون بذلك في الدنيا والآخرة جميعا هذان نوعان من العبادة:
· فالعكوف والاعتكاف عبادة مستقلة.
· وطلب البركة والانتفاع في الدنيا والآخرة أيضا عبادة أخرى.
فهؤلاء طلبوا إلها مع الله جل وعلا حبث قالوا للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وذات الأنواط تلك فعل عندها المشركون فعلين:
الأول العكوف.
والثاني تعليق الأسئلة للتبرك بها؛ يعني لينتفعوا بالتبرك في الدنيا لمضاء أسلحتهم، وفي الآخرة بثوابهم على ذلك أو طلب القربى عند الله.
قال «الله أكبر الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده ما قال أصحاب موسى لموسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة» و فدل على أن العكوف عند شيء غير ما أذن الله جل وعلا به وهو البيت الحرام في المساجد عكوف لله جل وعلا يتقرب إلى الله وحده أنّ هذا صرْف للعبادة بغير الله، فمن عكف عند شيء يتقرب باعتكافه وعكوفه عند هذا الشيء فإن هذا شرك أكبر، وكذلك طلب البركة في الدنيا والآخرة جميعا من أحد بفعل من الأفعال فإن هذا شكر أكبر.
هل كفر أولئك الذين قالوا تلك الكلمة؟ قال أهل العلم طلبوا شيئا ولم يفعلوه، فتكفير المشركين حصل بشيئين:
· بالعكوف.
· وبطلب البركة وبنوط الأسلحة بالشجرة.
(37/394)
وهذان الفعلان التكفير بهما والحكم بالشرك بهما راجع إلى العمل، ولذلك من قال هذه الكلمة فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يفعل، فكفر أولئك بالعمل، وهؤلاء لم يكفروا لأنهم لم يعملوا، وطلبهم أُنكر عليهم فرجعوا إلى توحيدهم فلم يحصل منهم ذلك، ولهذا من طلب هذتا الطلب من طلب شيئا أو قال شيئا كُفْرُه بالعمل يعني كفره بشيء ما ولم يحصل منه الفعل فإنما حصل منه القول فقط، فأُنكر عليه أو عُلِّم إن كان جاهلا، قال (إنكم قوم تجهلون)، فرجع فإنه لا يكفر ولا يخرج عن دينه بمقالته، مثل مثلا يقول أحد لماذا لا نذهب إلى الولي الفلاني ندعو عنده ندعوه ونسأله أن يحصل لنا كذا وكذا؟ فبمجرد القول إذا أنكر عليه فالتزم وفهم الصواب ووحد فإنه لا يكفر؛ لأنه بالقول طلب شيئا ومن طلب شيئا كفره بالفعل فإنه لا يُكفر بالقول لأن القول كبيرة وليس بكفر في هذه الصورة .
قال (ولكن للمشركين شبهةٌ يُدلُون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - :«اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا.) وهذا صحيح يعني هذا الإيراد كما ذكرت لكم صحيح لكن ليس على ما أرادوا من لزوم هذا الإيراد على شبهتهم فأجواب الإمام على شبهاهم فقال :
(فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك) فإذن لم يكفروا لا لأجل أنه لا يكفر المسلم؛ ولكن لأجل أنهم لم يفعلوا بل هم قالوا (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا) واتخاذ إله مع الله جل وعلا ينافي لا إله إلا الله.
(37/395)
قال (وكذلك الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا. ولا خلاف) يعني بين أهل العلم (في أن بني إسرائيل [لم يفعلوا ذلك] ولو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف) يعني بين العلماء ([في] أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب) وهذا تقرير عظيم وجيه صحيح متفق كما ذكر الشيخ مع كلام أهل العلم في تقريرهم على الآية وعلى الحديث، فإن أهل العلم مجمعون -كما ذكرت لك- على أن ما كان كفره بالفعل فإن طلبه بالقول دون ممارسة للفعل لا يكفر صاحبه بذلك يعني إذا طلبه .
(37/396)
قال وهذا استطراد من الإمام رحمه الله -هذا استطراد مهم وعظيم- قال (ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها] فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) التوحيد فهمانه يعني فهمنا التوحيد وهذا الاستطراد مناسب جدا لأن قصة بني إسرائيل وقصة من كان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ خرج في حنين وكانوا حدثاء عهد بكفر وكان نهم من طلب ذلك مسلمة الفتح ممن تأخر إسلامهم ولم يعلموا حقيقة الدين بعدُ هذا يفيد شيئا عظيما وهو أن الموحد الذي دخل في الإسلام وهو يعلم معنى كلمة التوحيد قد تقع له بعض الأفراد في التوحيد يجهلها ولا يفهمها فيقع في قول كفري وهو لا يعلم، قال (تفيد أن المسلم [بل العالم] قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها]) وهذا ظاهر فإنهم فلو لم يكن معهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد يكونون يفعلون ما طلبوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأذن لهم به، وهذا راجع في الواقع إلى كثير من اهل العلم ومن المنتسبين للديانة فإنهم على ديانتهم وعلى علمهم قد استحسنوا بعض الأفعال الشركية سواء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بغيره من الصالحين أو الأنبياء كإبراهيم الخليل ونحو ذلك، فدل على أن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة بالإجماع أفضل من علماء هذه الأمة بالإجماع أنهم لما وقعوا في ذلك لا يُؤمن أن يقع فيه من هو دونهم في الرتبة والمنزلة، فإذا وقع فيه عالم لا يقال هذا عالم كيف تقول إنه وقع في ذلك؛ بل نقول قد يقع فيه أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما حصل من أصحاب موسى وحصل من بعض أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم على فضلهم وصحبتهم لكن جهلوا بعض أفراد التوحيد، وإذا جهل فإن التعليم والإنكار على الجاهل والإنكار على المعاند وتعليم الجاهل واجب، ولا يجوز
(37/397)
أن يقال أن العالم لا يخطئ في هذه المسائل البتة؛ بل قد يقع الغلط في هذه المسائل ممن هو في المرتبة العليا في زمنه أو في بلده، وإنما المقصود أن الأمة لا يمكن أن تُجمع على ضلالة فإذا وجد من قام بالحق فبين له أن قوله ذلك يقود إلى باطل أو إلى شرك كفعل بعض المتأخرين حيث ذكروا في كتبهم الفقهية بعض الصور الشركية التي تحستحسن أن تفعل عند قير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يذكرون قد ذكره طائفة من الكبار العلماء في كتب الحج سواء الفقهية المطولة أو المناسك المخصوصة في الحج ذكروا أنهم إذا أتى المسلم قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: يستحب له أن يدنو منه وأن يناديه بقوله:
يا خير من دفن في القاع أعْظُمُه فطاب من طيبه القاع والأكم
إلى آخر الأبيات التي فيها استغاثة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطلب منه، فذكروا أنه يفعل أشياء هي من الشرك بالله جل وعلا لا يقال هؤلاء علماء كيف نقول إنهم استحسنوا هذا الأمر؟ نقول من هو أفضل منهم قد يخفى عليهم ولا يُنقص هذا ن منزلتهم لأن الصحابة الذين قالوا ذلك وطلبوا هذا الطلب الكفري لما أُنكر عليهم وعلموا وتركوا هذا القول وأنابوا هم على منزلتهم وفضلهم وعظم مكانتهم في هذه الأمة وهم خير الناس لأنهم صحبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وقع شيء من ذلك فإن العالم إذا لم يكن داعيا إلى الشرك فإنما وقع هذا في كتبه من جهة الغلط فإنه قد يغلط الكبير قد يغلط العظيم غلطة وأشباه ذلك، وهذا لا ينزل من مرتبته؛ لأن هذا لو قيل به لكان معنى القول بمعدم غلط العالم أنه معصوم مطلقا، والصحابة رضي الله عنهم لم يعصموا وكذلك من بعدهم أولى بأن لا تكون لهم العصمة؛ لكن الإجماع لا تجمع هذه الأمة على ضلالة بل لا يزال في الأرض قائم لله بالحجة يُدلي بالحجة الشرعية الصحيحة ويبينها للناس.
(37/398)
فإذن قوله هنا رحمه الله (ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها] فتفيد التعلم) تفيد التعلم لأن أفراد التوحيد كثيرة وربما سمعتم وقرأتم ورأيتم في هذا الزمن من بعض في هذا الزمن من بعض من ينتسبون إلى الدعوة في بعض البلاد وفي بعض الأمصار من فعلوا أشياء كثيرة وعلموا أشياء كثيرة يريدون نصرة دين الله جل وعلا؛ ولكن عندهم بعض شركيات، تجد عندهم بعض الأفعال أو أقوال التي فيها شرك، كمن استحسن الاستغاثة ببعض الأموات إما بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بأبي بكر أو بعمر وكمن طلب أن يحضلا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتتلى عنده أبيات معينة فيها الاستغاثة به وأشباه ذلك فالداعية وصاحب المقام إذا كان هو يريد نصرة دين الله إذا كان يريد نصرة دين الله فلا يعني أنه لا يقع في ذلك لا يعني أن فيه أن يخاف أشد الخوف أن يقع في الشرك وهو لا يعلم كما قال الشيخ رحمه الله هنا (فتفيد التعلم..... ([60])
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه
أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
(37/399)
العلم هو شفاء الجهل فالتعلم لابد منه ومن قال التوحيد أمر فطري لا نحتاج إلى أن تعلمه ولا إلى أن نبذل فيه الوقت ولا الجهد فهذا جاهل بنفسه وجاهل بحق ربه جل وعلا؛ بل التوحيد يحتاج العبد إلى أن يتعلمه دائما حتى لا يقع في شيء من نواقض ذلك التوحيد، وأعجب ما يكون من ذلك قول إبراهيم عليه السلام لربه في دعائه المخبت المنيب ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ?[إبراهيم:35-36]، فدعا ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام؛ يعني عبادة غير الله جل وعلا، وإبراهيم هو خليل الله، قال إبراهيم التيمي من سادات التابعين رحمه الله تعالى لما تلا هذه الآية قال: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. فالعبد يجب عليه أن يتعلم وأن يخاف ويتحرز فمن علامات سعادة المؤمن وطالب العلم والدعي إلى الله جل وعلا:
أن يكون دائم التعلم للتوحيد والقراءة في مسائله لأنه أعظم حق لله جل وعلا.
والثاني أن يكون دائما خائفا من الشرك ووسائله فيكون متحرزا خائفا.
كما قال الشيخ رحمه الله هنا في وصيته العظيمة (تفيد التعلم وهذا واحد والتحرز وتفيد أيضا معرفة قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فإنه لا يقال التوحيد فهمناه، نريد شيء غير التوحيد؛ لأن التوحيد ينسى وتتشابه مسائله وصور الشرك تتجد مع الأزمنة فلا بد أن يتعلم وتبين مسائله، والشيطان ينسي الناس أصل التوحيد ومسائله حتى يقع في الشرك ولهذا تعلمون حديث ابن عباس الذي في الصحيح صحيح البخاري لما عبد الصالحون من قوم نوح قال ابن عباس في شارة عظيمة قال لما اتخذوا صور الصالحين جاءهم الشيطان إلى آخر القصة -حديث عطاء عن ابن عباس- قال: فلما تنسَّخ العلم عبدت. ففي قوله تنسخ فائدتان:
الأولى أن العلم بعد وجوده قد يذهب وإنما يذهب بإهماله.
(37/400)
والفائدة الثانية أن قوله فلما تنسخ العلم يعني ذهب شيئا فشيئا يدل على أنّ العلم بالتوحيد لا يذهب جملة من الناس، وإنما يذهب شيئا فشيئا لأنه يتنسّخ، ما ينسخ ما يرفع فجأة ولكن يتنسخ شيئا فشيئا يذوب بإهمال الناس وعدم رعايتهم لهذا الأصل العظيم.
قال (تفيد معرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) وهذه الكلمة التوحيد فهمناه قالها بعض تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة قالوها له في درسه.
فإنه لما أتم إقراء كتاب التوحبد وبيان مسائله فأراد أن يعيد الكرة ثالثة أو رابعة.
قالوا له: يا شيخ نريد كتابا آخر، نريد الفقه أو الحديث.
قال: لم؟
قالوا: التوحيد فهمناه نريد علما آخر.
فقال لهم: أنظروني حتى أنظر في هذه المسألة.
فلما أتى بعد بضعة أيام سألهم، جلس في مجلس درسه وبدا على وجهه التكدر جدا.
قالوا له: ما به وجه الشيخ؟
قال: أبلغت بشيء كدرني.
فقالوا له: وما هو؟
قال: بلغني أن بيتا في الدرعية ذبح أصحابُه عند الباب ديكا لأجل نزولهم البيت، أرادوا أن ينزلوا البيت وعند النزول عند الباب ذبحوا ديكا وسال الدم على عتبة الباب، وأنا أرسلت من يتثبت في الأمر، ونقوم في ذلك بما يجب.
فلما أتى من غد قالوا له: ماذا حصل يا شيخ ما الذي صار في هذا الذي...؟
قال: وجد الأمر غير ذلك.
قالوا: ماذا وجدت؟
قال لهم: وجدت أن أهل البيت ما حصل منهم ذلك؛ ولكن فلان وقع على أمه.
قالوا: أعوذ بالله وقع على أمه!! أعوذ بالله وقع على أمه،،،،،،
(37/401)
فالشيخ قال هذه الكلمة منه تعلم أن قول الجاهل التوحيد فهمناه من أكبر الجهل ومكايد الشيطان؛ لأنهم استعظموا كبيرة من الكبائر، وأما الشرك الأكبر بالله المخرج من الملة ما أنكرته قلوبهم، لماذا ما أنكرت قلوبهم هذه الصورة وهو إسالة الدم عند عتبة الباب عند النزول نزول الدار؟ لأنهم لا يعلمون أن هذه الصورة لأجل التقرب إلى الجن لدفع شره أو لدفع شر أصحاب العين الذي هو تقرب بالذبح إلى غير الله الذي هو شرك أكبر بالحق جل وعلا، فاستعضموا كبيرة من الكبائر ولم يستعظموا الشرك الأكبر بالله جل وعلا، كما يحصل وترون ذلك من بعض الجهلة من أنهم إذا رأوا بعض الكبائر تغيضوا وقاموا وقعدوا، وأما إذا سمعوا بالشر الأكبر بالله جل وعلا وفلا يتحرك لهم ذلك، وتجد أنهم إذا تحرك أو سمعوا ببعض المنكرات في الأخلاق أو الزنا أو وسائل الزنا في بعض البلاد أو تبرّج النساء أو بعض الفجور أو بعض الظلم أو نحو ذلك قاموا وقعدوا وأصبحوا يتكلمون؛ لكن الشرك الأكبر بالله كونه يرى قبة تحتها معبود من دون الله جل وعلا أو يرى الناس يذبحون لغير الله جل وعلا أو يقرأ هذا في مجلة او يقرأ هذا في كتاب لا يحرك قلبه لحق الله الأعظم، وهذا دليل جهله، ودليل أنه لم يعرف مصلحة نفسه بأن هذا الجاهل إذا لم يتعلم التوحيد ويتغيض قلبه في حق الله جل وعلا بعيادته وحده دونما سواه فإنه على شر، فإن وجد في نفسه أنه إذا رأى منكرا تغيض وأما إذا رأى الشرك الأكبر بالله جل وعلا لا يتحرك قلبه، فليعلم أنه ما فهم التوحيد ولا عظمم الله جل وعلا حق تعظيمه، وهؤلاء الذين قالوا التوحيد فهمناه هؤلاء جهلة ودخل إليهم الشيطان من أكبر مكايده، كما قال الشيخ رحمه الله وأجزل له المثوبة (فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان). ([61])
(37/402)