وقلوب المشركين كان فيها من الزيغ في الاعتقاد ومن التشبيه ومن نفي الصفات ما فيها ، فالله جل وعلا نفى حتى يخلي القلب من المماثلة ، من اعتقاد المماثلة أو اعتقاد المشابهة ويكون القلب سالما من براثن التشبيه والتمثيل .
ثم أثبت حتى يكون القلب أيضا سالما من التعطيل .
ففي قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? كما يقول العلماء رد على المشبهة ، وفي قوله ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? رد على المعطلة .
فإذن قولهم أن هذا لأجل الاهتمام نقول هذا لغويا ليس بصحيح بل اللغة فيها أن البداءة بالشيء يدل على الاهتمام به هذا صحيح ، ولكن الاهتمام هنا لا يعني أن الاهتمام لأجل أن يكون النفي مفصلا ، لا لأن التجسيم أو التشبيه هذا شر ويجب أن ينفى ، وأما تقديم النفي على الإثبات فإنه لأجل أن التخلية تسبق التحلية .
نكمل إن شاء الله في قوله ?تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجلال وَالْإِكْرَامِ? وما بعدها من آيات الإثبات إن شاء الله تعالى في المرة القادمة .
يقول إذا اجتمعت صفة العفو مع العزة أو القدرة على إنفاذ العقوبة لأحد البشر هل يصح أن نقول إنه عفو كمال ؟
نعم يصح ، تقول هذا عفو كمال بالنسبة للبشر ، فالبشر لهم صفات كمال بقدر ما عندهم ، بقدر ذاتهم ، بقدر ما يناسبهم ، وليست صفة كمال تساوي صفة الله جل وعلا ، فما بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات .
ما حكم القسم بصفة المكر والغضب ؟
ما يجوز القسم بهذه الصفات لأن هذه لا تثبت مطلقة بل تثبت مقيدة .
هل يصح لعن الكافر المعين ؟ وهل ورد ذلك عن السلف الصالح ؟(32/300)
لعن الكافر المعين من جهة الجواز جائز ، الكافر المعين بعينه جائز ، والأفضل تركه هذا هو التحقيق في هذه المسألة والعلماء لهم كلام طويل في لعن المعين ، ففي لعن المعين من المسلمين خلاف و الأكثرون - أكثر أهل السنة والجماعة - على أنه لا يجوز لعن المعين من أهل الفسوق وإن كان يشمله اللعن في العموم ، مثلا يشمله اللعن في قوله ?أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ? لكن لا تخص ظالما بلعنة ، الفاسق يشمله اللعن ولكن لا تخص فاسقا بلعنة ، يعني فاسقا معينا ، ولهذا لما أتي بأحد الصحابة يدعى بعبد الله حمار وقد كان يكثر شرب الخمر فلما أتي به في المرة الثالثة أو الرابعة قال أحد الصحابة (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به) فقال النبي عليه الصلاة والسلام (لا تقولوا هذا فإنه يحب الله ورسوله) فدل على أن المسلم مرتكب الكبيرة لا يلعن بعينه ، لا يخص بعينه ، ومن السلف من أجاز لعن المعين من الفسقة ولعن المعين من أهل البدع وهذا ليس الذي عليه عامة أهل السنة ، وسئل الإمام أحمد فقيل له ألا تلعن هؤلاء يعني رؤوس أهل البدع ؟ فقال متى رأيت أباك - يقول لأحد أبنائه أظنه عبد الله يقول - متى رأيت أباك يلعن أحدا ؟ وهذا في الفاسق المعين من المسلمين ، والكافر كذلك فيه خلاف ، والخلاف أيضا جاري بين أهل السنة هل يلعن الكافر المعين أم يترك لعنه ؟(32/301)
لكن ترك لعنه لا لأجل عدم استحقاقه ولكن لأجل تنزيه اللسان عن اللعن ، وإلا فإن الكافر يستحق اللعن ولكن تنزيه اللسان عن اللعن لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن كفرة بأعيانهم هذا لما حصل لهم من إيذائهم للمسلمين وقتلهم ما حصل كما هو معروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقواما ثم عند كثير من أهل العلم أن هذا منسوخ نسخه قول الله عز وجل ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ? فاللعن للكافر من حيث الجواز جائز لكن المسلم ليس بلعان ولا طعان وليس بفاحش ولا بذيء .
......
تلعن المبتدعة ، نعم ، لكن المعين ما تلعنه ، من لعنه فذلك - يعني فيه من قال بلعنه -، لعن المعين من أهل البعد بشرط كونه مبتدعا ، ووصف البدعة إنما هو لأهل العلم إذا كان عالما يعلم أن هذا مبتدع وحكم عليه بالبدعة يجوز له ذلك عند بعض السلف
أما أن يترك الأمر كل من شاء وصف فلانا بالبدعة ثم لعنه ، هذا لا شك ليس من طريقة أهل السنة والجماعة البتة.
......
ما في بأس اللعنة بدون تعيين
......
إبليس أهل العلم في لعنه على قولين : منهم من يقول لا يجوز لعنه ، ومنهم من يقول يجوز مع الكراهة ، والأفضل ترك اللعن ، ومن أجاز اللعن مع الكراهة استدل بقول الله جل وعلا في إبليس ?وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا (117) لَّعَنَهُ اللَّهُ? والمانعون من لعنه استدلوا بحديث صحيح في الباب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تلعنوا الشيطان فإنه يتعاظم) إذا لعن ، ينتفخ ، يعني أنه صار شيء بحيث أنه يلعن .. والأولى أن لا يلعن ، يعني هذا هو الأولى أنه يترك لعنه .
هل جميع ما نفى الله عن نفسه أثبت كمال ضده في مواطن أخر ؟ أو يكون ذلك أي كمال الضد من اللوازم وإن لم يذكر في مواطن أخر ؟(32/302)
هذا يحتمل ، يحتمل هذا ويحتمل هذا ، يعني بعض ما نفي أثبت كمال ضده مع في الآية أو في موضع آخر ومنه ما يعرف باللازم . نكتفي بهذا القدر .
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين .و صلى الله وسلم على نبيه محمد
نفي الشريك عن
الله تعالى
وَقَوْلُهُ: ?وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا?[الإسراء:111]، ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ?[الجمعة:11]، وَقَوْلُهُ:?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?[الفرقان:1-2]، وَقَوْلُهُ: ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(91)عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?[المؤمنون:91-92]، ?فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?[النحل:74]، ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?[الأعراف:33].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :(32/303)
فهذه الجملة من الآيات فيها معنى التوحيد وفيها نفي الشريك عن الله جل وعلا وفيها تحريم ضرب الأمثال لله جل وعلا ، وهذه الآيات التي فيها نفي الشريك عن الله جل وعلا يراد منها
مع أجناسها وما كان في معناها مما لم يذكره الشيخ رحمه الله يراد منها :
" التنزيه .
" والإثبات .
وذلك لأن التنزيه وحده ليس بكمال ، وكماله - كمال النفي - إنما يكون في الإثبات مع التنزيه. فنفيُ أن يكون لله جل وعلا شريكا في ربوبيته معه كمال حمد الله جل وعلا في ربوبيته .
يعني إثبات جميع أنواع الكمالات في الربوبية لله جل وعلا .
فهنا التسبيح والتنزيه ولهذا أورد الآيات التي فيها التحميد والآيات التي فيها التسبيح .
وآيات التسبيح فيها التنزيه وهو النفي والتخلية ، وآيات التحميد فيها الإثبات .
وهذه قاعدة أهل السنة أنهم يجمعون بين النفي والإثبات .
وعندهم أن النفي مجمل وأن الإثبات مفصل .
فذكر قول الله جل وعلا ?وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا?
ثم قول الله جل وعلا ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ وَهوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر?
فهاتان الآيتان متقابلتان ، الآية الأولى فيها حمد الله والآية الثانية فيها تسبيح الله .
والتسبيح معناه في اللغة وأيضا في القرآن معناه (التنزيه والإبعاد) .
تقول العرب (سبحان فلان من كذا) إذا أرادت أنه بعيد من كذا كما قال الأعشى في بعض شعره:
سبحان من علقمة الفاخر أقول لما جاءني فخره
يعني بعيد هذا ، فالتسبيح معناه الإبعاد والتنزيه عن هذا الشيء :
سبحان من علقمة الفاخر أقول لما جاءني فخره
يعني سبحان الفاخر من علقمة ، يعني يبعد أن يكون ثم مفتخر بعلقمة ، بعيد ذلك
إذا كان كذلك فمعنى التسبيح لله جل وعلا تنزيه الله جل وعلا وإبعاد الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته
ففي معنى ذلك :
" تنزيهه عن الشركة في ربوبيته .(32/304)
" وتنزيهه عن الشريك في ألوهيته .
" وتنزيهه عن الشريك في أسمائه وصفاته .
" وتنزيهه عن الشريك في قضائه وقدره .
" وتنزيهه عن الشريك في حكمه وأمره .
فهذه خمسة أشياء يقابلها الإثبات ، في :
" إثبات جميع كمالات الربوبية لله جل وعلا وهذا معنى الحمد .
" وإثبات جميع كمالات الألوهية لله جل وعلا .
" وإثبات جميع كمالات الأسماء والصفات لله جل وعلا .
" وإثبات جميع كمال القضاء والقدر لله جل وعلا ، يعني القضاء والتقدير .
" وإثبات جميع كمالات الحكم والأمر لله جل وعلا .
هذا معنى الحمد
فإذن في قوله ?وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ? فيها إثبات للكمال في الربوبية ولهذا قال في الآية الأولى جل وعلا قال ?وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا?
فكون الله جل وعلا لم يتخذ ولدا هذا من أسباب حمده جل وعلا
فهو يحمد على كماله في الربوبية وعلى كماله في الأسماء والصفات وعلى وجوب وثبوت جميع أنواع الجلال والكمال له في ذلك .
ولهذا لم يتخذ ولدا .
فلأجل ثبوت الحمد له لم يتخذ ولدا ، لأجل ثبوت الحمد لله جل وعلا لم يكن له شريك .
ولهذا أعظم الكلمات التي تجمع بين هذين الأمرين اللذين يحبهما الله جل وعلا كلمة التسبيح والتحميد (سبحان الله والحمد لله) و (سبحان الله وبحمده) ونحو ذلك مثل ما جاء في الحديث (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) لأنها تشتمل على التنزيه والإثبات .
أيضا من أفراد الإثبات لله جل وعلا أنه قال ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ? وهذه هامة ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ? و ?شَرِيكٌ? هنا نكرة أتت في سياق النفي فيشمل جميع ما يمكن من أنواع الشَرِكَةِ في الملك
والشركة في الملك :
" قد تكون شركة على وجه الاستقلال هذا واحد .
" وقد تكون شركة على وجه البعضية ، يعني لا ينفرد الشريك بملك ولكن يشارك في بعضه.(32/305)
" وقد تكون الشركة بغير ذلك .
فالله جل وعلا نفى جميع أنواع الشركة له في ملكه جل وعلا .
?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ? هذا النفي المتكرر في قوله ?لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ? هذا كله لأجل ثبوت الحمد له جل وعلا
ولهذا قال ?وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي? الحمد للمنعوت بأنه ?لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ?
الولي يعني : الناصر ، والذل يعني : الضعف والاحتياج .
وبعدها الآية ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ?
قال أهل العلم إن التسبيح كما ذكرت لكم هو التنزيه لله جل وعلا عما لا يليق به ولا يليق بجلاله وعظمته
وقوله هنا ?لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ? هذا في مقام التعليل
يعني ثبت التسبيح له لعلة كونه جل وعلا له الملك وله الحمد ، قال ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ وَهوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر? وقوله ?لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ? و ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ? هذه الثلاث من اللامات مختلفة :
فمعنى الأولى ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ? معناها يسبح الله
(سبح فلان الله) ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ? اللام هذه للإخلاص لأنهم يسبحونه لا يسبحون غيره جل وعلا ، وكل ما في السماوات والأرض يسبح الله ?وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ? يعني يسبح الله ?بِحَمْدَهِ?.
قوله ?لَهُ الْمُلْكُ? اللام هذه لام المِلك
يعني هو جل وعلا ذو المُلك وذو المِلك
والمُلك والمِلك نوعان :
المُلك منها المَلِك وهو الذي ينفُذُ أمره في ملكه
وأما المِلك بالكسر فمنها مالك يعني هو الذي يملكه مِِلك الأعيان(32/306)
ولهذا في آية الفاتحة ?مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ? جاءت و ?مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ?
فـ ?مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ? هذا من المِلك و?مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ? هذا من المُلك
والله جل وعلا هو مالكه ليس لأحد فيه نصيب وأيضا هو ملكه الذي ينفُذُ فيه أمره ولا أحد ينفذ أمره فيه يعني في ذلك اليوم .
الثالث ?وَلَهُ الْحِمْدُ? مثل قوله ?الْحَمْدُ للَّهِ? هذه لام الاستحقاق ، وضابطها أنها التي يكون بعدها أو التي تضيف المعاني إلى الذوات .
ولام المِلك هي التي تضيف الأعيان أو الذوات للذوات .
مثلا تقول (الفخر لي) (المجد لفلان) (العز لفلان) هذه كلها معاني ، اللام ، (العز لفلان) (المجد لفلان) (الاجتهاد لفلان) يعني على جهة الاستحقاق .
أما إذا كان قبلها عين ، ذات فهي تجعل هذه الذات مِلكا لمن أضيفت له فتقول (الكتاب لأحمد) يعني مِلكا ، هذان نوعان في هذا السياق .
بقي نوع ثالث وهي لام الاختصاص أو شبه المِلك وهي كثيرة أيضا في القرآن ، ليس هذا محل إيضاحها.
كذلك في قوله جل وعلا ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا () الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ?
هنا قوله ?تَبَارَكَ? هذا لفظ خاص بالله جل وعلا فلا يجوز أن يقال في حق أحد غير الله جل وعلا (تبارك فلان) لأن الله جل وعلا هو الذي له البركة وهو الذي تبارك .
ومعنى تبارك يعني (دام كماله وخيره وثبت واستقر) فمن الذي يدوم خيره ؟
هو الله جل وعلا
ابن عباس قال ?تَبَارَكَ? تعاظم
قال طائفة من المحققين : لا يريد ابن عباس بقوله (?تَبَارَكَ? تعاظم) أنه تفسير للفظ ولكن يقول هي على وزنها من جهة كونها مقصورة لأن الأصل في (تفاعل) أن يكون بين اثنين لا يكون لازما
تقول (تقاتل فلان وفلان) (تشاجر آل فلان وآل فلان) وهكذا ، فتفاعل في الأصل أنها تكون بين اثنين .(32/307)
ابن عباس رضي الله عنه فسرها ?تَبَارَكَ? بمعنى تعاظم يريد أنها لازمة لا يريد معنى كلمة تبارك وإلا فإن البركة معناها دوام الخير وثباته واستقراره .
وهذا مشتق عند العرب من البروك والبِرْكة ونحو ذلك ، والبروك به يستقر البعير ويثبت في مكانه ، والبِرْكة هي التي فيها يدوم الماء ويستقر ويثبت بعد المطر .
إذن هنا ?تَبَارَكَ? فيها دوام الخير وكماله وثباته واستقراره
فنفهم من ذلك أن ?تَبَارَكَ? فيها إثبات جميع الكمالات لله جل وعلا الذاتية وما يفيضه الله جل وعلا على عباده من الخيرات ، ولهذا فيها معنى الإثبات الذي في الحمد ولهذا قال جل وعلا هنا ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ? وإنزال الفرقان الذي هو القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا من أعظم بل هو أعظم الخير الذي أوتيه عليه الصلاة والسلام وهو أعظم الخير الذي أعطيَتْه هذه الأمة ، لهذا ناسب في تنزيله أن يقول ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ? لأن هذا من النعم العظيمة
فدام خير الله وكمل ، الذي صفته أنه ?نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ? النبي ?لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا?
قال هنا ?الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ?
هذه مثل ما سبق في معناها أنها فيها نفي الولد عن الله جل وعلا
ونفي الولد عن الله جل وعلا لأجل كمال غناه وكمال ربوبيته وكماله في أسمائه وصفاته
وكذلك نفي الشريك عن الله جل وعلا في الملك لكماله في ربوبيته وفي أمره وفي أسمائه وصفاته .
كذلك قوله جل وعلا ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?
قوله هنا ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ? كسابقاتها في نفي الولد عن الله جل وعلا
وادعاء الولد لله جل وعلا ادعته طوائف من الناس ، ومن أشهر أولئك :(32/308)
- النصارى في أكثر فرقهم ادعوا أن عيسى ابن لله وولد له ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
- ومنهم اليهود ، فادعت طائفة قليلة منهم أن عزيرا ابن الله ، وليس هذا من القول المشتهر عند اليهود ، يعني في طائفة ليست هي الأكثر بين اليهود .
الله جل وعلا نفى ذلك ونفى أيضا ما تعتقده العرب في الملائكة بأنها بنات الله فقال جل وعلا ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ? فيه رد على النصارى ورد على اليهود ورد على مشركي العرب .
وقوله ?وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ? هذا فيها التنصيص الصريح بنفي إلهية أحد مع الله جل وعلا
وذلك لأن النكرة هنا وهي (إِلَهٍ) جاءت في سباق النفي وجاء قبلها حرف الصلة الذي هو (من).
حرف الجر (من) هذا الذي هو مزيد قبل النكرة في سياق النفي ليفيد نقل النفي من ظهوره في العموم إلى كونه نصا في العموم ، يعني لا يستثنى من ذلك شيء .
قوله ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ? كذلك هذا نفي لجميع الولد ، لكن لو قال مثل ما في المواضع الأخرى ، لو كانت كل المواضع (لم يتخذ ولدا) لكان هذا ظهور في العموم يحتمل أن يستثنى منه بعض الحالات
يحتمل وإن كان الاحتمال مرجوحا ضعيفا كما هو مقرر في الأصول
لكن قوله هنا ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ? في زيادة (من) قبل النكرة في سياق النفي يفهمنا أن المواضع التي نفي فيها الولد عن الله جل وعلا أن المراد منها التنصيص الصريح على نفي الولد وهذا لا يخرج عنه أحد ولهذا شملت جميع أولئك .
كذلك قوله ?ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ? والإله هو المعبود كما هو معلوم لكم وقررناه أكثر من مرة ، الإله فعال بمعنى مفعول معبود لأنه مأخوذ من الألوهة والألوهة بمعنى العبادة أو العبودية .
من له الألوهة ؟ من له العبادة ؟ من له العبودية ؟
هي لله جل وعلا
إذن قوله ?وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ? يعني لم يكن معه أحد يستحق أن يعبد .(32/309)
ثم قال جل وعلا ?إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ولعلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ?
إذا كان ثم أحد يصح أن يكون إلها فلا بد أن يكون مالكا ولا بد أن يكون خالقا لما ملك
فالله جل وعلا قال في هذه الآية ?إِذًا? يعني لو كان ثم إله معه لكان هذا الإله مالكا لشيء وإذا كان مالكا لشيء فهو خالقا له ولهذا قال ?إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ? فصار عدة أنواع من الملكوت وكل ملكوت له خالق وكل خالق يعبده من في ذلك الملكوت .
وهذا من أعظم الفساد الذي يكون وهذا هو الذي نفي في آية الأنبياء .
قال سبحانه هنا ?وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ? وهذا لأجل أن الألوهية والربوبية - لأن الخلق من أفراد الربوبية
الخلق والرَّزق والإحياء والإماتة من أفراد الربوبية
فهنا قال ?إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ? وذلك لما بين الألوهية والربوبية من الترابط
فالألوهية متضمنة للربوبية والربوبية مستلزمة للإلهية ، يعني من كان إلها فهذا متضمن
يعني كونه إلها ، كونه اعتُقد فيه أنه إله أو ادعى أنه إله - يتضمن هذا الادعاء أنه رب أنه خالق وأنه مالك على وجه الاستقلال متضمن له
لأن ثبوت الإلهية يعني ثبوت استحقاق العبادة لا يكون إلا بعد ثبوت الربوبية
وأما الربوبية فهي مستلزمة للإلهية ، ولهذا تجد في آيات القرآن أن الله جل وعلا يحتج على المشركين فيما أنكروه من توحيده جل وعلا في إلهيته وأنه لا إله غيره
يحتج عليهم فيما أنكروه بما أقروا به وهو توحيد الربوبية من مثل قول الله جل وعلا ?وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ?(32/310)
فأثبت أنهم يقرون بتوحيده في ربوبيته وفرع عليها ، رتب عليها ما يلزم من ذلك وهو أن يفردوه في إلهيته ، وكذلك قوله تعالى ?قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ? هذه جميعا أفراد الربوبية ، ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?
فلما قامت عليهم الحجة في الربوبية قال جل وعلا لنبيه ?قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ? والفاء هذه عاطفة لما بعدها على جملة محذوفة قبلها بعد الهمزة دل عليها السياق
يعني : أتقرون بأنه واحد في ربوبيته فلا تتقون الشرك به ?قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ?
يعني فذلكم الإله المستحق للعبادة وحده ?فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ?
لهذا قال جل وعلا في هذا بعد أن نفى الشريك ذكر التسبيح
قال ?سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ?
يعني تنزيها لله عن كل ما وصفه المشركون .
?عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?
فنزه الله جل وعلا نفسه وعالى جل وعلا نفسه عما ادعاه المشركون .
قال جل وعلا بعد ذلك في الآية الأخيرة التي ساقها شيخ الإسلام ?فلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لأ تَعْلَمُونَ?
(لا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) الأمثال جمع مثل وهي النعوت والأوصاف والأقيسة
وذلك أن المشركين عبدوا غير الله بالقياس على عبادتهم لله
فعبدوه بالأقيسة وجعلوا الخلق مثلا وضربوا لله جل وعلا نعوتا وأوصافا من عندهم وأمثالا شبهوها حتى تستقيم عبادتهم للأوثان والأصنام .(32/311)
فقوله هنا ?فلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ? يعني فلا تجعلوا لله النعوت والأوصاف والأمثال والتشبيهات وذلك لأنكم جاهلون بما يستحق الله جل وعلا وما يجب تنزيهه عنه
وعلل ذلك النهي بقوله ?إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون َ? لما تقرر أن (إن) وما دخلت عليه إذا أتت بعد النهي أو الأمر فإنها تفيد التعليل
فإذن لماذا نهوا عن ضرب الأمثال لله ؟ لماذا نهي كل الخلق عن أن يضربوا لله الأمثال ؟
نهوا عنها لأنهم لا يعلمون
والذي يعلم ما يجب له وتفاصيل ما يستحق وما يصلح له من الأمثال وما لا يصلح هو الله جل وعلا لهذا قال ?إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ?
ثم بعدها ضرب الله جل وعلا الأمثال التي تصلح له جل وعلا بقوله ?ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا? إلى أن قال في الآية بعدها ?وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?
......1
فيها شيئان : فيها تنزيهه جل وعلا عما ادعاه المشركون لأن المشركين فيما ادعوه لله ضربوا الأمثال فهذه الآية جعلها شيخ الإسلام بعد الآيات السابقة لأنها في معنى التسبيح ، الله جل وعلا نزه نفسه عما قاله المشركون ومن ضمن ذلك أنه نهى أن تضرب له الأمثال لتنزيهه جل وعلا وتسبيحه عما ادعاه المشركون فيه جل وعلا .(32/312)
وفي الآية الأخيرة قال ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لأ تَعْلَمُونَ?
هذا من جنس الآيات التي قبلها فالمشركون قالوا على الله بغير علم وقاسوا الآلهة على الله وقاسوا ما تستحقه الآلهة على ما يستحقه الله فجعلوا بعض خصائص الألوهية لهذه الآلهة من البشر والحجر ومن الصالحين وغيرهم .
هذه الآيات كما ترى فيها نفي الشريك عن الله جل وعلا وهذا محتمل :
" لنفي الشريك عنه في ربوبيته .
" ونفي الشريك عنه في إلهيته .
" ونفي الشريك عنه في أسمائه وصفاته .
" ونفي الشريك عنه في قضائه وقدره .
" ونفي الشريك عنه في حكمه وأمره .
وهذه كلها جاءت مفصلة في القرآن هذه الخمسة التي هي أصول معاني التسبيح والتحميد
……
?فلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ? هذا كما سبق في الآيات فيه التسبيح وفيه التحميد ، ذكرت أولا أن فيه التنزيه وهذا هو مقام التسبيح
فيه تنزيه الله جل وعلا لأن المشركين ضربوا الأمثال ولم ينزهوا الله جل وعلا ولم يسبحوه يعني أبعدوه عن كل نقص ولم ينزهه عن نقص بل جعلوا لبعض المخلوقين ما لله جل وعلا ففاتهم التنزيه فضربوا الأمثال فوقعوا في أنهم جعلوا بعض خلق الله كالله جل وعلا في ما يستحق وما لا ينبغي معه
والثاني إثبات الكمالات التي هي الحمد وأن المشركين لم يثبتوا ما يستحق الله جل وعلا من الكمالات فلذلك المشرك ليس بمسبح ولا بحامد لله جل وعلا على وجه الكمال
من الذي يسبح الله ويحمده على وجه الكمال ؟(32/313)
هو المؤمن ، المسلم ، أما المشركون فقد يسبحون الله في بعض الأمور ، ينزهون الله في بعض الأمور ويشركون به في بعض آخر فمثلا : إذا أتى في الربوبية ينزهون الله عن الشريك ، في القضاء والقدر ينزهون الله عن الشريك ، لكن في الأسماء والصفات لم ينزهوا الله عن الشريك لم يسبحوه جل وعلا عن الشركاء ، كذلك في الألوهية عبدوا معه غيره كذلك في الحكم والتحاكم والأمر لم ينزهوا الله جل وعلا عن أن يكون معه أحد يشترك معه في تشريع الحكم كما قال سبحانه ?إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ? .
فهذان الشيئان ، وكل هذين الأمرين يعني كونهم لم يسبحوا ولم يحمدوا هذان الأمران لأجل أنهم لا يعلمون فإذن العلم فيه إثبات التسبيح والحمد لله جل وعلا على أكمل الوجوه .
التحميد كما ذكرت لكم إثبات الكمالات في الربوبية والألوهية ، والربوبية ليس هو الذات فقط
فيها أشياء ذاتية وفيها متعدية ، مثل الخلق متعدي ، الإحياء متعدي ، الإماتة ، إلى آخره
ففيها متعدي ...
إثبات استواء
الله على عرشه
وَقَوْلُهُ: ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?([3]) فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ:
فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ؛ قَوْلُهُ: ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?[الأعراف:54].
وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?[يونس:3].
وَقَالَ فِي سُورَةِِ الرَّعْدِِ: ?اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?[الرعد:2]
وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5].(32/314)
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ?[الفرقان:59].
وَقَالَ فِي سُورَةِ آلم السَّجْدَةِ: ?اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?[السجدة:4].
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?[الحديد:4].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الآيات هي معطوفة على ما سبق الاستدلال به من آيات على إثبات الصفات لله جل وعلا
ومن الصفات المثبتة لله جل وعلا صفة الاستواء على العرش .
والاستواء على العرش ذكر في مواضع عدة من كتاب الله جل وعلا مثل ما ذكر لكم في هذه المواضع السبعة .
وكونه يتكرر في هذه المواضع باختلاف أيضا في التقديم والتأخير ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? وآية طه ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى? وآية سورة الفرقان ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ? يعني ثم استوى الرحمن على العرش ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فاسأل به خبيرا? .
فإذن تنوعت الآيات من حيث التركيب في الدلالة على هذه الصفة
ولهذا هذا اللفظ ?اسْتَوَى? هو من الاستواء ، والاستواء معروف معناه في اللغة
ولهذا لما كانت هذه الصفة فيها إثبات بوضوح لصفات الله جل وعلا وفيها عند المبتدعة ما يُتَوَهَم فيه المماثلة أو مشابهة المخلوقين كانت هذه الصفة فاصلة بين أهل السنة وبين غيرهم .
فالإقرار باستواء الله على العرش حقيقة كما يليق بجلال الله جل وعلا وعظمته هذا لا يقول به إلا سني .
وأما غير أهل السنة كالأشاعرة والماتريدية وغير هؤلاء من الفرق فإن هذه الصفة عندهم محل فرقان
فإذا أتى من يثبتها نفوه أن يكون منهم وذلك لأجل الخلاف القديم في هذه الصفة وفي أمثالها .(32/315)
وقد سئل كما تعلمون الإمام مالك عن الاستواء فقال (الاستواء غير مجهول) وفي لفظ آخر قال (الاستواء معلوم) لكن الأشهر (الاستواء غير مجهول) يعني غير مجهول المعنى في اللغة (والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب وإنكاره بدعة وما أراك إلا مبتدعا)
هذه الصفة صفة الاستواء كما قال الإمام مالك (الاستواء غير مجهول) أو (الاستواء معلوم)
يعني في اللغة
فلهذا أهل السنة قاعدتهم في هذه الصفات أنهم يؤمنون بما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات ويفهمون ذلك ويثبتونه على مقتضى اللسان العربي
ومعلوم أن اللسان العربي من حيث فيه المعاني الكلية وفيه المعاني الإضافية
فهناك معاني كلية هذه - بشرط الكلية - لا توجد إلا في الأذهان
يعني أن نتصور معنى عام للاستواء من غير إضافته لأحد
هذا بحث لغوي بحت لكنه في الواقع غير موجود ، فكيف إذن تفسر الألفاظ اللغوية ؟
الألفاظ اللغوية تفهمها العرب وتفسرها بالمعنى العام الكلي الذي يكون في الذهن
وإذا صار مضافا في الخارج إلى لأشخاص فإنه تكون الإضافة فيه بحسب ما يليق بالمضاف إليه .
فمثلا الاستواء ، الاستواء في اللغة معلوم المعنى غير مجهول المعنى ومعناه معنى الاستواء العلو والارتفاع ، فتقول مثلا (استويت على الراحلة) إذا علوت عليها ، الاستواء هو العلو والارتفاع
لكن هذا العلو والارتفاع مضاف إلى أي شيء ؟
علو وارتفاع المخلوق ، علو وارتفاع رجل ، علو وارتفاع صاعد لجبل
هل هو علو وارتفاع الخالق ؟ أي علو وارتفاع ؟
فإذن تفسير الاستواء بالمعنى العام في اللغة هذا هو الذي ينفي التشبيه وينفي التمثيل
لأنه يقع التمثيل إذا سوِّي في الخارج بين من أضيف له الاستواء
فقيل في الرجل استوى والله جل وعلا على العرش استوى
الملك استوى على عرشه والله جل وعلا استوى على عرشه
الاستواء من حيث كونه معنى كليا في الذهن معناه واحد ،(32/316)
لكن إذا أضيف ، إذا خصص به فإن المعنى يختلف ، يكون بحسب من خصص به
وهذه قاعدة مهمة (أن المعاني الكلية تختلف معانيها بالإضافة والتخصيص)
الإضافة والتخصيص إلى من فعل الفعل أو من اتصف بالوصف
فعندنا صفة المحبة ، الله جل وعلا له المحبة والمخلوق أيضا له المحبة
المحبة من حيث اللغة إذا قال ما المحبة ؟
إذا فسرها لغوي بما يجعل في ذهنه أن المراد بالمحبة محبة المخلوق فإنه هنا يغلط
لأن الواجب في تفسير الألفاظ اللغوية أن تفسر بالمعاني الكلية التي لا توجد في الخارج
لكي تشمل جميع الأصناف : تشمل محبة المخلوق تشمل محبة الإنسان الطبيعة كمحبة الرجل للمرأة ، المرأة للرجل محبة الحيوانات الأم لولدها والولد لأمه ، محبة الملائكة ، تشمل محبة الله
هذا المعنى الكلي هو الذي يشمل الجميع ، وإنما يختلف في الخارج باختلاف الإضافة والتخصيص
ولهذا في الاستواء الله جل وعلا أثبت أن بعض خلقه له الاستواء فقال ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?
يعني علوتم وارتفعتم على الفلك ?فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ? .
كذلك في قوله ?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى? يعني موسى عليه السلام ، هنا استوى بلا حرف جر
، لكن من الذي استوى ؟
هنا موسى
انتهى الشريط الحادي عشر من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثاني عشر
في قوله ?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى? يعني موسى عليه السلام ، هنا استوى بلا حرف جر ، لكن من الذي استوى ؟
هنا موسى .
الله جل وعلا أيضا استوى على العرش فقال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى? .
الاستواء من حيث هو معنى كلي هو (العلو والارتفاع) .
إذا أضفته وخصصته فيكون (ارتفاع المخلوق وعلوه بما يناسب ذاته) وإذا أضفته إلى الله صار (ارتفاع وعلو الله جل وعلا بما يناسب ذاته العلية) .(32/317)
ولهذا من القواعد المقررة عند أهل السنة في هذا أن [ الفرق بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات ] .
الفرق بين صفة المخلوق وصفة الله إذا اشتركا في أصلها الفرق بينهما كما الفرق بين الذات والذات .
ولهذا شيخ الإسلام في التدمرية وفي كتبه الكبار يقول : لا توجد فرقة من الفرق التي ظهرت في هذه الأمة تنفي عن الله جل وعلا جميع الصفات ولا تثبت له صفة واحدة ، ما يوجد ، بل أغلا الفرق هي الجهمية ، والجهمية تثبت صفة واحدة وهي صفة الوجود - وهذا نؤصل لك المسألة ونفصل الكلام عن الاستواء إن شاء الله في الدرس القادم - الجهمية تثبت صفة واحدة وهي صفة الوجود ، هناك المعتزلة يثبتون ثلاث صفات ، الأشاعرة المتقدمون يثبتون سبع وبالتفصيل تصير عشرين ، الماتريدية ثمان ويزيدون على ذلك ، وأهل السنة والجماعة يثبتون جميع الصفات .
يقول : لا يوجد أحد ينكر جميع الصفات بمعنى لا يثبت صفة واحدة ، الجهمية وهم الغلاة يقولون له صفة الوجود ، ما صفة الرب ؟ ما صفة إلهكم ؟ ما صفة الله عندكم - يعني عند الجهمية - ؟ فيقولون صفته الوجود المطلق .
فيقول شيخ الإسلام في كتبه وهي حجة دامغة يقول : إذا كان كذلك فيُلْزَم كل من أنكر صفة لمعنى المماثلة والمشابهة والتجسيم أن يقولها فيما أثبت من الصفات .
فمثلا عندك الجهمية يقول : اطعن على الجهمي بصفة الوجود ، فيقول ألست بموجود يا جهم
تخاطب الجهمي تقول يا جهمي ألست بموجود ؟
الله موجود ، أليس في هذا تمثيل ؟
فلا بد له أن يجيب بقوله ، ليس له محيد عن جواب واحد وهو أن يقول: وجود الخالق غير وجود المخلوق لأنه ليس ثم حيلة إذا نفى حتى صفة الوجود عن الله صار عدما إله معدوم ، هذا ما يقوله عاقل .
فهم نفوا جميع الصفات لأجل التمثيل وقالوا الوجود هذا لا بد منه لأنه ما يستقيم إلا به .
يقول تبدأ معه بالطعن بهذه : ما الفرق بين ما أثبتَّ وما نفيت ؟(32/318)
تذهب إلى المعتزلة كذلك في تفصيل هذه المسألة : ما الفرق بين إثباتك الحياة ونفيك ذلك ، .... أو القدرة ونفي بقية الصفات ؟
يقول له قدرة تناسبه ، دل العقل على ذلك وأما قدرة المخلوق فتناسبه .
نقول هذه قاعدة في جميع الصفات يجب أن تُطْرَد .
فيكون هنا الكلام إذن على أن القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه وينهج فيه منهاجه ، يعني كالقول في الذات .
كما أن إثبات الذات لله جل وعلا هو إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، كذلك [ الفرق بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات ] .
هذه قاعدة أخرى وهذه القواعد مما ذكرها الخطابي في كتبه معالم - .. في كتابه في التوحيد يعني سلك به مسلك الأشاعرة لكنه قعد تقعيدات جيدة أظنه معالم أصول الدين أو نحو هذه الكلمة -
المقصود قعد فيها قواعد وأهل السنة استفادوا هذه التقعيدات منه لأنها تقعيدات صحيحة .
الفرق بين الصفة والصفة كما أن الفرق بين الذات والذات .
الله جل وعلا هو المَلِك وأثبت أن بعض خلقه ملك فقال ?وَقَالَ الْمَلِكُ? .
الله جل وعلا سميع بصير كذلك بعض خلقه سميع بصير .
فإذن الفرق بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات .
صفة الاستواء من الصفات التي وقع فيها الاشتباه معناها هو العلو والارتفاع على العرش ، علو خاص وارتفاع خاص .
العلو صفة ذاتية لله جل وعلا لا تنفك عن الله جل وعلا .
العرش الله جل وعلا لم يكن مستويا على العرش يعني لم يكن عاليا ومرتفعا على العرش علوا خاصا
هو له العلو المطلق الذي هو صفة ذاتية .
لكن العلو الخاص والارتفاع الخاص على العرش هذا لم يكن مستويا عليه جل وعلا ثم استوى ، وهذا لأجل أن الأدلة التي فيها الاستواء في أكثرها ذكر (ثم) ومن المعلوم أن (ثم) هذه للتراخي تفيد أنه لم يكن كذلك ثم كان كذلك .(32/319)
لهذا صفة الاستواء على العرش معناها أن الله جل وعلا قد علا وارتفع على عرشه علوا وارتفاعا خاصا وإلا فإن صفة العلو له جل وعلا على وجه الاطلاق .
نقف عند هذا القدر ونكمل إن شاء الله في الأسبوع القادم ...
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ، اللهم بصرنا بالحق ومن علينا باتباعه وبصرنا بالباطل ومن علينا باجتنابه ، اللهم إنا نعوذ بك من الحَورِ بعد الكَورْ ، ونعوذ بك أن نَضِل أو نُضَل أو نَزِل أو نُزَل أو نجهل أو يُجهل علينا ، أما بعد :
فهذه الجملة من الآيات فيها إثبات صفة الاستواء ، استواء الله جل وعلا على عرشه .
وهذان الأمران الاستواء والعرش قد خالف فيهما أهلَ السنة والجماعة من خالف .
ففي عقائد المبتدعة الاستواء عندهم ليس هو الاستواء عند أهل السنة ، وكذلك العرش عندهم ليس هو العرش عند أهل السنة والجماعة .
هذه الآيات فيها إثبات الاستواء ، استواء الله جل وعلا على عرشه .
والعرش الذي استوى ربنا جل وعلا عليه هو مخلوق من مخلوقاته العظام وصفه الله جل وعلا بصفات في كتابه كقوله في وصفه إن العرش عظيم في قوله ?رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ? ووصفه بأنه كريم في قوله ?رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ? ووصفه بأنه مجيد ، وهذه الصفات لها معاني .
كذلك وصف الله جل وعلا عرشه العظيم الكريم المجيد .
وصف عرشه بأنه يُحمَل فقال جل وعلا ?وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ? .
ووصف جل وعلا أيضا عرشه بأنه يطاف به وأن حوله الملائكة قال سبحانه ?الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا? .(32/320)
وفي السنة جاء وصف العرش بأن له قوائم وأنه يُحمَل كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يصعق الناس فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ أو قال باطش بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جُوزِيَ بصعقة الطور) ونحو ذلك من الأحاديث والآيات التي فيها وصف العرش بأنه من جنس العروش التي تُعْهَد للملوك .
وهذا هو الذي تقتضيه اللغة ، فإن العرش في لغة العرب هو (سرير المَلِك) .
يعني في اللغة : (المكان أو الكرسي الذي يجلس عليه الملك إذا أراد مقابلة من يدخل عليه)
وهذا جاء في قصة بلقيس حيث قال جل وعلا ?وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ?
وقال جل وعلا ?وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا? .
إذا تبين لك ذلك فإن العرش في لغة العرب سمي عرشا لعلوه على غيره .
فإن التَعَرُش وعَرَش فلان بمعنى رفع فلان .
(عرش فلان اللحم) إذا رفعه فأكله .
وعرش فلان بيته إذا رفعه ، والعريش سمي عريشا لأنه معروش مرفوع ، وقد قال جل وعلا ?وَمِمَّا يَعْرِشُونَ? يعني ومما يرفعونه مما يبنون .
فأصل هذه المادة في لغة العرب راجعة إلى الارتفاع ، وسمي العرش الذي هو سرير المَلِك سمي بذلك لارتفاعه إذ الملك يجلس عاليا على من حوله وهذا معنى هذا اللفظ في لغة العرب .
ووصْفُ العرش في القرآن وفي السنة بأن له قوائم وأنه يحمل وأنه عرش عظيم وأنه مجيد وأنه كريم
هذه الصفات تقتضي أنه فاق العروش في بهائه وحسنه وعظمته .
فقوله جل وعلا ?رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ? في آخر سورة المؤمنون ?فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ?
بالرفع في سورة المؤمنون ?رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ? وهو جل وعلا رب العرش العظيم قال ?فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ? .(32/321)
ومعنى كون عرش الله كريما ، كريم يعني (فاق جنس العروش في صفات الكمال) .
فالعروش المعهودة لها صفات وعرش الرحمن هو أكرم تلك العروش ، يعني هو الذي فاق تلك العروش في صفات الكمال ، إذ الكرم في لغة العرب معناه (أن يفوق من وصف به غيره الذي من جنسه في صفات الكمال) فيقال فلان كريم إذا فاق غيره في الصفات ، صار يبذل نفسه يبذل ماله ، يطعم ، صاحب نجدة ونحو ذلك هذا يقال له كريم يعني كثرت فيه الصفات التي تميز بها عن غيره.
فإذن عرش الله جل وعلا كريم .
فوصْفُهُ بأنه كريم في قوله ?رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ? وصْفُهُ بأنه كريم يقتضي أنه من جنس العروش لأن الكريم في لغة العرب هو الذي فاق جنسه في صفات الكمال .
والعرش من صفته في اللغة أنه عال فكذلك عرش الرحمن .
عرش الرحمن موصوف بالعلو .
ولهذا قال أهل العلم على ما جاء في السنة إنه - عرش الرحمن - هو فوقُ الجنة يعني سقف الجنة ، وأن عرش الرحمن عال على السماوات وعلى الكرسي فهو أعلى المخلوقات ، فليس ثم شيء من المخلوقات أعلى من عرش الرحمن ، وفوق العرش رب العالمين جل وعلا .
إذن نصل من هذا إلى تقرير أن لفظ العرش في اللغة يقتضي العلو ، وأن وصف العرش في القرآن وفي السنة يدل على أنه مخلوق منفصل له صفات وأنه من جنس العروش ، لكن فاقها في صفات الكمال ، يعني أنه يشترك مع بقية العروش في أصل المعنى .
كما أن صفات الله جل وعلا تشترك مع صفات المخلوقين في أصل المعنى وما بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات ، فكذلك عرش الرحمن هو يشترك مع عروش الملوك في أصل المعنى لكن بين عرش الرحمن وعروش الملوك التي كانت تعتادها الملوك كما بين الذات والذات .
إذا تقرر هذا فنعلم أن إثبات العرش عند أهل السنة هو إثبات مخلوق عال فوق المخلوقات وأن له صفة وأنه يحمل وأن له قوائم وهو أعلى مخلوقات الرب جل وعلا .(32/322)
إذا تقرر هذا فنقول : معنى قوله ?اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? يقتضي أن يكون معناه علا على العرش
لأن العرش موصوف بالعلو ومعنى استوى على العرش يعني علا على العرش .
وقبل الدخول في تفصيل هذا ، المبتدعة نازعوا في أن العرش على ما وصفنا ، وسبب المنازعة أنهم رأوا أنهم لو قالوا إن استوى بمعنى استولى كما هو المشهور عن الأشعرية والمعتزلة ومن شابههم قالوا استوى بمعنى استولى .
فيكون هنا تخصيص الاستيلاء بالعرش يفهم منه أن غير العرش لم يستولي عليه .
استولى على العرش ، وغير العرش ؟
فلهذا قالوا العرش ليس على هذا الذي وصفتم وإنما العرش معناه المُلْك فـ ?اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? يعني استولى على المُلك .
هذا قول المبتدعة وهذا بينته لك لأبين سبب وأصل الخلاف في هذه المسألة والتأويلات التي جاءت فيه .
إذن فقول الله جل وعلا ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى??ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ? ونحو ذلك من الآيات السبع التي ذكرها المصنف هي دالة على أن الله جل وعلا مستو على عرشه ، وأن استواء الله على عرشه أن هذا لا يقبل التأويل ولا يقبل صرفه عن ظاهره لأنه نُوِّعت العبارة .
ثم إن العرش فيه من معنى الاستواء ، فإن العرش والتعرش فيه العلو ، والاستواء فيه العلو كما سيأتي
فإذن هذه النصوص ، هذه الآيات السبع نص في صفة الاستواء .
ومعنى كونها نصا أنها لا تقبل معنى آخر ، بخلاف الذين زعموا أن الاستواء له عدة معان ربما كان كذا وكذا ، خمسة عشر معنى بعضهم يقول ويحرف الكلم عن مواضعه .
هذه الآيات نص في صفة الاستواء
إذا تبين ذلك فقوله ?اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? (استوى) هذه فسرها السلف بعدة تفسيرات :
" قالوا (استوى) علا .
" (استوى) استقر .
" ?اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? يعني ارتفع .
" ?اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? بمعنى صعد .(32/323)
علا ، ارتفع ، استقر ، صعد ، هذه التفاسير المنقولة عن السلف ، وسبب هذه أن علا وارتفع وصعد واستقر هذه كلها لها صلة بالمعنى اللغوي بل هي من التفسير باللغة ، لأن (استوى) في اللغة معناها علا .
قال ابن الأعرابي - أحد أئمة اللغة - : إن العرب لا تعرف (استوى) إلا بمعنى علا .
وجاء أحد أهل اللغة في زيارة أحد الأعراب فنظر إليهم وهو على سطح بيته فقال : استووا إليّ ، يعني اصعدوا إليّ .
وهذا هو معنى (استوى) في اللغة ، فـ (استوى) في اللغة بمعنى علا وارتفع .
(استوى الشيء) يعني علا وارتفع ، (استوى على بيته) يعني علا وارتفع عليه .
قال جل وعلا ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ? يعني علوتم وارتفعتم عليه .
فإذن معنى (استوى) في لغة العرب العلو والارتفاع .
ولهذا الآيات التي فيها إثبات الاستواء لله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى? ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ? ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? هذه فسرها السلف بـ (علا وارتفع وصعد واستقر) وهذه كلها من التفسيرات اللغوية .
إذا تبين لك هذا فإن الآيات التي ذكر فيها الاستواء في القرآن على قسمين :
" القسم الأول : ذكر فيها الاستواء بدون تعدية .
" والأخرى ذكر فيها الاستواء مُعَدّى .
بدون تعدية يعني بلا حرف جر بعد الفعل .
قال جل وعلا في قصة موسى ?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى? هذا بدون تعدية .
إذا لم يُعَدّى يكون معنى (استوى) أي كمل وتم .
معلوم أنه كمل وتم هذا من معنى يعني بلغ غاية علوه وارتفاعه لأن الشاب يرتفع ، يطول ، يطول ثم يبلغ شدته ، واستواؤه يعني علوه وانتصاب قامته ، ثم بعد ذلك يبدأ في النزول والانحناء ، ولهذا قالوا في ?بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى? يعني تم وكمل لأن التمام والكمال هذه مقارنة لعلوه وارتفاعه في بنيتة ، هذا المطلق .
والمقيد قُيِّد بحرف (إلى) وقُيِّد بحرف (على) :(32/324)
" فمن المقيد بحرف (إلى) قوله جل وعلا ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء? .
" من المقيد بحرف (على) ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ? ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?
أصل معنى (استوى) واحد لا يختلف وهو العلو والارتفاع .
فهنا ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء? هذا عُدِّي الاستواء بحرف (إلى) فعُلِم منه أن الاستواء ضُمِّنَ معنى فعل آخر يصلح للتعدية بـ (إلى) .
ما معنى هذا الكلام ؟
معناه أن العرب تستعمل في لغتها التضمين ، والتضمين هو في مقام العطف ، فبدل أن تعطف فعلا على آخر فيطول الكلام تثبت الفعل الأصلي وتُعَدِّيه بحرف جر لا يناسب هذا الفعل وإنما يناسب فعلا آخر ، فنستدل بالفعل على المعنى الأصلي .
نستدل بـ (استوى) على العلو والارتفاع ، ونستدل بـ (إلى) على الفعل الذي ضُمِّن في (استوى) يناسب (إلى) .
ولهذا تجد أن من التفاسير كما تجد في تفسير ابن كثير والبغوي وغيره في قوله ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء? يعني عمَد وقصد
هذا تفسير ليس لِلَفظ (استوى) ولكن تفسير لما عُدِّي بـ (إلى) ، لأن (استوى) بمعنى علا وارتفع .
فمعنى قوله ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء? يعني على وارتفع وقصد إلى السماء .
ففيها إثبات للمعنى الأول لـ (استوى) وفيها إثبات للمعنى الثاني المُضَمَّن في فعل (استوى) الذي يناسب التعدية بـ (إلى) .
ولهذا قال بعضهم إن هذا تأويل من البغوي أو تأويل من الحافظ ابن كثير أو تأويل من بعض السلف الذين قالوا ?اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء? بمعنى قصد هذا ليس كذلك ، بل هذا من التفسير باللازم أو من تفسير الآية بما يُحتاج إلى التنبيه عليه .
أما (استوى) عُلِم أنه بمعنى علا وارتفع .
هنا ?اسْتَوَى إِلَى? المعروف استوى على فلماذا هنا قال ?اسْتَوَى إِلَى? ؟
نقول : لأنه أراد أن يُضَمِّن (استوى) الذي هو بمعنى علا وارتفع معنى فعل قصد .
يعني : علا وارتفع قاصدا إلى السماء ، هذا نوع .(32/325)
النوع الثاني من المُقيَّد الذي يقَيَّد بـ (على) فهذا يفيد أنه ارتفاع وعلو خاص .
لأن (استوى) أصلا بمعنى علا وارتفع فإذا عُدِّي بـ (على) صار الاستواء بمعنى العلو والارتفاع الخاص ، لأن (على) أيضا تفيد الاستعلاء ، أليس كذلك ؟
(قمت على الأمر) (على) تفيد الاستعلاء ?الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء? فيها استعلاء
فهنا عدَّى (استوى) بـ (على) ليفيد أنه ارتفاع وعلو خاص ، يعني فيه مزيد ، وهذا ما جاء في القرآن .
وفي اللغة و ما جاء في القرآن فيه قولهم (استوى فلان وفلان) (استوى الماء والخشبة) (استوى الساج والباب) مثلا ، هذا استوى كذا وكذا بمعنى تساوى يعني صار ارتفاعهما أو علوهما واحد فتساويا .
(استوى الماء والخشبة) يعني صارا في مستوى واحد ، هذا ليس في القرآن .
إذا تقرر ذلك فهذه معاني الاستواء في اللغة .
فقوله تعالى ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? يعني علا وارتفع على العرش .
الله جل وعلا لم يزل عاليا ومرتفعا على خلقه أجمعين ، فهو جل وعلا له العلو ، علو الذات فوق مخلوقاته و هو محيط بمخلوقاته وليس شيء من مخلوقاته يحيط به جل وعلا ، ولهذا هو جل وعلا خلق العرش ، ولما خلق العرش أراد جل وعلا بمشيئته وقدرته أن يستوي عليه فاستوى عليه يعني علا وارتفع علوا خاصا على العرش .
فهذا معنى قوله ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? وهذا معتقد أهل السنة أنهم يثبتون الاستواء من غير تكييف كما قال الإمام مالك (الاستواء معلوم والكيف غير معقول) يعني مجهول غير معقول ، كيف ما نعرفه ، لكن الاستواء في اللغة (الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) ثم قال للسائل (ولا أراك إلا مبتدعا فاخرج).
هذا الاستواء معلوم كذلك في كل الصفات .
.....
هو كلام مالك وربيعة شيخة ويروى عن بعض أمهات المؤمنين مرفوعا وموقوفا لكن هو ثابت عن مالك وعن شيخه ربيعة .(32/326)
فإذن قوله (الاستواء معلوم) يعني في لغة العرب (الكيف غير معقول أو مجهول) يعني كيفية الاستواء.
فإذن إثبات الاستواء على العرش إثبات معنى لا إثبات كيفية فما توهم ذهنك في كيفية الاستواء فحقيقة الاستواء بخلافه فلا يكون عندك تشبيه ولا تمثيل في استواء الله جل وعلا على عرشه إذ استواء الله على عرشه ليس كاستواء الملوك على عروشها وليس كاستواء الناس على ما يجلسون عليه ، بل هو إثبات معنى دون إثبات الكيفية .
نؤمن بالصفة على ما جاءت ، وهذه قاعدة عامة في كل النصوص أننا نثبت ما جاء في النصوص ونقول بهذا الجواب كما ذكر الترمذي في كتابه يعني في جامعه أن أئمة السنة لم يزالوا يقولون هذا الجواب في كل ما يُسألون عنه من الصفات .
الاستواء معلوم تقول النزول معلوم والكيف غير معقول ، اليد معلومة والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، الرحمة معلومة والكيف غير معقول أو مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، في كل الصفات .
وقد قال أبو داود الطيالسي (أدركت سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والليث وشريك لا يحدون ولا يمثلون ولا يشبهون فإذا سئلوا نطقوا بالأثر) يثبتون الصفات على ما جاء في الأثر ، أما تحديدها يعني تكييفها فيبتعدون عنه ، تمثيلها يبتعدون عنه ، التشبيه يبتعدون عنه .(32/327)
إذا تبين لك هذا فنقول إن استواء الله جل وعلا على عرشه هذا من صفاته جلاله جل وعلا إذ نعلم أن الأرض بالنسبة للسماوات أنها صغيرة ومتناهية في الصغر ، وأن السماوات السبع بالنسبة إلى الكرسي الذي هو موضع قدمي الله جل وعلا أنها كسبعة دراهم ألقيت في ترس ، الترس كما تعلمون مُقَبَّب ، والكرسي كالقبة على السماوات ، السماوات في داخله صغيرة ، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في فلان من الأرض ، والعرش فوق ذلك ، والله جل وعلا مستو على العرش يحيط بالعرش ولا يحيط به العرش جل وعلا إذ هو جل وعلا بكل شيء محيط ?أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ? .
فهذه العقيدة عقيدة الاستواء تورث إجلال الله جل وعلا ، تورث تعظيمه إذ يعلم أنه - ابن آدم - في الأرض أنه كالهباء يعني صغير بالنسبة للأرض ، وأن الأرض بالنسبة للسماوات أيضا متناهية في الصغر ، والسماوات السبع بمن فيها وما فيها بالنسبة للكرسي متناهية في الصغر ، والكرسي بالنسبة للعرش كذلك ، والعرش يحيط به رب العالمين والله جل وعلا بكل شيء محيط فهذا يورث التعظيم والإجلال وينقطع العبد عن الإدراك إلا بما جاءت به النصوص .
يورثه ذلك معرفة فقره وضعفه ويورثه ذلك إجلال الله جل وعلا وتعظيمه ومعرفة ربوبيته ولاستحقاق لأن يعبد وحده وأن يجل وأن يناب إليه .
هذه العقيدة وما تورثه هذه حُرِمَهَا المبتدعة .
أما اللغوي فلأن الاستواء في اللغة يأتي بمعنى الاستيلاء قال الشاعر - حسب كلامهم -
من غير سيف ودم مهراق قد استوى بشر على العراق
(قد استوى بشر على العرق) يعني استولى بشر على العراق ،
من القائل ؟
قالوا هذا البيت قاله الأخطل .
بحث أهل العلم في ديوان الأخطل الذي يرويه المعروفون فلم يجدوا هذا البيت في ديوانه
فمن نسبه للأخطل ؟
لم ينسبه إلا المعتزلة إليه .
قال الأخطل ، لماذا خصوا الأخطل ؟(32/328)
حتى يجعلوه في حدود من يحتج بشعرهم لأن شعر العرب يحتج به إلى سنة 150 للهجرة وما بعد ذلك لا يحتج بالشعر لأنه كثر فيه الموَلًّد واستعمال الألفاظ غير العربية فاختاروا الأخطل لذلك ولاختلاف نُسَخِ ديوانه ، إلى آخره وهو لا يوجد في شيء من ذلك .
وقد أورده - أورد هذا البيت - صاحب كتاب الصحاح الجوهري وغُلِّط في ذلك ولم يعزه إلى ديوان معروف برواية عالم معروف .
وهذا ما من شك أنه على أصولهم يبطل ، لماذا ؟
لأننا نقول لهم أيها المبتدعة وأيها الأشاعرة وأيها المعتزلة إذا كان استوى بمعنى استولى واحتججتم فيه بذلك بما يثبت عقيدة .
وأنتم من المعروف لديكم أنكم تقولون ليس خبر الآحاد بحجة في العقائد .
حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لا يحتج به في العقيدة ، لماذا ؟
قالوا لأنه نقل آحاد وإن صح السند وعلمنا الرجال وهم ثقات لكن هم أفراد والأفراد يجوز عليهم الغلط ، فردوا أحاديث الصفات لأجل نقل الآحاد .
فنقول : ألا حكمتم على أنفسكم بمثل ما اعترضتم به ، فهذا البيت لم ينقله أحد ، ليس ثَمَ إسناد إلى الأخطل أصلا وإنما هي نسبة من غير صحة ، ولو صح الإسناد فمقتضى كلامكم أنه لا يؤخذ بهذا .
لا يؤخذ بنقل الآحاد ، لا بد يكون نقلا مشتهرا ، مع أنه ليس موجودا في كتب الأخطل وليس ثم إسناد إليه .
فهو إذن أدنى وأدنى من مرتبة نقل الآحاد ، فعلى مقتضى أصولهم يجب عليهم إذا كانوا منصفين أن يبطلوا الاحتجاج بذلك .
الحجة الثانية عندهم قالوا عقلية .
هنا الاستواء على العرش إذا قيل استوى بمعنى علا وارتفع مثل ما أثبت أهل السنة اقتضى ذلك التشبيه ، اقتضى ذلك التجسيم لأن الاستواء على العرش بمعنى العلو والارتفاع عليه لا يعقل منه معنى إلا أن يكون ثم جلوس عليه واستقرار عليه .
ومعنى ذلك أن يحوي المجلوسُ عليه الجالس ، وهذا باطل .
نقول : هذا من الباطل ، ذلك لأنكم شبهتم الله جل وعلا بخلقه .(32/329)
فررتم من التشبيه كما تزعمون ولكن أنتم الذين شبهتم لأنكم توهمتم أن اتصاف الله جل وعلا بصفاته هو من جنس ومن مثل اتصاف الخلق بالصفات فظننتم أن استواء الله جل وعلا على عرشه هو من جنس استواء الملك على عرشه أو استواء المخلوق على كرسيه وهذا تمثيل ، وقد وقعتم فيما نهي عنه .
فالله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? يقل فأنتم شبهتم أولا ثم عطلتم ثانيا ، مثلتم الله جل وعلا بعقولكم ثم نفيتم ثانيا الصفة فوقعتم في محذورين :
" توهم التجسيم والتمثيل .
" ثم بعد ذلك النفي والتأويل والتحريف .
هذا باطل وهذا باطل .
لأجل مسألة الاستواء قالوا العرش هو المُلْك .
لاحظ العرش عندهم هو الملك .
العرش هو المٌلك ، من أين أخذتم ذلك ؟
قالوا : العرب تقول : ثُل عرش بني فلان ، ثُل عرش سبأ ، إذا ذهب ملكهم ، فثُل العرش يعني ذهب المُلك .
فنقول :
" أولا :العرش وصفه الله جل وعلا في القرآن بأنه يوم القيامة يحمله ثمانية ?وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ? فهل المُلك يحمل ؟ المُلك أمر معنوي ، ليس هو المملكة إنما هو المُلك ، فهل المُلك يحمل ؟ هذا واحد .
" ثانيا :موسى عليه السلام قال فيه عليه الصلاة والسلام (فإذا موسى باطش بقائمة أو قال آخذ بقائمة من قوائم العرش) فهل للمُلك قوائم ؟ .(32/330)
" الثالث: نقول : ما احتججتم به في اللغة صحيح من أن (ثُل عرش بني فلان) يعني ثُل ملكهم وذهب ملكهم وذلك لأن غاية ما يحافظ عليه أهل مملكة هو عرش الملك لأنه الذي يستقر عليه ويصدر الأوامر منه ، فآخر ما يوصل إليه من المملكة آخر ما يوصل إليه من المكان الذي فيه الوالي فيه الملك هو عرشه ، أليس كذلك ؟ آخر ما يوصل إليه ، فإذا دُخل بيته وكُسِر عرشه فقد ذهبت ولايته وذهب ملكه ، هذا آخر ما يوصل إليه ، فإذن العرب قالت (ثُل عرشه) لأنه من لوازم ذهاب العرش ذهاب المَلِك وإذا ذهب المَلِك ذهبت المملكة ، فإذن نقول احتجاجكم هذه اللغة صحيحة العرب تقول (ثُل عرش بني فلان) يعني ذهبت مملكة بني فلان ، وأما كون هذا يدل على أن العرش بمعنى المُلك نقول هذا ليس بصحيح ، النقل صحيح لكن الفهم ليس بسديد .
على كل حال بحوث الاستواء كثيرة والعرش .
وما ذكرنا يدل على أن الله جل وعلا متصف بأنه مستو على عرشه جل وعلا وتعاظم وتقدس وتبارك ربنا ، وأن عرشه ومن يحمل العرش أنهم محتاجون إلى الله جل وعلا ، فقراء إليه والله جل وعلا غني عنهم ، وهو الذي جل وعلا يحمل العرش ويعين حملته بقدرته جل وعلا وبقوته .
فليس جائزا في هذا المقام التوهم والتمثيل ودخول الأوهام في هذا الباب العظيم بل هذه الصفة تورث في القلب الإجلال والمهابة والتعظيم لله جل وعلا .
أثبتنا بذلك - بما ذكرنا - قول أهل السنة وأدلة أهل السنة على ما ذهبوا إليه وقول المبتدعة في الاستواء وفي العرش وأدلة ما ذهبوا إليه وبعض النقض لذلك .
نعم بحوث هذه المسألة وما شابهها طويلة لكن نذكر مقتضبا يناسب مستوى المتوسطين من الحضور
نعم
......
هنا ?اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? فسر باستقر ..
هو لازمها كما ذكرت ، تفسير باللازم ، يعني علا وارتفع ولم يزل على استوائه استقر على هذه الصفة ، استقر على العرش ، يعني هو جل وعلا استوى عليه ولم يتخلى من استوائه عليه ، ولم يخل من استوائه..(32/331)
هو أنت أخذتها استقر بمعنى لم يزل ، ما قلنا استقر بمعنى لم يزل ، استقر يعني قر القرار يعني ما صار في انتقال عن حالته ، نقول أنت الآن أتيت واستقررت في مكانك هذا يعني خلاص ما برحت عنه ذهبت تنزل قال والله استقريت في البيت ، استقريت يعني خلاص ما عاد لك روحة لبيتك الأول وُ جَيّه ، خلاص استقريت في هذا المكان ، فإذن هنا علا وارتفع قال جل وعلا ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? فقبل ذلك لم يكن مستويا عليه يعني لم يكن عاليا ومرتفعا عليه العلو والارتفاع الخاص أما هو جل وعلا له العلو المطلق هو عال ومرتفع عليه من قبل لكن العلو والارتفاع الخاص الذي اسمه الاستواء لم يكن كذلك ، فهو جل وعلا لم يكن مستويا عليه ثم استوى عليه جل وعلا ، فلما استوى عليه هل فارق هذه الحال ؟ هنا فسروه من هذه الجهة بمعنى استقر ، يعني علا وارتفع وصعد واستقر ولهذا الصحيح أن كلها صحيحة كل هذه تجتمع في معنى الاستواء ليست تفسر الواحدة بالواحدة ، هو علا جل وعلا وارتفع وصعد واستقر ، كلها صحيحة ، جميعا توضح المعنى المراد .
في بحث نعطيكم عنوانه وقد ما يناسب تفصيله مستوى المتوسطين وهو : هل الاستواء على العرش صفة ذاتية أم صفة فعلية أم كانت فعلية ثم أصبحت ذاتية ؟ وسبب هذا ، هذا يحتاج إلى مزيد تفصيل وتطويل ، الراغب يبحث عنه ...
إثبات علو الله
على مخلوقاته(32/332)
وَقَوْلُهُ: ?يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، ?يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا?[غافر:36-37]، وَقَوْلُهُ: ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(16)أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ?[الملك:16-17].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله .
هذه الآيات في إثبات علو الله جل وعلا .
والاستواء كما ذكرت لكم آنفا هو بمعنى العلو والارتفاع ، لكن الاستواء هو علو وارتفاع خاص على العرش .
وأما هذه الآيات ففيها علو الله جل وعلا ?يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ? فيها أن عيسى مرفوع وأن الله جل وعلا هو الرافع لعيسى إليه .
فيها إثبات العلو لله جل وعلا .
?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ? فيها إثبات العلو لله جل وعلا ، وقد مر معنا فيما سبق مسألة العلو لله جل وعلا على وجه الاقتضاب
والمسألة من الواضحات وكما قال بعض أهل العلم إن في القرآن ألف دليل يدل على علو الله جل وعلا
وعلو الله جل وعلا قسمه بعض العلماء إلى قسمين فقالوا العلو ينقسم إلى :
" علو الذات .
" وإلى علو الصفات .
والمشهور عند أهل العلم أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، العلو هو :
" علو الذات .
" علو القَهْرْ .
" وعلو القَدْرْ .
القولان متقاربان لأن علو الذات قسم وعلو الصفات جعلوا منه القهر والقدر وغير ذلك من الصفات(32/333)
أهل السنة يثبتون جميع هذه الأنواع لله جل وعلا ، يثبتون لله جل وعلا علو الذات وعلو القدر وعلو القهر وعلو الصفات جميعا .
لهذا يقولون له الأسماء الحسنى والصفات العلا .
الله جل وعلا عال على خلقه بذاته وعال على خلقه بقهره ، وعال على خلقه بقدره جل وعلا
أما أهل البدع فيقولون العلو الذي في النصوص هو علو القدر وعلو القهر ، أما الذات فليس لها علو لأنهم يقولون إن الله جل جلاله في كل مكان .
يُسْتَدَل لعلو الذات أن الله جل وعلا عال بذاته على خلقه بأدلة من الكتاب والسنة والعقل والفطرة
الاستواء ما يستدل له بالعقل - الاستواء على العرش - أما العلو فدليله عقلي مع الاستدلال عليه بالكتاب والسنة والفطرة .
ذَكَر أدلة من القرآن كقوله جل وعلا ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ? فالله جل وعلا هو الذي في السماء كما قال ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ? .
?فِي السَّمَاءِ ? هنا (في) بمعنى (على) كقوله ?لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ? يعني على جذوع النخل .
?فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ? العندية في النصوص عندية العلو .
أيضا في السنة الأدلة على هذا كثيرة .
أما دليل الفطرة - وأدلة السنة ستأتينا في قسم الاستدلال بالسنة - الاستدلال بالفطرة في هذا الموطن فهو الذي يكون من أقوى الحجج على المبتدعة .
ودليل الفطرة معناه الضرورة التي يجدها كل إنسان في قلبه أنه إذا دعا توجه إلى العلو .
يجد ضرورة في نفسه ، روحه إذا أراد أن يدعو تتجه في طلب الفرج إلى جهة العلو .
وهذه ضرورة ليست واقعة في القلب نتيجة عن استدلال بل هي أمر ضروري .
يعني لا َيحتاج إلى استدلال ، فليس ثَم أحد إذا دعا توجه إلى السفل حتى من سجد فإنه إذا دعا يجد أن روحه تتوجه إلى العلو في طلب إجابة ما دعا .(32/334)
وهذا الدليل الفطري يعني الشيء المغروس في الفطر ، الضروري ، هذا مما احتُج به على زعماء المبتدعة حيث قال - الجويني - قال إنه فرح بدليل يدل على أن الله في كل مكان .
فما هذا الدليل الذي فرحت به ؟
فقال : إن ذا النون في بطن الحوت - ذا النون يونس - ومحمد عليه الصلاة والسلام حينما عُرج به كان هذا وهذا في قربهما من الله جل وعلا سواء .
قال : لهذا قال عليه الصلاة والسلام (لا تفضلوني على يونس بن متّى? - هذا حسب كلامه - أو (ما ينبغي لعبد أن يكون أفضل من يونس بن متّى? على حسب ما يروون .
استدل بهذا على أن هذا المقام وهذا المقام بالنسبة للقرب واحد وأن جهة التفضيل من جهة القرب هذا قريب وهذا قريب فليس ثم مزية لمحمد عليه الصلاة والسلام على يونس .
هذا الكلام من جهة ما استدل به له بحث .
المقصود قابله أحد الحاضرين الهمذاني - الهمذاني منسوب إلى بلد - وقال له : أيها الشيخ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا إذا دعا أحدنا توجه إلى العلو وإذا سأل الله شيئا تعلقت روحه بمن في العلو ، هذه الضرورة أخبرنا عنها ما تفسيرها ؟
كيف غُرست هذه الضرورة فينا من غير تعليم ؟ فقال حيرني الهمذاني ، حيرني الهمذاني .
هذا سؤال ما له جواب ، ولهذا في بعض الرحلات مثل رحلة ابن فضلان وهي مطبوعة .
ابن فضلان في القرن الرابع وجهه بعض الخلفاء إلى بلاد روسيا يعني لينظروا أخبار أهلها المهم ذكر القصة فيها في رحلة شيقة ولما وصل ذكر فيما ذكر في رحلته أنه رأى أمرا عجبا ، ما هذا الذي رأيت ؟ قال : رأينا أن الترك - الترك يعني بهم أهل روسيا وشمال الصين تلك الجهات - قال رأيناهم لا يعرفون إلها وليس عندهم رسالة ولا يعبدون أحدا ولكن إذا أصابتهم شدة خرجوا خارج البلد وتوجهوا جميعا إلى السماء يطلبون الفرج .
هذه الضرورة والفطرة ما يستطيع أحد أن يأتي عليها بدليل ولا أن ينكرها لأنها شيء في القلب مغروس في الفطر .(32/335)
ولهذا نقول من دلائل العلو علو الله جل وعلا بذاته أن القلوب جُبِلَتْ ، جعل الله جل وعلا فيها ضرورة إذا دعت واحتاجت إليه جل وعلا وتوسلت إليه وابتغت ما عنده أنها تتجه إلى العلو .
وذلك يعني تتجه إلى الله جل وعلا المستوي على عرشه .
الدليل العقلي ليس هذا محل بيانه .
إذن العلو له أدلة ، دليل من الكتاب ومن السنة ومن العقل ومن الفطرة .
والاستواء دليله سمعي - الاستواء على العرش - ولذلك قال أهل العلم من أنكر العلو ، علو الله جل وعلا (علو ذاته) مع توافر هذه النصوص حوالي ألف دليل أو أكثر قالوا يكفر ، علو الذات إنكار العلو وادعاء أن الله جل وعلا حال في كل مكان هذا قالوا من ادعى ذلك أو من اعتقده فإنه يكفر .
قال ذلك جمع كثير من العلم وإن لم يكفر أئمة السنة الأشاعرة مع أنهم يعتقدون نفي علو الذات عن الله جل جلاله لأن الأدلة كثيرة ، فهم يردون النصوص في ذلك .
العلو يقال علو الله ويقال فوقية الله ، ولهذا نصوص الفوقية هي نصوص العلو .
?يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ? هذا دليل على العلو لأن فوقية الله بمعنى علو الله .
فإذا قلت لك مثلا ما أقسام الفوقية فوقية الله جل وعلا ؟
نقول : هي فوقية الذات ، وفوقية الصفات .
فوقية الذات ، وفوقية القدر ، وفوقية القهر .
قال أهل العلم النصوص - أي الأدلة - التي فيها ذكر الفوقية وقبل ذلك حرف (من) مثل ?يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ? هذا يدل على النص الصريح في العلو الذي لا يقبل التأويل ، لماذا ؟
لأن أصل الكلام يخافون ربهم فوقهم
هنا زيدت (من) للتنصيص ، زيدت (من) لينتقل الكلام من الظاهر إلى النص .
وعلى العموم بحث العلو طويل ونكتفي بهذه المقتطفات منه وسيأتينا بحثه مرة أخرى في دلالة السنة
أقول قولي هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأستغفر الله وأتوب إليه .
إثبات معيّة
الله لخلقه(32/336)
?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[الحديد:4]، وَقَوْلُهُ: ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[المجادلة:7]، ?لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا?[التوبة:40]، وَقَوْلُهُ: ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:46]، ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، ?وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ?[الأنفال:46]، ?كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ?[البقرة:249].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أسأل الله جل وعلا لي ولكم العفو والعافية والفقه في الدين والبصيرة فيه وأن يمن علينا برؤية الحق حقا ثم يمن علينا باتباعه ، وأن يمن علينا برؤية الباطل باطلا ثم يمن علينا باجتنابه .
ثم إن هذه صلة لما سبق الكلام عليه من الآيات الدالة على صفات الله جل وعلا .
وما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في أول الكلام على الإيمان بالله أن الإيمان بالله يدخل فيه الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم .(32/337)
فالصفات التي ذكرت في الكتاب يجب الإيمان بها على القاعدة المعروفة عند أهل السنة أنه إثبات لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات إثبات من غير تكييف وإمرار من غير تعطيل ، فهم يُمِرّونها كما جاءت وليس إمرارهم لها كما جاءت يُعنى به تعطيلها .
كذلك يثبتونها وليس إثباتهم لها بإثبات المثلية أو المماثلة بل هم رضي الله عنه عنهم ورحمهم يثبتون ولا يكيفون ويمرون ولا يعطلون وذلك لأن الله جل جلاله هو الذي أخبر عن نفسه بذلك ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا? ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا? .
وبعد أن ذكر شيخ الإسلام رحمه الله الآيات التي دلت على استواء الله جل وعلا على عرشه ذكر الآيات الدالة على علو الله جل وعلا ثم ذكر الآن الآيات التي تدل على أن الله جل وعلا مع خلقه.
وهذا الترتيب مقصود لأنه لعدم رعاية ذلك حصل الخلل في طوائف من هذه الأمة
فإثبات استواء الله جل وعلا على عرشه على الحقيقة كما جاء في ظاهر النصوص وإثبات أن الله جل وعلا عال على خلقه بذاته كما أنه عال على خلقه بقدره وقهره جل وعلا كذلك هو مع علوه ومباينته لخلقه سبحانه إذ هو ليس بحال فيهم ولا بمختلط بهم اختلاط الذوات بل هو جل وعلا على العرش استوى ، له علو الذات على خلقه جل وعلا وعلو القهر وعلو القدر ، كذلك هو مع خلقه لا تغيب عنه جل وعلا من شؤون خلقه غائبة .
والله جل وعلا موصوف بأنه مع خلقه .
موصوف بصفة معيته لخلقه ، فهو جل وعلا مع خلقه جميعا .
و معيته لخلقه دلت عليها آيات منها قول الله جل وعلا .
?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?(32/338)
في هذه الآية أخبر جل وعلا أنه مع خلقه أينما كانوا قال ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ? وهذه معية لم يخصص الله جل وعلا بها بعض خلقه دون بعض بل قال ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ? والعموم أو الشمول فيها من جهة الخلق ومن جهة الأمكنة ، لأن ?أَيْنَمَا? تدل على الأمكنة وقوله ?وَهُوَ مَعَكُمْ? يعني مع خلقه جل وعلا .
كذلك الآية الثانية ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?
ذكر فيها معيته جل وعلا لكل من يتناجى وهذا يعم المسلم والكافر ويعم الصالح والطالح ويعم صاحب السنة وصاحب البدعة ، فالله جل وعلا معيته لخلقه في أي مكان كانوا ثابتة .
وهذه المعية التي لم يُخْتَص بها طائفة دون طائفة هذه هي المعية العامة لجميع الخلق .
وهذه ثابتة لله جل وعلا كما أخبر سبحانه بقوله ?إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا? فهذه الآيات وما كان مثل ذلك هذه فيها المعية العامة لله جل وعلا .
لماذا قلنا المعية العامة ؟
لأن المجموعة الأخرى من الآيات التي ساقها شيخ الإسلام أثبتت معية لمتصفين بصفات فقال جل وعلا ?لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصديق ، ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? لموسى وهارون من الرسل ، قال ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا? وهذه معية جعلها الله جل وعلا للمتقين ، ?مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا? ومع الذين ?هُمْ مُحْسِنُونَ? معية جعلها الله جل وعلا للمحسنين ?وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ? هذه معية جعلها الله للصابرين .
وهذه الآيات دلت على أن ثَمَ معية جعلها الله جل وعلا لمن حقق أوصاف المؤمنين :(32/339)
التقوى ، الإحسان ، الصبر .
ومعية خاصة بالرسل .
وتلك المعية في الآيات الأول لم تخص بطائفة .
لأجل هذا قال أهل العلم : معية الله جل وعلا لخلقه منقسمة ودليل الانقسام المجموعة الثانية من الآيات التي فيها التخصيص إذ التخصيص دليل على أن هؤلاء خُصُوا بمعية ليست هي المعية التي في الآيات الأُوَل ، فمعنى ذلك أن هذه المعية من لم يكن على هذه الصفات لا تشمله ، فقوله ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ? نعلم أن هذه المعية التي خص بها أهل التقوى وخص بها أهل الإحسان ليست للكافر .
فإذن إذا قلت إن الكافر ليس الله معه المعية التي جاءت في هذه الآية نقول هذا صحيح إذ هذه المعية خصت بالمتقين بالمحسنين خصت معية في آيات أخر بالصابرين ونحو ذلك .
فإذن إذا كان كذلك ثبتت المعية الخاصة ، فيقتضي ذلك أن هذه المعية تختلف عن المعية العامة التي جاءت في الآيات السابقة .
فإذن نتج من هذا أن هذه الآيات دلت على أن معية الله جل وعلا لخلقه قسمان :
القسم الأول : معية عامة وهذه المعية العامة هي التي لا يُخَصُ منها بعض خلق الله بل كل أحد من خلق الله اللهُ جل وعلا معه بالمعية العامة .
وهذه المعية العامة فسرها السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام فسروها بمعية العلم والإحاطة والاطلاع والبصر والسمع ونحو ذلك .
وأجمعوا على أن المراد بها في الآية الأولى آية الحديد المراد بها معية العلم ، أجمعوا على أن تفسير قول الله جل وعلا ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ? قالوا هذه معية العلم .
وكذلك في آية المجادلة التي بعدها قالوا هي معية العلم .
فإذن المعية العامة هي معية العلم .(32/340)
العلم علم الله جل وعلا بخلقه هذا يقتضي الإحاطة كما قال جل وعلا ?يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ? معهم بعلمه أيضا بسمعه وبصره جل وعلا يسمع ما يقولون ويبصر أفعالهم وهو معهم جل وعلا بعلمه ?أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ? .
المعية العامة هي معية العلم والسلف فسروها بمعية العلم لأجل ما قام بالاضطرار من أن الله جل وعلا ليس مع خلقه بذاته فهو جل وعلا ليس حالا في كل مكان وليس بذاته مع الخلق في كل مكان وإنما هو جل وعلا مستو على عرشه بائن من خلقه موصوف بعلو الذات .
وهذا الأدلة عليه كثيرة جدا كما ذكرنا لكم في الدرس الماضي .
فإذن تكون المعية معيةٌ لا تناقض الاستواء ، معيةٌ لا تناقض علو الذات لأن الآيات والسنن يجب أن يفهم بعضها بما دل عليه البعض الآخر .
ما نضرب بعض القرآن ببعض ولا نضرب بعض السنة ببعض ولا السنة بالقرآن ولا القرآن بالسنة
بل هذا وهذا كلها أتت من عند الله جل وعلا فبعضها يصدق بعضا ويدل على بعض .
لهذا نقول إن معية الله جل وعلا المعية العامة تفسر بمعية العلم .
وأما المعية الخاصة التي جاءت في قوله تعالى ?لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? فهذه معية قد تفسر بالنصر وقد تفسر بالتأييد وقد تفسر بالتوفيق وقد تفسر بالكلاءة والرعاية والعناية ونحو ذلك .
فالمعية الخاصة تُفَسَر بما يقتضي توفيق الله جل وعلا لمن كان معهم معية خاصة ونصرته لهم وكلاءته لهم وحراسته لهم جل وعلا وعنايته جل وعلا بهم العناية الخاصة .(32/341)
لهذا اختلفت التفاسير فيها ، مثلا ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا? هنا ?مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا? بحفظه وكلاءته ، بعضهم في قوله ?كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ? ?مَعَ الصَّابِرِينَ? بنصره وتأييده وتقويته وهكذا .
فإذن المعية الخاصة فسرت بما يقتضي عناية الله جل وعلا بمن كان معهم معية خاصة ونصرته لهم وفسرت بتأييده لهم وتوفيقه ونحو ذلك .
المعية عند أهل السنة والجماعة - المعية الخاصة - تتفاضل ، لأن الأوصاف التي ذكرها الله جل وعلا لمن هو معهم معية خاصة هذه أوصاف تتفاضل ، قوله مثلا ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا? التقوى عند أهل السنة والجماعة ليست بشيء واحد إما أن يأتي وإما أن يذهب بل الناس في التقوى متفاضلون فكذلك معية الله جل وعلا معهم تتفاضل .
حفظ الله لعباده يختلف بقدر حفظهم له جل وعلا حفظهم لحدوده .
تقواه تقوى العباد لربهم جل وعلا كلما زاد كلما ازدادت المعية .
فإذن هذه الأوصاف : الصبر ، التقوى ، الإحسان ، هذه تتفاضل ، فمعية الله جل وعلا الخاصة تتفاضل بتفاضل ذلك .
أيضا نقول إن معية الله جل وعلا هي - يعني المعية الخاصة - هي من جنس محبته جل وعلا ومودته لمن أحب وَوَدَّ من عباده ، فالله جل وعلا يحب وهو جل وعلا يود ?وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ? الذي يُود ويَود ، والله يحب وينتج من محبته ومودته لمن أتى بما يحبه الله جل وعلا ويوده أن يكون الله جل وعلا معه .
ولهذا باب الوَلاية والأولياء وكرامات الأولياء هذا من فروع الإيمان بالمعية الخاصة فالله جل وعلا يكرم أولياءه بما يكرمهم به لأنه معهم معية خاصة ، لأنه يحبهم كما أنهم يحبونه(32/342)
ولهذا في حديث الولي قال جل وعلا (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) معناه كنت معه في سمعه الذي يسمع به يعني أوفقه وأسدده في سمعه (وبصره الذي يبصر به) يعني كنت معه في بصره الذي يبصر به يعني أوفقه في بصره (ويده التي يبطش بها) يعني كنت معه إذا بطش فلا يبطش إلا بما يحب الله جل وعلا ويرضى ، ولهذا المعية والمحبة والمودة من الله جل وعلا لعباده المؤمنين تتفاضل بتفاضل صفاتهم فهذا ظاهر من قوله ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا? والتقوى صفة تفاضل ?وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ? ومحسن اسم فاعل الإحسان والإحسان يتفاضل كذلك كل أحد أتى بنصيب من ذلك له من المعية الخاصة نصيب .
إذا تبين ذلك فأهل البدع في هذه المسألة قالوا إن معية الله التي دلت عليها هذه النصوص هي معية ذاتٍ بحلوله جل وعلا في كل مكان .
فعندهم أن الله جل وعلا في كل مكان وليس فوق العرش رب وليس الله بعال على خلقه بذاته بل هو جل وعلا حال في كل مكان .
حال في وليس حال بكل مكان .
حال في كل مكان حتى ما ندخل في الحلول بالأشياء ، لا ، هو حال فيها يعني في أي مكان يوجد ، في أي مكان تذهب يوجد الله .
هذا اعتقاد أهل البدع من الأشاعرة وغيرهم فيقولون إن الله ليس على العرش وهو في كل مكان
سبب ذلك أنه قال هنا ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ? قالوا هذا دليل على أنه مختلط بالخلق ووجه الاستدلال على حسب زعمهم قالوا إنه ذكر (مع) و (مع) هذه معناها معية الذات ، وهذا القول منهم لأجله أبطلوا الاستواء ولأجله أبطلوا علو الذات .
ونقول هذا باطل وذلك :
لأن الله جل جلاله بين أنه ?مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ? ?مَعَ الصَّابِرِينَ? وهذا يقتضي بمفهوم المخالفة - وهذا مفهوم صفة والصفة لها مفهوم مخالفة - أن من لم يكن كذلك فليس هو جل وعلا معه .(32/343)
فمعنى هذا على قولهم أنه جل وعلا ليس مع الكافر أينما توجه ، وهذا مضادة لنص القرآن .
فإذن الدليل الأول على بطلان ما قالوا أن المعية حينما خُص بها أهل التقوى وأهل الإحسان وخص بها أهل الصبر وخص بها النبي صلى الله عليه وسلم والصديق هو عليه الصلاة والسلام مع الصديق في الغار قال ?لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? والمشركون فوق الغار والله جل وعلا أيضا معهم .
فعلى مقتضى كلام المبتدع كلام الأشاعرة ومن شابههم في ذلك ، معية الله جل وعلا التي معية ذات بالاختلاط والحلول لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ?لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? ليس ثم مزية له عليه الصلاة والسلام على الكفار لأنها معية ذات ، أليس كذلك ؟
فهؤلاء فوق الغار وهو في داخل الغار فما الفرق إذا كانت المعية فقط معية ذات وهو حال في هذا المكان .
فعُلِم أن قوله ?لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? أنه ليس المراد بها معية الذات لأنها في هذا الموطن فيها شرف للنبي صلى الله عليه وسلم وشرف لصاحبه رضي الله عنه ، هذا وجه من حيث دلالة الآية .
أما من حيث اللغة فنقول ما ذكرتموه باطل من جهة اللغة وذلك لأن كلمة (مع) في اللغة تدل على مطلق المصاحبة والاقتران :
" قد يكون المقارنة والمصاحبة في المعاني .
" وقد تكون في الذوات مع اختلاط الذوات وتقاربها .
" وقد تكون في الذات والذات بعيدة عن الذات .
هذه ثلاثة أشياء :
أما الأول فالله جل وعلا قال ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ? قال ?وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ? معهم بذواتكم ، هناك من الصادقين الأنبياء والرسل الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ونحن مأمورون أن نكون معهم .
معهم بأي شيء ؟
بأن نكون مقارنين لهم ومصاحبين لهم في هذه الصفة صفة الصدق في الإيمان وعدم التردد فيه والاستجابة لما أمر الله جل وعلا به ورسوله .(32/344)
فإذن قوله ?اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ? يعني معهم في صفة الصدق ، يعني قارنوهم وصاحبوهم في هذه الصفة .
هذا نوع في المعاني .
أيضا في المعاني مثاله من كلام العرب يقال (فلانة مع زوجها) يعني بالذات أو بالعقد ؟
تريد العرب إذا قالت (فلانة مع زوجها) يعني أنها لم تزل باقية في ذمته لم يطلقها ، هي معه بحكم العقد ، فهذا في المعنى أما هو فقد يكون في بلد وهي في بلد ، ويُسأل : هل فلانة مع زوجها ؟
يقول نعم فلانة مع زوجها ، وهي مثلا في الرياض والزوج في أقصى الدنيا لا يمنع لأن هذا معية بالمعنى .
النوع الثاني أن تكون معية ذوات فيقول (أتاني فلان وفلان معا) يعني حالة كونهم مجتمعين ، هذا في الذوات ، أين فلان ؟ (فلان مع امرأته) يعني في البيت ، هذا في الذوات ..
انتهى الشريط الثاني عشر من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثالث عشر
النوع الثاني أن تكون معية ذوات فيقول (أتاني فلان وفلان معا) يعني حالة كونهم مجتمعين ، هذا في الذوات ، أين فلان ؟ (فلان مع امرأته) يعني في البيت ، هذا في الذوات .
الثالث : أن يكون معية معنى مع عدم غياب الذات ، وهذه المعية لا تقتضي حلولا ولا اختلاطا .
ويمثل شيخ الإسلام لها في ما سيأتي من قسم السنة بالقمر .
يقول : القمر هو مع من في الحضر من في المدينة ، ومع المسافر وغير المسافر جميعا ، مع أن ذاته - ذات القمر - بعيدة في علوها ومع ذلك هو لا يغيب عن المسافر ولا عن غير المسافر .
فهذه هنا ضوء القمر شمل الجميع ، رؤية القمر شملت الجميع شهود القمر هذا شمل الجميع ، ومع ذلك فالقمر ليس مع كل ذات في كل مكان .(32/345)
ولهذا نقول : إن تفسيركم بأن المعية تقتضي واحدا من هذه الأنواع وهو معية الذوات هذا باطل لأنه أحد أوجه ثلاثة عند العرب ، وما ذكرتموه يجب أن لا يؤخذ به لأن الأدلة دلت على خروج هذا القسم ، أدلة الاستواء ، أدلة علو الذات التي سبق أن ذكرناها في الدرس الماضي دلت على أن هذا النوع ليس بممكن لأن الله جل وعلا مستو على عرشه ، لأن الله جل وعلا له علو الذات .
فإذن معية ذات لذات متقاربتين بذواتهما كما تعقل من مقارنة ذات فلان لفلان هذا لا يمكن لمناقضته لما سبق .
فإذن نقول : معية الله جل وعلا بما تقتضيه اللغة تحتمل الأول وتحتمل الثالث ، هذا أو هذا ، أو قد يكون المراد هما معا :
- أما الأول فإن فيها معية المعاني ، والله جل وعلا كما قلنا موصوف بأنه مع خلقه جميعا بعلمه وإحاطته لهم ، هذا واحد .
- أما الثالث فهو كما قال هو معهم ، نقول كما أن القمر مع المسافر وغير المسافر لا يغيب عنهم بل هو مطلع عليهم ناظر إليهم هم تحت بصره وتحت سمعه لا تخفى عليه منهم خافية ، وذاته جل وعلا غير غائبة عن خلقه كما أن القمر غير غائب عمن في الأرض جميعا ، وهذا بعض مخلوقات الله جعله الله جل وعلا مثلا في ذلك فكيف بالعزيز العليم .
إذن هو جل وعلا مستو على عرشه ولا يخفى عليه شيء ، مُطَّلِعٌ على أحوالهم ... 1
لأن قول القائل إذا قال معنا بذاته يوهم أقوال أولئك أهل البدع ، والعبارات الموهمة في العقيدة يجب نفيها ، يجب البعد عنها .
إذا صار القول محتملا ممكن يُفْهَمْ على كذا وممكن يُفْهَمْ على كذا نقول نجتنب هذا القول لأن الله جل وعلا قال ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا? (راعنا) لأن اليهود كانت تستعمل هذه الكلمة من الرعونة ، راعنا وتريد بها الرعونة ، يعني أنت على هذه الحال ، فنهي أهل الإيمان عن استعمال هذه اللفظة لمشابهتها اليهود ، واليهود يريدون بها معنى آخر ومع ذلك نُهِينا عنها .(32/346)
وكذلك في المعية ما تقول معية ذات ، لأجل أن في إطلاق هذا اللفظ :
" أولا : خروج عن ما استعمله السلف .
" وما دلت عليه النصوص .
" ثم ثالثا فيه مشابهة لأقوال أولئك .
طبعا من قال - يعني فرِّق بين قول من قال - إن المعية معية ذات وهو حال في كل مكان وينفي استواء الله على عرشه هذا من أقوال أهل البدع ، وقول من قال إنه مع خلقه بذاته مع أنه مستو على عرشه .
هذا القول : مع خلقه بذاته مع استوائه على عرشه وعدم حلوله في خلقه أو في كل مكان هذا القول الإشكال فيه زيادة كلمة (بذاته) ، وهو كله من كلام السلف لكن زيادة (بذاته) هذا الذي أخرج هذا القول عما نعلم من أقوال السلف .
وهذا لا يُعنى به قول المبتدعة ، لا ، هذا شيء وهذا شيء .
وإنما صُرِّح فيه لفظ (بذاته) لأن من الناس من أنكر أن تكون المعية محتملة للمعنى الثالث الذي ذكرت لكم في التقسيم ، فاحتاج إلى التنصيص حتى لا يخرج المعنى الثالث .
لكن كلام السلف في ذلك واضح أنهم أجمعوا على عدم إطلاق كلمة (بذاته) ولم نعلم أحدا من السلف أطلق هذه الكلمة أنه قال مع خلقه بذاته معية عامة ، أو مع المؤمنين بذاته معية خاصة أو نحو ذلك ، مع أن المعية حق على حقيقتها ، وإذا فسرناها بمعية العلم فهذه من مقتضياتها وإذا فسرناها بمعية النصر والتأييد والتوفيق والإلهام ونحو ذلك فهذا من مقتضياتها .
لكن لفظ (معية ذاتية) أو (معهم بذاته) فهذه لا تطلق لعدم جريان كلام السلف عليها .
......
هي معية حقيقة مثل بقية الصفات ، معية الله جل وعلا لخلقه ليست معية مجازية ، لا ، معية حقيقة ، وتفسيرنا لها بالعلم أو بالتوفيق اللي هي المعية الخاصة هذا تفسير لها على حقيقتها ، فهي معية حقيقة كما يليق بالله جل جلاله .
......(32/347)
لا ، ما يصلح ، لا تقصد بالذات ، أنت تقول معية حقيقية نعم هذه أطلقها أئمة السنة ، المعية الحقيقة تنقسم إلى معية علم وهي معية عامة وإلى معية خاصية وهي كذا وكذا ، هذه من كلام أهل السنة ، أما معية ذاتية فهذه هي التي جرى فيها الكلام مؤخرا ، و كلمة مشتبهة فالأولى تركها لعدم جريان كلام السلف عليها .
شيخ الإسلام يقول معية حقيقية ، حتى الشيخ محمد بن إبراهيم الجد رحمه الله لما أتى لهذا الموضع من الواسطية قال هي معية حقيقة تقتضي بالنسبة لجميع الخلق العلم ، وتقتضي بالنسبة لخاصة الخلق من المؤمنين والمتقين والمحسنين والصابرين تقتضي النصر والتأييد والتوفيق ، قال: وإلا فهي معية حقيقية كما يليق بالله جل جلاله ، هذا استعمال كلام أهل العلم والمحققين في هذا ، والألفاظ قد يريد بها الواحد معنى صحيحا لكن قد تحتمل معنى آخر ، فتجنب المحتملات في باب العقيدة و(3)
نعم ...
إثبات الكلام
لله تعالى
وَقَوْلُهُ: ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا?[النساء:87]، ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا?[النساء:122]، ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ?[المائدة:116]، ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا?[الأنعام:115]، ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا?[النساء:164]، ?مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ?[البقرة:253]، ?وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ?[الأعراف:143]، ?وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا?، وَقَوْلُهُ: ?وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ?[الشعراء:10] ،?وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ?[الأعراف:22]، وَقَوْلُه: ?وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ?[القصص:65].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(32/348)
هذه الآيات فيها ذِكر صفة الكلام لله جل وعلا ، ونوّع شيخ الإسلام رحمه الله صفة الكلام ، الأدلة على أن الله جل وعلا متكلم وأنه يتكلم كيف شاء وأن الكلام صفة له جل جلاله ، وأنه - أعني كلام الله - له حروف وأصوات .
فذكر آية النساء ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا? فذكر لفظ الحديث ، وذكر الآية أيضا آية النساء التي قبل هذه ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا? القول ، ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ? أيضا قول ، ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ? هنا في ذكر الكلام ، ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا? ?وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ? هذا في الكلام ، ثم ذكر النداء ?وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ? ، ذكر النجا قال ?وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا? المناجاة ، وأيضا ذكر المناداة بعد ذلك ?وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى? ?وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ??وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ? .
إذن هذه الآيات فيه تنويع للأدلة على هذه الصفة ، فالله جل وعلا هو أصدق حديثا من خلقه ، ومعنى ذلك أن الله جل وعلا يوصف كلامُه بأنه حديث .
كذلك الله جل وعلا يقول قال ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا? ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ? الله جل وعلا يتكلم ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ? ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا? ينادي يناجي ، هذه كلها أدلة على أن كلام الله جل وعلا يَتَصَرَفْ هذه التَصَرُفَاْت .
فالله جل وعلا إذا شاء نادى وإذا شاء ناجى سبحانه وتعالى .
هو جل وعلا وصف كلامه بأنه قول ، ووصف كلامه بأنه حديث .(32/349)
فهذه تدل على أن الكلام - كلام الله جل وعلا - هو من حيث المعنى معنى هذه الصفة مشترك مع كلام الخلق في أصل المعنى ، لأن هذه التصريفات هي تصاريف كلام الخلق ، فالخلق يتكلمون يقولون يتحدثون ينادون يناجون ، هذا الذي يُعْهد ، أنت فيما تعهد تقول (قلت تحدثت تكلمت ناديت ناجيت) .
هذه تصاريف كلام الخلق ، والله جل وعلا أثبت لنفسه صفة الكلام بأنواع ما يعهده الناس من تصاريف كلامهم فدل على أن كلامه جل وعلا ليس من غير جنس كلام الخلق ، يعني ليس من جهة المعنى .
فالخلق لا يتكلمون بقلوبهم إنما يتكلمون بشيء يُسمَع ، أليس كذلك ؟
إذا نادَوا معنى ذلك أن كلامهم يسمعه البعيد وهو الكلام العالي .
إذا ناجَوا فكلامهم يسمعه القريب .
قول ، معنى ذلك أنه يقول القول يعني الذي يقوله عن نفسه أو عن غيره .
يتحدث يعني أن الكلام فيه صفة الحداثة أنه حديث ، محدَث .
إذن هذه تدل - انتبه لكلماتي - هذه تدل على أن كلام الله جل وعلا ليس بخارج عن جنس كلام الخلق :
- فهو جل وعلا متكلم بكلام يُسمَع كما أن كلام الخلق يُسمَع .
- يتكلم بكلام يتصف بالجدّة والحداثة كما أن كلام الخلق يتصف بالجدّة والحداثة .
فمثلا : خذ رجلا عمِّر ثمانين سنة وتكلم منذ سبعين سنة بكلمة وهو الآن مثلا يتكلم ، هو متكلم من ثمان وسبعين سنة وهو يتكلم ، صحيح ؟ لكن كلامه القديم الذي تكلم به من سبعين سنة هذا موصوف بأنه قديم وكلامه الجديد موصوف بأنه حديث ، فإذا قال (هذا حديثي منذ سبعين سنة) هذا غير مناسب في لغة العرب ، لكن يقول (هذا خبري ، هذا قولي ، هذا كلامي ، الذي تكلمت به) فالحديث إذن موصوف به الصفات الجديدة يعني الكلام الجديد.
إذا تبين لك ذلك فهذه الآيات التي نوعها شيخ الإسلام رحمه الله بدقة وغوص على أوجه الاستدلال التي يُحتج بها على الخصوم تبين لك على أن كلام الله جل وعلا من جنس الصفات الأخر .(32/350)
فنحن نتكلم والله جل وعلا يتكلم ولكن كلامنا وكلام الله جل وعلا يشتركان في أصل المعنى ، لكن لا يختلفان بأن كلام المخلوق شيء آخر لا يشترك مع كلام الله ولا في أصل المعنى ، هذا باطل.
والذين تأولوا كما سيأتي قالوا كلام الله معنى وكلام المخلوق هو الذي يكون حروفا وأصواتا وهو الذي يسمع إلى آخره ، هذا باطل ، بل بين الكلامين اشتراك في أصل الصفة ، لكن ثم فرق عظيم ، فكلام المخلوق يناسب ذاته وكلام الله جل وعلا يناسب ذاته .
لكن بينهما اشتراك في أصله ، هذا الأصل أو القدر المشترك بينهما هو أن الجميع حروف وأصوات تُسمَع .
فكلام المخلوق هو ما يخرجه من حروف وأصوات تُسمع ، كذلك الكلام كلام الله جل وعلا حروف وأصوات تُسمع .
لهذا في قوله مثلا هنا ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى? وعيسى عليه والسلام سمع منه (يا) ، و (يا) هذه حرفان فإذن سُمِعَ منه حرفان .
وهذا يثبته أهل السنة بما دلت عليه هذه الأدلة من أن كلام الله جل وعلا صفة كما يليق بجلاله وعظمته تصف بها الله جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمتة .
صفة نثبتها له من غير تمثيل لكلامه ولا تكليمه بكلام خلقه ولا قوله بقول خلقه سبحانه ، ونقول كلامه جل وعلا حروف وأصوات يسمع .
إذا شاء الله جل وعلا نادى ، وإذا شاء جل وعلا ناجى ?وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ? فهذه مناداة ?وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا? لاحظ كلمة ?وَقَرَّبْنَاه? واستعمال ?نَجِيًّا? مع التقريب ، ?وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ? هذا المناداة مع البعد ، ثم قال ?وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا? .
وهذا على أصل أنه تُثبت الصفات مع عدم المماثلة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
إذن اعتقاد أهل السنة والجماعة على أن الله موصوف بصفات الكمال التي منها صفة الكلام ، وكلامه جل وعلا دلت عليه الأدلة بأنواع :
" فمنها الأدلة التي فيها القول .(32/351)
" منها الأدلة التي فيها الكلام .
" منها الأدلة التي فيها المناداة .
" منها الأدلة التي فيها المناجاة .
" منها الأدلة التي فيها الحديث ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ? و ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا? ونحو ذلك .
إذا تبين ذلك فأهل السنة يقررون في هذا الباب ، يقررون أن صفة الكلام لله جل وعلا قديمة النوع حادثة الآحاد .
يعنون بذلك أن الله جل وعلا لم يزل متكلما ، حادثة الآحاد ، لم يزل الله جل وعلا متكلما سبحانه ، يتكلم كيف شاء إذا شاء متى شاء .
كلامه قديم وأفراد الكلام حديثة .
يعني أن كلام الله جل وعلا لعيسى بقوله ?يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ? هذا لم يكن كلاما في الأزل
بل كان كلاما حين وُجِدَ عيسى وصار هذا الكلام متوجها إليه ، هذا كلام أهل السنة .
ما كلام المبتدعة - ويأتينا تفصيله - كلام المبتدعة يقولون إن الله تكلم بكلام قديم حتى ?يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ? هذا كلام قديم ، فليس عندهم كلام حديث .
عندهم أن الله تكلم بكلام وانتهى فلم يعد يتكلم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
بل الله جل وعلا موصوف بصفة الكلام وهو يتكلم كيف شاء إذا شاء تبارك ربنا وتعالى .
......
هو كلامه جل وعلا قديم .. يعني ليس له بداية ، نعم ، لأن البدايات هذه أزمنة والله جل وعلا هو الذي خلق الزمان .(32/352)
إذن نقول هنا كلامه قديم النوع حادث الآحاد ، يعني أن السورة التي نزلت حين نزلت على محمد عليه الصلاة والسلام سمعها جبريل من الله جل وعلا ، سمع الصوت وسمع الحروف والآيات على نحو ما أنزل على محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هذا محدَث ، من حيث الزمن حديث ، وكلامه جل وعلا لموسى ?إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ? هذا تكلم الله جل وعلا به قبل تكليمه لمحمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، تكليم الله جل وعلا لآدم قبل ذلك ، قوله جل وعلا في كلماته الكونية للشيء كن فكان في خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق آدم وقبل أن يخلق حواء هو قبل ذلك .
فكلامه جل وعلا قديم النوع حادث الآحاد ، يعني لا تزال آحاده تتجدد لا يزال الله جل وعلا متكلما، لم يزل متكلما يتكلم جل وعلا كيف شاء إذا شاء .
وهذا يخالف فيه أهل البدع في مسألة الكلام مختلفون :
" والمشهور كما تعلمون أن المعتزلة والجهمية ينفون صفة الكلام ويقولون كلام الله مخلوق .
?إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ? يقولون هو كلام بمعنى مخلوق خلق في المكان المعين ، فعند الجهمية والمعتزلة أولا أن كلام الله مخلوق ، يعني خلق شيئا ، خلق حروفا وأصواتا في شجرة فسمى هذا المخلوق كلاما ، فصار كلام الله مثل ناقة الله ومثل بيت الله ، واضح ؟ هذا قول المعتزلة والجهمية .
" الثاني قول الأشاعرة والكلابية قبلهم أنه معنى نفسي واحد يلقيه في رُوعِ جبريل ، فلما ألقى الله جل وعلا المعنى النفسي - لاحظ - لما ألقى الله جل وعلا المعنى النفسي لجبريل بإرادة أنه التوراة صار توراة ، وبإرادة أنه الإنجيل صار إنجيلا وبإرادة أنه القرآن صار قرآنا .
فجبريل أخذ المعنى النفسي الذي أُلقِيَ في رُوعِهِ بتوجه إرادة الله عندهم للتوراة فصار توراة ، بتوجهها للإنجيل فصار إنجيلا ، بتوجهها للقرآن صار قرآنا .(32/353)
فلم يسمع عندهم جبريل من الله جل وعلا شيئا وإنما شيء وقع في صدره ، ألقي في رُوعه ، ألقي في نفس جبريل فبلغها جبريل .
هذا قول طائفة أو هو المشهور قول الأشاعرة والكلابية ولهذا يقولون هو معنى واحد إن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنا ، عُبِّر عنه بالسريانية كان كذا ، عُبِّر عنه بالعبرانية كان كذا إلى آخره .
على كل حال مسألة الكلام مسألة شائكة وطويلة وتحتاج إلى مقدمات ما نفصل فيها أكثر من ذلك .
المهم أن هؤلاء قالوا بالمعنى النفسي - افهم هذه الكلمة - أنهم قالوا بالمعنى النفسي .
يعني أن الله جل وعلا لم يتكلم بكلام يُسْمَعُ منه وإنما هو معنى قام بنفسه فسمي كلاما ، وأما في الأزل فهو جل وعلا تكلم بكلام ، بالذي يريد أن يتكلم به بما يخلق به الأشياء ثم انتهى من الكلام ، ثم المعنى النفسي هذا يتجدد من حيث إيحاؤه لجبريل .
ولهذا يقولون هو عبارة عن كلام الله ، يعني عن الكلام القديم .
طبعا هذا باطل ، ونستدل على بطلانه بما قاله الآمدي - وهو أحد كبار هؤلاء المتكلمين - ويُكتفى بذلك .
قال إن هذه المسألة أشكلت عليه جدا - مسألة الكلام - ومما شككني في قول الأشاعرة أو قول المتكلمين أن الله جل وعلا قال ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا? .
قال وكلام المرأة الذي سُمع إنما كان بعد بعثة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فإذا كان الله جل وعلا قد قال ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ? قبل أن يخلق الخلق هذا ينافي الصدق .
يقول ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ? وهو لم يسمع بعد هذا ينافي الصدق .
يقول هذا من أعظم الأدلة على بطلان هذا القول .
وهي حجة جيدة وهذه على طريقتهم ، لكن عندنا من الحجج الكثيرة ، وكيف وألف شيخ الإسلام التسعينية ، تعرفونها ، الرسالة التسعينية أبطل فيها هذا القول وهو قول الأشاعرة والكلابية في المعنى النفسي .(32/354)
على العموم نكتفي بهذا القدر ، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، والأسئلة نجمعها ونجيب عنها في مرة قادمة إن شاء الله ...
?وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ?[التوبة:6]، ?وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?، ?يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ?[الفتح:15]، ?وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ?[الكهف:27]، وَقَوْلُهُ:?هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ?[النمل:76].
?وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ?([4])، ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ?[الحشر:21]، ?وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102)وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ?[النحل:103].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :(32/355)
فهذه الآيات في بيان أن القرآن العظيم هو كلام الله جل وعلا لفظه ومعناه ، وأنه كلام الله جل وعلا بما فيه من الحروف ، وأن كلام الله جل وعلا يسمع وأنه يكون قرآنا وكتابا وهما بمعنى واحد
وقد مر معنا في الدرس الماضي أن كلام الله جل وعلا صفة له جل وعلا وهو قديم النوع حادث الآحاد وأن الله جل جلاله يتكلم كيف شاء إذا شاء متى شاء وأن كلامه يُسمَع منه بحرف وصوت
هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة أعني أتباع السلف الصالح .
قالوا : (القرآن هو كلام الله منزَّل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود) .
وقولهم في القرآن (هو كلام الله) لهذه الأدلة التي ساقها شيخ الإسلام رحمه الله والتي منها قوله ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? وقوله ?وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ? وكلام الله هنا كما سيأتي يحتمل التوراة أو القرآن وإن كان أكثر التفسير على أنه التوراة ، وقوله جل وعلا ?يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ? فوصف الله جل وعلا القرآن بأنه كلامه .
ولهذا قالوا (القرآن كلام الله) بهذه الأدلة.
وقالوا (منزَّل) (كلام الله المنزَّل) أو (القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق) .
(منزل) قالوها لهذه الأدلة التي سمعت كقوله جل وعلا ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ? وقوله ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ? وقوله ?قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ? ونحو ذلك من الآيات ، فوصف الله جل وعلا القرآن بأنه منزَّل .
وقولهم (غير مخلوق) لأن الله جل جلاله قال في سورة الأعراف ?أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ? .
والواو تقتضي المغايرة فتدل على أن الخلق غير الأمر .(32/356)
والقرآن دل الدليل على أنه من الأمر وليس من الخلق في قول الله جل وعلا ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? .
فقال جل وعلا ?رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا? وهذا هو القرآن فجعله من الأمر .
فإذن انقسام الأشياء في آية الأعراف قال ?أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ? فثم شيئان :
" خلق .
" وأمر .
والخلق غير الأمر لأنه عُطِف بالواو ، ولما قال في القرآن إنه من الأمر دلنا على أنه غير مخلوق .
إلى غير ذلك من الأدلة على بطلان قول من قال إن القرآن مخلوق .
قالوا (القرآن منه بدأ وإليه يعود) (كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود) .
فقولهم (منه بدأ) يعني أنه تلقاه جبريل عليه السلام من الله جل وعلا سماعا ، ولم يأخذه جبريل من اللوح المحفوظ كما هو قول طائفة من المبتدعة ، ولم يأخذه جبريل من بيت العزة كما هو قول طائفة من المبتدعة ، ولم يعبِّر به جبريل عن كلام الله جل وعلا النفسي كما هو قول طائفة أو أنه حكاية وعبارة .
قالوا (منه بدأ) والقاعدة عندهم أن (من) إذا كان الابتداء من الله جل وعلا فهي تقوم مقام إضافة الأشياء إلى الله فتأخذ القسمين :
" إضافة الأعيان .
" وإضافة المعاني .
كما سيأتي إيضاح بعضه إن شاء الله .
قالوا (وإليه يعود) وقولهم (إليه يعود) يعني ما ثبت أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (يُسرَى على القرآن في ليلة حتى لا يبقى في الأرض منه آية واحدة)
يعني في آخر الزمان يعود القرآن إلى الله جل وعلا .
لأنه أنزله للعمل به ولأخذه بقوة ، فإذا رغب جميع الخلق عنه ولم يعودوا إليه أسري به إلى الله جل وعلا حتى لا يبقى منه في الأرض آية ، هذا معنى قولهم (وإليه يعود) (منه بدأ وإليه يعود) .(32/357)
إذن هذا التعريف للقرآن (كلام الله المنزَّل غير المخلوق منه بدأ وإليه يعود) ، هذا التعريف كما رأيت مأخوذ كله من الأدلة .
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا وهذا الأصل عندهم به فهموا معاني الآيات .
ففي قوله جل وعلا ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? وكذلك قوله ?وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ?
في هاتين الآيتين بُيِّن أن كلام الله يُسمَع ، وقوله ?حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? ?يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ? هذا يدل على أن المسموع هو كلام الله ، والمسموع هو القرآن إذا تُلي على الناس القرآن ، ومع ذلك فإن المتكلم به ابتداء هو الله جل وعلا .
والناقل له هو الذي أسمع القرآن ، يعني المتكلم به نقلا ، القائل له نقلا .
فقال ?حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? فهنا كلام الله يسمع ، فدل على القارئ التالي للقرآن يُسمِع كلام الله .
فإذن القول ليس هو قول القارئ أو التالي .
القرآن ليس هو قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إنشاء ولا هو قول جبريل إنشاء ولا هو قول من قرأ القرآن إنشاء .
وإنما هؤلاء إذا قرؤوا القرآن يقال إن هذا الذي خرج منهم هو قولهم بلاغا وإسماعا .
ففرق بين المنشيء للقول والمبلغ له .
ولهذا هنا حين قال ?يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? نعلم أن قوله ?كَلامَ اللَّهِ? هنا إضافة صفة إلى متصف بها.
وفرق بين باب الإبلاغ والإسماع وباب الإنشاء .
فالقرآن تكلم الله جل وعلا به وهو قول الله جل وعلا إنشاء ، من الله جل وعلا بدأ هو المتكلم به وسمع منه هو المنشيء له .
وجبريل سمع القرآن وأسمعه ، فيقال القرآن قول جبريل بلاغا كما في آية سورة التكوير قال ?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ? الذي هو جبريل .(32/358)
?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ? في آية الحاقة وهو المراد به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فإذن هنا أضيف القرآن من جهة القول إلى جبريل وأضيف إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهؤلاء قالوه مُسْمِعين له .
وهذه الآية دلت على أن من أسمع كلام الله لا يعني ذلك أن هذا المسموع خرج عن كونه كلام الله لأنه قال ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? ومن المعلوم أنه لن يسمع الكلام من المنشيء له وهو الله جل جلاله وجل ثناؤه ولكن سيسمعه من التالي له القائل له .
ولهذا قال الله جل وعلا ?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ? وهنا القول قول جبريل وجبريل مبلغ له .
هو قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بلاغا وأما الكلام فهو كلام الله جل وعلا إنشاء .
ففي هذا الباب من المهم أن تفرِّق بين باب البلاغ وباب الإنشاء لأن الله جل وعلا هو الذي ابتدأه (منه بدأ) .
قال في هذه الآية ?حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? قوله ?كَلامَ اللَّهِ? (كلام) صفة من الصفات لأنها ليست عينا قائمة وإنما هي صفة تقوم بالشيء .
لا يوجد عندنا شيء نراه اسمه الكلام وإنما الكلام يقوم بالأعيان التي تُرى ، فكلام خالد وكلام محمد وكلام صالح وكلام أحمد إلى آخره هذه صفات قامت بمن اتصف بها وليست بالأعيان .
كذلك قوله ?حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? هنا أضاف الصفة إلى الذات المتصفة بها .
أضاف صفة الكلام إلى الله جل وعلا وهذه إضافة صفة إلى موصوف .
ومن المتقرر في قواعد الأسماء والصفات أن الإضافة - إضافة الأشياء إلى الله جل وعلا نوعان :
- إضافة مخلوق إلى خالقه وذلك إذا كان المضاف عين منفصلة ، مثل (بيت الله) مثل (ناقة الله) ونحو ذلك ، (أرض الله) (مال الله) ?وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ? هذه كلها أعيان منفصلة فإضافتها إلى الله إضافة مخلوق إلى خالقه .(32/359)
- والقسم الثاني إضافة صفة - معاني - إلى الله جل وعلا فهذه لا تحتمل إلا أن تكون صفة مضافة إلى موصوف .
وقوله جل وعلا ?وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي? الروح هنا عين منفصلة ليست معنى وإنما هي شيء منفصل يقوم بذاته ولهذا صارت الإضافة هنا إضافة مخلوق إلى خالقه جل ربنا وتعالى وتقدس .
قوله ?يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ?
هذا أيضا فيه نفس الدلالة من جهة أن الكلام أضيف إلى الله جل وعلا فهي من إضافة الصفة .
قال جل وعلا ?وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ?
فيه أولا الوحي ، والوحي هو الإعلام والإخبار في خفاء ، إذا كان الإعلام في خفاء .
وقال بعض أهل اللغة في سرعة وخفاء سمي وحيا .
وفي الاصطلاح الوحي هو إعلام الله رسله بالشيء إما مشافهة وإما عن طريق رسول وإما في منام أو بإلهام ، هذا في الاصطلاح .
فإذن الذي أوحي إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هنا هو كتابه قال ?لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ? .
والكتاب كتاب الله جل وعلا هو المكتوب ، ما كُتِبَ فيه كلام الله جل وعلا .
وهو كتاب من جهة صفة الكتابة ، وقرآن من جهة صفة القراءة .
فيقال : كلام الله جل وعلا الذي أنزله على رسوله محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو كتاب إذا نُظِرَ إليه من جهة أنه مكتوب ?ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ? وهو مقروء قرآن إذا نظر إليه من جهة أنه يُقرأ.
وهذا يدل على أن الكتاب والقرآن التغاير بينهما تغاير في الصفات لا في الحقيقة .
قال جل وعلا ?تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ? هنا الكتاب والقرآن واحد من جهة الحقيقة
ولكن من جهة الصفة الكتاب نُظر فيه إلى كونه مكتوبا والقرآن نظر فيه إلى كونه مقروءا .
فإذن الواو هنا في قوله ?تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ? هي واو العطف التي تقتضي المغايرة ، والتغاير قد يكون تغاير صفات لا تغاير ذوات .(32/360)
هذا نقوله تقريرا لمذهب أهل السنة في أن الكتاب والقرآن واحد .
والكُلابية ومن نحا نحوهم يقولون الكتاب شيء والقرآن شيء آخر .
القرآن عندهم غير الكتاب وذلك مرتبط بقولهم في مسألة الكلام التي سيأتي بيان كلامهم فيها إن شاء الله .
إثبات تنزيل القرآن
من الله تعالى
قال جل وعلا ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ? ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ??وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ()قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ? الآية .
في هذه الآيات فيها لفظ الإنزال ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَك ٌ? ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ??قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ? وكذلك قوله ?نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين? الآيات .
ولفظ (الإنزال) كما مر معنا هو داخل في تعريف القرآن لأنه منزل .
وإذا كان كذلكم فلفظ (أنزَل) و (أُنزِل) وما جرى مجراها في القرآن جاءت على أنحاء منها :
" أولا أن يكون مطلقا ?وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ? أنزله من أي مكان ؟
ما ذكر ، ?أَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ? من أين جاء الإنزال ؟ لم يُذكر ، هذا نوع .
" النوع الثاني أن تُبَيَّن الغاية ?أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء? هذه بُيِّنَت فيها الغاية .
" الثالث أن يكون ابتداء الغاية من الله جل وعلا ?قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ? ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ? .
(أنزلنا) هنا إذن هو نزل من الله ?كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ? يعني نزل من الله جل وعلا .(32/361)
وإذا كان كذلك فهنا ينظر فيما ذكر فيه الإنزال بـ (من) على قاعدة الإضافة :
- فإذا كان المنزَل عينا صار إنزال مخلوق .
- وإذا كان المنزَل صفة كانت هذه الصفة قائمة بالله جل وعلا .
وهنا - يعني على هذه القاعدة - يستقيم استدلال شيخ الإسلام رحمه الله بهذه الآيات على أنه صفة الله جل وعلا لأن الإنزال ما دام أنه من الله جل وعلا فمعنى ذلك أنه إضافة إلى من اتصف بها جل ثناؤه وتقدست أسماؤه .
......
هو (من) إذا كان أتت (أُنْزَِِل من الله) (نَزَلَ من الله) ونحو ذلك (من ربك) فهذه تدخل في قاعدة الإضافة التي ذكرناها عند قوله ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? ، يعني أن هذا الذي ذُكر أنه أنزل من الله إذا كان عينا منفصلة عينا تقوم بنفسها فهذا يكون مخلوقا .
وإذا كان معنى فإنه يكون صفة للموصوف بها وهو الله جل وعلا ، مثل ما قلنا في الكلام ، الفرق بين (كلام الله) و (ناقة الله) أن (ناقة الله) هذه مخلوق عين قائمة معروف أنها ناقة وأضيفت إلى الله هذه تسمى إضافة تشريف إضافة تكريم لأن هذه مخلوق مستقل اللي هو الناقة فتكون الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه بخلاف (كلام الله) (رحمة الله) (سمع الله) ونحو ذلك هذه معاني لا تقوم بنفسها فيكون إضافتها إلى الله إضافة صفات .
كذلك (نزل) و (أُنزِل) هنا إذا كان منفصلا عينا قائمة دخلت في أنها إنزال مخلوق من الله .
إذا كانت ليست عينا وإنما هي معنى دخلت في الصفات .
هذا تقرير لما استدل به الشيخ رحمه الله من هذه الآيات العظيمة .
وأهل السنة يقولون إن كلام الله جل وعلا حرفٌ وصوت وأن القرآن هو كلامه جل وعلا الذي سمعه منه جبريل وأمره أن يبلغه إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
لأن جبريل يسمع كلام الله جل وعلا .
لكن القرآن أُمِرَ جبريل بأن يبلغه إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فصار قرآنا .(32/362)
وهناك ما يؤمَر أن يبلِّغَ جبريل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولا يكون قرآنا ، يكون فتوى يكون حديثا قدسيا إلى غير ذلك .
لكن إذا بلغه وقال هذا قرآن وله صفاته المعروفة يعرفها النبي عليه الصلاة والسلام فهذا هو القرآن .
القرآن من حيث هو كلام الله جل وعلا له مراتب :
- فهناك مرتبة الكتاب وهو أن القرآن كتبه الله جل وعلا في كتاب وجعله في اللوح المحفوظ قال جل وعلا ?بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيد ٌ(21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ? ، هذه مرتبة الكتاب ، هو في لوح محفوظ ، وهذه المرتبة من مرتبة الكتابة هي التي جاء فيها أثر ابن عباس في أن جبريل (أخذ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به إلى بيت العزة ثم نزل بعد ذلك مفرقا) .
قوله هنا (في بيت العزة) يعني في مرحلة الكتاب لأنه أول ما أوحي إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ القرآن أُكْرِمَ بيت العزة في السماء الدنيا بأن جُعل فيه القرآن المكتوب قبل أن يتكلم الله جل وعلا به كله لأنه نزل بالوقائع .
ليس كلام الله جل وعلا به قديما ، بالقرآن ، لا هو جل وعلا يتكلم به فإذا تكلم به سمعه جبريل فبلغه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في ثلاث وعشرين سنة ، هذه مرتبة الكتاب .
كذلك من مرتبة الكتابة المكتوب بين أيدينا المصحف الموجود هنا ، من حيث كونه مصحفا هو مكتوب ، كتاب .
- مرتبة أخرى مرتبة القرآن المتكلَّم به ، المسموع .
الله جل وعلا حين أراد أن يبعث نبيه محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إلى الناس تكلم بكلام سمعه جبريل وأمره أن يبلغه محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قرآنا .
هو الكتاب الذي أعطيه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وهو القرآن الذي هو حجة النبي عليه الصلاة والسلام .
فإذن حين بلغ جبريل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قول الله جل وعلا ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ? كان قد سمعه كذلك غضا طريا ..(32/363)
فسمعه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من جبريل فبلغه الأمة على أنه كلام الله الذي يؤجر المرء بتلاوته
وابتلي به الناس - الذي هو القرآن - وسماه هذه آيات القرآن ، فرق بينها وبين الفتوى أو الحديث القدسي إلى آخره .
هنا إذا اقترنت القراءة بالكتابة يعني : أخذ يقرأ من القرآن ، أخذ يقرأ من المصحف .
عندنا هنا مكتوب ومكتوب فيه ، ومقروء وصوت .
هنا مقروء مسموع شيء مسموع ، وصوت سمع .
السلف فرقوا بين هذه وقالوا في قاعدتهم المعروفة (الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري) يعني في مسألة اللفظ المعروفة فقالوا الكلام كلام الله والصوت صوت القارئ ؟
(الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري) لأن الله قال ?حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? فالمسموع من جهة الصوت هو صوت القارئ ، ومن جهة الألفاظ والحروف والمعاني هذه هي كلام الله جل وعلا .
كذلك من جهة الكتابة ، المكتوب هو القرآن هو كلام الله جل وعلا في مرتبة الكتاب أو في نوع الكتاب ، وأما نفس الورق والمداد والألوان ونحو ذلك فهذه مخلوقة .
فإذن من جهة القارئ ثَم شيء مخلوق وشيء هو صفة الله وهو كلامه فالكلام كلام الباري والصوت صوت القاري ، هذا من جهة التالي .
وكذلك المكتوب يعني الكتاب المصحف المكتوب فيه هو كلام الله جل وعلا الذي هو صفته غير مخلوق ، وأما الورق والمداد إلى آخره فهذه مخلوقة صنعها البشر .
القارئ إذا قرأ لا يجوز أن نقول (لفظه بالقرآن مخلوق) ولا يجوز أن نقول (لفظه بالقرآن غير مخلوق) .
بل هذا بدعة وهذا بدعة .
وذلك لأن اللفظ كلمة لفظ هذه فعْل تحتمل المفعول وتحتمل الفعل - التلفظ - .
فإذا قال القائل (لفظي بالقرآن) أنا أفهم منه أحد شيئين :
- إما أن يريد (لفظي بالقرآن) : تلفظي بالقرآن .
- وإما أن يقول : ملفوظي .
لفظي احتمال أنها تلفظي واحتمال أنه ملفوظي .
التلفظ الذي هو حركة لسانه وإظهار صوته هذا مخلوق .(32/364)
والملفوظ هذا هو القرآن الذي هو صفة الله جل وعلا غير مخلوق .
ولهذا بدّع السلف من قال لفظي بالقرآن مخلوق أو من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق .
وتعلمون المحنة التي جرت على الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في مسألة اللفظ حينما ظُنَ أنه قال لفظي بالقرآن مخلوق .
إذا تقرر هذا عندك من حيث تأصيل هذه المسألة .
باختصار كما تعلمون أن مسألة الكلام والقرآن هذه مسألة طويلة الذيول وكثير الكلام فيها حتى سمي علم الكلام بها ، لأنها هي أعظم مسائله وأشكل مسائله وأول ما تُكُلِّمَ في الصفات في كلام الله جل وعلا .
إذا تقرر لك مذهب السلف وأهل السنة والجماعة فإن المخالفين لهذا المذهب على أنحاء :
" فمنهم الذين قالوا إن كلام الله جل وعلا مخلوق .
وأول من أظهر هذه المقالة الجعد بن درهم وأخذها منه الجهم بن صفوان ثم تلقفها منه المعتزلة ، قالوا القرآن مخلوق ، كلام الله مخلوق ، هو إضافة مخلوق إلى خالقه ، لماذا ؟
قالوا : لأن الكلام لا يعقل أن يسمى كلاما حتى يكون بحروف وأصوات وهذا منزه عن الله جل وعلا .
فالمعتزلة حذاق من جهة التأصيل ، فقالوا لا يمكن أن يسمى الكلام كلاما حتى يكون بحروف وصوت ، كلام لا بد أن يكون بحرف وصوت .
والحرف والصوت يستلزم أشياء يستلزم التجسيم إلى آخره فقالوا فننفي ذلك عن الله جل وعلا
مثل كلامهم في مسألة الرؤية ، نفوا الرؤية كما سيأتينا لماذا ؟
قالوا : لأنه لا تكون الرؤية إلا إلى جهة ويستحيل أن يكون الله في جهة فنفوا الرؤية .
بخلاف الأشاعرة الذين نفوا الحرف والصوت وأثبتوا الكلام .
فإنهم تناقضوا يعني كلام أولئك غير معقول كما سيأتي .
إذن هؤلاء ما شبهتهم ؟
قالوا : لا كلام إلا بحرف وصوت وهذان لا يجوز وصف الله بهما لأنه يقتضي أن يكون له لسان ولهاث إلى آخره شبهوه بالبشر فنفوا ، أو أنه محل للحوادث ، أو أنه يكون ذلك في حلول الأعراض به جل وعلا فنفوا ذلك .(32/365)
ما دليلكم على أن القرآن مخلوق ؟
قالوا : قول الله جل وعلا ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ? .
والقرآن شيء ، فدلت الآية على أن القرآن مخلوق لأنها داخلة في عموم قوله ?كُلِّ شَيْءٍ? .
والجواب عن الأولى أن نقول : إن قولكم الكلام لا يمكن إلا بحرف وصوت نقول هذا صحيح فإن الكلام فيما نعهد في لسان العرب أنه لا يمكن أن يكون كلاما نفسيا ولا كلاما معنويا في داخل الفؤاد بل لابد أن يكون بحرف وصوت ، وهذا هو الذي نثبته لله جل وعلا لكن كما يليق بجلال الله وعظمته .
فصوت الله جل وعلا ليس كأصوات المخلوقين ، وتكلمه جل وعلا ليس كتكلم المخلوقين .
وقد جاء في صفة الصوت في البخاري أن الله جل وعلا (ينادي بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب) في الموقف .
وهذه ليست صفة صوت المخلوق قال (يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) .
فإذن نقول نلتزم بأن الكلام بحرف وصوت لكن نقول على القاعدة إن اتصاف الله جل وعلا بذلك كما يليق بجلاله وعظمته ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
فإثبات الصفات إثبات وجود ومعنى لا إثبات كيفية .
لأنه لا تُعلَمُ كيفية اتصاف الله جل وعلا بصفاته ، لا يعلمها إلا هو جل جلاله وتقدست أسماؤه .
أما قولهم في الاستدلال بقوله ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ? فنقول :
من جهة اللغة (كل) هذه تدل على ظهور في العموم .
والظهور في العموم يكون في كل شيء بحسبه .
ولهذا جاء استعمال كلمة (كل) و (كُلِّ شَيْءٍ) فيما لم يرد به العموم الاستغراقي التنصيصي كما في قوله جل وعلا في قصة بلقيس ?وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ? يعني وأوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك .(32/366)
وكذلك قوله في ذكر الريح التي أرسلها الله جل وعلا قال ?مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ? وقال ?رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ? الآية ، فإذن صار هنا قال ?تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ? ?مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ? ثم قال ?فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ? فدلل على أن عموم كل - نعم هي من ألفاظ العموم - على أنها هي بحسبها .
يعني عموم يدل عليه السياق وهو ظهور في العموم قد يخرج منه أشياء لدلالة المقام على ذلك ، كذلك نقول قوله ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ? هنا (كل شيء صار مخلوقا) بهذه الآية فكل شيء خلقه الله جل وعلا .
وآية الأعراف دلتنا على أن الأشياء نوعان : خلق وأمر ، قال ?أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ?
والقرآن كلام الله من الأمر وليس من الخلق .
فدلت على أنه لا يدخل في الآية ، لأن الذي يدخل في آية الأنعام ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ? وآية الزمر إلى غيرها الذي يدخل فيه المخلوقات وأما الأمر فلا يدخل فيه والقرآن من الأمر وليس من الخلق .(32/367)
والكلام معهم طويل الذيول ، لأنه في المرة الماضية بعد الدرس الماضي كان الكلام متوسطا في كلام الله جل وعلا وكلام الناس يعني آراء الناس في ذلك فذكر لي بعض الاخوة بعد ما خرجنا قالوا الكلام كان صعبا ونريد أن يعاد الدرس بكماله - الدرس الماضي - مع أنه هذه المسألة تعلمون أنها من أكثر المسائل في الصفات بحثا ، الكلام فيها كثير وطويل من حيث تقرير مذهب أهل السنة وغيره وصنفت فيها مصنفات كثيرة ومجلدات فالذي نذكره ما يناسب المتوسطين قد المبتدئ ما يحكم ذلك جميعا وقد يكون الذي حضر مجالس متنوعة يكون هذا الكلام عنده مكرر أو الفائدة فيه ليس جديدا عليه بكماله لكن نذكر هنا ما توسط يعني ما يناسب المستوى المتوسط للإخوة لا للمبتدئ ولا للمنتهي إنما هو بينَ بين .
هذا قول المعتزلة بتقرير خفيف لأدلتهم والجواب عليها .
" القول الثاني الذي هو قول الكُلاّبية .
والكُلاّبية هم أول من أحدث القول بأن كلام الله قديم .
أول من أحدث في الأمة أن القرآن كلام الله مخلوق هم : الجعدية ، الجهمية ، المعتزلة .
وأول من أحدث أن القرآن هو كلام الله وهو قديم وهو معنى نفسي هم الكُلاّبية أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلاّب وتبَِع ابن كلاب على ذلك الأشعري ومن تبعه على مذهبه .
والسبب أن هذه المسألة لما أن الأشعري ترك المعتزلة وخلع مذهبه ذهب في بغداد اللي هي دار الخلافة العباسية ، يُدَرِس فيها في المساجد ، المعتزلة يُدَرِسون والكلابية يُدَرِسون والكرامية ، أصحاب كل مذهب لهم حلقات ، فلحق بحلقة أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب ، فسمعهم يتكلمون في مسألة الكلام فأعجب بكلامهم في أن كلام الله جل وعلا قديم وأنه معنى نفسي وأنه يختلف بالعبارة فأخذ كلامهم ونصره وصار كُلابيا اللي هو أبو الحسن الأشعري .
وهكذا يعد مذهب الأشاعرة يعد مذهبا كُلابيا .
المقصود : قالوا إن كلام الله قديم هنا هو معنى نفسي .(32/368)
هذا المعنى النفسي واحد من حيث الصفة متعدد من حيث المعني .
إن تعلق بالمأمور سمي أمرا وإن تعلق بالنهي سمي نهيا وإن تعلق بالخبر سمي خبرا .
ومجموعها يقال له كلام الله ، وهو واحد ولكنه متعدد من جهة ما ألقي في رُوع جبريل ، فألقى الله جل وعلا كلامه القديم في رُوع جبريل بالعبرانية فصار توراة ، وبالسريانية فصار إنجيلا وبالعربية فصار قرآنا .
يعني عندهم أن الكلام معنى نفسي ليس عندهم الكلام يكون بحرف وصوت بل هو معنى نفسي قديم ، لماذا ؟ ما حجتكم في ذلك ؟
قالوا مستحيل أن يكون الكلام بحرف وصوت .
والأدلة دلت على أن الكلام صفة لله جل وعلا ، الأدلة التي ذكرنا التي سمعتم دلت على أن الكلام صفة الله جل وعلا ، والكلام مستحيل أن يكون حرفا وصوتا .
لأن معنى ذلك أنه يشبَّه الله جل وعلا بخلقه ، فما المخرج ؟
قالوا وجدنا في كلام العرب قول الشاعر :
جُعل اللسان على الفؤاد دليلا إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
ووجدنا قول عمر فيما حصل في سقيفة بني ساعدة أنه قال (فزوّرت في نفسي كلاما)
فدل - على قولهم - على أن الكلام يحتمل شيئين :
- يحتمل أن يكون بحرف وصوت
- ويحتمل أن يكون معنى نفسيا في داخل المتكلم ، والحرف والصوت ممتنع في حق الله جل وعلا فجعلنا ذلك معنى نفسيا ، لأن الكلام صفة ثابتة بالنصوص لا يمكن إنكاره .
- ردا على المعتزلة - فإذن هم ردوا على المعتزلة أن القرآن مخلوق وأن كلام الله مخلوق وقالوا لا بل هو صفة وأتوا بالأدلة .
لكن لأجل أن المعتزلة قالوا هو حرف وصوت وكان ذلك دليلا عندهم على أنه مخلوق هربوا من ذلك إلى ضده فأتوا بالمعنى النفسي أخْذا من قول الأخطل كما زعموا النصراني :
جُعل اللسان على الفؤاد دليلا إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
وبقول عمر فيما زعموا أيضا (فزوّرت في نفسي كلاما) .
والجواب عن هذا أن نقول : إن الكلام في لغة العرب لا يحتمل المعنى النفسي بل لا بد أن يكون بحرف وصوت .(32/369)
والمعتزلة من حيث اللغة أحذق من الأشاعرة ، الأشاعرة أكثرهم عجم والمعتزلة لهم تحقيق في مسائل اللغة .
فلما قالوا الكلام حرف وصوت نقول نعم كلام العرب دل على أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت واستدل على ذلك ابن جني في كتابه الخصائص بأن هذه الأحرف الثلاثة (الكاف ، واللام ، والميم) في لغة العرب في اللسان العربي الكريم كيفما جمعتها لا تدل على لين وسهولة وإنما تدل على قوة وشدة ، كيف ذلك ؟
قال خذ (كَلَمَ) يعني جرح ، خذ (مَلَكَ) خذ (كَمُلَ) خذ (لَكَمَ) إلى آخره ، فتصريفاتها تدل - بتقليباتها الذي يسمى الاشتقاق الأكبر - هذه تدل على قوة وشدة ولا تدل على لين وسهولة والذي يدل على القوة والشدة هو إخراج الكلام بحرف وصوت أما المعنى النفسي الداخلي فهذا مبالغة في اللين والسهولة لا يناسب معنى (تكلم) في لغة العرب .
وهذا الذي ذكره نفيس وصحيح لأنه يوافق الاشتقاق الأكبر ويوافق ما نعلمه من لغة العرب من أسرار في مثل ارتباط الكلمات وتصريفاتها وتقليبات الأحرف والكَلِم بعضها مع بعض .
هذا واحد .
قولكم إن الكلام يكون في الفؤاد نقول :
1 - هذا ما أخذتموه إلا من البيت الذي زعمتموه من قول الأخطل والأخطل أولا نصراني ، الأخطل التغلبي نصراني ، والنصارى أعظم ضلالهم في مسألة الكلام لأن قالوا الله جل وعلا سمى عيسى كلمة الله فجعلوا الكلمة هي من معنى أنه صفة الله فالنصارى ضلت في باب الكلام في نفسه هذا أولا ، وإذا كانت ضلت فلا يؤمَن أن النصراني هذا استعمل شيئا مما ورثه من ديانته ، هذا واحد .
2 - الثاني هذا البيت لم نجده في نسخة لا أصل ولا مشروحة من نسخ ديوان الأخطل ولا في ملحقاتها مما حفظه أهل اللغة ، لا يوجد في كلام في ديوان من دواوين الأخطل لا المشروحة ولا الأصول ، فمن أين أتيتم به ؟
3 - الثالث نقول : روي هذا البيت على وجه آخر ، روي بقوله :
جُعل اللسان على الفؤاد دليلا إن البيان لفي الفؤاد وإنما(32/370)
فهذا يدل على أن لفظة الكلام غير محفوظة ، وإذا كان كذلك فلا يسوغ الاحتجاج في اللغة بما يهدم الأصل بكلام غير محفوظ .
وقوله (إن البيان لفي الفؤاد) هذا يوافق اللغة .
البيان في الفؤاد لكن الكلام لا يمكن أن يكون في الفؤاد .
أما قولهم عن عمر أنه قال (فزورت في نفسي كلاما) نقول :
الرواية المحفوظة (فزورت في نفسي مقالا) وأما (فزورت في نفسي كلاما) فعلى فرْض صحتها فهو قال (زورت في نفسي كلاما) ولم يقل (قلت في نفسي كلاما) .
فزور في نفسه شيئا سماه كلاما باعتبار أنه سيخرجه لا باعتبار وجوده في داخل نفسه فافترق الأمر.
الجواب على كلامهم في هذا يطول .
المقصود من هذا أن قول الكلابية والأشاعرة في القرآن يقولون هو كلام الله ، كلام الله معنى نفسي
طيب القرآن الموجود بأيدينا وش يقول الكلابية و الأشاعرة فيه ؟
القرآن الذي بأيدينا يقولون مخلوق فيتفقون مع المعتزلة في أن القرآن الذي بأيدينا مخلوق لأنه جعلوا كلام الله على قسمين :
" كلام الله القديم صفته غير مخلوق ، صفة الله جل وعلا ولا يوصف بالخلق .
" وهذا الذي جُعِل في روع جبريل فعبّر عنه جبريل ، هذا مخلوق .
ولهذا من جعل القرآن مخلوقا على أي الجهتين - نسأل الله العافية - فهو راد لقول الله جل وعلا ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? وقد مر معنا في الدرس الماضي إثبات أن الكلام كلام الله جل وعلا حروف وأصوات والدليل على ذلك بتفصيل .
المسألة لها بحوث وكلام آخر لكن لعل فيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى .
أسأل الله لي ولكم الهدى والسداد والتوفيق والرشاد ...
نعم .. هو من كلام الله وهو كلام الله ?حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ? …(32/371)
يقول : فرق بعض أهل العلم بين الكلام والقول فقالوا يطلق الكلام على منشيء الكلام ابتداء والقول على من حكى أو بلغ الكلام ، ولكن ينشأ عن هذا إشكال نجد كثيرا ونقلا عن منشئ الكلام في قول عمر (وافقت ربي في ثلاث) فهل هذا المنقول كلام أو قول ؟
نعم هذا راجع إلى أن إطلاق لفظ الكلام (تكلم فلان) (هذا كلام فلان) لا يقال إلا لمن أنشأ لأنه أضافه إليه والإضافة تقتضي إضافة الكلام إلى منشئه .
أما المبلغ له يقال (قال فلان) لكن إذا مثلا أنا قلت (قال شيخ الإسلام ابن تيمية كذا وكذا) الكلام هذا كلام من؟ شيخ الإسلام ، والقول قولي إبلاغا لكلام شيخ الإسلام لكن أيضا هذا الكلام من الذي تكلم به ؟ إنشاءً تكلم به شيخ الإسلام وتبليغا تكلمتُ به ، لكن حين نقول هذا كلام من ؟ هو كلام شيخ الإسلام ليس كلامي ، لأنه إذا دار الأمر بين الإنشاء والتبليغ فيضاف إلى من أنشأه لا إلى من بلغه .
هذا قول من ؟ سمعت مني هذه الإضافة تنقسم إلى قسمين ، إذا سأل سائل ، سأل واحد منكم زميله فقال هذا قول من ؟ واحد يقول هذا قول فلان وآخر يقول هذا قول أئمة السنة ، قول شيخ الإسلام ابن تيمية ، قول ابن القيم ، قول البخاري قول الإمام أحمد ، طبعا هؤلاء هم الذين أنشؤوا القول وهو قولي من جهة أني ذكرته وتكلمت به عندكم فهو قول لي لكن لا يلزم أني أنا الذي أنشأته وإنما استفدته فيكون حظي البلاغ به ، فإذن مسألة الكلام نعم في قوله (كلام فلان) و (قول فلان) الكلام إذا قيل كلام فلان يعني هو الذي أنشاه ، هذا كلام شيخ الإسلام يعني هو الذي أنشأه ، هذا كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يعني من حيث الإنشاء ، وأما التبليغ فلا يقال إلا مع القرينة .
إثبات رؤية المؤمنين
لربهم يوم القيامة(32/372)
وَقَوْلُهُ:?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?[القيامة:21-22]، ?عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ? ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ?[يونس:26]، وَقَوْلُهُ: ?لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ?[ق:35]، وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا ، اللهم اغفر ولوالدينا ولإخواننا الذين سبقوا بالإيمان ، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا ودلنا على ما تحب وترضى ومُنَ علينا بالبصيرة والفهم في دينك وأَنِلْنا لذة النظر إلى وجهك يا أكرم الأكرمين ، أما بعد :
فهذه الجملة من الآيات هي آخر الاستدلال من القرآن على صفات الله جل وعلا وذكر فيها الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى صفة النظر إلى وجه الله الكريم ..
انتهى الشريط الثالث عشر من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الرابع عشر
وذكر فيها الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى صفة النظر إلى وجه الله الكريم .
والناظر هم المؤمنون والمنظور إليه هو الله جل وعلا .
وقول من قال صفة النظر يعني أن الله جل وعلا يُرى بالأبصار يوم القيامة .(32/373)
قد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك ، ومن أدلة القرآن هذه الآيات التي ذكرها الشيخ رحمه الله ، فمنها قوله جل وعلا ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? وقول الله جل وعلا ?عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ? كذلك قوله جل وعلا ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ? وقوله جل وعلا ?لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ?
وفي السنة أيضا إثبات أن الله جل وعلا يُرى يوم القيامة .
وهذه الصفة أو هذه الآيات فيها الدلالة على أن الله جل وعلا يُرى يوم القيامة وأن رؤية وجه الله الكريم هي أعلى نعيم أهل الجنة لأنه جعلها الزيادة فقال ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ? والحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم .
ولما جعل للذين أحسنوا الحسنى وعطف عليها الزيادة دلنا على أن الزيادة هذه نعيم مخصوص وهو أعلى من نعيم الجنة وإن كان هو حاصلا في الجنة .
ومسألة الرؤية من المسائل التي قررها أهل العلم من أهل السنة وصنفوا فيها المصنفات لكثرة المخالفين فيها .
والأدلة دلت بوضوح على أن الله جل وعلا يُرى بالأبصار في الآخرة يراه المؤمنون في عرصات القيامة ويراه المؤمنون متلذذين متنعمين في دار الكرامة دار الحبور والسرور .
أما الآية الأولى فهي قوله جل وعلا ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?
سَبكُ الكلام : (وجوه يومئذ ناظرة ، ناظرة إلى ربها) .
فقوله ?إِلَى رَبِّهَا? هذا الجار والمجرور متعلق باسم الفاعل (ناظر) لأن القاعدة أن الجار والمجرور - يعني شبه الجملة - يتعلق بالفعل أو بما في معنى الفعل كاسم الفاعل كما هنا .
قال ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? كأنه قال : (وجوه يومئذ ناظرة إلى ربها) .
فوصف الوجوه أو أخبر عن الوجوه بشيئين :
" أخبر عنها بأنها ?نَاضِرَةٌ? .(32/374)
" وأخبر عنها بأنها ?نَاظِرَةٌ? .
والنُّضرة :هي الحسن والبهاء .
وأما النظر : الذي منه (ناظر) فهذا هو نظر العين لأنه قال فيه ?إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? .
وكذلك قوله ?عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ?
?يَنظُرُونَ? هنا حَذَفَ ما يتعلق به - يعني حذف جهة النظر أو حذف ما يُنظر إليه -
?عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ? ينظرون أيَّ شيء ؟
قال أهل العلم هنا في قوله ?عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ? يعني ينظرون إلى كل نعيم .
ومن النعيم لذة النظر إلى وجه الله جل وعلا .
فيكون قوله ?يَنظُرُونَ? يعني يَرَوْنَ بأبصارهم كل ما يسرهم لأنه من المتقرر أن الحذف يفيد أشياء ، ومما يفيده : التعميم أو الشمول أو عدم الاختصاص .
إذا تقرر هذا فلفظ (النظر) في القرآن جاء على أنحاء :
" فمنه ما جاء في كون النظر غير معدَّى بحرف جر ، (نَظَرَ) هكذا بدون تعدية .
" والثاني أنه يُعَدَّى بـ (في) (نَظَرَ في) .
" الثالث أنه يُعَدَّى بـ (إلى) (نَظَرَ إلى) .
وكل واحد من هذه الاستعمالات له معنى خاص .
واللازم منها يعني غير المُعَدَّى (نظر فلان) يعني : انتظر .
فـ ?هَل يَنظُرُونَ إلا الساعة? يعني هل ينتظرون .
فإذا لم يعدَّ النظر بحرف (في) ولا بحرف (على) فهو بمعنى الانتظار .
وكذلك قوله ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ? .
?هل يَنظُرُونَ? يعني هل ينتظرون .
?فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ? يعني ينتظرون ، هذا القسم الأول.
القسم الثاني أن يُعَدَّى النظر بـ (في) : ?أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ? هنا عُدِّيت بـ (في) .
إذا عُدِّي النظر بـ (في) ?أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? .(32/375)
فيكون النظر بمعنى الرؤية المضمَّنة للاعتبار والتأمل والتفكر .
القسم الثالث أن يعدَّى النظر بـ (إلى) : فإذا عُدِّي النظر بـ (إلى) فيكون معناه الرؤية البصرية البحتة .
فقوله جل وعلا ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? هذا فيه تعدية النظر بـ (إلى) .
فيكون ?نَاظِرَةٌ? هنا بمعنى رائية بمعنى الرؤية البصرية .
ويقوي ذلك ويؤكده أنه أضاف النظر إلى الوجوه .
والوجوه إذا كانت هي التي تنظر معنى ذلك أن المقصود من النظر الرؤية لأن الوجوه هي محل الرؤية لأن فيها العينين .
كذلك قوله ?عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ? يعني يَرَوْن .
هنا ?يَنظُرُونَ? لم يُعَدِّها فعلى ما ذكرنا من القاعدة يكون المعنى : على الأرائك ينتظرون.
والاحتمال الثاني أن يكون ?يَنظُرُونَ? بمعنى ينظرون إلى كذا وكذا ، فحذفت .
تعيَّن الثاني وهو أنه (ينظرون إلى) فحذف لأن هذا في سياق ذكر نعيم أهل الجنة .
ونعيم أهل الجنة لا يناسبه انتظارهم لما ينعَّمون به بل أهل الجنة إذا اشتهوا شيئا أتاهم فورا ، فلا ينتظرون حتى إن أحدهم ليشتهي الشواء فينظر إلى الطير في السماء - في سماء الجنة - فيأتيه مشوياً كما يشتهي في لحظة .
إذن نقول هنا في قوله ?يَنظُرُونَ? نعم هي محتملة للانتظار من حيث اللفظ لأنها لم تُعَدَّ .
لكن لا يناسب نعيم أهل الجنة الانتظار .
ولذلك استدل بها الشيخ هنا على مسألة الرؤية لأن ذلك هو الذي يناسب نعيم أهل الجنة .
قوله جل وعلا ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ?
?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا? يعني أخلصوا لله وتابعوا سنة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وكانوا من أهل الإحسان لهم الحسنى جزاءً وفاقا ، فكما أحسنوا فلهم الحسنى .
والحسنى هي الجنة لأنها هي البالغة في الحسن نهاية المخلوقات وهي غاية النعيم من المخلوقات وغاية الجمال من المخلوقات وعرش الرحمن الكريم البهيّ الجميل هو سقف الجنة .(32/376)
قال ?وَزِيَادَةٌ? الزيادة فسرها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بأنها النظر إلى وجه الله الكريم كما رواه مسلم في الصحيح .
وقوله ?وَزِيَادَةٌ? يعني زيادة على الحسنى ، والحسنى جعلها جزاءً للإحسان .
وأما الزيادة هذه وهي لذة النظر إلى وجه الله الكريم فإنه لا ينالها العبد البتة بسبب من الأسباب إلا بفضل الله جل وعلا ورحمته هو الذي تفضل على عباده بذلك .
الحسنى التوحيد الأعمال الصالحة هي سبب دخول الجنة والجنة يدخل لها العبد برحمة الله جل وعلا وأما الزيادة فهي محض فضل الله جل وعلا وكرمه ومِنَّته على عباده بهذا النعيم المقيم بالنظر إلى وجه الله الكريم .
لهذا قال ?وَزِيَادَةٌ? يعني زيادة على أجر عملهم ، ?ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? هذا جزاء لهم وأعمالهم سبب في ذلك ، وأما الزيادة فهي كرم من الله جل وعلا .
قال وَقَوْلُهُ ?لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ?
فُسِّر قوله ?وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ? أيضا بالنظر إلى وجه الله الكريم كما ذكر في الآية السالفة .
إذا تقرر ذلك فهذه الآيات فيها إثبات رؤية المؤمنين لله جل وعلا لأنها جميعا في أهل الإيمان : الأولى والثانية والثالثة والرابعة كلها في أهل الإيمان .
وأما الكفار والمنافقون فهم محجوبون عن رؤية الله جل وعلا قال سبحانه ?كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ? قال الشافعي وغيره (لما حجب أهل الكفر عن رؤيته دل على أن أهل الإيمان يرونه) أو كما قال .
وأهل السنة يثبتون الرؤية ويقولون : رؤية الناس لربهم جل وعلا في العرصات وفي الجنة بقوة يجعلها الله جل وعلا في أعينهم تناسب مقام الرؤية .
وأما في الدنيا فإنه لا يمكن لأحد أن يرى الله جل جلاله .
لا يمكن لأحد أن يقوى بصره لرؤية الله جل جلاله .(32/377)
ولما سأل موسى الكريم سأل ربه الرؤية قال الله جل وعلا له ?لَن تَرَانِي? يعني في الدنيا ?تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا? وفي تفاسير السلف قالوا (تجلى الله جل وعلا للجبل كقدر هذه) فخر الجبل وخر موسى صعقا وساح الجبل .
ففي الدنيا لا يمكن لأحد أن يرى الله جل جلاله .
والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ليلة أسري به أيضا لم ير الله جل جلاله وإنما رأى نورا .
رأى الحجاب والله جل وعلا هو النور وحجابه النور .
سئل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هل رأيت ربك قال (رأيت نورا) وفي رواية أخرى قال (نورٌ أنى أراه) يعني ثَمَ نور فأنى أراه يعني كيف أراه ؟
والنور هذا هو الحجاب الذي جاء في الحديث (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سَبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) .
والبصر بصر الله جل وعلا ليس له نهاية فمعنى ذلك أنه لو كشفه لاحترق كل شيء جل وعلا وتقدس وتعاظم ربنا .
فإذن الرؤية عند أهل السنة أنها لا تكون في الدنيا ولا في البرزخ وإنما هي يوم القيامة بقوة يجعلها الله جل وعلا في أعينهم ، في أعين المؤمنين فيرونه .
وهذه الرؤية رؤية من غير إحاطة لأن الله جل جلاله لا يحاط به قال سبحانه ?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ? .
?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ? يعني لا تحيط به الأبصار ، وكيف يحيط به البصر والأرض جميعا قبضته يوم القيامة جل وعلا فكيف بمخلوق واحد على أرض الله جل جلاله .
إذن نقول بامتناع رؤية أحد لله جل وعلا في الدنيا .
أما المخالفون لأهل السنة هم ثلاث طوائف :
- طائفة تزعم أن الرؤية ممكنة في الدنيا وفي الآخرة : وهؤلاء هم الصوفية ومن نحا نحوهم .
يقولون الله جل وعلا يُرى في الدنيا ويُرى في الآخرة .(32/378)
وتقول رابعة العدوية - وهي منسوبة لهم - تقول لله جل جلاله :
وحب لأنك أهل لذاكا أحبك حبين حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا فأما الذي هو حب الهوى
فكشفك لي الحُجْبَ حتى أراكا وأما الذي أنت أهل له
وكل واحد منهم يزعم أنه رأى الله جل جلاله في اليقظة .
وهذا باطل وذلك لأن الرؤية حُجِبَت عن موسى عليه السلام فقال الله جل وعلا لموسى .
?لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي? .
نقول لا يُرى الله جل وعلا في الدنيا في اليقظة .
أما في المنام فأهل السنة يثبتون إمكان رؤية الله جل وعلا في المنام .
ورؤيته في المنام جل وعلا ليست على صورته جل وعلا التي هو عليها لأن هذه لا يمكن لأحد أن يراه فيها .
وإنما قالوا يراه الرائي على قدْر إيمانه لأن الرؤية يكون المقصود بها رؤية من يؤمن به .
فإن كان إيمانه قويا رأى صورة حسنة كما رأى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ربه جل وعلا في أحسن صورة قال عليه الصلاة والسلام (رأيت البارحة ربي في أحسن صورة) .
وقوله (في أحسن صورة) لأنه عليه الصلاة والسلام أكمل المؤمنين إيمانا .
وهذا من جهة الإمكان .
والإمكان لا يدل على تكرار الوقوع لكن قد يحصل ، قد يراه يرى الرائي رؤية قبيحة فيكون ذلك دالا على ما في نفسه ونحو ذلك .
وهذه لا تسمى رؤية لله جل وعلا وإنما يرى ما يتمثل له إيمانه فيه .
ليس هذا محل البحث الذي هو رؤية المنام لأنها ليست رؤية إلى ذات الله جل وعلا وإنما هي شيء آخر ضرْب للأمثال يأذن الله جل وعلا بها لحكمة .
الطائفة الثانية : تقابل هذه وهي طائفة الخوارج والمعتزلة ، طوائف الخوارج والمعتزلة ومن شابههم من الذين يقولون إن رؤية الله جل وعلا لا يمكن أن تكون لا في الدنيا ولا في الآخرة .
قالوا من جهة الآيات هذه التي ذكرنا قوله ?إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? يعني منتظرة .
والنظر يأتي بمعنى الانتظار .(32/379)
والجواب عليه بما سبق من التفصيل في معنى النظر من أن النظر ينقسم إلى ثلاثة أقسام .
وما ذكروه باطل وممتنع لأنه هنا عَدَّى النظر بـ (إلى) وذكر محل النظر الذي هو الوجه فلا يمكن أن يكون بحال بمعنى الانتظار .
قالوا وأما قوله ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ? فتفسير الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم هذا من الآحاد والآحاد لا تقبل في العقيدة وإنما الزيادة هنا هي نعيم يزيدهم الله جل وعلا .
هكذا زعموا .
قالوا ومن الأدلة قوله جل وعلا ?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ? والإدراك بمعنى الرؤية .
فقوله ?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ? يعني لا تراه الأبصار ، وهذا عام يشمل الدنيا والآخرة .
والجواب أن قوله جل وعلا ?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ? الإدراك ليس بمعنى الرؤية في اللغة وإنما الإدراك بمعنى الإحاطة .
قال جل وعلا ?فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ? هو أثبت أن الجمعين قد رأى بعضهم بعضا فقال ?فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ? يعني رأى هذا الجمع ذاك الجمع ورأى الجمع الآخر ذاك الجمع فأثبت أن الجمع رأى الجمع.
ثم قال ?فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ? فدل على أن معنى الإدراك غير الرؤية .
ومعنى قولهم ?إِنَّا لَمُدْرَكُونَ? يعني إنا لمحاط بنا .
فقوله ?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ? يعني لا تحيط به الأبصار وهذا مقطوع به ، تبارك ربنا وتعاظم .
قالوا قول الله جل وعلا لموسى حينما سأله قال موسى ?رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ? .
قال موسى لله ?رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ? فقال ?لَن تَرَانِي? .
قالوا قوله ?لَن تَرَانِي? هذا يشمل الدنيا والآخرة لأن (لن) تفيد التأبيد تفيد تأبيد النفي مطلقا. يعني ما بعدها منفي إلى الأبد ما لم يأت استثناء .(32/380)
والجواب أن القول بأن (لن) تفيد التأبيد هذا غلط والمحققون من النحاة ردوا هذا القول واعتبروه دخيلا على النحو .
قال ابن مالك في منظومته الكافية الشافية :
فقوله اردد وسواه فاعضدا ومن رأى النفي بلن مؤبدا
(من رأى النفي بلن مؤبدا) يعني المعتزلة (فقوله اردد وسواه فاعضدا) .
فإن النفي بـ (لن) لا يدل على التأبيد كما ذكر ابن هشام في المغني ... 1
فزمن النفي يستفاد من دليل آخر وهناك أيضا شواهد تدل على أنَّ (لن) لا تفيد التأبيد .
المقصود من هذا أنهم استدلوا بهده الأدلة على هذا النحو ويوردون شواهد على ذلك .
وفي هذا الزمن بخصوصه يتبنى مسألة الرؤية بقوة الإباضية ويدْعون الناس إلى ذلك ويقيمون الأدلة على ما زعموا والأدلة التي يستدلون بها عند التحقيق والنظر والعلم كلها ساقطة لا تصلح للاعتماد ولا الاعتضاد أصلا لنفي دلالاتها التي زعموها .
من أدلة المعتزلة على نفي الرؤية قالوا : الرؤية لا يمكن أن تكون إلا إلى جهة والجهة ممتنعة في حق الله جل وعلا لأنه إذا كان جل وعلا في جهة معنى ذلك أنه متحيز وإذا كان متحيزا معناه أنه شبيه بالأجسام وهذا باطل ، وقالوا ننفي الرؤية لأجل هذا .
والجواب أن هذا القول صحيح غلط .
صحيح من جهة أن الرؤية لا تكون إلا إلى جهة ، هذا صحيح .
ولكن كون الجهة من صفة الأجسام هذا مبني على تشبيههم الحال بالحال .
والله جل وعلا نثبت له العلو والعلو أحد الجهات .
فهو جل وعلا في العلو والناس يرونه وهو جل وعلا عال عليهم بذاته سبحانه وتعالى .
وأما التحيز فهو منفي لأن الرؤية معها عدم الإحاطة .
وعدم الإحاطة بسبب أن الله جل وعلا بكل شيء محيط لا يحيط البشر به وهو جل وعلا محيط بهم ?أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ? سبحانه وتعالى .
الطائفة الثالثة - هذا مختصر الإيرادات والأجوبة - الطائفة الثالثة الأشاعرة والماتريدية ..(32/381)
قالوا نثبت الرؤية كما دلت عليها الأدلة ، الأدلة من الكتاب والسنة دلت على الرؤية قالوا فنثبت أن الله جل وعلا يُرى .
ولكن الرؤية إما أن تكون إلى جهة أو إلى غير جهة .
فإذا كانت إلى جهة اقتضى ذلك التحيز فنمنع ذلك ونقول الرؤية تكون إلى غير جهة .
بالعين ؟
قالوا لا ، ولكن بإدراك يُجعل في العين .
إذن عندهم إثبات الرؤية مع سلب صفات الرؤية ، إثبات الرؤية إلى غير جهة وهذا غير معقول
ثانيا مع سلب البصر تلك الرؤية وجعل الرؤية إدراك يكون في العين يعني أن العين لا تنظر ولكن الله جل وعلا يخلق إدراكا في العين لذلك .
وهذا القول باطل أيضا لأن الله جل وعلا جعل الرؤية للوجوه في قوله جل وعلا ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? .
والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (سترون ربكم كما ترون البدر ليلة التمام) وقوله (كما) تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيها للمرئي بالمرئي .
وتشبيه الرؤية بالرؤية يعني أن رؤيتكم للبدر ليلة التمام فيها :
- أن الرؤية بالبصر .
- والثاني أن الرؤية لمن هو عال عليك (إنكم سترون ربكم كما ترون البدر ليلة التمام) .
- والثالث أنه لا يزدحم الناس في رؤيته بل يراه المؤمنون جميعا كما جاء في الحديث (لا تضامّون في رؤيته) وسيأتي في قسم السنة إن شاء الله .
وكون ثَمَ رؤية إلى غير جهة نقول هذا غير معقول .
لهذا المعتزلة أحذق فقالوا ليس ثَمَ رؤية إلا إلى جهة فإذا أثبتم الرؤية فأثبتوا الجهة وهذا الكلام صحيح ، فإذا أثبتت الرؤية فتثبت الجهة .
ولكن الجهة مجملة أيُّ جهة ؟
نقول هي جهة العلو لأن العلو ثابت لله جل وعلا .
?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ? .
هذا ملخص ما في هذا البحث .
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ)
ويعني بهذا الباب يعني باب الصفات أو باب الإيمان بالله جل وعلا على وجه العموم .(32/382)
ومن أراد الهدى (أخذْ الإيمان من القرآن) ، فإن ذلك في القرآن كثير من جهة آيات الصفات وآيات الغيبيات والأسماء والأفعال والجنة والنار والصراط والميزان وأمور الإيمان كلها في كتاب الله جل وعلا .
قال (مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ)
تدبر القرآن واجب لأن الله جل جلاله حث عليه وأمر به فقال سبحانه ?أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا? دلت الآية على أن من لم يتدبر القرآن فإن على قلبه قُفلا .
وقال ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا? .
وقال جل وعلا ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأَوَّلِينَ? .
وقال سبحانه ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ? .
وقال جل وعلا ?إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا? وقال ?إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا? ونحو ذلك من الآيات
فإذن القرآن عربي يُفهم عن طريق هذا اللسان وأنزِل للتدبر وحث الله جل وعلا على تدبره بل وأمر بذلك فـ (مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ) .
وقول الشيخ رحمه الله (طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ) يدل على أن من الناس من يتدبر القرآن ولكن ليس على طلب الهدى منه ولكن لطلب التأويل والاعتساف والتحريف وهذا حاصل عند أهل الأهواء المضلة
فإن المعتزلة منهم من تدبر القرآن لكن لا لطلب الهدى ولكن لطلب صرف وجوه الآيات عن ظاهرها وعن حقائقها إلى تأويلات باردة وتحريفات زائغة .(32/383)
فـ (مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ) وهذا واجب أن يتدبر القرآن لأجل أن يأخذ الهدى منه لأن القرآن جعله الله جل وعلا هاديا للتي هي أقوم قال سبحانه ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ? وقوله ?لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ? .
و هذا عام يشمل العقيدة يعني يشمل الأخبار والأحكام .
ففي باب الأخبار القرآن يهدي للتي هي أقوم وفي باب الأحكام القرآن يهدي للتي هي أقوم .
فمن أراد الهدى فهو في القرآن في كتاب الله جل وعلا من أراد إصلاح النفس فهو في القرآن من أراد بيان الإيمان فهو في القرآن من أراد الأحكام فهي في القرآن ، والسنة مبينة للقرآن وشارحة له ودالة عليه ومفسرة له كما قال جل وعلا ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? .
وهذه الجمل الأخيرة التي ذكرها الشيخ للدلالة على شيء وهو أن أهل الباطل الذين خالفوا طريقة القرآن إنما أخذوا طريقتهم من أقوال أهل الكلام من أقوال المناطقة من أقوال اليونان .
واليونان أثّروا في صياغة ذهن الناظرين في العقائد .
لأن اليونان جاءوا بالفلسفة - والمنطق من الفلسفة - والفلسفة على قسمين :
" قسم فيه إصلاح للعقل كما يزعمون .
" وقسم فيه إصلاح للنفس .
أصحاب إصلاح العقل وضعوا القوانين التي بها تعرف حقائق الأشياء .
ويسلم بها المنطق والعقل من الخطأ .
وأصحاب إصلاح النفس هؤلاء يقال لهم (الإشراقيون) أتباع أفلوطين الاسكندراني هذا جعل الفلسفة لإصلاح النفس .
وطائفة كأرسطو وأفلاطون إلى آخره جعلوها لإصلاح العقل .
هاتان المدرستان دخلتا على البلاد الإسلامية لما ترجمت الكتب .(32/384)
فمن أهل الإسلام من أراد إصلاح عقله عن هذا الطريق فنتج أنهم وجدوا أشياء مصادمة للنصوص فأرادوا أن لا يخرجوا من الإسلام بل يقبلوا ما جاء به أولئك من العقول الصحيحة - لأن اليونان كانوا يُمدحون كثيرا - ويأخذون بما جاء في الشريعة .
فنتج من هذا الخليط ما يسمى (علم الكلام) .
والإشراقيون ترجمت كتبهم ودخلت في بلاد الإسلام وكان أناس ينظرون في هذه الكتب ونتج من نظرهم أن وجدوا تلك الطريقة طريقة الإشراقيين في إصلاح النفس تخالف طريقة أهل الإسلام .
فأخذوا منها بما لا يخالف عندهم طريقة أهل الإسلام فنتج من هذا الخليط التصوف .
وهذا كله نشأ عن طريق دخول تلك الأفكار اليونانية إلى بلاد المسلمين .
ولهذا الشيخ ينبهك إلى هذا الأصل بقوله (مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ) فطريقة أهل الكلام في إثبات وجود الله أخذوها من المناطقة وليس من القرآن ، طريقة مختلفة .
أولئك يثبتونها عن طريق حدوث الأعراض والقرآن يثبت وجود الله جل وعلا افتقار الإنسان وأنه لم يصنع شيئا لنفسه ?إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ? إلى آخره .
طريقة إصلاح النفس عند هؤلاء شيء وفي القرآن شيء آخر ، إلى آخره .
هؤلاء ترهبوا وفي القرآن ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ? .
إشراق النفس منه أن المرء يصل بتربية النفس إلى رؤية الله جل وعلا .
فدخل على المسلمين بذلك .
في بحث يطول ويسمى صلة التفكير الإسلامي بالفكر اليوناني عند كثير من الباحثين .
هذا به ننتهي من القسم الأول وهو ذِكر الآيات الدالة على الصفات .
شيخ الإسلام أطال في هذه الآيات ولم يستوعب .
لأنه مختصر لأجل أن يثبت هذا الباب ، لأن هذا الباب فيه ضلال كثير عند المخالفين .
القسم الثاني يأتي السنة وسيكرر الكلام على الصفات أيضا التي ثبتت في السنة ومنها الصفات التي سبق إيضاحها .(32/385)
بهذا إذا أتينا للقسم الثاني إن شاء الله تعالى سنذكر كلاما وجيزا فيها وسنحيل على ما سبق الكلام عليه من أصل الصفات .
لأن إيضاح الواسطية قد يكون إيضاحا تفصيليا وقد يكون إيضاح مباحث وهكذا كتب الاعتقاد
فالإيضاح التفصيلي أن تأخذ كل آية تفسيرها وما يتعلق بها من مباحث والتي من مباحثها إثبات الصفة التي فيها .
الطريقة الإجمالية على طريقتنا نأخذ مجموع الآيات ومراد الشيخ من الاستدلال بها وما تضمنته من الصفات أو من الإيمان ثم يعرض للمبحث بشكل عام .
إن شاء الله من الأسبوع القادم نبتدئ بقسم السنة ثم بعد قسم السنة ندخل في مباحث مهمة أيضا اللي هي مباحث العقيدة العام .
نعم
......
هذه بعض أهل العلم كابن القيم يقول إن الكفار يرون الله ولكن رؤية عذاب لا رؤية نعيم وهذا فيه نظر ، لكن الصواب أنهم يلقون الله جل وعلا يعني يلقونه محاسبا لهم من غير رؤية .
نعم .
?فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ? استدل بذلك على إثبات الرؤية وكذلك قال تعالى ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ? ما الجواب عن هذه الآيات ؟
?فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ? اللقاء فسرها طائفة من السلف بالرؤية اللقاء بالمعاينة، يعني فمن كان يرجو رؤية ربه ، واللقاء لقاء الله جل وعلا من المؤمن معناه رؤيته لله تبارك وتعالى .
هل هناك دليل على أن الحسنى هي الجنة ؟
نعم قول الله جل وعلا ?وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ? .
كيف نرد على من احتج بأن القرآن يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة ، فكيف تنفك الصفة عن الموصوف ؟
الله جل وعلا يجعل القرآن أو بعض القرآن يوم القيامة يعني ثواب القرآن يجعله مظللا العبد(32/386)
كما جاء في السنة (أن سورة البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو قال غيابتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما) .
هذا يدل على أنه يجعل الله جل وعلا ثوابه ذلك ، هذا قول .
القول الثاني على أن الله جل وعلا يجعلها أجساما كذلك وليست هي القرآن ولكن يجعل ذلك أجساما لتكون المحاجة وأما القرآن فهو كلام الله جل وعلا منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود .
في هذا القدر إن شاء الله كفاية .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
فَصْلٌ في
أسماء الله وصفاته
في سنة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك.َ
فَمِنْ ذَلِكَ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن اهتدى بهداه ، اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا وعملا صالحا ودعاء مسموعا ربنا علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ... 1
أن السنة في الدلالة على صفات الله جل وعلا قرينة القرآن .
وأن الصفات يتلقاها أهل السنة من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وقوله هنا (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) أنه ذكر قبل ذلك ما جاء في القرآن من إثبات الصفات .
فالإيمان بالله جل وعلا يدخل فيه الإيمان بربوبيته وبإلهيته وبأسمائه وصفاته .
ودلالة ذلك أو الدليل على ذلك القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة .
ذكر الأدلة من القرآن ثم الآن ذكر الأدلة من السنة على ذلك.(32/387)
لأنه قد قال قبل ذلك في قوله (من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه) قال (وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص) إلى وقوله إلى أن أتم الاستدلال من القرآن على ما أراد .
ثم قال هنا (فَصْلٌ : ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .
والفصل جعله ليميز ما بين الأدلة من السنة عن الأدلة من القرآن وهذه طريقة أهل السنة والجماعة فإنهم يذكرون في المسائل الأدلة من الكتاب ثم يذكرون الأدلة من السنة .
وقوله (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) السنة تطلق بإطلاقات :
" تطلق ويراد بها الطريقة العامة العملية ، وهذه جاء فيها حديث : (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
" وتطلق السنة ويراد بها ما يقابل القرآن وهو كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأفعال النبي عليه الصلاة والسلام وذلك كما جاء في الحديث ، حديث أبي مسعود البدري أنه قال : قالَ رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) يعني بالسنة ما بلّغه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أمته مما ليس من القرآن أو ليس من كلام الله جل وعلا الذي نماهُ عليه الصلاة والسلام إلى ربه .
" وتطلق السنة ويراد بها كل ما يضاف إلى النبي عليه الصلاة والسلام من قول أو فعل أو تقرير أو وصف أو هَمْ أو إرادة أو خَلْقٍ أو خُلُقْ كل هذا يدخل في السنة وهذا عند المحدثين .
" وتطلق السنة ويراد بها الطريقة المرضية في الدين ، وهذه تُقَابَلُ بها البدعة فيقال السنة كذا والبدعة كذا يعني الطريقة المرضية في الدين كذا إما في العبادات أو في السلوك والبدعة كذا فيقابل بين السنة والبدعة .(32/388)
هذه هي الإطلاقات للسنة ، ومراد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الاستدلال هو قول النبي عليه الصلاة والسلام أو فعله .
والقول كثير والفعل في مقام الاعتقاد من مثل مجيء الحَبر من أحبار اليهود إليه وقال (يا محمد إن الله يضع السماوات على ذِهْ والأرض على ذِهْ) الحديث يعني أصابعه ولما أتم كلامه قال (فضحك رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تعجبا من قول الحَبر أو الحِبر) هذا يستفاد منه أو يستدل به على إثبات الأصابع لله جل جلاله ، وهذا ليس فيه قول منه عليه الصلاة والسلام وإنما هو فعل يؤخذ منه التقرير .
لكن هذا قليل والكثير في هذا الباب هو النقل بقول النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المسائل .
إذن نقول قوله (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
يعني بها أقواله عليه الصلاة والسلام التي فيها ذكر الأمور الغيبية أو ذكر صفات الله تبارك وتعالى .
قال (فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ ، وتُبَيِّنُهُ ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ)
هذه عبارة الإمام أحمد : السنة تفسر القرآن تبينه تدل عليه وتعبر عنه .
والسنة في القرآن تأتي بلفظ (الحكمة) كما قال جل وعلا ?وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ?
وكقوله ?وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا? وكقوله ?وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ? هذه الحكمة يراد بها سنة الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وأيضا في القرآن يأتي الدلالة على السنة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام آتانا إياها كقوله ?وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا? .
ما آتاكم الرسول وما نهاكم عنه هذا دليل على السنة يعني على التعبير عن السنة بذلك .(32/389)
كذلك يعبَّر عن السنة أو توصف السنة بما كان فيه أسوة كقول الله جل وعلا ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا? .
وقولي هنا (بما كان فيه أسوة) يعني ما كان يشرع فيه الاتساء .
يخرُج بذلك الأفعال الِجِبِليَة التي لا يشرع فيها الاتساء .
المقصود أن السنة في القرآن لها ألفاظ وكل هذه الأدلة تدل على أن السنة من الشرع وأنها حجة من عند الله .
هذه أدلة خاصة وكل آية فيها الأمر بطاعة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هي أمر بطاعة سنته عليه الصلاة والسلام .
وهذه الأوامر كقوله ?قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ? وكقوله ?وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ? وكقوله ?وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ? وكقوله ?فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ? وكقوله ?إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ? وكقوله ?إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ? ونحو هذه الآيات هذه فيها الأمر بطاعة الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وهذه الأوامر عامة لم يَخُصَّ جل وعلا شيئاً مما بلغه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ دون شيء .
وطاعة الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تكون في الأخبار وتكون في الأحكام :
- فأما طاعته في الأخبار بتصديقها وباعتقاد ما دلت عليه .
- وطاعته في الأحكام عليه الصلاة والسلام بامتثال ما أَمر به أو نَهى عنه .
والأدلة عامة لم تفرق بين الأحكام والأخبار فكانت طاعته صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الجميع واجبة
وسبب ذلك أنه عليه الصلاة والسلام يبلغ ما أوحَى إليه ربه به جل وعلا .(32/390)
فالسنة من جهة المصدر من الله جل وعلا وجبريل ينزل على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن وقد قال جل وعلا في نبيه ?وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى?
وهذا في كل ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أو أمر به أو نهى أو شرعه لعباد الله فإن ذلك كله من وحي الله جل وعلا ، ووحي الله الذي أوحى به إلى النبي عليه الصلاة والسلام :
- منه ما هو بلفظه ومعناه من الله جل جلاله وهو القرآن والحديث القدسي .
- ومنه ما معناه من الله جل وعلا ولفظه من النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأنه قد يكون من جهة الإلهام وقد يكون مناما ونحو ذلك فيكون النبي عليه الصلاة والسلام يبلغه بعبارته وهذا هو حديثه عليه الصلاة والسلام وسنته .
والسنة كما ذكر الشيخ هنا (تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ) وذلك لأن الله جل جلاله قال ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? فقال ?وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا? .
فالسنة للبيان ?لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ? ، فوظيفة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ التبليغ والبيان .
والسنة مع القرآن لها أربع مراتب :
" الأولى أن تكون مُقَرِرَة لما جاء في القرآن .
فهي تأكيد له وتثبيت لما جاء فيه ، يكون موضوع الحديث قد جاء في الآية ، الآية تغني عن الحديث ولكن يكون مجيء الحديث لتثبيت ذلك والتذكير به وإقراره بلفظه عليه الصلاة والسلام.
" المرتبة الثانية أن تكون السنة مبينة للقرآن شارحة له .
فيكون في القرآن ما ليس بواضح فتأتي السنة وتبين ذلك ، يدخل في ذلك :(32/391)
(التفسير) كما فسر النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ? بأن الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم .
وكما فسر القوة في قوله ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ? بأنها الرمي .
أو (بيان للمجمل) يكون الآية فيها إجمال فتحتاج إلى بيان
والإجمال ما لم يعرف له معنى معينا يحتمل كذا ويحتمل كذا .
أو أن تكون الصفات والأحوال غير معروفة فتأتي السنة لبيان المجمل .
أمر الله جل وعلا بالصلاة فأتت السنة ببيان أوقاتها وعدد ركعاتها .
أتى القرآن بإيجاب الزكاة فأتت السنة بالبيان ، هذا يسمى تبيين للمجمل ، هذا كثير .
كذلك تأتي السنة في هذا المرتبة (بتقييد المطلق) وذلك كقوله جل وعلا ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? فإنه هنا لم يحد اليد لم تُحَد اليد فقال ?فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا? واليد هنا أطلقت فما قُيِّدَت ، فأتت السنة بأن اليد المراد بها الكف إلى الكوع .
أو (توضيح معنى عام أو توضيح عموم أو تخصيص عام) مثل قوله جل وعلا ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ? ، ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ? هذا عموم لأن (ظلم) نكرة في سياق النفي فتعم والنبي عليه الصلاة والسلام بيّن أن العموم هنا غير مراد وأن المراد الخصوص وليس الخصوص فيكون هذا من العام المراد به الخصوص فقال (ليس هو ما تذهبون إليك إنما الظلم الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?) إلى آخر أنواع هذا القسم .
" والمرتبة الثالثة هي أن تكون السنة منشئة لحكم جديد لم يأت في القرآن البتة .(32/392)
مثل حكم النَمْصْ وحكم التَفْليجْ للحُسُنْ ونحو ذلك ، يعني على قول أنه ما جاء في القرآن وأنه لا يدخل في قوله تعالى ?وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ? ، المقصود مثل النمْص ونحو ذلك أو مثل الأحكام المستقلة التي جاءت ببيان آداب الأكل وآداب الشرب وآداب السفر ونحو ذلك .
هذه أحكام كثيرة تكون في السنة ما ليس في القرآن أصلا .
وهذا القسم يُنازَع فيه ، لكن هو موجود فتكون السنة منشئة لأحكام لم تأتِ في القرآن وذلك لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ينُزَل عليه بالوحي بالسنة كما يُنزَل عليه بالقرآن فهما من مشكاة واحدة .
" القسم الرابع أو المرتبة الرابعة والأخيرة النسخ .
أن تكون السنة ناسخة لحكم في القرآن كما نَسَخَ قولُ النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (لا وصية لوارث) آيةَ البقرة .
إذن هذه أقسام أربعة للسنة فإذن السنة كلام شيخ الإسلام هنا على وجه العموم .
يريد أن يبين أن السنة (تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ) يعني تفسر المراد في القرآن مثل الزيادة فسرتها السنة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم .
(وتُبَيِّنُه) يعني إذا كان ثم مجمل فإن السنة تبين هذا المجمل .
(وتَدُلُّ عَلَيْهِ) يعني بيما وافقت فيه السنة القرآن .
(وتُعَبِّرُ عَنْهُ) هذه هي السنة : تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه ، والكلمات متقاربة .
لما فرغ من ذلك قال (وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك)(32/393)
يعني كما وجب الإيمان بنصوص القرآن وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشِك رجل شبعان على أريكته يأتبه الأمر من أمري والنهي من نهيي فيقول ما وجدنا في كتاب الله أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه) قال (وإن ما حرم رسول الله - صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - مثل ما حرم الله) كذلك ما أحل الرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مثل ما أحل الله كذلك ما أخبر به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو مثل ما أخبر الله لأن الجميع من جهة الكلام هي كلها من الله جل وعلا هي كلها موحى بها من الله جل وعلا والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لم يأت بشيء من عند نفسه .
وإذا رُد كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ معنى ذلك أنها ردت رسالته عليه الصلاة والسلام .
فإذن كل ما وصف به رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الله جل وعلا وجب الإيمان به بشرطين :
الشرط الأول : أن يكون الحديث صحيحا .
والثاني : أن يتلقاها أهل المعرفة بالقبول .
فإذا كانت الأحاديث صحيحة وتلقاها أهل المعرفة بالقبول يعني صحت أسانيدها وتلقاها أهل المعرفة بالقبول ولم يقولوا إن في متونها نكارة فيكون هذا حجة يجب الإيمان بما دلت عليه .
وهذا على أقسام ما بلغت به السنة الناس .
فإن السنة منها ما هو متواتر ومنها ما هو آحاد .
والتواتر منه ما هو تواتر لفظا ومعنى ومنه ما هو متواتر من جهة المعنى .
وكذلك الآحاد منه ما هو مستفيض مشهور - المشهور ليس بالمعنى الاصطلاحي عند علماء الحديث - ومنه ما هو آحاد غير مستفيض إنما ينقله الواحد عن الآخر .
فما كان فيه التواتر فهذا حجة بالإجماع .
وما كان من جهة الآحاد فأهل السنة يسلِّمون بذلك كما قال شيخ الإسلام ويؤمنون بالأحاديث الصحاح .(32/394)
فمن الأحاديث المتواترة في الصفات حديث النزول حديث النزول رواه أكثر من ثمانية وعشرين نفساً عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ منهم من هو متقدم الإسلام ومنهم من هو متأخر الإسلام وروايته مشهورة عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد أسلم بعد فتح خيبر أو في سنة فتح خيبر ، ومنهم من رواه من المتقدمين فدل على أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان يقوله في أكثر من مجلس في مجامع مختلفة .
من الأحاديث ما هو متواتر معناً لا لفظا .
يعني دلت الأحاديث على هذا المعنى بتواتر معناه أما اللفظ فهو مختلف .
يعني مختلف الدلالة لكن المعنى واحد ، مثل أحاديث رفع اليدين في الدعاء فإنها متواترة من جهة المعنى ، مثل أحاديث خروج المهدي فإنها متواترة من جهة المعنى ، مثل أحاديث نزول المسيح عليه السلام فإنها متواترة من جهة المعنى و هي متواترة من جهة اللفظ عند كثير من أهل العلم إلى آخره
هنا قيده بما وصف به الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ربه عز وجل .
القسم الثاني الآحاد .
الآحاد منها ما هو مستفيض يعني نقله اثنين ثلاثة أربعة خمسة من الصحابة لكن لك يبلغوا به حد التواتر .
والقسم الثاني منه آحاد نقله واحد .
فالقاعدة في هذه جميعا أنه (إذا صح الإسناد وتلقى الخبر أهل المعرفة بالقبول فإنه يجب الإيمان بما دل عليه) .
ويريد بقوله (الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ) المصطلح الخاص بالصحيح وهو (ما نقله العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة) .
وهذا يخرج الأحاديث الحسنة عند جمع من أهل العلم .
لأن الحديث الحسن غير متفق على الحكم عليه بل يكون بعضهم يضعفه وبعضهم يحسنه .
فالحديث الحسن دائما أو غالبا يكون مختلَفا فيه .
لكن الحديث الحسن إذا كان ما اشتمل عليه من الصفة قد تلقاه أهل المعرفة بالقبول فإنه يكون له حكم الأحاديث الصحيحة من جهة قبول ما فيه .
وهذا إنما يكون من جهة المعاني .(32/395)
مثل أحاديث حسنة تكون في العلو ، مثل أحاديث حسنة تكون في الاستواء على العرش .
لأن أصلها ثابت فتروى الأحاديث الحسنة لتقويتها ذلك الأصل .
أما ما كان فيه ضعف في راويه .
تفرد بلفظة ضعيفة .
فهذا لا يُثْبت صفة لله جل وعلا .
وثمت صفات يتنازع العلماء في إثباتها لأجل تنازعهم في صحة الإسناد .
مثل الحديث الذي فيه إثبات الشمال لله جل وعلا فإن مسلما رواه والعلماء متنازعون في صحة هذه اللفظة بخصوصها هل هي ثابتة أم غير ثابتة ، فمن صححها أثبت الشمال لله جل وعلا ومن لم يصححها ورأى أنها شاذة لم يثبت الشمال لله جل جلاله .
.....
نعم.
هذا حديث صحيح وشذ ابن خزيمة في تضعيفه .
الحديث صحيح صححه أحمد وابن المديني وإسحاق وجماعة كثيرون وكان هو الفيصل بين السني والجهمي هذا الحديث ، هذا الحديث تلقاه أهل المعرفة بالقبول وإنما أنكره ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد وأجمع أهل السنة على أن ابن خزيمة زل في ذلك .
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : وزل ابن خزيمة في حديث الصورة غفر الله له .
ورد شيخ الإسلام على ابن خزيمة كلامه في تضعيف هذا الحديث وفي ألفاظه في نحو مئة صفحة في رده على الرازي في جزء مخطوط لم يطبع وقد أورده الشيخ حمود التويجري رحمه الله تعالى في كتابه عقيدة أهل الإيمان .
المقصود أن قوله (وَمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) يعني وجب الاعتقاد بما دلت عليه من الصفات لأن كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ واجبٌ الإيمان به من جهة الأخبار .
فنصدق بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام .
وهذا القدر وهو قبول الأحاديث على النحو الذي ذكرت هو طريقة أهل السنة والجماعة من أهل الحديث فقط وأما غيرهم فاختلفوا في ذلك :(32/396)
- فذهب أهل الاعتزال والتجهم إلى أن العقائد لا يؤخذ فيها إلا بالقرآن أو بالمتواتر .
وأن غير ذلك - يعني المتواتر اللفظي - وأن غير ذلك فإنه لا يجوز أخذ العقائد منه وهذا مذهب المعتزلة كما ذكرت والجهمية والفلاسفة وطوائف تبعوهم في ذلك ..
- الثانية الأشاعرة و الماتريدية ومن نحا نحوهم و الكلابية قبلهم .
قالوا نثبت الأحاديث أحاديث الآحاد ولكن إذا كانت أحاديث الآحاد توهم تشبيها فإنّا نفوضها أو نؤولها على قاعدتهم المعروفة :
أوله أو فوض ورم تنزيها وكل نص أوهم التشبيها
(كل نص) يعني من الكتاب أو السنة آحاد أو غير آحاد .
(أوهم التشبيه أوّله) أوّله اصرفه عن معناه الظاهر إلى معنى آخر بقرينة عدم جواز التشبيه القرينة العقلية .
(أو فوض) أثبت لفظا مجردا عن المعنى .
(ورم تنزيها) تنزيها لله جل وعلا .
وهذا الذي قالوه فيه سلب لأحاديث النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن الدلالة في هذا الباب العظيم .
وباب الصفات باب عظيم جدا بل هو باب المعرفة والعلم بالله جل وعلا فإذا كان لا يقبل فيه كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فمن يُقبل في هذا الباب ؟
وما أحسن قول الجويني حيث يقول : إنني كنت زمانا على عقيدة أو على طريقة المؤولين ، قال : ثم إني تأملت ورأيت أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان يتكلم بالكلام الذي فيه الإخبار عن صفات الله جل وعلا في مجالسه وفي خطبه وفي أسفاره وفي حضره ويسمع ذلك منه الذكي والبليد ويسمع ذلك منه الأعرابي والحاضر ويسمع ذلك منه المهاجر وغير المهاجر ولا يُتْبِعه عليه الصلاة والسلام ولو في مرة واحدة بما يصرف كلامه عن ظاهره .
قال : فدلنا هذا على القطع بأن ظواهر الأخبار التي قالها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الصفات أو في الغيبيات عموما أن ظاهرها مراد .(32/397)
وهذا هو الذي يثبته أهل السنة وهي حجة جيدة منه لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز له أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة .
وأحاديث الصفات هذه لا شك أنها إذا كانت ظواهرها غير مرادة فإنها تفضي في نفس العامة إلى التشبيه وإلى التمثيل .
وهذا لا يجوز أن يقع في قلوب العامة .
فدل إذن على أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أخبر بها لأجل إثبات ظاهرها لله جل وعلا ولكن على ما يليق به إثبات معنى لا إثبات كيفية لأن القاعدة فيما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? فإذن :
- موقف المعتزلة والفلاسفة من أخبار الآحاد الرد مطلقا .
- وموقف الأشاعرة و الماتريدية وقبلهم الكلابية من أخبار الآحاد التشاغل بتأويلها أو تفويضها .
بعض أهل العلم يسلك طريقة بين هذه وتلك .
يعني بين طريقة الأشاعرة وبين طريقة أهل السنة وهو البيهقي والخطابي وجماعة ممن هم على رأس طبقات الأشعرية الذين اشتغلوا بالحديث وينسبون إلى أهل الحديث من جهة اعتنائهم به لا من جهة اعتقادهم .
فالبيهقي مثلا في كتابه الأسماء والصفات ينوع ، فإذا كانت الصفة دل عليها القرآن والسنة وليس عنده فيها تأويل يثبت الصفة يقول : (باب إثبات الوجه لله) (باب إثبات اليدين لله) إلى آخره
إذا كان ثَمَ تأويل عنده فإنه يعبر عنه بأنه (باب ما جاء في كذا) (باب ما جاء في ضحك الله) (باب ما جاء في نزول الله) (باب ما جاء في كذا) إلى آخره .
وهذا تفريق ليس عليه دليل ولا حجة إلا أنه أراد أن يسلك طريقة أهل الحديث فلم يقوَ لأجل رواسب الأشعرية في باب الصفات عنده .
وقوله (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) وجب يعني أن الإيمان بها فرض لا يجوز ترْكه فمن ترَكه كان مخالفا في هذا الأصل مبتدعا فيه .(32/398)
لأن من قال أن هذه النصوص في الصفات لا يجب عليّ الإيمان بها ولا التصديق بها لأنها أمور غيبية ولكن أنا أستجيب وأعمل وأطيع الله جل وعلا ورسوله في العمليات وهذه الاعتقاديات للخلاف في ذلك إلى آخره فإنه لا يجب عليّ أن أعتقد فيها اعتقادا معينا .
نقول هذا باطل ومحرم وبدعة عظيمة وكبيرة من كبائر الذنوب لأن ما أنزل الله في كتابه أو أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام فهذه يجب الإيمان بها .
لأن معنى الإيمان والشهادة له بأنه الرسول عليه الصلاة والسلام معنى ذلك أن تصدِّقه فيما أخبر به
فإذا ما صدقت أو شككت أو قلت لا يجب علي ذلك فلم تأت بالشهادة على وجهها .
وكان ذلك من نواقص الشهادة للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالرسالة .
- فمن لم يعتقد ما جاء به الرسول فهو كافر بالله جل وعلا .
- ومن رد ما جاء به الرسول فهو كافر بالله جل وعلا .
- ومن قال في نص من النصوص لم يجب عليّ الإيمان بذلك بهذا النص فإنه مبتدع ضال وقد يصل إلى الكفر .
وشيخ الإسلام في هذا ينبهك إلى هذا الأصل العظيم بقوله (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) .
وهذا الوجوب لمن سمعها يعني هو وجوب على من سمع وليس الواجب هذا مما يصَحَّح به الإيمان لأن واجبات الإيمان منها :
- ما هو ركن - يعني شرط - .
- ومنها ما هو واجب على من بلغه .
فهناك من أمور الإيمان ما لو لم يعتقده المكلف كان كافرا غير مؤمن أصلا .
ومنه ما لو لم يعتقده لصح إيمانه لكن إذا بلغه وجب عليه الإيمان بذلك .
وهذا تعرفون الكلام عليه في الفرق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي وأن المخاطَب به الناس جميعا الإيمان الإجمالي بما أوجب الله جل وعلا الإيمان به ، وأما الإيمان التفصيلي فهو لمن بلغه النص الخاص في كل مسألة من تلك المسائل في الأمور الغيبية صفات الله أو أسمائه إلى آخره .
وقوله (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) يعني من جهة الحكم .
كذلك من جهة الطريقة .(32/399)
فنحن نؤمن بالصفات التي جاءت في كتاب الله من غير تحريف ولا تمثيل ولا تعطيل فنثبت الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية كذلك ما جاء في السنة على هذا النحو لا تتجاوز القرآن والحديث .
بدأ في ذِكر ما جاء في السنة .
وما سيذكره منه ما لم يأت في أدلة الكتاب ومنه ما جاء في أدلة الكتاب .
فمثلا يذكر النزول والفرح والضحك ونحو ذلك وهذا لم يأت في القسم الأول .
ويذكر المعية والرؤية والعلو وهذا قد جاء في القسم الأول .
قال رحمه الله تعالى .
في أحد بيسأل هنا ؟
......
على كل حال أنا عبارتي أظنها دقيقة إن شاء الله ضابطة لكن أعيد لك معناها :
إنكار ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام إذا أقر أنه كلامه عليه الصلاة والسلام ثم لم يؤمن به هذا كافر ، يقول أنا أعلم أن هذا كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لكن ما أؤمن به أو ما أصدقه فهذا كفر بالله جل جلاله .
أما إذا قال لا يثبت هذا عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، لا هذا ليس بصحيح هذا آحاد ويعنون بالآحاد ما نقله واحد عن واحد وناس يغيرون المعنى وعجم وإلى آخره نقلوا هذا الأحاديث العظيمة فلا نأخذ بها في العقيدة ، هذا يكون عدم تصديق بالنقل وليس عدم تصديق بكلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، يعني أنه لم يثبت عندهم أنه كلام رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(32/400)
فإذا ثبت عند أحد كلام النبي عليه الصلاة والسلام وقال أنا أعلم أن هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام ولكن لا أؤمن به فهذا كافر بالله جل جلاله ، أما إذا رده لأجل عدم صحة النقل أو شك في النقل مثل ما يكون من البعض في هذا العصر يشككون حتى في روايات البخاري ومسلم فما يشكك هو أو ما يرد المتن لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قاله ، لا ، هو يقول هذا دخله التحريف ، هذا نقْله ولو صححه البخاري هذا فيه ضعف لأنه ما يعقل أن يكون كذا ولا يعقل أن يكون كذا ، هذا ليس بكفر ، هذا ليس بكفر لكنه طريقة من طرق المبتدعة .
أما من ثبتت عنده السنة ثبت عنده قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وقال أعلم أن هذا كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأرده لا أؤمن بهذا فهذا لا شك أنه كافر بالله جل وعلا لأنه لم يلتزم بما جاء به الرسول ولم يقبل .
......
لا ما يدخل في ذلك لأنه ما تلقاه ، أولا ليس من الحديث هذا واحد وليس من كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثم هذا من اجتهاد مجاهد يكون هذا اجتهاد من مجاهد ذكره اجتهادا وهو ما يُثْبَت صفة من الصفات .
لكن أثر مجاهد هذا كان فاصلا بين أهل السنة وغيرهم في زمن من الأزمنة ، في الأزمنة الأولى كان هو الفارق أثر مجاهد في إجلاس النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ على العرش وقال به جماعة من أهل العلم لأجل أن الإجلاس فيه إثبات استواء الله على عرشه بذلك سبحانه ، ولهذا يهتمون به ، فمن أنكر خبر مجاهد فهو جهمي لماذا ؟ لأنهم لا يريدون - من أنكره - لا يريد إنكار الفضيلة الخاصة بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإنما يريد إنكار الاستواء على العرش وعلو الله جل وعلا بذلك ..
انتهى الشريط الرابع عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الخامس عشر
فمن أنكر خبر مجاهد فهو جهمي لماذا ؟(32/401)
لأنهم لا يريدون - يعني من أنكره - لا يريد إنكار الفضيلة الخاصة بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإنما يريد إنكار الاستواء على العرش وعلو الله جل وعلا بذلك .
ولهذا كان هذا الأثر عن مجاهد في إجلاس النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ على عرش الله جل وعلا أنه فارق بين أهل السنة وأهل البدعة والتجهم ، لأن أهل السنة يروونه ويقبلون ما جاء به مجاهد في هذا الحديث لكن ما تفرد به من جهة الإجلاس لا يأخذون به ويقولون هو من قول مجاهد وعلى عهدته لكن هو يشمل العلو والاستواء وهذا رواه أهل الحديث والأمة وتلقته - تلقت يعني مضمونه - بالقبول .
هذا مثل حديث الأوعال ، له نظائر ، في أحاديث تضعف أسانيدها وبعضها يكون واهيا .
لو رأيت مثلا كتاب العرش وما جاء فيه لابن أبي شيبة تجد فيه أخبارا ضعيفة وأخبارا ضعيفة جدا إلى آخره يريد الناقل يريد المؤلف بذلك أن هذه الأخبار قبلها أهل السنة يعني قبلوا بمضمونها بما دلت على استواء الله على عرشه ودلت على علو الذات لله تبارك وتعالى .
فلا يدخل أثر مجاهد في ذلك لأن هذا الكلام يراد به ما جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام .
ثبوت النزول الإلهي
إلى السماء الدنيا
على ما يليق بجلاله
قال رحمه الله تعالى (َفَمِنْ ذَلِكَ)
ومن ذلك هذا يُشعِر بأنه لن يأتِ بكل السنة وإنما سيأتي بطرف مما يستحضره من ذلك .
قال:مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : " يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ومن حديث غيره وكما ذكرت لكم هذا الحديث من المتواتر .(32/402)
تَواتَرَ الحديث بنزول الله جل وعلا في الليل ، واختلفت الألفاظ ولكن النزول من حيث هو متواتر .
هذا الحديث فيه إثبات النزول لله جل وعلا لأنه قال (يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ)
وقوله (يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا)
النزول لما كان صفة لأن النازل هو الله جل وعلا والذي ينزل إلى سماء الدنيا هو الله جل وعلا ، ونزوله جل وعلا نزول يليق بجلاله وعظمته ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? فليس كنزول المخلوق من أنه ينتقل من مكان إلى مكان فيكون المكان الأول إذا كان أرفع قد أظله بعد نزوله إلى المكان الذي هو أخفض منه ، هذا في حق المخلوق ولا يلزم ذلك في حق الله جل وعلا بل هو جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
فإذن نثبت النزول إثبات معنى لا إثبات كيفية وإثبات من غير تمثيل ومن غير تجسيم ونزول الله جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمته .
أهل السنة اختلفوا في النزول : هل يقال ينزل الله جل وعلا بذاته ؟ أم لا يقال ؟ أم يطلق اللفظ ؟ على ثلاثة أقوال :
" منهم من قال ينزل ربنا بذاته وهذا قول طائفة من أهل الحديث والسنة وذلك لأن ينزل ربنا بذاته نحتاجها حتى لا يتوهم متوهم أنه نزول أمره كما يؤوله المؤولة أو نزول رحمته .
" قال آخرون : لا ، لا نقول ينزل بذاته ونمنع من هذا القول ، فعندهم قول القائل ينزل ربنا بذاته أو إثبات النزول لله إلى سماء الدنيا بذاته أن هذا باطل ومردود ، هذا قول طائفة أخرى أيضا من أهل السنة .
" والقول الثالث وهو الصواب أن لا يطلق هذا ولا هذا ، لا يُنْفَى ولا يُثْبَتْ ، لأن قاعدتهم في السنة أنه لا يتجاوز القرآن والحديث ، فالحديث أثبت النزول ولم يقل فيه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بذاته فنثبته كما أثبته عليه الصلاة والسلام .(32/403)
(يَنْزِلُ رَبُّنَا) نقول ينزل الله جل وعلا فيه إثبات صفة النزول لله ولا نقول (بذاته) ولا نقول (لا يجوز أن نقول بذاته) لا نثبت ولا ننفي .
وإذا قال قائل : هل النزول بذات الله جل وعلا ؟ هل تقولون النزول بذات الله ؟
نقول نعم ، نقول النزول بذات الله لكن هذا عند المناظرة ، عند الحِجاج بنفي التأويل ، وهذه طريقة يسلكها الدارمي في رده على المريسي وغيره فيثبتوا ألفاظا عند المناظرة والرد لا تُثْبت على وجه الاستقلال - وهذه قاعدة مهمة فيما يُثبَت عند الردود لأجل نفي التأويل والمعاني الباطلة وما لا يثبت من ذلك - .
هنا في قوله (يَنْزِلُ رَبُّنَا) ثَم بحث معروف وهو ما أثاره بعضهم من أنه : هل نزوله بخلو العرش منه أم لا ؟
قال بعض أهل الحديث والسنة : يخلو منه العرش ، وأداه إلى هذا القول وألجأه إليه أن النزول في فهمه لا يكون حقيقة حتى يلتزم بهذا .
وهذا الذي التزمه باطل ، بل الصواب الذي عليه المحققون وعامة أهل السنة وأهل الحديث وأئمة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أن الله جل وعلا مستو على عرشه وينزل كما يليق بجلاله وعظمته فينزل مع استوائه على عرشه ويدنو من خلقه عشية عرفة مع استوائه على عرشه ، ويأتي لفصل القضاء يوم القيامة مع استوائه على عرشه جل وعلا .
وقوله هنا (حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ)
هذه اختلفت فيها الروايات ففيها (حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ) وفيها (حين يبقى نصف الليل) وفيها (حين يمضي ثلث الليل) وفيها شك (حين يمضي نصف الليل أو ثلث الليل) أو (حين يبقى ثلث الليل أو نصف الليل) يعني رويت بالشك ، وأصحها هذا اللفظ الذي ساقه المصنف ، وبعده الأحاديث التي فيها ذكر النصف (حين يبقى نصف الليل) أو (حين يمضي نصف الليل) .
(فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟)(32/404)
(فَأسْتَجِيبَ) هذا منصوب لأنه جواب الحض (مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)
وقوله (مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟) الدعاء يعم دعاء المسألة ودعاء العبادة ، والاستجابة هي استجابة لدعاء المسألة ولدعاء العبادة .
ففي دعاء المسألة يُعْطَى السؤال وفي دعاء العبادة يعطى الأجر ، وقد يكون هذا وهذا وقد يمنع من واحد ويعطى الآخر .
فالاستجابة - استجابة الله لدعاء الداعي - أعم من إعطاء عين المسؤول ، فقد يسأل شيئا بعينه فلا يعطاه ومع ذلك من دعا الله استجاب له وذلك لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعطى سؤاله وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها وإما أن تدخر له يوم القيامة)
وهذه الثلاث جميعا هي استجابة .
فالله جل وعلا يجيب الدعاء ويستجب من دعاه فقد يكون بإعطاء عين المسؤول وقد يكون يُصرَف عنه من الشر مثل ما سأل ، يكون يسأل حاجة والله جل وعلا لم يشأ ولم يرد أن يعطيه عين حاجته لحكمته جل وعلا فيصرف عنه من الشر مثلها أو يدخرها له يوم القيامة .
ولهذا جعل بعد الدعاء الذي هو العام جعل بعده السؤال الخاص فقال (مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟)
ثم العطاء قد يكون عطاء مغفرة وقد يكون عطاء حاجة وقد يكون عطاء عافية .
ولهذا انتقل منه إلى ما هو أخص بقوله (مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟) - متفق عليه - .
فإذن أهل السنة يثبتون النزول حقيقة لله جل جلاله وأما المبتدعة من المعتزلة وتلامذتهم الأشاعرة والكلابية والماتريدية إلى آخره فينكرون النزول ، منهم من ينكره أصلا ويفسره بالمخلوق مثل المعتزلة ومنهم من يقول ينزل أمره هؤلاء المؤولة الأشاعرة وغيرهم ينزل أمره وتنزل رحمته ونحو ذلك وهذا باطل بما سنوضحه إن شاء الله في الدرس القادم .(32/405)
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
إثبات أن الله
يفرح ويضحك ويعجب
وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهُ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزَلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ". حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه الأحاديث التي ذكرها شيخ الإسلام مستدلا بها على إثبات صفة (الفرح) و (الضحك) و (العَجَبْ) و (القدم) لله جل وعلا هي من جنس النصوص الأخر التي فيها إثبات صفات الله جل وعلا .
والنصوص جاءت بإثبات الصفات لله جل وعلا الصفات الذاتية والصفات الفعلية ، والصفات الفعلية اللازمة وكذلك الصفات الفعلية المتعدية .
فباب النصوص جميعا باب واحد إذا أُقِرَ بأخذ صفة من نص فإنه في ضمن ذلك الإقرار أنه تؤخذ الصفة من النصوص الأخر .(32/406)
فلهذا أهل السنة والجماعة يُجرون النصوص مجرى واحدا ويثبتون الصفات التي في النصوص دون تفريق بين نص ونص ، فإذا ثبتت الصفة بكتاب الله جل وعلا أو بسنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فإنهم يثبتون ذلك ونفوسهم مطمئنة دون حرج وتحرج في النفس لأنهم يثبتون النصوص على قاعدة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? سبحان ربنا وتعالى .
وصفات الله جل وعلا كما سبق أن ذكرنا لكم منها صفات ذاتية ومنها صفات فعلية
والصفات الذاتية تفسر بأحد تفسيرين :
" منهم من فسر الصفة الذاتية بأنها الصفة التي لم تنفك عن الموصوف أزلا ولن تنفك عنه أبدا .
" ومنهم من قال الصفة الذاتية هي التي لا يزال الله متصفا بها لا تنفك عنه بدون ذكر الأزل والأبد .
وبين هذين فرق لأن بعض الأفعال التي فعلها الله جل وعلا واتصف بها اتصف بها جل وعلا ليس في الأزل وإنما اتصف الله جل وعلا بها لما شاء أن يتصف بها وذلك مثل الاستواء على العرش فإن الاستواء على العرش صفة فعل من جهة أن الله جل وعلا لم يكن مستويا على العرش ثم استوى عليه ، وهي صفة لازمة .
وعلى حد التعريف الثاني للصفة الذاتية فإنها تدخل في الصفة الذاتية بأن الله استوى على العرش ولا يزال مستويا عليه .
وأما التعريف الأول فلا يُدخَل فيه مثل صفة الاستواء لأن صفة الاستواء لم تكن ملازمة لله جل وعلا أزلا وإنما هو جل وعلا لم يكن متصفا بها ثم اتصف بها بمشيئته وقدرته سبحانه وتعالى .
فإذن قد تكون الصفة فعلية من جهة وذاتية من جهة أخرى ونقصد بالفعلية أنها التي تكون قائمة بمشيئة الله جل وعلا وبقدرته .(32/407)
أهل السنة ما فرقوا في النصوص بين هذه الأنواع وإنما أجروا الجميع مُجرى واحدا وما ثبت في السنة عندهم مثل ما ثبت في القرآن لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو الذي أخبر بذلك وما يخبر به عن ربه جل وعلا صادق فيه مصدوق يجب تصديقه فيه لأنه صادق عليه الصلاة والسلام فيما يبلغ عن الله .
والصفات وذكر الصفات هي من أعظم مهمات الرسل لأن بها العلم بالله جل وعلا .
لهذا نقول إن طريقة أهل السنة في السُنن وفيما جاء في القرآن من ذكر الصفات أن الجميع عندهم واحد وسواء ثبت ذلك في السنة في الصحيحين أو في غيرهما ما دام الحديث صحيحا وكذلك إذا ثبت في قراءة مشهورة أو في قراءات أُخَرْ ما دامت أنها متواترة فإنهم يثبتون الصفة بذلك .
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ذكر في هذا الموضع صفات فعلية ومنها صفة (الفرح) وصفة (الضحك) وصفة (العَجَبْ) .
وهذه الصفات فعلية لازمة - يعني أنها غير متعدية - لأن ضحك الله جل وعلا صفة لازمة لم يفعلها بغيره ، صفة الضحك لازمة لم يفعلها بغيره .
كذلك فرح الله جل وعلا لازم لم يفعله بغيره ، كذلك عجب الرب جل وعلا لازم لم يفعله بغيره.
والمؤولة يقولون : فعل بغيره هذه الأشياء .
أضحك غيره ، عجّب غيره ، أفرح غيره إلى آخره .
فيجعلونها ليست من الصفات وإنما هي من الأفعال المنفصلة مثل الخلق وغيره فأرجعوها إلى أنها مخلوقة أو أن المراد بها التأويل كما سيأتي تفصيله .
المقصود من ذلك أن هذه الأفعال هي من أشد ما ينكره المبتدعة من أهل التجهم والاعتزال والأشعرية والماتريدية
وصفة الفرح وصفة الضحك وصفة العَجَبْ هذه ليس فيها غرابة بل هي من جنس صفة اليد لله جل وعلا وصفة العلو لله جل وعلا وصفة العينين لله جل وعلا وصفة الأصابع لله جل وعلا لأن الباب باب واحد(32/408)
ومن دخل في التشبيه تعاظم أن تكون هذه الصفات لله جل وعلا وأما من أيقن بأن المقصود بالإثبات هنا إثبات معنى لا إثبات كيفية لأن الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? فإنه يكون هذا الباب يسيرا عليه بفضل الله جل وعلا وبنعمائه .
الحديث الأول قال شيخ الإسلام (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ)
هذا الحديث فيه إثبات صفة الفرح لله جل وعلا بل فيه إثبات أن فرح الله جل وعلا يفاضَل بفرح غيره لأنه قال (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا) فيها إثبات صفة الفرح وفيها إثبات أن فرح الله جل وعلا هو أشد من فرح غيره .
وهذا يدل على الاشتراك في أصل معنى الفرح بين المتفاضلَيْن لأن المتفاضلَيْن لا بد أن يكون بينهما قدر مشترك حتى يستقيم التفاضل .
قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هنا (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ) إلى آخره
(لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا) هذا واضح أن هذه الصفة ملازمة لله جل وعلا لأنه فرح سبحانه وتعالى .
وفرحه جل وعلا كما ذكرت آنفا صفة فعلية لكنها لازمة .
وأهل السنة يثبتون الفرح ويقولون إن الفرح معلوم المعنى والضحك معلوم المعنى والعَجَبْ معلوم المعنى ولا يمكن حده بحد واضح بين لأن هذه المعاني راجعة إلى القلب - يعني قلب الإنسان - ولما كانت راجعة إلى القلب فإن الإنسان إذا فسرها فسيفسرها بمعهوده ، سيفسرها بما أدرك في الخارج والمعاني هذه معان كلية توجد كلية في الذهن ، توجد كلية في التصور أما في الخارج فتختلف بالتخصيص والإضافة .
ففرح فلان غير فرح فلان وضحك فلان غير ضحك فلان آخر ، أما مجموع اسم الضحك أو اسم الفرح فإن هذا يوجد في معنى كلي في الذهن وأما في الخارج فلا يوجد إلا مضافا .(32/409)
وإذا كان كذلك كانت المعاني الذهنية العامة يصعب التعبير عنها بعبارة جامعة تحدها وتخرج عداها
ولهذا لا تجد من أهل السنة من يفسر هذه الألفاظ تفسيرا يُخْرِجُ ما عداها عنها ويقولون فرح الله جل وعلا معناه كذا وكذا .
فيقولون الفرح معلوم وقد يفسرونه ببعضه من باب التقريب لكن الفرح معنى كلي يعلمه العبد يعلمه الناس ، كلٌّ في لغته يدرك معنى الفرح لأن الفرح شيء يحسه المرء ضرورة في نفسه والضحك شيء يحسه المرء ضرورة في نفسه والعَجَبْ شيء يحسه المرء ضرورة في نفسه .
وسيأتي أن انفراج الشفتين وظهور الأسنان أن هذا أثر الضحك وليس هو الضحك نفسه .
المقصود من ذلك أن مثل تفسير هذه الألفاظ وأمثالها مما سيأتي أنها لا يمكن أن تحد بحد جامع لأنها لا توجد كلية إلا في الأذهان ولهذا نقول الفرح معلوم ، وبالنسبة للإنسان يفسر الفرح بكذا وكذا ، بالنسبة لبعض خلق الله إذا كان يفرح نقول يوصف بكذا يعني المخلوق وفرحه معناه كذا وكذا يعني بما نراه
ولهذا ما نقول إن فرح الله معناه كذا لأن من فسر بذلك فإنه لا بد أن يقوم في ذهنه الواقع الذي شاهده والله جل وعلا متنزه عن مماثلة الخلق في صفاته .
فتُثبت الصفة بما يليق بجلال الله جل وعلا في معناها الكامل وأشد الكمال اللائق به جل وعلا .
ولهذا نقول الفرح معلوم ، وأهل السنة يفسرون ذلك على قاعدة الإمام مالك حين سئل عن الاستواء قال (الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به و(3) والسؤال عنه بدعة ولا أراك إلا مبتدعا فاخرج) .
وقال أهل السنة مثل هذا في النزول ، ويقولون مثل هذا في الفرح وفي الضحك وفي العَجَبْ إلى آخره .
الفرح معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وهكذا في الضحك ، الضحك معلوم والكيف غير معقول إلى آخره .
وذلك لأن هذه الصفات المقصود منها إثبات المعنى أما الكيفية فلا نعلم كيفية اتصاف الله جل وعلا بصفاته .(32/410)
إذن في هذا الحديث إثبات صفة الفرح لله جل وعلا وهذا الإثبات على القاعدة أنه إثبات من غير تمثيل ومن غير تعطيل .
والممثلة مجسمة والمعطلة نفاة وأهل السنة بين هؤلاء وهؤلاء فيثبتون ولا يعطلون ولا يكيفون ولا يمثلون
أما المخالفون في هذه الصفة فالمعتزلة يجعلون الفرح - على قاعدتهم - يجعلونه مخلوقا منفصلا يعني مما شأنه أن يفرِح .
والشيء إذا كان من شأنه أن يُفْرِح يسمى فرحا .
فهنا (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا) لأن هذا الفعل أو هذا الذي حصل في القصة وقول هذا الذي ضاعت راحلته وفقدها (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) هذا شيء من شأنه أن يُفْرِح لأن هذا العبد تاب توبة من وجد راحلته بعد أن ضاق عليه الأمر وقال هذه الكلمة .
فهذا الفعل الذي هو وجود الراحلة وقول هذا وتحصيله للراحلة بعد فقدها هذا يكون منه أشد الفرح والله جل وعلا يفرح بل هو أشد فرحا بتوبة العبد من هذا .
فهذا العبد بما حصل له من شأنه أن يُفْرِحَه وكذلك التوبة من شأنها أن تفرح العبد فصار الفرح عندهم يطلق عندهم على ما من شأنه أن يفرح اللي هي توبة العبد .
والأشاعرة يؤولون ويقولون الفرح ليس المراد منه الحقيقة لأن الفرح إذا أثبت على حقيقته فإنه يقتضي التغير .
ويفسرونه بأن الفرح هو الرضا والرضا عندهم يفسر بإرادة الإحسان .
فرجع الأمر إلى أن الفرح يرجع عندهم إلى الإرادة لأنهم يرجعون الصفات إلى الصفات العقلية السبع التي أثبتوها .
فإذن يجعلون هذا تأويلا - كما ذكر الرازي في أساس التقديس وغيره - فيؤولون الفرح بأنه إرادة الإحسان الفرح عندهم هو الرضا والرضا إرادة الإحسان فرجع الفرح إلى أنه إرادة .
ولا شك أن هذا التفسير باطل كما أن التفسير الأول للمعتزلة أو التحريف الأول باطل لأن في كل منهما نفي للصفة .
فأمَّا أن تُجْعَل الصفة مخلوقا منفصلا فهذا لا شك بأنه مضاد لظاهر الدليل لأن الله جل وعلا (أَشَدُّ فَرَحًا) فظاهرٌ من اللفظ أنه لا يدخل فيه المخلوق المنفصل .(32/411)
(أَشَدُّ فَرَحًا) يعني هو (أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كان على رَاحِلَتِهِ) إلى آخره .
فإذن هو (أَشَدُّ فَرَحًا) من هذا الذي وُصِف وهذا يعني أنه ليس مخلوقا منفصلا ولا يمكن أن يكون لا في حقيقة الكلام ولا في مجازه ، بل هو وصف ملازم لأنه ميزه أيضا بأفعل التفضيل قال هو (أَشَدُّ فَرَحًا) بكذا وإذا كان كذلك لم يحتمل أن يكون مخلوقا منفصلا .
وقول الأشاعرة أقرب من قول المعتزلة لأنه يرجع إلى التأويل فأولوا الفرح بالإرادة ويُرد عليهم :
بأن الفرح شيء أولا والرضا شيء آخر وكل عبد يعلم من نفسه الفرق بين رضاه عن الشيء وبين فرحه به فإن الرضا عن الشيء فيه الطمأنينة إليه وأما الفرح به فيه الطمأنينة وزيادة البهجة والسرور واللذة بتحصيله أو بمشاهدته أو برؤيته أو بسماعه إلى آخره ، هذا في حق المخلوق ، فإذا كان في حق المخلوق نرى لزاما أن ثم فرقا بين الرضا والفرح كان ذلك دليلا على أن معنى الرضا غير معنى الفرح فإن الرضا يقصر عن الفرح ليس كل رضا فرحا .
والرضا محمود والفرح قد يكون بغير حق .
فلهذا ثم فرق بين الرضا والفرح .
الرضا طمأنينة النفس إلى الشيء وارتياحها إليه - يعني هذا من باب التقريب - لأن المعاني هذه لا يمكن أن تُحَد بحد بين لأن ما لها وجود في الخارج مثل ما ذكرت لكم في أول الكلام المعاني لا يمكن أن تُحَد بحد جامع لأن الذي يُحَد بحد جامع مانع الذي له وجود في الخارج الذي تراه ، فهذا الشيء الذي تراه أو تحسه ضرورة بأحد الحواس الخمس هذا الذي يمكن أن تحده لكن الذي يمكن أن تحده بحد جامع مانع هو الذي يُرى هذا يمكن أن تحده.
أما المعاني فليس ثم حد جامع مانع فيها .(32/412)
لهذا مثل الهواء لا يمكن أن يحد بحد جامع مانع لأنه إنما أُحِسَّ به إحساس ولم يُرَ ، كذلك ما يسمى في العصر الحاضر الجاذبية ما يمكن أن تُحَد هي نفسها وإنما تعرف بأثرها وهكذا في أشياء كثيرة مما تعلمون ، إذا لم يكن الشيء يرى بنفسه لا يمكن أن يحد حدا جامعا دقيقا .
لذلك نقول : هذه المعاني إذا فُسرت فهي تفسير تقريب ونحن نرى الفرح من الإنسان ونرى الرضا من الإنسان .
لذلك نقرب الرضا منه بالمعنى ونقرب الفرح منه بالمعنى .
فنقول الرضا في تفسير الأشاعرة بأن الفرح هو الرضا نقول هذا غلط لأن رضا الإنسان يعلم هو من نفسه أنه غير فرحه فقد يكون راضيا غير فرح وقد يكون فرحا مسرورا بشيء وهو غير راض عنه من كل جهة .
فإذن الرضا يختلف عن الفرح ، فالرضا كما هو تقريب معناه كما ذكرت طمأنينة وارتياح للشيء أما الفرح ففيه زيادة عن ذلك بأنه بهجة وسرور تنال نفس المرء ولذة تكتنف قلبه من جراء ما شاهد أو حصل عليه إلى آخره .
إذن فتفسير الفرح بالرضا نقول :
" هذا لغة باطل ، هذا واحد .
" الثاني أن اللغة ليس ثم فيها ترادف وأن كل لفظ في اللغة يختلف عن المعنى الآخر ، والنصوص جاء فيها استعمال لفظ الفرح وجاء فيها استعمال لفظ الرضا قال جل وعلا ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ? وقال ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? وأما لفظ الفرح فجاء في السنة في قوله (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِه) إلى آخره فإذن استعمال لفظ الفرح غير استعمال لفظ الرضا فدل على أن لهذا معنى ولذاك معنى .(32/413)
" الجواب الثالث نقول إنكم جعلتم الفرح بمعنى الرضا والرضا رجع عندكم إلى معنى الإرادة وما السبب في ذلك ؟ السبب أنكم قلتم إن إثبات الفرح فيه التشبيه والتمثيل والتجسيم لأن الفرح شيء من التغير وهذا يتنزه عنه الله جل وعلا ، ونقول : يلزمكم فيما أثبتم من جنس ما نفيتم لأنكم تثبتون الإرادة والإرادة تكون للمخلوق وتثبتون الوجود والوجود يكون للمخلوق وتثبتون الكلام والكلام يكون للمخلوق إلى آخره ، وهذه الأشياء إذا كانت ثبتت للمخلوق فإذن إثباتها لله جل وعلا تجسيم لأنها ما قامت فيما رأيتم إلا بالأجسام ، المريد هو الجسم - يعني الإنسان الجسم الخاص - والمتكلم هو الإنسان إذن فيلزمكم فيما أثبتم من جنس ما نفيتم وإلا حصل التناقض والتناقض مبطل للحجة .
وهذا واضح جلي ولهذا يُلزم كل من نفى صفة من الصفات سواء كانت من الصفات الذاتية أو الفعلية اللازمة أو المتعدية أو الأفعال يُلزم بأن ما نفيت هو مثل ما أثبت فما الفرق بينهما ؟
من أين أخذت أن الله جل وعلا يريد الإحسان ؟
الصفة عندك الإرادة لكن يريد الإحسان أخذتها من الدليل ، فإذن تثبت هنا كما أثبت هناك .
وهذا واضح ، فينبغي لك أن تتفهم هذه الحجة في مناقشة المؤولين لأن من أعظم ما يرد به عليهم ادعاء التناقض ، أنت تثبت صفة وتنفي صفة فما الفرق بين ما أثبتَّ وما نفيت ؟
ولا يقولون بفرق .
حتى الجهمي يعني ما في أحد أثبت وجود الله جل وعلا إلا وقال إن لذلك الموجود صفة حتى جهم الذي نفي جميع الصفات سئل عن صفته فقال هو موجود .. فأثبت صفة الوجود ونفى البقية لأجل أنها صفات للمحدثات .
فيقال أيضا الوجود صفة للمحدثات والموجود محتاج إلى موجِد على رأيك وإذا كان كذلك فإن الموجود لما حصل الاشتراك الموجود اسم اشترك أو صفة اشتركت بين الإنسان وبين الله جل وعلا فلماذا لم تنفها لقصد التجسيم والتمثيل ؟
كذلك المعتزلة انتبهوا لهذه الحجة فنفوا الصفات كلها وأثبتوا ثلاث .(32/414)
(والأشاعرة) نفوا الصفات كلها وأثبتوا سبع لأجل هذه الحجة ، لأنه رأوا أنه يلزمهم الإثبات فأثبتوا .
أما أهل السنة فلم يفرقوا بين شيء من كلام الله جل وعلا وأثبتوا الجميع كما جاء في الكتاب والسنة .
الصفة التالية صفة الضحك قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ")
هذا فيه إثبات صفة الضحك لله جل وعلا .
وقوله (يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ) (يَضْحَكُ) فعل ولكن الفعل مشتمل على مصدر وهو الضحك ولهذا يثبت منه صفة الضحك لله جل وعلا لأن المقصود هنا الإثبات سياق الإثبات .
والضحك صفة لازمة مثل ما ذكرنا فعلية لازمة تقوم بالله جل وعلا بمشيئته وقدرته وهي لازمة وأهل السنة على قاعدتهم يثبتون الضحك لله كما يليق بجلاله وعظمته .
الضحك في المخلوق يُرى بانفراج الشفتين وظهور الأسنان إلى آخره والله جل وعلا لا يثبت له أسنان ولا فم وذلك في حق المخلوق ثابت .
لهذا نقول إن الضحك لله جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمته لا نعلم كيفية ذلك ، أما هذا الأثر فإنه نتيجة للضحك - يعني انفراج الشفتين وظهور الأسنان أو تغير بشرة الوجه وتغير السنحة بعض الشيء وانضمام بعض جلد الوجه والخدين بعضه إلى بعض - هذا كله أثر من آثار الضحك ليس هو الضحك ... 1
يردون إثبات هذه الصفة قالوا الضحك هو تغيير سنحة الوجه وانفراج اللهوات إلى آخره وهذا منزه عنه الله جل جلاله .
نقول لا ، الضحك أصله صفة قلبية ينشأ عنها أثر في المخلوق في الإنسان بهذا الذي تراه أما هو فهو شيء ينشأ ثم بعد ذلك يحصل في الإنسان هذا الأثر .
فإذن تفسير الضحك بأثره هذا غلط لأنه تجن على اللغة وإنما يُعلم الشيء بلازمه ففي الإنسان يعلم الضحك بهذا الشيء إلى آخره .(32/415)
فإذن الضحك صفة من الصفات التي تثبت لله جل وعلا وعلى طريقة أهل السنة أنها من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تشبيه ولا تعطيل .
أما المبتدعة فعلى قاعدة أهل الاعتزال أنهم يجعلون الضحك مخلوقا منفصلا .
والأشاعرة يجعلون الضحك هو مثل الفرح ، يجعلون الضحك رضا أو علامة - يعني دليل الرضا ونحو ذلك - .
والرازي وغيره من المؤولة لما أتوا لهذه الصفة قال لا يمكن أن نصف الله جل وعلا بالضحك وقال أولا لأن الله جل وعلا قال ?وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? وإذا كان الله جل وعلا هو الذي أضحك وأبكى فيكون الإضحاك صفة أو فعل فعله بغيره فلا نثبت صفة له لأنه فعل فعله بغيره وإذا كان فعله بغيره فيمتنع أن نصفه به .
والجواب عن هذا أن الله جل جلاله كذلك يُرْضي عباده مع أنه موصوف بالرضا وهو جل وعلا يفعل بعباده ما يشاء من إغنائهم وهو جل وعلا أغنى وهو جل وعلا الغني وهو سبحانه وتعالى يتصف بالصفة ويظهر أثر هذه الصفة في خلقه ، الله جل وعلا غني ويغني والله سبحانه وتعالى يَضحك وكذلك يُضْحِك .
ولهذا قال إنه جاء في هذا اللفظ ضبط آخر أنه - يعني في حديث آخر - غير هذا أنه يُضحِكُ الله جل وعلا فرام من ذلك نفي صفة الضحك أصلا وهذا باطل بهذا اللفظ الذي أورده الشيخ قال (يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ) هذا ينفي أن تكون يُضحِكُ لأنه ذكر الفعل وذكر المفعول وهذا يمنع ما أولوه .
أيضا مما ذُكر أن الضحك هو تغير سنحة الوجه كما ذَكر وهذا عندهم يجري في كثير من الصفات مثل الغضب قالوا غليان دم القلب ولهم في ذلك أمثال فهذه الأشياء يفسرونها ، يعني هذه الألفاظ يفسرونها بآثارها .
نعم غليان دم القلب هو أثر الغضب في الإنسان يغلي دم قلبه لأن له دم وله قلب لكن هذا أثر ليس هو تفسير الغضب نفسه وإنما شيء ينشأ عن الغضب .
كذلك الانفراج وتغير سنحة الوجه إلى آخره من آثار الضحك هذا شيء ينشأ عنه .(32/416)
فكونه ينفي الشيء لأجل انتفاء الأثر هذا تحكم وباطل من جهة اللغة وأيضا من جهة النصوص أيضا في هذا النفي تعطيل للنص وإثبات صفة الضحك جاءت في غير ما نص في عدة نصوص بألفاظ مختلفة وهذا يدل على أن إثباتها متعين لا يجوز تأويله بأي صفة أخرى مما يرمون .
وأولئك - يعني الأشاعرة - يجعلون الضحك بمعنى الرضا كما ذكرت أو بمعنى القبول .
يعني (يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ) إلى آخره يعني أن الله قبل توبة هذا ودخوله في الإسلام ورضي عنهم فأدخلهم الجنة .
فيفسرون الضحك بالرضا والقبول ففيه من الرد عليهم ما سبق أن ذكرنا في الكلام على صفة الفرح .
الحديث الذي بعده قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ" حَدِيثٌ حَسَنٌ)
ويعني بالحديث الحسن ما تقاصر رواته عن رتبة الصحيح بأن نقله عدل خف ضبطه أو كما عرِّف
عرفه الخطابي وغيره أن الحديث الحسن هو ما اشتهر مخرجه وعدلت نقلته .
المقصود بالحديث الحسن يعني الحديث الحسن الاصطلاحي .
شيخ الإسلام تارة يستعمل الحسن بمعنى حسن المعنى وتارة يستخدم الحسن ويريد به الحسن الاصطلاحي ولكن أكثر ما يستعمله بمعنى الحسن الاصطلاحي وأما الحسن من جهة المعنى فإنه استعمله عدة مرات في أحاديث وحملت على أن المعنى حسن وليس حسنا على طريقة أهل الحديث
قال (وَقَوْلُهُ "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ) أولا هنا في بعض النسخ (وقرب خيره) وهذا ليس بجيد بل الصحيح (وَقُرْبِ غِيَرِهِ) والغِيَر يعني التغيير وقرب تغييره الشيء من حال إلى حال(32/417)
(عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ) إذا لم يأتهم المطر أو زادت عليهم الشدة والبأس فإنهم يقنطون والله جل وعلا يعجب (مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ) يعني وقرب تغييره .
و (قرب خيره) هو في معنى تغييره يعني قرب إرسال الخير إليهم .
(عَجِبَ رَبُّنَا) (عَجِبَ) هذا فعل ماضي وفيها إثبات صفة العَجَبْ لأنه مشتمل على المصدر .
وصفة العَجَبْ لله جل وعلا على ما يليق بجلاله وعظمته .
وقد جاءت هذه الصفة في عدة أحاديث عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما في قوله (عجب ربنا من شاب ليست له صبوة) الحديث رواه أحمد في المسند وفي إسناده بعض الكلام
وفي سورة الصافات قال الله جل وعلا لنبيه ?بل عجِبْتُ ويسخرون? ?بل عَجِبْتُ? فيها إثبات صفة العَجَبْ لله جل وعلا على قراءة حمزة والكِسائي فإن فيها ضم التاء من (عجبتُ) والقراءة المشهورة ?بل عجِبْتَ ويسخرون?
?بل عجِبْت ُ? يعني عجب الله جل وعلا
وكذلك قوله جل وعلا ?وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ? في سورة الرعد .
?إِن تَعْجَبْ? أنت ?فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ? يعني تعجب من عدم إيمانهم أو إنكارهم البعث إلى آخره مما قالوه ?فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ? فالمتعجب هو الله جل وعلا في هذه الآية أيضا إثبات صفة العَجَبْ لله جل وعلا .
إذن صفة العَجَبْ لله سبحانه وتعالى دل عيها القرآن والسنة في نصوص متعددة
والعَجَبْ يكون من أحد شيئين :
" إما أن يكون العَجَبْ والتعجب من جهة عدم توقع حصول الشيء والجهل بحصوله ثم حصل على نحو ما فيُتَعَجَّب منه لأنه لم يكن يُتَوقَّع أو لم يكن يُظَنَّ أن يحصل كذا وكذا هذا المعنى الأول للعجب في اللغة أو في استعمالها .
" والثاني أن العَجَبْ يكون إذا حصل شيء لأحد من الخلق ويكون بالنسبة له - بالنسبة للمخلوق - فيه عدم علمه بالعاقبة وعدم نظره في حال نفسه ، فيكون يُتَعَجَّبُ منه لأجل حاله .(32/418)
فإذن المعنى الأول راجع إلى جهل المتعجِّب ، والمعنى الثاني راجع إلى حال المتعجَّبِ منه .
والمعنى الأول لما كان فيه الجهل وفيه عدم العلم صار منفيا عن الله جل وعلا والمثبَتُ لله جل وعلا المعنى الثاني وهذا من جهة التقريب كما ذكرت لكم وليس من جهة الحد .
يعني أن مورِد العَجَبْ هو (عجب ربنا) هو أنه حصل من المخلوق ما يُتَعَجَّبُ منه مما يدل على جهله بالعاقبة أو عدم علمه بحال نفسه أو بتقلباته إلى آخره .
المقصود أن يُثبتُ لله جل وعلا العَجَبْ على جهة الكمال ، أما العَجَبْ الذي فيه الجهل ومؤداه الجهل وعدم العلم والشك ونحو ذلك أو التفاجؤ بالأمر والانصدام به والانذهال بالشيء هذا كله ينزّه عنه الله جل وعلا لأن الله سبحانه يعلم ما حصل وما سيحصل وليس شيء عنده جل وعلا جديدا ولا غريبا ولا هو جل وعلا سبق علمه جهل أو نسيان فيتعجب لأجل نسيانه أو عدم علمه بل هو جل وعلا الكامل في صفاته .
وإنما يكون التعجب لحال المتعجَّبِ منه يعني فعل فعلا غريبا بالنسبة إلى نظرائه أو عجيبا بالنسبة إلى نظرائه فيدل ذلك على أن المتعجَّب منه لا يعلم العاقبة لا يعلم الحال على جهله على عدم النظر في حاله وقت عمل شيء من الأعمال .
إذن فقوله (عجب ربنا) يُثبت العَجَبْ على الوجه اللائق بالله وهو العَجَبْ بحق أو العَجَبْ الكامل لله جل وعلا الذي ليس فيه نقص ولا يؤدي إلى نقص بوجه من الوجوه وهو إثبات مثل الصفات الأخر لكن اضطرنا إلى التفسير ما سيأتي من ضرورة الرد على من أول هذه الكلمة .
قال (يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ) أيضا فيه إثبات صفة الضحك على ما ذكرنا .(32/419)
إذا تقرر ذلك فالعَجَبْ لله جل وعلا ثابت وهو دليل على كماله وعزته وقهره لخلقه وأن خلقه ضعاف فقراء إليه جل وعلا لا يعلمون ما يستقبلون ولا يعلمون أحوالهم بل أحوالهم على التردد وعدم فهمهم لأحوالهم كما ينبغي والله جل وعلا هو العالم بما سيكون وما يكون سبحانه وتعالى فيتعجب من حال عباده .
إذن فالعَجَبْ إثبات صفة كمال لله جل جلاله .
أما النفاة فنفوا هذه الصفة على ما ذكرنا في نظائرها فيما سبق وقالوا : العَجَبْ يطلق ويراد به المخلوق المنفصل مثل ما ذكرنا فيما سبق يعني ما يُتَعَجَّب منه .
فـ (عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ) هنا (عَجِبَ) يعني أنه نظر إلى ما يتعَجَّبُ منه الخلق وإلا فالله جل وعلا لا يتعجب عندهم .
فالشيء الذي وقع يُتَعَجَّبُ منه يَتَعَجَّبُ منه الخلق لو اطلعوا على ذلك لو عرفوا ذلك يتعجبوا والله جل وعلا أضاف الفعل هنا إلى نفسه عندهم لأنه حصل شيء يتعجبون منه .
ومنهم من يقول وإن صفة العَجَبْ لله جل وعلا أن معنى صفة العَجَبْ - اللي هم الأشاعرة - لله جل وعلا إظهار غرابة ما من شأنه أن يُتَعَجَّب .
فالمعتزلة عندهم أن العَجَبْ منفصل .
والأشاعرة عندهم أنه إظهار لما يُتَعَجَّب منه إما بالقول .. أو بالإشادة به أو بتعجيب الخلق منه وإما بالفعل بأن بفعل بهم فعل ما يُتَعَجَّب منه .
وهذا لا شك من جميع الجهات باطل لأن فيه نفي لصفة الله جل وعلا .
والذي قادهم إلى ذلك أن العَجَبْ فيه نوع نقص لأنهم قالوا إن العَجَبْ لا يكون إلا ممن لا يعرف الحقيقة ولا يعرف المستقبل ولا يعرف أن هذا سيحصل ، والجواب الذي أسلفنا ذكره هو أن العَجَبْ ينقسم إلى ما يكون من جهة عدم العلم وما يكون من جهة المتعجَّب منه وهم أوّلوا ذلك من جهة المتعجَّب منه .
فإذن يثبتون العَجَبْ لله جل وعلا ويكون عجبه لأجل حال المتعجَّب منه وليس مؤولا بأن عجب الله جل وعلا هو حال المتعجَّب منه وإنما عجبه لأجل حاله .(32/420)
وفرق بين أن يكون متعجِّبا لأن يكون هو المتعجِّب من أجل الحال أو أن يكون عجبه جل وعلا هو الحال نفسه أو يؤول بما ذكرت من التأويلات التي ذكروها .
المقصود من ذلك أن هذه الصفات ينفيها المبتدعة وأهل السنة يثبتونه جميعا وما ذكروه من التأويلات كل ذلك باطل والحمد لله جل وعلا على ظهور المحجَّة وضعف ما أوردوه فيما أولوا به تلك الصفات .
إثبات الرجل والقدم
لله سبحانه
قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط")
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث فيه إثبات صفة القدم لله جل وعلا ، ورواية في الرِّجْل تُفسر برواية القدم وأن الله جل وعلا متصف بهذه الصفة .
والله سبحانه متصف بالساق ومتصف بالرجل ومتصف بالقدم ولم يرد غير هذه الثلاث :
القدم والرجل والساق لله تبارك وتعالى .
ونثبت ذلك كما جاء في النصوص من غير تأويل ومن غير تمثيل ومن غير أن يطرأ على بالنا نفي أو تشبيه الصفة أو تمثيل هذه الصفات بصفات خلق الله جل جلاله .
في هذا قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قدمه)
والمؤولة قالوا إن القدم هنا بمعنى ما تقدم من الشيء فيكون القدم ما تقدم من الله جل وعلا إلى جهنم .
وهذا عندهم كقوله جل وعلا ?وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ? قال ?لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ? وهو ما يتقدم ومنه سميت القدم قدما لأنها تتقدم في المشي .(32/421)
وهذا الذي قالوه من جهة التأويل هذا مردود وذلك لأن لفظ ?لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ? يختلف عن لفظ (قدمه) فقوله ?وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ? أضاف القدم إلى الصدق والصدق له أثر يتقدمه لأن الصدق يهدي إلى البر ولهم قدم صدق يتقدمهم ذلك أمامهم أما في هذه الرواية ففيها (قدمه) أضاف القدم إليه جل وعلا وهذه إضافة صفة لم يضف القدم إلى معنى ، وفسرتها الرواية الثانية التي فيها رجله وهذه تنفي الاحتمال الوارد في رواية (قدمه) .
الوجه الثاني أن مما ينفي هذا الاحتمال أنه قال في أول الحديث (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ) (حَتَّى يَضَعَ) والموضوع هي القدم والواضع هو الله جل وعلا وهذا يمنع أن يكون المعنى التقدم وأولئك قالوا صفة القدم منفية عن الله جل وعلا وهذا الحديث باطل ولو كان متفقا عليه فهو موضوع أو ضعيف ، لماذا ؟
قالوا لأن الله جل جلاله يقول عن النار ?لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? فجعل ملء جهنم من الجنة والناس وهذا الحديث فيه أنها لا تملأ حتى يضع الجبار فيها قدمه ورجله جل وعلا وهذا منافي للآية .
وهذا لا شك أنه من التماحل في رد النصوص لأن ملء الشيء قيِّد في الآية بأنه من الجنة والناس ?لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? فالجنة والناس سَتُملأُ بهم جهنم ولكن هنا هل ملؤها بهذا أنه لا يكون بعدها فيه ثم شيء ؟
الجنة ستملأ وسينشئ الله جل وعلا لها خلقا آخر يملؤها (وكذلك النار أيضا لها ملؤها ولن يكفيها ما فيها وسينشئ الله جل وعلا لها خلقا آخر 1)
والشمس والقمر على عظم الشمس وعظم القمر ستكون في النار يوم القيامة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح .(32/422)
فإذن قوله ?لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? هذا يراد بهم أنهم سيملؤونها يعني تكون جهنم الغالب عليها ملؤها بهؤلاء وليس في ذلك أنه لا يكون فيها متسع لشيء غير ذلك .
ولهذا الموحدون يكونون في طبقة من طبقات جهنم ثُمَ دلت النصوص أنهم يخرجون منها إلى الجنة فتظل هذه الطبقة من طبقات جهنم خالية ليس فيها أحد لأنها طبقة عصاة الموحدين الذين خرجوا منها .
فإذن النصوص يفسر بعضها بعضا فكون الله جل وعلا أقسم أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين لا يعني أنه لا يكون فيها متسع لغير ذلك بل الله جل وعلا (ينشئ لها خلقا آخر) .
ثم قال هنا (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟)
يعني ألا من مزيد ، وذلك لأن الله جل وعلا وعدها بملئها
(حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ)
فيكون ذلك تحقيقا لقوله ?لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? .
فمن أهل العلم من قال : جهنم اسم لبعض النار وجهنم أخص من النار ، النار اسم لها جميعا أما جهنم فاسم خاص لبعض طبقاتها والنار اسم عام ولكن الصحيح أن جهنم والنار اسمان لمسمى واحد باعتبار اختلاف الصفة .
إذن في هذا الحديث إثبات صفة القدم والرِّجل لله جل وعلا على نحو ما أسلفنا من طريقة أهل السنة في الإثبات أنه من غير تمثيل ولا تجسيم ولا تعطيل سبحان ربنا وتعالى وتقدس .
ونكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
إثبات النداء والصوت والكلام
له سبحانه(32/423)
وَقَوْلُهُ: "يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ".
وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: "رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ؛ فَيَبْرَأَ".حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ، وَقَوْلُهُ: "أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ". حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ:"وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ". حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: "أَيْنَ اللهُ؟". قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "مَنْ أَنَا؟". قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
ففي الكلام على الحديث السابق الذي فيه إثبات القدم لله جل وعلا(32/424)
قال شيخ الإسلام رحمه الله وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط) مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
هذا الحديث ذكرنا أن فيه إثبات الرجل وإثبات القدم لله تبارك وتعالى على ما يليق بجلاله تبارك وتعالى .
وهذه الصفة صفة القدم جاءت هنا بلفظ الإفراد وهما قدمان لله جل وعلا لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكرسي أنه (موضع القدمين لله تبارك وتعالى) .
فهو سبحانه وتعالى متصف بهذه الصفة وإثباتها كإثبات بقية الصفات مع تنزيه الباري جل وعلا عن مماثلة خلقه وإثبات بلا تعطيل وإثبات بلا تمثيل كما أنه تنزيه لله عن المماثلة بلا تعطيل على قاعدة أهل السنة في نظائرها .
وقوله (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟) يعني تطلب المزيد أو تسأل عن ذلك (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ) وقوله هنا (يَضَعَ) يدل على أن المراد أن القدم المعروفة لأنها هي التي توصف بالوضع أما ما يتقدم من الأمر فإنه يوصف بالإتيان ونحو ذلك كما أوضحت لكم .
قال (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ) و (رَبُّ الْعِزَّةِ) العزة صفة من صفات الله جل وعلا والرب هو الصاحب ، رب الشيء هو صاحبه والمتصف به أو المالك له ونحو ذلك
والصفات تضاف إلى ربوبية الله جل وعلا باعتبار أنه صاحبها الذي يوصف بها لا باعتبار أنه المالك لها لأن الصفات قائمة بذات الله تبارك وتعالى كما قال سبحانه ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ()وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ()وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين َ?(32/425)
فقوله عليه الصلاة والسلام هنا (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا أو عَلَيْهَا قَدَمَهُ) فيها تصحيح أن يقال (رب العزة) و (رب الجلال) ونحو ذلك من الصفات و (رب الرحمة) على اعتبار أن معنى الربوبية هنا أنه الصاحب المتصف بها .
أما المِلك فلا يراد هنا لأن الله جل وعلا مالك لخلقه وأما صفاته جل وعلا فهي منه جل وعلا وتبارك وتقدس .
قال (فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط) يعني بعد أن يضع عليه الجبار جل وعلا قدمه ينزوي بعضها إلى بعض يعني يلتقي طرفاها فتصغر جهنم بعد ذلك بعد وضع الجبار عليها قدمه فتكون مملوءة بعد ذلك بأهلها .
فالجنة وعدها الله جل وعلا ملأها ويدخل أهل الجنة فيها ثم يبقى فيها فضل كما جاء ذلك في السنة يبقى فيها فضل فينشيء الله جل وعلا للجنة خلقا آخر يدخلهم ويسكنهم الجنة بفضله وبرحمته .
وأما النار فهي دار عدله ودار جزائه فإذا بقي فيها فضل فإن الله جل وعلا يضع عليها قدمه فينزوي طرفاها وتصغر حتى تمتلئ بأهلها الذين دخلوها وهذا معنى قوله جل وعلا ?لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ?
فالنار لها ملؤها والجنة لها ملؤها وأما إنشاء الخلق للنار فهذا ليس بصحيح والنار دار عدل الله جل وعلا ولا ينشيء الله لها خلقا فيملؤها بل ملؤها يكون من الجنة والناس .
وأما الجنة فهي التي يبقى فيها فضل فينشيء الله جل وعلا لها خلقا آخر .
فما ذكرته في المرة الماضية كما ذكر لي أحد الإخوة من أن النار يُنْشَأ لها خلق يعني كانت على وجه العطف في كلامي فإن هذا ليس بصحيح وهي زلة ما قُصدت .
المقصود إثبات ما ذكرت لك الآن وهي أن النار هي دار عدل الله تبارك وتعالى ودار جزائه ولا يُنشأ لها خلق لأن ذلك لم يثبت ولم يأت الدليل به أما الجنة فنعم ينشيء الله لها خلقا آخر والنار لها ملؤها والجنة لها ملؤها .
وطريقة أهل السنة هي إثبات صفة القدمين لله جل وعلا .(32/426)
وأما أهل البدع فإنهم أولوا ذلك ونفوه وقالوا لا يتصف الله جل وعلا بالقدم لأن القدم قالوا مجاز عن تقدم الأمر كما قال جل وعلا في أول سورة يونس ?وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ?
قال ?قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ? القدم هنا بمعنى تقدُم الشيء الذي يَسْبِقُ فَيَتَقَدَم غَيرَهُ .
والقدم سميت في اللغة قدما لأنها تتقدم البدن عند المشي
وقالوا ما دام أنه قال ?قَدَمَ صِدْقٍ? ولم يُعنَ بها الصفة فاحتملت أن تكون كذا وكذا فيكون القدم هنا معناها تقدم أمره لجهنم .
وهذا باطل لأن النص ثبت بالقدمين في غير هذا وثبتت القدم في غير هذا النص ثم في هذا النص دلالة على إبطال ذلك التأويل أو ذلك التحريف لأنه قال فيه (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا قَدَمَهُ) أولا قوله (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ .. قَدَمَهُ) لفظ (يَضَعَ) ثم قال (قَدَمَهُ) يعني قدم رب العزة يضعها على جهنم وهذه لا تحتمل أن تكون تقدم الأمر لأن ذلك يعبر عنه بالإتيان ، أتى أو نحو ذلك أما الوضع وضع القدم على الشيء هذا لا يحتمل التقدم .
وأيضا هنا أضاف القدم لله جل وعلا فقال (قَدَمَهُ) (رجله) وهذا يدل على أن هذه الصفة أضيفت إلى الله جل وعلا ومن المعلوم أن إضافة الصفات لله جل وعلا نعني بإضافة الأشياء لله جل وعلا مما لا يقوم بنفسه أنها إضافة صفات كما نقول (رحمة الله) وكما نقول (فضل الله) وكما نقول (يد الله) وكما نقول (علم الله) وكما نقول (كلام الله) الباب باب واحد فإنه إضافة صفة التي لا تقوم بنفسها أو إضافة الشيء الذي لا يقوم بنفسه إلى الله جل وعلا تكون إضافة صفة كما مر معنا تقريره مفصلا في القسم الأول .
فإذن هي إضافة صفات أما إضافة الأعيان المنفصلة فهذه تقتضي التشريف مثل الناقة (ناقة الله) و (بيت الله) ونحو ذلك هذه تقتضي التشريف كما نبهت على ذلك مرارا .(32/427)
المعتزلة في مثل هذا يرون أن هذه الصفات تفسر بمخلوقات منفصلة ، يعني القدم - إذا ما نفيت - إذا ما نفوا الأدلة أصلا فإنهم إذا أثبتوا الدليل فسروه بمخلوقات منفصلة .
والمعتزلة إذا ناقض الدليل القرآن - يعني الدليل من السنة القرآن - حكموا بإبطال الدليل من السنة كما ذكرت لكم عن الرازي حيث إنه قال أن هذا باطل ولو كان متفقا عليه هذا ضعيف أو موضوع لأنه في القرآن أن الملء سيكون من الجنة والناس وهذا الحديث فيه أن الحديث سيكون بوضع الجبار عليها قدمه فهذا تناقض أو مضادة لما في القرآن فيكون هذا الحديث باطلا .
وهذا من جراء سوء الفهم منه لأن الملء حاصل ولكن بعد الوضع فالنار لها ملؤها .
الدليل من السنة دل على أن الملء سيكون للنار من الجنة والناس هذا الدليل من القرآن على أن الملء سيكون من الجنة والناس .
ودليل إثبات القدم هذا فيه أنه سيسبق هذا الملء وضع الجبار عليها قدمه فهي ستمتلئ منهم لا من غيرهم بعد أن يضع الجبار فيها أو عليها قدمه تبارك وتعالى كما ذكرت فينزوي بعضها إلى بعض فيلتقي طرفاها فتطيق فتمتلئ بأهلها ، وهذا ظاهر .
فالواجب أن يجعل الكتاب والسنة متفقين غير مختلفين لأنها من مشكاة واحدة كلها من عند الله تبارك وتعالى .
الأحاديث التالية في هذا الحديث من حيث ما تضمنته من الصفات سبق الكلام عليه مفصلا .
فأوله قال : (وَقَوْلُهُ: "يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ!) يعني قوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ("يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ
وَقَوْلُهُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ") هذه فيها إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وأن كلام الله جل وعلا بحرف وصوت .(32/428)
دل على أنه بحرف وصوت قوله (يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ) و (يا) حرف نداء والنداء لا بد أن يكون بصوت و (يا) حرفان فدل على إثبات الحرف في كلام الله جل وعلا والنداء صوت فلا بد من إثبات الصوت لله تبارك وتعالى .
ولهذا فسره بعد ذلك بقوله (فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ) وهذا اللفظ وهو قوله (فَيُنَادِي) روي أيضا في الصحيح (فَيُنَادَى بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ)
وقد قيل إن المنادي غير الله جل وعلا الذي ينادي الملائكة لأن فيه (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ) .
وهذا ليس بجيد لأن الروايات يجب أن تأتلف وأن يفسر بعضها بعضا فرواية (فَيُنَادَى بِصَوتٍ) هي رواية (فَيُنَادِي بِصَوتٍ) فالمنادي هو الله جل وعلا .
وإذا قيل (فَيُنَادَى) لأجل الفرار من إثبات الصوت لله جل وعلا والحرف في كلامه تبارك وتعالى فهذا ثابت في قوله (يا آدم) إذ من أدلة إثبات الحرف والصوت لله تبارك وتعالى النداء ، فالنداء والنجاء هذه من لوازمها أو مما لا تحصل إلا به أن تكون بحروف وأصوات والله جل وعلا في كتابه العظيم أثبت أنه ينادي ويناجي ?وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ? وقال سبحانه ?وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا?
فالنداء ثابت في القرآن والنجاء ثابت في القرآن والنداء هو المخاطبة بصوت مرتفع يعني للبعيد والنجاء هو المخاطبة للقريب وهذا طبعا حسب العرف يعني حسب الوضع اللغوي .
فالنداء ، إثبات النداء لله يدل على أنه بحرف وصوت لأن المعنى النفسي لا يقال فيه نداء .(32/429)
المقصود من ذلك أن هذا الحديث فيه إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وأن كلامه جل وعلا بحرف وبصوت وقد مرت معنا المسألة في تقريرها مفصلة عند قوله تعالى في القسم الأول ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ? وقوله ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا? إلى آخر ما ذكر رحمه الله تعالى من الاستدلال على مسألة الكلام .
قال أيضا (وَقَوْلُهُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ")
(مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) هذا فيه التنصيص الصريح على أن كل أحد سيكلمه الله .
والتنصيص الصريح استفدناه من مجيء (من) بعد (ما) النافية (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) لأن (من) تأتي قبل النكرة في سياق النفي فتدل علة نقل العموم من ظهوره إلى نصه .
وهذا يعني أنه ليس أحد إلاَّ و سَيُكَلِّمُهُ الله جل وعلا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ .
ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وأن كلام الله جل وعلا ليس من جنس كلام البشر تبارك ربنا وتعالى .
وكلام الله ومحاسبته للناس يوم القيامة يكون في وقت قصير كما قال سبحانه واصفا نفسه العلية وذاته الجليلة قال جل وعلا ?وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ? قال أهل التفسير معنى قوله ?وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ? الذي يحاسب الخلق فيقررهم بأعمالهم ويقيم عليهم الحجة من أنفسهم في ساعة جميع الخلائق ?وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ? يحاسبهم في ساعة يعني في لحظة تبارك وتعالى وتقدس وتعاظم ربنا .
قال (إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) وهذا كما ذكرت لك فيه الحصر لما سبق يعني كل أحد سيكلَّم .(32/430)
(لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ) ووجه الدلالة من قوله (تَرْجُمَانٌ) أن الترجمة والترجمان وظيفته نقل ما يسمع من لغة إلى لغة ففيها إثبات أن كلام الله جل وعلا لمن سيكلمه مسموع ولا يحتاج فيما بينه وبينه إلى ترجمان يعني إلى من يسمع وينقل العبارة فالمكلَّم يسمع كلام الله والله جل وعلا متكلم ويتكلم مع كل أحد يوم القيامة فيقرره على أعماله .
إذن هذا فيه إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وأن كلام الله جل وعلا بصوت يُسْمَع .
ومن صفة كلام الله تبارك وتعالى أنه إذا تكلم جل وعلا فإنه يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب فلا يحتاج في إسماعهم لكلامه إلى أن يكون كلامه للبعيد غير كلامه للقريب بل الكلام للبعيد والقريب واحد فهذا من صفات كلام الله ولا يكون أحد من البشر له هذه الصفة ، لا يكون أحد من خلق الله له هذه الصفة فالله جل وعلا يتكلم بكلام يوم القيامة فيسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب الجميع على حد سواء .
وصفة الكلام لله تبارك وتعالى مر معنا أنها من الصفات التي تثبت بالسمع وأن كلام الله جل وعلا قديم النوع حادث الآحاد .
كلامه جل وعلا بالقرآن حديث يعني حين بعث رسوله محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تكلم بالقرآن
م يتكلم به منذ القدم بل سمعه جبريل منه فبلغ جبريل ما سمع من الله جل وعلا إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فهو حديث ومحدث يعني حديث العهد بربه ليس بقديم كما قال جل وعلا ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ? وكما قال في آية الشعراء ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ? فهو حديث كما قال ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا? وهو محدَث يعني حديث التكلم به لأن لفظ محدث يُعنَى بها حديث الزمن يعني أن الله تكلم به فبُلِّغَه الناس .(32/431)
وهذا ظاهر في نصوص كثيرة وقد قال عليه الصلاة والسلام في وصف ابن أم عبد (من سره أن يسمع القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) فكلام الله قديم النوع حادث الآحاد وهو قسمان : كلام شرعي وكلام كوني .
- كلام الله الكوني هو المتعلق بما يحدثه الله جل وعلا في كونه مما يشاء .
- وكلام الله الشرعي هو المتعلق بخبره وأمره ونهيه في الكتب التي أنزلها على رسوله .
وهذا الثاني هو المراد بقوله جل وعلا ?وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا? فـ ?وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا? أو (من قاتل لتكون) - كما في الحديث - (لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) المقصود بكلمة الله ، كلمات الله الشرعية .
وأما كلماته الكونية فهي عالية لأن الله جل وعلا لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه والواجب على العباد أن يجاهدوا حتى تكون كلمة الله - يعني كلمات الله الشرعية التي أنزلها على عبده محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - لتكون هي العليا ولتكون كلمة الذين كفروا السفلى .
فإذن الكلام منقسم إلى هذا وهذا ، وهذه يمكن زيادات على ما ذكرت لكم آنفا من تقرير هذه الصفة فأصل تقريرها والرد على المخالفين فيها تقدم في الكلام الذي سبق في قسم الأدلة من القرآن العظيم .
......
الحديث ما فيه إثبات الرؤية ، قد يسمع الكلام بدون أن يراه ، الرؤية هل هي ثابتة في العرصات عرصات القيامة لكل أحد أم لا ؟
الصحيح أنها ليست لكل أحد وإنما الذي يراه أهل الإيمان فقط .
قال رحمه الله (.وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: "رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)
أو (رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ) (تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ) إلى آخر الحديث .(32/432)
قال (حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ) وأُعِلَ بأشياء والصواب كما ذكر شيخ الإسلام أنه حسن لمجموع طرقه .
وهذا من الأدعية التي لها أثرها في الرقية جدا كما ذكر ذلك ابن القيم وغيره .
ورقية المريض المقصود منها ما يتلى على المريض ويتلى عليه مع النفث لشفائه .
فالرقية كانت في الجاهلية بل هي في كل أمة من أمم الأرض عندهم رقى والرقى مؤثرة في دفع المكروه أو رفع المرض إذا حل ...
انتهى الشريط الخامس عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السادس عشر
فالرقية كانت في الجاهلية بل هي في كل أمة من أمم الأرض عندهم رقى .
والرقى مؤثرة في دفع المكروه أو رفع المرض إذا حل ولهذا كان الناس يتعاطونها وكان أهل الجاهلية فيهم من يرقون وكثر ذلك فيهم وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شرك) يعني بها الرقى التي كان يتعاطاها أهل الجاهلية التي تشتمل على الشرك ، فسئل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن الرقى فقال (اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا) وفي لفظ (ما لم يكن فيه شرك) أو (ما لم يكن شرك)
فالرقى جائزة أو مستحبة وأفضلها ما كان بالأدعية النبوية يعني ما كان بالكتاب والسنة ما كان مأخوذا عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ والاجتهاد فيها جائز ولكن لا بد أن يتوفر فيه شروط صحة الرقية .
وقد أجمع العلماء على أن الرقية الجائزة هي ما اجتمع فيه ثلاثة شروط :
- أن تكون بأسماء الله وبصفاته أو بكلامه .
- الثاني أن تكون باللسان العربي أو بما يفهم معناه ويعرف من الألسنة الأخرى .
- الثالث أن يعتقد الراقى والمرقي أنها لا تؤثر بنفسها وإنما هي سبب وتأثيرها ونفعها بإذن الله جل وعلا .(32/433)
هذه أجمع العلماء على جوازها ، فإن كانت من غير ذلك ففيها اختلاف ، مثل الرقية بغير كتاب الله يعني بغير القرآن ، رقية بالتوراة أو بالإنجيل أو أن يرقى يهودي أو أن يرقى نصراني أو نحو ذلك
لا شك أن الرقى مؤثرة فاليهود يرقي بعضهم بعضا وتنفع رقاهم ، والنصارى يرقي بعضهم بعضا وتنفع رقاهم وهم إنما يرقون إذا رقوا الرقى المأذون بها عندهم ما كانت بكلام الله جل وعلا في التوراة أو في الإنجيل .
ومن المعلوم أن كلام الله جل وعلا في التوراة والإنجيل منه ما لم يُحرَّف ، منه ما هو باق على ما أنزله الله جل وعلا ، هذا إذا تلي على المريض فإن ذلك جائز ولا يشترط في حق أولئك أن يرقوا بكلام الله .
فمثلا لو وجدتَّ نصرانيا يرقي أخاه بالإنجيل فإن هذا لا بأس به ليس هذا بالمنكر لا بأس به ، فقد يرقي بغير القرآن يعني بالتوراة أو بالإنجيل وينفع ذلك إذا كان من كلام الله جل وعلا .
وقد كانت عائشة ربما فعلت أو ربما رقاها رقية بغير القرآن .....1
أو (اللهم ربَّنا الذي في السماء تقدس اسمك)
أو تكون خبرا (ربُّنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) فيكون على جهة الإخبار .
والشاهد منه أن فيه قوله (الذي في السماء) وهذا (ربُّنا الله الذي في السماء) ففيها إثبات صفة العلو لله جل وعلا لأن قوله (الذي في السماء) يعني الذي في العلو ، والسماء تطلق ويراد بها العلو كما قال الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا? قال ?وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء? يعني في العلو ، كذلك قوله ?أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء? يعني من في العلو ?وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء? يعني من العلو ، وكذلك منه قول الشاعر :
رأيناه وإن كانوا غضابا إذا نزل السماء بأرض قوم(32/434)
(إذا نزل السماء) يعني المطر سماه سماءً لأنه أتى من جهة العلو ، فإذن السماء المقصود بها العلو .
فقوله (ربُّنا الله الذي في السماء) يعني في العلو .
وإن أريد بالسماء السماء المخلوقة المعروفة يعني واحدة السماوات فيكون المراد بالسماء هنا السماء السابعة و (في) تكون بمعنى (على) يعني ربنا الله الذي على السماء السابعة لأن الله جل وعلا ليس في السماوات السبع بل هو جل وعلا مستو على عرشه بائن من خلقه وعرشه فوق سماواته ، وكرسيه فوق سماواته وعرشه على سماواته مثل القبة كما في حديث الأطيط .
(تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا ، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ ؛)
قال (فَيَبْرَأَ) يعني بإذن الله جل وعلا ، هذا سبب من الأسباب فيه الاستغاثة بالله والاستعانة به ورجاء رحمته وفيه حسن الظن به ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال : قال الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) فإذا حسّن العبد ظنه بالله وهو يرقي المريض أو يرقي نفسه بأن الله سيكشف ما به من عين أو سحر أو مرض أو نحو ذلك فإن ذلك من أعظم الأسباب المؤثرة في رفع المرض وفي الشفاء منه .
......
ذكرت لك الوجهين .. والذي يرجح عندي أنها (ربُّنا الله الذي في السماء تقدس اسمك)
قال (وَقَوْلُهُ: "أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ")
هذا فيه دلالة لإثبات صفة العلو لله جل وعلا .(32/435)
قال وَقَوْلُهُ:"وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ". حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ) قال (وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: "أَيْنَ اللهُ؟". قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "مَنْ أَنَا؟". قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
هذه الأحاديث فيها إثبات صفة العلو لله جل وعلا وعلو الله ثابت له بنوعيه :
- علو الذات - وعلو الصفات .
وثابت له بثلاثة أنواع :
- علو الذات - وعلو القهر - وعلو القدر .
فعلو الله تبارك وتعالى على خلقه هو علو ذات كما دلت عليه هذه الأحاديث وهو أيضا علو صفات علو قَدْرْ وعلو قَهْرْ .
فهو جل وعلا عال على خلقه بقَهْرِهِ وكذلك هو عال على خلقه بقَدْرِهِ جل وعلا فقَدْرُهُ جل وعلا أعظم وأجل وقد قال سبحانه ?وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ? .
وقوله في حديث (والعرشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ)
هذا الماء فوق السماوات السبع فوقها ماء كما جاء في هذا الحديث والعرش فوق الماء والعرش لا يُقْدَرُ قدْرُه ، عظيم جدا .
العرش هو أعظم المخلوقات ، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض والسماوات السبع بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس فالعرش أمره عظيم وهو أعظم مخلوقات الله قد وصفه الله جل وعلا بأنه عظيم وبأنه كريم .
فقال هنا عليه الصلاة والسلام (والعرشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) هذا فيه إثبات الفوقية ، وإذا مر معك لفظ الفوقية فهو بمعنى العلو فكل دليل للفوقية دليل لعلو الله جل وعلا ففوقية الله على عرشه هي علو الله على عرشه .
وتفصيل الكلام على علو الله والعرش والردود على المخالفين في ذلك مر معنا مفصلا في القسم الأول وإنما المراد هنا تأكيد دلالة السنة على ما دل عليه القرآن من إثبات الصفات .(32/436)
قال (وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)
يعني أن علو الله جل وعلا لا يضاد معيته جل وعلا لخلقه المعية العامة التي معناها العلم بما هم عليه .
قال (وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: "أَيْنَ اللهُ؟". قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ.)
(أَيْنَ اللهُ) هذا سؤال عن المكان لأن (أين) يسأل بها عن المكان والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سأل الجارية عن ذلك فدل على أن الله جل وعلا جهة مكانه العلو .
وكل موجود لا بد أن يكون له جهة والذين منعوا وصف الله بالعلو قالوا :
لأن الجهات من عوارض المخلوقات - الجهة ، أن يكون في جهة معينة -
ولأنه إذا أثبتت الجهة اقتضى ذلك التحيز وأن الجهة تحوزه وتشمله وتحوطه .
وهذا باطل لأن الجهات ثَمَ جهات يعلمها البشر بما عهدوا وهي : أمام وخلف ويمين وشمال وتحت وفوق وهذه بالنسبة للبشر يتصورونها ، كذلك الجهات شمال وجنوب وشرق وغرب يعني اللي هي .. فهذا بالنسبة للبشر يقتضي الحصر لأنهم يرون هذه الجهات منحصرة في غيرها
أما الله جل وعلا فله جهة العلو .
هو سبحانه في جهة العلو .
والسؤال بـ (أين) فيه سؤال عن الجهة والجهة هي المكان .
فجهة الله جل وعلا هي العلو ولهذا الداعي إذا سأل الله جل وعلا توجه إلى العلو ونظر إلى العلو ورفع يديه إلى العلو يطلب الفرج .
والعلو نوعان :
" علو نسبي : - يعني العلو بالنسبة للبشر يعني هذا علو إضافي نسبي يعني بالنسبة للبشر - .
" وعلو مطلق .
والله جل وعلا في العلو المطلق الذي هو العلو بالنسبة لجميع جهات الأرض ، فسُفْلُ الأرض ما ينحدر إلى مركزها وعلو الأرض ما يتباعد عن محيطها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيكون العلو لله تبارك وتعالى العلو المطلق والعبد إذا دعا الله ورفع يديه إليه سواء كان في أي جهة من الأرض سواء كان في شمالها أم في جنوبها في ظهرها أم في الجهة الأخرى فإنه إذا رفع يديه فإنه يرفع يديه إلى العلو المطلق - وانتبه إلى هذه الكلمة فإنها مهمة - .(32/437)
فإن علو الله جل وعلا جهة ، فإن الله في العلو وعلو الله جل وعلا هو علو الذات وسؤال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بقوله (أين الله) قالت في السماء هذا دليل على إثبات جهة العلو لله تبارك وتعالى وهذا مهم لأن بإثبات جهة العلو لله تُثبَت صفات أخر كثيرة .
النفاة للعلو اعترضوا على هذا باعتراضات مرت معنا في القسم الأول لكن الذي يناسب الدليل من هاهنا أنهم قالوا : قوله (أين الله) هذا اللفظ ليس بثابت في بعض نسخ مسلم ، قالوا ولهذا أنكره البيهقي في كتاب الأسماء والصفات وقال ليس في نسختنا من مسلم لفظ (أين الله) في الحديث .
وهذه شبهة أدلى بها بعض المعاصرين الذين ينفون صفة العلو لله تبارك وتعالى .
والجواب عن ذلك أن مسلما رحمه الله لم يروِ كتابه عنه إلا رجل واحد .
وكتاب مسلم ليس كالبخاري ، البخاري ثَم له رواة فيرويه عنه الفِرَبْرِي ويرويه عنه حماد بن شاكر ويرويه عنه فلان وفلان ، وكل من هؤلاء له رواة أيضا ورواية الفربري المشهورة في البخاري أيضا فيه ثَم رواية أبي ذر ورواية أبي الوقت ورواية ابن عساكر والكُشْميهَني وهذه الاختلافات موجودة في نسخ البخاري تابعة لرواية الفربري وحده ، أما مسلم رحمه الله فإن كتابه الصحيح لم يروه عنه إلا شخص واحد وهو ابن سفيان رحمه الله وقد رواه عنه مسموعا في أكثر الكتاب وفاته سماع أو لم يُقرئ مسلم الراوي ثلاثة مواضع ، فلم يسمعها من مسلم أصلا ، ثلاثة مواضع كبيرة بعض المواضع يأتي على عشرين ثلاثين صفحة ، فليس له إلا رواية واحدة لأن مسلما ما تيسر له أن يُقرئ كتابه قبل وفاته بل اخترمته المنية قبل أن يُقرئه وإنما رواه عنه ابن سفيان وحده وهذا يدل على أنه ليس ثَم في مسلم اختلاف روايات بل هو رواية واحدة فما يقال في مسلم أن في بعض رواة مسلم رواها كذا وبعض رواة مسلم رواها كذا ، هذا من الجهل .(32/438)
وأما نسخة البيهقي التي ذكرها بأنه ليس في نسختنا فالنسخ معلوم أن النسخ قد يحصل فيه غلط قد يحصل فيه نقص والرواية إذا كانت ثابتة عن الذي روى عن مسلم هذه اللفظة فإنه يُعتمَد عليها وتكون هي الحجة ، وأما أن يكون في بعض النسخ محذوف فيه هذه فإن ذلك ليس بدليل على نفيها لأن الرواية رواية واحدة وليست بروايات متعددة حتى يقال إن مسلما رجع عن هذه أو اختلفت نسخ مسلم إنما هي نسخة واحدة فيكون الخلل من جهة النُسّاخ وليس من جهة الرواية .
وهذا فرق كبير ، إذا كان الخلل من جهة الناسخ غير ما إذا كان الخلل من جهة الرواية ، مثلا في - أضرب لكم مثلا في البخاري - في دعاء الأذان المعروف أن من سمع المؤذن فقال (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه اللهم مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد) هذه بهذا الطول يعني بزيادة (والدرجة العالية الرفيعة) وبزيادة (إنك لا تخلف الميعاد) هذه في بعض نسخ البخاري في رواية الكشميهني عن البخاري ، ولهذا بعض أهل العلم ينسبها للبخاري كما نسبها شيخ الإسلام وغيره وهذه نسبة صحيحة .
ولكن رواية الكشميهني هنا خالفت الروايات الأخر فنقول الثابت من رواية الصحيح عدم إيراد هذه فتكون هذه ضعيفة لأجل شذوذ من رواها عن الفربري عن البخاري ، هذا بحث واضح من جهة الحديث ومن جهة نقل الكتب وسماع كتب السنة هذا واضح .
أما مسلم رحمه الله فمع الأسف ما له إلا رواية واحدة حتى فاته السماع في ثلاثة مواضع راويه ابن سفيان رحمهم الله تعالى .
فإذن هذه الحجة حينما قالوا إن هذا الحديث أو هذه اللفظة ليست موجودة في بعض نسخ مسلم فيدل أنها ليست بثابتة في مسلم فهذا ليس بحجة جيدة .(32/439)
أيضا من الجواب أنها موجودة في غير كتاب مسلم بالأسانيد الصحيحة وليس فيها غرابة ، ما فيها غرابة ، هذا اللفظ فيه السؤال عن الجهة والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو السائل وجهة العلو ثابتة لله جل وعلا في غير هذا الدليل كما في قوله ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ? كقوله (أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ) واضح (مَنْ فِي السَّمَاءِ) يعني من في العلو (من) هذه لمن يعلم تبارك وتعالى .
نقف عند هذا ، بعض الأسئلة :
يقول : هل يجوز سؤال الأطفال والعامة بقولهم أين الله ؟
هذا مما لا تتحمله العقول ، ليس عقل كل أحد يتحمل هذه الكلمة خاصة في مثل هذا الزمان هذه ليست من كلمات الابتلاء ولكن تعلم العامة والأطفال صفات الله جل وعلا أما امتحان الناس بهذا السؤال فليس بجيد .
هل من صفات الله القرب من عباده مع كونه جل وعلا فوق عرشه ؟ وهل يستدل على قربه بقوله تعالى ?فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ? إلى آخره ؟
قرب الله جل وعلا الذي ثبت في النصوص أن قربه خاص بخلاف المعية ، المعية تنقسم إلى معية عامة وخاصة ، أما القرب فهو قرب خاص ليس ثم قرب عام من جميع خلقه جل وعلا .
?يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ? هل المقصود بكلام الله في الآية الكلام الكوني أم الكلام الشرعي؟
لا ، المقصود منه الكلام الشرعي .
......
لا ، القرب خاص ما هو بعام ، القرب العام إذا قلت إن القرب منه عام صار قرب علم لأن الله فوق عرشه فيصير مثل المعية أما قرب الله جل وعلا إنما ثبت أنه قريب من المؤمنين ، قريب ممن يدعونه ، قريب من المحسنين ، والقرب العام ما ثبت في الأدلة ، وما ورد من الدليل فيه القرب العام فإنما هو قرب الملائكة ملائكة الله جل وعلا كقوله ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? ونحو ذلك.(32/440)
هل يجوز أن يقال الله أفصح (الفاصحين) ؟ أو أفصح الفصحاء ؟
من باب الخبر الله جل وعلا هو أفصح المتكلمين ، نعم ، لكن من جهة الصفات ما أعلم أن هذه الصفة ثابتة لله تبارك وتعالى .
وفي هذا القدر كفاية ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
إثبات معيّة الله لخلقه
وأنها لا تنافي علوه
فوق عرشه
وَقَوْلُهُ: "أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ" حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ" رِوَايَةُ مُسْلِمٌ، وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: "أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا، إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(32/441)
وَقَوْلُهُ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
... إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ؛ بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ.
فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَة.
وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ.
وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ.
وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ.
وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .(32/442)
أما بعد : فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع ، وأن يزيدنا إيمانا وثباتا وتوفيقا فإنه على كل شيء قدير ، اللهم نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة ، أما بعد :
فهذه صلة لما تقدم الكلام عليه من ذكر نصوص الصفات من السنة ، وكما ذكرت لكم من قبل أن النصوص التي ساقها شيخ الإسلام في هذا الفصل سبق الكلام على أكثر ما اشتملت عليه من الصفات في الاستدلال بالقرآن العظيم على الصفات .
فذكر هنا بعض الأحاديث في المعية وفي القرب ونحو ذلك فقال : (وَقَوْلُهُ: "أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ" حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) إلى آخر الأحاديث ،
هذا الحديث الأول الذي هو حديث المعية (أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ)
فيه إثبات صفة المعية لله جل وعلا وأن العلم باتصاف الله جل وعلا بهذه الصفة أنه أفضل الإيمان فدل على أن العلم بأسماء الله جل وعلا وبصفاته هو أفضل الإيمان ذلك لأن الإيمان قول وعمل واعتقاد .
والاعتقاد هو الاعتقاد في الله جل وعلا يعني في أسمائه وصفاته واستحقاقه للربوبية والألوهية وللأسماء الحسنى والصفات العلا .
فجعل عليه الصلاة والسلام أفضل الإيمان العلم بمعية الله جل وعلا العامة لخلقه ، والمعية الخاصة للمؤمنين لأنه قال هنا (أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ) يعني أفضل الإيمان علمك لأن (أن تعلم) موصول حرفي مع الفعل فيقدر بمصدر فأفضل الإيمان علمك أن الله معك حيثما كنت .(32/443)
وهذا دليل على أن العلم بصفات الله جل وعلا من أفضل مقامات الإيمان بل هو أفضل مقامات الإيمان لأن الإيمان أركانه ستة وأعلى هذه الأركان الإيمان بالله جل جلاله ، والعلم بالصفات هو العلم بالله جل وعلا فهو راجع إلى أفضلها وهو الإيمان بالله .
قال (أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ) ذكرنا لك فيما سلف أن معية الله جل وعلا تنقسم إلى :
- معية عامة لجميع الخلق - وإلى معية خاصة للمؤمنين .
والمعية العامة هي معيته جل وعلا لهم بالعلم والإحاطة جل وعلا فلا تغيب عنه جل وعلا منهم غائبة كما قال سبحانه وتعالى ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ? وشهودُ الله جل وعلا لعمل جميع الخلق هذا من معيته العامة لهم فهي معية علم وإحاطة واطلاع ورؤية سبحانه وتعالى .
وأما المعية الخاصة فهي معيته جل وعلا لأهل الإيمان بتسديده وتوفيقه وإعانته ونصره لهم فإنها معية مقتضية لذلك .
والله جل وعلا جعل معيته عامة وخاصة في القرآن ، فقال في المعية الخاصة ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ? وذكرنا لك أن معنى المعية في لغة العرب هي الاقتران .
(مع) يعني اقترن هذا الشيء بذاك الشيء ، فقولهم (الرجل مع القبيلة) يعني مقترنا بهم ، و (الزوجة مع زوجها) يعني لا زالت في عصمته مقترنة به ، وقد قال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ? يعني كونوا معهم في الاقتران بإيمانهم وأخلاقهم وكونكم معهم في ما اتصفوا به من الصدق في المعاملة مع ربهم جل وعلا .(32/444)
فالمعية سبق الكلام عليها مفصلا وترجع إلى ما سبق الكلام عليه في التدليل عليها وأقسامها وبيان تفصيل الكلام عليها لأن هذا الموضع هو موضع استشهاد من السنة واستدلال من السنة على الصفة أما الكلام على الصفة مفصلا فسبق .
قال (وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ ")
هذا فيه إثبات صفتين لله جل وعلا بل عدة صفات لكن يُستَدَل به على صفتين :
أما الصفة الأولى فهي صفة قرب الله جل وعلا من خلقه يعني من عباده المؤمنين أهل الصلاة وإحاطته جل وعلا بخلقه .
وأما القرب سيأتي الكلام عليه ، وأما الإحاطة فإنه جل وعلا محيط بكل شيء وإحاطته جل وعلا بكل شيء جاءت في عدة آيات وفي أحاديث كثيرة كقول الله جل وعلا ?أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ? وكقوله ?وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا? ونحو ذلك من الآيات .
وإحاطته جل وعلا بجميع خلقه تقتضي بل منها علوه جل وعلا فكون المصلي يصلي ويكون الله جل وعلا قبل وجه المصلي حال الصلاة هذا لأجل أن الله جل وعلا محيط بكل شيء وهو جل وعلا عال على خلقه مستو على عرشه ومع ذلك هو قبل المصلي حين الصلاة وذلك لإحاطته جل وعلا بكل شيء فـ ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? سبحانه وهو عال على عرشه قريب من المصلي بل هو محيط بكل شيء بل إن الله جل وعلا قبل وجه المصلي حال صلاته
والإحاطة فيما ذُكِر من النصوص في قوله ?أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ? وقوله ?وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا? ونحو ذلك فسرها أهل السنة بأربعة معان ، فُسِرًت الإحاطة
- بإحاطة العلم - والسَّعة - والقدرة - والشمول(32/445)
إحاطة علم وسعة وقدرة وشمول ، وهو جل وعلا محيط بهم من جهة العلم ومحيط بهم من جهة القدرة ومحيط بهم من جهة السَعَة حيث دل على ذلك هذا الحديث ومحيط بهم من جهة الشمول .
وهذا يوضحه أن الخلق جميعا يعني من على الأرض ومن في السماوات بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ملقاة فيه وأن الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض والكرسي وسع السماوات والأرض والكرسي هو موضع قدمي الله جل وعلا ، فإذن المسألة يصعب تصورها من جهة الواقع لكن تصورها يكون من جهة العلم بما دلت عليه النصوص .
هذا الحديث فيه أيضا إثبات صفة القرب لله جل وعلا ، والقرب يأتي ذكره في الحديثين الآتيين .
قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ)
هذه أربعة أسماء لله جل وعلا في هذا الحديث (الأول والآخر والظاهر والباطن)
فأما الأولان الأول والآخر فهما اسمان لأزلية الرب جل وعلا وأبديته .
فالأول مُتَنَاهٍ في الزمان من جهة الأولية والآخر مُتَنَاهٍ في الزمان من جهة الآخرية .
فهو جل وعلا بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله أول ليس قبله شيء لم يسبق ذاته جل وعلا ذات ولم يسبق صفاته جل وعلا صفات ولم يسبق أسماءه جل وعلا أسماء ولم يسبق أفعاله جل وعلا أفعال لأحد بل هو جل وعلا الأول الذي ليس قبله شيء .(32/446)
كذلك جل وعلا هو الآخر الذي ليس بعده شيء وهذا تفسير لمعنى الآخر في آية الحديد ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ? ففسرها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في هذا الحديث بقوله (أَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ) فمعنى آخرية الله جل وعلا ، معنى كونه جل وعلا الآخر أنه جل وعلا الأبدي يعني الذي هو آخرٌ أبديٌ بذاته وصفاته وأفعاله جل وعلا ، فليس بعده شيء جل وعلا .
وهذا يدل على أن جميع المخلوقات من جهة الزمان أن الله جل وعلا محيط بها فهو جل وعلا قبلها وبعدها ، كذلك الصفات والأسماء هو جل وعلا قبلها وبعدها ، كذلك الأفعال هو جل وعلا قبلها وبعدها سبحانه وتعالى .
وفي هذا دليل على بطلان قول من قال إن أسماء الله محدثة أحدثها الخلق .
وفيها دليل على بطلان قول من قال إن صفات الله جل وعلا اتصف بها بعد خلقه للخلق .
وفيها دليل على بطلان قول من قال إن هذا العالم المنظور قديم أو أزلي كقول الفلاسفة .
وفيها إثبات أن جنس المخلوقات قديم وأن الله جل وعلا يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه إذ إنه جل وعلا بصفاته أول .
والصفات لا بد وأن تظهر آثارها في الخلق .
وأهل السنة يأخذون بالفرق بين هذين المقامين العظيمين فيقولون إن هذا الاسم من أسماء الله الأول يدل على أنه جل وعلا أول بأسمائه وصفاته وأفعاله ولا بد لأسمائه من أن تظهر آثارها في خلقه ولا بد لصفاته أن تظهر آثارها ولا بد لأفعاله أن تظهر آثارها .
فجنس ما تظهر فيه آثار أسماء الرب وصفاته وأفعاله قديم .
وأما قول أهل الباطل فإنهم يقولون إن هذا العالم الذي نراه السماوات والأرض والأفلاك والنجوم أن هذا قديم هذا باطل ، لأن الله جل وعلا أخبر أنه خلق هذه خلق السماوات والأرض ووصف لنا ذلك وأنه قدّر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وهذا يدل على أنها معروفة الأَول وأما جنس المخلوقات فلا تُحَد .(32/447)
وهذا يوضح الفرق بين قول أهل السنة وقول الفلاسفة وقول المعتزلة وقول الأشاعرة والماتريدية .
أنا ذكرت لك خمسة أقوال فيما سلف من الكلام ، وسيأتي مزيد بسط لها في موضع آخر فيما نستقبل إن شاء الله تعالى .
قال (وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) هذان الاسمان الظاهر والباطن اسمان لعلو الله جل وعلا وقربه .
واسم الظاهر يطلق منفردا .
وأما اسم الباطن فلا يطلق على الله جل وعلا إلا على وجه الاقتران بالظاهر لأن الظاهر هو ذو العلو في ذاته وأسمائه وصفاته وفسره عليه الصلاة والسلام بقوله (فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ) والفوقية هي فوقية الذات وفوقية الصفات .
وأما الباطن ففسره عليه الصلاة والسلام بقوله (وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) وقوله (لَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) من حيث اللفظ يحتمل أن يكون ليس دون ذاته شيء أو ليس دون علمه وقدرته وقربه شيء .
الأول اللي هو أنها تحتمل أن يكون المعنى ليس دون الذات - يعني ليس دون ذاته شيء - هذه تدل على أنه جل وعلا في كل مكان وعلى أنه مختلط بالخلق ولهذا استدل بهذا المعنى المعتزلة والأشاعرة فقالوا هو في كل مكان وهذا قول كل من ينفي الاستواء .
وأهل السنة قالوا هذا المعنى وإن احتمله لفظ (لَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) فإنه ينفيه قوله (أَنْتَ الظَّاهِرُ) فإثبات ظهوره جل وعلا ، إثبات أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، إثبات أنه عال على عرشه مستو عليه وأنه عال على خلقه بذاته يُبْطِل أن يكون البطون بطون ذات بل هو جل وعلا باطن من جهة قربه وعلمه فيكون بطون بعض الصفات(32/448)
وهذا ظاهر لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قرن في التفسير بين الفوقية وبين البطون وبين كونه جل وعلا ليس دونه شيء ولا يمكن أن يُفهَم البطون إلا مع الظاهر كما قال جل وعلا ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ? وكونه جل وعلا باطنا يعني ليس دونه شيء يعني في صفاته التي هي العلم والقدرة والإحاطة والقرب ونحو ذلك .
فإذن يكون معنى قوله (أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ) أنها فيها إثبات علو الله جل وعلا بذاته على خلقه و (أَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) فيها إثبات إحاطته وقربه ومعيته جل وعلا لخلقه .
فيكون هذان الاسمان الظاهر والباطن لإثبات علو الله جل وعلا بذاته وقربه وإحاطته وعلمه جل وعلا بخلقه .
وهذا المعنى خالف فيه كما ذكرت لكم من خالف .
ولفظ الباطن هذا من الأسماء التي كثر في تفسيرها الخلاف وأهل السنة فسروا الباطن بما فسره به النبي عليه الصلاة والسلام وتفسيره يُفهَم مع قوله (أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ) ومع قوله ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ? فكل أدلة علو الله جل وعلا على اختلاف أنواعها وجميع أدلة الاستواء مفسِّرة لمعنى البطون ومُخرِجة لبطون الذات عن معنى قوله (فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) .
فإذن هو جل وعلا ليس دونه شيء من جهة القرب من جهة العلم من جهة المعية
فمعيته جل وعلا عامة وعلمه جل وعلا عام .
هل القرب هنا عام ؟
من أهل السنة من قال القرب يكون عاما ويكون خاصا .
شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم في مواضع قالوا قرب الله جل وعلا إنما هو لخاصة عباده وليس ثَمَ قرب عام من جميع خلقه ، وإنما القرب العام فيما جاء في النصوص يكون قربه جل وعلا من جميع خلقه بملائكته .(32/449)
فقوله جل وعلا ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? هنا القرب فُسِّر بأنه - يعني فسره شيخ الإسلام وابن القيم - بأنه قرب الله جل وعلا بملائكته ، وقوله في آخر سورة الواقعة ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ? ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ? قال هذا القرب العام من كل ميت قربٌ بالملائكة ، بجنوده ، فهو جل وعلا قريب منهم لأن جنوده الذين هم الملائكة قريبون من خلقه .
أما القرب قرب الله جل وعلا فإنه القرب الخاص من أوليائه ، من المصلي من الداعي من عباد الله المؤمنين ، فهو جل وعلا قريب من عباده المؤمنين بما يليق بجلاله وعظمته ، مع كونه على العرش ومع كونه عال على الخلق بذاته هو قريب منهم جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمته .
وهذه لا يمكن للعباد أن يتصوروها بما يعلمون من الأحوال ، من أحوال المخلوقات لأن الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: "أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا، إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ")
في هذا الحديث إثبات أن قرب الله جل وعلا من الداعي متحقق وأنه أقرب إلى الداعي من نفسه (أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) من أقرب الأشياء إليه ، فلو ناجاه المناجي بالهمس فإنه جل وعلا قريب يسمع النجوى يسمع دعاء الداعي ، وإذا ناداه ورفع صوته بالدعاء فإن الله جل وعلا قريب منه يسمع دعاءه .
ففي الحديث إثبات قرب الله جل وعلا الخاص من الداعي ومن الداعين الذين هم من خاصة المؤمنين .
إثبات رؤية المؤمنين
لربهم يوم القيامة(32/450)
قال (وَقَوْلُهُ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ - وفي لفظ آخر أو ضبط آخر (لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ) فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا"
الحديث فيه دلالة على أن الرب جل وعلا سيراه المؤمنون لأنه قال (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ)
والخطاب للمؤمنين ومثّل الرؤية برؤيتهم للقمر فقال (كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ) .
القمر اسم لما بعد الثالثة من الليالي ، فيطلق عليه إلى الثالثة هلال ثم ما بعد ذلك يطلق عليه القمر ولذلك قال (كما ترون القمر ليلة البدر) يعني القمر ليلة الخامس عشرة وهي ليلة اكتماله ، ليلة البدر ، وهذا يكون واضحا للناس جميعا يرونه في وسط السماء فهو في ليلة البدر يشرق مع غروب الشمس يطلع مع غروب الشمس ويغيب مع شروقها فهو في منتصف الليل أو في أثناء الليل يكون واضحا يراه كل أحد .
فالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ شبه الرؤية بالرؤية فقال (سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ) يعني كرؤيتكم القمر ليلة البدر من جهة الوضوح ومن جهة عدم العناء في الرؤية ومن جهة عدم التضام فيها والتنازع بل الجميع يرون القمر ليلة البدر والكل يراه ومع ذلك ليس هو خاص بواحد دون آخر .
فشبه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الرؤية بالرؤية وفي هذا دليل على أن الله جل وعلا يرى بالأبصار يوم القيامة .(32/451)
وقوله (سَتَرَوْنَ) يعني بالبصر لأن الرؤية إذا عديت - يعني فعل (أرى) - إذا عدي إلى مفعول واحد كان بمعنى الرؤية البصرية ، وإذا عدي إلى مفعولين كان بمعنى العلم ، وهنا عدي إلى مفعول واحد وهو قوله (رَبَّكُمْ) (سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ) الفاعل هم يعني (الواو) والمفعول الذي وقع عليه الفعل (رَبَّكُمْ) لفظ الجلالة (رَبَّكُمْ) فإذن فهي بمعنى الرؤية البصرية .
ولذلك أهل السنة أثبتوا أن الرؤية هنا رؤية بصر وليست رؤية علم .
والنفاة قالوا هي رؤية علم لأن الله جل وعلا يعلمه يوم القيامة الجميع فإنه يُعلم يوم القيامة يعلمه كل أحد .
وهذا باطل لأن الرؤية التي بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين ... فعلمهم في الآخرة ?بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ? ?بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ? يعني سيدركون العلم في الآخرة وقال ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ? يعني هل ينظرون إلا ما تؤول إليه حقائقه فيعلم الناس كل شيء ، يعلم الناس ما أخبرت به الرسل وأن الله جل وعلا هو المتفرد بالألوهية والعبادة .
رؤية الله جل وعلا يوم القيامة سبق الكلام عليها عند قوله جل وعلا ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? وهي خاصة بالمؤمنين في العرصات وفي الجنة ، وفي الجنة هي أعلى نعيم المؤمنين .
وقوله (كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) يعني في العرصة في عرصات القيامة (لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ) والرؤية رؤية الله تبارك وتعالى ممنوعة عن الكفار لقوله ?كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ?
فحجب أهل الكفر عن رؤيته وأثبت الرؤية لأهل الإيمان به جل وعلا .
وسيأتي مزيد لذلك في الفصل الذي بعده إن شاء الله .
موقف أهل السنة
من الأحاديث التي فيها إثبات
الصفات الربانية(32/452)
قال (إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ)
يعني أن هذا الذي ذكره شيخ الإسلام إنما هو على وجه التمثيل وليس على وجه الحصر لأحاديث الصفات فأكثر الأحاديث في صفات الله جل وعلا .
فأعظم الأبواب من الدين التي بينها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هي أبواب العلم بالله وذلك لأنها أفضل الإيمان .
العلم بالله جل وعلا بأسمائه بصفاته بأفعاله ما يليق بجلاله وعظمته هذا أعظم الأبواب التي جاءت في السنة ولهذا قال الشيخ هنا رحمه الله (إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ) يعني أنه عليه الصلاة والسلام يخبر ويبلغ صفة ربه للناس والسنة وحي من الله جل وعلا والمخبر فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو أعلم الخلق بربه جل وعلا لا ينطق عن الهوى ?إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى? .
قال (فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ)
في قوله (إِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) مر معنا معنى هذه الألفاظ في أول الدروس عند بداية هذه العقيدة المباركة وبينا أن الفرقة الناجية في قوله (أَمَّا بَعْدُ : فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الطائفة الْمَنْصُورَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) فأهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة ما يدل على أن الفرقة الناجية وأهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة ألفاظ لمعنى واحد لكن اختلفت باعتبار الصفات .(32/453)
فهي فرقة ناجية يعني من النار ، ومنصورة باعتبار الدنيا منصورة في الدنيا ومنصورة أيضا يوم القيامة ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ? وهم أهل السنة لأنهم يتابعون السنة ولا يخرجون عنها وهم أهل الجماعة لأنهم لا يرضون بالفرقة ولا الافتراق في الأبدان ولا الأديان .
ولهذا يكون هذا باعتبار تعدد الأوصاف فهم موصوفون بأنهم ناجون (كُلُّهَا فِي النَّار إلاَّ وَاحِدَةً)
وموصوفون بأنهم منصورون (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) وهم أهل السنة لأنهم يتابعون السنة وينبذون العقل فيما لا يجوز فيه إعمال العقل ويجعلون العقل تابعا للسنة ، وهم أهل الجماعة الذين أخذوا بهذا الأصل العظيم الذي هو الاجتماع في الدين والاجتماع في الأبدان لأن الله جل وعلا أمرهم بذلك في قوله ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ? و في قوله ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ? إلى غير ذلك من الأحاديث .
قال (يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ)
القاعدة ذكرها (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ) .
ومعنى هذه الألفاظ الأربعة التحريف التعطيل التكييف والتمثيل في أول هذه الدروس أيضاً فترجع إليه .
ثم قال (بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ)(32/454)
الله جل وعلا وصف هذه الأمة بقوله ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا? فإن هذه الأمة أعني أمة الإسلام أمة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هي بين الأمم ، بين اليهود في تشديداتهم وبين النصارى في جفائهم وتساهلهم .
من جهة الاعتقاد: اليهود قتلوا أنبياء الله ونفوا النبوة والنصارى ألهوا النبي وجعلوه ابنا لله جل وعلا من جهة العبادات : اليهود في الطهارة متشددون حتى إن أحدهم إذا وقعت النجاسة على ثوبه قطع هذه البقعة من الثوب والنصارى متساهلون حتى إنه يمضي على أحدهم المدة من الزمان لم يتطهر بل يتفاخرون بذلك أن فلانا العابد منهم أو الراهب مر عليه أربعون سنة لم يمس الماء ونحو ذلك .
فهذه الأمة جعلها الله وسطا في الأمم في العقيدة وفي العبادات وكذلك في المعاملات وكذلك في الحكم والتحكيم وما يصلح الناس به .
أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية الطائفة المنصورة وسط في فرق هذه الأمة فهم وسط بين الغلاة والجفاة ، وسط بين النفاة والمجسمة ، وسط بين المعطلة والممثلة ، وسط بين المكفرة والمرجئة ، وسط في ذلك جميعا وهذا يدل على أنهم محمودون بما حُمد به أهل الإسلام بين الأمم .
وقوله ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا? معنى الوسط يعني العدل الخيار جعلناكم أمة عدلا خيارا مختارة من بين الأمم كما قال جل وعلا ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ? .
?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ? الله جل وعلا جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت فهي خير الأمم التي أخرجها الله جل وعلا .
وقوله ?للناس? متعلق بما قبله يعني كنتم للناس خير أمة أخرجت .(32/455)
فهذه الطائفة المنصورة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة كذلك هم خير أمة أخرجت فهم خير أهل الأرض وهم الذين امتدحهم الله جل وعلا وهم الذين وعدهم الله جل وعلا في الدنيا بالنصر وفي الآخرة بالنصر والنجاة من النار فهم الذين يوصفون بأنهم عدل خيار .
فكل من التزم بطريقة أهل السنة والجماعة وبعقائد الفرقة الناجية وأخذ بذلك قولا وعملا فإنه موعود بكل خير وهو العدل الخيار بين هذه الأمة .
مكانة أهل السنة والجماعة
بين فرق الأمة
شرح ذلك رحمه الله في بيان وسطية أهل السنة والجماعة فقال (فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ)
المبحث هذا يسمى في باب العقيدة مبحث الوسطية .
ومبحث الوسطية تارة يكون بين الأديان ، وسطية أهل الإسلام بين الأديان والكلام عليه طويل وكذلك مبحث الوسطية وسطية أهل السنة بين الفرق .
فقال (هُمْ) يعني أهل السنة والجماعة (وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَة)
في باب صفات الله تعالى تنازع الناس وأهل القبلة المنتسبون إلى القبلة تنازعوا في الصفات .
هل تعطل أم تثبت ؟
فقالت طائفة التي هم الجهمية ومن تبعهم إن الصفات لله جل وعلا يجب أن تكون عن طريق العقل فلا يثبتون أي صفة لله جل وعلا إلا عن طريق العقل ولهذا نفى الجهمية جميع صفات الله جل وعلا إلا صفة الوجود المطلق .
وقابلهم أهل التجسيم فنظروا في الصفات الجائية في الكتاب والسنة وأثبتوا ذلك على وجه المماثلة
فقالوا لا نعقل من اليد إلا أنها كأيدينا ولا نعقل من الوجه إلا أنه كوجوهنا ولا نعقل من الكلام إلا أنه ككلامنا إلى آخره ، فأثبتوا الصفات على وجه التجسيم ، على وجه التمثيل فقالوا هو جل وعلا جسم كالأجسام وهذا نقيض قول الأولين .(32/456)
وهدى الله أهل السنة فأثبتوا الصفات ونفوا عنها التمثيل فقالوا صفاته جل وعلا كما يليق بذاته فكما أننا نثبت ذاتا لا كالذوات فنثبت الصفات لا كالصفات كما قال جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
فأهل التعطيل أنواع وأهل التمثيل أنواع .
وقوله (أَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَة) يريد به تشبيه الخالق بالمخلوق في الصفة يعني في المعنى والكيفية أو في كل المعنى وهذا من أقوال أهل البدع والضلال فإن الله جل وعلا ليس كمثله شيء في صفاته كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته .
فإثبات الصفات إثبات معنى ووجود لا إثبات كيفية ولا إثبات مماثلة وبهذا يتبين طريقة أهل السنة في أنهم يثبتون وينزهون .
فالمعطلة يعبدون العدم .
والممثلة المجسمة يعبدون صنما وهذا الصنم هو الذي تخيلوه في أذهانهم .
صوروا صورة في أذهانهم فجعلوها لله جل وعلا فعبدوا هذا الذي تخيلوه .
ولهذا يقول أهل السنة : (المعطل) يعني الذي ينفي الصفات (يعبد عدما) لأنه ليس ثم شيء موجود إلا وله صفات لا بد ، والله جل وعلا متصف بصفات الكمال والجلال والجمال .
(المعطل يعبد عدما والممثل المجسم يعبد صنما) جعله لنفسه .
وقال بعد ذلك (وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ)
وغيرهم ، وهذا الباب الذي هو باب أفعال الله يأتي بيانه في القدر مفصلا ونقول هنا إن أهل السنة في باب أفعال الله وسط بين الجبرية والقدرية ، والجبرية قسمان :
- جبرية الظاهر والباطن .
- وجبرية الباطن .
فجبرية الظاهر والباطن هم الجهمية والجبرية المشهورون بقولهم إن الإنسان في أفعاله كالريشة في مهب الريح ليس له اختيار البتة بل هو كالهباءة والريشة تلعب بها الريح كيف شاءت فهؤلاء جبرية الظاهر والباطن وهم الجهمية وغلاة الصوفية .
والطائفة الأخرى جبرية الباطن لا الظاهر ، يقولون في الظاهر مختار وفي الباطن مجبور ، وهذا قول الأشاعرة .(32/457)
ولأجل هذا التفريق اخترع أبو الحسن الأشعري لفظ الكسب وقال أفعال العباد كسب لهم .
كسب يعني : تضاف إليهم وإلا فالفاعل هو الله .
وهم لا يضاف إليهم الفعل حقيقة وإنما يضاف إليهم الفعل مجازا .
هو في الباطن مجبور في الظاهر مختار .
ما وظيفته ؟
قال هو كالسكين في يد القاطع وعمله القطع .
والقطع فعل العبد والسكين آلة وحامل السكين الذي يمرها على الشيء الذي يراد قطعه هو الفاعل
فالفاعل حقيقة هو الله والمفعول يعني الفعل الذي حصل الذي فعله في الحقيقة هو الله .
والإنسان آلة فُعِل بها أو أضيف إليها الفعل وصار مكسوبا له .
ولهذا قال أهل العلم (مما يقال) يعني قال بعض أهل العلم :
معقولة تدنو لذي الأفهامِ مما يقال ولا حقيقة تحته
ـد البهشمي وطفرة النظّامِ الكسب عن الأشعري والحال عنـ
ثلاث ما لها حقيقة ، ولهذا اختلف الأشاعرة الذين يقولون بالجبر في الباطن في تفسير الكسب الذي اخترعه أبو الحسن الأشعري إلى اثني عشر قولا مذكورة في الشروح المطولة للجوهرة وغيرها .
يأتي تفصيل الكلام إن شاء الله في موضعه .
المقصود أن الجبرية قسمان جبرية الظاهر والباطن وجبرية الباطن فقط والظاهر يقولون هو مختار .
والقدرية أيضا قسمان :
- القدرية الغلاة نفاة العلم هؤلاء هم الذين ينفون العلم السابق وهي التي جاء فيها قول السلف (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا) .
يُعْنَى بالقدرية الغلاة الذين ينكرون علم الله السابق للأشياء ويقولون إن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ويقولون إن الأمر أنف يعني مستأنف ، وهؤلاء هم الذين قال فيهم ابن عمر (أخبرهم أني منهم بريء) .
- والقدرية الثانية هم الذين يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه وهم المعتزلة .
فأولئك قالوا مجبور العبد مجبور وهؤلاء قالوا يفعل كما يريد وكما يشاء والله جل وعلا لا يخلق فعل العبد بل هو يخلق فعل نفسه .(32/458)
فإرادته يخلقها وقدرته يخلقها وما ينتج عنها يخلقها العبد فيكون فعل العبد مخلوقا له .
أهل السنة وسط في باب أفعال الله فقالوا أفعال .
.....
يعني في القدر ، يقصد بأفعال الله يعني في القدر ، وهذه المسألة هي المقصود بها أفعال العباد ، فأفعال الله يعني القدر والقدر متعلق بأفعال العباد .
فالجبرية قالوا إن القدرة والقدر هو الذي يجري والعبد ليس قادرا على شيء أصلا بل القادر هو الله جل وعلا فهو الذي يفعل ما يشاء والعبد مجبور .
والقدرية ناقضوهم كما ذكرت لك .
أهل السنة قالوا العبد يفعل الفعل حقيقة والذي خلق فعله هو الله جل وعلا لأن الله جل وعلا يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء وهو جل وعلا خالق كل شيء وقد قال جل وعلا ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ? يعني وعملكم .
فالعبد يفعل الفعل وفعله له حقيقة لأنه اختار هذا الفعل وقَدِرَ عليه فوجه إرادته وقدرته إليه فالفعل ينسب إليه حقيقة لكن ليس ثم خالق إلا الله جل وعلا فالله هو الذي خلق فعل العبد .
والعبد مختار ولا يشاء شيئا فيقع إلا وقد شاءه الله جل وعلا فليس لأحد في ملكوت الله جل وعلا إجبار ولا اختيار بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما شاءه العبد إذا شاءه الله كان وإذا لم يشأه الله لم يكن ، كما قال ?وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ? .
فإذن أهل السنة يثبتون فعل العبد وأنه يفعل حقيقة لكن الخلق الله جل وعلا هو الخالق .
طبعا هذه المسألة عرضت لها بشيء من الاختصار والسرعة فقد لا تكون مفهومة من جميع جهاتها ، يأتي تفصيلها إن شاء الله في الكلام على القدر بعد حين .
قال (وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ) وبين (الْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ)(32/459)
طبعا الأول قوله القدرية هم سُمُوا قدرية في قوله (وَسَطٌ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ) سموا قدرية لأنهم نفاة للقدر ، جبرية لأنهم يقولون بالجبر وقدرية لأنهم ينفون القدر .
هذا على غير المعتاد ، لأن المعتاد أن النسبة تكون لمن يقول بها لكن هؤلاء ينفون القدر فسموا قدرية لأجل نفيهم للقدر إما النفي الكامل بجميع مراتبة من العلم وما بعدها وإما النفي لبعض مراتبه من أن الله جل وعلا هو الخالق وحده وأن العبد يفعل الفعل حقيقة .
قال (وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وبين الْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ) يريد أن أهل السنة في باب الوعيد يعني ما توعد الله به العصاة أنهم وسط بين أهل الإرجاء الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب ، وبين الوعيدية الذين يقولون إذا فعل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب خرج من الإيمان ودخل في الكفر .
الوعيدية منهم الخوراج ومنهم المعتزلة وهو المراد بقوله (من الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ) القدرية يعني المعتزلة الذين يقولون إن فاعل الكبيرة مخرج من اسم الإيمان وهو في منزلة بين المنزلتين ، (وَغِيْرِهِمْ) كالخوارج على اختلاف فرقهم .
والمرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب بل فاعل الكبيرة والذي لم يفعل الكبيرة الجميع في أصل الإيمان سواء .
والمرجئة منهم :
" المرجئة الغلاة كالجهمية .
" ومنهم المرجئة المتوسطون كالأشاعرة .
" ومنهم مرجئة الفقهاء .
فالمرجئة أصناف وهم الذين يرجئون بعض أركان الإيمان عن مسمى الإيمان إما إرجاء العمل وإما إرجاء الاعتقاد وإما إرجاء القول على اختلاف مللهم مما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى .
بقي مسألتان نرجئها إن شاء الله المرة القادمة ونذكر بدرس التفسير بعد الأذان إن شاء الله .
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم(32/460)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ربنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين واغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أما بعد :
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه العقيدة المباركة عن أهل السنة والجماعة في الفصل الثاني منها قال :
(وَهُمْ وَسَطٌ) يعني أهل السنة والجماعة وسط (فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وغيرهم وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ.وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَبين الْخَوَارِجِ)
في قوله هنا رحمه الله (وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ) يريد رحمه الله أن أهل السنة والجماعة وسط في مسألة الأسماء والأحكام بين الخوارج الحرورية ومن شابههم في ذلك كالمعتزلة هؤلاء في طرف وبين المرجئة والجهمية ومن شابههم في طرف آخر .
ويعني بقوله (أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ) مثل الإسلام والإيمان والإحسان أو مسلم مؤمن من أهل الوعد من أهل الوعيد ونحو ذلك .
ومثلها مسألة الأحكام ، الحكم عليه أنه من أهل الدين أو أنه خارج من الدين في هذه الدنيا وفي الآخرة الحكم عليه بأنه من أهل الخلود في النار أو من أهل الجنة ونحو ذلك .
فهذه المسائل التي تسمى مسائل الأسماء والأحكام هذه مما كان أهل السنة رحمهم الله تعالى فيه في الوسط بين الغالين والجافين
لأن هذا الدين وسط بين الغلو والتقصير بين الغلو والجفا .(32/461)
فالذين غلوا فسلبوا أسماء الدين والإيمان عمن يستحقها شرعا ، هؤلاء هم الحرورية والمعتزلة أو الأحكام في ذلك .
وبين الذين وصفوا بأسماء الدين والإسلام وأسماء الإيمان ونحو ذلك من لم يستحقها وهم المرجئة .
وأصل هذه المسألة مبني على اعتقاد الحرورية والمعتزلة والمرجئة والجهمية فلا بد من معرفة اعتقادهم في هذه المسائل :
- أما الحرورية : فيراد بهم الخوارج ، منسوبون إلى موضع تجمعوا فيه أول ما خرجوا على علي رضي الله عنه ، والخوارج كفّروا بالمعصية كفّروا بالذنب .
والمعصية التي هي من الكبائر من فعلها عندهم هو كافر خارج من الملة يطلق عليه اسم الكافر في الدنيا وفي الآخرة خالد في النار أبدا مثل سائر الكفرة .
- المعتزلة : يعتقدون أن فاعل الكبيرة في الآخرة حكمه أنه من أهل النار خالدا مخلدا فيها وفي الدنيا يقولون : لا نعطيه اسم الإيمان ولا نعطيه اسم الكفر ولا نسلب عنه في الدنيا اسم الإسلام جملة وإنما نقول هو في منزلة بين المنزلتين ، وهذه المنزلة هي التي ابتدعها المعتزلة عمرو بن عبيد ومن معه وواصل بن عطاء وقالوا إن فاعل الكبيرة ليس كما تقول الخوارج كافر في الدنيا وليس كما يقول المرجئة أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ولكنه في الدنيا ليس من أهل الإيمان وليس من أهل الكفران بل هو فاسق يطلق عليه اسم الفاسق .
وهل هل فاسق مؤمن ؟
عندهم لا ، لأن اسم الفسق اللي هو الكبيرة يخرجه من مسمى الإيمان إلى منزلة بين منزلة الإيمان والكفر .
وهذا غلو في مسألة فاعل المعصية أو فعل الكبيرة ، لأن الكبيرة من كبائر الذنوب إذا فعلها العبد فإن الأدلة دلت على أنه لا يخرج من اسم الإيمان ولا يدخل في اسم الكفر بل هو جامع بين الإيمان وبين الفسق .
فالخوارج قالوا يكفر والمعتزلة قالوا يفسق ولا يسمى مؤمنا والمرجئة قالوا يسمى مؤمنا ولا يسمى فاسقا يعني في إطلاق .(32/462)
- وأما أهل السنة فقالوا يُجْمَع بين هذه الأسماء جميعا ، فيكون فاعل الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته لأن الله جل وعلا ما سلب الإيمان عن من فعل الكبيرة قال سبحانه ?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ? فسماهم مؤمنين مع حصول القتال والقتل فيما بينهم وهذا كبيرة من كبائر الذنوب فدل على أن فعل هذا الأمر الذي هو كبيرة القتل على أنه لا يُخرج من اسم الإيمان ، فيبقى معه الإيمان ولكن هو مع الإيمان فاسق بهذه الكبيرة ، نقص إيمانه جدا بفعله لهذه الكبيرة .
هذا طرف : اللي هو طرف الحرورية الخوارج والمعتزلة .
ووسطية أهل السنة .
والطرف الآخر المرجئة والجهمية : المرجئة طائفة أرجأت في الأصل أرجأت الكلام على من حصل منهم الكبائر حتى آل الأمر إلى أنهم أرجؤوا العمل عن مسمى الإيمان فقالوا (الإيمان قول واعتقاد) وأما العمل فأخرجوا العمل عن المسمى .
منهم من يقول هو لازم له خارج عنه - لازم -.
ومنهم من يقول هو خارج عنه وليس بلازم أيضا .
ومن المرجئة من سلبوا أيضا القول فقالوا يكفي الاعتقاد .
ومن هؤلاء من قالوا الاعتقاد يجمع العلم والتصديق الجازم فقالوا نكتفي فيه أيضا بالعلم وصار المرجئة على مراتب و على أنواع منهم الجهمية .(32/463)
فقوله (وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ) يعني بالمرجئة من كان عليه اسم الإرجاء كمرجئة الفقهاء الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان ، أو كالأشاعرة ونحوهم ، والجهمية الذين قالوا الإيمان هو المعرفة فقط ، قالوا الإيمان العلم ، معرفة ، هل لابد أن يكون مع التصديق ؟ لا لو لم يكن مع التصديق فيكفي ذلك في اسم الإيمان ، في اسم الإسلام .
فهؤلاء أدخلوا في الإسلام وأبقوا في الإسلام من تدل الأدلة على خروجه منه .
والحرورية والمعتزلة أخرجوا من الإسلام من دلت الأدلة على بقائه في الإسلام والإيمان .
أهل السنة وسط بين هؤلاء .
وهذه مسألة عظيمة لأنها من المسائل التي أوجبت الافتراق والاختلاف في هذه الأمة لأن مسألة الاسم ، من تُطْلِق عليه الاسم أسماء الإيمان ، أو من تُطْلِق عليه أسماء الفسوق هذه من الأسباب التي أحدثت الافتراق في الأمة فدائما إذا توبع فيها الشر ما حصل الاختلاف والافتراق ، وإذا بغى الناس بغى بعضهم على بعض فإنه يحصل الافتراق والاختلاف .
كذلك من الأسماء البدعة والتبديع والفسق والتفسيق والإيمان الإسلام الشهادة الإحسان الإمامة ، كل هذه الأسماء يجب أن لا تطلق إلا على من دل الدليل على استحقاقه لها ، أو دل الدليل على استحقاقه بسلبه إياها .
والخروج فيها عن مقتضى الأدلة وعن مقتضى كلام أهل السنة يوقع الفرقة والاختلاف .
أول ما حصل الخلاف من الخوارج في هذه المسألة فإنهم قالوا هؤلاء كفار لأجل الحكم ثم ناقضهم طائفة .
فصار عندنا طوائف ثلاث في أول الأمر الذين هم الخوارج الذين كفروا عليا والرافضة الذين ألهوا عليا رضي الله عنه والمرجئة الذين أرجؤوا والناصبة الذين ناصبوا العداء .
وظهرت أسماء وفرق من جراء الخلاف في الأسماء والأحكام .
لهذا يجب على طالب العلم أن لا يطلق هذه الأسماء إلا على ما علم بالدليل الواضح أنه يُطْلَقُ على صاحبه شيء من هذه الأسماء .(32/464)
وليست المسألة مسألة ظن أو يطلق عليه بحسب الاجتهاد لأن الإطلاق على الناس إطلاق هذه الأسماء أو الأحكام على الناس هذه تسبب الخلاف والفرقة لأنه لا بد أن يكون ثم اختلاف في المعين فإذا صار الخلاف في المعين من جهة الرأي حصل الافتراق وإذا حصل النظر في جهة المعين من جهة الدليل والشرع حصل الاتفاق .
فهذا يقول فاسق والآخر يقول صالح ، هذا يقول إمام والثاني يقول زنديق وهذا يقول مبتدع والثالث يقول مجاهد أو إمام أو عالم أو نحو ذلك فتَقَابُل هذه الأسماء يخرج الناظر فيها عن دليل الشرع .
والواجب على أهل العلم وعلى طلبة العلم أن يقتفوا سيرة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة لأجل أن لا يحصل الفرقة والخلاف في الأمة فلا يطلقوا هذه الأسماء إلا على من استحقها شرعا .
وطلاب العلم الذين ابتدؤا في طلب العلم أو توسطوا فإنهم فيما ينبغي أن يتباعدوا عن هذه الإطلاقات ويتركوها لأهل العلم الذين يعلمون حدود هذه الإطلاقات نفيا وإثباتا ومن يوصف باسم أسماء الإيمان ومن يسلب عنه ذلك إما أصله أو كماله ومنه مسألة التكفير فيمن يكفر لا يدخل فيها بعض صغار طلاب العلم أو المتوسطون لأنه تتبعها مسائل كبيرة .
وحصل في هذا الزمن خلاف كما ترون وتسمعون في مسائل التكفير في كثير من أمصار المسلمين من جراء الخلاف في الأحكام ، وظهرت فرق وجماعات جديدة لأجل الخلاف في الأسماء والأحكام هذه .
فهذه المسألة مهمة ووسطية أهل السنة والجماعة فيها (أن لا يطلق القول باسم من الأسماء على المعين أو أن يسلب عنه شيء من أسماء الدين أو حكمه في الآخرة أو حكمه في الدنيا إلا عن دليل شرعي .
وهذا الدليل الشرعي يكون مؤصلا عند أهل السنة والجماعة) يعني أقرت دلالته أهل السنة والجماعة
يأتي في موضع آخر ربما ذكر الجهمية والمرجئة في مسائل الإيمان وتفصيل الفرق بينهما يعني بدقة عند الكلام على مسائل الإيمان إن شاء الله تعالى .(32/465)
فإذن هذه الوسطية دلتنا على أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن لكن إيمانه ناقص ، مسلم وإسلامه ناقص أيضا لأنه خرم شيئا من ظواهر الإسلام لأن الإسلام هو الظاهر والإيمان هو الباطن فبينهما تلازم من هذه الجهة ...
انتهى الشريط الساس عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السابع عشر
فإذن هذه الوسطية دلتنا على أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن لكن إيمانه ناقص .
مسلم وإسلامه ناقص أيضا لأنه خرم شيئا من ظواهر الإسلام لأن الإسلام هو الظاهر والإيمان هو الباطن فبينهما تلازم من هذه الجهة .
قال رحمه الله (وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَبين الْخَوَارِجِ)
هنا في أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، الصحابة يجب على المؤمنين أن يتولوهم وأن يعلموا أنهم هم أفضل هذه الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام (خيركم قرني) وقال جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? وقال جل وعلا ?الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ? والأدلة في ذلك كثيرة وكما في آخر سورة الفتح مثلا قال ?ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا? وهؤلاء هم الصحابة لأنه قال في أولها ?مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء? الآية .
فصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يجب توليهم واعتقاد أنهم أفضل هذه الأمة ومحبتهم ونصرتهم والدفاع عن أعراضهم وعدم الرضا أن ينالوا بشيء .(32/466)
هذا الواجب تجاه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وأهل السنة توسطوا في الصحابة بين الذين ألهوا بعضهم وبين الذين كفروهم .
الذين ألهوا بعض الصحابة مثل الرافضة والذين كفّروا الصحابة مثل الخوارج .
فالصحابة رضوان الله عليهم بشر من البشر وهم خير هذه الأمة وأعظمها علما وأقلها تكلفا وأقربها بل أصحها متابعة لرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
الرافضة هؤلاء فرقة تنازع أهل السنة هل هم من الثلاث والسبعين فرقة أم لا ؟
فقال بعضهم : الرافضة يخرجون من الثلاث وسبعين فرقة ، ومن يَخْرُجُ الرافضة والجهمية من بين الفرق العامة المنتسبة لهذه الأمة ، وعلى هذا يكون الرافضة كفرقةٍ كُفار - يعني كطائفة - .
وقال آخرون هم من الثلاث والسبعين فرقة ، هي فرقة من الثلاث والسبعين فرقة ، ولم يُخْرِجُوا من الفرق المنتسبة إلى القبلة إلا الجهمية .
والرافضة اسم لمن رفض إمامة (زيد بن علي بن الحسين) لأنه لما حصل الخلاف في زمن هشام بن عبدالملك - أحد خلفاء بني أمية - بين شيعة علي حصل الخلاف في الإمامة فجُعل الإمام زيد بن علي فطلب منه طائفة أن يتبرأ من الشيخين وأن يلعن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فرفض ذلك وأبى وترضّى عنهما رضي الله عنهما وعنه ، فرفضوا إمامته .
هؤلاء الذين رفضوا إمامته سموا رافضة لرفضهم إمامة زيد بن (علي) وصار شعارهم من البداية لعن وسب الشيخين .
والذين أيدوا زيد بن علي بن الحسين ، الذين أيدوه سُمُّوا زيدية .
وأصل مبدأ خروج الشيعة كما تعلمون في زمن علي رضي الله عنه ، فإن الذين لازموا عليا وكانوا حوله دائما هؤلاء يسمون شيعة علي ، شيعة علي لأنهم شايعوه .
وكان في الأصل من شايع عليا لم يبغض عثمان ولم يبغض عمر ولم يبغض أبا بكر .(32/467)
ثم بعد ذلك حصل تأليه علي والغلو في ذلك وأول من بدأه عبدالله بن سبأ اليهودي الذي أسلم وتظاهر بالإسلام وأدخل في هذه الملة اعتقاد أن عليا إله وعلي رضي الله عنه حرّق أولئك وعاقبهم بأشد العقوبة وقال في شعره المشهور :
أججت ناري ودعوت قَمبراً لما رأيت الأمر أمراً منكراً
فحفر لهم الأخاديد وحرّقهم بالنار .
هؤلاء الغالية الذين زعموا أن عليا إله .
لكن إلى هنا لم يظهر الرِّفض وإنما كان هؤلاء الشيعة ، شيعة علي من معه وهؤلاء شيعة غلاة
ولم يسموا بالشيعة الغلاة في ذلك الوقت وإنما سموا سبأية نسبة إلى عبدالله بن سبأ .
ثم بعد زمن ظهر الاجتماع حول زيد بن على إلى أن صار الخلاف فتفرقوا إلى زيدية ورافضة .
والرافضة فرق منهم الإمامية الاثني عشرية الموسوية ومنهم الجعفرية .
فيدخل في اسم الرافضة عند السلف الباطنية والإسماعيلية ويدخل فيهم الموسوية ، لأن هذا الاسم كان قبل التفرق وتفرق الرافضة إلى إسماعيلية وموسوية هذا كان بعد الكلام على الحادثة مع زيد بن علي كان بعد ذلك بزمن فافترقت الرافضة إلى إسماعيلية وإلى موسوية .
والإسماعيلية والموسوية هؤلاء ينتسبون إلى جعفر الصادق لأن إسماعيل بن جعفر وموسى بن جعفر ، فخرج من الإسماعيلية الباطنية وخرج من الموسوية الإمامية الاثني عشرية الذين يعرفون الآن باسم الرافضة .
فقد تجد أنه يُسَمَى الإسماعيلي رافضي وهذا صحيح ، تسمية صحيحة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ، وبسبب الرافضة بنيت القباب على القبور وعُبد الموتى من دون الله ويَقْصُدْ بالرافضة الإسماعيلية الباطنية الذين أعلنوا دولتهم الفاطمية .
المقصود من هذا أن اسم الرافضة يشمل هنا الإسماعيلية و الإمامية الاثني عشرية الموسوية ويشمل كثيرا من الفرق في ذلك لكن يخرج منه اسم الزيدية .
قال (وَبين الْخَوَارِجِ) الخوارج يعني الحَرورية .(32/468)
فإن الرافضة غلو والخوارج جفوا ، الخوارج كفروا الصحابة والرافضة ألهوا عليا ، الرافضة يتبرءون من جميع الصحابة إلا من عدد والخوارج يتبرءون من الصحابة إلا من عدد .
وأهل السنة والجماعة بين هؤلاء لا يتبرءون من أي صحابي بل يترضون عن الجميع ويحمدون الجميع لأن الجميع تشرفوا بصحبة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
إلى آخر مباحث هذا الأمر اللي هو مبحث الوسطية عند أهل السنة والجماعة بين الفرق .
كل هذه الفرق ما بين غال وجاف ، ما بين غال ومقصر وأهل السنة دائما يذكرون في عقائدهم كما ذكره الطحاوي في آخر عقيدته وكما ذكره جماعة أيضا ، يذكرون مبحث الوسطية هذا ليبينوا أن أهل السنة رحمهم الله بين هؤلاء وهؤلاء ، ليسوا من الغلاة لنهي الله جل وعلا عن الغلو وليسوا من الجفاة لنهي النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن الجفاء
قال جل وعلا في الغلو ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ? وقال جل وعلا أيضا في الآية الأخرى ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ? والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ نهى عن الغلو فقال (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) ونهى عن الغلو في رميهم للجمار عليه الصلاة والسلام فقال (بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو)
والغلو يدخل في الاعتقاد ويدخل في الأعمال ويدخل في السلوك .
فأهل السنة ليسوا من الغلاة بل تابعوا السنة والتزموا بها فكانوا على خير .
ويقابلهم أهل الجفاء إما في الاعتقاد ، أهل التقصير في الاعتقاد ، وإما في الأعمال وإما في السلوك ، وهؤلاء طرف آخر بعيد ، وأهل السنة بين هؤلاء وهؤلاء فطريقتهم هي طريقة الصحابة رضي الله عنهم .(32/469)
نكتفي بهذا القدر من بيان مسائل الوسطية وإن كانت مسائلها كثيرة والكلام يطول عليها لكن سيأتي إن شاء الله مزيد تفصيل في مواضعه في بعض ما يكون فيه أهل السنة وسط في مثل مسائل الإمامة ومسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوَلاية يعني الأولياء ومن مثل مسائل السلوك والأخلاق ونحو ذلك فيما نستقبل من الرسالة إن شاء الله .
وجوب الإيمان
بالاستواء والمعيّة
وأنه لا تنافي بينهما
فصل : وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في َقَوْلِهِ: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[الحديد:4]، وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ، اللُّغَةُ، بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرُ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِم... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ.(32/470)
وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ مَعَنَا- حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ؛ مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: (فِي السَّمَاء)، أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال رحمه الله تعالى (فَصْلٌ:وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ) .
هذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام علو الله جل وعلا على عرشه ومعيته على خلقه كذلك أنه جل وعلا مع علوه فهو قريب ، قريب في علوه عال جل وعلا في دنوه سبحانه وتعالى .
فهذا الفصل نص فيه شيخ الإسلام رحمه الله على ذكر مسألة العلو والمعية والقرب والدنو لأجل أن هذه المسألة هي أشهر المسائل التي فيها الخلاف مع الأشاعرة أو مع المعطلة عموما .
مسألة علو الذات علو الله جل وعلا على عرشه علو ذات تبارك ربنا وتقدس وتعالى .(32/471)
تلحظ أنه في الفصل الأول ذكر أدلة العلو ، وفي الفصل الثاني من السنة ذكر أيضا أدلة العلو والمعية والقرب وهنا أيضا عقد هذا الفصل لبيان علو الله ومعيته لخلقه العامة والخاصة وقرب الله جل وعلا من بعض عباده وذلك لتأكيد هذا الأمر ألا وهو أنه مما دخل في الإيمان بالله الإيمان بالعلو .
الذين أخرجوا العلو - يعني علو الذات - عن الإيمان بالعلو وقالوا الإيمان بالعلو هو الإيمان بعلو القدر والقهر هؤلاء لم يؤمنوا بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله عليه الصلاة والسلام وأجمع عليه سلف هذه الأمة .
قال (دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ)
ذكرنا لكم تفصيل هذه الجمل فيما سبق وتستفيد من هذا الكلام أن مسألة علو الذات لله جل وعلا أنها في الكتاب بدلالة قطعية والقرآن قطعي الثبوت وأدلة العلو أيضا علو الذات قطعية الدلالة وكذلك تواتر عن رسوله ذلك وبالتواتر صارت الدلالة قطعية ، صار الثبوت قطعيا ، وما جاء في هذه الأحاديث دلالته أيضا قطعية ، وأجمع سلف الأمة على ذلك والإجماع له صفة القطعية فإذن مسألة علو الذات لله تبارك وتعالى على عرشه هذه مسألة مقطوع بها .
علو الله جل وعلا بذاته على خلقه وأنه ليس في كل مكان جل وعلا وليس حالا بكل الأمكنة هذه قطعية في الثبوت وقطعية في الدلالة ...1
وأنكر ما دل عليه الإجماع إجماع السلف رحمهم الله تعالى .
ولكن لأجل التأويل اختلف أهل السنة في تكفير نفاة العلة ، لأجل التأويل لأنهم أولوا العلو بعلو الصفات علو القدر القهر وطائفة من أهل السنة كما ذكرت لك كفروا نفاة العلو لأنهم أنكروا ما تواترت به الأدلة وكان قطعي الدلالة .(32/472)
هذا الذي تواتر قال فيه رحمه الله (مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا)
يعني مع علوه ومع كونه جل وعلا فوق سماواته على عرشه فهو معهم يعلم ما هم عاملون .
(كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في َقَوْلِهِ: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?)
فبدأها بالعلم في قوله ?يعلم? وختمها بالعلم في قوله ?وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ? .
فصار تفسير المعية بما دلت عليه أول الآية وآخر الآية صار تفسيرها عند السلف أنها معية علم ، وهذه هي المعية العامة كما ذكرنا لكم من قبل وأما المعية الخاصة فهي من خاصة أوليائه فهو معهم جل وعلا بتوفيقه وتأييده وإلهامه ونصره إلى غير ذلك من مقتضيات المعية الخاصة .
قال في بيان معنى المعية لأجل أن الشبهة التي دعت النفاة ، نفاة العلو إلى نفي علو الذات الشبهة هي قوله ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ? لأن هل هذه المعية تقتضي حلولا في جميع الأماكن أم لا ؟
شيخ الإسلام استحضر هذا فأورد هذه الشبهة ونفاها .
في قوله (وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ اللُّغَةُ)
ولولا تكرار الكلام وإطالة الحديث لكررت لكم أو أفضت بزيادة عما ذكرته لكم سالفا(32/473)
قد ذكرت لكم فيما قبل أن كلمة (مع) في اللغة لا تقتضي اختلاطا ولا تقتضي أن تكون معية قرب بالذات بل هي تقتضي المقارنة والاقتران بين الشيئين والصحبة بينهما كما قال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ? كونوا معهم يعني في صحبتهم ومن الصادقين صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ونحن معهم مع تفاوت ما بيننا في الزمان والتفاوت فيما بين الأبدان
فإذن المعية مطلق الاشتراك والمقارنة والصحبة ولهذا قال (لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ اللُّغَةُ)
فقوله (لاَ تُوجِبُهُ) تنبيه على أنه تجيزه اللغة لأن الاختلاط بالذوات هو أحد معاني المعية ، تقول (أنا مع فلان) ، (أين كنت؟) (كنت مع فلان) يعني من جهة أن ذاتك مع ذاته كنت أنت وهو بالأبدان في مكان واحد ، ويكون على غير ذلك كما قلنا في الآية كما يقول الرجل (فلانة) يعني زوجته (معي) يعني لا زالت في ذمته وفي عصمته في صحبته مقترنة به ولم تخرج عن ذلك .
فإذن كلمة (مع) في اللغة لا توجب معنى اختلاط الذات بالذات ولكن هذا أحد المعاني ومعنى (مع) في اللغة كما ذكرت لكم أوسع من ذلك ولهذا عبر شيخ الإسلام بقوله (فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ اللُّغَةُ).
قال - في بعض النسخ (لا توجهه اللغة) .
......
لكن الصحيح (لا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ) هذا هو المعروف (لا توجبهُ اللُّغَةُ) لأن اللغة تجيز ذلك ولا توجبه وشيخ الإسلام خاصة في المسائل اللغوية دقيق النظر - .
قال (وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق)
ذكر هنا دليل الفطرة تكون أدلة علو الله جل وعلا على خلقه بذاته أربعة أنواع من الأدلة وكلها قطعية :
" فذكر أولا دليل الكتاب قال (أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ) وهذا تواتر النقل به معلوم .
" وتواتر السنة .
" والإجماع .(32/474)
" ثم ذكر قال (وخلاف ما فطر الله عليه الخلق) وهذا الذي يسمى الدليل الفطري .
لأن أدلة علو الله بذاته على خلقه أربعة أنواع من الأدلة : الكتاب والسنة والإجماع والفطرة.
وهذه الفطرة هي أنه ما من أحد إلا وإذا أراد أن يفزع في أمر ليس له به طاقة توجه إلى العلو حتى ولو لم يكن ذا دين .
وقد ذكرت لكم أن ابن فضلان في رسالته التي يذكر فيها رحلته إلى بعض بلاد الترك - يعني بلاد روسيا في ذلك الزمان القرن الرابع الهجري - ذكر أنه أتى قوما وهؤلاء القوم لا يعرفون الله - يريد أن يبين لهم الإسلام ومن معه - ولا يعرفون الله قال ولكني رأيتهم إذا نابتهم شدة أو أصابهم قحط أو احتاجوا إلى شيء فإنهم يجتمعون ويتوجهون إلى السماء ويهمهمون ، وهذا شيء فطري مغروس في القلب ، حتى الملحد إذا مرض فإنه يتوجه إلى السماء فطرة ، وإذا عارض فإنه ينفيه بقسر نفسه على النفي لكن هذا في القلب تعلق النفس بمن في السماء ، هذا هو دليل الفطرة .
قال (بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرُ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ)
يقول هذا تمثيل ببعض آيات الله والله جل وعلا له المثل الأعلى سبحانه .
قال (الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ) أنت الآن تمشي في الأرض وتنظر إلى القمر ومن يبعد عنك بمئات الكيلوات أيضا في نفس الليلة ينظر إلى القمر مثلا في نصف الشهر البدر في وسط الليل تنظر أنت إلى القمر والقمر معك لا يفارقك وأيضا من هو بعيد عنك بمئات الكيلوات لا يفارقه القمر والقمر معك ومع غيرك أيضا .(32/475)
وهل ذات القمر حالة بالأرض ؟ هل ذات القمر حالة في كل مكان ؟ ليست كذلك بل هذا القمر وهو من أصغر مخلوقات الله مع المسافر ومع الحضر ومع غير المسافر مع تباعد ما بينهم من الأمكنة جداً هو معهم جميعا ، معهم يعني من جهة الاقتران والملازمة والصحبة والله جل وعلا له المثل الأعلى .
وهذا تمثيل من شيخ الإسلام رحمه الله تمثيل صحيح وهو قياس صحيح لأن قياس الأولى هذا مُقَر به عند أهل السنة والجماعة وذلك لأن القمر من مخلوقات الله وهو مع المسافر وغير المسافر ، والقمر عظيم الخلقة أيضا وأنت تراه صغير الخلقة والله جل وعلا في علوه إذا كان بعض مخلوقاته يكون مع من في الأرض مع اختلاف بلدانهم يعني إذا طلع القمر عليهم وتباعد ما بينهم فالله جل وعلا أعظم وأجل من مخلوقاته فهو سبحانه مع كل خلقه جل وعلا بعلمه واطلاعه وإحاطته جل وعلا .
هذه المباحث ذكرتها نمر عليها مرا سريعا لأنها مرت مفصلة مؤصلة فيما سبق .
قال (وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِم إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ)
ومعاني الربوبية هي المعاني التي يقتضيها اسم الرب ويقتضيها تصريف الأمر ويقتضيها المُلك .
فهذه المعاني فيها الرقابة على الخلق والهيمنة عليهم والقهر لهم والاطلاع عليهم إلى غير ذلك من المعاني الراجعة إلى الربوبية ، يعني لأنه هو الخالق هو المتصرف في الأمر وهو الذي بيده الملكوت وهو الذي يجير ولا يجار عليه إلى غير ذلك .
قال (وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ مَعَنَا- حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ)(32/476)
قال : (كل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش حق على حقيقته) يعني ليس ذلك مجازا عن شيء وإنما هو على حقيقته التي يفهم منها وهو أن الله جل وعلا عال بذاته على عرشه سبحانه وتعالى على حقيقة اللفظ والعرش لا يُقْدَر قَدْرُهُ والكرسي كذلك لا يقدر قدره فالله جل وعلا فوق ذلك هو العظيم الأجل تبارك ربنا وتقدس وتعاظم .
كذلك معيته قال (حَقٌّ عَلَى حَقِيقَته) وأنه معنا حق على حقيقته (لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ) .
قوله في المعية أيضا (حَقٌّ عَلَى حَقِيقَته) هذه يفهم منها أن معنى المعية معنى معية الله جل وعلا لخلقه أن معناها فيما فسرت به من معية العلم أو معية النصر والتأييد والتوفيق إلى غير ذلك المعية العامة والخاصة ، أن هذا المعنى على حقيقته وليس صرفا للفظ عن ظاهره إلى غيره أو صرفا للحقيقة إلى المجاز .
كذلك يدل هذا الكلام (وَأَنَّهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ) الذي قاله شيخ الإسلام على أن المعية تفسر بمعية العلم ومعية التوفيق والتأييد يعني المعية الخاصة هذا التفسير بالمقتضى أيضا .
ولهذا رأى السلف ما تحتمله لفظة أن تفسير المعية العامة والخاصة أنها من مقتضيات المعية أنه يفتح الباب لأهل الحلول الذي يقولون بأنه حال في كل مكان فلم يقولوا إن تفسير المعية بمعية العلم أو معية الإحاطة والنصر والتأييد أن ذلك بالمقتضى .
وفي الأصل هذا تفسير بالمقتضى .
يعني ما تقتضيه معية الله العامة أن تكون بالعلم ، ما تقتضيه معية الله الخاصة أنها بالتوفيق والتأييد.(32/477)
والسلف تركوا هذا اللفظ أن هذا تقتضيه المعية لأنه يكون فيه مجال أن يكون قول من قال إنه حال في كل مكان له شبهة فقالوا معنى المعية العلم في الآيات العامة ، ومعنى المعية النصر والتأييد في الآيات الخاصة ?لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? قالوا هذه معية نصر وتأييد وتوفيق ، ولم يقولوا معية تقتضي ذلك وذلك لأجل عدم فتح الباب لأولئك ولكن كما قال شيخ الإسلام هو جل وعلا معنا على حقيقة معنى المعية وما ذُكِرَ هو من مقتضياتها .
لكن لا يفصل القول في ذلك ولا يقال للناس إن هذا من المقتضيات يعني بشكل عام أو أنها معية ذات ومع استواء الله جل وعلا على عرشه لأن ذلك قد يفتح بابا للذين يقولون إن الله جل وعلا حال في كل مكان .
فالسلف تركوا لفظ معية ذاتية وتركوا لفظ معية مقتضاها كذا لأجل أن لا يدخل من قال إنه حال في كل مكان ، يدخل في تحريف العلو ونفي العلو لله جل وعلا بأدلة المعية .
قال (يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ) لأنه متواتر (وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ) مثل ماذا الظنون الكاذبة ؟
قال (مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: (فِي السَّمَاء)، أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ).
(يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ) الظن هنا يعني الوهم يعني ما يأتي في الذهن من الأوهام من التخيلات .
فإذا قُلْتَ إن الله في السماء يتخيل البعض أنه في جوفها .(32/478)
هذا باطل ، لأن معنى قوله ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ? السماء هنا بمعنى العلو قد ذكرت لكم ذلك مفصلا فيما قبل ، كذلك ?فِي السَّمَاءِ? بالتفسير الثاني (في) بمعنى (على) فتكون بمعنى على السماء
فإذن إذا توهم المتوهم من قوله ?فِي السَّمَاءِ? (أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ) فإن هذا أتى من جهة وهمه الكاذب وظنه الكاذب الذي لم يأت عن دليل ولا عن علم ولا برهان .
هذا باطل ولا يقوله أهل العلم بالسنة وإنما يقولون معنى قوله ?فِي السَّمَاءِ? يعني في العلو ?فِي السَّمَاءِ? على السماء ، ولهذا مثّل بقوله (فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) الكرسي الذي هو موضع قدمي الرحمن جل وعلا وسع السماوات والأرض فالسماوات السبع والأرضين السبع في داخل كرسي الرحمن أو الكرسي يسعها جميعا هو أعظم منها وأكبر .
والكرسي موضع القدمين ، فإذن قدما الرحمن جل وعلا عالية على الكرسي وعالية على السماوات وعالية على الأرض فليست السماء ظرف لله جل وعلا بل هو جل وعلا سبحانه على عرشه مستو عليه بذاته تبارك وتعالى ولا يحيط به شيء بل هو جل وعلا الذي يحيط بكل شيء .
قال (وهو يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ) يعني السماوات والأرض بحاجة إلى الرحمن جل وعلا والله جل وعلا غني عن خلقه .
قال (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإِذْنِهِ) فالسماء محتاجة إلى الرحمن محتاجة إلى الرب والله جل وعلا غني عنها وهذه كلها مخلوقات لله جل وعلا هو جل وعلا بائن منها .
كذلك قال جل وعلا (وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ) هذه آية من آيات الله أن السماء والأرض إذا أمرها الله جل وعلا قام فيها أمره تبارك وتعالى .
يريد من ذلك التمثيل على بطلان هذا الظن الكاذب .
وهذا الفصل مر معنا تفصيل الكلام عليه كما ذكرت لك مرارا والكلام عليه ما يحتمل التطويل .(32/479)
لهذا نكتفي بهذا القدر .
وتراجع ، يعني من أراد أن يراجع المسائل الماضية في القسم الأول اللي هو أدلة الكتاب فإنه يجد الكلام مفصلا .
أتى سؤال يقول : نريد أن تفصل الكلام عن القرب مرة أخرى - يعني اللي مر علينا في الدرس الماضي .
ونقول سيأتي الكلام عليه في الفصل الذي بعده (فصل :وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ)إن شاء الله تعالى .
ما صحة القول بأن الله في كل مكان بعلمه ؟
هنا في كل مكان ، الله في كل مكان بعلمه نقول علمه جل وعلا في كل مكان ، ولكن ما نقول هو في كل مكان بعلمه الأحسن أن تقول إنه جل وعلا علمه في كل مكان قال جل وعلا ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ?
يقول : هل الأئمة الأربعة اختلفوا في العقيدة أم الفقه ؟ أرجو توضيح ذلك .
إذا قيل الأئمة الأربعة فيُعنى بهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأبو عبدالله أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى جميعا وهم أئمة الفقه ، إذا قيل الأئمة الأربعة يعني في الفقه ، وأما في الاعتقاد فلا يعني حين يقال الأئمة الأربعة بهم أئمة الاعتقاد لأن أبا حنيفة رحمه الله من مرجئة الفقهاء وله مخالفات لمنهج السلف ولعقيدة السلف في مواضع فهو من الأئمة في فقه الأئمة الذين كان لهم أتباع ولفقههم أنصار لكن في العقيدة ليس هو من أئمة السلف في الاعتقاد بل عنده مخالفات في ذلك رحمه الله وهو معذور في أكثر ذلك والكلام على إمامتهم في الفقه معروف للجميع .
كيف يمكن الرد على من أول الصفات وفسرها بمقتضاها ولازمها واستشهد على ذلك بتفسير المعية بالمقتضى ؟(32/480)
أحيانا يصح تفسير الصفة باللازم أو تفسير الصفة بالمقتضى ، والفرق بين المؤول وغيره أن المبتدع الذي يؤول الصفات إذا أتت صفة من الصفات في القرآن فهو ينفي - المؤول - ينفي دلالة الظاهر ويفسر باللازم وأما أهل السنة فيثبتون الظاهر ويثبتون اللازم ، فمثلا في قوله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ? قد تفسر هنا ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? بأن هذا تشديد في أمر النكث وأن الله جل وعلا شدد في أمر نكث البيعة بقوله ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? هذا هو معنى الآية لكن هل من قال ذلك ينفي الصفة ؟ أو يثبتها ؟ فإن كان ينفي صفة اليد كان هذا الذي قال تأويل وإذا كان يثبت صفة اليد فيكون هذا الذي قاله تفسير باللازم فيكون صحيحا ، كذلك قوله جل وعلا ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? إذا قال قائل ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ? يعني بقبضته وتحت تصرفه ومشيئته فإنه إن كان يثبت صفة اليد لله جل وعلا فيكون هذا من التفسير باللازم ، يعني هو يفسر لك المعنى البعيد أما المعنى الظاهر الواضح من الآية هذا مثبت ، وإذا أتى المؤول فإنه يُعْرِضُ عن إثبات الصفة ويفسر بهذا فيكون تأويلا ، فمثلا السني يقول ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ? هذا فيه إثبات لصفة اليد وأن ملك الرحمن جل وعلا بيده وتحت قهره وتصرفه وتدبيره في ملكه وهذا صحيح ولها نظائر كثيرة .
فإذن الفرق بين التأويل والتفسير بالمقتضى واللازم أن ينظر إلى أصل المعنى فإذا كان أصل المعنى مثبت يثبته المتكلم ثم فسر باللازم صار ذلك تفسيرا صحيحا وإن كان ينفي أصل المعنى ويذهب عنه إلى المعنى الآخر فيكون ذلك من التأويل
.....
لا ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? ليس كذلك .(32/481)
نقف عند هذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ..
انتهى الشريط السابع عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثامن عشر
وجوب الإيمان بقرب الله
من خلقه،
وأن ذلك لا ينافي
علوه و فوقيته
وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...?[البقرة:186]الآيَة، وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِن عُنقِ رَاحِلَتِهِ". وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فهذا الكلام الذي سمعت في هذا الفصل هو كالتفصيل لما ذُكِر من قبل ، وذلك أن الإيمان بعلو الله جل وعلا وأنه عال على خلقه بذاته وأنه مستو على عرشه قد عورض بقربه جل وعلا الذي ورد في النصوص وببطونه جل وعلا و بمعيته جل وعلا لخلقه .
فذكر في الفصل الذي مضى ما يتصل بالمعية وأن معية الله تبارك وتعالى لا تنافي علوه فهو عال جل وعلا على خلقه بذاته ، مع أنه معهم سبحانه وتعالى في كل حال المعية العامة ومع عباده المؤمنين المعية الخاصة .
وهذا الفصل فيه ذكر لصفة القرب لله جل وعلا .
وقال (وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ من خلقه مُجِيبٌ)
و (دَّخَلَ فِي ذَلِكَ) يعني في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .(32/482)
دخل في أركان الإيمان الإيمان بهذه الصفة وأنه جل وعلا (قَرِيبٌ من خلقه مُجِيبٌ) سبحانه .
وإذا كان كذلك فإن ما دخل في الإيمان بنص الكتاب والسنة لا يناقض ما دخل فيه بنص الكتاب والسنة لأن الحق لا يناقض الحق وإنما يناقض الحقَّ الباطل ويناقض الحقُّ الباطلَ وأن ما كان مورده واحدا وهو الدليل من الكتاب والسنة فإن الجميع حق والحق يؤيد الحق ولا يعارضه ولا يناقضه بل الكل حق وخارج مخرجا واحدا في الدلالة على ما يجب اعتقاده .
ومما جاء في الكتاب والسنة من الحق أن الله جل وعلا عال على عرشه مستو عليه وأنه عال على خلقه بذاته سبحانه وتعالى .
وأتى أيضا في الكتاب والسنة أن الله جل وعلا قريب قال سبحانه (?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...?) وقال جل وعلا ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ? وقال جل وعلا ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الله جل جلاله قريب من عباده وأنه عال على عرشه سبحانه .
فهذا الكل هذه الطائفة من الآيات والطائفة الأخرى التي فيها إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى هذه كلها توافق بعضها بعضا ولهذا قال شيخ الإسلام (وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ) لأن الكل جاء من الله جل وعلا وإنما قد يتصور بعض الخلق لما في أذهانهم من التصورات السقيمة ، قد يتصورون أن هذا يناقض هذا ، وهذا باطل .
وسبب هذا التصور أنهم جعلوا الرب تبارك وتعالى في نعوته وصفاته وأحواله أنه جل وعلا ممثلٌ بخلقه ، ولما لم يكن ممكنا فيما شاهدوه من الخلق أن يكون المخلوق قريبا عاليا في نفس الوقت قالوا الله جل وعلا لا يمكن أن يكون قريبا وعاليا في نفس الوقت والله جل جلاله ليس كمثله شيء .(32/483)
فالذين جعلوا المنافاة بين قربه تبارك وتعالى ومعيته وبين علوه علو الذات واستوائه على عرشه هم مشبهة لأنهم ما نفوا ذلك ولا جعلوا هذا يعارض ذاك وهذا ينافي ذاك إلا من جهة أنهم مثلوا وشبهوا فجعلوا الله في صفاته ممثلا بخلقه مشبها بهم ولما جعلوه كذلك لزم التناقض ولزم التنافي بين صفات الله جل وعلا .
فهذا الفصل معقود لبيان علو الله جل وعلا واستوائه على عرشه وأن ذلك لا ينافي قربه تبارك وتعالى .
قال سبحانه ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ?
?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي? قد سأل الصحابة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فقالوا (أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه ؟) فنزلت هذه الآية ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ? فالله جل وعلا وصف نفسه بأنه قريب ووصف نفسه بأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فدل ذلك على أن القرب المذكور في هذه الآية هو قرب الإجابة من العباد ، قرب الإجابة ممن سأله تبارك وتعالى ، قرب الإجابة ممن دعاه جل وعلا .
ولهذا قلنا فيما سلف أن قرب الرب جل وعلا في الكتاب والسنة قرب خاص ويقرب جل وعلا من أوليائه ، يقرب جل وعلا من الساجد ، يقرب جل وعلا من العابد من الداعي إلى غير ذلك فهذا قرب خاص .
وأما القرب العام فإنه يفسر بقرب الإحاطة والبطون والله جل وعلا قريب من جميع خلقه لكن ليس هو القرب الخاص وإنما هو قرب الإحاطة وقرب البطون الذي فسره النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في قوله (وأنت الباطن فليس دونك شيء)
وفرقٌ بين القرب من غير إضافة والقرب الذي يضاف إلى الإحاطة والبطون .(32/484)
ولهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين أن قرب الله جل وعلا الذي جاء في الكتاب والسنة إنما هو قرب خاص لأنه ما جاء الدليل بالقرب العام وقال بعض أهل العلم : القرب قربان :
" قرب عام .
" وقرب خاص .
فالقرب العام من جميع الخلق بإحاطته جل وعلا وبقدرته عليهم وهذا هو الذي جاء في قوله ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? وقوله ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ? والقرب الخاص هو الذي جاء في الآيات والأحاديث الأخر التي فيها أنه جل وعلا قريب من خاصة خلقه .
وهذان وجهتان لأهل السنة : هل القرب ينقسم أم لا ينقسم ؟
ومُحَصَلُ ذلك أن قرب الله جل وعلا عند الجميع صفة من صفاته اللائقة به سبحانه وتعالى .
قال جل وعلا ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ? وهذا القرب في هذه الآية خاص وقد جعله قرب إجابة جل وعلا وقرب الإجابة نوعان :
" قرب عطاء .
" وقرب إثابة .
فمن سأل الله جل وعلا في دعائة كان داعيا دعاء المسألة فيكون قرب الله جل وعلا منه قرب من يعطي ، وإذا دعا العبد ربه جل وعلا في عبادة وطاعة - يعني دعاء - عبادة كان قرب الله جل وعلا منه قرب إثابة .
فإذن الإجابة في تفسير السلف في قوله ?أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ? فسرت بأنها إعطاء السؤال أو إثابة الداعي ، وكل أحد يسأل الله جل وعلا شيئا أو يدعو الله جل وعلا شيئا فإن الله جل وعلا يعطيه ويجيب دعاءه ?أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ? ولا بد فإنه ما من داع يدعو إلا والله جل وعلا يجيب دعاءه .
ولكن إجابة الدعاء أعم من إعطاء عين السؤال فإن العبد قد يدعو بدعاء فيه مسألة وقد يدعو بدعاء ليس فيه مسألة خاصة ، فإذا سأل العبد ربه مسألة خاصة (أعطني كذا) فإنه يجاب بإحدى ثلاث خصال :(32/485)
إما أن يعطى عين ما سأل (اللهم هيء لي زوجة صالحة) (اللهم هيء لي من أمري رشدا) (اللهم اجعل هذا الأمر خيرا لي) فيجاب في سؤاله فيعطى عين ما سأل هذا حال .
والثانية أن لا يعطى عين ما سأل ولكنه يؤخر له ذلك في الآخرة فيكون جواب السؤال في الآخرة ، هذا أعظم في بعض الأحوال .
والثالث أن يصرف عنه من السوء مثل ما سأل فهو سأل شيئا وقضى الله جل وعلا بحكمته أن لا يعطي العبد عين ما سأل فيصرف عنه من السوء مثل ما سأل وهذا قد جاء في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح وغيره (ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال) وذكر هذه الخصال التي أسلفت .
فإذن إجابة الداعي قد تكون إجابة للسائل وقد تكون إثابة للعابد ، وإجابة السائل أعم من إعطاء عين المسؤول ولهذا في حديث التنزل الإلهي تبارك ربنا وتقدس (فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأجيبه) ومعلوم أن الاستغفار والسؤال والدعاء الأولى تدخل في الثانية فإن المستغفر سائل وليس كل سائل مستغفرا كما أن السائل داع وليس كل داع سائلا ، ولهذا نقول الدعاء ينقسم إلى قسمين :
" دعاء مسألة .
" ودعاء عبادة .
وهذا جميعا داخل في قوله جل وعلا ?أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي?
قال رحمه الله (وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِن عُنقِ رَاحِلَتِهِ")
(إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ) فعلق القرب هنا بقربه جل وعلا ممن دعاه .
وذلك أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالدعاء فبين لهم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أن الله قريب منهم.(32/486)
وهذا يشهده العبد في هذا القرب الخاص ويشهده أيضا إذا تأمل اسم الله الباطن الذي ليس دونه شيء فيجد أنه إذا قوي علمه بمعنى اسم الله الباطن فإنه يظهر له ظهورا جليا لا لبس معه في قلب العبد المؤمن العالم بأسماء الله وصفاته أنه إذا حدث نفسه بحديث فإن الله جل وعلا معه قريب يسمع جل وعلا ما حدَّث به نفسه مطلع عليه يعلمه وذلك لأن الله جل وعلا الباطن الذي ليس دونه شيء .
فلا تتصور أن ثم شيء يمكن أن تكون فيه خفيا على رب العالمين ولو كان ذلك بأقل حديث نفس ولو بخطرة نفس أو بخطرة بال فإن الله جل وعلا ليس دونه شيء يعلم ذلك ، وهذا من آثار اسم الله الباطن فإنه جل وعلا ليس دونه شيء كما أوضحنا ذلك مفصلا في معنى البطون في تفسير حديث النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فيما مضى .
قال (إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِن عُنقِ رَاحِلَتِهِ) والتمثيل هنا أو المفاضلة بعنق الراحلة لأجل شدة قربها من جهة مَنْ على الراحلة فإن عنق الراحلة قريب منه جدا فإذا تحدث بحديث خفي فإن مَنْ على عنق الراحلة سيسمعه والله جل وعلا أقرب من ذلك ، فهذه المفاضلة للتقريب لتقريب معنى الصفة (إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِن عُنقِ رَاحِلَتِهِ) فليس العبد بحاجة إلى أن ينادي في الدعاء بل الأمر أمر مناجاة والله جل وعلا قرب موسى عليه السلام فناجاه كما قال سبحانه ?وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا? فالمناجي هو من حاله القرب والعبد المؤمن العابد لله تبارك وتعالى الذي يستحضر أسماءه وصفاته ويستحضر آثار ذلك في ملكوته وفي نفسه وفي خلق الله تبارك وتعالى فإنه إذا نادى الله جل وعلا يحس بقرب الرب تبارك وتعالى من العبد الداعي خاصة .
وهذا مراد شيخ الإسلام أن القرب ، قرب العبد من الله يستلزم قرب الرب جل وعلا من العبد .(32/487)
وليس هذا القرب قرب مساحة بأن من قَرُبَ شيئا مساحة من الأرض أو قُرْبْ مسافة فإن المقابل يقرب منه ، ليس قُرْبْ مسافة ولكنه قُرْبٌ كما يليق بالله جل وعلا .
ولهذا في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا) وهذا التقرب فإن الله جل وعلا يقرب من العبد إذا قرب العبد منه (وأقرب ما يكون العبد من ربه جل وعلا وهو ساجد) .
وهذا قرب لا تحيط به العبارة .. لكن نعلم أنه ليس قربا بالمسافة يعني بحركة البدن لأن العبد وهو ساجد ، اثنان يصليان هذا بجنب هذا ويكون أحدهما قريبا جدا من ربه تبارك وتعالى والآخر يكون بعيدا جدا من ربه تبارك وتعالى .
وهذا القرب لا تحيط به العبارة ولكنه حق يحسه العابد إحساسا بينا لا يحتاج معه إلى أن يدلل عليه وهذا ظاهر ، هل هو قرب الروح والعلو علو النفس أم شيء آخر ؟
ولهذا قال بعض السلف (القلوب والأرواح جوالة فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحُشْ)
فالقلوب جوالة بعضها يرتقي يرتقي يرتقي حتى يصير قريبا .
المقصود من ذلك أن النصوص فيها قرب العبد من الله وفيها قرب الله جل وعلا من العبد وليس الأمر مستلزما ، ما نقول قرب العبد من الله يستلزم قرب الله من العبد لأن العبد قد يكون من أهل الخشوع والبكاء ونفسه متعلقه بالله جل وعلا أعظم تعلق ويكون من الممقوتين كما قال طائفة من السلف (ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب) فهو يتعلق قلبه بالله جل وعلا ولكن يكون على ضلالة وعلى غواية فلا يلزم من قرب العبد من ربه في ظنه أن يكون الله جل وعلا قريبا منه.
ولهذا نقول أن قرب الله تعالى صفة له تبارك وتعالى وأما العبد المؤمن المُسَدَد الصالح فإنه إذا تقرب من الله جل وعلا فإن الله يقرب منه كيف يشاء .(32/488)
فهذا الاستلزام في حق العبد الصالح إذا قرب من الله جل وعلا فإن الله يقرب منه كما قال جل وعلا (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) .
قال رحمه الله (وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ)
ما ذُكِرَ في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذُكِرَ من علوه وفوقيته لأن الجميع حق والحق كما ذكرت لك لا يناقض حقا أبدا بل يكون معه يسير معه ويدل عليه ويبينه ويكون أحدهما دالا على الآخر والآخر دالا على الأول وهكذا .
قال (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ) هذا تعليل (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ)
هو سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته ، ليس كمثله شيء سبحانه في علوه علو الذات ، ليس كمثله شيء في استوائه على عرشه ، ليس كمثله شيء في قربه ليس كمثله شيء في معيته الخاصة ليس كمثله شيء في معيته العامة ، ليس كمثله شيء في إحاطته ، ليس كمثله شيء في قهره ، ليس كمثله شيء في جبروته ، ليس كمثله شيء في جماله ، ليس كمثله شيء في جلاله تبارك ربنا وتقدس ليس كمثله شيء البتة ، وذلك أن العبد لا يمكن أن يتصور شيئا إلا كان الله جل وعلا بخلافه لأن عقل الإنسان لا يمكن أن يطرأ عليه شيء إلا وقد صار لهذا مقدمة وهو أنه :
" قد رأى مثيلا لما طرأ على ذهنه .
" أو يكون رأى شبيها له .
" أو يكون رأى ما يقيسه عليه .
وإلا لا يمكن أن يتصور شيئا ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ? فهذه وسائل الإدراك السمع والأبصار والأفئدة حتى يحصل القياس حتى تحصل المعرفة والمعرفة إنما تحصل بالوسائل .(32/489)
والعبد لا يمكن أن يتصور شيئا حتى يكون ذلك الشيء قد رآه .
إذا قلت لك كتاب تتصور الكتاب لأنك قد رأيته أو رأيت مثيله ، كتاب تتصور كيفيته لكن أي كتاب ؟ هل هو كبير هل هو صغير ؟ لكن يقوم في ذهنك تصور معنى ودلالة هذه الكلمة .
أو تصور لشبيهها لما يشبهها من بعض الصفات .
أو تصور لما يقاس على ما ذكر فتقول الإنسان فإذا قيل لك الإنسان في العلو يعني إذا علا فإنه يخف ويطير في السماء ، فإنك ما تتصور هذه العبارة إلا بتصورك للإنسان وما يقاس عليه وتصورك لطيرانه وهو إنسان ومن صفة الإنسان أنه يمشي ليس من صفته أنه يطير ، لكن إنسان يطير ما تتصوره ، يسبح في الهواء لا تتصوره لأنك هنا إذا ألقي إنسان من فوق فإنه لا بد أن ينزل إلى السفل لكن تتصور ذلك لأن المقدمات موجودة ، السباحة تعرف معناها ، السقوط تعرف معناه الإنسان بحركته تعرف معناه ، فيمكن أن تقيس الحال المجهولة على هذه الحال المعلومة .
والله جل وعلا لم يُر ، ولم يُر مثاله ولم يُر شبيها له ولم يُر ما يقاس عليه فلهذا لا يمكن أن يخطر في البال شيء ، الله جل وعلا يكون شبيها لما طرأ في البال .
ولهذا يكون إثبات الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية اتصاف ، فإننا لا نقول يتصف باليد وهذه اليد متصلة مثلا بالجمع ، أو نقول متصف بالعينين وهاتان العينان في وجهه على صفة كذا هذا غير مقول ، وإنما نثبت الصفة ولا نثبت الكيفية ، الكيفية مفوضة لله جل وعلا ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ? .
ولهذا من جعل منافاة بين قربه تبارك وتعالى وبين علوه وفوقيته فإنه يكون مبطلا ، لماذا ؟
لأنه لم يتصور المنافاة حتى قام في قلبه وعقله التشبيه ، فلما قام التمثيل والتشبيه قال لا يمكن أن تجتمع هذه وهذه ، لماذا ؟
لأن ذهنه شبه أو مثل ثم بعد ذلك سعى في نفي ما عقده الذهن مشبَّها وممثَّلا ، أما المسلِّم لنصوص الكتاب والسنة فإنه يثبت الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية .(32/490)
ومما يدلك على بطلان هذا التشبيه والتمثيل وبطلان من ادعى المنافاة بين القرب والمعية وبين العلو والفوقية إذا تصورت أن الله جل وعلا من عظمته وجلاله وسعته تبارك وتعالى وإحاطته ، أن السماوات السبع في كف الرحمن تبارك وتعالى كخردلة في كف أحدكم ، تأخذ حبة خردل وتضيع في راحتك ، الله تبارك وتعالى السماوات السبع في كف الرحمن كخردلة في كف أحدكم ، فكيف بالأرض التي هي صغيرة جدا بالنسبة للسماوات السبع .
ولهذا يقرِّب لك ذلك فهم أن اتصاف الله بالصفة لا يعلم كيفيته إلا هو وإنما علينا التسليم .
فمن جعل بعض النصوص مناقضة لبعض وبعض النصوص لا تتفق مع بعض آخر حتى يُعْمِلَ فيها عقله يكون قد أُتي من جهله ومن تشبيهه وتمثيله وضلاله لأنه جعل اتصاف الله جل وعلا بصفاته كاتصاف المخلوق بصفاته وهذا من أصول الضلال التي بها ضل كثير من الخلق .
قال رحمه الله (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ)
وقد قدمنا لكم أن قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? كما قال جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? أن هذه فيها تأكيد نفي المماثلة لأن الكاف هنا في قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? هذه صلة على الصحيح ، صلة جاءت لتوكيد الكلام ، يعني زائدة لفظا مؤكدة معنى ، زائدة لفظا يعني إعرابا ... ثلاث مرات ، أو أكثر فقال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? يعني ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء ، فكأنه كُرِّرَ الكلام تأكيدا مرارا ، أفادنا ذلك مجيء الكاف .
وقال آخرون إن الكاف هنا اسم وليست حرفا وتكون بمعنى مثل وذلك كقوله جل وعلا ?ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً? قال ?أو أشدُّ? وجعل (أشد) مرفوعة وهي معطوفة على الكاف قال ?فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً? من الحجارة ، فصارت الكاف هنا اسما بمعنى مثل ، ومنه أيضا قول الشاعر :(32/491)
حبا لغيِركِ ما أتتك رسائلي لو كان في قلبي كقدر قُلامة
قال (لو كان في قلبي كقدر قلامة) لا بد أن تكون الكاف اسما لأنه إن لم تكن اسما فلا يكون ثَمَ خبر لـ (كان) لأنه تكون كلا الكلمتين شبه جملة (لو كان في قلبي كقدر قلامة) فلا بد أن تكون الكاف اسم أو صلة حتى يستقيم الكلام .
المقصود من ذلك أن قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? فيها إثبات نفي المثلية .
قال (فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ)
(فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ) النعوت عند أكثر أهل العلم هي الصفات ، فيقال صفات الرحمن ونعوت الرحمن
ومن أهل العلم من يفرق بين الصفات والنعوت فيجعل الصفات مما يتعلق بالذات ويجعل النعوت مما يتعلق بالأفعال ، والأمر فيه واسع ، وطريقة شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن النعوت والصفات متقاربان من جهة الدلالة فهي غير مختصة بالأفعال بل هي نعوت الله جل وعلا وصفاته الذاتية والفعلية وغيره كلها الباب واحد .
قوله هنا (فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ) هذا فيه التنبيه على أنه لا يفرق في نفي المثلية بين بعض الصفات وبعض وهذا معلوم من طريقة أهل السنة .
وطائفة من المبتدعة يجعلون عدم المماثلة في النعوت متعلقا ببعض الصفات دون بعض .
فما كان من جهة الأفعال قالوا يقاس على الخلق وما كان من جهة الذات فلا يقاس على الخلق.
وهذا باطل فإن الباب باب واحد في جميع نعوته سبحانه ليس كمثله شيء سواء في الأفعال أو في الصفات ، صفات الذات أو صفات الفعل ، الصفات الذاتية أو الاختيارية ، الباب جميعا باب واحد ليس كمثل الله جل وعلا شيء في جميع النعوت ، نعوت الجمال ونعوت الجلال ونعوت الكبرياء ونعوت الربوبية ونعوت الألوهية كل ذلك هو جل وعلا متفرد فيه ليس كمثله شيء .
قال (وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ)(32/492)
هذه من كلمات السلف المشهورة أنه جل وعلا (علي في دنوه) وعلوه جل وعلا المقصود هنا (علي) علو الذات في دنوه تبارك وتعالى الذي جاء في بعض الأحاديث (كدنوه من أهل عرفة) في المشهد يدنو الرحمن جل وعلا منهم ثُمَ يباهي بهم الملائكة .
وهو جل وعلا (قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ) يعني أنه سبحانه يدنو ويقرب من عباده كيف شاء وهو على عرشه مستو عليه عال على خلقه بذاته تبارك وتعالى .
فعلو الرحمن علو الذات والقهر والقدر وفوقية الرحمن فوقية الذات والقدر والقهر ، أو العلو والفوقية الراجعة إلى الذات والراجعة إلى الصفات كل ذلك لا ينافي دنوه تبارك وتعالى ولا ينافي قربه تبارك وتعالى بل هو جل وعلا علي في دنوه قريب في علوه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? تبارك ربنا وتقدس وتعاظم .
نقف عند هذا وهذا الدرس هو آخر الدروس في هذا الفصل ثم نستأنف إن شاء الله تعالى بعد ذلك ، والفصل القادم قد يطول الكلام عليه بعض الشيء لأنه في الكلام على صفة الكلام لله جل وعلا وأن القرآن كلامه هذا يتطلب كلاما مفصلا .
نجيب على بعض الأسئلة فيما بقي من الزمن
.....
يقول : ذكرت أن آية ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ? تدل على قرب الله للعبد يكون أقرب من حبل الوريد فهل هذا النوع من الاستدلال يدل على ذلك وأن الله أقرب إلى العبد من حبل الوريد وقد سمعت من قال إن المعنى قرب الملائكة ؟
هذا ذكرته لكم المرة الماضية بأن القرب عند من جعله قربا واحدا خاصا يفسر الآيات التي فيها القرب العام بأنه قرب الملائكة ، هذه طريقة شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله .
يقول : الكلام على أن السماوات السبع في يد الله كالخردلة هل معنى هذا معرفة نسبة السعة وتكون بذلك محددة أم المعنى يقصد به التقريب ؟
المقصود بهذا الحديث أن السماوات السبع هي صغيرة بالنسبة لعظمة الله جل وعلا ، هذا المقصود ، ليس المقصود تحديد النسب ..(32/493)
يقول : بناء على قاعدة نفي المماثلة هل نثبت البطون لله عز وجل بذاته أم أنه باطن بصفاته ؟
ذكرنا لكم من قبل أنه بطون الإحاطة وليس بطون الذات ، بطون الذات هو تفسير الذين يجعلونه حالا بكل مكان .
يقول : ما معنى قولنا ليس مثل مثله شيء إذا قلنا معنى الكاف مثل ؟
ليس مثل مثله شيء ، يعني إذا صارت الكاف بمعنى مثل فيكون معنى قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? يعني ليس مثل مثله شيء وهذا التركيب ظُن أن فيه إثبات المثلية لأنه نفى مثل المثل ، ونفي مثل المثل لا يلزم منه عقلا نفي المثل ، ولأنه نفى البعيد وليس معنى نفي البعيد أن ينفى القريب ، ولكن هذا احتجاج عجمي ليس احتجاجا عربيا وأما أهل اللسان العربي يعلمون أن نفي مثل المثل هذا من باب التنزيه والتعظيم فإن من لا يشابهه أحد ولا يماثله فإن من تعظيمه وإجلاله أن لا تُنْفَى المثلية عنه مباشرة بل تُنْفَى المثلية عن الأبعد لدلالة أنه متنزه متعال عظيم عن أن يكون له مثل في الأصل ، فإذن قولهم ليس مثل مثله شيء على هذا التقدير يكون ذلك إبعادا لوجود المثل على اللسان العربي لأن مثل ذلك يستعمل لمباعدة النفي عمن لا يستحق وجود الأصل فالله جل وعلا لا يوجد له مثيل ولكن على هذا التقدير إذا صار الكلام ليس مثله شيء عند من قدر هذا التقدير يكون ليس فيه المبالغة في نفي وجود المثيل وليس فيه التعظيم لله جل وعلا عن وجود المثيل فيكون التعبير عندهم أن الكاف بمعنى مثل لأجل المبالغة في نفي وجود المثيل ثم لأجل تعظيم الله جل وعلا عن وجود المثيل جميعا ، فإذن يكون هذا التقدير فيه التنزيه والتعظيم لله جل وعلا عن أن يوجد له مثيل باللسان العربي ، بعضهم تصور من ذلك أنه نفي لوجود مثل المثل وليس نفيا لوجود المثل نقول هذا كلام عجمي عقلي أما الكلام العربي فإنه يُفْهَم على اللسان العربي ما يُفْهَم على لسان العجم
هذا سؤال عن الخوارج : ما معنى قول ابن القيم في نونيته في وصف الخوارج :(32/494)
فأتوا من التقصير في العرفان ولهم نصوص قصروا في فهمها
هل تصح العبارة أن الخوارج أرادوا الآخرة وضلوا الطريق ؟
كل المتأولة من هذه الأمة الجميع يريد الآخرة الجميع يريد الجنة الجميع يريد رضا الرحمن جل وعلا فليس كفر من كفر وضلال من ضل عن عناد بل ضلوا عن جهل أو عن تأويل أو عن شبه ، فإذا تُصُوِر أن ثم من يعتنق مذهبا عنادا فإن هذا يكون من جهة عناده هذا يكون لا يريد الآخرة لكن أراد الدنيا فعاند فأخذ هذا المذهب ، وليس هكذا الفرق التي افترقت عن طريق أهل السنة والجماعة عن طريق الصحابة يعني الثنتين وسبعين فرقة ، هذه الفرق جميعها افترقت بتأويل حصلت الفتنة الأولى كما يقول شارح الطحاوية بين عثمان وبعده بين علي ومعاوية حصلت هذه الفتنة الأولى فخرجت عدة فرق خرجت الشيعة خرجت الخوارج خرجت الناصبة وخرج المرجئة ، حدثت الفتنة الثانية فظهر فرق ، حدثت الفتنة الثالثة فظهر الجهمية و المعتزلة إلى آخره ، فدائما الفتن تحدث هذا الافتراق وسبب الافتراق بعد الفتن أن المرء يدخل فيها بتأويله يدخل فيها بعقله ، وكل أصحاب البدع كما يقول شارح الطحاوية في آخرها كل أصحاب البدع عندهم بعض الحق ليس ثَمَ صاحب بدعة إلا وعنده بعض الحق ولكنه خَلط الحق الذي معه برأيه وهواه وعدم تسليمه للأمر الأول فخلط رأيه بالحق فصار عنده خليط من البدعة ومن السنة فيأتي الآتي فينظر إليه فإما أن يذمه جميعا ويقول كل ما عليه هذا ضلال وإما أن يمدحه جميعا وهم طائفته وحزبه ويقول كل ما عليه حق مثل طوائف الخوارج طوائف المرجئة القدرية وهكذا طوائف أهل الضلال ، وإما أن ينظر إليه فيقال هذا صاحب بدعة معه حق ومعه باطل ، فهم ينظرون إلى النصوص واستدلوا بالنصوص فلهم في النصوص فهم لكنه فهم قاصر مثل ما قال ابن القيم في الخوارح :
فأُتوا من التقصير في العرفان ولهم نصوص قصروا في فهمها(32/495)
ومن العجمة أتي من انحرف عن الحق والسنة كما يقوله طائفة من السلف ، فأولئك لهم نصوص لهم أدلة لكن قصروا في فهمها ، أخذوا المتشابه وتركوا المحكم ، لهم كل واحد له دليل ما في أحد ما له دليل ، لا بد ، كل طائفة من طوائف الضلال لها دليل ، فليس الشأن في الاستدلال ولكن الشأن أن يكون الاستدلال على وفق طريقة الصحابة رضوان الله عليهم وعلى فهم أئمة السنة ، أما وجود المنزع من الاستدلال فإن الله ابتلى هذه الأمة بأن جعل القرآن فيه متشابه يمكن أن يأخذ منه النصراني الحجة على مذهبه بأن محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ رسالته مخصوصة بالعرب قال النصراني قال تعالى ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ? ?وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ? فهذا دليل من القرآن على أن رسالة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خاصة للعرب ، الذي لا يحرم الخمر قال : الله جل وعلا قال ?فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ? وقال في اجتنابها ?فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? فعلله بالفلاح وقال ?اجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ? وهذا فيه تردي يدل على أن المستحب والأفضل تركه لكن لا يدل على حرمته ، الخوارج ?وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا? قالوا هذا دليل على تكفير مرتكب الكبيرة ، المعتزلة ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? قالوا يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر ولو كان في ذلك الخروج عن الإمام الحق فإنه ينهى عن المنكر لعموم الدلالة ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ(32/496)
الْمُنكَرِ? فأي منكر وجد فإنه لا بد من إنكاره باليد إن استطاع الناس دون النظر إلى التفريق بين الإمام وغيره وبين المقدور عليه وغير المقدور عليه والشرائط التي عند أهل السنة وهكذا ، وهكذا فإن كل طائفة خرجت عن الحق ينطبق عليها كلام ابن القيم هذا:
فأُتوا من التقصير في العرفان ولهم نصوص قصروا في فهمها
وسبب ذلك المجملات ، المجملات من أنواع المتشابه لدلالتها على أكثر من حال ، والمجمل إذا ما بُيِن واتضح بيانه من النصوص وأفهم بيانه أهلُ العلم فإنه يحصل الالتباس في هذه المجملات يعني التي تحتمل أكثر من شيء ، ولهذا يقول ابن القيم أيضا في النونية بعد كلام له في بعض مسائل القدر وهو انقسام الإرادة يقول :
إطلاق والإجمال دون بيان فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ
قد أفسدا هذا الوجود ...
(عليك بالتفصيل والتبيين) إذا كان العالم يتكلم فإنه يفصل ويبين في المؤلَّف وكذلك في الكلام يفصل ويبين فإن أكثر الناس يتعلق بالمجملات ويقع منه اشتباه من جهة ما سمع لأجل عدم التبيين فيقول (عليك بالتفصيل والتبيين) التفصيل والتبيين لنصوص الكتاب والسنة (فالإجمال والإطلاق دون بيان قد أفسدا هذا الوجود) يعني أن من أخذ بالمجمل ولم يأخذ بالمبين من أخذ بالمطلق ولم يأخذ بالمقيد من أخذ بالنص يعني بالدليل مع الكتاب والسنة ولم ينظر في فهمه إلى فهم أهل العلم فإنه يحصل له من البعد عن طريقة أهل السنة بقدر ما بعد من جهة فهمه للأدلة .
هذه مسألة عظيمة لا بد لطالب العلم من أن يرعاها تماما .
......
على كل حال المُشتَرَك اللفظي هو الذي يكون يصدق على كذا واحد بدون تداخل .
عين هذه العين الباصرة وعين الماء والذهب إلى آخره ، هذه كل واحدة لها معنى .
أو يكون المشترك مما يدل على معنيين فأكثر ولا يعرف دلالته مثل القُرْءْ يدل على الطهر ويدل على الحيض ، وهل يحمل المشترك اللفظي على معنى واحد أو على معنيين أو على معانيه ؟(32/497)
الصحيح أنه يحمل على معانيه جميعا ما لم يدل الدليل على واحد منها وهذه قاعدة من قواعد التفسير ، على كل حال المعية معية الله تبارك وتعالى لعباده ليست من جهة المشترك ، هي معية هذه المعية الخاصة لها معناها والمعية العامة لها معناها وكل ذلك من مقتضيات معية الله جل وعلا لعباده ...
يقول ذكرت أن أهل السنة أخرجوا الجهمية من الإسلام فما هي الفرق التي أخرجت من الإسلام ؟
الجهمية أخرجهم من الإسلام عبدالله بن المبارك وجماعة يعني أخرجوهم من الثنتين وسبعين فرقة ، أصلا ، وأخرجهم من الإسلام أصلا يعني جعلوهم مرتدين أكثر بل كل أهل السنة :
عشر من العلماء في البلدان ولقد تقلد كفرهم خمسون في
و الرافضة أيضا ألحقوا بالفرق التي لا تدخل في الثنتين وسبعين فرقة ، وبعض أهل العلم يرى دخول الرافضة في الثنتين والسبعين فرقة وذلك لأن قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) هذا الافتراق لا يدل على أن هذه الثنتين وسبعين فرقة من هذه الأمة على أنها مخلدة في النار لا يدل عليه بل هي متوعدة بالنار ، و المعتزلة يسأل عنهم السائل ليسوا بخارجين من الإسلام كطائفة ، هم من الطوائف الثنتين وسبعين فرقة لكن منهم يعني من المعتزلة من يخرج من الإسلام .
هل يجوز أن أُسَلِمَ على أخت جدتي والتي تعتبر بالنسبة للوالدة خالة ؟.
نعم ، خالة أمك خالتك محرمة عليك يعني يجوز أن تسلم عليها .
وفي هذا القدر كفاية .
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الهدى السداد .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
وجوب الإيمان
باليوم الآخر وما فيه(32/498)
فصل :وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ.
فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُمْتَحَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ للرِّجُلِ: مَن رَّبُكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَن نَّبِيُّك؟ فـ?يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ?[إبراهيم:27] فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَالإِسْلاَمُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ نَبِيِّي. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصُعِقَ.
ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ.
وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ. فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ.
فَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد، ?فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ?[المؤمنون:102-103].(32/499)
وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ?وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا?[الإسراء:13-14].
وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فهذا الفصل فيه ذِكْرٌ لركن من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر .
والإيمان باليوم الآخر واجب وفرض ومن لم يؤمن به فلا يصح إسلامه .
والقدر الذي يصح به الإسلام منه أن يؤمن بأن هناك بعثا بعد الموت وحسابا وجنة ونار ، هذا القدر لا يسوغ أو لا يسع أحدا أن يجهله ، فإذا آمن بالبعث بعد الموت يعني بيوم القيامة وآمن بالجنة والنار صح إيمانه بهذا الركن .
هذا من حيث القدر الواجب الذي يُصَحِح الإسلام ، ثم هناك تفاصيل في هذه الجملة من الإيمان باليوم الآخر وهذه التفاصيل يلزم ويجب اعتقادها لمن علمها بدليلها فمن علم شيئا من ذلك بدليله وجب عليه أن يعتقده وأن يصدق خبر الله وخبر رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في ذلك .
واليوم الآخر اسمٌ ليوم القيامة سمي يوما آخرا لأنه يوم طويل .(32/500)
و (آخر) لأنه آخر الأيام وبعده حياة جديدة جنة ونار دائمة لا انقطاع لها .
ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله ها هنا (فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ) ما بعد الموت من الموت فما بعده ، دار البرزخ ثم الدار الأخرى هذه كلها داخلة في هذا الاسم - يعني داخلة في الحكم في حكم الاسم - وذلك لأن الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالقيامة والإيمان بالقيامة يشمل نوعي القيامة :
" القيامة الصغرى .
" والقيامة الكبرى .
فالقيامة الصغرى هي الإيمان بما بعد الموت لأن من مات فقد قامت قيامته والإيمان بالقيامة الكبرى فإذن اسم اليوم الآخر يطلق على ما ذكرنا من يوم القيامة الكبرى وكذلك يدخل فيه ما بعد الموت إلى أن يبعث الله جل وعلا الأجساد .
قال رحمه الله هنا (وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ)
يعني الإيمان الواجب (الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ) .
الموت مخلوق خلقه الله جل وعلا كما قال ?الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ? فليس الموت عدما للحياة وإنما الموت مخلوق كما أن هذه الحياة الدنيا مخلوقة .
حقيقة الموت انفصال التعلق الظاهر بين الروح والبدن هذا هو الموت .
وذلك أن الروح مع البدن لها أنواع من التعلقات أربعة :
" الأول ما يكون في رحم الأم حين يبعث الملك فيؤمر بأن ينفخ في الجنين الروح ، وهذا فيه حياة للبدن والروح لكن التعلق هنا تعلق خاص ليس كما إذا خرج الجنين من بطن أمه .(33/1)
" النوع الثاني من التعلق تعلق الروح بالبدن على هذه الحياة الدنيا ، فإن الحياة للأبدان والروح تبع للبدن ، يعني أنه يقع النعيم أو التنعم في الدنيا ويقع التألم ونحو ذلك على الأجساد والروح تبع له فإنها تألم بألمه وتسعد بسعادته ، وقد يكون أيضا هناك استقلال للروح في تنعمها وحزنها ونحو ذلك .
" الثالث ما بعد الموت ، حياة البرزخ الحياة هناك للروح والبدن تبع عكس الحياة الدنيا ، الحياة الدنيا الأبدان تتحرك والأرواح غامضة وما بعد الموت في البرزخ الحياة للأرواح والعذاب والنعيم على الأرواح والأبدان تبع لها يكون لها نصيب من العذاب ومن النعيم لتبعيتها للروح .
" الرابع والأخير هو تعلق الروح بالبدن يوم القيامة العظمى وما بعده وهذا أكمل تعلق فإن الروح مخلوق منفصل والبدن مخلوق منفصل ويكون التنعم يوم القيامة والعذاب واقعين على الروح والبدن جميعا في أكمل تعلق لهما ، وهذا أسراره يعلمه الله جل وعلا .
هناك نوع من التعلق ذكره طائفة من أهل العلم زيادة على ما ذكرنا وهو (حال المنام) وهو أن النائم للروح تعلق بالبدن لكن ليس كالحياة الدنيا فيه نوع اختلاف وذلك أن الروح منها ما - يعني بعض الروح بعض روح المعين المكلف - ما يمسكها الله جل وعلا حال المنام ومنها ما تسرح وتذهب وتجيء ويكون منها الأحلام ، ومنها ما يكون ملازما للبدن وبه تكون حياته البدنية ، ولهذا قال طائفة : إن الأنفس التي تتكون منها الروح ثلاثة :
" نفس تكون بها الحياة تتضح هذه الأنفس في المنام تكون بها الحياة حياة البدن .
" ونفس يمسكها الله جل وعلا .
" ونفس تذهب وتجيء ويكون منها لقاء الأرواح ولقاء الأنفس وتكون منها الرؤى إذا لقيت الأرواح الطيبة ، وتكون منها الأحلام إذا لقيت الشياطين أو الأرواح الخبيثة أو نحو ذلك .(33/2)
وهذا كما قال الله جل وعلا ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا? فجمع قال الأنفس ثم قال ?مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى? الآية ، المقصود من ذلك أن الموت مخلوق تكون بعده حياة أخرى جديدة فكما أن لحظة نفخ الروح في الجنين تكون بها حياة لهذا الجنين فإن نزع الروح من البدن تكون بها حياة جديدة للروح ، وهذا تفصيل مهم في فهم ما يتعلق بالعذاب والنعيم إلى آخر ذلك .
قال هنا رحمه الله (الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ)
يعني بعد انفصال الروح من البدن ، وانفصال الروح من البدن يعني بالموت يكون على أنحاء :
" ومنها أن يكون القبض للروح من البدن والبدن سليم لا علة فيه .
" وآخر يكون البدن غير قابل صار فاسدا لا يقبل أوامر الروح ولا يقبل أن تسكنه الروح ، فإذا كان البدن فسد ولا يصلح أن تسكنه الروح فإن الروح تخرج يقبضها ملك الموت لأجل عدم مناسبة البدن لسكنى الروح لأن البدن مسكن الروح .
قال طائفة أيضا من أهل العلم إن القلب هو محل الروح ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) ومعلوم أنه لا يقصد القلب من حيث كونه لحما ودما من حيث كونه مضغة بل إنما يقصد القلب من حيث كونه محلا للتكليف محلا للعبادات محلا للمشاعر ولهذا قال طائفة إنه مسكن الروح ومكانها.
المقصود من ذلك أن الإيمان بما بعد الموت هذا فرض واجب لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أخبر بذلك .
فأخبر شيخ الإسلام عن أهل السنة بأنهم (يُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ)
بفتنة القبر وبعد الفتنة يكون عذاب ويكون نعيم ، ثم فصل ذلك ، فصل هذه الثلاثة فقال :(33/3)
(فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُمْتَحَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ)
سمى بعض ما يحصل في القبر فتنة لأن الفتنة هي الابتلاء والإختبار ، فتن الشيء يعني اختبره وامتحنه
والمقصود من هذه الفتنة مجيء ملكين خاصين يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير أو منكر ونكير ويسألان الناس عن ربهم وعن نبيهم وعن دينهم ، يسألان الناس هذه الثلاث مسائل العظيمة والأصول الثلاثة العظيمة ، هذه هي فتنة القبر .
يعني إذن فتنة القبر هي سؤال الملكين للناس في قبورهم عن هذه المسائل الثلاث العظيمة .
قال رحمه الله (فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يفتنون فِي قُبُورِهِمْ) أولا إذا قيل فتنة القبر فإن المقصود به فتنة البرزخ وذلك لأن الفتنة واقعة لما بعد الموت وما بعد الموت هو الحياة البرزخية وإنما سمي ذلك بفتنة القبر لأن غالب الناس يُقْبَرون ولكن لا يخص ذلك من قُبِرَ دون من أُحْرِقَ مثلا وذُرَّ أو من فُتِّتت عظامه أو نحو ذلك الكل يقع عليهم الافتتان ويأتيهم الملكان والله جل وعلا قادر على كل شيء .
قال العلماء سمي ذلك فتنة القبر لأن معظم الناس يُقْبَرون وأما غير المقبور فإنها حالات خاصة فأطلق هذا الاسم باعتبار الغالب .
قوله هنا رحمه الله (فَإِنَّ النَّاسَ يفتنون فِي قُبُورِهِمْ) قوله (النَّاسَ) هذا يشمل الصغير والكبير والذكر والأنثى من المسلمين والمنافقين والكافرين ، هذا لفظ الناس .
الناس لفظ عام يدخل فيه جميع الإنس وإذا كان كذلك هل هذا المفهوم مراد ؟
هل هذا اللفظ مراد بأن هؤلاء جميعا يفتنون ؟
الجواب : نعم ، فإن فتنة القبر تقع على جميع الخلق من الناس ، يمتحن المسلم ويمتحن المنافق ويمتحن الكافر ويمتحن الرجل وتمتحن المرأة ويمتحن الصغير ويمتحن الكبير ، فهذه كلها جاءت بها الأدلة وفيها خلاف :
" قال طائفة من أهل العلم إن الفتنة فتنة القبر تقع على المسلم والمنافق دون الكافر أما الكافر فإنه لا يفتن .(33/4)
" وقال طائفة إنها تقع على المسلم والكافر بعد بعثة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خاصة وأما من قبل بعثة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فإنه لا فتنة عليهم في قبورهم .
والجواب أن هذا ليس بصحيح بل الصواب تعميم ذلك ، وما استَدَلَ به من حصر الفتنة مثلا في هذه الأمة قالوا إن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (إنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم) قال(أوحي إلي أنكم) قالوا الخطاب لهذه الأمة ومعنى ذلك أن الفتنة خاصة بها ، والجواب أن هذا من باب الخطاب وليس من باب الحصر فهم يفتنون في قبورهم لبعث النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عليهم وغير هم أيضا يفتن فهذا اللفظ لا يدل على التخصيص والأصل أن الفتنة عامة وذلك لقوله جل وعلا ?يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء? قال أهل التفسير : نزلت في فتنة القبر وهذا اللفظ في آية إبراهيم هذه ليس خاصا بهذه الأمة .
فإذن هذا الأول أن الصحيح أن فتنة القبر غير خاصة بأمة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بل بالجميع .
الثاني : هل هي خاصة بالمسلمين والمنافقين دون الكفار ؟
الجواب : لا أيضا ، بل الكافر يفتن كما دل عليه حديث البراء ، فقول القائل (سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) لا يدل على أنه للمنافق والمسلم فقط بل في حديث البراء أنه يقول (فأما الكافر أو المنافق) وهذا يدل على دخول الجميع في ذلك ، ويدل عليه أيضا قول الله تعال ?وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء? .(33/5)
أما الصغير فإن طائفة كثيرة من أهل العلم قالوا إنه لا يفتن ، وقد ثبت أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ دعا لصغير بأنه يعيذه الله من عذاب القبر ، كذلك أبو هريرة دعا لصغير في ذلك ، وإذا كان ثبت أن ثمة على الصغير عذابا في القبر فإنه يعني أنه يمتحن ، لا يقال إنه انعقد الإجماع على أن أطفال المسلمين في الجنة ، نقول هذا صحيح ولكن خبر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ودعاؤه هذا أيضا يجب الإيقان به والدعاء للصغير لا يعني أن يكون حتما يعذب ولكن دعاء بأن يعاذ من العذاب وأن يعاذ من التعذيب فيه فمعنى ذلك أنه دعاء له بأنه إذا سئل أسئلة فتنة القبر فإنه يجيب جواب المصيب المسلم المسدد .
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة أيضا من أهل العلم من تلامذته كابن القيم وغيره .
المقصود من ذلك أن قوله (النَّاسَ يفتنون فِي قُبُورِهِمْ)عام لهذه الأمة ولغيرها للكفار والمسلمين والمنافقين والصغير والكبير للرجل وللمرأة .
قال (فَيُقَالُ للرِّجُلِ) (يُقَالُ)
القائل هما الملكان منكر ونكير .
(فَيُقَالُ للرِّجُلِ مَن رَّبُكَ؟)
هذا السؤال الأول ، وهو أعظم الأسئلة (مَن رَّبُكَ؟)
السؤال عن المعبود والرب هنا ليس المقصود به الخالق الرازق المحيي المميت وإنما المقصود به الذي يعبد لأن الرب يطلق في القرآن والسنة على السيد المتصرف المطاع ويطلق على المعبود وهو في حق الله جل وعلا على المعنييْن ، لهذا قال تعالى ?وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا? يعني معبودين ، وقال ?اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ? يعني معبودين من دون الله ?وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ? وهذا يدل على أن الربوبية تأتي ويكون معناها العبودية وهذا :
- إما أن يكون بطريق اللزوم لأنه يلزم ممن هو رب أن يكون معبودا وحده دون ما سواه .(33/6)
- وإما أن يكون بطريق اجتماع الألفاظ وافتراقها ، قد قال إمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (إن لفظ الإله والرب والألوهية والربوبية في الكتاب والسنة تدخل في الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا تفرقت اجتمعت) وهذا ربما يكون لأجل التضمن واللزوم الذي بين اللفظين .
المقصود من ذلك أن قول الملكين للمقبور (مَن رَّبُكَ؟) يعني من معبودك ، ودليل ذلك أن المحنة والرسالات والابتلاء بالنبوات إنما وقع في العبودية ولم يقع في الاعتراف بالربوبية فإذن (مَن رَّبُكَ؟) يعني من معبودك من الذي تعبد ، هذا هو السؤال الأول ، والمسلم يجيب (رَبِّيَ اللهُ) يعني معبودي الله ، المنافق يقول (هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) والكافر يصرح يقول معبودي كذا من الأوثان والأصنام ، وهذا معنى قوله ?وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء?
قال أيضا (فَيُقَالُ للرِّجُلِ مَن رَّبُكَ؟وَمَا دِينُكَ؟)
الدين يعني ما يلتزمه من الدين ، ما هو الدين الذي تلتزمه ، ما هو الدين الذي تعتنقه ؟ فيجيب المسلم بالإسلام والكافر بدينه وهكذا والمنافق أيضا يتردد والشاك والمرتاب يتردد ويقول (سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) .
(مَن نَّبِيُّك؟)
السؤال عن النبي الذي أرسل إليه وبعد بعثة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ السؤال عن محمد عليه الصلاة والسلام .(33/7)
قال أهل العلم في قول المرتاب (هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) في قول المرتاب ذلك ما يدل على أن العقائد لا ينفع فيها التقليد بل لا بد فيها من معرفة الحق بدليله لأنه قال (سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) وهذا هو التقليد ، أن يقلد غيره دون حجة فإذن يكون مقتضى ذلك أن من يثبَّت ويُلهم الحجة هو من عرف أجوبة هذه المسائل بدليلها وهذه المسائل الثلاث هي التي أورد أدلتها وبينها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الرسالة المشهورة باسم ثلاثة الأصول فإن هذه الأصول هي الثلاثة (من الرب ما الدين من النبي) .
قال فـ ?يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ?
في الحياة الدنيا يثبتهم الله بالقول الثابت يعني بالتوحيد والإسلام والقول بالشهادتين وذكر الله جل وعلا حتى يتوفاهم الله على ذلك ، وفي الآخرة يعني إذا ابتدأت آخرتهم وابتدأت قيامتهم قامت عليهم القيامة الصغرى ، يعني بالموت يثبتهم الله عند سؤال الملكين .
(فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَالإِسْلاَمُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ نَبِيِّي)
هذا جواب المؤمن الذي عرف أجوبة هذه المسائل بدليلها .
قال (وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ)
وهذا حال المنافق ، والكافر يجيب بما يعبد وما يدين به .
(فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَة) أو بمرزبَّة (مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصُعِقَ)(33/8)
وهذا نوع من أنواع العذاب والميت يسمع قرع نعال من يثخَلِّفُونَه حال تخليفهم إياه ، فإذن له حياة خاصة وله في روحه وبدنه تعلقات خاصة والله جل وعلا على كل شيء قدير ، فهذا المنافق يعذب وأول عذابه أنه يضرب بهذا النوع من العذاب (بِمِرْزَبَة مِنْ حَدِيدٍ، يَصِيحُ صَيْحَةً) من أثرها (يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ) هذا يدل على أن الجن والحيوانات تسمع عذاب المعذبين.
ومن هذا الأصل أخذ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إبطال عبادة من كان يعبد في دمشق عمود من الأعمدة كان مبنيا هناك وكانوا يتوسلون به ويتمسحون به ويعتقدون في هذا العمود وكان من إبطال شيخ الإسلام لذلك أن الدواب إذا أتت عنده يعني عند هذا العمود تسلح وتخرج ما في بطنها قال شيخ الإسلام وهذا يدل على أن هذا العمود تحته قبر كافر أو منافق يعذب ولهذا تسمعه الحيوانات فتسلح وتتغير .
وهذا من عظيم فقهه في النصوص فأُبطل ذلك وهُدِم ووجد تحته قبر يقال إنه قبر نصراني .
المقصود أنه يعذب والعذاب تتأذى منه البهائم وتسمعها البهائم ولكن الله جل وعلا جعل لها من الاحتمال ما ليس للإنسان في ذلك .
قال (وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصُعِقَ) وذلك لأن روح الإنسان بتلقي هذه الأشياء غير روح ونفس الحيوانات ، والله جل وعلا له الحكمة البالغة في خلقه .
قال رحمه الله (ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ)
بعد هذه الفتنة يكون القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار ، والعذاب في القبر نوعان :
" عذاب أمدي ، فترة ثم ينقطع وهو عذاب عصاة الموحدين أو بعض غيرهم .(33/9)
" وعذاب أمدي لا ينقطع وهو عذاب الكفار أو طائفة من الكفار لأن الله جل وعلا قال في وصف آل فرعون ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ? فبين أنهم قبل قيام الساعة يعرضون على النار غدوا وعشيا وهذا يكون في قبورهم .
......
النوع الأول عذاب أمدي يعني مدة ثم ينقطع ، وهذا لأن دار البرزخ نوع من الدور قد يجعل الله جل وعلا العذاب فيها من المكفرات يعني يكون العبد عنده ذنوب فيُزال أثر هذه الذنوب وتُكفَّر عنه بالعذاب في البرزخ ، لأن هناك عشرة أشياء يزال بها العذاب أو أثر الذنب ومنها ما يكون من العذاب والمصائب في البرزخ وكذلك في عرصات القيامة إلى غير ذلك من الأنواع العشرة المعروفة.
القبر أيضا له ضمة كما هو معروف والقبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة .
وضمة القبر لا ينجو منها أحد ، وقد رأت عائشة رضي الله عنها صغيرا ميتا يُحْمَل فبكت وقالت أشفقت عليه من ضمت القبر ، وضمة القبر لم ينجُ منها أحد وقال عليه الصلاة والسلام (لو نجا منها أحد لنجا منها سعد) .
وهذه الضمة تختلف فأما ضمة الكافر فإن الأرض حمقة عليه حمقة غاضبة عليه فتضمه ضم عذاب وأما المسلم المؤمن فإن الأرض إذا كان المسلم على ظهرها وفقدته فإنها تبكي على فقده حين تسمع ذكره وفقدت مكان صلاته وفقدت مصلاّه وفقدت تنقله للخير فتكون الأرض في ضمها لهذا المقبور كما قال طائفة من أهل العلم تضمه ضمة الحبيب لحبيبه ولكن هذه الضمة يكون منها شدة على المضموم يعني على المقبور .
يعني أن الضمة لا بد منها ولكن فرق بين ضمة مسلم وضمة كافر أو منافق ، نسأل الله جل وعلا لنا ولكم حسن الختام والموت على الشهادة .(33/10)
ومن الدلائل على النعيم والعذاب أو عذاب القبر أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مر بقبرين فقال (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) فهذا دليل من أدلة عذاب القبر وهو حق أجمع أهل السنة والجماعة عليه والأدلة عليه كثيرة كبيرة ومن الحديث المتواتر أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان يعلمهم الناس كما يعلمهم السورة من (الصلاة) أن يدعو في آخر الصلاة بالاستعاذة من أربع (اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال) وهذا دليل ظاهر ولا حجة لمن منع النعيم والعذاب في القبر بل هو مخالفة للنصوص وضلال بيِّن .
قال رحمه الله (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى)
يعني يلبثون في قبورهم إلى أن تقوم القيامة الكبرى وهم في حال كونهم في قبورهم أرواح المؤمنين مقرها الجنة كما ثبت عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قال (نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة) (نسمة المؤمن طائر) ووصف نفس الشهيد فقال (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تروح وتسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش) المقصود من ذلك أن مقر أرواح المؤمنين في الجنة ومقر أرواح الكفار في النار ، ولا يمنع ذلك أن تكون هذه الروح لها تعلق بالقبر بل تذهب تصل إلى القبر في لحظات وتذهب إلى مكانها في لحظات ولا يمنع هذا أيضا من أن من الناس من تحبس أرواحهم على قبورهم على حسب ما جاء في الأدلة فالأدلة يصدق بعضها بعضا وبعضها يُفهم البعض الآخر .
قال (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ)(33/11)
وهذا من الاختصار اختصره شيخ الإسلام رحمه الله لأن إعادة الأرواح إلى الأجساد يسبقها شيء كثير فيلبث الناس في القبور إلى أن يموت جميع الخلائق وذلك بنفخة الصعق فتعاد الأرواح إلى الأجساد بنفخة البعث والنفخات وذِكرها هي من جملة ما جاء في النصوص بيانه فيدخل في الإيمان باليوم الآخر والذي دلت عليه الأدلة أن النفخات ثلاث ، ثلاث نفخات :
" أما النفخة الأولى فهي نفخة الفزع التي جاء في سورة النمل في قوله تعالى ?وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ?
انتهى الشريط الثامن عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط التاسع عشر
والذي دلت عليه الأدلة أن النفخات ثلاث ، ثلاث نفخات :
" أما النفخة الأولى فهي نفخة الفزع التي جاء في سورة النمل في قوله تعالى ?وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ? .
" والنفخة الثانية هي نفخة الصعق .
" والنفخة الثالثة هي نفخة البعث والقيام .
وهما اللتان ذكرتا في قوله تعالى في سورة الزمر وغيرها ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ? .
هذا التقسيم إلى ثلاثة أقسام هو الذي رجحه شيخ الإسلام وابن القيم وجماعة من المحققين ودل عليه أيضاً حديث أبي هريرة المعروف بحديث الصُّوْر الطويل الذي رواه ابن جرير وأبو يعلى و الطبراني والبيهقي وجماعة لكن الحديث ضعيف لأن فيه مجهولا وضعيفاً كما أعله الحافظ ابن حجر بذلك ولكن هو موافق في ذلك لظاهر القرآن لأن في القرآن ثلاث نفخات :
- نفخة فزع - ونفخة صعق - ونفخة بعث .(33/12)
قال كثير من أهل العلم إن النفخات إنما هما ثنتان ونفخة الصعق طويلة تمتد أولها فزع وآخرها صعق ، ودل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (أول من يسمع - أو كما قال يعني معناه - أول من يسمع النفخ في الصور رجل يلوط حوضه فيُصْغِي لِِيْتَاً ويرفع لِِيْتَاً - يعني جهة عنقه - قال ثم يصعق الناس) فهذا دليل على أن الفزع يتبعه صعق .
وعلى العموم القول الأول أظهر من حيث دلالة الآيات وأن النفخات ثلاث : نفخ ?فِي الصُّورِ فَفَزِعَ? ونفخ ?فِي الصُّورِ فَصَعِقَ??ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ? ..
والنفخة الأولى على هذا التقسيم هي نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق .
ومعنى الصعق يعني الموت فهي نفخة يموت منها من سمعها ومن استثنى الله من ذلك الذين في قوله ?إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ? يستثنون من الصعق فلا يصعقون ، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (المقصود بمن استثنى الله هم الحور والولدان والغلمان في الجنة) وقال طائفة (وأرواح الشهداء) والأقوال في ذلك كثيرة .
نفخة الصعق هذه يكون فيها الإهلاك - يعني الموت - ، تموت الخلائق ويستعدون للقيامة الكبرى العظيمة للقيام لله رب العالمين .
بين نفخة الصعق ونفخة البعث ثَمَ مدة زمنية جاء بيانها في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول (بين النفختين أربعون) قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال أبيَتُ ، قالوا أربعون شهرا ؟ قال أبيتُ ، قالوا أربعون سنة قال أبيت . يعني أبيت أن أقول ما ليس لي به علم لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال أربعون وسكت ، قال (وكل شيء يبلى من ابن آدم إلا عَجِبَ الذَنَبْ ومنه يركب الخلق يوم القيامة) .(33/13)
وبيان ذلك كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الله جل وعلا بعد صعق الناس يُنْزِلُ بل قبل ذلك يغير الله جل وعلا الأرض تتغير الأرض ومعالم الأرض وتتغير معالم السماء فالأرض تغيرت ، تُدَكُّ الجبال ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا? يعني الأرض ، فتكون منبسطة بسطا واحدا فيستوي حين ذلك من دفن بين الجبال ومن دفن في الأرض السهلة فيستوون جميعا وتحصل أمور عظام و ?تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ? ?إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ? وقال ?إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ? يعني أن هذه الأمور تحصل بين النفختين .
ثم بعد ذلك يأمر الله جل وعلا السماء فتحمل مطرا كماء الرجال فتُمطَر به الأرض أربعون صباحا فتنبت منه أجسام الناس ، لأن أجسام الناس بقي منها بذور هي آخر عظام .. تنبت منه الأجسام هكذا فتنبت الأجسام كالأشجار تشقق الأرض وتنبت الأجسام بلا أرواح فتظل هكذا أجساما مستعدة قابلة للأرواح كحال الجنين ثم يأمر الله جل وعلا إسرافيل بأن ينفخ في الصور النفخة الأخيرة والعظيمة الجليلة هي نفخة البعث فتتفرق الأرواح إلى الأجساد فتهتز الأجساد بالأرواح ، قال ابن القيم رحمه الله في جميل ما قال في وصف ما يحصل إذ ذاك قال :
بعد الممات إلى المعاد الثاني وإذا أراد الله إخراج الورى
والله مقتدر وذو سلطان ألقى على الأرض التي هم تحتها
عشرا وعشرا بعدها عشران مطرا غليظا أبيضا متتابعا
مثل النبات كأجمل الريحان فتظل تنبت منه أجسام الورى
- يعني الأرض - حتى إذا ما الأم حان ولادها
وتمخضت فنفاسها متداني حتى إذا ما الأم حان ولادها(33/14)
فإذا الجنين كأكمل الشبان أوحى لها رب السما فتشققت
فيظل الناس هنا بعد عود الأرواح في غرابة من هذه الأرض فلا يعرفون هذه الأرض ولا يعرفون السماء ولهذا قال جل وعلا في آية الزمر ?فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ? ينظرون ما عرفوا هذه الأرض ولا عرفوا تلك السماء لأنها تغيرت وهذا من عجائب صنع الله هو جل وعلا الذي بدأ الخلق وهو الذي يعيده فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس والله سبحانه وتعالى له في خلقه عجائب وعجائب .
قال رحمه الله (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى)
يعني اليوم الآخر (فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ) يعني بنفخة البعث ، والذي ينفخ نفخة البعث هو ملك موكل بذلك اسمه فيما شاع إسرافيل .
إسرافيل هو الملك الذي وكل بالنفخ ، وقد قال عليه الصلاة والسلام (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ينتظر متى يؤمر بالنفخ) ...1
وهذا هو الذي يكون فيه الإيمان باليوم الآخر ، الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالأصالة بهذه القيامة العظمى .
قال (تَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ) صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ)
وهذه القيامة كائنة لا محالة وهي قريبةٌ قريبة ومن مات من أول الخلق يعني آدم ومن مات قرب قيام الساعة فهم في علم الله سواء لا يبعد بعد الزمن بمن مات متقدما ولا بقرب من مات متأخرا ،قرب الساعة ، لا يفترقان في الحقيقة وهما أرواح حلت في أجساد ثم فارقتها الأرواح ثم الجميع ينتظرون متى ينفخ ويستجاب لله جل وعلا وما أعظم قوله تعالى ?يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً? .
قال (فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
يقومون لرب العالمين لأنه هو الذي دعاهم لذلك .(33/15)
يقومون فيختلف حال المسلم عن حال غيره ، حال خاصة بالمؤمنين أنهم يحشرون إلى الرحمن وافدين كما قال جل وعلا ?يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا? يحشر المتقون إلى الرحمن وفدا يعني وافدين ، قال المفسرون : تجعل لهم نجائد من الجنة تنقلهم من قبورهم إلى عرصات القيامة وأما المجرمون فيساقون إلى جهنم وردا يعني بغلظة وشدة .
قال (حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)
يعني على هيأتهم كأنهم خرجوا من بطون أمهاتهم والأرض أُم ?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى? فيخرجون كحال خروجهم من بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا ، ومعنى غرلا أي غير مختونين ، وقد استعجبت عائشة حينما قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ذلك فقال : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال عليه الصلاة والسلام (يا عائشة الأمر أعظم من ذلك) يعني كل يقول نفسي نفسي لا يهمه أن يرى عاريا أو ما حوله ?تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ? يوم القيامة هو يوم العذاب العظيم ?إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ(7)مَا لَهُ مِن دَافِعٍ?.
(حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً) يظلون كذلك حفاة عراة غرلا يسيرون من قبورهم إلى أن يجتمعوا في العَرَصَات إلى أن يجتمعوا في عرصات القيامة ، و العَرَصَات المقصود منها الساحات العظيمة التي أعدها الله جل وعلا من الأرض لاجتماع الناس فيها ، ثم ينتظرون
فـ (تَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيَلْجُمُهُمُ الْعَرَقُ)
وحينذاك يُكسى الخلائق ، فأول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام ثم يكسى الناس أكسية لتستر عوراتهم .(33/16)
(تَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ) الله جل وعلا جعل الشمس إذ ذاك لها حالة أخرى فتدنو فـ (يَلْجُمُهُمُ الْعَرَقُ) ويشتد عليهم الحر ومن عجائب صنع الله في ذلك اليوم أن العرق بكل واحد خاص به وكل واحد يسبح في عرقه والآخر بجنبه لا يتأثر بعرق من بجانبه كل بحسب عمله .
(تَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ) ويظلون على ذلك زمنا طويلا ، يظلون في ذلك زمنا طويلا طويلا ?يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ? ثم يحصل من ذلك مجيء الملائكة في ظلل من الغمام وشيئا فشيئا فيطوقوِّن الناس صفا صفا يطوقوِّن الناس ، يطوقوِّن الناس ثم بعد ذلك ينزل الله جل وعلا في ظلل من الغمام .
ثم يتبع الناس بعد طول المقام طلبا في الشفاعة وأحاديث الشفاعة في ذلك معروفة لكن نريد أن نصل إلى نصب الموازين .(33/17)
يفزع الناس من الخلق إلى آم عليه السلام فيقال له يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول نفسي نفسِي اذهبوا إلى نوح ، فيذهبون إلى نوح ثم يذهبون إلى إبراهيم ثم يذهبون إلى موسى وكلٌ يذكر ذنبا أذنبه وهو منشغل في ذلك الموقف العظيم بذنبه فيُحِيل إلى من بعده حتى يأتون عيسى فيقول عليكم بمحمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولا يذكر ذنبا ، فيأتون للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ويطلبون منه الشفاعة العظمى فيقول (أنا لها) عليه الصلاة والسلام فيأتي ويخر تحت العرش فيحمد الله جل وعلا بمحامد يفتحها عليه قال عليه الصلاة والسلام (لا أحسنها الآن) محامد يعني أنواع من الثناء بين يدي الله جل وعلا فيظل ساجدا يثني على ربه حتى يقول له الرب جل وعلا (يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع) فيشفع عليه الصلاة والسلام أول الشفاعات وأعظمها في أن يعجِّل الله جل وعلا حساب الناس حتى يستريحوا من عذاب الموقف ومن هوله وما فيه فيحصل من ذلك أمور فيُعَجَّل للناس الحساب وتنصب كما قال شيخ الإسلام (الْمَوَازِينُ) والموازين جمع ميزان ، والميزان هو الذي يوزن به ، والميزان عند الله جل وعلا له كفتان كما قال جل وعلا ?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ? .
وقال هنا (تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ)
يعني أنها يُؤتَى بها فتُنْصَب بين الخلائق حتى يوزن بها أعمال العباد ويوزن بها العباد وتوزن بها الصحائف .
والموازين جمع ميزان ويوم القيامة هل ثَم ميزان واحد أو موازين ؟
" قال طائفة من أهل العلم هو ميزان واحد .(33/18)
" وقال آخرون هي موازين لظاهر قوله تعالى ?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا? ، ولأجل هذا الظاهر قال شيخ الإسلام و(تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ) وهو الظاهر أنها موازين وليست ميزانا واحدا ، وكل منها ميزان حقيقي ليس وهميا ولا معنويا ، ميزان حقيقي له كفتان وله لسان كما جاء ذلك في الأحاديث وكما هو ظاهر لفظ الميزان
قال (فَتُوزَنُ فيها أَعْمَالُ الْعِبَاد) (?فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ () وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ?)
قوله (تُوزَنُ فيها أَعْمَالُ الْعِبَاد) هذا أحد ما يوزن يوم القيامة ، والذي دلت عليه النصوص أن ما يوزن يوم القيامة في الموازين ثلاثة أشياء :
" الأول الأعمال .
" والثاني صحائف الأعمال .
" والثالث صاحب العمل ، ويدل على هذا الثالث قوله عليه الصلاة والسلام في ابن مسعود حينما ضحك الصحابة من حموشة ساقيه أو دقة ساقيه قال (إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد) وثبت أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) إذ الوزن للأجسام المراد منه ما في الروح من حقائق الإيمان فمن كان أعظم إيمانا كان أثقل ولهذا من كان أعظم إيمانا ثَقُلَ ولم يزِل عند العبور على الصراط .
قال (وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ)
وهذا يتطلب أيضاً كلاما أيضا فيه شيء من التفصيل لأن شيخ الإسلام اختصر بعض ما يحصل في ذلك الموقف ، وهذا من العلم المهم أن يعلم طالب العلم ما يكون بحسب ما دلت عليه النصوص منذ موت الميت إلى أن يدخل أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ ، العلم بذلك على تفاصيله من العلم النافع الذي يمتاز به المريدون للعلوم النافعة وقد قال ابن القيم في وصف العلوم النافعة :(33/19)
من رابع والحق ذو تبيان والعلم أقسام ثلاث ما لها
وكذلك الأسماء للديان علم بأوصاف الإله وفعله
وجزاؤه يوم المعاد الثاني و الأمر والنهي الذي هو دينه
فهذا ثلث العلم : العلم بالجزاء وكيف يجازي الله جل وعلا وما يحصل وبما يجازي وما جزاء الحسنة وما جزاء السيئة إلى آخر ذلك .
وللموضوع إن شاء الله تعالى تتمة وتفصيلات في الأسبوع القادم بإذن الله .
نجيب على بعض الأسئلة في هذا المقام :
يقول : هل يقع السؤال في القبر والفتنة على أولاد المشركين وأهل الفترة ؟
الجواب : نعم ، السؤال عام ويكون جوابهم بحسب ما يؤول إليه حالهم وما يعلمه الله جل وعلا عنهم لكن لا يُنَعَّمون إذا كانوا من أهل النعيم ولا يعذبون إذا كانوا من أهل العذاب يعني أولاد المشركين وأهل الفترة إلا بعد قيام الحجة عليهم ببعث رسول لهم في عرصات القيامة .
هل صح حديث بأن اسم الملكين منكر و نكير ؟
نعم هذا الحديث حسن وله طرق ولهذا صححه جماعة من أهل العلم وأثبتوا بذلك اسم المنكر والنكير ، بعض من ألف في ما يحصل في القبر قال هو مُنْكِر ونكير ليس منكَر هو مُنْكِر لأنه ينكر على المقبور بفتنته لكن الصواب أنه مُنْكَر ونكير من جهة أشكالهما فإن أشكالهما تُنكَر وتَرُوعُ الميت .
هذا السؤال جيد ، يقول : هل أحد يستثنى من فتنة القبر ؟
نعم ورد في الأدلة أصناف من الناس لا تشملهم فتنة القبر فمنهم الشهداء مع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، الشهداء ، من يموت ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، هؤلاء يُؤمَنُونَ الفتان وهذا بابه جمع الأحاديث الواردة في هذا وهي أحاديث كثيرة منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف وهذا الذي ذكرت لكم الذي صحت به الأحاديث أو قبلت به الأحاديث .
ما الدليل على أن الكافر يصرح بمعبوده ؟
لأنه لا بد أن يجيب ، فإذا سئل من ربك فإنه لا بد وأن يجيب على ذلك .(33/20)
لا يعني ما جاء في الحديث أنه يقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته أو يقول لا أدري أن هذا يشمل كل الكفار ، الكافر يجيب بحسب الحال .
متى يكون الحوض على الصحيح ؟
ما يتعلق بالحوض يأتينا إن شاء الله تعالى بحثه .
هل تذكر لنا كتابا ذكر ما يحصل في يوم القيامة مرتبا واهتم المؤلف بالأحاديث الصحيحة .
الحافظ ابن كثير في كتابه النهاية ذكر ذلك مرتباً جيدا في علم واسع فيه ، وثَمَ كتاب لكنه لم يطبع للسفَّاريني ذكر فيه أحوال القيامة وما يحصل فيها من النشور إلى دخول أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ مرتبا وذكر فيها الأدلة لكن طُبع جزء منه في الهند قديما الجزء الأول منه ولم يطبع بقيته فهو في حكم المفقود ، وأظن حققت رسالة في كلية أصول الدين أو شيء لكن لا زال لم يطبع .
ما هو الدليل على أن للموازين كفتين يوم القيامة ؟
الموازين لها كفتان لأن الله جل وعلا سماها ميزانا وإذا سماها ميزانا فهو على ظاهر اللفظ فهو ميزان وموازين وكل ميزان له كفتان ولسان ، وهذه ذكرها ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد وقال له كفتان ولسان ، وهذا لأجل ظاهر الآية وأظن جاء فيه حديث لكن لا يحضرني الآن .
هل ورد أن الشهيد والمبطون والذي مات مرابطا في سبيل الله ومن مات يوم الجمعة يؤمَنون من فتنة القبر
هذا سبق الجواب عليه .
......
هذا استدلال جيد ، حديث البطاقة قال (فتوضع في كفة فترجح سيئاته فيقال هل لك من عمل فيقول لا فيؤتى له ببطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله فتوضع قال فتطيش السجلات) يعني سجلات الذنوب ، هذا استدلال جيد ، كذلك حديث أبي سعيد المعروف أن موسى قال لربه جل وعلا (يا رب علمني شيئا أدعوك وأذكرك به) قال (يا موسى قل لا إله إلا الله) قال (يا رب كل عبادك يقولون هذا) قال (يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع كانت في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله) .
هل الموتى يسمعون ؟(33/21)
هذا بحث يطول تقريره ويكفي في ذلك حديث (وإنه ليسمع قرع نعالهم) وهم يسمعون ولا يسمعون ?وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ? هم يسمعون في حال ولا يسمعون في حال .
ما الدليل على أن الخلائق يكسون يوم القيامة الثياب ؟
الدليل قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أول من يكسى من الخلائق إبراهيم) ...
......
يوزن ثلاثة أشياء العمل والصحائف وصاحب الأعمال .
......
هو العمل منه ، قول وعمل واعتقاد هذا منه ?فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ? هذا ليس من الاكتساء هذا عذاب لهم في النار .
هل السؤال والجواب في القبر يكون باللغة العربية ؟
الجواب أن عامة أهل العلم على أن السؤال والجواب يكون باللغة العربية إذا كان المقبور من أهل العربية وشذ بعضهم فقال إنه ورد أن لغة أهل الجنة هي السريانية وبالتالي يكون السؤال بهذه اللغة ، وهذا غير صحيح فإن المقصود من السؤال سؤال القبر جواب المقبور وهذا المجيب يجيب بلغته فكل يرد بلغته
....(33/22)
... يعني حديث موسى هذا رواه مسلم في الصحيح ولكن أُعِلَ أيضا وكون موسى عليه السلام يصلي ومر عليه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهو يصلي في قبره هذا لا يعني أن روحه لا تكون في الجنة فهو عليه الصلاة والسلام مر في حال الإسراء ورأى موسى يصلي وصعد تلك الليلة في المعراج ورأى موسى في السماء يعني روحه في السماء ، فهذا يدل على أن حال الأرواح لا تَقِسْ ذلك بحال الدنيا ، الله جل وعلا أعلم بحقيقة ذلك ، ترى الأرواح في المنام مثلا يحصل عجائب لروحك وأنت نائم عجائب فيمن تلتقي به إلى آخره ، وتحصل إلتقاء أرواح موتى بأحياء في حال المنام ويخبر الميت هذا الحي بأشياء لا يعرفها الحي ، يخبره بأشياء لا يعرفها ، يقول مثلا قل لفلان كذا وكذا وكذا وهو ما يعرف أصلا القصة ويخبره بأشياء لا تُعْرَف ، فهذا عالم عجيب الله أعلم به وحقيقته ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً? .
......
... الحديث (نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة) نسمة المؤمن طائر ، وأما أرواح الشهداء في في حواصل طير خضر .
......
... الأحاديث (نسمة المؤمن طائر) هذا شيء فالمؤمن نسمته طائر يعلق من ثمار الجنة (وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر) هذا قسم ثاني ، إذا ورد - أنا ما أحفظ الآن ما أتذكر شيئ - يعني ورد أن أرواح المؤمنين جميعا في جوف طير ، لكن إن ورد فيقصد بهم الشهداء لأنه يكون مطلق وذاك يكون مقيد إن ورد ، لكن يراجع البحث في الطحاوية أظنه غير ما ذكر .
......
ما صعد نعم هو لقيه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ... لقيه في السماء ما صعد .. يعني هو لقيهم عليه الصلاة والسلام في المسجد صلى بهم ولقيهم في السماء لكن ما مشوا معه .. لأنه هو ذهب بجسده وروحه عليه الصلاة والسلام وهم بأرواحهم ...
.....(33/23)
يعني أنت تقصد أن هذا خاص بموسى ؟ و لا بكل الأنبياء وكل الأموات منهم في الجنة أجسادهم تصعد فوق في الجنة ... لأن جسده في الأرض مدفون ، اللي رُفع جسده من الأنبياء عيسى عليه السلام فقط وليس ثم أحد غير عيسى ... لكن كونه عليه الصلاة والسلام لقي ليلة عرج به لقي الأنبياء فلان وفلان قال العلماء يعني لقي أرواحهم إلا عيسى السلام فإنه لقيه جسدا وروحا لأنه هو الذي رفع إلى السماء ظاهر؟
فإذن الأنبياء مقبورون مدفونون والذي في السماء منهم يعني في الجنة منهم من المؤمنين إنما هي الأرواح وإلا هم مكانهم في الأرض ، ما ترفع الأجساد من الأرض ، اللي رفع حيا عيسى عليه السلام وإذا نزل آخر الزمان إلى الأرض فإنه يموت ويدفن كما دفن بقية الأنبياء ... ?وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا? ما أستحضر أن المراد رفع الجسد والله أعلم ...
(نسمة المؤمن طير) والشهيد (في حواصل طير خضر) يعني الشهيد جمع بين الأمرين بين كونه طير وفي جوف طير ، لكن ليس كل مؤمن في حواصل طير ، لا ، وأنها (تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش) هذا خاص بالشهداء .
في هذا القدر كفاية .
وأسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم بالعلم وأن يرزقنا الاستعداد ليوم المعاد .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ?وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا?[الإسراء:13-14].
وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.(33/24)
وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا.
وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا.
وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم.
فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.
وَأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ.
وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:(33/25)
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة.
وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا.
وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ.
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا وعملا صالحا ودعاء مسموعا اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملا ودرجة إنك ولي ذلك ولا حول ولا قوة إلا بك ، أما بعد :(33/26)
فهذا الذي سمعتم تتمة لتفاصيل ما يحصل في اليوم الآخر وذكر مشاهده وما يكون فيه من الأمور التي هي من جملة ما يجب أن يؤمَن به لأنها من اليوم الآخر ومن فرائض الإيمان الإيمانُ باليوم الآخر ، ومن علم من ذلك شيئا فإنه يجب عليه أن يعتقده وأن يؤمن به لأنه مأخوذ عن الكتاب أو السنة وما كان فيهما وجب اعتقاده ووجب الإيمان به وحَرُمَ الشك فيه أو التردد .
ذكرنا فيما سبق نصب الموازين وأن الله جل وعلا ينصب الموازين في ذلك اليوم العظيم ?فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ()وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ? .
ومما يحدث في ذلك اليوم نشْر الدواوين قال شيخ الإسلام رحمه الله فيما سمعتم (وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَمِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ) إلى آخر كلامه قال :
(وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ)
تنشر أي تُظهر والنشر هو الإظهار حتى لا يكون خفيا .
و (الدَّوَاوِينُ) جمع ديوان والديوان اسم لما يدوَّن فيه يعني لما يكتب فيه ، فلهذا فسر شيخ الإسلام الدواوين بأنها (صَحَائِفُ الأَعْمَالِ) .
فالدواوين هي الكتب وهي صحائف الأعمال :
فهي كتب باعتبار الناس وباعتبار الأمم فلكل أمة كتاب ولكل أمة إمام وكذلك لكل إنسان كتاب
وهي صحائف أعمال الناس .
فهذه يوم القيامة تنشر يعني ينشر ما فيها فيُرَى ذلك والناس يرون ذلك ويعلمون ما عملوا .
وهذه الكتب وتلك الدواوين أو تلك الصحف يؤتاها الإنسان وهي التي طارت عنه كما قال جل وعلا ?وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا? .(33/27)
?كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ? الطائر هو ما يطير عن الإنسان من العمل من خير أو شر لأنه كأنه كان في سعة قبل أن يعمل فلما عمل طار عنه ولم يعد يتمكن من إرجاعه إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر فسمي ما يعمله الإنسان طائرا لأنه طار عنه ، وقال بعض أهل العلم : سمي طائرا لأنه يحصل منه - يعني من العمل - يحصل منه وبسببه السعادة أو الشِقوة وهكذا كانت العرب تتطير بالطيور فيحصل من تطيرها فيما يعتقدون إما أن يقْدموا وإما أن لا يقدموا على العمل أو السفر فسمي طائرا باعتبار النهاية أنه يحصل منه السعادة والشقاوة بحسب ما جرى من الاستعمال . والأول هو الصحيح وأن الطائر سمي طائرا - يعني العمل سمي طائرا - لأنه طار عن المرء فلا يمكن استرجاعه ودوِّن في كتاب .
قال جل وعلا ?وَكُلَّ إِنسَانٍ? هذا عموم يشمل المسلم والكافر .
?أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ? يعني جعل ذلك الذي خرج منه الذي صدر منه من الأقوال والأعمال أقوال القلوب وقول اللسان وعمل القلب واللسان والجوارح جعل ملازما له في عنقه كالقلادة لا تنفك عنه فهي ملازمة له يوم القيامة لأن هذه كتبتها الملائكة فهي ملازمة للإنسان ، يوم القيامة يُخرَج له كتاب كما قال جل وعلا
?وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا? فيوم القيامة تخرج الدواوين وتنشر ويراها المرء ويُريها أيضا ، قال سبحانه
?يَلْقَاهُ مَنشُورًا? يعني ينشر ولهذا قال شيخ الإسلام (وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ) فتعبيره بـ (تُنْشَرُ) لأجل هذه الآية ولغيرها ?صُحُفًا مُّنَشَّرَةً? يعني تنشر ويعرفها وتُعرف أيضا .
هذا الكتاب هو الديوان فهذه الكتب تتطاير والناس يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح يُعْرَضُون ثلاث عرضات على الله جل وعلا :
" فعرضتان جدال ومعاذير .
" ثم العرضة الثالثة تتطاير حينها الصحف ، وتتطاير الدواوين والكتب .(33/28)
وهذه العرضة الثالثة التي فيها التطاير يكون بعدها التقرير ، ولهذا نشر الدواوين يكون قبل الحساب قال جل وعلا ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا?
قال ?فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا? فدل على أن ذلك الحساب يكون بعد نشر تلك الدواوين وبعد أخذ الصحف باليمين ، فمن أخذ صحيفته باليمين فإنه تكون تلك الصحيفة هي التي سُجِّلَت فيها الأعمال فيحاسب على ما فيها .
أما المؤمن فإنه يحاسب حسابا يسيرا تعرض عليه عرضا دون محاققة في الحساب ودون مناقشة ولو نوقش أحد الحساب لهلك ، مجرد تقرير : فعلت كذا ، فعلت كذا ، فعلت كذا ، ألم تفعل كذا ، أعرفت ذنبك كذا ، أعرفت فعلك كذا ، يقول الله جل وعلا له ذلك فإذا أقر قال الله جل وعلا له كما ثبت في الصحيح (إني سترتها عليك في الدنيا وإني أسترها عليك الآن) أو (أغفرها لك الآن) وأما الآخر فإنه يأخذ كتابه بشماله وراء ظهره كما سيأتي .
قال جل وعلا ?اقْرَأْ كِتَابَكَ? يعني اقرأ صحيفة عملك ، اقرأ هذا الكتاب الذي كتبته الملائكة مما عملت ومما قلت .
?كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا? في قوله هنا ?كَفَى بِنَفْسِكَ? يعني كفى نفْسُكَ إذ الباء هنا صلة للتأكيد فـ (نفس) هنا فاعل يعني كفى نفسُك اليوم عليك حسيبا يعني تكفي نفسك في نفسك كفاية اليوم عليك حسيبا .
والله جل وعلا مطلع على أعمال العباد وهذا النشر للدواوين وهذا الحساب الذي سيأتي بيانه أيضا هذا كله من رحمة الله جل وعلا بالعباد ولكي يقرر العباد بذنوبهم وبأعمالهم فلا يأخذ أحدا إلا بما صدر عنه .(33/29)
قال ?كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا? يعني بعد أخذ الكتاب اقرأ كتابك فأنت تحاسب نفسك يعني تقرر نفسك على ذلك العمل لأنه ليس ثَم حجة له .
وهذا لا ينفي ما يكون من بعض الناس من جدال في بعض ما يحصل لكن الجدال والمعاذير تكون عند تقرير الأعمال قبل إعطاء الصحف كما مر معك في الحديث أنها ثلاث عرضات عرضتان منها جدال ومعاذير فإذا جاء الكتاب ورأى ما عمل فإن الحجة قامت عليه ولا يُجْحَدُ شيئا كما قال جل وعلا ?وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا? يعني خاصة من عصى وكذلك عامة الناس أيضا لا يكتمون الله شيئا .
قال بعد ذلك (وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ)
ترتيب شيخ الإسلام هنا حيث جعل المحاسبة بعد نشر الدواوين هذا صحيح إذ إن الحساب وهو تقرير الأعمال يكون بعد نشر الدواوين وبعد أخْذ من أخَذ كتابه باليمين وأخْذ من أخَذ كتابه بالشمال .
مر معنا فيما سبق أن الناس في أخذ الكتب ينقسمون إلى قسمين :
" (آخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) - يعني في كلام شيخ الإسلام - .
" (وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَمِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ) .
فهما قسمان :
فمنهم من يأخذ الكتاب باليمين وهم المؤمنون أهل التوحيد أهل الإيمان .
ومنهم من يأخذ كتابه بالشمال من وراء الظهر وهم الكفار والفجار أعني المنافقين ، فهؤلاء يأخذون الكتاب بالشمال من وراء الظهر .
والله جل وعلا جعل أخذ الكتب في آية للكفار بالشمال وفي آية من وراء الظهر ، فمن أهل العلم من قال إنها ثلاثة أصناف ، يعني إن الناس الخلائق ثلاثة أصناف :
" منهم من يأخذ كتابه باليمين .
" ومنهم من يأخذ كتابه بالشمال .
" ومنهم من يأخذ كتابه وراء الظهر .(33/30)
والصواب هو القول الثاني الذي عليه أكثر المفسرين وهو أن من يأخذ كتابه بالشمال يأخذه بشماله من وراء ظهره فكما أنه ترك كتاب الله جل وعلا ظِهْرِيا ولم يُقبِل على كتاب الله جل وعلا فإنه يجازى بصفة أخذه لكتابه بأنه من شماله من وراء ظهره ، قالوا فتخلع شماله حتى يكون أخذ ذلك الكافر أو المنافق للكتاب من وراء ظهره .
المقصود أن قوله (وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَمِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ) هؤلاء صنف واحد وليس بصنفين .
قال بعد ذلك (وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ)
الحساب هو المقصود من الإيمان باليوم الآخر ، فإن الإيمان بالبعث معناه الإيمان بيوم يرجع فيه الناس إلى الله فيحاسَبُون فحقيقة الإيمان بالبعث هو الإيمان بالحساب لأنه ما ثَم شيء إلا سيحاسب الله جل وعلا عبده عليه ، وهذا الآيات فيه كثيرة في إثباته والأحاديث فإنكاره كفر بالله جل وعلا من أنكر الحساب يكون منكرا للبعث .
قال (يُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ) قوله (الخَلائِقَ) هذا ظاهر منه أنه يعم جميع الخلق ولكن هو من الظاهر العام المراد به الخصوص وهم خصوص المكلفون ، خصوص من كلفه الله جل وعلا ، إذ المحاسبة على ما عمل العبد من خير أو شر إنما هي للمكلف والمكلفون هم الإنس والجن فيحاسب الله الإنس ويحاسب الله الجن لأن الجن منهم المسلم ومنهم الكافر ، منهم من يدخل الجنة ومنهم من يدخل النار كما قال جل وعلا في حور الجنة ?لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ? فدل على أن الجن والإنس يدخلون الجنة كذلك يدخلون النار .
فإذن قوله (ويُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ) يعني المكلفين الجنة منهم والناس .(33/31)
قال (وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ) هذا معنى المحاسبة أن الله جل وعلا (يَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) والمحاسبة في ذلك المقام بالنسبة للمؤمن سرا ، يخلو الله جل وعلا بالعبد سرا ولا يعلمه أحد لأنه إذا حوسب على الملأ فإن في ذلك فضيحة له ، والله جل وعلا (يَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ) كما ذكرت لكم من الأحاديث (أتعرف ذنب كذا ، أتعرف ذنب كذا) فيُقَرَرً بالذنب ويُقَرَرُ بالعمل وهذا معنى الحساب وكل واحد سيكلمه الله جل وعلا ليس بينه وبينه ترجمان كما ثبت ذلك في الأحاديث ، وحساب الناس جميعا ، حساب الخلائق جميعا في ذلك المقام حساب سريع فالله جل وعلا لا يُشغِله شأن عن شأن وليس حسابه لعباده كحساب المخلوقين قال سبحانه ?أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ? هو أسرع الحاسبين لتمام علمه وقدرته وقوته وهيمنته جل وعلا فيحاسب الناس ، يحاسب المؤمنين ويحاسب الخلائق في وقت قصير قال بعضهم كلمحة بصر .
إذن محاسبة المؤمنين فيها تقرير العمل الصالح وتقرير العمل غير الصالح .
فيها تقريرهم بما لهم وما عليهم.
وأما الكفار فهل يحاسبون ؟
قال رحمه الله (وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حساب لَهُمْ)
وذلك لقول الله جل وعلا ?فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا? ولقوله جل وعلا ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا? فإنهم ليس عندهم حسنات حتى توازن حسناتهم وسيئاتهم.
والمقصود من المحاسبة هنا أن تعد عليهم أعمالهم ، ما عملوه في الدنيا من خير وما عملوه من شر فتحصى فيوقفون عليه ويقرون بها ويجزون بها .
أما ما عملوا من خير فإن أعمال الكفار في الدنيا :(33/32)
" منها ما يشترط فيه الإسلام والنية .
" ومنها ما لا يشترط فيه ذلك .
فأما ما يشترط فيه الإسلام فإنها لا تقبل منهم ولا تنفعهم لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وأما ما لا يشترط فيه النية والإسلام كمثل حسن الخلق وكمثل التيسير على المعسر وكمثل العتق وصلة الرحم ونحو ذلك فإن هذه يجازون عليها في الدنيا .
فيُبَيَّنُ لهم أن هذا ما لكم وأن هذا قد جوزيتم عليه لإظهار كمال عدل الله جل وعلا في خلقه .
فتبقى أعمالهم التي يظنون أنها تنفعهم في الدنيا أنها تنفعهم أعمالهم التي يظنون أنها صالحة من عبادات كانوا يتعبدون بها أو صلوات كانوا يصلونها أو دعوات كانوا يدعون بها فيجعلها الله جل وعلا هباء منثورا كما قال سبحانه ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا? يعني الأعمال التي يظنون أنها ستنفعهم في الآخرة وأما ما ينفع الكافر مما لا يشترط فيه الإسلام والنية فإنه ينفعه في الدنيا وأما في الآخرة فإنه يجعل هباء منثورا .
قال (لا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حساب لَهُمْ) يعني لا وزن ، أراد بقوله (لاَ حساب لَهُمْ) يعني لا وزن ، والكافر لا يقام له يوم القيامة وزنا كما قال جل وعلا ?فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا? .
ويكون بعد ذلك عد لأعمالهم ، تحصى أعمالهم (يوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا) هذا ما عملت جاءتك الأنبياء جاءتك الرسل - الأنبياء يعني الرسل - و بلغوك كما قال جل وعلا ?فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ? الآيات .
قال بعد ذلك (وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
.....(33/33)
ما في شك أن قوله (يحاسب الخلائق) - يعني تنبيه جيد جزاك الله خير - (ويُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ) فيه من لا يحاسب أصلا وهم السبعون ألفا الذين لا حساب عليهم ولا عذاب الذين أتوا في الحديث المشهور قال عليه الصلاة والسلام عن أمته (وفيهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب) وهؤلاء هم الذين حققوا التوحيد وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) إشارة إلى صفات تدل على تحقيقهم للتوحيد ، فهناك من لا حساب عليه ولا عذاب وهؤلاء هم السبعون ألفا.
حوض النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
ومكانه وصفاته
قال (وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
(عرصة) هذه العرصة هي الفناء الواسع الذي لا بناء فيه ، ساحة عظيمة لا بناء فيها وهكذا الأرض يوم القيامة فإنه لا بناء فيها لأحد ، وعرصات القيامة هي الأماكن التي يجتمع فيه الناس وينتظرون فيها حسابهم ، هذه هي عرصات القيامة ، وهناك عرصات الجنة وهي ما بعد جواز الصراط وقبل دخول الجنة هناك أيضا عرصات ساحات كبيرة يجتمع فيها الخلق لدخولهم لدار المقام
قال (فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) يعني أن حوض النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الذي جاءت به الأحاديث الذي دل عليه قوله جل وعلا ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ? هو في عرصة القيامة يعني أنه ليس بعد العبور على الصراط وإنما هو في عرصة القيامة في الأماكن التي يقوم فيها الناس لرب العالمين ، وهذا من شيخ الإسلام رحمه الله إثبات لأن الحوض قبل الصراط .
والعلماء تنازعوا : هل الحوض قبل الصراط أم بعد الصراط على أقوال :
" منهم من يقول إنه قبل الصراط .
" ومنهم من يقول هو بعد الصراط .(33/34)
" ومنهم من يقول هو قبل الصراط وبعده حوض واحد ممتد من عرصات القيامة إلى العرصات التي قبل الجنة .
" ومنهم من يقول هما حوضان : قبل الصراط حوض وبعد الصراط حوض .
والله جل وعلا أعلم بكيف يكون الصراط على هذه الحال وجهنم واسعة والصراط منصوب على متنها .
وما ذكر من أن الحوض قبل الصراط هذا ظاهر وهذا صحيح وذلك أن الناس يجتمعون يوم القيامة بعد أن يخرجوا من قبورهم يجتمعون في ذلك المقام العظيم بين يدي الله رب العالمين لانتظار نزول الرب جل وعلا والحساب فيكرم الله جل وعلا نبينا محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بأن يعطيه ذلك الحوض الذي امتداده يعني مدده من جهة الماء من الجنة ، فيعطيه ذلك في عرصات القيامة .
قال العلماء : كون الناس يخرجون من قبورهم ويظلون في ذلك الموقف وقتا وزمانا طويلا وعظيما يناسب أن يكون الحوض قبل الصراط لأنه من شرب منه شربة لم يظمأ بعده أو بعد تلك الشربة أبدا ، فناسب أن يكون تخفيفا على المؤمنين الذين يرِدون على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ...1
الصراط لأن المُقَام في ذلك اليوم يوم القيامة لأنه مُقَامٌ طويل جدا والناس في حاجة إلى أنواع من الأمن فيه ومن الأمن أن يسقوا شربة لا يظمؤون بعدها أبدا ، وهذا صحيح ، فإن ذلك الحوض قبل الصراط .
وهذا لا يمنع أن يكون ثَمَ حوض آخر بعد الصراط وذلك لأنه قد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (يرد علي ناس من أمتي الحوض فأعرفهم) وفي لفظ (يرد على ناس من أصحابي الحوض فأعرفهم ثم يُخْتَلجُون دوني فأقول رب أمتي أمتي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وفي رواية أخرى (قال أصحابي أصحابي ، قال إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم مذ تركتهم) يعني من ارتد بعد النبي عليه الصلاة والسلام (فيُخْتَلَجُون) يعني يؤخذون إلى النار ، قالوا فهذا دليل على أنه يكون بعد العبور على الصراط لأنهم يؤخذون فيدفعون إلى النار .(33/35)
وكلام شيخ الإسلام هنا ظاهر في أن الحوض الذي أوتيه محمد عليه الصلاة والسلام فإنه يكون قبل الصراط وهذا واضح ، وقد وصف في الأحاديث بصفات تأتي إن شاء الله .
والحوض ليس خاصا بالنبي عليه الصلاة والسلام بل لكل نبي من الأنبياء حوض ، فإنه تكرِمَة لكل نبي وأمن لأتباع الأنبياء والمرسلين وقد جاء ذلك في حديث رواه الترمذي واعتمده به العلماء من أنه لكل نبي حوض .
وأول تلك الأحواض يظهر ويرد عليه الناس هو حوض النبي عليه الصلاة والسلام فإن هذه الأمة آخرة ولكنها سابقة كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال (نحن الآخرون السابقون الأولون يوم القيامة بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا) يعني إلا أنهم أو غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، فهذه الأمة آخرة ولكنها سابقة يوم القيامة .
هذا الحديث يدل على أن هذه الأمة تسبق الأمم جميعا في كل شيء في ذلك اليوم العظيم ، فتسبق في الحشر في أرض المحشر وتسبق في الشربة من حوض النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهذا الحوض يظهر وتشرب منه هذه الأمة قبل أحواض الأنبياء وتسبق في المحاسبة وتسبق في الوزن وتسبق في أخذ الصحف إلى آخر ذلك إذ اللفظ عام (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ولم يقيد أو لم يخص ذلك بنوع من أنواع السبق ، كذلك يسبقون إلى دخول الجنة قبل غيرهم من الأمم ، فمحمد عليه الصلاة والسلام هو أول من يدخل الجنة ثم الأنبياء والمرسلون ثم هذه الأمة تكرِمة من الله جل وعلا لها فهم السابقون يوم القيامة .
فهذا الحوض هو أول الأحواض ظهورا وأول من يرد عليه ، أول من يرد على تلك الأحواض هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام يكون لهم استراحة وطمأنينة في ذلك .(33/36)
وها هنا سؤال معروف وهو : أنه تتكرر أشياء في يوم القيامة ونتيجتها أنها أمن وأمان للمؤمن ، فهل يستمر خوف المؤمن في كل ما يحصل ذلك اليوم ؟ يعني من حوسب فوجد الحساب يسيرا فإنه مؤمن ومن أخذ الكتاب باليمين فإنه مؤمن ومن شرب من الحوض فإنه لا يشرب منه أصلا إلا مؤمن ، فما معنى هذا التكرير أنه يحصل له ذلك ؟ هل يظل خائفا أم أنها زيادة طمأنينة ؟
الظاهر أنه ما يحصل في ذلك اليوم والله أعلم ، أنه ما يحصل في ذلك اليوم ليس مُسْتَتْبَعاً فيه العلم الذي في الدنيا ، هذه تحتاج منكم إلى بحث ونظر وسؤال ، فإن ما يحصل ذلك اليوم ليس مُسْتَتْبَعاً فيه ما علمت في الدنيا يعني أن ما علمت في هذه الدنيا مما يحصل يوم القيامة فإنه في الظاهر والله أعلم أنه لا يصحب الإنسان لا يصحب المسلم المؤمن في ذلك اليوم فإذا شرب فإنه لا يأمن ، وإذا أعطي كتابه باليمين فإنه لا يأمن وإذا حوسب فإنه لا يأمن يعني أن يكون ممن حقت عليهم بعض كلمات الله جل وعلا أو أن يكونوا ممن يعذبون شيئا يعني في عرصات القيامة أو ممن حقت عليهم الكلمة فيعذبون شيئا في النار .
هذه مسألة بحث تأملوها .
على العموم هي زيادة طمأنينة للمؤمن فإنه يطمئن بالشرب من الحوض وأنه من أتباع محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ويطمئن بالورود تحت لواء النبي عليه الصلاة والسلام ويطمئن بأن يكون حسابه حسابا يسيرا ، ولهذا قال العلماء في قوله ?فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا? إلى أهله يعني من في الجنة من الحور والأهل ينقلب إليهم مسرورا ليس إلى أهله الذين كان يعهدهم في الدنيا وإنما أهله الذين جعلهم الله جل وعلا أهلاً له في الجنة .
فهذه أنواع من الطمأنينة يحصل بها للمؤمن الأمن والأمان وعدم الحزن في ذلك الموقف العظيم .
قال رحمه الله في وصف الحوض (ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ)(33/37)
(ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ) كما جاء في بعض الأحاديث في الصحيحين وجاء في بعضها أنه أشد بياضا من الوَرِقْ يعني الفضة ، وأطيب رائحة من المسك (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) فله هذه الصفات يعني لمائه :
" أنه (أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ) .
" ورائحته أطيب من المسك يعني المسك الخالص الطيب الذكي الذي كان معروفا في زمنه عليه الصلاة والسلام فهو أطيب المشمومات .
" (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) العسل الخالص .
وهذا الماء مدده من الجنة قال جل وعلا ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ? والكوثر نهر أعطاه الله جل وعلا محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الجنة .
وقال عليه الصلاة والسلام في وصف كوثره (وهو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة) .
فـ (الكوثر) نهر وهو حوضه ، وجاء في حديث آخر أنه (يَشْخُبُ في الحوض ميزابان من نهر الكوثر في الجنة) وسمي حوضا له لأنه - الحوض - ماؤه من ذلك النهر فإذن ماء النهر يصب في هذا الحوض فكلما شرب منه أناس ونقص صار ملآناً بما يُمد به من الكوثر الذي هو نهر أعطيه النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة .
قال (آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ)
وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة والسلام (آنيته كنجوم السماء) فهذان اللفظان مختلفان :
" الأول (آنيته عدد نجوم السماء) وهذا من جهة العدد يعني من جهة الكثرة أنه ككثرة نجوم السماء .
" وفي الثاني قال (آنيته كنجوم السماء) والكاف هذه مثليّة وهي مثلية تشمل العدد والوصف يعني من جهة الإضاءة واللمعان .
فإذن (آنِيَتُهُ) الآنية المعلقة على جوانب ذلك الحوض موصوفة بأنها كثيرة جدا كثرة نجوم السماء وموصوفة أيضا بأنها ذات لمعان وضياء كلمعان وضياء النجوم التي في السماء .
قال في وصفه عليه الصلاة والسلام أيضا (طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ)(33/38)
وجاء في رواية أخرى أيضا في الصحيح (زواياه سواء) وهذا (طُولُهُ شَهْرٌ) يعني مسيرة الإبل (وَعَرْضُهُ شَهْرٌ) وقال (زواياه سواء) هذا يقتضي أنه مربع طوله وعرضه سواء يعني مربع ، قال بعض أهل العلم (طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ) يحتمل أن يكون مدوّرا لكن في الحديث الآخر (زواياه سواء) يعني أنه مربع والله أعلم .
(مَن يَّشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا)
هنا (مَن) تكون شرطية يعني اسم موصول مُضَمَّنْ الشرط (مَن يَّشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً) فما جزاء ذلك ؟ قال (لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا) أو (لا يظمأْ بعدها أبدا) (مَن يَّشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا) أو تقول (مَن) هنا موصولة بدون شرط يعني بمعنى الذي : الذي (يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا) .
الميزان والحوض مما أنكره المعتزلة وأقر به عامة المخالفين لأهل السنة يعني من الأشاعرة وغيرهم ، والمعتزلة يجعلون الميزان بمعنى العدل وأنه ليس ثَم ميزان له كفتان يعني ميزان حسي وإنما هو ميزان معنوي وهو إقامة العدل ونفيُ الظلم في ذلك الموقف العظيم .
كذلك الحوض أيضا ينكرونه ويقولون لا حوض - يعني لا يُتصور هذا - وإنما الحوض المقصود منه ما يحصل في قلوب المؤمنين من البرد والطمأنينة بنعمة الله وإنعامه عليهم في ذلك المقام .
وهذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل بالتواتر على - يعني من جهة النقل متواترة وتدل دلالة قطعية على - أنه كما وصف لأنه وصف صفات عديدة لا مجال فيها إلى أن يؤوَّل ، ثم إن أمور الغيب لا تقاس على أمور الشهادة والله جل وعلا يخلق خلقه وينشئُ ما يشاء ويبدع ما يشاء لا معقب لحكمه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد .
ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى الصراط ، وقبل الدخول في ذلك ، نعيد ترتيب ما يحصل مما سبق :(33/39)
إذا نُشر الناس من قبورهم ووافوا الموقف فإنه يكون الحوض هذا أولا ، يعني ترتيب ما سبق ، الحوض .
ثم يأمنون فيظلون هكذا زمانا طويلا يقومون بين يدي الله جل وعلا رب العالمين قبل أن ينزل الله جل وعلا لفصل القضاء وفي هذه الحال الشمس قد دنت منهم وتفاوت عرقهم بحسب أعمالهم .
ثم تنزل الملائكة وتجيء صفا صفاً وتحيط بالخلائق .
ثم ينزل الله جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمته فيقوم الناس لرب العالمين خاشعين منيبين فيطول عليهم الموقف جدا ثم يذهبون إلى النبي عليه الصلاة والسلام طلبا للشفاعة بعد أن يطلبوها من آدم إلى آخره كما سيأتي ، فيشفع فيبدأ الحساب ، يشفع في أن يعجل فصل القضاء فيُبدأ بالحساب .
وقبل الحساب يكون العرض ، عرضات فيها جدال ومعاذير وهي من الحساب لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حينما سألته عائشة فقالت له أوليس الله يقول ?فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا? قال (ذلك العرض ، ومن نوقش الحساب هلك) وفي رواية (عذِّب) يعني أن اسمه حساب وهو عرض .
قبل الحساب - يعني هذا العرض نحن ذكرنا العرض - ثُمَ تنشر الدواوين وتطير الصحف فآخذ كتابه باليمين وآخذ كتابه بالشمال في أثناء العرضة الثالثة ، يعني عرضتان جدال ومعاذير ، وفي أثناء الثالثة تطير الصحف ويأخذ الناس ، فيأتي المؤمن في بقية تلك العرضة فيحاسب حسابا يسيرا ، اطلاع ، يطلع على عمله فقط ويستر عليه ، ويحاسب الكافر على ذلك .
ثم يكون الوزن ، بعد الحساب يكون الوزن وهذا هو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .(33/40)
بعد الوزن يكون الناس قد عرفوا ، عرف كلّ ما له وما عليه ، وعرف كلّ مصيره فينادي منادي أن تتَّبِعَ كل أمة ما كانت تعبد ، فهنا يحشر الناس ويكون الناس أزواجا ?احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ? ?الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ? يعني نظراءهم وأشباههم وقرناءهم في الكفر ، فيقال أن تتَّبِعَ كل أمة ما كانت تعبد ، قال جل وعلا عن فرعون ?فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ? فيأتي كل معبود وكل طاغوت فيتَّبِعُهُ من كان يعبده فيتهافتون في النار قبل نصب الصراط لأن الصراط هو لجواز المؤمنين إلى الجنة ، لعبور المؤمنين من على النار إلى الجنة فيتهافتون في النار تهافتا لأنه ثَمَ قبل الصراط وقبل النار ظلمة وهذه الظلمة التي قبل النار لا يعرف الكفار فيها أين المسير ، بل يذهبون يتقدمون يتبعون معبودهم حتى يتهافتون في النار ، وأما من كان يتبع معبودا صالحا كمن كان يعبد عيسى والعزير قال بعض أهل العلم إنه يُمَثَّلُ لهم ملك في صورة المسيح أو في صورة العزير أو من عبد محمدا عليه الصلاة والسلام في صورة محمد عليه الصلاة والسلام، ملك ، هذا جاء في حديث الصور (فيمثل لهم ملك في صورة عيسى وفي صورة العزير) فيتبعونه فيهوي بهم فيقودهم إلى جهنم ، قال آخرون يُمَثَّلُ لهم - لأن حديث الصور فيه ضعف كما ذكرت لكم - يُمَثَّلُ لهم شيطان على هيئة عيسى ، أو الشيطان الذي أمرهم بعبادة عيسى فإنه يتمثل لهم في تلك الصورة ، أو الشيطان الذي أمرهم بعبادة العزير أو إلى آخره يمثل لهم بتلك الصورة فيتبعونه حتى يتهافتون في النار والعياذ بالله .
ثم تنتهي الأمم ، يتهافتون فيدخل أهل النار النار حتى لا يبقى إلا المسلمون الذي أسلموا ظاهرا وباطنا أو ظاهرا ، يعني تبقى هذه الأمة والأمم وفيهم المنافقون .(33/41)
ثم يُنْصَبُ الصراط على متن جهنم ، وأول من يجوز الصراط أمة محمد عليه الصلاة والسلام فيتقدم عليه الصلاة والسلام إلى الصراط .
وقبل الصراط ثَمَ ظُلْمَة (أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) قال (هم في الظلمة دون الجسر) يعني دون الصراط ، ثَمَ ظلمة عظيمة ، هذه الظلمة يمضي فيها المسلمون ، يأتيها يعني يقدم عليها المسلمون والمنافقون ، الجميع كانوا في نور ، ثم إذا قبل النار أتت هذه الظلمة فيبصر المؤمن بنوره والمنافق ينطمس نوره ، فيقول المنافق للمؤمن ?انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ? يعني بعد العبور على الصراط ، فيؤتى كل واحد نور على قدر عمله .
ثم يؤتى بالصراط ، ثم يكون الصراط منصوبا على متن جهنم ثم يأتي النبي عليه الصلاة والسلام فيعبر ثم تعبر هذه الأمة قبل الأمم .
وهذا العبور سيأتي بيان الكلام على الصراط وصفة العبور ، هذا العبور هو ما جاء في القرآن بأنه الورود ، ورود المؤمن على النار ، قال ?وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا? الورود ورودان :
1 - ثَم ورود ورود دخول 2 - وثَم ورود مرور .
ورود المؤمن على النار هو ورود مرور عليها إذا كان ممن سيعبر الصراط وإذا كان من أهل الوعيد ممن سيدخلون النار ويطهرون فإنهم سيدخلونها .
إذن هذا تفاصيل ما سيحصل من البعث إلى نصب الصراط .
الصراط
معناه ومكانه وصفته مرور الناس عليه
ثم تعبر الأمم كما ذكر شيخ الإسلام هنا قال (وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجَسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)(33/42)
منصوب على متن جهنم يعني على ظهرها ، لأن جهنم يجاء بها يوم القيامة ولها سبعون ألف زمام ولها ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ثم يوضع الصراط بعدما ذكرت لكم .
قال شيخ الإسلام (منصوبٌ) يعني أنه ينصب ..
انتهى الشريط التاسع عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط العشرون
قال شيخ الإسلام (منصوبٌ)
يعني أنه ينصب .
قال (وَهُوَ الْجَسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)
(الْجسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) ليس معناه أنه هو الوُصلة بين الجنة والنار ولكن يعني من عبره فإنه من أهل الجنة ، يعني لا طريق إلى الجنة إلا على هذا الصراط .
والأنبياء حين يعبرون عليه كل يقول (اللهم سلم سلّم) .
هذا الصراط وُصف بأنه دحْض مزلة وبأنه أدق من الشعر وأحد من السيف كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد بلاغا ، فله صفات .
قال بعض أهل العلم الصراط واسع لأن لفظ الصراط يدل على سعته ولأن كونه دقيقا وحادا هذا لم يثبت به الدليل الصحيح والأنسب أن يكون عريضا واسعا حتى يعبر الناس منه .
لكن ذلك هو المشهور عند أهل العلم وجاءت به أحاديث وأنه دحض مزلة أدق من الشعر وأحد من السيف عليه كلاليب .
فهذا هو الذي يجب أن يؤخذ به وأما من قال إنه واسع فإن هذا ليس بظاهر ، إذ اعتمادهم على اللغة على لفظ كلمة (صراط) في اللغة وهذا لا يُقضى بها على ما جاء في الحديث والأثر .
قال (يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ)
يعني أن كل أحد من الناس الذين يعبرون على الصراط يعني من أتباع الأنبياء كل واحد يُعطى سرعة أقصاها على قدر عمله ، لا يستطيع أن يتعدى تلك السرعة ، فمنهم - يعني لا شك أنهم يرون النار تحتهم - وهذا الصراط منصوب وكل سيأتي بأعظم ما عنده من السرعة فلهذا قال
(مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ)(33/43)
يعني لحظة ، على عظم جهنم وعلى سعتها وعلى طول ذلك الصراط ، لحظة كلمح البصر يعني مجرد التفاته يعني أقل من لحظة كما قال جل وعلا ?كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ? يعني لمح البصر متناهي في الزمن .
قال (وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ)
البرق زمنه أطول من لمح البصر هذا أقصى ما عندهم من السرعة ، الطائفة الثانية .
وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ)
والريح سريعة .
(ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَركابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا)
يعني على اختلاف أعمالهم وسرعتهم .
قال (وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجَسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ)
يعني أن من الناس من يمر لكنه إذا مر قليلا فإنه على جَنَبَتَي ذلك الصراط كلاليب .
والكلاليب هي الخطاطيف المعروفة المائلة هذه فإنها تجذب الناس ، ترتفع وتجذب هذا وتجعله في جهنم لأن معها ملائكة يفعلون ذلك .
هؤلاء هم عصاة الموحدين يكونون في الطبقة العليا من النار فتخطفهم تلك الكلاليب وتجعلهم في النار .
قال (فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
يعني من عبر الصراط ضمن دخول الجنة لأن هذه النار تعداها ، نسأل الله جل وعلا ذلك بمنه وكرمه .
القنطرة بين
الجنة والنار
(فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)
يعني بعد العبور عليه يكون الاجتماع في عرصات أُخَرْ وتلك عرصات أيضا واسعة قبل أن يأتوا إلى باب الجنة .(33/44)
قال العلماء يدل على هذا التراخي قوله جل وعلا ?وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا? لما قال ?وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا? دل على أن ثمة زمن قبل فتح الأبواب ، وهذا الذي استُفيد من الآية ظاهر فإنه عند العبور يعني بعد العبور على الصراط فإنه يكون ثم مدة من الزمن يجتمع فيها المؤمنون ثم تكون هناك شفاعات أيضا يشفع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ شفاعات قبل دخول الجنة ومنها شفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها وأنواع من الشفاعة يأتي بيانها إن شاء الله .
قال شيخ الإسلام هنا (إِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) القنطرة والصراط متقاربة فإن الصراط هو الطريق الواسع في اللغة والقنطرة كذلك لكن صفتها أنها مرتفعة يعني مرتفع من المكان واصل أيضا بين تلك العرصات ودخول الجنة ، يُحْبسُون على تلك القنطرة مدة .
(فيُقْضى لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ)
يعني من كان بينه وبين أخيه خصومة فإنه يقضى بينه وبينه في ذلك حتى يدخل الناس الجنة أعني حتى يدخل المؤمنون الجنة وليس في قلب أحد على أحد شيئا (فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ) .
يسبق الفقراء ويتأخر الأغنياء قال عليه الصلاة والسلام في حديث (يتأخرون نصف يوم) يعني خمسمائة سنة وفيهم من هو من سادات الصحابة ومن المبشرين عبدالرحمن بن عوف وغيره وذلك لأن المال - يعني الأغنياء يتأخرون - لأن المال فيه حقوق كثيرة متنوعة فيتأخرون ليُعْطَى كل ذي حق حقه ويسبق الفقراء مع النبي عليه الصلاة والسلام .
فيأتي عليه الصلاة والسلام إلى الجنة فيستفتح وهو أول من يستفتح فيقول له خازن الجنة (من) فيقول (محمد) فيقولون له (بك أمرنا أن لا نفتح لأحد قبلك) عليه الصلاة والسلام ، فيدخل عليه الصلاة والسلام الجنة ويدخل الأنبياء والمرسلون .(33/45)
والجنة لها ثمانية أبواب وكل باب له اسم فثَمَ باب الصلاة وثَم باب الزكاة أو الصدقة وثَم باب الريان باب الصيام وباب الجهاد إلى آخره يدخل من كان مختصا بنوع من أنواع العبادات في النفل أو بصفة مزيدة في العبادات في الفرض في أدائها أو صفتها يختص بأحد هذه الأبواب فمن كان مختصا بصفة دخل من باب من تلك الأبواب ومنهم من يُدْعَى من أكثر من باب إذا كان اختصاصه بأكثر من صفة .
قال شيخ الإسلام في الذين يحبسون على تلك القنطرة :
(فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ)
يعني هؤلاء الذين عليهم التهذيب والتنقية ، من كان عليه تهذيب وتنقية فإنه لا يدخل إلا بعد أن يهذب وينقى .
معنى ذلك أنه ما من أحد إلا وسيحبس على تلك القنطرة ولكن الناس يختلفون في التهذيب والتنقية بعضهم أشد من بعض ، لا يؤذن لهم حتى لا يدخل الجنة إلا من سلم قلبه وأُخِذَ الحق منه .
قال (فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ) يعني بعد اقتصاص بعضهم من بعض ، قال جل وعلا ?وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ? والآيات في ذلك معلومة .
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ)
ظاهر من هذا الترتيب أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يستفتح وأن أول الأمم دخولا هذه الأمة وهذا على نحو ما ذكرت لك من الترتيب أنه عليه الصلاة والسلام يدخل أولا ثم الأنبياء والمرسلون ثم تسبق هذه الأمة غيرها من الأمم .
وهذه الأمة هي خير الأمم كما قال جل وعلا ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ? والوقف هنا على ?أُخْرِجَتْ? وقف لأجل الاستدلال لأن قوله ?لِلنَّاسِ? ليس متعلقا بأخرجت .
تركيب الكلام : كنتم للناس خير أمة أخرجت .(33/46)
بعض الناس قد يفهم أنها : كنتم خير أمة أخرجت تلك الأمة للناس .
لا ، كنتم للناس خير أمة أخرجت ، فخير أمة أخرجها الله جل وعلا هي هذه الأمة وهي خير الأمم للناس لأنها وسط لأنها شاهدة عليهم ولأنها أمة التوحيد وأمة الاستجابة عددها كثير واستجابتها للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وقيامها بأمره ونهيه أعظم من قيام غيرها من الأمم بأمر أنبيائها ورسلها ..
شفاعات
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
قال رحمه الله تعالى (وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ)
إلى آخره (لَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فثلاث شفاعات) الشفاعة في الأصل يعني في اللغة الشفاعة هي ضَمُ طالِبِ طَلَبَهُ إلى غيره ، يعني ثَم طالب يطلب طلبا فيأتي آخر يضم طلبه إلى طلب الطالب الأول
فله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ شفاعات يوم القيامة أعظمها هذه الثلاث التي ذكرها شيخ الإسلام .
أو الشفاعة هي التوسط ?مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً? يعني يتوسط في أمر حسن ?مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً? يعني يتوسط في أمر سيء .
قال (لَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) يعني يوم القيامة .
(أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ تتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ)(33/47)
هذه الشفاعة هي الشفاعة العظمى التي قال الله جل وعلا فيها لنبيه عليه الصلاة والسلام ?وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا? وهي التي جاءت في الحديث الذي يدعو به الداعي بعد الأذان فيقول فيه (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته) .
المقام المحمود الذي وعده هو مقام الشفاعة وذلك كما ذكرت لكم أن الناس ينتظرون في الموقف زمانا طويلا حتى يأتوا إلى الأنبياء فيطلبون من كل نبي من آدم يعني هؤلاء الأنبياء الستة يطلبون منهم الشفاعة : (آدَمُ) ثم (نُوحٌ) آدم نبي مكلم ثم نوح هو أول المرسلين ثم (إِبْرَاهِيمُ) ثم (مُوسَى) ثم (عِيسى) ثم آخرهم محمد عليه الصلاة والسلام وكل يحيل إلى غيره ويذكر ذنبه إلا عيسى عليه السلام فإنه لا يذكر ذنبا وإنما يأمر بالذهاب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وهذا لأجل أنه عليه السلام - يعني عيسى - ينزل في آخر الزمان ويكون من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام فلا يذكر ذنبا وإنما هو عليه الصلاة والسلام مقدم على عيسى بن مريم عليه السلام ، فيأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيذكرون له هول الموقف (ألا ترى ما بنا ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا تشفع لنا عند ربنا) فيقول عليه الصلاة والسلام (أنا لها أنا لها) فيأتي فيخر تحت العرش فيحمد الله جل وعلا بمحامد قال عليه الصلاة والسلام (فأحمده بمحامد يمن بها علي - يعني الله جل وعلا وفي لفظ (يفتحها علي) - لا أحسنها الآن) فيدعو بتلك الدعوات يعني يحمد بتلك المحامد ويثني على الله جل وعلا بما هو أهله ثم يقول جل وعلا له (يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تُشَفَّع) قال الراوي (فيشفع في قوم أن يدخلوا الجنة بلا حساب ولا عذاب) .
والمقصود من هذا الحديث الشفاعة العظمى يعني يشفع لفصل القضاء .(33/48)
والشفاعة كما هو معلوم هذه الشفاعة العامة متفق عليها بين الفرق ، هذه الشفاعة العامة متفق عليها لا أحد ينكرها لأنها شفاعة في الإراحة من الموقف وكذلك الشفاعة الثانية التي فيها دخول أهل الجنة الجنة كذلك هذه متفق عليها بين الفرق وإنما الخلاف في الشفاعة الثالثة .
والشفاعة في العموم نوعان :
" شفاعة نافعة .
" وشفاعة مردودة .
والشفاعة النافعة في الكتاب والسنة هي ما كان فيها شرطان ، يعني ما توفر فيها شرطان :
الشرط الأول الرضا .
والشرط الثاني الإذن .
والرضا ينقسم إلى قسمين : رضا عن ...1
?فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا? يعني لا تنفع شفاعتهم .
?إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء? يعني ممن يريد أن يشفع .
?وَيَرْضَى? يرضى عن الشافع وعن المشفوع له .
والإذن الذي هو الشرط الثاني أيضا هو إذن كوني وإذن شرعي .
هذه هي الشفاعة النافعة ، والله جل وعلا يوم القيامة يجعل نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام أول الشفعاء وسيد الشفعاء في ذلك المقام العظيم .
بعد الشفاعة العامة هذه الأولى يُحاسَبُ الناس .
قال (وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة)
يعني بعد أن يجتاز المؤمنون من الأمم الصراط وينتظروا قبل دخول الجنة ، ينتظروا دخول الجنة فإنهم لا يدخلون إلا بشفاعة ، يشفع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في دخولهم للجنة فيخر تحت العرش فيحمد الله جل وعلا بمحامد ثم يقال له ما قيل له آنفا فيقول (أي رب) فيسأل الله جل وعلا الشفاعة ، فيسأل الله جل وعلا إدخال تلك الأمم الشفاعة ، وهذه الشفاعة الثانية ثابتة أيضا ومتفق عليها والفِرق تثبت هذه الشفاعة ومعها شفاعة أخرى أيضا في رفع درجات من كان مستحقا لمرتبة في الجنة أن ترفع مرتبته ، هذه الشفاعة الثانية .
قال (وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ)(33/49)
يعني أن غيره من الأنبياء لا يَشْرَكُهُ ولا الملائكة ولا العلماء ولا الشهداء ، لا أحد يَشْرَكُهُ في هاتين الشفاعتين ، فدل على أن غيرهما من الشفاعة يدخل فيها غيره من الأنبياء ، فإن الشفاعات متعددة.
أيضا من الشفاعات الخاصة له عليه الصلاة والسلام شفاعته في عمه أبي طالب ، فإنها خاصة به إذ لا ينفع أحدا من الكفار نافع إلا النبي عليه الصلاة والسلام حين يشفع لعمه أن يخفف عليه عذاب النار ، كما ثبت في الصحيح أنه سئل عليه الصلاة والسلام (هل جزيت عمك بشيء لقاء ما عمل) فقال (نعم هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) ففي ذلك شفاعته لعمه أبي طالب ويخفف عنه من العذاب بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام .
قال (وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ)
لفظ (اسْتَحَقَّ النَّارَ) هذه يعني استحق النار فدخلها .
(وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ)
وهذا ثابت فإن الملائكة تشفع والأنبياء يشفعون والعلماء يشفعون والصالحين يشفعون وذلك بإذن الله جل وعلا ورضاه عنهم .
هذه الشفاعة الثالثة فصَّلها شيخ الإسلام فقال (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا)
أما الأولى وهي قوله (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا) هذه تواردت عليها كلمات أهل العلم ولكن كما قال ابن القيم رحمه إنها مما لم يظفر عليه بدليل أنه يشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ابتداء ، وإنما هي شفاعة قال - يعني هذه أثبتها العلماء - لكن ابن القيم يقول (لم أجد عليها دليلا) وهذا ظاهر ، والشفاعة التي هي ثابتة في هذا النوع هي أنه (يَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا) .(33/50)
وهذه الشفاعة هي الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وهي التي خالف فيها المعتزلة والخوارج والوعيدية الذين يقولون لا يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها ، ويستدلون على ذلك بقوله جل وعلا ?إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? ويستدل أيضا المعتزلة والخوارج أيضا على نفيهم لهذه الشفاعة بقوله جل وعلا ?فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ? والجواب أن قوله ?فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ? هي في الكفار ، لا ينفع أحدا من الكفار شفاعة شافع في أن يخرج منها وهذا يقول به أهل السنة ، وأما قوله جل وعلا ?إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? قوله ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? يعني الذين دخلوا فإن الدخول في الكتاب والسنة دخولان :
" ثَم مطلق لدخولٍ .
" وثَم الدخول المطلق .
أما مطلق الدخول يعني أصله يعني حصول الدخول .
وأما الدخول المطلق يعني الذي يكون داخلا في النار ومستقرا فيها ، وهذه هي حالة أهل الكفر يعني الدخول الكامل الأبدي .
ومن دخل ليخرج هذا يصدق عليه أنه دخل ولكن دخوله لخروج وليس دخوله لمقام ، ولهذا قال جل وعلا في الآية ?إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ? والذي يخزى إنما هو الكافر ولهذا قال بعدها ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? .
فذلك النصير والشفيع المنفي هو في حق من دخوله للنار دخول أبدي أما من كان دخوله دخولا أمديا ويخرج بعد ذلك فهو وارد لها والوارد غير المستقر .
وأما قوله جل وعلا في هذه الآية ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? قالوا إن الظالمين هو كل من ظلم وفاعل الكبيرة ظالم .(33/51)
والجواب أن اسم الظلم إذا أطلق ينصرف في الكتاب والسنة أولا إذا لم يقيد بالشرك كما قال جل وعلا ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ? فسرها عليه الصلاة والسلام بأن المقصود من الظلم الشرك .
المقصود لهم أدلة في نفي ذلك وهذه الشفاعة ثابتة وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) قد قال له أبو هريرة رضي الله عنه : يا رسول الله من أحق الناس بشفاعتك ؟ قال : (أحق الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قِبَل نفسه) وفي لفظ (خالصا من قلبه ونفسه) وفي رواية يقول عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة (لقد علمت أنه لن يسألني عن هذا أحد قبلك لما أعلم من حرصك على الحديث) فقوله (لما أعلم من حرصك على الحديث) يدل على أنه سبق أن ذكر شفاعته ، شفاعته لأهل الكبائر لأنه قال (لمن قال لا إله إلا الله من قلبه ونفسه) وكل مؤمن يقول لا إله إلا الله لكن هذا شرط خاص فدل على أنه بعض من يقول لا إله إلا الله ينتفع بتلك الشفاعة في الخروج من النار .
وقول شيخ الإسلام هنا (ويَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا) ظاهره أنه كل من دخل النار يشفع له عليه الصلاة والسلام في الخروج منها .
والظاهر أن الذين يشفعون متعددون فيشفع النبي عليه الصلاة والسلام ويشفع الأنبياء ويشفع العلماء كلّ يشفع إذا أذن الله جل وعلا له أن يشفع ، فيخرج من استوجب النار وعُذِبَ فيها بتلك الشفاعات .
وهناك شفاعات أخر غير هذه ذكرها أهل العلم فمنها :
" شفاعته عليه الصلاة والسلام لقوم من أهل الجنة أن تزاد درجاتهم وهذه ذكرت لك آنفا أنها قد تدخل في الشفاعة الثانية في أهل الجنة لأن تلك في أهل الجنة أن يدخلوها وهذه في أهل الجنة أن تُزاد درجاتهم .(33/52)
" وقال السادس شفاعته صلى الله ..((نحن ذكرنا الآن كم ؟ .. ذكر شيخ الإسلام الشفاعة (فيمن استحقوا النار أن لا يدخلوها وفيمن دخلوها أن يخرجوا منها) إذا اعتبرت هذه واحدة فهذا الخامس وإذا اعتبرتها ثنتين وهو أحسن فيكون هذه السادسة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، نحن ذكرنا أيضا شفاعته في عمه أبي طالب فصارت سبع شفاعته عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر كما جاء في الحديث الذي في الصحيح أنها تتكرر أربع مرات ، أربع مرات يشفع لهم عليه الصلاة والسلام ، مرة فيَحُدُ له حدا ومرة أخرى فيحد له حدا وثالثة ورابعة كما جاء في حديث أنس المعروف في الصحيح .
هذا بعض مهمات الشفاعة ولو كنا أجلناها لا شك أنه سوف يكون ثَم كلام أطول من هذا وأبسط يعني من البسط لأنها فيها مسائل ، فيها خلاف والأدلة والرد عليها لكن لعله فيما ذكر الكفاية إن شاء الله تعالى .
إخراج الله
بعض العصاة من النار برحمته
وبغير شفاعة
قال شيخ الإسلام بعد ذلك رحمه الله (وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ)
الله جل وعلا ثبت في الحديث أنه يقول (شفع الأنبياء وشفعت الملائكة وشفع وشفع وبقي أرحم الراحمين فيأخذ الله جل وعلا بقبضته من النار فيُخرج قوما لم يعملوا خيرا قط فيدخلهم الجنة) وهؤلاء الذين لم يعملوا خيرا قط من أهل العلم من استشكل معنى قوله (لم يعملوا خيرا قط) .
والظاهر أن معنى قوله (لم يعملوا خيرا قط) أنهم ليس لهم عمل إلا التوحيد ، يعني عندهم أعمال كثيرة جدا لم يعملوا خيرا قط يكون سببا في نجاتهم ، لم يعملوا خيرا قط يكون سببا في شفاعة الشفعاء لهم فيظلون لا عمل لهم يشفع في خروجهم من النار السريع ولا شفيع لهم شفع فالله جل وعلا أرحم بعباده المؤمنين فيأخذ هؤلاء ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته .(33/53)
قال (وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ)
(يَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) وصف الله جل وعلا الجنة بأن عرضها عرض السماوات والأرض ?وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ??عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ? فيبقى فيها فضل بعد دخول المؤمنين جميعا من أتباع الرسل والأنبياء فينشئ الله جل وعلا لها خلقا ، وجاء أيضا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه (ينشئ للنار من يشاء فيلقيها فيها حتى تمتلئ) وهذا اللفظ بعض أهل العلم اعتمده وقال هو في البخاري وبعضهم قال إنه انقلب على بعض الرواة ولم يفهموه ، لم يفهموا أصل الحديث فانقلب عليهم رواية ، والإنشاء يكون للجنة ، وأما النار فيضع الله جل وعلا فيها قدمه حتى تقول قط قَط ، وهذا هو الصحيح فإن الله جل وعلا لا يعذب أحدا بالنار إلا بذنب ارتكبه وظاهرٌ ما جاء في الأحاديث من وضع الجبار جل وعلا قدمه في النار .
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ)
(أَصْنَافُ) يعني أنواع .
(مِنَ الْحِسَابِ) الْحِسَابِ مر معك معناه .
(وَالثَّوَابِ) (الثَّوَابِ) أُخِذَ من ثاب يثوب إذا رجع ، (ثاب الشيء) رجع وذلك أن العمل يخرج من العامل فيرجع إليه ثواب ، يرجع إليه شيء ، هذا الراجع سمي ثوابا يعني جزاء العمل رجع ، فسمي ثوابا لأنه رجوع لما خرج منه من العمل .
(وَالْعِقَابِ) الْعِقَابِ ما يحصل من العقوبة .(33/54)
(وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ) الجنة مخلوقة الآن من مخلوقات الله جل وعلا وسميت جنة إما لاستتارها عن العيون أو لأنها مُشَبَّهَة بما يعرف الناس من الاجتنان في الدنيا لأن من دخلها فإنه لا يُرَى ، فهي جنان أيضا والجنة اسم جنس ، هي مخلوقة الآن وموجودة والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حين عرج به إلى السماء رآها ورأى النار أيضا عليه الصلاة والسلام ، والنار أحد أسماء دار الجحيم يقال لها النار والجحيم وسقر وأسماء كثيرة وهذه الأسماء باعتبار تباين الصفات .
قال (وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ)
وذلك لشدة الحاجة إلى هذا العلم لأن علم الجزاء من أهم العلوم بل هو ثلث العلم كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى .
فتفاصيله مذكورة في كل الكتب المنزلة من السماء ، والأنبياء يذكرون تفاصيل ذلك وهو حق على حقيقته كما أخبر الله جل وعلا به لا يجوز أن نتأول شيئا من أمور الغيب وأن نحمله على غير ظاهره
وقاعدة أهل السنة في جميع الغيبيات في الصفات وفي ما في الملكوت من خلق الله وما يحصل يوم القيامة قاعدتهم جميعا في الغيبيات أن يحملوا ما جاء في الشرع من ألفاظ يوصف بها ما غاب عنا أن يحملوها على ظاهرها وأن لا يؤولوها بتأويلات تصرفها عن ظاهرها المتبادر منها .
فما في يوم القيامة من حشر وما في يوم القيامة من ركوب وما في يوم القيامة من نور وظلمة وعرق ودنو الشمس والحوض والميزان إلى غير ذلك كل ما في ذلك يُحْمَل على حقيقته ، والنار حقيقة نار تستعر والجنة دار مقام إلى آخره وفي كل هذه بحملها على غير ما يتبادر منها خالف فيها من خالف إما من مبتدعة المتكلمين وإما من الفلاسفة في أصناف شتى من أهل الأقوال التي تُنْسَبُ لهذه الأمة .
(وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ) عليهم السلام .(33/55)
قال (وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ) عليهم السلام .
قال (وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ)
وقد صنف العلماء في ذلك مصنفات كثيرة ذكروا فيها الآيات وذكروا فيها الأحاديث التي فيها تفاصيل ما يكون في ذلك اليوم العظيم الذي هو لا بد كائن ، الذي هو كائن لا محالة ولا بد آت وهو قريب قريب والنبي عليه الصلاة والسلام إذا ذكر الغيب مهما امتد زمانه يقول (يوشك أن يفعل أحدكم كذا) (يوشك أن يلقى أحدكم كذا) (يوشك أن ينزل فيكم كذا) إلى آخره ، فهو قريب قريب وإن تباعدته النفوس أو بعض العقول فإنه قريب لأن الزمن ما دام أنه يجري فإن غدا لناظره قريب .
وإذا تقرر هذا فإن على المؤمن أن يستعد لذلك اليوم أشد الاستعداد ، لأنه يوم مَهِيلٌ أصيل وكل أحد سيلقى ما عمل وهي الحياة الباقية التي ليس ثَم حياة بعدها ولا دار للتصحيح بعدها ولا مكان بعدها يمكن أن تعمل فيه فتتغير حالك ، فالمكان الذي اختبرت فيه وابتليت فيه بالاتباع بالاستجابة هو هذه الدار فإن كنت فيها مفلحا ناجحا فأنت في الآخرة كذلك وإن كنت فيها أعمى فأنت في الآخرة أعمى .(33/56)
ولهذا يجب على المؤمن أن يثمر في قلبه الإيمان باليوم الآخر ثمرات عظيمة وعديدة وأعظم تلك الثمرات أن يكون قلبه معلقا بالآخرة في حركاته وأعماله ، وأن يكون الله جل وعلا أعظم في قلبه من الخلق فيكون عمله لله إذا رضي الله عنه فإنَّ غضب الناس عليه أو سخطهم عليه فإنَّ هذا ليس بشيء لأن الله جل وعلا هو الذي خلق وهو الذي رزق وإليه المآب وإليه الرجعى فإذا كان كذلك فإنما المسير إليه وإنما العمل سيُرَى بين يديه ولهذا يجب على المؤمن أن يأخذ حِذْرَه وأن لا يتمنى على الله الأماني وأن لا يأخذ حياته هكذا تذهب دون استعداد ودون جد في حياته لأنك إذا كنت جادا في هذه الدنيا فإن الآخرة ستجد فيها ثمرة ذلك .
ومن أعظم ما يكون أن المرء إذا عمل عملا صالحا وعزم في قلبه على أعمال صالحات كثيرة فإنه يكتب له ذلك وإن توفاه الله جل وعلا .
وهذه من العظائم ، قال جل وعلا ?وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ? فمن سعى في شيء وقلبه معلق بأنَّه يعمل كذا وكذا وكذا من الخيرات إذا امتد به الزمن إذا امتدت به الحياة فإن الله جل وعلا كريم يعطي عباده بغير حساب ويجزل لهم الثواب ومن رحمته وكرمه بعباده المؤمنين أنه إذا كان قلبه معلقا بشيء في المستقبل أن يعمله من الطاعات متى ما حان الأوان فإنه يؤتيه ذلك .
وكم من رجل تمنى أن يموت شهيدا في سبيل الله ولم يحصل له لقاء الأعداء في الجهاد فمات على فراشه فبلغه الله جل وعلا منازل الشهداء وكم من رجل تمنى أن يكون في علمه عالما وإماما للمتقين فمات قبل ذلك فلعل الله جل وعلا أن يبلغه ذلك .
وهكذا فإن النيات عظيمة وهي مطايا وإذا خلص قصد العبد ومحبته لله جل وعلا ولرسوله فإنه يحصل على الخير والله جل وعلا يعلم ما في الصدور ويعلم ما تكنه قلوب الناس .(33/57)
فإذا نَوَيْتَ خيرا فأبشر بالخير وإذا نَوَيْتَ غير ذلك فأنت وما ترتضي لنفسك .
لهذا من الخير أن تجعل أمانيك عظاما أن تجعل أمنياتك من الخيرات عظيمة وأن لا تقنع في أمرك مثلا في العلم والتعلم بشيء يسير بل كن كما قال الله جل وعلا في وصف المؤمنين الصالحين ?وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا? دعوا بدعوة قد يكونوا صاروا أئمة وقد لا يكونون لكن فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء .
وثم فرق عظيم بين حب الإمامة في الدين وبين الترفع وحب الجاه والرغبة في أن ينظر الخلق إلى ذلك الرجل وقد ذكر هذا الفرق ابن القيم وغيره .
فمصدر محبة الإمامة في الدين الرضا عن الله جل وعلا وعن شرعه ودينه والرغبة في الآخرة وقلب الرجل معلق بالآخرة ولا ينظر إلى الدنيا فهو يريد أن يكون إماما للمتقين لكي يهديهم إلى دين الله ولكي يبصرهم في أمر الله ونهيه وبما جاء في كتابه فيحب ذلك لا لنفسه ولكن محبة لدلالة الخلق على خالقهم وإرشاد الخلق إلى ما يرضي ربه جل وعلا .
وأما الآخَر فمراده وقصده أن يكون له في الناس جاه وسمعه ورفعه إذا حصل له ذلك حصل له مبتغاه .
فهذا من الشيطان وأما الآخر فهو من الإخلاص .(33/58)
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يقدم على أمور الخير ويخلص فيها نيته وقصده ويجاهد نفسه في ذلك فإنه على شعبة من شعب الخير ، وإذا رأى من نفسه حب الشهرة أو حب الجاه أو حب السمعة أو حب الرفعة حتى في كلمة تقولها بين أصحابك فإنه يوم القيامة لا بد وأن تحاسب على كل شيء والإخلاص هو الذي به تصلح الأعمال وتحسن وفرق بين المقامات ، والله جل وعلا هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
أسأل الله جل وعلا لنا جميعا أن يغفر ذنوبنا وأن يكفر عنا سيئاتنا وأن يجعلنا ممن كتب له المقام العظيم في جنات عدن ، نسأل الله جل وعلا الفردوس الأعلى من الجنة ونسأله جل وعلا أن يجعلنا من الذين تعلموا فعملوا ومن الذين كانوا أئمة للمتقين بغير حب لنظر الخلق وفي غير محبة لإعجاب الناس أسأل الله جل وعلا لي ولكم ذلك وأن يعفو عنا ويتسامح .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ...
شفاعات
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
- 2 -
وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة.
وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا.(33/59)
وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ.
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فهذا المبحث الذي هو مبحث الشفاعة ذكره شيخ الإسلام رحمه الله بما يتصل بما يحصل في اليوم الآخر وكأنه عنده من جملة ما هو داخل في الإيمان باليوم الآخر لأنه يحصل فيه .
وهذا ظاهر لأن الشفاعة تكون في ذلك اليوم ، في يوم القيامة ، وجاء تفصيل الكلام عليها في الأدلة من السنة في كلام المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وفي كلام الصحابة فيما فسروا به بعض الآيات مما يكون يوم القيامة .
وإذا كان كذلك فهي داخلة في تلك الجملة وهي قوله (واليوم الآخر) يعني الإيمان باليوم الآخر .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ)
أصل كلمة الشفاعة هذه مأخوذة من شفع يشفع إذا طلب لأن الطالب واحد فإذا أتى معه آخر صار شفعاً له بعد أن كان فردا ، فسمي شفيعا فعيل بمعنى فاعل يعني شافع شفع غيره ، يعني صار الطلب بعد أن كان من واحد صار من اثنين ، لهذا سميت شفاعة ، هذا من جهة اللغة .(33/60)
ومن جهة الشرع فيها أصل المعنى اللغوي وزيادة أن الشفاعة هي ما يُطلب من الله جل وعلا بشروطه الشرعية .
يعني أن من الشفاعات ما يكون شفاعة لكن يكون مردودا لعدم توفر الشروط فيه ولهذا قال جل وعلا ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى? ?وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ? .
فإذن ليست كل شفاعة نافعة شرعا ومسماة شفاعة في الشرع حتى تكون يوم القيامة قد جاء صاحبها بشروطها وإن كانت شفاعة في اللغة .
وشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام في يوم القيامة منها شفاعة متفق عليها بين جميع الفرق ومنها شفاعة أو شفاعات مختلف فيها يقر أهل السنة منها ما دلت عليه الأدلة وينفيها طائفة من الفرق المنتسبة إلى القبلة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (ولَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) (ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) يعني للمؤمنين وهي التي تكون يوم القيامة فذكر هذه الشفاعات وهي غير مختصة بهذه الثلاث بل هناك شفاعات لم يذكرها رحمه الله تعالى مثل شفاعته لعمه ومثل بعض الشفاعات الأخر كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
معلوم أن الشفاعة جاءت في الكتاب والسنة منفية وجاءت مثبتة .
وهناك فرق يبن الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية ، يعني الشفاعة النافعة هي المثبتة والشفاعة المنفية غير النافعة .
وهناك فرق أيضا بين الشفاعة في الدنيا والشفاعة في الآخرة .
فالله جل وعلا أثبت أن الشفاعة عنده تنفع بشروط قال ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى? ?لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ? وقال جل وعلا ?وَكَم مِّن مَّلَك فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى? يعني أن أصل الشفاعة عند الله جل وعلا ثابتة.(33/61)
وهذه الشفاعة في مقام الافتقار وليست في مقام الوجاهة ، وبيان ذلك أن العبد إذا شفع عند الله جل وعلا فإنه يشفع وهو عبد ذليل مفتقر إلى الله جل وعلا ليس كحال الشفاعة عند أهل الدنيا وذلك أن الشفاعة عند الناس تكون بمن له جاه وعز عند المشفوع عنده حتى يجيب ، والمشفوع عنده كملك أو أمير أو مسؤول أو عالم أو شيخ أو تاجر إلى آخره يكون يرجو من هذا الشفيع شيئا فيجيب شفاعته لما يرجو من إجابة شفاعته ، ولهذا يكون الشفيع متفضلا على الشافع .
وأما الشفاعة عند الله جل وعلا فهي ليست من هذا القبيل وإنما هو جل وعلا هو الذي يكرم من شاء من عباده أن يكون شفيعا ثم يكرم من شاء من عباده أن يؤذن له في الشفاعة وأن يلهمه القول الحسن فيها حتى يجاب .
فالفضل فيها لله جل وعلا ابتداء وانتهاء ، وهذا بخلاف الشفاعة عند أهل الدنيا ولهذا ظن المشركون أن الشفاعة عند الله جل وعلا من جنس شفاعة الناس بعضهم لبعض فاتخذوا الآلهة والأصنام شفعاء لأنهم يظنون أنهم يشفعون عند الله جل وعلا ولو لم يأذن الله جل وعلا في ذلك أو لم يرض فلهم المقام عند الله الذي يجعل الله جل وعلا يجيب سؤالهم ويجيب شفاعتهم .
فإذن في هذا الباب يطول البحث لكن تفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية التي هي الشفاعة النافعة والشفاعة غير النافعة والشفاعة في الدنيا والشفاعة في الآخرة والشفاعة عند المشركين في فهمهم والشفاعة في الشرع ، ما هي الشفاعة عند المشركين وما هي الشفاعة في الشرع ، وبهذا يتقرر هذا الباب بما ينفع في باب الاعتقاد العام يعني هنا وفي توحيد العبادة .
شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا على رجاء الإجابة ، قد يجاب وقد لا يجاب وهكذا شفاعة الأنبياء والمرسلين قد يجابون وقد لا يجابون ولكنهم على رجاء الإجابة ، فنوح مثلا لم تجب دعوته في ابنه وإبراهيم لم تجب دعوته في أبيه .(33/62)
لأن حقيقة الشفاعة هي الدعاء ، شفع يعني دعا ، طلب ، فالشفاعة طلب ودعاء ، فنوح طلب من الله جل وعلا أن يكون ابنه معه من الناجين فلم يجب وإبراهيم دعا فلم يُجَبْ والنبي عليه الصلاة والسلام دعا أيضا لعمه ولم يُجَبْ حتى نزل فيه قول الله جل وعلا ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ? ونهي عن ذلك في قوله ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى? ولما دعا على أناس قال الله جل وعلا له ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ? المقصود أن الشفاعة في الدنيا قد تجاب وقد لا تجاب حتى من الأنبياء وذلك أنها يشترط فيها شروط ، يعني الشفاعة النافعة يشترط فيها شروط :
" يشترط أولا الإذن .
" والثاني الرضا .
الشرط الأول : الإذن ، والشرط الثاني : الرضا وقد جاء في قوله تعالى ?إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى? وقال ?وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً? ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى? ونحو ذلك من الآيات .
والإذن نوعان :
" إذن كوني .
" وإذن شرعي .
والرضا نوعان :
" رضا عن الشافع .
" ورضا عن المشفوع له .
فالإذن الكوني : بمعنى أنه لا تحصل شفاعة إلا من بعد أن يأذن الله للشافع كونا ، فلا يمكن أن يشفع شافع من عند نفسه إلا بعد أن يأذن الله له بالشفاعة في كونه ، فلا يحدث شيء في ملكوت الله إلا من بعد إذنه الكوني ، يعني ليس لأحد حق الابتداء ، فإن الله قد يصرف الشافع فلا يُمَكِّنَه من أن يشفع أصلا ، يصرف قلبه يصرف نفسه فلا تقع أصلا لأنه لا بد أن يكون ثَم إذن كوني بحصول الشفاعة من الشافع .(33/63)
الثاني الإذن الشرعي ، والإذن الشرعي معناه أن يكون حصول الشفاعة على وفق الشروط الشرعية فيمن شفع له الشافع وفي الشافع نفسه ، فالمشرك لا تنفع شفاعته لأنه مشرك ، والمشرك لا ينفع أن يُشْفَع له كما قال ?لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ? فإذن هو لا ينفع أن يشفع ولا أن يشفَّع فيه إلا أبا طالب في حالة خاصة ، وهذا ظاهر في حال ابن نوح وحال أبي إبراهيم وحال عم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الدنيا إلى آخره .
الثاني الرضا ، الرضا عن الشافع والرضا عن المشفوع له ، وهذا ظاهر .
والرضا إنما يكون عن أهل التوحيد وذلك لما ثبت في الصحيح أن أبا هريرة سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال له : من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال (لقد علمت أنه لن يسألني أحد قبلك عن هذا لما أعلم من حرصك على الحديث ، أحق الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه) وفي رواية (خالصا من قلبه ونفسه) فهذا شرط الإخلاص وهو لأهل التوحيد .
فإذن الذي يرضى عنه الله جل وعلا هم أهل التوحيد ، فالشفاعة لا تنفع إلا أهل التوحيد أما أهل الإشراك بالله جل وعلا فلا تنفعهم الشفاعة لأنها إنما هي لمن ارتضى ربنا جل وعلا وهو لا يرضى سبحانه إلا التوحيد وقال في المشركين ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? وقال أيضا ?فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ? وقال ?لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ?
الرضا عن الشافع والرضا عن المشفوع له .
وهذا الرضا عن الشافع والرضا عن المشفوع له مع الشرط الأول هذا كله ، كل هذه شروط للانتفاع بالشفاعة .
قد تقع الشفاعة مع عدم وجود بعض هذه الشروط .
قد تقع الشفاعة من غير إذن شرعي فلا تنفع ، الإذن الكوني طبعا لا بد منه .
قد تقع من غير رضا عن الشافع أو رضا عن المشفوع له فتقع لكنها لا تنفع إلا إذا وجدت هذه الشروط مجتمعة .(33/64)
وهي في حق النبي عليه الصلاة والسلام في يوم القيامة ظاهرة وواضحة في أتم ظهور فإنه عليه الصلاة والسلام لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله جل وعلا .
وفي الشفاعة العامة في أهل الموقف أن يحاسبوا فإن الناس إذا طال بهم الموقف في ذلك اليوم العظيم يأتون إلى الأنبياء إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى وكل لا يجيب إلى أن يشفع إلى الرحمن حتى تنتهي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقول عليه الصلاة والسلام (أنا لها أنا لها) فيسجد تحت العرش ، قال عليه الصلاة والسلام (فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي) يعني الله جل وعلا يفتح على نبيه أن يحمده ويثني عليه بذلك الثناء العظيم قال عليه الصلاة والسلام (لا أحسنها الآن) .
وهذا يدل على أن الشفاعة محض تفضل من الله جل وعلا فهو في الحقيقة الذي تُطْلَبُ منه الشفاعة ?قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا? لأنه هو الذي يأذن وهو الذي يأمر وهو الذي يوفق لها فتُطْلَبُ منه أن يشفَّع في العبد النبيُّ عليه الصلاة والسلام .
قال عليه الصلاة والسلام (لا أحسنها الآن) فيقال (يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفَّع) فهذا بعد الإذن ، يعني لا يبتدئ الشفاعة بل يحمد ويثني ويعلم الله جل وعلا ما في نفسه ثم يرفع رأسه فيشفع ، فيشفع عليه الصلاة والسلام عدة شفاعات وتأتينا إن شاء الله تعالى .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ)
قوله (لَه) اللام هنا هي لام الاستحقاق وهذا الاستحقاق بتفضل من الله جل وعلا يعني هو لا يملكها لأن الشفاعة إنما يملكها الله جل وعلا ?قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا? الشفاعة ملك لله وحده سبحانه لكن تفضل الله على نبينا محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فأعطاه شفاعات فصار مختصا بها ، فاللام هذه إما لام الاستحقاق لأنه تفضل الله عليه بها ، وإما أن تكون لام الاختصاص يعني هو مختص بهذه .(33/65)
وقوله (ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) العدد هنا لا مفهوم له يعني ليس مفهومه أنها ليست بأربع
قال (لَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) يعني التي يريد أن يبينها شيخ الإسلام رحمه الله في هذا المقام .
وجمعه شفاعات باعتبار تعددها لأنها تحصل مرة بعد مرة لا تحصل دفعة واحدة يعني في مقام واحد ، هذه ثم هذه ثم هذه أو باعتبار تنوعها فإن بعضها في الإراحة من الموقف في الحساب وبعضها في التجاوز عن أهل الكبائر ، وبعضها تلك الشفاعات في أهل الجنة أن يدخلوها .
فصّل ذلك قال (أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ)
على نحو ما ذكرت لك فتنتهي إليه فيقول (أنا لها أنا لها) عليه الصلاة والسلام فهو أول شافع في ذلك المقام في كل مقامات الشفاعة ، وأول شافع من حيث حصول الشفاعة بالإراحة من الموقف وهو أول شافع لأهل الكبائر وهو أول شافع في دخول أهل الجنة يعني بين الأنبياء .(33/66)
هذه الشفاعة قال (فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ) وذلك أنهم يمكثون زمانا طويلا في ذلك اليوم الذي يبلغ طوله خمسين ألف سنة فيمكثون ويمكثون ويمكثون عَلَّهُمْ أن يُرَاحُوا من ذلك الموقف حتى يتقدم طائفة فيسألون الأنبياء الشفاعة وهو سؤال لحي حاضر يقدر أن يجيب على ذلك ، فيشفع عليه الصلاة والسلام ، في الأحاديث التي جاءت في بيان هذا قال (بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ) الذي في الأحاديث بعد ان قال عليه الصلاة والسلام (فآتي تحت العرش فأسجد فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه عليه الصلاة والسلام فيشفع فيمن يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب) هذا الذي ذُكِرْ في الأحاديث ولم يذكر بعد هذه القصة إلا الشفاعة فيمن يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب .
قال العلماء : خُصَ ذلك لأجل أن الرواية هذه اشتملت على عدد من أنواع الشفاعة ، والشفاعة العظمى متفق عليها فكأن الرواة اختصروا الحديث وذكروا ما فيه اختلاف من حيث العقيدة بين أهل السنة وبين الفرق وهذا الجواب أجاب به شيخ الإسلام ونقله عنه شارح الطحاوية كما هو معروف وإلا فإن المقصود من هذه الشفاعة في القضاء بين الناس ، ليس المقصود من هذه الشفاعة في دخول من لا حساب عليهم ولا عذاب الجنة وإنما المقصود منها الإراحة من الموقف.(33/67)
إذن حصل اختصار في هذه الأحاديث فإذا نظرت في هذه الأحاديث ولم تجد أن فيها سؤال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أن يقضى بين العباد فقالوا هذا اختصر لأجل أنه متفق عليه فذكروا احتجاجا بهذا الحديث ما يُقَرَّر على أهل البدع الذين ينفون بعض أنواع الشفاعات وإلا فإن الشفاعة هذه ثابتة وهي التي ذكرها الله جل وعلا في قوله ?وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا? المقام المحمود هو المقام الذي تحمده عليه الخلائق تحمد النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك المقام الخلائق وهو أن يعجل في القضاء .
فهو عليه الصلاة والسلام محمد في الدنيا ومحمد في الآخرة يعني كثير خصال الحمد كثير الصفات التي يُحْمَدُ عليها في الدنيا وهو عليه الصلاة والسلام كثير الصفات التي يُحْمَدُ عليها في الآخرة ومن أعظم الصفات التي يُحْمَدُ عليها في الآخرة مقام الشفاعة :
فذو العرش محمود وهذا محمد - عليه الصلاة والسلام -
ثم مباحث متعلقة بالشفاعة العظمى لكنها واضحة إن شاء الله تعالى .
قال (وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة)
(يَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة) إذ أهل الجنة لا يدخلونها بعد جواز الصراط وبعد أن يقضى بينهم ، وأول فئة تدخل الجنة وهو عليه الصلاة والسلام أول من يستفتح باب الجنة فهو السابق إلى ذلك فهو الذي يشفع في أهل الجنة .
قد قال عليه الصلاة والسلام (أنا أول شافع وأول مشفَّع) .(33/68)
(أول شافع) يعني في كل مقام فيه الشفاعة ، فدخول الجنة هو عليه الصلاة والسلام الذي يشفع وهو أول من يدخل الجنة فيأتي فيستأذن في دخول الجنة فيقول له الملائكة (من أنت) فيقول (أنا محمد بن عبدالله) فيقال له عليه الصلاة والسلام (بك أمرنا أن لا نفتح لأحد قبلك) فتفتح تلك الأبواب وعرض ما بين البابين كذا وكذا كما بين السماء والأرض من عِظَمِها فيدخل الناس الجنة ، يدخل معه يعني بعده عليه الصلاة والسلام الأنبياء ثم فقراء أمته ثم تتابع الأمم ، فأول من يدخل الجنة بشفاعته عليه الصلاة والسلام الأنبياء ثم أمته ثم بعد ذلك تأتي الأمم .
قال (فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة) وقوله (فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ) يعني الذين استحقوها بفضل من الله جل وعلا وإحسان ورحمة .
وقيل فيهم أهل الجنة لأن الله جل وعلا جعلهم من أهل الجنة منذ خلق أرواحهم (هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي) وظهر علمه السابق فيهم جل وعلا يوم القيامة فيظهر أهل الجنة من أهل النار .
يشفع فيهم (أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة) كما أوضحت لك في شأن هذه الشفاعة .
قال شيخ الإسلام (وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ)
عليه الصلاة والسلام ، يعني أن الشفاعة في دخول الجنة هي خاصة به فهو الذي يشفع في دخول الجنة فينتفع بشفاعته بقية الأنبياء والمرسلين ثم أمته ثم بقية الأمم الذين أجابوا المرسلين .(33/69)
ومن الشفاعات الخاصة به عليه الصلاة والسلام الشفاعة في أبي طالب فإنه عليه الصلاة والسلام يشفع في عمه كما ثبت في الصحيحين أنه قيل له عليه الصلاة والسلام (هل نفعت عمك بشيء ؟) قال (نعم إنه في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) عليه الصلاة والسلام ، فهذه شفاعة في تخفيف العذاب وليس في الإخراج من النار ، في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب وهذه خاصة به لا يشفع أحد غير النبي عليه الصلاة والسلام في مشرك أبدا وإنما هي خاصة به عليه الصلاة والسلام .
قال (وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ)
أما الشفاعتان الأُوليان ، الأولى والثانية فهذه متفق عليها لا يخالف فيها أهل البدع وأما الثالثة هذه فهي التي فيها الخلاف قال - يعني الشفاعتان الأوليان الشفاعة في القضاء والشفاعة في دخول أهل الجنة - الثالثة التي ذكرها شيخ الإسلام قال :
(وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا)
قوله (فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ) هذا يشمل حالين فصَّلَهُما شيخ الإسلام بعد ذلك :
" استحق النار فدخل .
" استحق النار فلم يدخل .
قال (وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ) وذلك لما جاء في الحديث الصحيح أن الله جل وعلا يقول يوم القيامة (شفع الأنبياء وشفع الشهداء وشفع الصالحون ولم تبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيُخْرِجُ من النار أقواما لم يعملوا خيرا قط)
فإذن غير النبي عليه الصلاة والسلام يشفع ، في أي شي ؟(33/70)
يشفع فيمن استحق النار ، فالأنبياء يشفعون والصالحون يشفعون والآباء يشفعون والصغار يعني من ماتوا من المسلمين وهم صغار يشفعون ومن قدَّمَ مجموعة من الأولاد يعني ماتوا شفعوا له وهكذا فيما جاءت به الأدلة .
قال (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا) دليل هذا النوع من الشفاعة قوله عليه الصلاة والسلام (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وكذلك ما جاء في حديث أنس الطويل أنه ذكر لهم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم في حديث طويل مضمونه أنه يشفع عليه الصلاة والسلام أربع شفاعات في أهل الكبائر في أربع مرات ذلك اليوم ، وقوله (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) هذه تشمل أهل الكبائر الذي ماتوا على التوحيد لأنه قال (فهي نائلة منهم من مات لا يشرك بالله شيئا) وفي الحديث الذي ذكرت لكم أنه قال عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه)
قال (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا) وهذه الجملة ذكرها العلماء أنها مما يشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام في أقوام استحقوا النار أن لا يدخلوها ، قبل الدخول يشفع لهم فلا يدخلونها وقد قال ابن القيم رحمه الله فيما أذكر (أن هذا لم أجد عليه دليلا) وقال إن هناك شفاعات يذكرها العلماء لم أقف فيها على دليل ومنها هذه يعني فيمن لم يدخل النار أن لا يدخلها ، لمن استحق النار ولم يدخلها ألا يدخلها .
وقد يُسْتَدَلُ لهؤلاء يعني يستدل لهذا النوع من الشفاعة بقوله عليه الصلاة والسلام (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) فأثبت عليه الصلاة والسلام شفاعته في أهل الكبائر ، ومعلوم أن أهل الكبائر يشمل من استحق النار ممن دخل أو لم يدخل ، فقوله (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) فيها شمول لمن دخل ولمن لم يدخل فيُسْتَدَل بعموم هذا الحديث على صحة هذا النوع من الشفاعة ، يعني على صحة كونه شفاعة .(33/71)
(فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا) وهذه هي الشفاعة في أهل الكبائر وهذا النوع هو الذي نازعت فيه المبتدعة من الخوارج والمعتزلة فقالوا :
إن الشفاعة لا تنفع من دخل النار ولا تنفع أهل الكبائر لأن الله جل وعلا قال ?كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ? وقال جل وعلا ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? وقال جل وعلا ?لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ? فاستدلوا بهذه الآيات على أن من دخل النار فهو موصوف بالظلم وهو من أهل الوعيد والله جل وعلا نفى الشفاعة عن هذا الصنف ، فقالوا النبي عليه الصلاة والسلام لا يشفع في أهل الكبائر لأن أهل الكبائر في النار مخلدون على أصلهم في أن الكبيرة تخلِّد في النار يوم القيامة .
الخوارج يجعلونه في الدنيا كافرا وفي الآخرة مع الكفار خالدا مخلدا في النار .
والمعتزلة يجعلونه في الدنيا ليس بمؤمن ولا كافر في منزلة بين المنزلتين وفي الآخرة يتفقون مع الخوارج في أنه خالد مخلد في النار .
وإذا كان كذلك فمعناه أنه لا تنفعه الشفاعة ذلك أن الله جل وعلا قال عن المؤمنين في دعائهم ?إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? فمن دخل النار خَزي وليس له نصير بنص هذه الآية .(33/72)
والجواب عن هذا الاستدلال أن هذه الآية في حق من دخلها من الكفار وذلك أنه قال ?مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ? ولفظ (الدخول) ولفظ (الخزي) يحمل على المطلق منه لا على مطلق الدخول ومطلق الخزي يعني يحمل على الدخول الكامل لا أصل الدخول والخزي الكامل لا أصل الخزي ، لأن هذا الأصل في إطلاق هذه الألفاظ ، ولهذا قال بعدها ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? والذين يوصفون بأنهم ظالمون هم الكفار والمشركون بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ? وثبت في الصحيح أنه فسرها عليه الصلاة والسلام بأن الظلم الشرك .
فدل على أن قوله ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? يعني وما للمشركين من أنصار لأن الظالمين جمع تصحيح للظالم والظالم اسم فاعل الظلم والظلم هو الشرك ، فهي إذن ليست في أهل الكبائر .
نعم أهل الكبائر إذا دخلوا النار فلهم نصيب من الخزي لكن ليس الخزي المطلق وليس الدخول المطلق الذي لا خروج بعده بل هو دخول بعده خروج ، كذلك قوله جل وعلا ?مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ? في سورة غافر هذه أيضا في المشركين (الظالمين) يعني المشركين وكذلك قوله ?لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِه وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ? فهي في المشركين فهم الذين في حقهم الشفاعة المنفية ، فإذن ثَم شفاعتان :
شفاعة مثبتة ، وشفاعة منفية .
المثبتة في القرآن لأهل التوحيد ولو كانوا من أهل الكبائر ، والمنفية عن أهل الشرك بالله جل وعلا يعني الشرك الأكبر الكفار والمشركين فهؤلاء هم الذين نفيت عنهم الشفاعة .(33/73)
هذه أنواع الشفاعات التي ذكرها ، وهناك أنواع أُخَرْ لم يذكرها شيخ الإسلام هنا لأن هذه العقيدة المباركة مبنية على الاختصار ليست مبنية على التفصيل فهاهنا أنواع من الشفاعات أخر لم يذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فمنها :
" أنه عليه الصلاة والسلام يشفع في من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب وهذه يدل عليها حديث تراجع الأنبياء في الشفاعة ثم سؤال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الشفاعة وأنه حُد له حد فجُعِل أولئك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وأيضا يستدل له باعتبار أنه يشفع في قوم لم يستحقوا أن يكونوا ممن لا حساب عليهم ولا عذاب فيكون بشفاعة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كذلك يستدل له بقوله لعكّاشة بن محصن في الحديث المشهور حيث قال (وفيهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب) قالوا يا رسول الله من هم ؟ قال (هم الذي لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال (اللهم اجعله منهم) بهذه الرواية بالدعاء (اللهم اجعله منهم) دليل على هذا النوع من الشفاعة ، والرواية الأخرى المشهورة (قال أنت منهم) والأخرى فيها الدعاء .(33/74)
" ومن الشفاعات أيضا للنبي عليه الصلاة والسلام شفاعته في زيادة ثواب بعض أهل الجنة ، وهذه أيضا مما ليس فيها دليل واضح صريح ومما استشكله ابن القيم رحمه الله وقال يمكن أن يستدل له بدعاء النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ للميت بقوله (اللهم ارفع درجته في المهديين) فهذا دليل على رفع الدرجة وهو دعاء وشفاعة من النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لذاك ، هذا النوع - اللي هو الشفاعة في من لا حساب عليه ولا عذاب - متنازع فيها ، لكن هذا في زيادة الثواب هذا غير متنازع فيها يعني يتفق أهل الفرق مع أهل السنة في أن هذه الشفاعة تحصل لأنها محض تكرم وفضل فيمن دخل الجنة ليس فيها إخراج أحد من النار ولا إسقاط العذاب عمن استحقه
" ومن الشفاعات أيضا له عليه الصلاة والسلام الشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم في أن يدخلوا الجنة وهؤلاء على أحد أقوال المفسرين أنهم هم أهل الأعراف الذين قال الله جل وعلا فيهم ?وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ? ففيها تفاسير ومنها أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيوقَفون يُرجؤون حتى ينظر فيهم ، فيشفع فيهم النبي عليه الصلاة والسلام فيدخلون الجنة
إخراج الله
بعض العصاة من النار
برحمته وبغير شفاعة
- 2 -
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ)
يعني بل برحمته ، كما جاء في الصحيح أنه جل وعلا يقول (شفعت الأنبياء وشفع الشهداء وشفع الصالحون وشفعت الملائكة وبقيت رحمة أرحم الراحمين فيخرج أقواما من النار لم يعملوا خيرا قط)
فهذا هو الذي قال فيه شيخ الإسلام (وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ)(33/75)
وهذا ظاهر من حيث الأحاديث فإن الجنة ينشيء الله جل وعلا لها خلقا فيسكنهم الجنة والجنة يدخلها المؤمنون من المكلفين يعني من الإنس والجن .
قد جاء كما ذكرت لكم في بعض الأحاديث حديث أبي هريرة في الصحيح أن النار كذلك ينشيء الله لها خلقا وذكرت لكم أن هذا غلط وانقلب على بعض الرواة وأن الصواب أن إنشاء الخلق إنما هو للجنة دون النار .
قال بعد ذلك شيخ الإسلام رحمه الله(وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ)
وهذا ظاهر فإن ما يحصل يوم القيامة فيه من الآيات وتفصيل ذلك وما بينته السنة من معانيها ما هو من العلم العزيز وأنواع ما يحصل في ذلك اليوم وأصناف ما يحصل كثير بين واضح من ابتغاه وجده ، والنبي عليه الصلاة والسلام بين ذلك بيانا كافيا شافيا والعلم بالجزاء يوم المعاد هو أحد العلوم الثلاثة النافعة فهو ثلث العلم .
من علم أحوال الناس يوم القيامة وما يحصل في ذلك اليوم وما يكون فإن هذا من ثلث العلم فإن هذا ثلث العلم ....1
من رابع والحق ذو تبيان والعلم أقسام ثلاث ما لها
و كذلك الأسماء للديان علم بأوصاف الإله وفعله
وجزاؤه يوم المعاد الثاني والأمر و النهي الذي هو دينه
فهذه العلوم الثلاثة :
" التوحيد .
" الحلال والحرام .
" علم الجزاء .(33/76)
وهذا العلم لا شك أنه يطلب تفصيله من النصوص لأنه لا استنباط فيه ولا مدخل للفهم فيه وإنما هو علم مبني عن دليل فقط ليس محل اجتهاد ، وكذلك مسائل الاعتقاد كلها على ذلك لأن أمرها غيبي والأمور الغيبية موقوفة على الدليل وليس فيها مسرح للاجتهاد والرأي .
لما انتهى شيخ الإسلام من هذا الركن من أركان الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر ذكر القدر والإيمان بالقدر إذ هو آخر الأركان الستة ...
انتهى الشريط العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الحادي و العشرون
الإيمان بالقدر
ومراتب القدر
وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ.
فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالْخَلْق،ِ وَهُمْ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ.(33/77)
فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[الحج:7] ، وَقَالَ: ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[الحديد:22]، وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً:
فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ.
وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ.. وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ.(33/78)
وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ.
وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهُ الْكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة ، والدرجة الواجبة منه أو القدر الواجب منه الذي هو ركن أن يؤمن بالقدر خيره وشره ، يعني أن الله جل وعلا سبق تقديره بما كان وما يكون .
فإذا آمن بأن كل شيء بقدر فإنه قد حقق ذلك من الخير والشر ، إذا آمن بأن كل شيء بقدر مما يحصل له من الخير والشر فإنه يكون قد أتى بالقدر الواجب ، وهناك تفاصيل هذه لمن علم تلك التفاصيل من الأدلة من الكتاب والسنة .
فمن علم شيئا من الدليل يتصل بهذا الركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقدر وجب عليه اعتقاده لأن الذي أخبر به صادق عليه الصلاة والسلام ، يعني إذا صح الدليل به من السنة أو كان في كتاب الله جل وعلا .(33/79)
قال (وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)
(بِالْقَدَرِ) الذي تؤمن به أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية هذا هو الذي جاء مفصلا في هذا البحث يعني في هذا الكلام الذي هو على درجتين كل درجة تتضمن شيئين ، فهم يؤمنون بذلك على وجه التفصيل .
وأهل السنة فصَّلُوا هذه الدرجات وهذه المراتب لأجل أنه في كل واحدة خالف من خالف فاضطروا إلى التفصيل لأجل التقسيم حتى يُعْرَفَ من وافقهم ومن خالفهم ، وكل مرتبة دلَّ عليها دليل ، كل درجة دلَّ عليها دليل ففصلت لأجل مخالفة المخالفين لهم في ذلك .
وقوله (بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) القدر يُعَرَّف بأنه - يعني في الشرع عند أهل السنة والجماعة - بأنه (تقدير الله السابق للأشياء وعلمه بها ثم كتابته لها في اللوح المحفوظ ومشيئته العامة وخلقه لكل شيء) هذا هو القدر .
فإذا تأملت التعريف وجدت أنه يشمل المراتب جميعا :
فهو تقدير الله للأشياء قبل حصولها .
فالقدر مأخوذ من التقدير وأصل هذا في لغة العرب يقال (قدَّرتُ أقَدِّرُ) إذا علم ما سيفعل قبل فعله وعلم ما سيحصل قبل فعله ثم يجعل الشيء على وفق ما يقدره .
والبشر قاصرون فقد يكون ما يفعلون موافقا لما يُقَدِّرُون وقد يكون ما يفعلون مخالفا لما يُقَدِّرُون لعجزهم وقصورهم ، أما الله جل وعلا فإنه قدَّرَ الأشياء وهي واقعة كما قدَّرَها سبحانه لأنه علم ما العباد عاملون إلى يوم القيامة فكتب ذلك سبحانه وتعالى .
قال جل وعلا ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ? قوله ?كُلَّ شَيْءٍ? هذا عموم لأن ?كُلَّ شَيْءٍ? هذا من الألفاظ الظاهرة في العموم ، كل شيء خُلِقَ بقدر .
وقوله (شيء) عندنا أن الشيء هو (ما يصح أن يُعْلَمَ أو يؤول إلى العلم) فيسمى الشيء شيئا إذا كان يُعْلَم يعني يصح أن يُعْلَم أو يؤول إلى العلم .(33/80)
فكل ما سيكون مما يُعْلَم أو يصح أن يُعْلَم أو يؤول إلى العلم فإنه الله جل وعلا خلقه بقدر ، قدر سابق ، بتقدير منه جل وعلا بما سيحدث من حيث مكانه - مكان حدوثه - وزمانه وصفته وهيئته وقدره وتفاصيل ذلك ، فلا تعدو ما قدره الله جل وعلا وقال سبحانه ?وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا? .
فالإيمان به فرض ولازم ، وكما تعلمون أن حديث مجيء جبريل الذي جاء في حديث عمر وحديث أبي هريرة وفيه ذكر الإيمان بالقدر ظاهر الدلالة على ذلك ، ولن يستقيم إيمان أحد حتى يؤمن بالقدر .
وقد قال علي رضي الله عنه لمن نازعه في القَدَرْ (القدر سر الله فلا تكشفه) .
فلا يمكن لأحد أن يعلم الحكمة في جعل الأشياء مُقَدَّرَةً على هذا النحو لأنها مبنية على العلم ، والعلم - علم العبد- قاصر وعلم الله جل وعلا كامل .
وفي قصة الخَضِرْ مع موسى ما يبين أن اعتراض موسى عليه السلام على الخَضِرْ كان على وفق علمه فاعترض على القدر يعني على ما حصل من الخَضِرْ ولم يفهم حقيقة ذلك القدر من الله جل وعلا وذاك قال ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي? وكان ما فعله موافقاً للحكمة .
فقدر الله جل وعلا موافق لحكمته ، وحكمة الله سبحانه وتعالى صفة من صفاته .
الحكمة صفة من صفات الله إذ هو جل وعلا الحكيم من أسمائه الحكيم بمعنى الحاكم وبمعنى المُحْكِم وبمعنى ذو الحكمة .
إذ اسم الله الحكيم يفسر بهذه الثلاثة الأشياء :
" حكيم بمعنى حاكم يحكم ما يشاء سبحانه .
" حكيم بمعنى مُحْكِم ?كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ? ?مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ?.
" وحكيم بمعنى ذو حكمة .
فهو جل وعلا فيما قدَّرَهُ ذو حكمة بالغة سبحانه وتعالى ، وإنما يَضِلُ العباد إذا دخلوا في القدر على وفق أهوائهم ورغباتهم .
وسبب الضلال في هذا الباب هو الخوض في تعليل الأفعال .(33/81)
أصل الضلال في باب القدر هو الخوض في الأفعال : لِمَ فعل ؟ لِمَ كان كذا ؟ لمَ قُدِّر علي كذا ؟ هذا عاش هذا مات هذا غني هذا فقير إلى آخره .
وقد قال شيخ الإسلام في تائيته العظيمة ، تائيته في القدر ، قال :
هو الخوض في فعل الإله بعلةِ وأصل ضلال الخلق من كل فرقةٍ
فصاروا على نوع من الجاهليةِ فإنهمُ لم يفهموا حكمة له
ولا شك أننا لا نستطيع أن ندخل في معرفة الحِكَمْ والأسرار ، قد نعلم بعض الأشياء قليلة جداً وأشياء كثيرة لا نعلمها ، وما أحسن قول القائل :
علوم هناك بعضا أو تماما وما سبب الخلاف سوى اختلاف الـ
إله مخالفا فيها الأناما فكان من اللوازم أن يكون الـ
شكورا للذي يحيي الأناما فلا تجعل لها قدرا وخذها
من أعظم ما ينفع في هذا الباب أنك تختلف مع ابنك الصغير أو مع أخيك الصغير فلا يقتنع بفعلك وفعلك موافق للمصلحة وهو لا يقتنع بذلك ويعارض وسبب الخلاف هو الاختلاف في العلوم ، تعلم ما لا يعلم فكان فعلك موافقاً لما تعلم وفعله واعتراضه موافقاً لما يعلم ، وسبب الخلاف اختلاف العلوم .
فإذن كان من اللوازم أن يكون الإله جل وعلا ، الرب سبحانه مخالفا فيها الأناما لأن علمه كامل شامل محيط بكل شيء وعلم العبد قاصر لا يعدو شيئاً يسيراً بجانبه .(33/82)
إذن فهذا الباب باب القدر مبني على عدم الخوض في الحِكَمْ ، عدم الخوض في التعليلات ، على التسليم ، لأن ذلك سر الله جل وعلا ، فإذا درسناه فإننا ندرسه لأجل فهم الأدلة وما ثبت في الدليل ، ما ثبت في الحديث أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (إذا ذكر القدر فأمسكوا) يعني أمسكوا عن الخوض فيه بغير علم أما الكلام في القدر بعلم فإنه فهم للنصوص ، فهم للكتاب والسنة وما دام أن الله جل وعلا أخبرنا بذلك وأخبرنا رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فإن فهمه والعلم به وتدارسه وذكره هذا فهمٌ للشرع فليس مما يُسْمَكُ عن الكلام فيه وإنما يُمْسَكُ الكلام في الخوض في هذه المسائل بدون علم ، يعني في تعليلات في آراء ، أما إذا كان تفقها في دلالات الكتاب والسنة فإن هذا من العلم النافع بل من العلم الذي يجب على طائفة من هذه الأمة أن تتفقه في ذلك وتعلمه حتى تحفظ على الأمة دينها .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) ويقصد خير القدر وشر القدر بالنسبة إلى العبد ، فإن العبد هو الذي يُوصًفُ الفعل الذي تعلق به بأنه خير وشر ، أما من جهة تقدير الله جل وعلا فهو خير محض لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وصف ربه جل وعلا بقوله (والشر ليس إليك) .
فالله جل وعلا ليس بِشَرْ وليس في أفعاله شر وليس في صفاته شر بل هو جل وعلا ذو الرحمة الواسعة وذو الخير العميم الذي عم به عباده ، وتقديره خير محض .
لكن بالإضافة إلى العباد قد يكون في حق العبد المعين شراً ، وقولنا يكون شر بالنسبة له هذا جاء في الحديث كما قال (بالقدر خيره وشره) فهو شر إضافي بالنسبة للعبد أما الله جل وعلا فليس إليه شر سبحانه وتعالى .
قال (وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ)(33/83)
هذه تسمى مراتب الإيمان بالقدر (عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ الأُولَى) لماذا قسموها إلى درجتين وقالوا كل درجة تتضمن شيئين ؟
قسمها شيخ الإسلام إلى ذلك لأن هذه المراتب منها ما يكون قبل وقوع المُقَدَّر ومنها ما يكون معه أو بعده ، منها ما يكون قبل وقوعه ومنها ما يكون مع وقوعه في أثناء وقوعه .
فما كان قبله هذا درجة ، وما كان معه هذا درجة .
فقبل وقوع المقدر يعني قبل القضاء هذه درجة قبل ذلك وهي التي ضمت :
" العلم السابق
" والكتابة .
وما يكون في أثناء وقوعه هي التي ضمت :
" مشيئة الله جل وعلا الشاملة .
" وخلقه جل وعلا لكل شيء .
فإذن هذا التقسيم في قوله (وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ) لأجل هذا المعنى لأن منه شيء سابق ومنه شيء موافق .
تقدير الله جل وعلا لهذا الذي وقع ثَمَّ شيء من مراتب القدر سابق له وثَمَّ شيء مقارن له .
السابق [ العلم والكتابة ] والمقارن [ المشيئة وخلق جل وعلا كل شيء من الطاعات والمعاصي وأفعال العباد وكل ما يحصل في ملكوته ] .
يتصل بهذا - مبحث القدر كما تعلمون طويل وفيه تفريعات كثيرة لكن ننبه على المهمات فيه - يتصل بهذا البحث المعروف في الفرق بين القضاء والقدر ، ما الفرق بين القضاء والقدر ؟
- قال جماعة من أهل العلم القضاء والقدر هما بمعنى واحد ، قضى سبحانه بكذا يعني قدره فما قدره كائن وما قضى كائن .
- وقال آخرون القدر إذا وقع كان قضاءً والقضاء قدر لكن إذا وقع القدر سمي قضاء ، وهذا مأخوذ من لفظهِ (القضاء) يعني قُضِيَ فانتهى كما قال ?قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ??فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ? يعني انتهى .
فإذن هو مُقَدَّرٌ ومَقْضِي فإذا وقع سُمِيَ قضاء لأنه انتهى .(33/84)
وهذا تفريق جيد من حيث الفهم لكن من حيث دلالات النصوص فيها هذا وفيها هذا ، قد يطلق القضاء على القدر وقد يطلق القدر على القضاء ، أما في الاستعمال الخاص فإن كثيرين يستعملون القضاء (قضي علي بهذا) (هذا قضاء الله جل وعلا) (اصبر لما قضى الله سبحانه) هذا لما وقع وانتهى من القدر .
قال (وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ عَلِمَ ما الخلقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ)
هذه المرتبة هي مرتبة العلم والله جل وعلا عِلْمُهُ كما قال شيخ الإسلام هنا (قديم) و (مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً) والعلم من صفات الذات والله جل وعلا هو الأول بذاته وصفاته فعلمه سبحانه وتعالى أول يعني أزلي .
واستعمال شيخ الإسلام لفظ (بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ) يعني وصْفْ العلم بالقِدَم هنا يعني الأزلية لا يريد القديم المعنى اللغوي لأن القديم في اللغة يعني (ما سبقه شيء) لكن هذا يقْصِدْ به كما يَقْصِدْ الناس إذا قالوا - يعني المتكلمين ومن شابههم - إذا قالوا في أسماء الله القديم أو أخبروا عنه بالقديم .
فهو جل وعلا يُخْبَرُ عنه بأنه قديم وأن صفاته كذلك قديمه وقد يُسْتَأْنَسُ لذلك بدعاء الداخل إلى المسجد (أعوذ بوجه الله الكريم وسلطانه القديم) على اعتبار أن السلطان يشمل الصفة.
(الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً)
إذن الدرجة الأولى ، أو الأولى من الدرجتين السابقة لوقوع المقدر قال شيخ الإسلام (الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ عَلِمَ ما الخلقُ عَامِلُونَ) فهذا العلم السابق .
هل العلم هذا حدث في وقت ؟(33/85)
قال (بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً) يعني عَلِمَ بِعِلْمْ ، وهذا العلم متى عَلِمَهُ جل وعلا ليس له بداية ، عَلِمَهُ جل وعلا أزلا ، عِلْمُهُ جل وعلا بما سيحصل هذا أول يعني لا نستطيع ، الزمان يتناهى ، الزمان مخلوق ، يتناهى ، فلا نستطيع أن نقول بدايته كذا لأن الزمان مهما امتد له بداية ، صفر ، والله جل وعلا من صفاته جل وعلا (أول) سبحانه وصفاته جل وعلا قديمة .
قال (وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ) - سبحانه - (ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ)
(كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ) هذه هي المرتبة الثانية .
قوله في المرتبة الأولى (عَلِمَ) يعني في الدرجة الأولى (عَلِمَ ثُمَّ كَتَبَ) هذه تشمل شيئين
" العلم ، واحد .
" والكتابة ، ثاني .
العلم لجميع الأحوال والكتابة لجميع الأحوال .
فالعلم بـ (الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ) يعني أنه جل وعلا لم يأته شيء في حدوث الطاعات والمعاصي أو حدوث الأشياء يكون مُستأنفاً جديداً عليه جل وعلا ، بل هو سبحانه عَلِمَ هذا في الأزل لا يخفى عليه شيء ، عَلِمَ ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
فإذن هذه المرتبة فيها :
" العلم الأزلي ، هذا واحد ، فيها عِلْمُهُ جل وعلا بما سيكون من جميع الأحوال طاعات ومعاصي وأرزاق وآجال على التفصيل ، يعلم الكليات سبحانه والجزئيات .
" قال (ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ) وهذه هي المرتبة الثانية وهي التي جاءت في الآية التي استدل بها شيخ الإسلام حيث قال جل وعلا ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ? فجمعت هذه الآية بين هاتين المرتبتين : العلم والكتابة .(33/86)
الكتابة في اللوح المحفوظ ، وهذا بعد خَلْقِ القلم .
وخَلْقُ القلم كان عند الكتابة .
خَلَقَ الله جل وعلا القلم للكتابة ، فحين خَلَقَهُ أمره أن يجري فَكُتِبَ في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة .
وقوله هنا (فَأَوَّل مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ)
هذه كما جاءت في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره (أولُ ما خلق الله القلم قال له اكتب) هكذا يرويها بعضهم (أولُ) .
وشيخ الإسلام رحمه الله لا يختار هذا النحو ، لا يختار أن يقال (أَوَلُ) .
وإنما يختار أن تُقْرأ (أَوَّلَ) فتكون قراءته هنا فيما ذكر (فَأَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ) .
ومعنى (أوَّلَ) يعني حين ، يعني أَوَلْ شيء بعد خلقه قال له كذا (فَأَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ) .
فتكون الرواية (أَوَّلَ ما خلق الله القلم) .
وهي التي فُهِمَتْ أنها (أوَّلُ) فنُقِلَتْ ورُوِيَتْ (إن أَوَّلَ) كما هي ألفاظ .
في لفظ (إن أَوَّلَ ما خلق الله القلم) ولفظ (أَوَّلْ ما خلق الله القلم)
(أَوّلْ ما خلق الله القلم) هذا هو المعتمد ، هل هو (أَوَلُ) أو (أَوَلَ)
الصحيح أنه (أَوَلَ) يعني حين ، وذلك لأن القلم على الصحيح خُلِقَ بعد العرش .
فإذن لا يكون أَوَلْ مخلوقات الله القلم بل العرش كان مخلوقا قبل .
وهذه المسألة مرتبطة بمسائل أُخَرْ مما يسمونه التسلسل وقِدَمْ الجنس جنس المخلوقات إلى آخره .
المقصود من ذلك الذي يهمنا هنا أن القلم خُلِقَ فلما خُلِقَ أمره الله جل وعلا أن يكتب والعرش كان مخلوقا قبل ذلك وهذا هو الصحيح أن العرش قبل القلم .
والقول الثاني أن القلم قبل العرش لأجل دِلالة هذا الحديث (أَوَلُ ما خلق الله القلم فقال له اكتب) في رواية بالفاء وهذه لا تناسب (أَوَلَ) قالوا أيضا فيه (إن أَوَلَ ما خلق الله القلم) وأنا بينت لكم التوجيه أن هذه مروية بالمعنى ولهذا ابن القيم رحمه الله :(33/87)
كُتِبَ القضاء به من الديانِ والناس مختلفون في القلم الذي
قولان عند أبي العلا الهمذاني هل كان قبل العرش أو هو بعده
والحق (هذا كلام ابن القيم)
عند الكتابة كان ذا أركانِ والحق أن العرش قبل لأنه
وهذا هو الصحيح أن القلم مخلوق بعد العرش والعرش قبل ذلك .
فإذن يكون قوله هنا (فأَوَّلَ ما خَلَقَ الله القلم قال له اكتب) يعني حين خَلَقَ الله القلم .
(أَوَّلَ ما خلق الله القلم) يعني حين خَلْقِ الله فتكون (ما) هنا ليست موصولة وإنما هي مصدرية.
(أَوَّلَ خَلْقِ الله) (ما) هنا مصدرية .
إذا كانت موصولة يعني (أَوَّلُ الذي خَلَقَ الله) ، يعني يصير أوَّلُ المخلوقات القلم .
وهذا ليس بصحيح كما ذكرنا فتكون (ما) هنا مصدرية .
(أَوَّلَ ما خَلَقَ الله القلم) يعني أَوَّلَ خَلْقِ الله القلمَ .
يعني (أَوَّلَ) حين خَلْقِ الله القلم قال له اكتب .
يعني عند الَخْلق قال له بعد أن خلقه الله قال .
وهذا هو الذي يقرره شيخ الإسلام فتُفهَمُ عقيدته هذه على نحو ما يقرر في كتبه .
(قَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
فهذا يدل على أن غاية ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ إلى يوم القيامة وما بعد ذلك غير داخل فيما كُتِبَ في اللوح المحفوظ .
فإذن هذه المرتبة تشمل تقدير الأشياء إلى يوم القيامة .
لكن العلم يشمل ما بعد ذلك ، لأن علم الله جل وعلا ليس محدودا بزمن .
أما ما خلق الله جل وعلا وهو كتابة القلم هذه ، يعني ما خلق الله جل وعلا الذي هو القلم وما كتب القلم من المقادير هذا محدود بيوم القيامة .
قال شيخ الإسلام (فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ)(33/88)
وهذا مأخوذ من حديث ابن عباس المشهور الذي قال فيه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ له (يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك) إلى آخره ، في آخره قال (جفت الأقلام وطويت الصحف) يعني أن الكتابة انتهت وأنه لن يكون شيء إلا على وفق ما كتب وقُدِّر .
وقد ثبت أن النبي - في صحيح مسلم - أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (إن الله قَدَّرَ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)
فقوله (قَدَّرَ مقادير الخلائق) تنصرف إلى أي مرتبة ؟
إلى العلم ليس بصحيح لأن علم الله سابق لا يعلم شيئا بعد أن لم يكن علمه بل هو جل وعلا عالم بكل شيء لكن قدرها بالكتابة .
فتكون إذن مرتبة الكتابة هذه هي التي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فيكون معنى الحديث (إن الله قدر مقادير الخلائق) يعني بالكتابة .
قال (فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ) يعني أن المرء سيأتيه ما كُتِبَ له ، وما كتب على المرء أو ما كتب له سيلاقيه لا مفر منه لأن الله جل وعلا عالم بأحوال العباد وعالم ما سيحصل مما أردت أن يحصل بك أو مما لم تُرِدْ أن يحصل بك مما فُعل بك مثلا أو جُني عليك أو ظُلِمْتَ كل هذا علمه عند الله فكتب ما سيحصل .
فإذن كتابته جل وعلا وعلمه سبحانه ليس بإجبار للعبد أن يفعل وإنما هو كشف لما يحصل .
وهذا الكشف لأن الله جل وعلا أعطى العبد - يعني في حق العبد المختار - أعطاه اختيارا فيختار إما هذا وإما هذا والنهاية التي يختارها وتحدث هي التي عَلِمَهَا الله جل وعلا منه وهي التي كُتِبَتْ عليه .
نعم هناك توفيق وهناك خذلان .
ففي هذه في قوله (مَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ) يعني لا يتصور العبد أنه لو فعل غير هذا الفعل لم يكن يصيبه هذا ، لأنه لا بد أن يفعل هذا فيصيبه هذا ، لأن الجميع بقدر فلا يمكن أن يخرج عن ذلك .(33/89)
هو باختياره فعل ونتيجة الاختيار حصلت وهذا هو الذي كان مكتوبا عليه لأن الله جل وعلا قَدّرَ مقادير الخلائق وكل شيء خلقه جل وعلا بِقَدَرْ ولا بد أن يكون ما قَدَّرَ سبحانه وتعالى .
هناك توفيق وهناك خذلان والتوفيق والخذلان من الألفاظ التي يختلف فيها قول أهل السنة عن قول غيرهم .
- فالتوفيق عند أهل السنة هو إعانة الله العبد على الفعل وإضعاف الأسباب أو إبطال الأسباب التي تعيق الفعل .
الله جل وعلا يوفق للطاعات .
أعطى اختيارا سبحانه ، أعطى العبد أن يختار هذا أو هذا، وهذا الخيار عدل منه جل وعلا يَحْبُو بعض العباد سبحانه - يعني يمن - جل وعلا على بعض العباد بأن يوفقه .
يعني يعين على الطاعة ، يعين على هذا الأمر سبحانه ، يعطي العبد قوة عليه يعينه على ذلك ، ويثبط أو يبطل أو يعطل أو يضعف الأسباب التي تعوق دون فعله .
هذه لها تفاصيل لكن بالمثال يقرب الكلام .
يعني أن العبد لا شك في تحصيله لأي فعل من الأفعال لا بد له من إرادة وقدرة .
لا يمكن أن يحصل فعل إلا بإرادة وقدرة .
إرادة جازمة وقدرة تامة .
فإذا كانت إرادته قاصرة مترددة ما حَصَلْ فِعْل ، لأنه لا بد أن يتوجه إلى الفعل بإرادة جازمة ثم بقدرة تامة إذا كانت قدرته ناقصة ما تَمَ الفعل أو كان ليس عنده قدرة لم يُتِمَ الفعل .
فإذا كان هذان الاثنان القدرة والإرادة تَمَ الفعل ، هذا من جهته .
فإعانته على أن يريد ، على أن يتوجه قلبه لذلك هنا فيه إعانة خاصة .
إقداره على ذلك في بعض الأعمال التي تحتاج قدرة خاصة ، يعني قد ما يتوجه إليها العبد ابتداء مثل الجهاد الأعمال العظيمة ، الله جل وعلا يُقْدِر عبده يعني يزيده في ذلك ، هذا يتوجه إلى الفعل .
هناك مثبطات ، الشياطين ، هناك مثبطات من عمل شياطين الجن والإنس من الملهيات من الشهوات إلى آخره .
إضعاف الأسباب المثبطة عن الفعل أو إبطال تلك الأسباب وعدم تعرضها لهذا العبد المُوَفَّقْ هذا من التوفيق .(33/90)
فإذن التوفيق عندنا يشمل شيئين :
" الأول إعانة خاصة على الإرادة أو القدرة .
" والثاني إضعاف أو إبطال أو تعطيل الأسباب المثبطة عن العمل .
هذا هو التوفيق عند أهل السنة .
أما الخذلان فإن الخذلان ترك العبد ونفسه .
أن تُتْرَكَ أنت ، تُعامَل بالعدل ، لا تُعان بإرادة ولا قُدرة ولا تُثَبَّطْ عنك الأسباب أو تُضْعَف أو تُبطَل أو تُعَطَّل - الأسباب المانعة - .
فإذا خُذِل العبد تسلطت عليه الشياطين - شياطين الإنس والجن - تسلطت عليه الشهوات وخُذِلَ فوُكِلَ إلى نفسه .
لهذا من وُكِلَ إلى نفسه خسر خسرانا مبينا .
لهذا كانت (لا حول ولا قوة إلا بالله) كنز من كنوز الجنة لأنها سبب كل خير ، وسبب الأعمال التي تُدْخِل إلى الجنة هي (لا حول ولا قوة إلا بالله) لأن معناها أنه لا توفيق إلا بالله ولا إعانة إلا من الله ، فطَلَبٌ للتوفيق وإبعاد عن الخذلان .
أما الأشاعرة - وهذه تكثر عند النووي في شرحه على مسلم وغيره - فإنهم يفسرون :
- التوفيق بأنه خَلْقْ القدرة على الطاعة .
- والخذلان منع القدرة عن الطاعة ، هذا عندهم وعند المعتزلة .
وهذا ليس بجيد لأن خَلْقَ القدرة على الطاعة هذه مقارنة والتوفيق سابق .
خَلْقْ القدرة على الطاعة هذه مقارنة أما التوفيق فسابق ?وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ? هذا ظاهر من لفظ الكلمة (وُفِّقَ إلى كذا) يعني سبق فعمل (وُفِّقَ إلى هذا) هُدِيَ إلى ذلك الشيء بما ذكرنا ، أُعينَ عليه وأُبْطِلَتْ الأسباب المثبطة عنه ، إلى تفاصيل تزيد على ذلك ..
نقف عند هذا وإن شاء الله مبحث القدر له تفصيلات كثيرة نسأل الله جل وعلا لنا ولكم العفو والعافية .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ....
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
.... نعود إلى ما كنا بصدده وهو الكلام على القدر وأخذنا منه شيئا ..(33/91)
وصلنا إلى قوله رحمه الله (جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ) ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك الأدلة على تلك المرتبتين الأولى والثانية : العلم ثم الكتابة ، فقال رحمه الله تعالى :
قَالَ تَعَالَى: ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?
وَقَالَ: ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?
الآية الأولى دلت على أن علم الله جل وعلا شاملٌ لما في السماء وما في الأرض كما قال ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ? .
وقوله جل وعلا ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ? هذا دليل على مرتبة العلم لأن قوله ?يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ? هذا علمٌ غير مخصوص بزمن فهو علمٌ بما يكون في السماء والأرض ، فهو جل وعلا عالم بكل شيء سبحانه .
قال ?إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ? الإشارة بقوله ?ذَلِكَ? إلى المعلوم مما يكون في السماء والأرض ، وذلك أن القَدَرْ يعني ما جَعَلَهُ الله جل وعلا في اللوح المحفوظ مكتوباً هذا متعلق بما يحدث في السماوات والأرض إلى قيام الساعة .
قال ?إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ? فما يكون في السماء والأرض جعله الله جل وعلا في كتاب .
والكتاب هو المجموع سُمِيَ كتاباً لأنه يُجْمَعُ فيه إما الصحف وإما الكلام .
ولهذا قيل للكتابة كتابة لأن الكاتب يجمع الحروف وهذا يبين أن الكتابة في اللوح المحفوظ حقيقة كتابة بالقلم على ما يُفْهَمُ من قول القائل (كَتَبْتُ الشيء) يعني كَتَبَهُ بقلمه ، كَتَبَهُ ليكون مقروءا بعد الكتابة .(33/92)
قال جل وعلا ?إِنَّ ذَلِكَ? يعني المعلوم ?فِي كِتَابٍ? ، ?إِنَّ ذَلِكَ? يعني ما ذُكِر من كتابة ذلك في كتاب وعلمه جل وعلا بكل شيء ?إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ? فالله جل وعلا لا يُعجزهُ شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال سبحانه ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا? .
فمن أسباب أن الأشياء يسيرة عليه جل وعلا أنه عليم سبحانه ، قدير سبحانه ، فعلمه تام كامل من جميع الوجوه وقدرته تامة كاملة من جميع الوجوه .
قدير هو جل وعلا على كل شيء : على ما يشاؤه وعلى ما لم يشأه سبحانه ، فقدرته عامة على كل شيء ، ولهذا قال هنا ?إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ? وعلمه جل وعلا بتفاصيل كل شيء وكتابته لذلك هذا يسير على الله سبحانه وتعالى وذلك لعظمته وجلاله وكمال أسمائه وصفاته وكمال علمه وقدرته جل وعلا .
وقال جل وعلا ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ? يعني أن الله جل وعلا كتب في اللوح المحفوظ ما يُصيبُ الناس وما يقع في الأرض من مصائب ومفهومه أيضا ما يقع في الأرض من خيرات .
فالكل مكتوب وخَصَّ المصيبة في هذه الآية لأنها هي التي يُتَحَسر عليها ويقع في نفس الإنسان منها ما يقع من سَخَطْ ونحو ذلك ، فإذا عَلِمَ أن كل شيء بقدر وأنه مكتوب وأن القدر سابق اطمأنت نفسه وحسن ظنه بربه جل وعلا وعلم أن ذلك موافق لحكمته سبحانه.
?إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ? يعني ما ذكر هو عليه جل وعلا يسير .
هذا استدلال من شيخ الإسلام على تَيْنِكَ المرتبتين .(33/93)
قال بعدها (وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً: فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ. وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ)
هذا فيه إشارة من شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن التقدير أو القَدَرْ هو بالنسبة إلى العِلم العام وهي المرتبة الأولى وإلى التقدير بمعنى الكتابة في اللوح المحفوظ ، هذا على وجه الإجمال .
وهناك أيضا إيمان بالقدر على وجه التفصيل ، وذلك أن عِلْمَ الله جل وعلا يكون بحسب المعلوم ، فهو جل وعلا علم الأشياء في الأزل قبل أن تحدث وإذا حدث الشيء علمه جل وعلا فيوافق علمه السابق ، ولهذا قال جل وعلا في آيات في القرآن في مثل قوله سبحانه ?سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? إلى قوله ?وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ? ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الله جل وعلا جَعَلَ الأشياء وقَدَّرها لكي يعلم .
فهذا فيه دليل على أن العلم يكون بعد وقوع الشيء .
وهذا لا ينافي العلم السابق .
فالعلم السابق فيه أدلته والله جل وعلا يعلم الأشياء جملة وتفصيلا الكليات والجزئيات بالعلم الأزلي السابق وكذلك إذا حدث الشيء عَلِمَهُ .
وما جاء في الآيات من مثل آية البقرة هذه ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ? ونحو ذلك فهذا المراد منه عند المحققين إظهار العلم الذي تكون به الحجة على العباد .(33/94)
ففي قوله ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ? هو جل وعلا يعلم ذلك قبل حدوثه ولكن هذا لإظهار العلم الذي تقوم به الحجة على العبد .
فالله جل وعلا يعلم قبل ذلك ، وإنما خَصَّ هنا هذه المسألة وأمثالها - يعني مسألة تحويل القبلة وأمثال ذلك - بأنه شَرَعَ أو فَعَلَ لِيَعْلَمَ ، فجعل ذلك لأجل أن يُظْهِرَ علمه السابق وتقوم الحجة على العبد .
وهذه الآية وأمثالها استدل بها الذين يقولون إن علم الله مستأنف كما يأتي في بيان تلك الطائفة لأن قوله ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ? هذا فيه دليل على أن العلم يكون بعد الوقوع ففيه التخصيص بذلك .
قالوا وهذا يدل على أن علم الله مستأنف .
وهذه هي أول مرتبة من مراتب القدر نُفِيَتْ ، التي هي العلم السابق فجُعِلَ الأمر أُنُفْ ومستأنف يحدث بلا علم سابق وبلا قَدَرٍ سابق .
وبيَّنتُ لك أن معنى هذه الآيات هو إظهار العلم السابق لكي يكون حجة على العباد ، فالآيات متوافقة غير متعارضة .
كذلك بالنسبة للكتابة هناك أنواع من التقدير الكتابي .
وأصله في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) (قدر مقادير الخلائق) يعني كتبها .
هذا التقدير العام في اللوح المحفوظ ، وهو الذي جاء في قوله ?يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ? يعني الكتاب الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل وهو اللوح المحفوظ .
هذه الكتابة العامة السابقة للخلق .
وهناك كتابات تفصيلية .
هذه الكتابات التفصيلية تفصيلٌ لما كُتِبَ في اللوح المحفوظ ، فمنها ما ذكره شيخ الإسلام هنا :
- قال في الكتابة العامة (كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ) هذه الكتابة الأصل .(33/95)
- ثم ذكر نوعا آخر من الكتابة قال (وَإِذَا خَلَقَ) جل وعلا (جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ) وفي الحديث أيضا في الرواية (فيؤمر بِكَتْبِ أربع كلمات) (فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ) .
وهذه ذَكَرْ شيخ الإسلام أنه قبل نفخ الروح لقوله في الحديث ( ثم يؤمر بنفخ الروح) .
هذه كتابة خاصة متعلقة بهذا الإنسان الذي ستُنْفَخُ فيه الروح ، وهذا الكَتِبْ هو تفصيل لما في اللوح المحفوظ ، هو مكتوب في اللوح المحفوظ ويؤمرون بذلك ، فيكون كتابة تفصيلية في حق هذا المعين .
- كذلك هناك التقدير السنوي الذي يكون في ليلة القدر ، قال جل وعلا ?إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ? سميت ليلة القدر لأنها يُقَدَّرُ فيها ما يحصل في تلك السنة ، (يُقدَّر) بمعنى يُكتب ، أما التقدير الأصلي فهو في اللوح المحفوظ ، وهي التي في قوله تعالى في أول سورة الدخان ?حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُل أَمْرٍ حَكِيمٍ? وهذا الفَرْقْ ?يُفْرَقُ كُل أَمْرٍ? يعني يُفْصَل من اللوح المحفوظ إلى الصحف التي بأيدي الملائكة كما هو أحد وجهي التفسير ، فهذه كتابة سنوية .
هاتان الكتابتان : العُمُرِيَة والسنوية هذه يكون فيها التعليق .
يعني يقال فيها (إن فعل العبد كذا سيكون القدر كذا وإن فعل العبد كذا يكون القدر كذا) فإن وصل رَحِمَهْ زِيْدَ في عمره ، إن وصل رَحِمَهُ وُسِّعَ له في رزقه .(33/96)
فما يكون فيه المحو والإثبات هو في هذه الصحف التي فيها التقدير السنوي أو العمري الذي بأيدي الملائكة ، وهذه تكون معلقة كما قال ابن عباس في تفسير آية الرعد وهي قوله جل وعلا ?يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ? .
- فهناك أشياء من القدر تقبل المحو والإثبات .
- وهناك أشياء من الكتابة لا تقبل المحو والإثبات بل هي آجال لا تقبل التغيير أو أشياء لا تقبل التغير ، وذلك ما في اللوح المحفوظ .
أما ما في صحف الملائكة فإنه يقبل التغيير ، وكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ يعني مكتوب التفصيل والنهاية لكنه لا يقبل المحو والإثبات ، أما ما في صحف الملائكة فإنه يقبل المحو والإثبات كما قال جل وعلا ?يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ? وهذا الوجه هو الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه وهو وجهٌ ظاهر البيان والصحة لأنه موافق للأدلة كما قال جل وعلا ?وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ? وقال عليه الصلاة والسلام (من سرَّهُ أن يُبْسَط له في رزقه ويُنْسَأُ له في أثره فليصل رَحِمَهُ) فكان وصلُ الرحم سببا في زيادة الرزق وسبباً في نسأ الأثر في زيادة العمر و(إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) هذا كله بما في صحف الملائكة وما يكون فيها .
فإذن هاتان المرتبتان : العلم والتقدير فيها إجمال ، يعني فيها جملة ، عِلْمٌ جُمْلِي وهناك علم تفصيلي ، أو علم بالكليات والجزئيات ، وكذلك التقدير في تقدير عام لجميع المخلوقات وهناك تقديرات أُخَرْ وأنواع من الكتابة التفصيلية وقد فَصَّلَ فيها ابن القيم رحمه الله في كتابه شفاء العليل ذكر هذه المراتب وذكر أنواع التقدير الخمسة وذكر الأدلة عليه بما يُحالُ به عليه لأنها كلها تفصيلات للقدر السابق .(33/97)
* قوله هنا (وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا) وقد جاء في الصحيح ، صحيح مسلم أنه مما يُؤْمَرُ به أهو ذكر أم أنثى ، يعني يُعلَمْ أهو ذكر أو أنثى ، فالملك يُؤمر بهذه الكتابات (اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ) وكذلك يُقالُ للملك أذَكر هذا الجنين أم أنثى ، فإذا كان كذلك فيكون بإعلام الملائكة بهذا العلم ألا وهو هل هو ذكر أم أنثى خرج ذلك المعلوم من كونه غيبا مختصا بالله جل وعلا ، فإذن عِلْمُ نوعِ ما في الرحم هل هو ذكر أم أنثى هو مختص بالله جل وعلا قبل نفخ الروح ، وإذا نُفِخَتْ فيه الروح فإن الملائكة تعلم فإذن يكون غير مختص بالله جل وعلا فليس من الغيب الذي لا يطَّلِع عليه أحد .
ولهذا في هذا الزمن يطَّلِعُونَ على هذا الجنين بالأجهزة هل هو ذكر أم أنثى لأنهم يرون ما يتميز به الذكر مما تتميز به الأنثى تقريبا من الشهر الخامس فما فوق ، وهذا ليس من الغيب المختص بالله بل هو مما يُدْرَكْ ، وقد ذكر ابن العربي المالكي وغيره أنه يمكن معرفة نوع الجنين بدلائِلْ يقينية عند أهل الاختصاص والمعرفة حتى في زمنه ، إذن فما يكون عند نفخ الروح في الجنين من جهة الكتابة هذه الكلمات الأربع (الرزق والأجل والعمل وشقي أم سعيد) .
قال بعض أهل العلم الأجل يختلف عن العُمُرْ ، فالعمر يقبل التغيير وأما الأجل فهو الذي لا يقبل التغيير وذلك لقوله جل وعلا ?فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ? وقال ?لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ? والآيات في ذكر الأجل وعدم الاستئخار والاستقدام فيه كثيرة ، وقال في العُمُرْ ?وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ? قالوا فهذا يدل على أن الأجل لا يقبل التغيير ولا يقبل الاستئخار والاستقدام والعمر يقبل ذلك .(33/98)
وهذا الذي قالوه باعتبار ما جاء في القرآن صحيح أما باعتبار ما جاء في السنة فإنه ليس بظاهر لأن هذا الذي يُكتب من الأجل هو يقبل التغيير لقوله عليه الصلاة والسلام (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره) وفي بعض ألفاظ هذا الحديث (ويُنسأ له في أجله) وهذا ظاهر لكن الاستعمال أو ما جاء في القرآن من ذلك واضح في التفريق بين الأجل والعمر .
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (فَهَذَا القَدَرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِروهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ)
يقصد بغلاة القدرية الذين ينكرون العلم السابق ، وهم الذين ظهروا في عهد ابن عمر في البصرة ، غيلان الدمشقي ومعبد الجُهَني ومن كان على هذه الشاكلة فإنهم زعموا أن الله جل وعلا لا يعلم الأشياء إلا بعد أن تحصل قالوا الأمرُ أُنُفْ ، مستأنف .
وأول حديث في صحيح مسلم حديث ابن عمر المعروف عن عمر وفي حديث جبريل فيه هذه البدايات وأنه أناس في البصرة كانوا يَتَقَفَرُونَ العلم قالوا إن الأمر أُنُفْ قال ابن عمر أخبرهم أني منهم براء ثم ساق الحديث .
الذين كانوا ينكرون القدر كانوا ينكرون مرتبة العلم السابق وهؤلاء هم غلاة القَدَرِيَة.
وقوله (غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ) يعني أن هناك قدرية غير غلاة ،هل هذا المفهوم صحيح من كلامة ؟
نعم ، هو صحيح لأن القَدَرِيَة أنواع منهم الغلاة ومنهم من ليسوا بغلاة .
وبعض أهل العلم يعبر يقول (المتوسطون) ، وبعض أهل العلم يثبت ثلاث طبقات للقدرية :
" الغلاة .
" والمتوسطون
" ومن مُخالفتهم في القدر خفيفة .(33/99)
وقوله (الْقَدَرِيَّةِ) هذا اسم لمُنكِر القدر ، والأصل أن النسبة تكون للمثبِت لا للنافي فإذا أثبت شيئا ننسبه إليه ، كما يقال (الصفاتية) لمثبتةِ الصفات ، (العقلانيين) لمقدمي العقل ، ونحو ذلك ، لكن هؤلاء قيل لهم القدرية لأنهم نفاة القدر فهذا اصطلاح خاص ، فالذين ينفون القدر سواء الغلاة أم غير الغلاة يقال لهم قدرية ، ويشمل طائفتين كبيرتين :
" الأولى الغلاة الذين أنكروا العلم .
" والطائفة الأخرى المعتزلة الذين أنكروا أن الله جل وعلا يخلق فعل العبد وزعموا أن العبد يخلق فعل نفسه كما سيأتي في المرتبة الأخيرة .
ويقابل القدرية (الجبرية) ويأتينا بيان فرقهم في آخر الكلام إن شاء الله .
قال (وَمُنْكِروهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ) وهذا في وقت شيخ الإسلام يعني منكروا العلم السابق قليل.
والذين ينكرون العلم في زمنه وفي هذا الزمن هم الفلاسفة ومن كان على مذهب غلاة القدرية من بعض الناس الذين لا ينتسبون إلى طائفة ، الفلاسفة يزعمون - يعني الفلاسفة الإسلاميين - أن الله جل وعلا يعلم الكليات دون الجزئيات ، وهذا إنكار للعلم ، يقولون العلم السابق هو علم كُلِّي لا تفصيلي ، علم بالكليات دون الجزئيات وهو نوع من إنكار العلم السابق .
هؤلاء هم الذين قال فيهم الشافعي رحمه الله كلمته المشهورة (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصِمُوا وإن أنكروه كفروا) .
لما انتهى من ذلك شيخ الإسلام قال (وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ)
يعني من درجتي القدر
(فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ)
ذكرنا أن الدرجة الأولى قديمة : العلم والكتابة قديمة ، والدرجة الثانية تُقَارِنُ المقدور ، تُقَارِنُ المقضي .
فالقدر إذا وقع أو إذا شاء الله جل وعلا أن يقع لا بد أن يكون بقدر سابق وبقدر مقارن .
هذا القدر المقارن هو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة ، وهذه هي الدرجة الثانية وتشمل مرتبتين .(33/100)
فصّل ذلك شيخ الإسلام بقوله - يعني - (مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ)
قال (وَهُوَ)
يعني هذه الدرجة كيف يكون الإيمان بذلك ؟
(الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ ، لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ)
إلى آخر كلامه ، هذه الدرجة الثانية مرتبتها الأولى وهي المرتبة الثالثة من مراتب القدر (الإيمان بمشيئة الله) مشيئة الله النافذة ، وهو جل وعلا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة جدا منها قوله جل وعلا ?وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي? الآية ، وكذلك قوله جل وعلا ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا? وكذلك قوله ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? فهو سبحانه يحكُمُ ما يشاء ويفعل ما يريد مشيئته نافذة ، ومنها قوله جل وعلا ?وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ? وقوله ?مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? والآيات في هذا الباب كثيرة جدا .(33/101)
فإذن مشيئة الله شاملة ، مشيئة الله نافذة ، فهو ما شاء كان ، ومعنى قوله (نافذة) يعني أنه جل وعلا لا معقب لحكمه ولا يخاف جل وعلا أحدا ولا يتردد جل وعلا فيما يشاؤه سبحانه وتعالى ، بل ما شاء كان وهذه المشيئة هي الإرادة الكونية لأن الإرادة الكونية تفسيرها المشيئة .
وكما ذكرنا لكم أن الإرادة قسمان :
" إرادة كونية .
" وإرادة شرعية .
الإرادة الكونية هي المشيئة ، فإذا قلت شاء الله كذا بمعنى أراده كونا ، فلا تكون المشيئة في الأمور الشرعية .
وقوله هنا (مَا شَاءَ اللهُ كَانَ) يعني كونا .
أما الأمور الشرعية فإنها لا يطلق عليها المشيئة لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
وأما الشرعيات فتدخلها الإرادة الشرعية التي توافق محبة الله جل وعلا ما أراده الله شرعا هو موافق لمحبته إذ لا يريد جل وعلا شرعا إلا ما يحبه ، وما أراده شرعا قد يفعله العبد وقد لا يفعله ?وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ? لكن من العباد من لا يختار أن يتوب الله عليه ، فهذه إرادة شرعية ، أما الإرادة الكونية وهي المشيئة النافذة فهذه كما قال (مَا شَاءَ اللهُ كَانَ) .
فإذا آمن العبد بأن - يعني اعتقد اعتقادا جازما - بأن ما شاء الله كان وأنه جل وعلا يتصرف في هذا الملك كما يشاء وأنه جل وعلا لا معقب له يحكم في ملكه كما يشاء فما شاءه حصل ووقع وما لم يشأه جل وعلا لا يحصل ولو اجتمع عليه من بأقطارها من في السماوات ومن في الأرض فإنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا هو جل وعلا لا يشاؤه بل إن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله جل وعلا كما قال سبحانه ?وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُ العالَمِينْ? .
قال (وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ) (مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ) لأنه ليس الأصل السكون وليس الأصل الحركة بل السكون بمشيئة ، بقدر ، والحركة بمشيئة وبقدر .(33/102)
فمن قال إن الأصل هو السكون والحركة خلاف الأصل زعم أن القدر راجع إلى المتحركات دون الساكنات .
ولكن هذا باطل بل إنه ما من سكون إلا بمشيئة وما من حركة في مُتَحَرِكْ إلا بمشيئة .
فسكون الساكن ليس عن اختياره وليس لأن الأصل فيه السكون بل لأن الله قدر جل وعلا أن يكون ساكنا ، وشاء منه في هذه اللحظة أن يكون ساكنا ، إذا قلنا قدر يعني في الماضي تقدير بالعلم والكتابة وفي هذه اللحظة التي رأيت الساكن فيها ساكنا فهو بمشيئة الله جل وعلا والله سبحانه له ملائكة وكَّلَهُم جل وعلا بفعل ما يشاؤه سبحانه ، وكَّلَهُم توكيلا ، هم مُوَكَلُون بذلك كما قال جل وعلا ?قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ? فهم موكلون .
قال (مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ) حتى سقوط الورقة ، هبوب الريح ، هَبَاءَه ماشِيَة تراها شعاع فيه غبار هذا كله بمشيئة الله جل وعلا لا يخرج شيء عن مشيئة الله جل وعلا النافذة وعن قدرته سبحانه الشاملة .
قال (لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ) هذا تعليل لما سبق
(وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ) هذه القدرة الشاملة .
عبَّر شيخ الإسلام بقوله (قدرته الشاملة) وذلك لأنه في القرآن وفي السنة فيها القدرة الشاملة على الموجودات والمعدومات .
ففي القرآن في آيات كثيرة ?وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? وقال ?إنَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير? وقال ?وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا? والآيات في ذلك كثيرة .
قال (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) و (كُلِّ) من ألفاظ الشمول والظهور في العموم فتشمل المعدوم والموجود و (شَيْءٍ) اسم لما يقبل العلم ، يعني للمعلوم أو لما يؤول إلى العلم ، والمعدوم يقبل العلم ، فإذن صارت مشيئة الله نافذة وقدرته شاملة للموجود لما رأيته وللمعدوم أيضا .(33/103)
وقوله (المعدوم) يعني لما لم يشأه الله جل وعلا فهو سبحانه ما شاءه كان ، لكن ما يقدر عليه سبحانه ربما يكون ، وربما لا يكون ، بحسب حكمته جل وعلا ، وهذا لأجل إطلاق الشمول في النصوص في قوله ?وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? .
وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن قدرة الله شاملة للمعدومات والموجودات كما قال سبحانه ?وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ? فإذن الإسماع إسماع الاستجابة ما حصل ولو أسمعهم إسماع الاستجابة لتولوا وهم معرضون .
وهذا تابع للعلم وهو تابع أيضا للقدرة كما قال جل وعلا ?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ? ففي هذه الآية إثبات أن الله جل وعلا قادر على هذه الثلاثة أشياء ?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ? هو قادر على هذا الشيء ، وهل هذا الشيء حصل ؟ موجود أو معدوم ؟
قال عليه الصلاة والسلام حينما تلا هذه الآية (أعوذ بوجهك) فأُجِيبْ ، وقال أيضا في قوله ?أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ? قال (أعوذ بوجهك) فأُجِيبْ وقال في قوله ?أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ? (هذه أهون) لأن الله جل وعلا لم يُعْطِهِ ذلك .
قال العلماء دلت الآية على أن قدرة الله على ما شاءه وعلى ما لم يشأه ، فقوله ?وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? فيه عموم في القدرة على ما شاءه وعلى ما لم يشأه وهذا مذهب أهل السنة .
والأشاعرة والماتريدية وغيرهم يقولون إن القدرة لها تعلقان :
تعلق صلوحي ، وتعلق قديم .
هذا بحث يحتاج إلى تفصيل لكن أيضا مما يناسب الكلام هذا هنا يقولون إن القدرة ، قدرة الله جل وعلا متعلقة بما شاءه .(33/104)
ولهذا يقول الأشاعرة كثيرا في كتبهم (والله على ما يشاء قدير) .
وهذه عند أهل السنة والجماعة باطلة لا يجوز أن يخالف المرء نص القرآن ويقول (والله على ما يشاء قدير) هو نَعَمْ هو جل وعلا على ما يشاء قدير لكن قدرته على ما يشاء وعلى ما لم يشأ فهو سبحانه قدير على ما شاءه وقدير على ما لم يشأه .
فعندهم القدرة متعلقة بما شاءه وعند أهل السنة القدرة متعلقة بما شاءه جل وعلا وبما لم يشأه لقوله سبحانه ?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ? .
نعم جاء في بعض الأحاديث (إني على ما أشاء قادر) (وإني على ما أشاء قدير) وهذا يثبته أهل السنة لأنه دليل على أنه جل وعلا على ما يشاء قدير وهذا دلَّ عليه قوله ?عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? لكن عندهم شعار أنهم يُعرِضون عن قوله ?وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? إلى قولهم (والله علم ما يشاء قدير) .
وإذا كان شعارا لأهل البدع فإن استعماله فيه موافقة لهم مع صحته في نفسه معنى .
وقول القائل (إنه جل وعلا على كل شيء قدير) هذا يشمل ما شاءه وما لم يشأه وفيه موافقة للنصوص من الكتاب والسنة .
هذا معنى قول شيخ الإسلام (مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ) هو على كل شيء قدير من الموجود والمعدوم .
طبعا هذا كله متعلق بما يمكن أما المُحال مما أحالَهُ أو مَنَعَهُ جل وعلا أن يكون في ملكه وأوجب ذلك على نفسه فهو جل وعلا قدير على كل شيء على هذا وذاك ، ولكن لما جعل ذلك مُحالا فهو لا يكون ، وقدرته شاملة جل وعلا لكل شيء ، ولكن المحال هو الذي جعله جل وعلا محالا .
مثل أن يكون ثَم إله بحق فهذا محال فلا يكون البتة ، هل هذا متعلق بالقدرة ؟(33/105)
نقول نعم القدرة متعلقة بكل شيء لكن هذا محال لا يكون ، كذلك أن يوجد إله آخر هذا محال ، كذلك أن يكون له جل وعلا ولد هذا محال ، إلى آخره ، وهذه المحالات هو جل وعلا الذي جعلها محالة سبحانه وتعالى .
فإذن لا تُبحَثْ هذه كما بحثها الفلاسفة وطائفة هل تدخل تحت القدرة أو لا تدخل ، لأن هذه جعلها الله جل وعلا محالات فما يُبْحَثْ هو ما جاءت فيه النصوص وأما ما جعله الله جل وعلا محالا فإننا نأخذه على ما جاء في النص ولا نخوض فيه بهل تشمله القدرة أو لا تشمله لأنه لا فائدة منه ولأن فيه استدراكا واعتراضا على النصوص .
قال بعد ذلك (فمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ) قوله (وَمَعَ ذَلِكَ) يعني مع وجود القَدَرْ السابق فالله جل وعلا أمر العباد بطاعته ، فالقدر لا يعني عدم العمل بل القدر ، قدر الله جل وعلا هو عِلْمُهُ جل وعلا بما سيكون ، كتابته جل وعلا لما سيكون وما قدَّرَهُ سبحانه وتعالى على عباده ، ومع ذلك أمر العباد بالطاعة ونهاهم عن المعصية وهو جل وعلا يحب المتقين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ......1
إذا كانت المعاصي داخلة تحت المشيئة فكيف تدخل تحت المشيئة مع أنها داخلة تحت ما يُبغِض الرب جل وعلا ؟
وهذا الضلال أو هذه الشبهة أوقعت طوائف في الضلال .(33/106)
وأهل السنة قالوا إنه يجتمع في حق المعين من المسلمين الإرادة الكونية والشرعية فيما أطاع الله جل وعلا فيه ، يجتمع فيه المحبة والإرادة الكونية ، ومن خالف - الكافر أو العاصي حين معصيته - نفذت فيه المشيئة والإرادة الكونية ولكنه في هذه الحال لم يوافق الإرادة الشرعية ، فالمسلم تعلق به في طاعته حين يطيع الإرادة الكونية التي هي المشيئة والإرادة الشرعية والعاصي حين عصى أو الكافر تعلق به الإرادة الكونية دون الإرادة الشرعية .
انتهى الشريط الحادي و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثاني و العشرون
فالمسلم تعلق به في طاعته حين يطيع الإرادة الكونية التي هي المشيئة والإرادة الشرعية .
والعاصي حين عصى أو الكافر تعلق به الإرادة الكونية دون الإرادة الشرعية .
فلهذا صارت المحبة والرضا تبع للإرادة الشرعية :
فالمسلم الذي عمل الطاعة واجتمعت فيه الإرادة الشرعية والكونية حصل له محبة من الله جل وعلا لإتيانه بما أراده الله شرعا .
فالمحبة تبع للإرادة ، المحبة تبع لتنفيذ الإرادة الشرعية ، والبغض تبع لعدم الإتيان بما يريده الله جل وعلا شرعا .
وهذا يجتمع في حق المعين من المسلمين ، يجتمع موجب المحبة وموجب البغض ، وفي الكافر تكون فيه الإرادة الكونية .
إذا تبين ذلك فإن الله يرضى كما ذكر الشيخ عن المتقين ويحب المتقين والمحسنين والمقسطين .
وهذه مسألة ضل فيها طوائف وذهبوا لأجلها إلى الجبر وبعضهم ذهب إلى نفي القدر وبعضهم ذهب للدخول في التعليل فضلوا .
والقدرية أصناف وأصل ضلالهم هو الدخول في الأفعال .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته القدرية :
إلى النار طُرّاً معشر القدريةِ ويدعى خصوم الله يوم معادهم
به الله أو ماروا به في الشريعةِ سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا
فهذه طوائف القدرية من حيث العموم :
" النفاة بأصنافهم الذين سبقوا .(33/107)
" و من سعى ليخاصم أو مارى به في الشرع .
وهاتان الطائفتان (من مارى به في الشرع) يعني من مارى بالقدر في الشرع يعني في الامتثال راجع إلى عدم التفريق بين الإرادة الكونية والشرعية ، إلى عدم فهم أنه يجتمع في حق المعين المشيئة الكونية وما لا يريده جل وعلا شرعا ، وهذا ظاهر بين ، و شيخ الإسلام ألمح إلى هذا في هذه الكلمات .
طبعا مسائل القدر متنوعة وشُبَهْ القوم والدخول فيها لا يناسب لأنها تحتاج إلى ردود تفصيلية وتأصيلية ، ولها مجالس أخر إن شاء الله تعالى .
انتهى من هذه المرتبة قال بعدها :
وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ خَلَقَ أفْعَالَهُم وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ. وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ؛
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية .
هذه الدرجة التي هي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وأن الله جل وعلا هو الذي خلق أفعال العباد ، هذه مرتبتان :
" المرتبة الأولى عموم القدرة ونفوذ المشيئة ، هذه المرتبة الثالثة من مراتب القدر .
" والمرتبة الرابعة أن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد .
فانتهى من المرتبة الثالثة وهي الأولى من الدرجة الثانية ، ثم ذكر الأخيرة من مراتب القدر فقال :
(وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ خَالِقٌ أفْعَالَهُم)
العباد جمع عبد ، من هذا العبد الذي يريده المؤلف ؟
فصَّلَ ذلك قال :
(الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ)
(الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، الْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ) هو الذي يفعل فعله حقيقة ليس فعله الذي فعل مجازا وإنما فعل حقيقة ، ما معنى ذلك ؟
يعني حين صلى من المصلي ؟ من الذي فعل الصلاة ؟
هو العبد ، حين تصدق من الذي تصدق على الحقيقة ؟ من الذي فعل الصدقة ؟(33/108)
هو العبد ، حين - والعياذ بالله - شرب الخمر حين سرق حين ارتشى حين أكل الربا حين زنا إلى آخره ، من الذي فعل هذه الأفعال على الحقيقة ؟
الذي فعلها العبد ، هل معنى ذلك أن العبد هو الذي خلق فعل نفسه ؟
نقول : لا ، العبد له قدرة وإرادة وهو الذي فعل هذا الفعل ، فالفعل يُنسب للعبد لأنه هو الذي اختاره وفعله بنفسه لم يُكْرَهْ عليه.
ومع ذلك من الذي خلق فعله ؟
قال شيخ الإسلام :
(وَاللَّهُ خَالِقٌ أفْعَالَهُم)
فإذن اجتمع أن يكون العبد هو الذي فعل على الحقيقة ليس فعلا مجازيا كما يقوله الأشاعرة والماتريدية وطوائف ، وليس هو الذي يخلق فعل نفسه كما يقوله المعتزلة يعني القدرية ، وإنما هو يفعل حقيقة والله هو الذي خلق فعله ، وذلك لمجيء هذه في النصوص :
أما الفعل حقيقة فلأنه جاء في النصوص نسبة الفعل إلى العبد قال جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ? فالعبد هو التواب وإذا كان هو التواب فالتواب صيغة مبالغة من اسم الفاعل تائب ، وتائب اسم فاعل التوبة ، المتطهر هذا اسم فاعل التطهر .
فإذن العبد هو الذي فعل التوبة وهو الذي فعل التطهر بدِلالة اللغة .
وإذا كان كذلك فهذه الدِلالة حقيقية ، فهو الذي فعل التوبة حقيقة لأن الله جل وعلا جعله توَّابا وجعله مُتطهراً .
والأصل كما هو معلوم أن ما أُسْنِدَ إلى العبد فهو الحقيقة باتفاق الناس ، الأصل هو الحقيقة باتفاق الناس ، سواء الذين قسموا لغة العرب إلى حقيقة ومجاز أو الذين لم يقسموا ، بالاتفاق أن الأصل هو الحقيقة .
فإذن عند الجميع ما أسنده الله جل وعلا من الأفعال للعبد هو الذي فعلها حقيقة لأنه هو الأصل.
ولهذا في الأدلة جميعا : صلى ، صام ، تصدق ، إلى آخره ، أمر الله جل وعلا بالصلاة بالصوم بالتصدق ، فَعَلَ العبد هذه الأشياء فهو إذن يفعلها حقيقة ، لكن كيف فعلها ؟(33/109)
جعل الله جل وعلا له قدرة - ركز معي - جعل له قدرة وجعل له إرادة ، هذه القدرة التي جعلها في العبد من الذي خلقها ؟
خلقها الله ، وهذه الإرادة التي جعلها للعبد من الذي خلقها ؟
خلقها الله جل وعلا ، فَفِعْلُ العبد ينتج عن هاتين الصفتين القدرة والإرادة .
والقدرة والإرادة مخلوقتان فإذن ما يحصل منهما مخلوق .
فإذن اجتمع أن العبد يفعل حقيقة وأنه لا يخلق فعله ، لأنه إذا كان يصح أن يقال يخلق فعله معناه ما أحدثه - يعني الأسباب أو الآلة التي جعلته يفعل - يكون هو الذي خلقها ، والآلة التي جعلته يفعل الجوارح أو هذه الصفات القدرة والإرادة هو لم يخلقها وإنما خلقها الله جل وعلا .
فإذن النتيجة هي أن الله خلق فعل العبد لأنه خلق له القدرة وخلق له الإرادة .
والعمل - فعل العبد - لا يكون مطلقا أبدا إلا بقدرة وإرادة ، لا يمكن أن يعمل عملا حتى تكون عنده قدرة وإرادة.
والإرادة نعني بها الإرادة الجازمة والقدرة نعني بها القدرة التامة ، فضابط الإرادة التي يحصل بها الفعل هي الإرادة الجازمة ، والقدرة التي يحصل بها الفعل هي القدرة التامة .
يعني قد يكون مريدا للشيء لكن إرادته مترددة فهل يحصل الفعل ؟
لا يحصل لأنه ما يدري يقول أنا متردد أريد أن أذهب إلى المسجد وأريد أن أذهب إلى مكان كذا ، فإرادته مترددة ، هذه الإرادة المترددة لا يحصل بها الفعل حتى تتحول إلى إرادة جازمة ، فإذا توجه جزم باختيار إحدى الإرادتين صارت إرادته جازمة .
فإن كان عنده قدرة عنده آلات عنده رجل يمشي بها أو أراد أن يكتب وعنده قدرة على الكتابة متعلم للكتابة ويده صحيحة حصل له مراده .
فإذن النتيجة -الفعل - لا يحصل حتى يكون عند العبد إرادة جازمة لهذا المعين من الفعل وقدرة تامة على هذا المعين من الفعل .
في أناس عندهم إرادة جازمة ولكن عندهم قدرة ناقصة ، يريد مثلا أن يسافر هذه اللحظة إلى مكان كذا وكذا هذه إرادة جازمة لكن هل عنده قدرة على ذلك ؟(33/110)
ما عنده قدرة فلا يحصل الفعل .
فإذن نقول الفعل لا يكون من العبد إلا بإرادة جازمة وقدرة تامة .
والإرادة والقدرة مخلوقتان ، فالفعل مخلوق .
هذا من حيث التدليل العام .
ومن حيث التدليل الخاص قال جل وعلا ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ? وفي قوله هنا ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ? وجهان من التفسير :
" الأول أن تكون (ما) بمعنى (الذي) [ والله خلقكم والذي تعملون ] يعني تعملونه .
" الثاني أن تكون (ما) مصدرية تُقَدَّرْ مع الفعل بمصدر فيكون معنى الآية [ والله خلقكم وعملكم ] .
فإذن في الآية دليل على أن الله خالق لأفعال العباد .
لهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه العقيدة المباركة ، قال :
(ولِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ)
الصفات هذه من الذي خلقها ؟
رب العالمين ، هم الذين يفعلون ، من الذي خلقهم ؟
رب العالمين ، إذن النتيجة أن الذي يحصل منهم من الأفعال الذي خلقه رب العالمين .
لكن الفعل فعل من ؟
فعل العبد حقيقة .
قال (وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ)
هذه الدرجة من القدر ، يعني الدرجة الثانية ، الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وكذلك بأن الله هو الذي يخلق فعل العبد يكذب بها عامة القدرية .
ويعني بالقدرية هنا المعتزلة ومن شابههم في نفي القدر .
نفاة القدر هم القدرية :
- الغلاة ينفون العلم
- وهؤلاء ينفون المشيئة النافذة ومنهم من لا ينفي هذه المشيئة النافذة أو القدرة الشاملة ولكن ينفي أن الله خلق فعل العبد .
وتعلمون أنه من المشهور أن المعتزلة يقولون أن العبد يخلق فعل نفسه ، لماذا قالوا ذلك ؟(33/111)
قالوا لأن العبد يعمل المعاصي ، وإذا قلنا إن المعصية خلقها الله جل وعلا فيكون ذلك محذورا من وجهين :
" الأول أن يكون الله هو الذي فعل المعصية .
" والثاني أن يكون أجبرهم عليها .
وهاتان ممتنعتان شرعا وعقلا .
وهذا صحيح فإن الله جل وعلا ليس هو الذي فعل بل الذي فعل العبد ولكن الله خلق ، وقولهم (هذا يعني الإجبار) نقول وكذلك الإجبار منفي .
لكن هل يصح أن يكون هذا الفعل دليلا على أنه يُجْبِرْ ؟
هل يصح أن ذلك دليلا على أنه هو الفاعل ؟
نقول لا ، هذا ليس بصحيح بل النصوص دلت على التباين ، على أن العبد يفعل والله جل وعلا هو الذي يخلق وعلى أن العبد يفعل المعصية والله جل وعلا يأذن بها كونا ولا يرضاها شرعا.
فاجتمع في ذلك المرتبتين اللتين في هذه الدرجة .
فإذن في حق العاصي ، يعني المعتزلة نظروا أنه في حق العاصي ، هذا عصى وحين يشرب الخمر من الذي خلق هذا الفعل ؟
قالوا إذا قلنا إن الله هو الذي خلقه فمعناه هو الذي فعل لأن هناك تلازم عندهم بين الفعل والخلق ، كونه فعل يعني خلق ، وهذا ممتنع فإذن يكون العبد هو الذي خلق .
أيضا لو قلنا إن الله هو الذي خلق ذلك معناه ألغينا إرادة العبد وإذا ألغينا إرادة العبد كان مجبورا على المعصية وهذا يقدح في العدل والله جل وعلا منزه عن الظلم وله صفة العدل .
هذه شبهتهم ، وهذا الذي قالوه باطل واضح البطلان لأنهم لم يفرقوا بين الفعل والخلق ، وكوننا نقول إن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الشيء بمعنى أنه جل وعلا هو الذي خلق ما يكون به هذا الشيء .
ومعلوم أن الأسباب في الشرع تُحْدِثُ المُسَببَّات ، الماء ينزل فينبت به النبات ، الله جل وعلا جعل الماء سببا ، يتزوج الذكر ويضع ماءه في رحم الأنثى فيكون منه الولد .
فالعبد يفعل لكن الذي خلق هو الله جل وعلا ، فالأسباب التي تنتج المسببات مخلوقة فإذن النتائج مخلوقة .(33/112)
وهذه هي التي فاتت أهل الاعتزال ولا غرابة أن يكونوا غلاة في إثبات الأسباب ويناقضون والأشاعرة يقابلونهم في أنهم ينفون الأسباب وينكرون ذلك .
قال شيخ الإسلام هنا (الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ) وهذا قد جاء في حديث في السنن عن ابن عمر وعن غيره (القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم) وهذا الصواب أنه مرسل ولا يصح مرفوعا ، وروي عن غيره .
بعض أهل العلم قال مجموع هذه الروايات يصل إلى الحُسْنْ .
قال بعد ذلك شيخ الإسلام بعد ذلك (وَيَغْلُو فِيهَا) - يعني في هذه الدرجة - (قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا)
هذه احتوت على جملتين :
الأولى (وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ) يعني أن الذين أثبتوا هذه المرتبة ، أثبتوا المشيئة النافذة وأثبتوا القدرة الشاملة - يعني على ما يشاء - أثبتوا أن الله هو الذي خلق فعل العبد ، غلوا في ذلك حتى سلبوا العبد قدرته (وَاخْتِيَارَهُ) يعني إرادته وهم الجبرية ، غلوا في إثبات القدر حتى قالوا إن العبد مسلوب القدرة والاختيار -ي عني مجبور - وهؤلاء الجبرية طائفتان مشهورتان :
- الأولى غلاة الجبرية وهم الذين يقولون إن العبد مجبور على كل شيء وهو بمنزلة المقصور المضطر إلى الفعل فهو كالريشة في مهب الهواء وكحركة القلم في يد الكاتب ، العبد مجبور ليس له اختيار ، مسلوب بتاتا وهو مجبور ولا بد أن يفعل ، هؤلاء الغلاة ، غلاة الجبرية ومنهم الجهمية والصوفية وطوائف .
- وهناك متوسطون في الجبر وهم الأشعرية والماتريدية .
وهؤلاء يقولون إن العبد مجبور باطنا لا ظاهرا .
مجبورٌ في الباطن لكن في الظاهر شكله شكل المُختار .(33/113)
تَنْظُرُ إليه عنده قدرة وإرادة لكنه في الواقع في الباطن مجبور ، وهذا معنى القَدَرْ عندهم أنه الجبر .
لكن هل هو مجبور ظاهرا ؟
يقولون لا ، مجبور باطنا .
إذا كان كذلك فما تقولون في فعل العبد ؟ هل هو يفعل الفعل على ذلك عندكم حقيقة ؟
قالوا لا ، إذا كان مجبورا فمعناه أن الفعل ليس فعلا له حقيقة .
إذن فعل له على أي شيء ؟
قالوا فعل له مجازي .
إذا كان كذلك فمن الذي فعل ؟
قالوا الفاعل هو الله .
العبد ما مهمته ؟
قالوا العبد محلٌ للفعل .
ما معنى محل الفعل ؟
قالوا كما تكون السكين في يد القاطع يقطع بها الخبز .
فالسكين ظاهراً لمن رآها والخبز دون اليد المحركة ، هي التي قطعت .
وفي الواقع هي محلٌ مجبورةٌ على أن تقطع .
فإذا قال كيف قُطع الخبز ؟
يقال بالسكين .
لكن في الواقع من الذي حرك السكين ؟
تحتاج إلى محرك .
فلهذا قال شيخ الإسلام هنا (سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ) فيكون جعلوا العبد بمنزلة الجمادات .
هنا الاجتماع هذا عندهم بين أنه يفعل الفعل مجاز كيف إذن تُنسب له الأعمال ؟
وكيف يحاسب على العمل إذا هو مجبورا عندهم ، يعني عند الأشاعرة والماتريدية الجبرية المتوسطة ؟
قالوا العبد يَكْسِبُ فعله فللعبد كَسْبٌ وهو مجبور على هذا الكَسْبْ .
ما تعنون بالكسب ؟
أنتم تقولون لا يفعل حقيقة وإنما هو بمنزلة السكين ، كيف يكون له كَسْبْ إذا كان مجبورا ؟
اعترف عقلاؤهم وحذاقهم أنه لا مناص من الإجابة عن هذا السؤال .
وهذا الذي أوقع الأشعري في أن يُخْرِجَ الكَسْبْ ، هذه اللفظة خرجت جوابا عن هذا الإشكال هذا الإيراد ، وهذا الكَسْبْ ما تفسيره ؟
الأشاعرة لهم في شروح عقائدهم اختلاف في تفسير الكسب إلى اثني عشر قولا ذُكِرَت في شروح الجوهرة وغيرها .
إذا كان اختلفوا في تفسيره على اثني عشر قولا معناه أن الشيء غير معروف ، والذي ابتدعه الأشعري ، ولهذا قال القائل :
معقولة تدنو لذي الأفهامِ مما يقال ولا حقيقة تحته(33/114)
ـد البهشمي وطَفْرَةُ النظّامِ الكسب عن الأشعري والحالُ عنـ
فهناك ثلاثة أشياء اخترعها أصحابها لا وجود لها في الواقع إنما هي موجودة في أذهان أصحابها ، شيء لا حقيقة له ، لهذا قال :
معقولة تدنو لذي الأفهامِ مما يقال ولا حقيقة تحته
الكسب عند الأشعري
هذا الكسب الذي قاله أن العبد يفعل مجازا هو مجبور في الباطن .
في الظاهر مختار مجبور في الباطن .
وينسب له العمل كسبا ويحاسب عليه كسبا وهو مجبور .
هذا شيء لا يُفهم ، ولهذا ما حقيقة هذا الكسب حتى يُحاسِبْ الله العبد عليه ؟
اختلفوا فيه إلى اثني عشر قولا وكلها أقوال متضاربة ، فمعنى ذلك أنهم اخترعوا شيئا وقعدوه وهم لم يفسروه بتفسير يتفقون هم عليه وهم أهل هذا القول وهذا من أدلة بطلان المسائل كما دَلَّنا ذلك على بطلان قول أبي هاشم في الحال والطفرة عند النَّظَّام .
إذن هذا خلاصة لمذهب الجبرية المتوسطة ولهذا يستعملون كثيرا لفظة الكسب (وهذا من كسبه) (والعبد يكسب الفعل) ويكثرون من هذه اللفظة لأجل هذه العقيدة عندهم .
وأهل السنة والجماعة يستعملون كثيرا بل يستعملون دائما لفظ (فَعَلَ العبد) (عَمِلَ العبد) (صلى العبد) ما يقولون (كسب العبد كذا) .
ما ورد من لفظ الكَسْبْ في القرآن وفي السنة لا يُعني به طبعا هذا المصطلح المحدث وإنما يُعنى به العمل ، ?لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ? يعني لها ما عملت وعليها ما عملت من شر ، لها ما كسبت من خير وعليها ما عملت من شر ، فما ورد في القرآن أو في السنة من لفظ (كَسَبَ) فإنه يراد به العمل ، أما (الكَسْبْ) الخاص ، المصلح الخاص ، فإنما حدث هذا بعد ثلاثة قرون وهذا شيء كما ذكرنا لا حقيقة له .
فإذن هؤلاء سلبوا العبد قدرته واختياره ، قالوا لا يَقْدِرُ وإنما الله الذي فعل ، لا يريد هو وإنما الله الذي أراد .
المعصية من الذي فعلها ؟
هل الله جل وعلا هو الذي فعل المعصية ؟(33/115)
قالوا لا ، الذي فعلها العبد مجازا ، أُجْبِرَ عليها ففعل فصار محلا لهذا الشيء ، بمنزلة الأشياء الجامدة.
وهذا لا شك فيه والعياذ بالله كما قال المعتزلة في ردهم على الأشاعرة فيه نسبة الظلم إلى الله جل وعلا ، وهكذا كل جبري فإنه ينسب الظلم إلى الله جل وعلا .
إذن إذا كان على ما قالوا ما قولهم في الحكمة ؟
هل الله جل وعلا أفعاله معللة ؟
طبعا استحضروا هذا الشيء ، هل في هذا إثبات الظلم ؟
إذن هذا ليش حصل هذا الشيء ؟
فاضطروا إلى أن ينفوا الحكمة فيقولون إن الله جل وعلا لا يُوصَفُ بالحكمة ولا يُوصَفُ بأن فعله موافق لحكمة أو فعله معلل .
وهذه هي آخر جملة ذكرها لك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال (وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا) إذا كان كذلك فهو لا شك نتيجة أنهم ينفون الحِكَمْ وينفون المصالح لأنهم لا يقولون بالاختيار ولا يقولون إن العبد يفعل وإذن يكون هناك أن الله فعل ولا حكمة له في ذلك حتى يتخلصوا من نسبة الله جل وعلا إلى الظلم .
وأصل الضلال في ذلك كما ذكرنا ، أصل الضلال في باب القدر في جميع الفرق سواء فرقة الغلاة الإبليسية أو المشركين كل هؤلاء الأصل في ضلالهم هو الخوض في الأفعال .
وكل أحد على الفطرة - ما خاض في هذه المسائل - يُحِسُّ من نفسه أنه مختار ، يُحِسُّ من نفسه أنه يفعل هذا أو هذا وهذا شيء فطري ضروري ، كل واحد يحس أنه يختار هذا الفعل ويختار هذا الفعل فإما هذا وإما هذا .
فإن عامل الله جل وعلا العبد بِعَدْلِهِ وخَذَلَهُ ، عامله بالعدل وتركه ونفسه جعله يختار بدون إعانة.
يختار يعني ما بدا له اختاره وما لم يَبْدُ له تركه إلى آخره - والله أعطى العبد القدرة والاختيار .
وإذا أراد الله جل وعلا بالعبد خيرا أعانه .
أعانه على أن تكون إرادته في الخير وأعانه على تكون إرادته فيما يحب ويرضى .
وهذه الإعانة هي التي تسمى بالتوفيق .(33/116)
فالتوفيق أمر زائد على الاختيار .
كل أحد يختار أعطاه الله جل وعلا الاختيار ?وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ? هو يريد ويحس ذلك فطرة ، المطيع هل إذا أطاع وتعبد الله وأفلح وتابع وأخلص هل هذا الفعل إذا أَحَسَّ هو بالإرادة يُقْنِعُ نفسه بأنه هو الذي حَصَّلَ هذه الأشياء ؟
لا ، ولكن يعلم أنه أُعِينَ عليها ، وهذا هو التوفيق .
فكل أحد من أهل الفطرة إذا فعل طاعة يعلم أنه هو الذي اختار وهو الذي فعل لكن لو شاء الله جل وعلا لصرفه عن ذلك بمعنى ، ما معنى لو شاء الله لصرفه ؟
بمعنى أن يكله إلى نفسه فلا يوفقه ولا يعينه فإذا تُرِكَ ونفسه فإنه يَضِلْ .
فإذن المؤمن يُحِسُّ بتوفيق الله له ، يُحِسُّ بالإعانة يُحِسُّ بأنه حُبِّبَ إليه الخير وكُرِّهَ له الشر ، ومن عومل بعدل الله جل وعلا : هو أمامك اختر هذا الطريق أو هذا الطريق .
إذن في مذهب أهل السنة والجماعة فيه إثبات هذه المراتب وفيه إثبات أن أفعال الله معللة ، أفعال الله الكونية وكذلك أحكام الله جل وعلا الشرعية .
ففعلُ الله في كَوْنِهِ مُعِلَّلْ .
يعني فَعَل الله جل وعلا لعلة ، لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها ، وقد ذكرت لكم أن الحكمة في صفات الله تفسر بأنها وضع الشيء في موضعه الموافق للغايات المحمودة منه .
وضع الشيء في موضعه هذا عدل ، فإذا كان وضع الشيء في موضعه موافق لغاية محمودة منه صار حكمة .
الظلم وضع الشيء في غير موضعه مقابل للعدل .
فإذن الله جل وعلا تُثْبَتُ له الحكمة والتعليل في أفعاله الكونية وفي أحكامه الشرعية ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة ، والنصوص في ذلك كثيرة بينة .
هذا نهاية مبحث القدر في كلام شيخ الإسلام ، هذا المبحث طويل جدا لكن ذكرنا منه ما يتعلق بكلام شيخ الإسلام خاصة في مباحث الأفعال والأحكام إلى آخره .(33/117)
ومما ينبغي لطالب العلم أن يستحضره دائما في هذا الباب ما ابتدأنا به الكلام وهو أن القدر سر الله جل وعلا ، كما قال علي رضي الله عنه (القدر سر الله في تكشفه) .
لا يستطيع أحد أن يكشفه ، ولكن كيف يحاول ويروم ذلك ؟
إذا خاض في الأفعال والتعليلات .
الله جل وعلا فعله معلل لكن لم يُطْلِعْ العباد على علل ذلك جل وعلا وتبارك وتقدس ربنا ، ولهذا قال شيخ الإسلام في التائية :
هو الخوض في فعل الإله بعلةِ وأصل ضلال الخلق من كل فرقة
فصاروا على نوع من الجاهليةِ فإنهمُ لم يفهموا حكمة له
فإنك إذا لم تعلم علم الله فإنك لن تفهم الحِكًمْ .
وتريد أن تفهم الحِكًمْ والأسرار بعلمك القاصر ، هذا مستحيل .
وقد تخاصم الملائكة في الملأ الأعلى كما قال جل وعلا ?مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ? حديث اختصام الملأ الأعلى معروف ، كذلك وقع بين موسى عليه السلام والَخِضْر في السورة التي تُكَرَرْ دائما في يوم الجمعة سورة الكهف ، وقع بينه وبين الَخِضْر تلك المساءلات وموسى مع أنه كليم الله لكنه لم يدرك العلل ، ما عرف فاعترض وكان الصواب مع الَخِضْر لأنه عُلِّمَّ من لدن الله جل وعلا علما .
فإذن أساس هذا الباب الإيمان والتسليم ، العلم بأن علم الله جل وعلا لا يمكن للعباد أن يحيطوا بشيء منه إلا بما قُدِّرَ لهم ، وأن الخوض في الأفعال والتعليلات : لم فعل ؟ ولم حصل لي كذا ؟ ولم أفقرت ؟ ولم غنيت ؟وليش كذا ؟ هذا باب من أبواب الشيطان يُدْخِلُها على العبد ، وقد ذكر هذه الخلاصة الأخيرة أحد العلماء في أبيات جميلة قال فيها :
حكى بين الملائكة الخصاما تَسَلَ عن الوِفاق فربنا قد
ـمُكَلَّمُ إذ ألَمَّ به لِماما كذا الخَضِرُ المُكَرَّمُ والوجيه الـ
تَكَدَّرَ صفوُ جمعِهمها مرارا
لماذا تكدر الصفو ؟
بالأسئلة .
حُرِم موسى علما ، ليش ؟(33/118)
لأنه سأل ، وهكذا من خاض في القدر فإنه يحرم العلم ومن لم يسلم فيه يحرم العلم ، قال :
ـمُكَلَّمُ إذ ألَمَّ به لِماما كذا الخَضِرُ المُكَرَّمُ والوجيه الـ
فَعَجَّلَ صاحِبُ السِرِّ الصَّراما تَكَدَّرَ صفوُ جمعِهمها مرارا
وقد ثنَّى على الخَضِرِ الملاما ففارقه الكَليمُ كَليم َقلبٍ
ـعلوم هناك بعضا أو تماما وما سبب الخلاف سوى اختلاف ال
إله مخالفا فيها الأناما فكان من اللوازم أن يكون الـ
فلا تجهل لها قدرا
يعني هذه الحكمة البليغة وهذا البيان
شكورا للذي يحيي الأناما فلا تجهل لها قدرا وخذها
فهذا باب هدى الله جل وعلا فيه أهل السنة كما هداهم في غيره ونحمد الله جل وعلا أن جعلنا منهم ونسأله لنا ولكم الثبات على القول الصالح والعمل الصالح وأن يميتنا ثابتين غير خزايا ولا مفتونين وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
حقيقة الإيمان
وحكم
مرتكب الكبيرة
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.(33/119)
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ؛ بَلِ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ?فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ?[البقرة:178]، وَقَالَ: ?وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(9)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ?[الحجرات:9-10].
وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّار؛ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ.(33/120)
بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ?[النساء:92]، وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا?[الأنفال:2]، وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإن عقيدة أهل السنة والجماعة من حيث بيانها وتبويبها كما ذكرنا لكم مرارا يَقْسِمُونها إلى ثلاثة أقسام .
" والأول من هذه الأقسام هو الكلام على أركان الإيمان الستة ، وقد بين شيخ الإسلام فيما مضى الكلام على الإيمان بالله وذكر ما دخل في تلك الجملة العظيمة من الإيمان بأسمائه وصفاته والقواعد في ذلك وإثبات الصفات وما خالف فيه المبتدعة أهلَ السنة في ذلك فقرره رحمه الله أحسن تقرير.
" ثم ذكر مسائل متصلة أيضا ببقية أركان الإيمان .(33/121)
" وهذا الفصل معقود لبيان معنى الإيمان أصلا لأن تلك إيمان بالله بالملائكة باليوم الآخر بالكتب بالرسل بالقدر خيره وشره وهذا معنى الإيمان ما هو ؟
بم يحصل الإيمان ، ومسألة الحكم ، ومتى يسلب الإيمان ، ومتى يطلق عليه اسم المؤمن أو اسم المسلم إلى غير ذلك مما يسمى مسائل الأسماء والأحكام .
وهذا الكلام من الأمور المهمة يعني بيان مسألة الإيمان وهي التي كَثُرَ كلامُ السلف فيها رحمهم الله تعالى ، وذلك لأن الخلاف فيه كان متقدما .
فأول خلاف جرى في هذه الأمة هو الخلاف في مسائل الإيمان من جهة الأسماء والأحكام ، فحصل خلاف الخوارج ثم حصل خلاف المرجئة ثم المعتزلة إلى آخر ذلك .
فمسألة الإيمان من المسائل المهمة العظيمة ، ولذلك صَنَّفَ فيها السلف مصنفات مستقلة كثيرة.
وفي داخل كتب أهل السنة من الصحاح والمسانيد والسنن وكتب الاعتقاد والشريعة أصول كثيرة مُقَرِّرة لهذه المسألة ، ولهذا قال شيخ الإسلام هنا :
فصل : وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ)
وهذا أمر مجمع عليه ، قال البخاري رحمه الله (طفت الأمصار وأدركت نحو ألف من علماء المسلمين علماء الأمصار كلهم يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) ولهذا يقال إن البخاري رحمه الله لم يُخَرِّجْ في صحيحه إلا لمن قال إن الإيمان قول وعمل .
وهذا القَدْرْ مُجْمَعٌ عليه بين أهل السنة وهو أن الإيمان قول عمل .
وبعض الأئمة كأحمد وغيره يزيد ويقول (قول وعمل ونية) .
و(القول والعمل) اثنان و(قول وعمل ونية) ثلاثة ولكنها ترجع إلى الاثنين كما سيأتي .
فتعدد عبارات السلف في بيان أركان الإيمان كلها ترجع إلى معنى واحد ، فليس ذلك من الخلاف كما سيتضح عند بيان كلام الشيخ رحمه الله .(33/122)
قال من أصولهم (أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ) الدين يشمل مراتب الدين الثلاثة : الإسلام والإيمان والإحسان ، وعَطْفْ الإيمان عليه من باب عطف الخاص على العام وذلك للاهتمام به ولأن الكلام كان في الإيمان .
فالإيمان إذن قول وعمل ، فصَّل ذلك فقال :
(قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ)
القول يرجع إلى القلب وإلى اللسان ، والقلب له قول واللسان له قول :
- أما القلب فقوله اعتقاده ، لأنه باستحضار أنه ينطق في قلبه بهذه المعتقدات أو يقولها قلبا.
- واللسان بتكلمه بالشهادتين .
- وعمل القلب هو النية .
- وعمل اللسان هو ما يجب أن يتكلم به المرء في عباداته بلسانه من مثل الفاتحة والأذكار الواجبة إلى غير ذلك مما يجب .
- والجوارح عملها بما يتصل بعمل اليدين والرجلين وسائر جوارح ابن آدم أو سائر جوارح المكلفين .
هذا من حيث الجملة في صلة هذه الكلمات .
فإذن رَجَعَ أن (القول والعمل والنية) هو القول والعمل .
فإذا قلت إن الإيمان (قول وعمل) عند أهل السنة فالعمل هو عمل القلب واللسان والجوارح وعمل القلب هو نيته .
فإذن من قال هو (قول وعمل ونية) فَصَّلَ العمل فأخرج عمل القلب فنص عليه وقال هو النية .
ومعلوم أن عمل القلب أوسع من النية يدخل فيه أنواع عبادات كثيرة كما سيأتي بيانه ، إنما أردت بذلك أَنَّ تَنَوُعْ العبارات في هذا راجع إلى شيء واحد وإنما هو تفصيل لبعض المجملات ، فمنهم من فصّل ومنهم من قال قول وعمل واكتفى بذلك والكل صحيح موافق للأدلة .
هذه مقدمة لبيان تنوع العبارات في الإيمان .
والإيمان من الألفاظ التي لها استعمال في اللغة ولها استعمال في الشرع .
لها استعمال في الكتاب والسنة ولها استعمال في اللغة .
فالإيمان لغة مشتقٌ من الأَمْنْ (أمِنَ يأمنُ أمانا) واشتُقَ منه (إيمان) .
فالإيمان من حيث الاشتقاق راجع إلى الأمن .
ومعنى الإيمان في اللغة : التصديق والاستجابة .(33/123)
التصديق الجازم والاستجابة إذا كان فيما صُدِّقَ استجابة له بعمل ، بل إن التصديق في الحقيقة في اللغة وفيما جاء في القرآن لا يطلق إلا على من استجاب .
ولهذا بعض أهل العلم يقول : الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم ولا يذكر قيد الاستجابة وذاك لأن التصديق لا يقال له تصديق حتى يكون مستجيبا في ما كان يحتاج إلى الاستجابة في أمور التصديق .
وقد قال جل وعلا في قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل قال ?فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا? ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام كان مصدِّقا للرؤيا لأنه هو الذي رآها فلم يكن عنده شك من حيث اعتقاد أنه رأى ، ورأى هذا الشيء الذي رآه ، ولكن سمي مصدقا للرؤيا لما استجاب بالفعل ?وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا? متى ؟
لما ?أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ? .
فإذن التصديق الجازم في لغة العرب :
" تارة يكون من جهة الاعتقاد .
" وتارة يكون من جهة العمل .
فما كان من الأخبار فتصديقه باعتقاده وما كان من الأوامر والنواهي يعني من الإنشاءات فتصديقه بامتثاله ، هذا من جهة دلالة اللغة وكذلك جاءت في استعمال القرآن .
لهذا نقول إن الإيمان يقال عنه في اللغة التصديق الجازم هذا صحيح واشتقاقه من الأمن كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان وغيره من أهل العلم .(33/124)
والأوضح أن يقال التصديق والاستجابة ، الإيمان التصديق والاستجابة ، وذلك لأنه يعدى في القرآن باللام ، يعدى الإيمان اللغوي في القرآن باللام كما أنه في اللغة أيضا قد يعدى باللام ، قال جل وعلا ?فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ? عَدَّى الإيمان باللام لأن الإيمان هنا تصديق واستجابة ، وقال جل وعلا ?وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ? ?مَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا? عداه باللام لأن الإيمان هنا هو التصديق ، وقال جل وعلا أيضا في قصة موسى في سورة الدخان ?وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ? يعني التصديق معه الاستجابة ، هذا الإيمان اللغوي ، في هذه الآيات الإيمان اللغوي ، فضابط استعمال الإيمان اللغوي في القرآن أنه يُعدى باللام غالبا.
وأما إذا عُديَ الإيمان في القرآن بالباء فإنه يراد منه الإيمان الشرعي المخصوص ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ? هذا بالباء (آمن بكذا) هذا الإيمان الشرعي ، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ? بالباء ، والآيات في تعدية الإيمان بالباء كثيرة.
لماذا عُدِّي الإيمان في تلك المواضع باللام ؟
عُدِّي لأنه مُضَمَّنٌ معنى الاستجابة أو لأن معناه التصديق والاستجابة ، والاستجابة في اللغة تُعَدَّى باللام ?فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ? (استجاب لفلان) (سمع الله لمن حمِده) لأن السماع هنا مُضَمَّن معنى الإجابة يعني (أجاب لمن) وهذا يوضح أن لفظ الإيمان في اللغة تصديق معه الاستجابة .
فإذن في اللغة الإيمان اعتقاد واستجابة .
وفي الشرع صار الإيمان بأشياء مخصوصة ، اعتقاد خاص واستجابة خاصة ، وزيادة مراتب وشروط وأركان .(33/125)
إذا تبين ذلك فإن الإيمان الشرعي له صلة كما ذكرنا بالإيمان اللغوي ، والإيمان اللغوي منه العمل ، منه الاستجابة ، حتى التصديق لا يقال إنه صدق الأمر حتى يمتثل في اللغة .
يعني التصديق الجازم متى ؟
إذا امتثل ، ?وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا? متى صار مصدقا ؟ لما ?أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ? .
الإيمان عند أهل السنة والجماعة أخذوا أركانه بما دلت عليه النصوص فقالوا إن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص ، وهذه هي الجملة التي ذكرها شيخ الإسلام هنا فقال :
(مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ)
قول وعمل (قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ) هذا ركن القول .
" قول القلب واللسان :
أما قول القلب فهو جملة الاعتقادات التي تكون في القلب :
- الاعتقاد بالله وملائكته وكتبه ورسله
- الاعتقاد بجميع الأخبار الاعتقاد بالتزام جميع الأوامر والتزام جميع النواهي ونعني بكلمة (التزام) أنه يعتقد أنه مُخاطَبٌ بذلك غير اعتقاد الوجوب ،لا ، اعتقاد الالتزام ، قول القلب جملة الاعتقادات .
قول اللسان الذي يدخله في الإسلام وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
" ثم عمل القلب :
أعمال القلب كثيرة متنوعة فأول الأعمال وأعظمها النية والإخلاص .
النية والإخلاص مترادفان تارة وأحدهما يفارق الآخر تارةً أخرى .
النية تارة تستعمل لتمييز العبادة عن غيرها ، وتارة تستعمل النية في إخلاص القصد ، إخلاص العمل لله .
فإذا قلنا إن عمل القلب يدخل فيه النية والإخلاص فنعني :
- بالنية تمييز العبادة عن غيرها حتى يكون يتعبد وقد ميَّزَ هذا العمل من غيره .(33/126)
- والإخلاص أن يكون قصد وجه الله جل وعلا وحده بإسلامه بالعمل الذي يعمله باعتقاداته إلى آخر ذلك .
يدخل في عمل القلب الصبر والتوكل والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والرغب والرهب إلى آخر أنواع أعمال القلوب وهي واجبات .
" وعمل اللسان الواجب : يعني ما كان امتثاله من الأوامر راجعا إلى اللسان .
أُمِرَ بأن يقول كذا في الصلاة فقوله لتلك الأشياء في الصلاة هذا عمل اللسان الواجب ، أُمِرَ أن يقول كذا حين يهل بالحج هذا من عمل اللسان الواجب .
" وعمل الجوارح يعني امتثال الأوامر واجتناب النواهي الراجعة إلى أعمال الجوارح يعني غير اللسان.
والمقصود بعمل الجوارح هنا عند أهل السنة والجماعة جنس الأعمال لا كل عمل ولكن جنس الأعمال هي التي تدخل في ركن الإيمان .
فلو تُصُوِّر أن أحدا لم يعمل عملا البتة ، يعني لم يمتثل أمرا ولم يجتنب نهيا ما عمل شيئا البتة فهذا لم يأت بهذا الركن من أركان الإيمان الذي هو العمل ، لأن العمل لا بد فيه : قلب ولسان وجوارح جميعا .
لكن لو تُصُوِّر أنه أتى ببعض الطاعات وترك بعضا ، امتثل أمرا ، أمرين ، ثلاثة ، عشرة ، أو امتثل التحريم يعني النهي عن فعل ، فعلين ، ثلاثة ، فهذا يدخل في الإيمان وقد أتى بهذا الركن عند أهل السنة والجماعة .
في مسألة الصلاة خلاف ، هل هذا العمل هو الصلاة أم غير الصلاة ؟
هذا فيه خلاف بين أهل السنة والجماعة .
هل العمل المشترط هو الصلاة أم غير الصلاة ؟
والبحث هنا يكون هل ترك الصلاة تهاونا وكسلا يخرج به من الإيمان أم لا ؟
ومنهم من قال يخرج به من الإيمان يكفر ، ومنهم من قال لا .
من قال إنه لا يخرج من الإيمان بترك الصلاة فإنه يقول لو ترك جنس العمل لخرج من الإيمان .(33/127)
يعني لو كان لم يعمل خيرا قط لم يصل ولم يزك ولم يحج ولم يصم ولم يصل رحمه طاعتة لله ولم يبر بوالديه طاعة لله ولم يترك الزنا طاعة لله يعني فُرِض أنه لم يوجد شيء البتة فهذا خارج من اسم الايمان لم يأت بهذا الركن بالاتفاق ، ثم في الصلاة الخلاف المعروف عندكم .
فإذن صارت أركان الإيمان بصيغة أخرى قول وعمل واعتقاد .
ولهذا تعرفون العبارة المشهورة أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة (قول اللسان واعتقاد الجنان وعمل بالجوارح والأركان يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان) .
فشمل الإيمان عندهم هذه الخمسة أشياء ، والعمل ركن من أركان الإيمان وذلك لأن الله جل وعلا سمى الصلاة عملا فقال سبحانه ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ? والإيمان هنا كما هو معروف في سبب نزول هذه الآية هو الصلاة لأنها لما نزلت آيات تحويل القبلة قال بعض الصحابة ما شأن صلاتنا حين توجهنا إلى بيت المقدس ، وقال آخرون ما شأن الذين ماتوا قبل أن يدركوا القبلة الجديدة ؟ ضاعت أعمالهم ؟
فأنزل الله جل وعلا قوله ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ? وجه الاستدلال : أنه سمى الصلاة إيمانا ، وتسمية الشيء أو إطلاق الكل وإرادة الجزء دال على أنه من ماهيته يعني ركنا فيه كما هو مقرر في الأصول .
وبهذه القاعدة استدل أهل العلم على أن القراءة في الصلاة واجبة بقوله تعالى ?وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا? والمراد بالقرآن هنا الصلاة فسمى الصلاة قراءة فأطلق عليها ذلك لأنها جزؤها فهذا دليل من دلائل الركنية .(33/128)
فإذن دليلُ أنَّ العمل ركن من أركان الإيمان قوله جل وعلا ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ? ومن الأدلة على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لوفد عبد القيس (آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وأن تؤدوا الخمس من المغنم) وفي بعضها إسقاط الحج فأدخل أداء الخُمُس وأدخل الصلاة والزكاة في الإيمان في تفسير الإيمان وهذه أركان الإسلام بالاتفاق : الصلاة والزكاة والصيام . أركان الإسلام وجعلها تفسيرا للإيمان فدل على أنها ركن له .
ولهذا عند أهل السنة أن الآيات التي عُطِفَ فيها العمل على الإيمان أنه من باب عطف الخاص على العام ، قال جل وعلا ?إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? وقال ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا? فعطف العمل على الإيمان وهذا من عطف الخاص على العام
لا يعني أنه ليس بركن كما استدل به المرجئة قالوا هو خارج عن الماهية بل هذا من عطف الخاص على العام .
هل يعطف الخاص على العام ؟
نقول نعم يُعطفُ الخاص على العام كما أن العام يعطف على الخاص ، قال جل وعلا ?مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ? قال ?مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ? ثم قال ?وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ? وجبريل وميكال من الملائكة ومن الرسل أيضا يعني من رسل الملائكة إلى البشر ، نريد من هذا تقرير أدلة أهل السنة والجماعة على مثل هذه المسائل .
فالإيمان عندهم هو قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص .(33/129)
أما الزيادة والنقصان فإن أدلتها كثيرة ، والأدلة للزيادة هي أدلة النقصان قال جل وعلا ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ? وجه الاستدلال أن في الآية حصرا ، قال ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ? فحصر وصف المؤمنين بأنهم ?إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا? فإذن دل على أن صفة الإيمان بالحصر يكون فيها الزيادة وإذا كانت فيها الزيادة فإنه يكون فيها النقصان لأن الاسم ليس شيئا واحدا وإنما هو متفاوت فما كان فيه من زيادة فإنه إذا تركت الزيادة أو ذهبت الزيادة رجع إلى نقص ، قال جل وعلا ?لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ? .
فأهل السنة والجماعة عندهم زيادة الإيمان ثابتة في الأدلة ، وكل دليل فيه زيادة الإيمان فيه حجة على نقص الإيمان ، يعني على أن نقص الإيمان داخل في المسمى ، يعني أن الإيمان يزيد وينقص ، فعرَّفوا الإيمان بما دلت عليه الأدلة ، عندهم الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
من أهل السنة من قال (هو يزيد ولا ينقص) وذلك لأن الأدلة دلت على زيادته ولم تدل على نقصانه وهذا ليس بجيد لأن الشيء إذا زاد فإذا ذهب عنه ما كان سببا في الزيادة فإنه ينقص ، وما كان قابل للزيادة فإنه قابل للنقصان كما قرره العلماء .
قال بعد ذلك شيخ الإسلام رحمه الله (وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ)
يعني مع إقرارهم بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص فإنهم لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي .(33/130)
والمراد بأهل القبلة من ثبت إسلامه ، فأهل القبلة اسم يطلق على أهل التوحيد ، وليس المراد به من صلى إلى القبلة وكان مشركا أو كان مرتكبا لشيء كفري بل المراد بأهل القبلة هم أهل التوحيد.
وقد جاء هذا في حديث صحيح (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم) واستقبال القبلة أُخِذَ منه أهل القبلة ، وقد جاء هذا التنصيص لفظ (أهل القبلة) في بعض الأحاديث التي في إسنادها مقال
(هُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ) يعني من ثبت له الإسلام .
وقوله (لا يُكَفِّرُونَ) يعني لا يخرجونه من الإيمان ، لأن الكفر والإيمان شيئان متضادان إذا ثبت اسم الإيمان طُرِدَ الكفر وإذا ثبت اسم الكفر طُرِدَ الإيمان ، فوجود أحدهما دال على انتفاء الآخر ، هما ضدان ، إذا وجد الإيمان إذا كان مؤمنا فإنه ليس بكافر وإذا كان كافرا فإنه ليس بمؤمن .
ولهذا (لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ) يعني أهل التوحيد بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي ، فالإيمان عند أهل السنة قول وعمل واعتقاد وبالتالي لا يكون التكفير بترك بعض العمل إذا فعل المعصية أو الكبيرة فإنه لم يترك العمل كله وما ارتكب ما يقدح في أصل العمل فلهذا لا يَخْرُجُ من الدين لا يَخْرُجُ من الإيمان .
قال (بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي) المقصود بقوله مطلق المعاصي يعني وجود المعصية .
واستعمال شيخ الإسلام في هذا الفصل استعمل بعض اصطلاحات الأصوليين وهذا الاصطلاح هو التفريق بين مطلق الشيء والشيء المطلق .
فقال هنا (مُطْلَقِ الْمَعَاصِي) فَفَرْقٌ بين المعاصي المطلقة أو المعصية المطلقة وبين مطلق المعصية .
فقوله (مُطْلَقِ الْمَعَاصِي) يعني أصل المعصية ، وجود المعصية .
فمطلق الشيء وجود أدنى درجاته .
والشيء المطلق وجود كل درجاته أو وجود كماله .
فقوله (لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ) يعني بوجود بعض المعاصي والكبائر (كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ)(33/131)
لم لا يكفرون ؟
لأنه إذا ثبت له اسم الإيمان بحصول القول والعمل والاعتقاد فإنه لا يخرج عنه بانتفاء بعض أجزائه.
يعني العمل ركن فلو انتفى بعض العمل لا يكفرونه ، القول ركن إذا انتفى بعض القول الذي ليس هو شرط في الدخول في الإيمان فإنهم لا يكفرونه ، إذا انتفى بعض الاعتقاد فإنهم لا يكفرونه يعني بمطلق وجود هذا الشيء حتى يوجد اعتقاد خاص يضاد أصل ذلك الاعتقاد ، حتى يوجد عمل خاص يضاد أصل الاعتقاد أو العمل ، حتى يوجد قول خاص يضاد أصل القول .
فإذا ثبت اسم الإيمان بيقين فإن أهل السنة لا يُخْرِجُون أحدا ثبت له اسم الإيمان باليقين إلا بشيء يقيني بمثل الذي أدخله في الإيمان .
فهو ثبت له اسم الإسلام والإيمان فلا يخرجونه عنه بشيء لا ينقض أصل الإيمان .
ولهذا أهل السنة فيما صنفوا في كتب الفقه يجعلون أن الردة تحصل بقول وعمل واعتقاد .
المرجئة الذين منهم الأشاعرة يجعلون الإيمان هو الاعتقاد والقول ، فلهذا يجعلون الكفر هو مضادة الاعتقاد الذي هو إما الاعتقاد أو التكذيب وحده .
ولهذا تجد أن الذين يعرفون الكفر من أهل السنة لهم فيه تعريف ، والذين يعرفون الكفر من الأشاعرة لهم فيه تعريف .
مِثِلْ مثلا الرازي يعرف الكفر بالتكذيب ، الغزالي يعرف الكفر بالتكذيب ، لماذا ؟
لأن أصل الإيمان عندهم هو الاعتقاد لأنهم أشاعرة والأشاعرة مرجئة .
إذن قول شيخ الإسلام هنا (وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي) هذا بالنظر إلى أحد أركان الإيمان وهو العمل وذلك لأن أول شيء وقع في هذه الأمة هو إخراج المسلم من إسلامه بعمل ، وهذا الذي حصل من الخوارج فإنهم قالوا إن من ارتكب الكبيرة فإنه كافر خارج من الإيمان والإسلام فكفروا كثيراً من الصحابة والتابعين والعلماء بذلك نسأل الله العافية والسلامة.
......
المرجئة درجات يأتيتنا تفصيل الكلام عليهم .(33/132)
قوله (بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ) الكبائر جمع كبيرة والكبائر لفظ استعمل في القرآن ، قال جل وعلا ?إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ? وفي السنة أيضا جاء استعمال لفظ الكبائر .
فبيقين أن الذنوب منها كبائر ومنها صغائر .
والكبيرة ضابطها هي [ ما كان فيه حد في الدنيا أو وعيد بالنار في الآخرة ] هذا في الإجمال .
حد في الدنيا والمقصود بالحد هنا الحد في اصطلاح الفقهاء ليس الحد في الاستعمال الشرعي لأنه يُستَعْمَل في النصوص لفظ الحد وقد يدخل فيه التعزير ، فالمقصود هنا بالحد الحد عند الفقهاء ، أو وعيد في الآخرة ، وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك [أو جاء نفي الإيمان أو اللعن أو الغضب] إذا اقترن بالمعصية نفي لإيمان من فعلها أو لعنة من فعلها أو الغضب على من فعلها .
وهذا نظمه الناظم بقوله :
بأخرى فسِمْ كبرى على نص أحمدِ فما كان فيه حد في الدُّنا أو توعد
بنفي لإيمان ولعن لمبعدِ وزاد حفيد المجد أو جا وعيده
فإذن الكبيرة هي ما كان فيه حد في الدنيا أو وعيد بالنار في الآخرة أو اقترنت بنفي لإيمان (لا يؤمن) أو اقترنت بغضب أو لعنة . هذه الكبائر ، فإذا فعل شيئا يصدق عليه هذه فإنه عند أهل السنة لا يخرج من الإيمان ، وعند الخوارج يخرج من الإيمان ويكون كافرا .
أما الصغائر فهي ما كان دون الكبائر يعني (ما حُرِّمَ ولم يلحقه ذلك الوعيد) حُرِّمْ : معصية جاء النهي عنها وكان النهي فيها للتحريم ولم يأت فيها الوعيد ذاك الذي نُصَ عليه في ضابط الكبائر .
من أهل العلم من قال الكبيرة والصغيرة لا تنضبط بهذه الأوصاف وإنما ما عَظُمَت مفسدته في الشرع فإنه كبيرة وما خفَّتْ مفسدته فإنه صغيرة ، وهذا ليس بجيد والأول أظهر .
وكم عدد الكبائر ؟
هي إلى السبعين أو إلى السبع مائة أقرب ، هي كثيرة .
وقد قال بعض السلف (لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار) .(33/133)
وقال بعض أهل العلم إن الصغيرة قد يقترن بها من الاستخفاف وعدم الخوف وعدم المبالاة ما يلحقها بالكبائر ، وقد يقترن بالكبيرة حين يفعلها صاحب الكبيرة من الوجل والخوف وتعظيم نهي الله جل وعلا ما يجعلها ملحقة بالصغائر ، فإذن هذا يدل على أن الصغيرة قد تُلْحَقْ بالكبيرة والكبيرة قد تُلْحَقْ بالصغيرة لكن ذاك من جهة الضابط العام .
(كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ)لأن الخوارج ابتدعوا هذه المسألة وهي أن فاعل الكبيرة كافر خارج من الملة فيطلقون عليه اسم الكافر في الدنيا ، وفي الآخرة هو مع الكفار مخلد في النار لا تنفعه شفاعة ولا يخرج من النار بشفاعة أحد ، مع الكفار ، مثله مثل الكفار .
وأما المعتزلة فإنهم شابهوا الخوارج في الآخرة ، قالوا في الآخرة نعم هو من أهل النار خالدا مخلدا في النار لكنه في الدنيا لا يطلق عليه اسم الإيمان ولا اسم الكفر بل هو في منزلة بين المنزلتين ليس بمؤمن ولا بكافر ، في شيء بينهما .
ما هذا الشيء الذي بينهما ؟
ليس له اسم ، اسمه المنزلة بين المنزلتين وهذا أحد أصولهم الخمسة .
قرر شيخ الإسلام بعد ذلك الأدلة على أن قول الخوارج باطل وعلى أن قول أهل السنة حق قال :
(بَلِ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ?فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ?) وهذا في القتل (وَقَالَ: ?وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا?)(33/134)
فسماهم مؤمنين مع وجود الاقتتال ، والقتال كبيرة من الكبائر ، ولهذا أهل العلم يستدلون بهذه الآية على إبطال قول الخوارج لأن الله جل وعلا سماهم مؤمنين مع وجود هذه الكبيرة منهم وهي الاقتتال ، مع وجود كبيرة قتل المسلم ، قال ?وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا? وقال بعد ذلك ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ? فسمَّاهم مؤمنين مع وجود الاقتتال وسماهم إخوة مع وجود الاقتتال .
والأخوة لفظ يدل على الاقتران (هذا أخ لهذا) يعني مشترك ومقترن به في وصف :
" قد تكون أخوة قبيلة كما قال ?وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً? ?وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا? .
" وقد تكون أخوة أب بعيد .
" وقد تكون أخوة أب قريب فيقال (هذا أخ لفلان) يعني هو والثاني يشتركان في أب واحد.
" وقد تكون في صفة ، صفة صالحة أو صفة سيئة .
من صفات الصلاح الإيمان قال ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? لأنهم اشتركوا فيه ، فدل على أن هذا الاشتراك في اسم الإيمان بقي مع وجود القتال ، مع وجود أن هذا يقتل هذا وذاك يقتل ذاك .
وفي الكفر قال جل وعلا ?وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ? .
إذن دل على أن لفظ الأخوة هو للاشتراك في الصفة ، فهذا وذاك اشتركا في صفة الاقتتال ومع ذلك اشتركا في صفة الإيمان فلم يسلب الإيمان بوجود القتال ، قال بعد ذلك يعني بعد هذين الدليلين :
(وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ )
والفاسق هو من حصل منه الفسق ، لأن الفاسق اسم فاعل الفسق .
والفسق في اللغة الخروج عن الشيء ، يقال (فسقت المرأة) إذا خرجت عن طاعة زوجها (فسق النوى عن الرطب) إذا خرج عنه (فسقت النخلة) إذا خرجت وهكذا ، خرجت عن أصلها .
في الشرع أطلق اسم الفاسق على من خرج عن الطاعة .
أي طاعة ؟
طاعة الأوامر والنواهي .(33/135)
هل كل الأوامر والنواهي ؟
لا ، ولكن الأوامر التي تَرْكُهَا كبيرة ، والنواهي التي فعلها كبيرة .
فالفاسق هو صاحب الكبيرة .
إذن قوله (وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ) يعني فاعل الكبيرة .
فإذن الفسوق اسم لفاعل الكبيرة والفاسق هو فاعل الكبيرة .
لاحظ أن من أهل العلم من يجعل الإصرار على الصغائر من الكبائر ، فإذا كان كذلك فيكون المصر على الصغائر عندهم داخل في اسم الفاسق .
هذا الفاسق (الْمِلِّيَّ) المنتسب للملة الذي بقي عليه اسم الإسلام مهما كثر فسوقه وكثرت كبائره فإنه عندهم لا يسلب عنه الإسلام بالكلية ، قال شيخ الإسلام هنا :
(وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ الإسْلامْ)
(لاَ يَسْلُبُونَ) يعني أهل السنة .
(الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ) يعني مرتكب الكبيرة المنتسب للملة ، لا يسلبون عنه الإسلام بِالْكُلِّيَّةِ .
(وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّار؛ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ ، بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق)
الفاسق بقي عليه اسم الإسلام وبقي عليه اسم الإيمان وقد قال عليه الصلاة والسلام (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) والزنا والسرقة من الكبائر ، فحين فعل هذه الكبيرة ليس بمؤمن معناه أنه يبقى عليه اسم الإسلام وحين ينتهي عن هذه الكبيرة يرجع إليه اسم الإيمان .
وقد جاء هذا في حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده أنه قال عليه الصلاة والسلام (الزاني إذا زنى ارتفع عنه الإيمان فبقي عليه كالظلة فإذا ترك عاوده) وهذا يدل على أن اسم الإسلام يبقى على فاعل الكبيرة وعلى من حصل منه الفسوق .
قال (بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ?
?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ? الرقبة المؤمنة هي التي حصل لها اسم الإيمان والإسلام بالإجماع .(33/136)
والرقبة التي - يعني العبد - الذي أسلم ، المسلم يجوز أن يكون في كفارة في هذه الكفارة بالإجماع ولو كان فاسقا .
فقوله ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ? هنا أطلق الإيمان ولم يقيده بقيد يعني قيد الكمال أو قيد أصله فدل على أن الإيمان هنا مُطلقٌ من القيد .
هنا في إشكال في هذا المقام إشكال معروف في كلام شيخ الإسلام وهو أنه قال هنا (يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق) .
وقد قررنا لكم آنفا أن الإيمان المطلق هو الكامل ، أليس كذلك ؟
وأن مطلق الإيمان هو أصله فكيف يستقيم هذا مع كلام شيخ الإسلام هنا ؟
وقد قال بعد ذلك شيخ الإسلام في آخر الفصل (فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ) وهنا قال (بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق) فهل بين هذا وذاك تعارض ؟
الجواب أنه لم يُرِد بقوله (اسْمِ الإيمَان المطلق) ذاك الاصطلاح الذي ذكرنا والذي استعمله في آخر كلامه في الفصل ، وإنما أراد بقوله (اسْمِ الإيمَان المطلق) يعني اسم الإيمان الذي لم يُقَيَّدْ حين إطلاقه في هذا المقام .
(يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق) يعني في اسم الإيمان الذي لم يُقَيَّدْ ولا يقصد به (اسْمِ الإيمَان المطلق) يعني اسم الإيمان الكامل ، ولهذا قال (كَمَا فِي قَوْلِهِ: ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ?) وهنا لم تقيد بقيود.
قال بعدها (وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ) يعني الذي لم يقيد (كَمَا فِي قَوْلِهِ ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ?) هنا ما قُيِّدَ بالكمال ، فهنا لا يدخل في اسم الإيمان المطلق .(33/137)
فإذن استعماله في هذا الموضع للإيمان المطلق قوله إن (الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق) (وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ) لا يعني بالإيمان المطلق الإيمان الكامل كما عرَّفنا سابقا لكم وكما سيأتي في آخر كلامه إنما يعني به الإيمان الذي لم يقيَّد بقيد في النص كما قال ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ? فلم يقيد الإيمان هنا بصفات (وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ) كما في قوله تعالى (?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا?) فهنا لم يُقَيِّدْ أن هؤلاء هم المؤمنون كاملوا الإيمان لذلك لا يدخل في اسم الإيمان المطلق يعني الذي لم يُقَيَّدْ .
ذكر دليل الزيادة والنقصان ودليل أن فاعل الكبيرة لا يخرج من اسم الإيمان قال :
(وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ") - هذه واضحة - وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ")
(يَنْتَهِبُ نَهْبَةً) يعني يأخذ شيئا جهرا قهرا ، يعني أمام الناس بالقهر ، يعني غصب يقهر عليه مالِكَهُ فينتهب هذه النهبة والناس ينظرون إليه هذا ليس من فعل المؤمن لأن المؤمن حيي يستحي فلا يفعل ذلك علانية فإذا فعل ذلك علانية دل ذلك على استخفافه بها فهو مرتفع عنه اسم الإيمان حين ينتهبها .
فالنهبة ضابطها أن تكون جهراً قهراً كما قال الحافظ رحمه الله في شرحه للحديث في فتح الباري .
قال (ونقول: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ)
يعني أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن لكن ناقص الإيمان .(33/138)
(أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ)
قولهم (مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ) يعني الإيمان الذي ثبت له بدخوله في الإسلام وذلك أن الإسلام لا يصح إلا بالإيمان .
لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان بمطلق من الإيمان يُصَحِّحْ الإسلام .
فلا يُتَصَوَّر مسلم ليس بمؤمن البتة بل كل مسلم معه قدر من الإيمان يصح به إسلامه كما أن كل مؤمن لا بد له من قدر من الإسلام يُصَحِّحْ به إيمانه .
فالإسلام والإيمان متلازمان لكن حين نقول الإسلام والإيمان نعني بالإسلام الأعمال الظاهرة وبالإيمان الاعتقادات الباطنة كما جاء في المسند من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (الإيمان في القلب والإسلام علانية)
هذا إذا اجتمعا .
إذا اجتمعا يكون الإسلام للأعمال الظاهرة والإيمان للأعمال الباطنة يعني أعمال القلب .
انتهى الشريط الثاني و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثالث و العشرون
قال (ونقول: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ)
يعني أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن لكن ناقص الإيمان .
(أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ)
قولهم (مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ) يعني الإيمان الذي ثبت له بدخوله في الإسلام .(33/139)
وذلك أن الإسلام لا يصح إلا بالإيمان ، لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان بمطلق من الإيمان يُصَحِح الإسلام ، نفلا يُتَصَوَّر مسلم ليس بمؤمن البتة بل كل مسلم معه قدر من الإيمان يصح به إسلامه كما أن كل مؤمن لا بد له من قدر من الإسلام يصحح به إيمانه ، فالإسلام والإيمان متلازمان لكن حين نقول الإسلام والإيمان نعني بالإسلام الأعمال الظاهرة وبالإيمان الاعتقادات الباطنة كما جاء في المسند من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (الإيمان في القلب والإسلام علانية) هذا إذا اجتمعا ، إذا اجتمعا يكون الإسلام للأعمال الظاهرة والإيمان للأعمال الباطنة - يعني أعمال القلب - ولهذا نقول مؤمن بايمانه فاسق بكبيرته .
الكبيرة تجعله فاسقا وقد يكون خرج من اسم الايمان إلى اسم الإسلام .
وفاعل الكبيرة على قسمين :
" منهم من يفعلها ويبقى معه اسم الايمان ، يعني يقال هو مؤمن بعد تخلصه من الكبيرة ، يعني بعد فراغه من الكبيرة ، بعد تركه لها يقال هو مؤمن ، وحين المزاولة لا يقال هو مؤمن ، هذا حال .
" والحال الثانية : أنه يفعل الكبيرة ويُسلَب عنه اسم الايمان أصلا ويقال هو مسلم .
وثَمَ بينهما فروق ، ومن الفروق التي ذكرها شيخ الإسلام وغيره :
- أن من فعل الكبيرة ولم يكن ذلك ديدنا له (فعلها هكذا غلبته نفسه ، غلبته شهوته فسرق ، غلبته نفسه وشهوته فزنى) فهذا يبقى عليه اسم الايمان إذا ترك ذلك الفعل .(33/140)
وأما من اجترأ على ذلك وصار ديدنا له ، مدمن للزنا ، مدمن للخمر ، مدمن للسرقة ، مدمن للنهب ، فإن هذا لا يطلق عليه اسم الايمان بل يقال هو مسلم ، قال جل وعلا ?قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ? هذا في حق من أسلم جديدا فإنه دخل في قلبه اسم الاسلام وصار اسم الاسلام منطبقا عليه ، دخل في قلبه الاسلام وعمل بالاسلام لكن لم ينتقل إلى مرتبة الايمان .
وكذلك من فعل الكبائر واجترأ عليها وصار مدمنا عليها مستخفا ، فإن هذا يطلق عليه اسم الاسلام ويسلب اسم الايمان فلا يقال فلان مؤمن .
فإذن قول شيخ الاسلام هنا (مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ) هذا على اختلاف الأحوال .
و(فَاسِقٌ) : الفسق له جهتان :
" الجهة الأولى : جهة اعتقاد .
" والجهة الثانية جهة عمل .
فمن الفساق من هم صالحون عُبَّاد من جهة العمل لكن من جهة الاعتقاد فَسَقَة .
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله الفسق فسقان ، فسق اعتقاد وفسق عمل :
- أما فسق الاعتقاد فهو اعتقاد البدع كاعتقادات المعتزلة والخوارج والمرجئة ونحو ذلك .
- وفسق عمل بفعل هذه الكبائر .
فإذن المبتدع فاسق ، ومرتكب الكبيرة فاسق أيضا ، فهؤلاء لا يسلب عنهم اسم الايمان أو الاسلام ، ولهذا نقول مثلا الأشاعرة مسلمون مؤمنون ، لا يُسلب عنهم ببدعتهم ، بفسقهم ، بهذه البدعة ، بدعة الاعتقاد اسم الايمان والاسلام ، وهكذا من فعل المعاصي من جهة الشهوة .
قال : (فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ)
هذا الذي قدمنا الكلام عليه :
قال (لاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ) يعني اسم الاسلام الكامل أو اسم الايمان الكامل .(33/141)
(وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ) يعني لا يسلب مطلق الايمان ولا مطلق الاسلام ، بل نقول معه أصلٌ من الاسلام وأصلٌ من الايمان صَحَّ به اسلامه وايمانه ، لكن ليس بكامل الايمان وليس بكامل الاسلام .
هل الاسلام يزيد وينقص ؟
قال شيخ الاسلام وغيره ، نعم الاسلام يزيد وينقص ، مثل الايمان لكن العبارة ليست بمشهورة لأنه حين يقال الايمان يزيد وينقص فإنه يدخل في الايمان فروع الاسلام كما قال عليه الصلاة والسلام (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله) وهي من الإسلام .
فالاسلام في الحقيقة يزيد وينقص ، الاسلام الذي هو الاستسلام لله ، لكن أهل السنة لا يستعملون هذه العبارة : الاسلام يزيد وينقص ، بل يقولون الايمان يزيد وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ويدخل في الايمان هنا الاسلام .
إذا تقرر ذلك ، هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وبيان موقف الخوارج والمعتزلة من الكبائر .
نرجع إلى تلخيص الكلام في هذه المسألة وذلك بأن نقول :
إن الايمان جَمَعَ ثلاثة أشياء مهمة : القول والاعتقاد والعمل ، وأنه يزيد وينقص .
في كل واحدة من هذه الثلاث القول والعمل والاعتقاد خالَفَ فيها من خالَفَ .
فمن الناس ، من الطوائف المنتسبة إلى القبلة :
" من خالفوا في العمل ، فقالوا (الايمان قول واعتقاد) وهؤلاء الذين يُسَمَّونْ المرجئة ، أرجؤوا العمل عن مسمى الايمان ، فقالوا الايمان قول واعتقاد وأما العمل فليس من مُسَمَّى الايمان وإنما هو لازم له - يعني لابد أنه يعمل لكن لو لم يعمل ما خرج عن اسم الايمان - فجعلوا العمل مرجَأً عن اسم الايمان ، فقالوا الايمان قول واعتقاد فقط وهؤلاء هم مرجئة الفقهاء .
ومن الطوائف التي تدخل في ذلك الماتوريدية والأشاعرة : هم يقولون إن الايمان قول واعتقاد إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله واعتقد الاعتقاد الصحيح يعني أركان الايمان فإنه مؤمن ولو لم يعمل خيرا قط .(33/142)
فقالوا العمل ليس داخلا في المسمى ، هو خارج عنه ، فهذه أول مخالفة .
هؤلاء يجعلون الكفر هو منافاة القول والاعتقاد ، لا يجعلون الكفر راجعا إلى العمل (يعني نقض الايمان ، نقض ذلك العقد بنقض القول أو بنقض الاعتقاد) .
فالعمل لمَّا لم يكن من مُسَمَّى الايمان فإنه لا يتصور أن يُنْقَضَ الايمان بعمل ، لم ؟
لأنه ليس داخلا عندهم في مسماه فليس ركنا من أركانه فلذلك لو تُرِكَ العمل أو جاء بعمل يقضي على أصل الاستسلام فإنه ليس داخلا في نواقض الايمان ولا رافعات الايمان لأنه غير داخل في الايمان أصلا .
" الطائفة الثانية من المرجئة الذين أرجؤوا الاعتقاد مع العمل جميعا ، قالوا (هو قول فقط) .
وهؤلاء هم الكَرَّامية (طائفة ذهبت ، وإن كان كثير من أهل العلم لا يطلق عليهم اسم الارجاء لكن في الواقع هم أرجؤوا الاعتقاد والعمل) لم ؟
قالوا لأن المنافقين اكْتُفِىَ منهم بالقول مع أن اعتقادهم باطل وعمل أولئك باطل وحصل منهم القول فقط وسماهم أو دخلوا في الخطاب ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا? ودخلوا بالخطاب بالإسلام فدل ذلك على أنه يُكتفي في الاسلام والايمان بالقول فقط .
" ومن المرجئة وهم الغلاة من قالوا : الايمان (اعتقاد فقط) يعني لا قول ولا عمل ، لا القول يُحتاج إليه ولا العمل يُحتاج إليه ، وإنما هو اعتقاد فقط ، اعتقاد الجَنان ، وهؤلاء هم الجهمية ومن وافقهم
وهؤلاء انقسموا : هل الاعتقاد يكون معرفة فقط ؟ أو اعتقاد بعقد القلب على صحة ذلك الشيء؟
فغلاة الجهمية يقولون بالمعرفة فقط ويتبعهم في ذلك غلاة الصوفية ، يقولون يصح الايمان أو يبقى اسم الايمان بالمعرفة ، فيُطْلَقُ على من عرف أنه مؤمن ، فإبليس على لازم كلامهم مؤمن ، وفرعون على لازم كلامهم مؤمن لأنه أتى بالمعرفة .(33/143)
والذين قالوا إن الايمان هو الاعتقاد لا يُكتفي بالمعرفة فقط ، قالوا إن إبليس عنده معرفة ولم يسمى مؤمنا وفرعون عنده معرفة ولم يسمى مؤمنا فلهذا لا يصح إطلاق المعرفة فقط بل فلا بد من الاعتقاد ، أما القول والعمل فإنهما لازمان للاعتقاد ، فإنه إذا اعتقد اعتقادا جازما فلا بد له أن يقول ولابد له أن يعمل ، فصار القول عندهم والعمل من لوازم الاعتقاد الصحيح ، كما أن المرجئة - يعني مرجئة الفقهاء - قالوا إن العمل من اللوازم ، هؤلاء قالوا حتى القول أيضا من اللوازم لا يدخل في أصل الكلمة ، واستدلوا على ذلك على بأن أصل الايمان في اللغة هو التصديق الجازم ، وقالوا في الشرع لم يُنقَل إلى شيء آخر بل هو التصديق الجازم الذي هو الاعتقاد .
فهؤلاء جميعا خالفوا أهل السنة في هذه المسائل .
من المسائل المتصلة بالايمان أيضا أن الخلاف في الايمان مع المرجئة خلاف جوهري وليس خلافا صُوْرِياً .
ونقول ذلك لأن صاحب الطحاوية والشارح ابن أبي العز رحمهما الله جل وعلا قالوا إن العمل من لوازم الايمان وليس بداخل في أصله ، هذا قاله الطحاوي ، وشارح الطحاوية قال : إن الخلاف مع الذين يجعلون العمل من الايمان خلاف شكلي ، وليس خلافا حقيقيا ، خلاف صوري .
والجواب عن هذا :
" أن الخلاف حقيقي ، وذلك أن الأدلة دلت على أن العمل جزء من الايمان ، على أن العمل ركن من أركان الإيمان ، فإذا أَخرَجَ أحد هذا الركن عن حقيقة الايمان صار مخالفا في فهم الدليل ، وإذا خالف في فهم الدليل وترك فهم أهل السنة والجماعة للدليل فإنه خالف أهل السنة والجماعة في حقيقة تعريف الايمان .
" الثاني : أنه لو تُصُوِّرَ أن أحدا أتى بالقول والاعتقاد ولم يعمل شيئا البتة ، لا صلاة ولا زكاة ، لم يعمل خيرا البتة فهل هذا ينجو أم لا ينجو ؟
عندهم ينجو لأنه مؤمن ، وعند أهل السنة والجماعة هو كافر مخلد في النار .(33/144)
" الثالث : أن نفي دخول العمل في مسمى الايمان قد يلزم منه أن لا يُجْعَل الخروج من الايمان بعمل ، وأهل السنة أخرجوا من الايمان بعمل ، بل إن الحنفية الذين قالوا إن الايمان قول واعتقاد ولم يجعلوا العمل من مسميات الايمان كفَّروا وأخرجوا من الايمان بأشياء يسيرة من العمل :
فجعلوا من قال مسيجد ومصيحف ونحو ذلك ، جعلوا هذا كفرا - هذا من جهة الأقوال - وجعلوا من عمل عملا كُفريا مثل إلقاء المصحف في قاذورة أو السجود لصنم ، جعلوه أيضاً كفرا ، مخرجا من الملة ، الجهة عندهم انهم كفَّروه بالعمل لمناقضته لأصل الاعتقاد .
نقول قد يلزم من جعل عدم العمل من الايمان ، من جعل عدم العمل والخلاف فيه صوريا مع أهل السنة قد يلزم منه الخلاف في التكفير ، وهذا قد حصل فعلا .
ولهذا نقول إن الخلاف الذي ذكره صاحب شرح الطحاوية من انه صوري وليس بحقيقي أن هذا ليس صوابا بل الصواب أن الخلاف حقيقي ولهذا صنف أهل السنة كتب الايمان وجعلوا فيها الأدلة على أن العمل من الايمان .
من أصول أهل الإرجاء أنهم يقولون لا يضر مع الايمان ذنب كما أنه لا تنفع مع الكفر طاعة .
لا يضر مع الإيمان ذنب يعني أن الإيمان شيء واحد يستوي فيه الناس جميعا فايمان أبي بكر وعمر وآحاد المؤمنين واحد ، كله واحد لأنه هو التصديق الجازم .
والتصديق الجازم اعتقاد وهذا لا يقبل المفاضلة ، فالتفاضل جاء بالعمل ، والعمل خارج عن مسمى الايمان عندهم فلهذا قالوا لا يضر مع الايمان ذنب .
فإذا وجدت الذنوب فإن أصل الايمان لا يتغير لأنه عندهم قول واعتقاد .
وهذا يدل على أن الخلاف معهم خلاف حقيقي وليس صوريا ، لأن من لوازم إخراج العمل عن مسمى الايمان أن يُجْعَلَ الذنب غير مؤثر في الايمان .
وفي هذا القدر كفاية .
بعض الأسئلة
....(33/145)
كلها الجملة كلها (وَلاَ يَسْلُبُونَ) اقرأها من أولها ، هذا كله (لاَ يَسْلُبُونَ) مع الجملة التي بعدها هي الكلام على المعتزلة ، الخوارج سبق الكلام عليهم ، والآن الكلام على المعتزلة أنهم يسلبون عن الفاسق الملي اسم الإيمان ويجعلونه ليس بكافر يعني كاسمٍ ولكنه في منزلة بين منزلتين وفي الآخرة يخلدونه في النار ، فقوله (كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ) راجع إلى الجملتين ليس راجعا إلى الجملة الأخيرة ، أنهم يخلدون ويسلبون ، هؤلاء المعتزلة
....
الخوارج يقولون في الدنيا كافر أما المعتزلة يقولون في الدنيا نسلبه اسم الإيمان والإسلام .
طيب كافر ؟
قالوا : لا ، ما نقول هو كافر في الدنيا لكن عندنا في الدنيا نسلبه اسم الإيمان والإيمان ، هل يطلق عليه مسلم ؟
لا .
هل يطلق عليه مؤمن ؟
لا .
ما اسمه ؟
قالوا هذا في منزلة بين المنزلتين ، لكن الخوارج يقولون هو في الدنيا كافر ، في الآخرة اتفقت الخوارج والمعتزلة على أن فاعل الكبيرة الذي مات مصرا عليها أنه مخلد في النار .
......
لكن اللي ذكرنا ووجهناها هي الموجودة في كثير من النسخ ، أنه (يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ? وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ?) وهذه العبارة موجودة ولا إشكال فيها لأنه يعني مثل ما ذكرت لكم بالمطلق ما خلا عن القيد .
نسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم وأن يعفو عنا .
الواجب نحو الصحابة
وذكر فضائلهم(33/146)
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[الحشر:10]، وَطَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْفِي قَوْلِهِ: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ". وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ.
وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ -وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ- وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ. وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ.
وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ -وَكَانُوا ثَلاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ-: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ ماِئَة. وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، كَالْعَشَرَةِ، وَثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِنَ الصَّحَابَةِ.(33/147)
وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ. وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ، وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانُ فِي الْبَيْعَةِ.
مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا -بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا.
لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ.
وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ -مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ. لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ. وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ.
وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: "أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي".(33/148)
وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه -وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ- فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي".
وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ".
وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ:
خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ.
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ.(33/149)
وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ -إِنْ صَدَرَ-، حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْأَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْالَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.(33/150)
وَمَن نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد فصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى أصلا من أصول أهل السنة ألا وهو اعتقادهم في الصحابة رضوان الله عليهم ، وما يعقدون عليه قلوبهم وما ينطقونه بألسنتهم في أمر صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
وأصل هذه المسألة أُدخِلَت في العقائد لأجل مخالفة من خالف فيها ، لأن أمر الجماعة قبل أن تتفرق الأمة كان على هذا الاعتقاد ،كان على اعتقاد جميع ما جاء في الكتاب والسنة من الأصول والفروع ، من القواعد والتفريعات لكن ثَمَّ مسائل ظهرت طوائف خالفت فيها .
لهذا أفرد أهل السنة لتلك المسائل التي الجماعة فيها على عقيدة واضحة بينة ، خالفوا فيها عقائد الضالين ، أفردوا لها فصولا وكتبا وبينوا فيها ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وما قاله الصحابة فمن بعدهم فيها .
ومن تلك مسألة الصحابة فإن مخالفة الخوارج والروافض وقبلهم الشيعة الغلاة ، إن مخالفتهم في ذلك جعلت تلك الفرق بائنة عن طريقة الجماعة أي طريقة أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.(33/151)
وكما ذكرنا لكم آنفا أن الخلاف في الصحابة كان ظاهرا لما حصلت الفتنة في مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه فإن الناس بعده انقسموا :
- منهم من تولى عليا وغلا فيه .
- ومنهم من تولى عليا وعَدَلَ فيه ، يعني كان فيه على ما جاءت به النصوص والأدلة وهم الصحابة جميعا ومن تبعهم على ذلك .
- ومنهم من جفا عليا وجفا من معه من الصحابة حتى صارت الأقوال هذه ، يعني ما بين غال وجاف ومعتدل ، صارت إلى فرق :
" فالسبئية الشيعة الغلاة غلوا في علي حتى ألَّهوه وكفَّرُوا أكثر الصحابة ، وكانوا يكرهون عامة الصحابة إلا أربعة نفر وكفَّرُوا الأكثرين منهم .
" ثم الخوارج قابلوا أهل السنة ، قابلوا الصحابة بالقتال لما حصلت مسألة التحكيم وتبع ذلك أن قالوا في الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ من لم يعتقد اعتقاد الخوارج فإنه كافر مردود ولو كان من أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
" ثم جاءت النواصب الذين قابلوا أولئك .
" ثم تنوعت الفرق في الصحابة رضوان الله عليهم .
فكان من اعتقد الاعتقاد الحق في الصحابة في ما لهم من المكانة والمنزلة وفي اعتقاد اجتهادهم وفي توليهم وحبهم وسلامة الألسنة وسلامة القلوب في حقهم ، كان من اعتقد ذلك الاعتقاد وبقي على ما كانت عليه الجماعة كان هو صاحب القول الحق وهو الذي عليه الصحابة فمن بعدهم رضوان الله عنهم أجمعين .
إذن سبب ذكر تلك المسألة المُخالَفَة .
وتبع هذا الذكر أن كثيرا من أهل السنة خالفوا أيضا تلك الطوائف في أشياء :(33/152)
يعني أظهروا هذه العقيدة في الصحابة وبينوها وكانت لأهل السنة شعارا وأدخلوها في أشياء من العبادات وفي كلامهم كما فعلوا في إدخال الترضّي عن الصحابة و الترضي عن أمهات المؤمنين والترضي عن جميع الآل في خطبة الجمعة وفي غيرها من الخطب ، فإن إدخال الترضي عن الصحابة وعن زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ْلم يكن بالأمر الأول ، لم يكن في عهده عليه الصلاة والسلام ولا في عهد أبي بكر وعمر ولا في عهد عثمان ، ثم بعد ذلك الأئمة من التابعين فمن بعدهم أدخلوا هذا الترضي وأدخلوا هذا الشعار لأنه صار شعارا لأهل السنة في مقابلة غيرهم من الروافض والخوارج والنواصب ومن شابه اولئك .
كذلك في مسألة الصلاة على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، الأصل فيها أن الصلاة عليه ، عليه الصلاة والسلام وعلى آله كما جاء ذلك مبينا في حديث أبي حميد وغيره في الصحيحين وغيرهما فإن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ علمهم أن تكون الصلاة عليه وعلى آله ، فأدخل أهل السنة إذا ذكروا الصلاة عليه ، عليه الصلاة والسلام ، وأرادوا أن يذكروا الآل ، أدخلوا معهم الصحابة ، فقالوا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ولم يقتصروا على الآل ، وهذا عند أكثر أهل السنة لأجل ألا يشابهوا الرافضة والشيعة في توليهم للآل دون الصحب .
هذا كله تفريع عن هذه المسألة العظيمة .
فهذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام اعتقاد أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وهذا ليس من أركان الايمان الستة ولكنه من أصول أهل السنة والجماعة لأنهم خالفوا به أهل الضلال وفرق الضلال التي تفرقت عن الجماعة الأولى والتي قال فيها عليه الصلاة والسلام (كلهم في النار إلا واحدة وهي الجماعة) .(33/153)
قال شيخ الإسلام رحمه الله (فَصْلٌ : وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
(وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ)
الأصول : جمع أصل ، والأصل المراد به في هذا الموضع : القاعدة ، يعني من قواعد أهل السنة والجماعة (سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ) لأن الأصل يطلق على أشياء :
منها أن يقال الأصل في المسألة كذا وكذا يعني الدليل ، أصل المسألة الكتاب والسنة يعني دليل المسألة من الكتاب والسنة .
أو يأتي الأصل ويراد به القاعدة المشتهرة كما تقول :الأصل في العقود كذا ، الأصل في العبادات أنها موقوفة على الدليل ، الأصل في المعاملات أنها متروكة لعرف الناس ما لم يأت دليل بتحريم نوع من أنواع المعاملة ، فهذا معناه القاعدة المشتهرة التي ترجع إليها هذه المسألة .
ويأتي الأصل ويراد به ما يقابل الفرع ، كما عرَّفوا القياس بقولهم (الحاق فرع بأصل لِعِلَةٍ جامعة بينهما) .
فقول شيخ الإسلام هنا (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ) يعني من قواعدهم في الاعتقاد ، من القواعد عندهم في الاعتقاد التي تجمع مسائل كثيرة
(سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)
والأصحاب ، أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ(هم الذين صحبوه ورأوه مؤمنين به وماتوا على ذلك) .
والصحيح : ولو تخللت ذلك ردة فإنهم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.(33/154)
وأصل الصاحب في اللغة هو الملازم ملازمة طويلة ، يقال هذا صاحِبُ ذاك إذا لازمه ملازمة طويلة فسواء كانت تلك الصحبة لحي أو لجماد فإن الملازمة الطويلة يقال لها صُحبة ولمن فعلها صاحب كما قال جل وعلا ?أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا? قيل لهم أصحاب الكهف لأنهم لازموه ملازمة طويلة ?أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? يعني الذين سيلازمونها ملازمة طويلة قد يكون فيها خلود أبدي وقد تكون ملازمة طويلة دون خلود ، كذلك في قوله ?أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? ونحو ذلك من الآيات .
لكن في حق الصحابة رضوان الله عليهم خُرِجَ عن الأصل اللغوي وهو أن الصحبة هي الملازمة الطويلة ، لأن الصحبة هي من رأى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مؤمنا به ولو كانت الصحبة قليلة ولو ساعة من نهار ، لأن من حضر خطبة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خطبة الوداع يوم عرفة أولئك مائة ألف هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وكذلك من أدرك ما دون ذلك إذا كان رآه في اليقظة مؤمنا بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ومات على ذلك الايمان فإنه صاحب من أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
فأولئك الذين ينطبق عليهم ذلك التعريف هم الذين لهم هذا الحق الذي جاء مُبيناً في هذا الكلام لشيخ الإسلام رحمه الله .
قال (مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ)
أما سلامة القلوب يعني من الغل والحقد والحسد ونحو ذلك مما يكون من أعمال القلوب المحرمة التي لا يجوز لمسلم أن يَغُلَّ عليها قلبه .(33/155)
قال (سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ) يعني أن تكون قلوبهم سليمة لأصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من محرمات أفعال القلوب كالظن السيء والحقد والغل والحسد إلى غير ذلك من الصفات المذمومة.
وهذا قاله شيخ الإسلام رحمه الله لأن الأصل فيه قول الله جل وعلا ?لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ? وكذلك قوله في ما ذَكَرَ من آية سورة الحشر ?وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا? فهنا ذَكَرَ الغل وهو مما يكون في القلوب ، وفي آية سورة الفتح قال ?لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ? فالغيظ الذي يكون في القلب وفيه الكراهية وفيه الحقد وفيه الحسد إلى غير ذلك ، هذه كلها مما يجب أن تنزه القلوب عنه .
فقوله هنا (سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ) هذا أصله الأدلة من الكتاب والسنة ، وهو أصل أصيل ، ذلك أن من كان قلبه غير منطوٍ على محبة أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أو كان قلبه منطويا على انتقادهم أو على تخطئتهم أو على بغض أحد منهم أو على حسدهم أو على عدم موافقتهم على بعض أفعالهم فإنه يكون قد اشتمل قلبه على شيء ليس بسليم .
فالواجب أن تكون القلوب سليمة لا تظن بالصحابة إلا خيرا ولا تعْقِد في حق الصحابة إلا أن يكونوا هم أحق هذه الأمة بالمحبة والنصرة وقد قال جل وعلا ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ? وأعلى المؤمنين ايمانا هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
فالمؤمن ولي المؤمنين ، قال ?أولياء??وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ? والوَلاية هي المحبة والنصرة ، والمحبة في القلب ، فمن كان في قلبه شيء من البغض لبعضهم أو شيء من الغل لبعضهم أو من التغيظ لهم فإنه ليس مواليا لهم بل هو عدو لهم مضاد .(33/156)
فإذن هذا هو الأصل الأول أن تكون القلوب سليمة .
ثُمَّ أن تكون الألسنة سليمة في حق أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، سليمة من عيبهم ومن انتقادهم ومن القدح فيهم ، ومن ذكرهم بغير الجميل وبغير الخير فإنهم هم العُدُول الذين أثنى الله جل وعلا عليهم ، وإن صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْهم الذين أثنى الله عليهم ومن أثنى الله عليه ورضي عنه فإن من تعرَّضَهُ بلسانه فإنه مخالف لما جاء في حقه من الإكرام والتعديل والرِّفعة في كتاب الله جل وعلا وفي سنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
ومن دلائل هذا الأصل وهو سلامة الألسنة حال الذين ذكرهم الله جل وعلا في قوله ?وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ? ?رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا? (إخواننا) هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، فالذين جاءوا من بعد الصحابة يقولون ?رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ? وهذا مورِدُهُ اللسان ، قالوا ذلك لأن ألسنتهم لا تقول عن الصحابة إلا الجميل ، ثم قال ?وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا? وأولئك هم الصحابة رضوان الله عليهم ، وإذا لم يكن في القلب غِلْ فإن اللسان سالم ، والألسنة كما هو معلوم مَغارِفٌ للقلوب .
وهذا أصل عام في أن أهل السنة والجماعة لا يذكرون الصحابة رضوان الله عليهم إلا بالجميل.
الصحابة درجات والصحابة طبقات ومراتب وهذا يأتي إن شاء الله .
فتوليهم رضوان الله عليهم ، توليهم تولي مطلق لجميع الصحابة مع اعتقاد أنهم ليسوا في الفضل سواء بل هم متفاضلون بعضهم أفضل من بعض .(33/157)
ويتبع ذلك أن محبة أفاضل الصحابة ليست كمحبة أدناهم مع أن الجميع مشتركون في المحبة والنصرة وتوليهم وسلامة القلب واللسان في حقهم لكن من كان في أعلى المراتب منهم له حق أعظم وله الوَلاية يعني أن يُتولى أعظم من غيره .
وأعلى هذه الأمة وأعظم هذه الأمة مرتبة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيتبع موالاة هؤلاء أن من ذكرهم بغير الجميل ، من ذكرهم منتقدا فإن موالاة أولئك الصحابة تقتضي أن يُقامَ في نُصْرَتِهِم وأن يُجَرَّد اللسان والقلم ويُذَب عنهم لأنهم سادات المؤمنين وهم أفضل هذه الأمة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ?
وجه الاستدلال من هذه الآية أن هؤلاء أثنى الله عليهم ، والذين جاءوا من بعدهم ، ذكرهم الله جل وعلا بهذا الوصف في أثناء كلامه على من يستحق الفَيْءْ في سورة الحشر فقال إن ممن يستحق الفَيْءْ هؤلاء الذين جاءوا من بعدهم ، فالصحابة لهم حق في الفيء والذين جاءوا من بعدهم لهم حق بالفيء ، وهذا ثناء من الله جل وعلا على هؤلاء الذين سَلِمت قلوبهم وألسنتهم لصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فكان من جملة دعائهم أنهم قالوا ?رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ? وقوله في آخرها ?إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ? هذا في مقام التعليل يعني أنهم علَّلُوا هذا الذي قالوه ، وهو رجاء إجابة الله جل وعلا دعاءهم بأن الله جل وعلا رؤوف رحيم .
والرأفة أشد الرحمة ، هي أعلى درجات الرحمة هي الرأفة ، فكل رؤوف رحيم وليس كل رحيم رؤوفاً .(33/158)
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالمؤمنين رؤوف وبالمؤمنين رحيم ، والله جل وعلا هو الرؤوف الذي له بعباده المؤمنين وبغيرهم الرأفة العظيمة والرحمة العامة وكذلك الرحمة والرأفة الخاصة فهو جل وعلا الرؤوف بعباده وهو الرحيم بهم .
وهذا من المناسب أن يجعل العبد في دعائه من الأسماء الحسنى ومن الصفات ما يناسب سؤاله ، قال شيخ الإسلام بعد ذلك :
(وَطَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْفِي قَوْلِهِ: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ")
هذا الحديث حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما له قصة وهو أن خالد بن الوليد سابَّ عبد الرحمن بن عوف وتعرَّض لعبد الرحمن بن عوف بشيء من المسبة فاطَّلَعَ النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك فقال هذه المقالة ، قال (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) .
والمقصود بقوله هنا (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي) يعني الذين سبقوا إلى الصحبة لأن خالدا من الصحابة أيضا لكنه لما سبَّ عبد الرحمن بن عوف ، وعبدالرحمن من السابقين الأولين ومن العشرة المبشرين بالجنة فإنه تعرّض - خالد تعرض - لخاصة أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حتى كأن هذا الوصف بقوله (أَصْحَابِي) ليس إلا لهؤلاء الأولين .
قال (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ) يدخل فيه الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا ، يعني من أسلم متأخرا وكان من الصحابة فإنه ليس في المرتبة مثل من كان من السابقين الأولين .(33/159)
قال عليه الصلاة والسلام فيمن تأخر إسلامه من الصحابة (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا لم يبلغ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) إذن هي في حق التفضيل بين من أسلم متأخرا وبين من أسلم متقدما ، وهذا إذا كان في حق أولئك فهو في حق من ليس له مقام الصحبة من باب أولى .
ولهذا العلماء يستدلون بهذا الحديث لما في عموم قوله (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي) على أن مسبة الصحابة رضوان الله عنهم منهي عنها وأنهم - أعني الصحابة - يجب أن تسلم القلوب وتسلم الألسنة في حقهم ، وأن من بعدهم لو أنفقوا مثل أحد ذهبا لم يبلغ مد الصحابي حتى لو كان من مسلمة الفتح ، ولو كان من مُسْلِمَة حجة الوداع ، يعني من المتأخرين ، فإنه لن يبلغ الآخر - يعني من أتى بعدهم - مقام الصحابي الواحد .
وقد قال بعض السلف (لَمُقامُ أحدِهم ساعة مع رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خير من الدنيا وما فيها) فكانت لهم سابقة الصُّحبة ، وكانت لهم سابقة النُّصرة فلهم حق أن تسلم القلوب والألسنة من التعرض لهم إلا بالجميل .
(مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ) يعني لو تصدق بالمد فإن من هو غير الصحابة أو المتأخر من الصحابة مع من تقدم - لن يبلغ بِأُحُدٍ ذهبا لو كان لَهُ - ما يبلغه مد أحد الصحابة ولا نصيف ذلك يعني ولا نصف ذلك المد ، وهذا لما لهم من السابقة والنُصْرَة .
قال شيخ الإسلام (وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ)(33/160)
أما ما جاء في الكتاب والسنة فظاهر أن الكتاب والسنة فيها التفريق بين الصحابة ، وأن الصحابة مراتب ، وأنهم ليسوا في الفضل ولا في المرتبة سواء مع أن الجميع أثنى الله جل وعلا عليهم بقوله ?مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا? إلى قوله في آخر الآية ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا? فهذه في جميع الصحابة في حق كل الصحابة لقوله في أولها ?مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ? قال في آخرها ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم? وهم كذلك جميعا ?مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا? .
وقوله هنا ?مِنْهُم? ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم? (مِنْ) ههنا بيانية ليست تبعيضية ولا ابتدائية ، والمخالفون من الروافض والخوارج والنواصب يزعمون أن (مِنْ) ههنا تبعيضية كقولك (الدراهم من الفضة) أو (الأربعة من العشرة) يعني بعض العشرة ، أو (فلان من آل فلان) يعني أنه مِنْ بعضهم .
وهذا ليس بصحيح بل إن المتقرر في لغة العرب أن (مِنْ) لها استعمالات كثيرة فإن (مِنْ) تأتي على أنحاء كما قرر ذلك علماء العربية وخاصة في كتب حروف المعاني ، فـ (مِنْ) لها عدة استعمالات ومن استعمالاتها :
" أن تأتي للابتداء .
" وأن تأتي للتعليل .
" وأن تأتي للتبعيض .
" وأن تأتي للبيان .
وقد قال المرادي في نظمه لبعض حروف المعاني ، في معاني (مِنْ) قال :
وتعليل وبدء وانتهاء أتتنا مِنْ لتبيين وبعض
ومعنى عن وعلى وفي وباء وزائدة وإبدال وفصل(33/161)
فذكر اثني عشر معنى لـ (مِنْ) ، وابتدأ ذلك بقوله (أتتنا مِنْ لتبيين) يعني للبيان (وبعض) ، فهذا يدل على أن كون (مِنْ) في الأصل للبيان أنها مقدمة على كونها للتبعيض .
فـ (مِنْ) ليس المراد بها أنها تبعيضية بل (مِنْ) تأتي لمعاني كثيرة ومنها البيان والتبعيض والابتداء إلى غير ذلك .
فقوله جل وعلا في آية الفتح ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم? يعني هذا بيان يعني منهم لا من غيرهم لأنه قال في أول الآية ?مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ? و (الذين) من الأسماء الموصولة وهي تعم جميع من كان معه عليه الصلاة والسلام وهم أصحابه رضي الله عنه .
قال (وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ)
فضائل الصحابة في القرآن كثيرة وكذلك مراتب الصحابة ، فالقرآن فيه ذكر المهاجرين وذكر الأنصار وذكر من أسلم وأنفق من بعد الفتح ومن أسلم وأنفق من قبل الفتح وفيه ذكر أهل بدر وفيه ذكر لأهل أحد ولم يسوَّ بينهم في القرآن .
قال جل وعلا مَثَلاً ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ? فذكر صفة الهجرة وذكر صفة النصرة :
- والمهاجرون هم من هاجر من مكة إلى المدينة من قبل الفتح - يعني فتح مكة - .
- والأنصار هم من نصر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ْمن الأوس والخزرج .(33/162)
قال العلماء : تقديم المهاجرين على الأنصار في النصوص من الكتاب والسنة يدل على أن مرتبة المهاجرين أرفع من مرتبة الأنصار وهذا مراد شيخ الإسلام بقوله (مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ) كذلك قوله جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? ونحو ذلك من الآيات التي فيها بيان الفضل وبيان مراتب أولئك ، وقد قال جل وعلا أيضا ?لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى? وهذه الآية وغيرها أصل في أن الصحابة على مراتب .
قال العلماء : إن الصحابة مراتبهم تبلغ بضعة عشر مرتبة كما ذكر ذلك علماء المصطلح في مبحث الصحابي ، يعني قد تبلغ خمسة عشر مرتبة أو سبعة عشر مرتبة ، بضعة عشر مرتبة .
وهذا بحسب الحوادث ، وهذا يعنون به :
" أن أول من أسلم والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لم يُبْعَثْ رسولا أن هذا مُقَدَّم .
" ثم من أسلم بعد بَعْثِهِ رسولا .
" ثم من أسلم قبل الجهر بالإسلام .
" ثم من أسلم قبل الهجرة إلى الحبشة .
" ثم من أسلم بعد الهجرة .
" ثم من أسلم قبل العقبة الأولى .
" ثم قبل العقبة الثانية ، وهكذا فيقال فلان مثلا عَقَبي يعني من أهل العقبة الأولى .
" ثم من أسلم قبل الهجرة .
" ثم من أسلم قبل بدر يعني أهل بدر .
" ثم أهل أحد .
إلى آخره فيمكن أن تُجْعَلْ مراتب كثيرة .
ومراتبهم من حيث الإجمال :
" الأولى : المهاجرون .
" والثانية : أهل بدر .
" والثالثة : الأنصار .
" والرابعة : من أسلم قبل الفتح .
" ثم من أسلم من بعد الفتح .
هذه مراتب مجمله لهم ، والمهاجرون إذا أردنا التفصيل :(33/163)
" فأولهم وأفضلهم العشرة الذين بشرهم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالجنة في مجلس واحد ، وهم على الترتيب الذي جاء في الحديث وأولهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي إلى آخر العشرة .
" ثم من أسلموا مبكرا من المهاجرين وأفضل ممن أسلم متأخرا .
" ثم من حضر بدر أفضل ممن لم يحضر بدر .
" ثم الأنصار ، إلى آخر ما ذكرنا .
فلهم مراتب ومن حضر بيعة الرضوان بيعة الشجرة ، هذا مفضل أيضا على من لم يحضرها لأن الله جل وعلا ذكر ذلك بقوله ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ? ، ولهذا قال شيخ الإسلام بعدما ذكرنا :
(وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ -وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ- وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ)
وهذا لأجل آية سورة الحديد ، قال جل وعلا ?لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى? .
والمراد بالفتح هو الصلح ، صلح الحديبية ، لأنه هو الفتح وقد نزلت سورة الفتح ?إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا? بعد صلح الحديبية وذلك لأن ذلك الصلح العظيم جعل الله جل وعلا به فتحاً عظيماً وصار للمؤمنين بذلك الصلح من المصالح العظيمة ومن انتشار الإسلام ومن قوة المسلمين ومن هيبتهم وظهورهم على عدوهم ما جعل ذلك فتحا مبينا كما وصفه الله جل وعلا بذلك بقوله ?إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا? .
وقوله ?فَتْحًا مُّبِينًا? المُبين هو البَيِّن الظاهر في نفسه والمُبِينُ أيضا لغيره ، فكونه فتحا بيِّنْ واضح ظاهر وأيضا هو مبين لغيره من الأشياء ، من الفتوح وتبعه فتح خيبر وتبعه فتح مكة .(33/164)
فالمقصود بقوله ?لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ? أن هذا الفتح هو صلح الحديبية كما فسرها الصحابة رضوان الله عليهم ، فصلح الحديبية كان فتحا كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قيل له في الحديبية أهو فتح ؟ قال (نعم) .
وكذلك فتح خيبر فتح ، أو فتح مكة هو فتح ، لكن أعظم تلك الفتوح ذلك الفتح الذي لم يحصل فيه قتال وهو صلح الحديبية قال هنا :
(وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ)
وسبب التفضيل ما جاء في الآية ، وسبب ذلك أن ما قبل الفتح كان المسلمون في شدة وضيق ، ضيق من جهة الأموال وأيضا من جهة النصير ، فكان عَدِيْدُ أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قليل ، الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا بين ألف وأربعمائة وألف وخمسمائة ، وهذا عدد قليل إذا قيس بمن دخل مكة يعني من كان مع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في فتح مكة .
فما بعد صلح الحديبية كَثُرَ الذين دخلوا في الدين ، دخل خالد بن الوليد وأبو هريرة وجماعات من الصحابة الذين اشتهر أمرهم ، لكن ما قبل الفتح كانت الحاجة ، حاجة المسلمين وحاجة الدين إلى النصرة والقتال وبذل الأموال عظيمة ، فلهذا من بذل في ذلك الوقت الذي كانت الحاجة فيه عظيمة والأعداء أكثر والقتال - قتال تلك القلة - أعظم ، كان مفضلا على من أنفق من بعد وقاتل ، وكما قال جل وعلا ?هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ? .
قال (وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ)
المهاجرون هم من هاجروا من مكة إلى المدينة ، فالمهاجر اسم فاعل الهجرة .
والهجرة هي ترك مكة إلى المدينة ، فمن ترك مكة من أهلها إلى المدينة هؤلاء هم الذين يُطلَق عليهم المهاجرون ، فالهجرة وصف .(33/165)
والأنصار جمع ناصر والمراد بهم الأوس والخزرج ويقال لهم بنو قَيْلَهْ ، لأن قَيْلَةَ أمٌّ لهم تجمع بين هذين الفيصلين ، هم الأوس والخزرج يَلُونَ المهاجرين .
يقدم أهل السنة المهاجرين على الأنصار ، دليل التقديم أن الله جل وعلا قدَّمَهُم في القرآن وإذا كان ثَمَّ أوصاف وقُدِّمَتْ إحدى الصفات على غيرها فإنها تقتضي أن صاحب هذه الصفة مفضل على غيره ...1
أنها في القرآن مقدمة ، لأنهم في القرآن مقدمون ، ولما حصل الخلاف في سقيفة بني ساعدة وكان ما كان من التَرَادِّ في القول والخلاف الذي حصل ، قال أبو بكر رضي الله عنه (إن الله جل وعلا قدَّمَ المهاجرين وهم السابقون إلى الإسلام فنحن الأمراء وأنتم الوزراء) وهذا أصل من أصول الفهم أيضا لتقديم المهاجرين في الجملة على الأنصار .
وإذا قلنا إن المهاجرين مقدمون على الأنصار المقصود به تقديم النوع على النوع .
فأهل السنة في هذا الترتيب والمراتب التي ذكرنا تفضيل النوع على النوع ، أما تفضيل الفرد من هؤلاء على الفرد من أولئك فهذا لا يكون إلا بنص ، يعني الأصل في المهاجرين أنهم أفضل من الأنصار ، قد يكون الواحد من الأنصار أفضل من واحد من المهاجرين لكن من حيث النوع فإن المهاجرين أفضل .
وهذه قاعدة خذها - يعني في جميع مراتب الصحابة - نقول :
- أهل بدر أفضل من أهل أحد ، المقصود بها في الجملة .
- أهل أحد أفضل ممن أسلم بعد ذلك ، المقصود بذلك الجملة .
- السابقون من المؤمنين إلى الإسلام أفضل ممن أسلم بعدهم ، المقصود بالجملة .
أما عند الله جل وعلا هل كل فرد من أولئك أفضل من الفرد من الطائفة الأخرى ؟
هذا لا يُجْزَمْ به وإنما نقول هؤلاء أفضل من أولئك والأصل أنه - يعني من حيث القاعدة العامة - أن كل واحد من أولئك أفضل من كل واحد ممن هم في المرتبة بعدها .(33/166)
لكن إذا أتى التعيين فإن أهل السنة لا يعينون ، يذكرون النوع ويفضلون نوعا على نوع ولا يعينون ، كما يقولون بأن التابعين أفضل من تَبَعْ التابعين وأن القرون الثلاثة أفضل ممن بعدهم وهذا لا يعني أن يكون واحد أو اثنين أو أكثر ممن بعدهم أفضل من الواحد من التابعين لكن المقصود تفضيل النوع على النوع ، قال شيخ الإسلام :
(وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ -وَكَانُوا ثَلاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ-: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"
هذا جاء في الحديث الصحيح المروي من طرق أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال في قصة حاطب وفي غيرها قال (وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وهذا روي بقوله (لعل الله اطَّلَع) وأيضا رُوِيَ بقوله (إن الله اطَّلَعَ إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ولَعَلَ الأرجح من اللفظين هو اللفظ الثاني وهو قوله (إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) كما رُجِّحَ ذلك من حيث الرواية ، مما يبسط لبيانه محل آخر .
المقصود من ذلك أن هذا ثابت في قصة حاطب وفي غيره ، وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) قوله هنا (اعملوا ما شئتم) هذا من باب التكريم :
- والأمر يأتي ويراد به الإنفاذ يعني أن تُنَفِّذَ الأمر مثل ما أقول افعل كذا (اكتب)
- ويأتي الأمر لمعان أخرى غير إرادة امتثال المأمور ، ومنها أن يكون للتكريم ومنه قوله هنا ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ?(33/167)
- ويأتي ويراد به الإهانة كما في قوله ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ? في سورة فصلت قال جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ? قوله ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ? هنا للتهديد ، كقوله ?ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ? هذا كله للإهانة وللتهديد .
أما قوله لأهل بدر (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) هذا للتكريم .
وقوله (قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) هل هي مغفرة في الدنيا والآخرة جميعا أم مغفرة في الآخرة ؟
الأظهر أنها مغفرة في الآخرة ، وأما في الدنيا فإنه إذا عمل الواحد منهم ما يوجب عقوبةً عليه ، - يعني عقوبة شرعية من حد أو تعزير أو نحو ذلك - أُخِذَ به كما عليه عمل الخلفاء الراشدين ، فقوله (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) يعني انهم وإن وقعت منهم ذنوب فإنه مغفور لهم والله جل وعلا ذكر أو قال في قصة حاطب بن أبي بلتعة لما حصل منه ما حصل من إفشاء سر رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهو من أهل بدر قال الله جل وعلا في شأنه ?وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ? وحاطب كان بدريا ولأنه من أهل بدر وهم مغفور لهم كان ذنبه ذاك مغفورا ، لكن من يحصل منه شيء مما يوجب عقوبةً أو حداً أو عزلاً أو مؤاخذة فإن الصحابة آخذوا أهل بدر ولهذا تفسير قوله (فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) يعني في الآخرة .
قال العلماء : معنى ذلك أنهم يُوَفَّقُون لما به تُغفر ذنوبهم إما بمصائب تحصل لهم وإما بحسنات ماحية وإما بابتلاء يحصل لهم أو نحو ذلك من مكفرات الذنوب وما به يغفر الله جل وعلا ذلك .(33/168)
ومما يغفر الله جل وعلا به - يعني من أسباب المغفرة - مغفرته جل وعلا بدون سبب وهذا إذا لم يحصل للعبد أشياء مما يُغْفَرُ به وتُستَرُ الذنوب وتُغْفَرُ به السيئات فإن الله يمن على أهل بدر بمغفرته لهم جل وعلا ، قال شيخ الإسلام بعد ذلك :
(وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
وهذا مأخوذ من الآية ، قال جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ? قال العلماء : قوله ?لَقَدْ رَضِيَ? هذا فيه رضاه جل وعلا عنهم أبدا ، وإذا كان رضي عنهم أبدا فإنهم لا يستحقون دخول النار ، وتَأَيَّدَ هذا الفهم بما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (لا يدخل الجنة أحد بايع تحت الشجرة) أو كما ضَمَّنَ ذلك الحديث شيخ الإسلام في هذا المقطع ، قال :
(كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)
يعني في الحديث الذي ذكرت لكم (بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ ماِئَة) هم كانوا بين ألف وأربعمائة وألف وخمس مائة يعني عدد بين هذا وذاك قال بعد ذلك
(وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَالْعَشَرَةِ، وَثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِنَ الصَّحَابَةِ)
الشهادة بالجنة لجنس الصحابة هذه ثابتة ، نشهد للصحابة بالجنة ، لكن للمعين منهم لا بد من شهادة خاصة له خاصة لأن الشهادة له بالجنة موقوفة على ما كان عليه في خاتمة أمره ، وما يكون عليه في خاتمة أمره ، يعني حين مفارقة الروح البدن هذا عِلمُهُ عند الله جل وعلا .(33/169)
ولهذا الشهادة للمعين لا بد فيها من نص ، للمعين بالجنة وللمعين بالنار ، فمن شهد له رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالجنة فإنه يُشهد له .
فمن أولئك الذين شهد لهم رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالجنة العشرة ، ويقال عنهم العشرة المبشرون بالجنة ، وليس المراد بذلك التخصيص أنهم هم المبشرون وغير أولئك ليس بمبشر لكن أولئك قيل لهم مبشرون بالجنة لأنهم بُشِّروا بالجنة في مجلس واحد .
كان النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ْفي حائط فقال لمن معه ايذن لفلان ايذن له وبشره بالجنة ، فكان الداخل أبا بكر ، ثم قال ايذن له وبشره بالجنة فكان الداخل عمر ثم قال ايذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فكان الداخل عثمان ثم تتابعوا ، كذلك في حديث واحد قال عليه الصلاة والسلام (أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وعبدالرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وطلحة بن عبيد الله في الجنة) إلى آخر العشرة.
فهؤلاء بُشِّرُوا في مجلس واحد فأطلق عليهم أهل السنة أنهم المبشرون بالجنة يعني في مجلس واحد أو في حديث واحد ، هل معنى ذلك أن غيرهم لم يبشر ؟(33/170)
بل قد بُشِّرَ كثير كثابت بن قيس بن شماس الذي بشَّرَهُ النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما نزلت أول سورة الحجرات حيث قال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ? ثم قال ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ? وكان ثابت بن قيس بن شماس كان خطيب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وكان كثير رفع الصوت بين يديه لأنه كان يذكر ما يقول عليه الصلاة والسلام ، كان خطيباً له عليه الصلاة والسلام ، فخاف جدا لما نزلت هذه الآية ولزم بيته وجعل يبكي كما هو معروف في أول تفسير تلك الآيات فخاف كثيرا وقال (قد حبط عملي وأنا من أهل النار) فافتقده النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فقالوا له إنه يبكي ويقول إنه حبط عمله برفعه الصوت بين يديك وهو من أهل النار فقال (لا هو من أهل الجنة) .
كذلك عُكَّاشة بن محصن الأسدي المعروف الذي جاء خبره في حديث السبعين ألف .
وبلال رضي الله عنه حيث قال له النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (لقد سمعت خشف نعليك بين يدي في الجنة) ، إلى غير أولئك.
فالمبشرون بالجنة من الصحابة كثير لكن لا نشهد للمعين إلا إذا شهد له رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، قال بعد ذلك :
(وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ)
وهذا تواتر به الحديث عن علي رضي الله عنه وذلك قوله (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) .(33/171)
والنبي عليه الصلاة والسلام أوصى كثيرا بأبي بكر وعمر فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام (اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر) وقد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، وكان أبو بكر وعمر وزيرا رسولِ الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يصحبانه دائما وهما معه في حله وفي ترحاله صلى الله وسلم عليه .
فكان علي يقول أبو بكر ثم عمر ، وأهل السنة يُثَلِّثُونَ بعثمان ، وقوله (وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ) يعني جمهور أهل السنة ، عامة أهل السنة .
قد حكى الإجماع على ذلك بعض أهل العلم لكن الصواب أن هذه المسألة ليس فيها إجماع فمن جهة الفضل خالف فيها من خالف وكان من أهل السنة من يفضل عليا على عثمان مع إقرارهم بأن عثمان هو الأحق بالخلافة من علي لكن في مسألة الفضل كما سيأتي بيانه إن شاء الله فيما يأتي.
قال (وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)
يعني في الفضل وفي الخلافة يقولون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، فهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة .
قد قال أيوب السختياني وقاله غيره (من قدم عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) وهذه الكلمة صحيحة ودقيقة لأن المهاجرين والأنصار هم الذين قدموا أبا بكر وهم الذين قدموا عمر لإمامة دينهم ولإمامتهم في دنياهم .
فالفضل الذي لأبي بكر ولعمر به استحقا الخلافة ، فمن قدم عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار يعني نسبهم لشيء يُزْرِيْ بهم وهو أن يكون بينهم الفاضل ويقدمون المفضول.
وهذه حجة بينة واضحة .(33/172)
ولما تناظر أيوب مع سفيان ، وكان سفيان الثوري يقدم عليا على عثمان قال له أيوب هذه الكلمة (من قدم عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) توقف سفيان عن تقديم علي على عثمان أو كما ذُكرت هذه الحكاية ، لأن تقديمهم لعثمان في الخلافة يقتضي أنه أفضل من علي ولأن عليا بينهم فكيف يقدمون المفضول ويتركون الفاضل ، قال شيخ الإسلام :
(وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانُ فِي الْبَيْعَةِ. مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا وبَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، وْرَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا. لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ على عَلِيٍّ)
هذه المسألة هي مسألة التفضيل بين عثمان وعلي ، من الأفضل ؟ هل عثمان أفضل أم علي أفضل ؟
الأقوال فيها لأهل السنة ثلاثة :
" عامة أهل السنة وجمهور أهل السنة على أن عليا مفضول بالنسبة إلى عثمان وأن عثمان أفضل من علي لأن عثمان مُقَدَّم في الأحاديث ولأن عثمان رضي الله عنه وأرضاه اختاره الصحابة جميعا للخلافة مع وجود علي ، وعمر كما هو معلوم لما توفي ترك الأمر في ستة نفر الذين مات رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهو بينهم راض وفيهم عثمان وفيهم علي فأجمع الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ، فاختلف أهل السنة فعامتهم على تقديم عثمان على علي .(33/173)
" وقال قوم وهم قلة من أهل الكوفة وغيرها بتفضيل علي على عثمان ، وهذه في مسألة التفضيل ليست في مسألة الخلافة أما الخلافة فهم مُجمِعُون على أن عثمان أحق بالخلافة من علي ، مسألة الخلافة لا اختلاف بينهم فيها أما مسألة التفضيل فإن منهم كسفيان الثوري وكأبي حنيفة وجماعة ممن كان في الكوفة كانوا يُفَضِّلُونَ عليا على عثمان ورجع منهم طائفة .
" والقول الثالث هو قول من توقف فيهم فلا يقول أن عثمان أفضل ولا يقول أن عليا أفضل لتعارض الأدلة والفضل في حق هذا وهذا ، وممن اختار هذا القول الإمام مالك رحمه الله كما هو مذكور في المدونة وفي غيرها .
والصواب من هذه الأقوال أن عثمان رضي الله عنه أفضل من علي وأن عليا يليه في الفضيلة وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة لأن الصحابة لم يقدموا في الخلافة إلا من هو أفضل وعلي أجَّلُوه وقدَّموا عثمان فهو أفضل من علي ، قال :
(لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ)
يعني بعد ذهاب تلك الطائفة في الكوفة الذين يقال لهم الشيعة ، شيعة علي لأنهم كانوا يقدمون علي على عثمان لما ذهبوا أولئك مع الزمن في القرن الثالث هجري استقر الأمر على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة ، قال بعد ذلك شيخ الإسلام :
(وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ -مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ)
وهذا صحيح لأن الأصل هو ما يتبعه اعتقاد ، ومسألة عثمان وعلي إنما هي في الفضل وليست في الخلافة ، لا ينبني عليها تضليل الطائفة الأخرى ، ولا ينبني عليها أن من قدم عثمان على علي في الخلافة أنه مخطئ وإنما اختاروا في الفضل أن هذا أفضل .
وإذا تأملت الأمر في الحقيقة فإن مسألة الفضل في أصلها هي عند الله جل وعلا ، من الأفضل ؟(33/174)
حقيقة الأمر أنه عند الله جل وعلا هو الذي يعلم سبحانه ، هذا أفضل أم هذا أفضل ، ولكن لما قَدَّمَ الصحابة رضي الله عليهم عثمان على علي فإننا نأخذ بهذا الأصل وهو أنهم لن يقدموا لإمامتهم في دينهم وفي دنياهم إلا من هو أفضل .
فهذا الأصل وهو إجماع الصحابة على بيعة عثمان وعلى تقديمه على علي يجعل ذلك الأمر الخفي وهو أن هذا أفضل ، الذي لم يرد فيه نص بخصوصه فإنه يجعل الأمر على أن عثمان هو الأفضل وأن عليا بالنسبة إلى عثمان مفضول .
قال (مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ) لأن الأدلة فيها ليست بواضحة في تفضيل عثمان على علي ، والتفضيل كان مستندا إلى مسألة الخلافة ولهذا كانت ليست من الأصول .
والذين فضلوا علياً على عثمان يُقِرُّون بالفضل لعثمان بالخلافة وأنه أحق بها فلذلك لم تكن من مسائل الأصول التي يختلف فيها أهل السنة عن غيرهم من الفرق فإنما الخلاف بينهم في مسألة الفضل لما جاء في حق عثمان من الأحاديث وفي حق علي من الأحاديث .
ومسائل التفضيل دائما يكون فيها اختلاف ، إذا جاء في حق كل من الاثنين يعني أي صحابيين فضلْ ، فإن من جاء إلى التفضيل هل هذا أفضل وهل هذا أفضل لابد أن يحصل خلاف .
انتهى الشريط الثالث و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الرابع و العشرون
ومسائل التفضيل دائما يكون فيها اختلاف ، إذا جاء في حق كل من الاثنين يعني أي صحابيين فضلْ ، فإن من جاء إلى التفضيل هل هذا أفضل وهل هذا أفضل لابد أن يحصل خلاف بأن أحد المفضِّلَيْن أو أحد القائلين في هذه المسألة لا بد أن ينظر إلى بعض الخصال فيفضِّل من أجلها ، وآخر يأتي إلى بعض الخصال فيفضِّل من أجلها فيأتي الخلاف كما سيأتي عند الكلام على مسألة المفاضلة بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما.(33/175)
قال (لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ)
ومسألة الخلافة بحمد الله لا اختلاف بين أهل السنة فيها فأهل السنة مجمعون على أن الأحق بالخلافة عثمان ثم علي .
لهذا قال بعدها (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ. وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ)
يعني أنه بلغ في الضلال مبلغا ألحقه بأبلد الحيوانات وهو الحمار ، وذلك أن مسألة الخلافة مسألة ظاهرة بينة أجمع الصحابة على أبي بكر وأجمع الصحابة بعد أبي بكر على عمر وأجمع الصحابة بعد عمر على عثمان وأجمع الصحابة بعد عثمان على علي ، فمسألة الخلافة ظاهرة لهؤلاء ولا يجوز لأحد أن يطعن في خلافة أحد من هؤلاء .
وأبو بكر رضي الله عنه اختلف أهل العلم هل ولي الخلافة بعهد من رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أم ولي الخلافة باتفاق الصحابة وإجماعهم عليه أو هي بيعة الصحابة له ؟
" فقال قائلون من أهل العلم بل هو بعهد ونص لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) وقال أيضا عليه الصلاة والسلام للمرأة التي أتته تسأله في شيء من قضاء دينها فكأنها أشارت إليه ، أشارت للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فإن لم أجدك ؟ كأنها تعني الوفاء فقال (ايت أبا بكر) وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فرضي النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء مرضه الأخير عليه الصلاة والسلام رضي أبا بكر لهذه الأمة إماما لها في صلاتها التي هي أعظم أركان الإسلام فكان ذلك عهدا منه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأبي بكر .(33/176)
" وقال قائلون : بل هذه محتملة ولو كان هذا العهد واضحا لما اختلف الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام في مسألة من يلي الخلافة ، فقد تنازعوا ولو كانت المسألة بعهد لما تنازعوا ، فكانت إذن على هذا القول كانت ببيعة واجتماع وليست بعهد ، وهذا هو القول الثاني رجحه طائفة أيضا من المحققين من أهل العلم .
والصواب في ذلك عندي أن هذه المسألة اجتمع فيها هذا وهذا ، اجتمع فيها العهد واجتمعت فيها البيعة والاجتماع :
- فالعهد النصوص فيه كثيرة ، والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أوصى بأبي بكر وأمر بأن يؤمهم في الصلاة وأمر بالاقتداء به بل قال (اقتدوا باللذين من بعدي) فما معنى قوله (من بعدي) إلا مسألة الخلافة ، ولهذا نقول اجتمع في حق أبي بكر العهد والاجتماع ، وهذا العهد الذي عهده النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في حق أبي بكر ليس هو الذي به صار خليفة .
- ومن قال من أهل العلم إنه بالاجتماع عنى أنه لم يعهد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عهدا به صار أبو بكر خليفة ، وهذا صحيح ، فإن عهد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأبي بكر ليس هو عهد الخلافة كما عهد أبو بكر لعمر وإنما هو عهد وصية بأن يكون أبو بكر بعده في إمامة الناس وليس بعهد مكتوب ، بل كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتب عهدا فتركه لما تماروا عنده وكان الذي نهى عن الكتابة عمر رضي الله عنه كما ثبت ذلك في الصحيح وغيره من السنن والمسانيد .
عمر رضي الله عنه كانت خلافته بعهد أبي بكر لأن أبا بكر عهد لعمر بعده بالخلافة .
وعثمان كانت خلافته شورى ، ببيعة له من أهل الحل والعقد من الستة وغيرهم ، الستة الذين ترك عمر الأمر فيهم ، هم الذين قال عمر فيهم (توفي رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهو عنهم راض) فكانت خلافة عثمان ببيعة واجتماع .
وعلي رضي الله عنه بعد ذلك ببيعة أهل المدينة واجتماعهم عليه .(33/177)
وولاية معاوية بن أبي سفيان لم تكن مستقيمة في عهد علي ولا في عهد الحسن بن علي بعده وإنما كان في عهد علي باغيا على علي رضي الله عنهم أجمعين .
ومعاوية لم يبايع عليا ولم يقر له بالولاية حتى يسلم قتلة عثمان ، وذلك لأن الله جل جلاله قال ?وَمَن قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا? وولي عثمان الأقرب له كان معاوية فكان معاوية رضي الله عنه يطلب من علي أن يسلم له قتلة عثمان حتى يقتص منهم ، وعلي رضي الله عنه كان لا يستطيع لاختلاف الأمر أن يسلم أولئك القتلة لأن الناس كانوا في هرج ومرج وكانت فتنة عظيمة في المدينة لم يكن معها علي مستطيعا أن يسلم القتلة لمعاوية لأن الأمر لم يستتب له وكان الأمر في المدينة على ما تعلمون من التاريخ من الفتنة العظيمة التي كانت إذ ذاك .
فلم يكن علي مستطيعا وأراد علي أن يتأخر أمر قتلة عثمان حتى يستتب الأمر له وحتى يقوى جانب الخلافة ثم بعد ذلك يقتص من قتلة عثمان ، ولكن معاوية بادره على ذلك وحصل ما حصل.
ولم تكن ولاية علي ولاية الخلافة مستقيمة ولم تكن ولاية علي الخلافة مستقيمة وإنما كان فيها ما فيها من القتال والدماء ، وكان سبب ذلك الخوارج لأنهم هم الذين فتنوا المؤمنين وفرقوا بين صفوفهم .
المقاتل التي حصلت مثلا في وقعة الجمل المشهورة بين عائشة ومن معها وعلي رضي الله عنه ، الذي أثار القتال هو أحد الخوارج ، هم الذين أثاروا القتال ، ذهبوا إلى أولئك فنمّوا لهم بكلام وذهبوا إلى معسكر عائشة فنموا لهم بكلام وإلا فعائشة لم تأتِ للقتال وإنما أتت لصلح ولكي يعظموا أمر رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بحضور زوجته التي يحبها والتي هي من العلم والفضل بما هو معلوم عند الفئتين ، لكن حرك الخوارج المقتلة بين الفئتين ، فالذين حركوا القتال بين الصحابة هم الخوارج .(33/178)
لما قُتِلَ علي ، قتله عبد الرحمن بن ملجم ، وعبد الرحمن بن ملجم رأس من رؤوس الخوارج وكان قارئا للقرآن عابدا صالحا تقيا في عهد عمر رضي الله عنه وكان في عهد عمر في المدينة وكان عمر يقدمه حتى كتب لعمرو بن العاص في مصر (إنه يأتيك عبد الرحمن بن ملجم وإنه من الصالحين وأثنى عليه عمر وقال فاتخذ له دارا يقرئ الناس القرآن فيها) حصلت الفتنة في مصر وكان عبدالرحمن بن ملجم هذا ممن أدركته الفتنة فقدم معهم إلى المدينة ثم ذهب مع علي ثم كان آخر الأمر أن قتل سيد المسلمين في زمانه وأفضل من على الأرض في زمانه وهو علي رضي الله عنه وأرضاه فقتله واقتص منه الحسن بن علي فقتل عبدالرحمن بن ملجم بعد أيام من موت علي رضي الله عنه .
بعد موت علي ما استتب الأمر لمعاوية وإنما بايع الناس الحسن بن علي فاستمرت خلافته ستة أشهر ثم تنازل بالخلافة لمعاوية فاجتمع الناس على معاوية في عام واحد وأربعين من الهجرة لأن عليا كان قتله في رمضان ثم ستة أشهر من رمضان ولاية الحسن بن علي ثم تنازل بالخلافة في سنة واحد وأربعين لمعاوية فصار عام الجماعة .
سماه المسلمون عام الجماعة يعني عام الاجتماع فبدأ عهد معاوية رضي الله عنه وكان عهد تغلب ، يعني ولي الخلافة بالتغلب وكان ملكا وهو أول ملوك المسلمين وخير ملوك المسلمين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
فإذن تحصل من هذا أن الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن علي .
الحسن بن علي إمامته منعقدة وولي الخلافة بعدها ، لكن أهل السنة أو عامة العلماء لا يذكرون الحسن بن علي على أنه خليفة لأنه لم يحصل له زمان يقوم بمهام الخليفة ولهذا يقولون الخلفاء أربعة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي .
... على كل حال نقف عند هذا ، ونكمل إن شاء الله المرة القادمة ، بقي معنا نزر يسير من هذه العقيدة المباركة ...(33/179)
يقول : لقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة أنه لم يكن الدعاء للخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة إلا بعد أن سب الرافضة الصحابة في الخطبة ، السؤال هو لقد كان ذلك ردا على بدعة ، ولكن المتقرر عند السلف أن لا نرد بدعة ببدعة والدعاء للصحابة لم يرد كما هو معلوم ؟
هذا السؤال يتنوع كثيرا ، يأتي تارة بهذا الأسلوب وتارة يأتي بأن الدعاء عموما في خطبة الجمعة وفي الخطب أنه محدث وبدعة ، وينقلون كلام الشاطبي أيضا في الاعتصام في هذه المسألة وهذا من عدم فهم أصول أهل السنة في مسائل البدع .
البدعة لابد أن تخالف طريقة أهل السنة والجماعة ، فإذا كان أهل السنة والجماعة على طريقة ، على أصل ، على عمل ، على سَنن فإن هذا السنن وهذا الأصل لا يمكن أن يكون بدعة ، ولو لم يكن لهذا الأصل أو لهذا العمل ولو لم يكن له أصل معلوم من الكتاب أو السنة فيه بخصوصه .
فأهل السنة أدخلوا أشياء مخالفة للرافضة فمثلا يقولون (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) أدخلوا الصلاة على الصحابة مقارنة أو مقرونة بالآل مخالفة للمبتدعة وهل هذا كان في عهد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؟
لم يكن على هذا النحو في عهد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولا قائل من أهل السنة إن هذا بدعة بل من قال إنه بدعة فهو مبتدع مخالف لطريقة أهل السنة ، كذلك في مسألة الخطبة ، الخطبة شعار ظاهر للمعتقدات والمتقررات ، فيجب أن يكون فيها شعار لمخالفة أهل البدع ، مخالفة الفرق الضالة والجماعات المنحرفة ، فإذا كان كذلك كان عند أهل السنة وعند أئمة السلف إظهار مخالفة المبتدعة في الخطبة أمر مقصود ، فخالفوا المبتدعة في الصلاة على الصحابة والترضي عن زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وفي الدعاء لولاة الأمور ، خالفوا طوائف من المبتدعة ومن الفرق الضالة في هذه المسائل .(33/180)
لا يقال إن هذه المسائل محدثة وبدعة لأن الجواب أن البدعة هي ما قال أهل السنة إنها بدعة وهذه المسألة قررها أهل السنة وأئمتها إذ لا منكر بين أهل السنة في هذه المسائل .
والمقصود بأهل السنة الأئمة منهم الذين كتبوا في ذلك وقرروا وتتابع العمل على هذه المسائل دون إنكار ، إذا أتى أحد وأنكر شيئا من ذلك فيكون محجوجا بتقدم العمل بهذه المسائل .
فليست إذن المسألة مما قاله السائل في أنه رد بدعة ببدعة ، لأن هذا مدَّعى أن يكون الدعاء للصحابة وللزوجات وللخلفاء بدعة هذا مدعى بل هو سنة من سنن أهل السنة والجماعة .
يقول : في حديث (إن من أصحابي من لا أراه بعد أن أمت) هل يشكل على الصحابة في الجملة؟
ما أدري هل هذا حديث معروف ، هل هذا حديث ؟ حبذا لو يورده مرة أخرى مع تخريجه إذا كان يعلم أنه حديث .
لماذا لا يقدّم كل من بُشر بالجنة من الصحابة في مسألة التفضيل ؟
لأن التفضيل ليس راجعا إلى الخاتمة يعني هل هو في الجنة أم لا ، إنما التفضيل راجع للصفات ، والجنة مشتركون فيها لكن الاختلاف في الدرجات ، فلا يعني أن من بُشر بالجنة أنه أعلى درجة ممن لم يبشر بها لكن البشرى طمأنينة ولإظهار فضله ، فالتفضيل راجع إلى الصفات والمعاني التي تحلى بها الصحابة .
هل هناك من حصر المبشرين بالجنة من أهل العلم ؟
يعني في الأدلة ، في مؤلفات في ذلك مختصرة والسفاريني في شرحه على عقيدته ذكر كثيرين منهم وكذلك الحافظ وغيره .
كيف الجمع بين قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (لولا الهجرة لكنت امرؤا من الأنصار) وقول شيخ الإسلام (ويفضلون المهاجرين على الأنصار) ؟
(لولا الهجرة لكنت امرؤا من الأنصار) وأولئك فضلوا بالهجرة ، لم يفضلوا لأنهم مكّيّون وإنما فضلوا لأنهم مهاجرون فلولا الهجرة لكان النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ امرؤاً من الأنصار ولكن الهجرة جعلت أولئك يتصفون بأنهم مهاجرون ، فالمهاجرون أفضل ولا إشكال .(33/181)
هل يكفّر عبدالرحمن بن ملجَم بكبيرته ؟
لا ، عبدالرحمن بن ملجَم لا يكفّر بكبيرته وبقتله لخير خلق الله في زمانه خير المكلفين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قد سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج عموما أكفارٌ هم ؟
قال (لا ، من الكفر فروا).
منزلة أهل البيت النبوي
عند أهل السنة والجماعة
وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: "أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي".
وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه -وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ- فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي".
وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ".
وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ:
خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ.
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".(33/182)
وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ.
وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ -إِنْ صَدَرَ-، حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ.(33/183)
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَمَن نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ.
___________________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذه صلة للكلام على أصل هذه المسألة وهي بيان أصل أهل السنة والقاعدة التي يرجعون إليه في اعتقادهم في الصحابة وفي زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فإن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وسلامة ألسنتهم لصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ جميعا كما بين ذلك المصنف شيخ الإسلام رحمه الله في أول الكلام لقول الله جل وعلا ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ? .(33/184)
وبعد أن بيَّنَ معتقد أهل السنة في الصحابة أو ما ألزموا أنفسهم به تجاه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بيَّنَ طريقة أهل السنة والجماعة مع آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وسبب ذكر آل البيت في العقيدة كسبب ذكر الصحابة في الاعتقاد لأن مخالفة من خالف من أهل البدع في آل البيت كمخالفة من خالف من أهل البدع في صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، ذلك أن الذين غلو في آل البيت قابلوا ذلك الغلو في الحب ببغض الصحابة فحب الصحابة وحب آل البيت وجودا وعدما أو خلطا بين هذا وذاك متلازم .
لأن أول الفتن حصولا ما حصل بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، حصل به ذلك الاختلاف الذين تفرقت به الأمة إلى أصناف شتى :
- فمن الناس من غلا في آل البيت وتبرأ من الصحابة ، وهؤلاء هو الرافضة الشيعة الغلاة ومن أصولهم في هذا الباب أنه لا ولاء إلا ببراءة ، يقولون لا ولاء إلا ببراءة ، يعني لا تولي لأهل البيت ولا محبة لآل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إلا بالبراءة من الصحابة ، من أكثر الصحابة ، صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، ويتبرءون منهم لأنهم يعتقدون أن الصحابة كفروا إلا قليلا منهم ، ويكرهون عدد العشرة لأنه ذكر فيه العشرة المبشرين بالجنة ، ويتشاءمون ببعض الأعداد مما هو معروف عندهم في تفصيل الكلام على مللهم وآرائهم ، من معتقداتهم أنه لا ولاء إلا ببراء .(33/185)
وأهل السنة والجماعة يخالفون هذا الأصل ويقولون إن تولي آل البيت لا يتم إلا بتولي الصحابة وأن تولي الصحابة ومحبتهم لا يتم إلا بتولي آل البيت فتولي الصحابة وتولي آل البيت قرينان متلازمان ، وجود أحدهما عند أهل السنة هو وجود الآخر ، فلا يوجد من أهل السنة من يتبرأ من أحد من هذين الصنفين ولذلك تجد في مباحث الاعتقاد في مبحث عن آل البيت متصل بمبحث عن الصحابة لأن سبب التفرق في هؤلاء يعني في الصحابة هو سبب التفرق في مسألة محبة آل البيت .
بعد أن ذكر شيخ الإسلام القول في الصحابة قال بعده رحمه الله :
(وَيُحِبُّونَ) يعني أهل السنة والجماعة (يُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ)
المحبة التي قامت في قلوب أهل السنة والجماعة لأهل البيت هي المودة الخاصة وهي مودة بسبب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما جاء في الحديث الذي ذكره شيخ الإسلام بعد ذلك حيث قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ للعباس (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي) فمحبة أهل السنة لآل البيت محبة في الله ولله ولرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهذه المحبة لها مقتضيات عند أهل السنة فتقتضي :
" أولا أن يعتقد أنهم أفضل الناس نسبا ، فأفضل هذه الأمة نسبا هم آل بيت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فمن الجاهلية أن تُقَدَّم قبيلة أو فئة أو نسب على نسب الآل كمن يعتقد أن بعض القبائل أفضل من الأشراف أو من الآل أو نحو ذلك ، هذه جاهلية ، فأول درجات المحبة أن تعتقد أن نسبهم هو أفضل الأنساب فهم خير بيت موجود اليوم على ظهر الأرض إذا صح نسبهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فخير بيت من جهة النسب على الأرض هم آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(33/186)
" والثانية أن يكرموا في المجالس وأن يقدموا لأجل أنهم من آل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإذا كان العالم منهم مع علماء فإنه يقدم على من شاركه في العلم لأجل أن معه مزية النسب وفضيلة أنه من آل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإذا كان العامي مع أمثاله فإنه يقدم عليهم يقدم على أمثاله لأنه فاقهم لكونه من آل بيت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
" الثالث من مقتضيات هذه المحبة أن آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حق أن يكرموا وأن يعانوا وأن يدافع عنهم وأن ينصروا وأن تحفظ أعراضهم ، ولهم حق في الفيء بعامة ، والصدقة يعني الزكاة المفروضة حرام عليهم ، فإذا كان آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ محتاجين إلى بعض المال فحق على من يحبهم أن يعينهم لأنهم إن منعوا الفيء فإنهم لا بد أن يُغْنَوا ، وقد اختلف أهل العلم هل لهم يعني لآل البيت أن يأخذوا من الزكاة إذا مُنِعوا الفيء ؟ فلم يجزه الأكثرون وأجازه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم وهو الأصوب في هذا ، فإذا منعوا الفيء ولم يكن ثَم من يعطيهم من الزكاة فإن الناس يعينونهم ولا بد لأنهم من آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهذا معنى الموالاة والمحبة لهم وقول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) يعني أذكرهم وصية الله في أهل بيتي وقد قال جل وعلا ?قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? والمودة في القربى يعني أن تصلوني لأجل ما بيني وبينكم من القرابة ، والمخاطب بذلك قريش وآل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مشتركون في هذا الأمر .(33/187)
قال (وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) (أهل) و (آل) متقاربة لكن (آل) لا تطلق إلا على البيوت العظيمة المشتهرة ، إذا اشتهرت بعلم أو رياسة أو فاقت الناس يقال (آل فلان) و (أهل) هذه أعم .
و (أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) وأهل النبي هم آله ، لأن الأهل ليس معناه الزوجات فحسب وإنما كلمة أهل في اللغة وفي الشرع تطلق على الزوج - يعني الزوجة - وعلى الأبناء وعلى الإخوان وعلى الأخ ونحو ذلك ، وأدلة هذا معروفة ?إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي? وقال جل وعلا في قصة موسى ?وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي? فكلمة (آل) و(أهل) هذه وهذه تتناوب من حيث المعنى ، شيخ الإسلام استعمل لفظ (أهل) لأنه أعم في هذا السياق ، و (آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) لها إطلاقان :
الإطلاق الأول : أن يراد به خصوص آله ، يعني خصوص أهله ، لهذا شيخ الإسلام هنا عبر بلفظ الأهل لأجل هذا الإطلاق .
وهؤلاء يراد بهم الخمسة بيوت المشهورة بقرابة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما جاء ذلك في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم ، وهؤلاء هم (آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل العباس وبنو الحارث بن عبد المطلب) .
هؤلاء هم الذين تحرم عليهم الصدقة ، يعني تحرم عليهم الزكاة ، ومنعوها لأنهم طاهرون والزكاة أوساخ الناس كما قال عليه الصلاة والسلام (إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) فهؤلاء الأربعة بيوت التي جاءت في مسلم وزاد عليها العلماء (بنو الحارث بن عبد المطلب) هؤلاء هم الذين تحرم عليهم الصدقة ، يعني الزكاة هم آل النبي عليه الصلاة والسلام .(33/188)
وهؤلاء منهم أهل الكساء الذين أدار عليهم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كساءه وخصهم بذلك وفيهم نزل قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا? وقد أدار النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الكساء على طائفة من أهل البيت وهم (علي وفاطمة والحسن والحسين) فهؤلاء أخص لهم الحق الأخص وجميع آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لهم الحق وهؤلاء لهم حق أخص .
أيضا من الآل زوجات النبي عليه الصلاة والسلام .
فإذن شمل آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثلاث فئات :
" الخمس بطون الذين ذكرت .
" وعلي وفاطمة والحسن والحسين وهم يدخلون في آل علي في التفسير الأول .
" وزوجات النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا الأول .
والثاني : أن آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تطلق إطلاق عام ليس هو المراد في هذا الموطن ، وهذا الإطلاق يراد به الأتقياء الذين تبعوا النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ على دينه ورسالته وسنته ، وهذا اختيار ابن القيم رحمه الله في قول المصلي (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) يعني على أتباع محمد (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) يعني على إبراهيم وعلى أتباع إبراهيم .
قال (وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: "أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي")(33/189)
(يَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) لأنه عليه الصلاة والسلام قال (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) يعني أذكركم أمر الله في أهل بيتي ، أذكركم وصية الله في أهل بيتي ، أذكركم تقوى الله بأهل بيتي ، فتذكر الله في أهل بيته هو تذكر شرعي ، الشرع الذي جاء من عند الله في آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وقد جاء في إكرام آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وفي محبتهم وتوليهم أحاديث كثيرة .
قوله (حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ) (خُمٍّ) مكان فيه ماء بين مكة والمدينة ولما رجع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وقف عند هذا الغدير وخطب الناس في ذلك اليوم يوم الثامن عشر من ذي الحجة خطب الناس في ذلك الغدير ، ذلك المكان ، حيث قال في ذلك ذكّر الناس ووعظهم وحثهم على التقوى ثم أمرهم بالاستمساك بحبل الله جل وعلا وهو كتاب الله جل وعلا قال في ذلك عليه الصلاة والسلام (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله) ثم ذكر كلاما ثم قال في آخره (وَأَهْلَ بَيْتي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
منهم من روى هذا الحديث بالجمع قال (كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وهذا من السياق بالمعنى وجعل في آخره كما هي رواية الترمذي - الحديث حديث غدير خم في صحيح مسلم حديث زيد بن أرقم حديث مشهور معروف الروايات فيه مختلفة منه رواية عند الترمذي وعند غيره - حيث قال فيها (وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) ففهم من ذلك أن هذين اللذين لن يتفرقا كتاب الله جل وعلا وأهل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(33/190)
وهذا الفهم غلط لأن هذا الحديث حصل فيه اختصار في الروايات وزيد بن أرقم رضي الله عنه ذكر بأنه اختصر الكلام كما في صحيح مسلم وأنه لم يسقه لشيء حصل له أو لعدم ضبطه لذلك ، والرواية التي في صحيح مسلم واضحة وفي غيرها جاء فيها هذا اللفظ (وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) وقد قال عدد من المحققين من أهل الحديث أن هذا اللفظ سيق بالمعنى وبعضهم جعله من الشاذ وأن هذه اللفظة غير محفوظة بل هي شاذة ، وقد وردت هذه الرواية عند الحاكم - الحديث على تخريج الحديث يطول لكن الرواية عند الحاكم - وعند غيره أن الذي حث عليه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فقال (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا) قال فيه (كتاب الله وسنتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) فهو عليه الصلاة والسلام أوصى بالاستمساك بكتاب الله وبسنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فلما فرغ من الوصية بالكتاب والسنة قال (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
فإذن ليس المراد بقوله (تركت فيكم أمرين) في بعض الألفاظ أو (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا) ليس المراد بأحد هذين الأمرين أهل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بل هما الكتاب والسنة ، ومن جعل أحد هذين الأمرين آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أو العترة فقد أدخل شيئا في شيء وروى بالمعنى كما فهمه وليس هذا بصحيح كما حققه الأئمة من أهل الحديث ومن أئمة السنة في العقيدة .(33/191)
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه -وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ- فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي" ، وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ")
فأنا خيار من خيار من خيار ، وهذا ظاهر الدلالة على ما ذكره شيخ الإسلام من أن أهل السنة والجماعة يحبون آل البيت لمحبتهم لرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال بعدها (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ: خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه)
(وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هم زوجاته ، الأفصح أن يقال للمرأة : زوج الرجل ، وزوجة يجوز ذلك على قلة كما جاء ذلك في وصف عائشة في صحيح مسلم (وإنها زوجة نبيكم صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الدنيا والآخرة) .
وأزواج جمع زوج ، والزوجات جمع زوجة ، فقوله (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ) يعني زوجاته ، والتعبير بالأزواج والمفرد زوج أفصح .
قال (أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) النبي عليه الصلاة والسلام تزوج عددا من النساء وتسرى بمارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم مصر ، وكانت زوجاته حين توفي رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كن تسعة .(33/192)
وأول زوجاته خديجة ولم يتزوج عليها أحدا عليه الصلاة والسلام وكانت أعظم النساء عنده عليه الصلاة والسلام .
وأول زوجاته لحوقا به زينب بنت جحش حيث قال عليه الصلاة والسلام (أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا) فكانت الأطول يدا في الخير والصدقة والبذل زينب بنت جحش ، توفيت رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة وعائشة توفيت سنة سبع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه وعنها .
قال (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) أمهات المؤمنين لأن الله وصفهن بذلك في قوله ?وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ? وهن أمهات المؤمنين من جهة المكانة لا من جهة المحرمية .
يعني من جهة المكانة ، ومن جهة الحرمة ، فلا يحل لأحد أن يتزوج امرأة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بعده ، والناس ليسوا محارم لزوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بل هن أجنبيات عن الأمة.
فإذن هن من جهة الحرمة محرمات أما من جهة المحرمية ليس الرجال محارم لزوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه مرتبة بين المراتب ، وهناك من النساء من هن محرمات ومن حرمت عليه المرأة كان محرما لها ، وهناك من النساء من هن محرمات ولا تكون محرما يعني لا يكون الرجل محرما لها مع أنها محرمة عليه ، وهناك من النساء من هي محرمة ومحرم ولكن لا يستحسن أن يكون خاليا بها أو محرما لها في سفر ونحو ذلك على ما هو معلوم من تفاصيل ذلك في كتاب النكاح .
قال (وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ) ذلك لأن أزواج النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الدنيا هن زوجاته في الآخرة كما ثبت ذلك في الحديث .(33/193)
(خُصُوصًا خَدِيجَةَ) خديجة هي أفضل زوجات النبي عليه الصلاة والسلام في أول الإسلام وهي أعظم زوجاته نصرة له وهي أول زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهي أول الناس إسلاما وإيمانا بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال شيخ الإسلام في وصف خديجة (أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ) ، (أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ) يعني باستثناء إبراهيم فإنه كان من سريته مارية القبطية ، وأولاد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من الرجال يعني من الذكور ومن الإناث كانوا من خديجة ، روي أن عائشة حملت وأسقطت لكن هذا ليس بصحيح فإن زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ما حمل منهن إلا خديجة ومارية .
قال عن خديجة (وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ)
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ)
يعني وأخص الصديقة بنت الصديق .
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
ذكر هاتين الزوجتين خديجة وعائشة لأنهما أعظم زوجاته وأحب زوجاته إليه ، وكانت عائشة كثيرا ما تغار إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام خديجة ، ولما توفيت خديجة أُري النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عائشة في المنام وكانت زوجته عليه الصلاة والسلام .
اختلف أهل العلم في خديجة وعائشة أي هاتين أفضل ، هل خديجة أفضل من عائشة ؟
أم عائشة أفضل من خديجة ؟
" فمنهم من فضل خديجة لما جاء في فضلها من الأحاديث الكثيرة ولأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وصفها بأنها كملت وهي التي ناصرت النبي عليه الصلاة والسلام وساندته وأيدته وبذلت له عليه الصلاة والسلام مالها وكانت له ردءا ولها من المقامات في أول الأمر ما ليس لعائشة .(33/194)
"ومنهم من فضل عائشة وقال عائشة أفضل لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ) والنساء يدخل فيها خديجة ، وقالوا أيضا عائشة رضي الله عنه نفعت الأمة جميعا بما روت من الأحاديث وما حفظت من سنة النبي عليه الصلاة والسلام وبما بينت للأمة من الأحكام حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون إلى عائشة إذا اختلفوا ، واستدركت عائشة على عدد من الصحابة في الأحكام وصنف في ذلك بعض أهل العلم كتبا منها كتاب الزركشي (الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة) فقالوا عائشة أفضل لما لها من المحبة ولما لها من العلم ولتفضيل النبي عليه الصلاة والسلام لها .
" والذي عليه طائفة من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن هذا التفضيل ليس بوجيه لأن المسائل التي يختلف فيها أهل العلم من مسائل التفضيل إنما الحكم فيها للنص ، والنص لم يأت بتفضيل عائشة على خديجة ولا خديجة على عائشة مطلقا ، وإنما ورد أن هذه مفضلة أو أن هذه أفضل وورد أن الأخرى مفضلة وأنها أفضل ، فلهذا وجب أن ينظر في جهات الفضل وأن يتكلم في الفضل من جهة ما حصل ، لهذا قال شيخ الإسلام إن التحقيق أن يقال إن خديجة رضي الله عنها في أول الإسلام كانت أفضل من عائشة وعائشة إذ ذاك صغيرة لا تحسن شيئا وخديجة هي التي ناصرت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأيدته فهي أفضل من هذه الجهة في أول الإسلام ، ولما انتشر الإسلام النبي عليه الصلاة والسلام كانت عائشة عنده وحفظت عنه من السنن ومن أحواله في بيته ومن كلماته ومن أحكامه ما لم يكن عند خديجة وما لم تنقله الأمة عن خديجة ، فاستفادت الأمة من عائشة ما لم تستفده من خديجة ، فمن هذه الجهة تكون عائشة أفضل من خديجة ، وهذا كلام عدل وهو كالمتعين لأن هذه وهذه كل لها فضل .(33/195)
وهكذا ينبغي في سائر مسائل التفضيل سواء في مسائل العقيدة ، يعني في التفضيل في المسائل التي وردت في العقيدة أم في غيرها ، فإن مسائل التفضيل يختلف فيها الناس .
إذا رأى الناس المسائل أو الرجال هذا أصح أو هذا أصح أو هذا الرجل أفضل أو هذا العالم أعلم أو هذا أشجع أو هذا أقدر ونحو ذلك ، فإنها إذا جاء أفعل التفضيل يختلف الناس في ذلك لزما ، لأن جهات التفضيل ليست واحدة ، جهات التفضيل متعددة ، فلا بد أن يختلف في التفضيل لأن الجهات متعددة .
فإذا تكلم الناس في التفضيل بعدل وبحكمة لم يتبع ذلك الاختلاف تفرقا و أما إذا تكلموا في التفضيل بنوع ابتداء فإنه ربما أحدث ذلك تفرقا .
والذي ينبغي على طالب العلم أن يستفيد من تحقيق شيخ الإسلام في هذه المسألة في مسألة التفضيل بين خديجة وبين عائشة في نظائر ذلك من التفضيل الذي له جهات فإنه يفصِّل فيكون المقام مقام تفصيل ، فيقول إذا نظرت إلى هذه الجهة فتقول هذا العالم أفضل وإذا نظرت إلى الجهة هذه فتقول هذا العالم أفضل ، إذا نظرت إلى هذه الجهة تقول هذا العالم أعلم أزهد وإذا نظرت إلى هذه الجهة قلت ذاك أعلم وأحكم مثلا وهكذا .
إذن تعدد جهات التفضيل أو جهات الإعجاب فالتفصيل يكون هو العدل في الغالب إذا تنازع الناس في مسائل التفضيل وهو المستفاد من كلام شيخ الإسلام في مسألة التفضيل بين عائشة وخديجة .
تبرؤ أهل السنة والجماعة
مما يقوله أهل البدع والضلالة
في حق الصحابة وآل البيت
قال بعد ذلك (وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ)
(يَتَبَرَّءُونَ) يعني أهل السنة والجماعة ، (يَتَبَرَّءُونَ) يعني يعلنون البراءة وهي عدم الانتساب إلى طريقة الروافض وبغض طريقة الروافض ، فالبراءة تجمع البعد وإعلان عدم الانتساب وبغض ذلك الشيء.(33/196)
(وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ) الروافض جمع رافضي ، والرافضي اسم من قام به الرِّفْض ، والرفض عقيدة من العقائد .
وسمي أولئك رافضة لأنهم رفضوا إمامة زيد بن علي وقد كان الشيعة يتولون آل البيت حتى حصلت مسألة سب أبي بكر وعمر فتبرأ زيد بن علي ممن سب أبا بكر وعمر ولعنهما رضي الله عنهما وأرضاهما فقال زيد بن علي (أنا أتبرأ منكم وأرفضكم) فقالوا (ونحن نرفض إمامتك) فقال (أنتم الرافضة) فسموا رافضة لأنهم رفضوا إمامة زيد بن علي أو رفضوا الترضي وتولي أبا بكر وعمر .
رافضي اسم فاعل الرِّفض بالكسر وأصله من رفض يرفض رفضا ، مصدر الرفض بالفتح لكن العلماء جعلوا للعقيدة هذه اسم غير المصدر قالوا (هذا رِفْض) وهؤلاء رافضة كما قال الشافعي في بيته المشهور :
فليشهد الثقلان أني رافضي إن كان رِفضا حب آل محمد
فالرواية له (رِفضا) بالكسر كما نبه على ذلك شارح القاموس الزَّبيدي وغيره من أهل العلم وهي التي تسمع من أهل العلم خلافا لمن قرأها بالفتح (إن كان رَفضا حب آل محمد) بل هي :
فليشهد الثقلان أني رافضي إن كان رِفضا حب آل محمد
الرافضة الكلام عليهم له تفصيلات وتطويلات لكن على كل حال ما يخص هذا الموضع ذكره شيخ الإسلام بقوله (الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ) .
الروافض جمعوا بين بغض الصحابة وبين لعنهم كما ذكرنا عنهم أنهم يقولون (لا ولاء إلا ببراء) يعني لا تولي لأهل البيت إلا بالبراءة من الصحابة ، قد كفّروا الصحابة إلا بضعة نفر ، والروافض مع الصحابة يكفرونهم ويبغضونهم ويلعنونهم ويجعلون البغض والتكفير واللعن دينا يتقربون إلى الله به خاصة الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فالرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وسائر الصحابة .
قال (وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ)(33/197)
النواصب جمع ناصبي ، والناصبي اسم فاعل النصب ، والنصب هو مناصبة آل الببيت العداء والعداوة ، هذه حصلت في زمن الفتنة :
" فإن منهم من تولى عليا وغلا فيه ، هؤلاء تدرج بهم الأمر حتى صاروا روافض.
" ومنهم من تبرأ من علي والآل هؤلاء سموا نواصب .
والنواصب في العموم ليسوا فرقة معروفة بعقائدها ، فليس ثَم فرقة من الفرق معروفة العقيدة لها تفاصيل الكلام في الأسماء والصفات وفي الإيمان وفي القدر إلى آخره يقال لهم النواصب ، وإنما النواصب يذكرون في هذا المقام لأجل أن لهم اعتقادا في الصحابة رضوان الله عليهم ، فهم كالخوارج عقيدة في الصحابة وفي آل البيت ولكن يشابهون الخوارج في آل البيت بالأخص ، فمن هذه الجهة يمكن أن يعتبروا من الخوارج يعني أنهم ناصبوا آل البيت العداء وجعلوا العداوة قائمة بينهم وبين آل البيت وكذلك نظرهم في الصحابة ليس كنظر الرافضة بل هو كنظر الخوارج .
أهل السنة وسط في آل البيت بين طريقة الرافضة الذين يغلون في آل البيت وجعلوا منهم أئمة بل جعلوهم أئمة وجعلوهم معبودين وعظموهم فوق ما يجب ، وبين طريقة النواصب الذين يسبونهم ويلعنونهم ويؤذون آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فأهل السنة وسط يتولون الصحابة ويتولون الآل لا يتبرءون من الصحابة ولا يتبرءون من الآل ، فعندهم الحق واضح يجمع بين هذا وهذا يعني بين حب الصحب وحب الآل جميعا .
قال (وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ)
هذه عقيدة أهل السنة أنه ما شجر بين الصحابة ، (شَجَرَ) يعني حصل ، وسمي الشجار شجارا لأنه يحصل فيه اختلاف واشتباك .
وأصل التشاجر هو التداخل لذلك سميت الشجرة شجرة لتداخل فروعها .
والاختلاف الذي حصل بين الصحابة هو الذي شجر بينهم ، (وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ) يعني عما حصل من الاختلاف في الأقوال أو في الأعمال بين صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(33/198)
قوله (يُمْسِكُونَ) هذا يعم عند أهل السنة الإمساك باللفظ وبالقول وبما يدور في القلب وبالعمل وبالكتابة والحكاية والإسماع والإقراء ، كل ما كان من قبيل القول أو العمل في جميع تصرفاته كلاما أو كتابة أو عملا من الأعمال كل هذا يمسك أهل السنة عن الخوض في الصحابة فيه فيمسكون عن التأليف فيما صدر بين الصحابة ويمسكون عن الإقراء ويمسكون عن الإسماع فلا يريدون ما شجر بين الصحابة أصلا وإنما عندهم في هذا أنهم يقولون عنهم جميعا يعني عن الصحابة جميعا ?اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ? وهذا يشمل جميع الصحابة رضوان الله عليهم .
(وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ)
كذلك أهل السنة في ما روي من الآثار في كتب التأريخ عن حكاية ما شجر بين الصحابة وعن تفاصيل الأحوال فإنهم يقولون إن هذه الآثار التي تروى وفيها مساوئ لهم هي على ثلاثة أقسام ،شيخ الإسلام ذكر منها ذكر هذه الثلاثة أقسام :
" فأول هذه الأقسام أن (مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ) وهذه معروفة في التواريخ كتاريخ ابن جرير وتاريخ .. بعض المعايب لهم منها ما هو كذب قطعا وهذا هو الذي هو كذب الذي روي عن طريق الكذابين وأشهرهم (أبو مخنف) في تاريخ الطبري وهناك رسالة مختصة بذلك اسمها (مرويات أبي مخنف في التاريخ) وكذلك (الكلبي) فإن هذين معروفَيْن بالكذب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم .(33/199)
" القسم الثاني (وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ) يعني منها أشياء صحيحة حصلت منهم لكن زيد فيها أشياء إما من جهة فهم الراوي أو من جهة ظنه أو من جهة إيضاحه للحال وأخطأ في ذلك ، أو منها ما نُقِض منه ما يُفَسَّر به الذي حصل ، فإذا كان كذلك فالزيادة والنقصان تغيير لتلك المرويات عن وجهها فبدل أن تكون تلك المرويات فيها عذر لهم صار بالزيادة والنقصان فيها ذكر شيء يفهم على أنه من مساوئ الصحابة رضوان الله عليهم .
" القسم الثالث ما اجتهدوا فيه ، وهذا كثير وهو صحيح لكن ما يمكن أن يفهم على أنه من مساوئهم هم مما اجتهدوا فيه .
فاعتقاد أهل السنة والجماعة في هذا الصحيح أنه ما كان من قبيل المساوئ مما صح فإنهم إما مجتهدون فيه لهم فيه الصواب أو الخطأ الذي يؤجرون عليه ، وإما ما هو من الذنوب التي تكون من الكبائر أو الصغائر وهم في تلك الذنوب معفو عنهم مغفور لهم .
هذا قال في القسم الأخير (وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ)
لم يذكر قسم الذنوب وسيأتي ذكره بعد ذلك .
وقوله (هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ) يعني به ما ليس من قبيل الذنوب إنما ما كان من قبيل الاجتهادات غير ما حصل من القتال بين طلحة والزبير وعلي ومثل ما حصل من القتال بين معاوية وعلي ومثل قصة الحكمين ونحو ذلك مما يذكر .
فما كان من ذلك هم مجتهدون فيه إما مصيبون مأجورون أجرين وإما مخطئون ، وهذا الذي حصل من الخلاف بين الصحابة نعتقد بأنهم ما دخلوا فيه إلا عن تأويل فإنما قصدهم نصره الحق وقصدهم أن ينتصروا للحق وأن يبطلوا الباطل ، فاجتهدوا فمنهم من هو مصيب في اجتهاده ومنهم من كان مخطئا في اجتهاده وليس فيهم من دخل في أمر وهو يعلم أنه ذنب ومعصية ودخل فيه عن عمد وإنما دخل فيه عن اجتهاد فإما أن يكون مصيبا أو أن يكون مخطئا .(33/200)
ولما حصلت الفتنة بعد مقتل عثمان ولم يقر معاوية رضي الله عنه لعلي رضي الله عنه بالخلافة وكانت الخلافة منعقدة لعلي ولكن معاوية لم يقر بالخلافة وحصل ما حصل من المسير إلى معاوية وإلى العراق الاختلاف المعروف لم يدخل من الصحابة في ذلك الاختلاف ما يقرب من ثلاثين رجل بل الأكثر اعتزلوا الاقتتال ، وأقروا بخلافة علي أكثر الصحابة بايعوا عليا وأقروا له بالخلافة وأنه هو الخليفة بعد عثمان رضي الله عنه لكن لم يسيروا معه في الاقتتال لم يبلغوا ثلاثين من الصحابة ، والصحابة فيما حصل من الفتنة والاختلاف كانوا على ثلاثة أقسام :
" القسم الأول منهم من رأى صواب علي وأنه هو الخليفة وأنه محق في قتاله لمعاوية أو في مسيرة لكي يذعن معاوية لبيعته ويبايع لأنه يجب على الإمام أن لا يقر أحدا لا يبايعه إذا بايعه أهل الحل والعقد يجب عليه أن يلجئ هذا إلى بيعته فرأى جمع من الصحابة أن عليا مصيب فساروا معه وأيدوه .(33/201)
" ورأى عدد آخر أن معاوية مصيب في ما طالب به من دم عثمان وأن تسليم القتلة لولي عثمان واجب وأنه يجب الانتصار للمظلوم وعثمان رضي الله عنه كان مظلوما بقتله ومعاوية هو وليه لأنه من آله والانتصار للمظلوم واجب وقد قال جل وعلا ?وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا? فجعل السلطان لولي المقتول ، فاجتهد بعض الصحابة فساروا أو كانوا مع معاوية لأجل هذا الفهم ، فهذا هو القسم الثاني . واستدل ابن عباس وغيره بأن الأمر صائر إلى معاوية وأن الأمر سيكون إليه والسلطان سيكون بيده بعد حين بهذه الآية ، وهذا من جهة الإشارة التي يفهمها بعض من آتاه الله العلم وليست ظاهرة لكل أحد لأن الله جل وعلا قال في ذلك ?وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا? ففُهِم من السلطان أنه السلطان العام ?فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا? هذا الذي حصل من معاوية فإنه لما ولي وجعل الله له السلطان فإنه لم يسرف في القتل ونصره الله جل وعلا بذلك والصحابة هم أفقه هذه الأمة وهم أبر هذه الأمة قلوبا وهم أعمق هذه الأمة علوما وأقلها تكلفا ، قوم صحبوا رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خير من عبادة غيرهم كذا وكذا سنة .
" الفئة الثالثة من الصحابة هم الذين لم يصوبوا الاقتتال ، بايعوا عليا وأقروا بخلافته ولكنهم لم يصوبوا الاقتتال وعلي لم يلزم الجميع بالسير معه ، فبقوا في المدينة ومنهم من بقي في غيرها وتركوا الدخول في هذه الفتنة كابن عمر ومن معه . هؤلاء هم الأكثرون .
قال شيخ الإسلام هذه المسائل هي من قبيل التأريخ والتفصيل يعني نختصر الكلام فيها ، قال (إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ) فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد .(33/202)
قال (وَهُم مَّعَ ذَلِكَ) يعني أهل السنة (لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ)
أهل السنة لا يعتقدون عصمة الصحابة ، لا يعتقدون أن كل صحابي معصوم بل الصحابة تقع منهم الكبائر وتقع منهم الصغائر .
قد حد النبي عليه الصلاة والسلام عددا من الصحابة في وقته ، وحد الخلفاء بعده عددا من الصحابة أيضا في كبائر من الذنوب ، حصلت منهم الكبائر والصغائر لكن هذا من جهة التجويز على الجملة ، التجويز على الصحابة ، لكن لا يقال الصحابي فلان قد يقع منه كبيرة ، الصحابي فلان يمكن أن يفعل كبيرة بعينه وإنما نقول في الجملة لا نقول إن الصحابة معصومون من الكبائر أو الصغائر بل تقع منهم الكبائر والصغائر جوازا ممكن أنها تقع منهم الكبائر كما حصل وتقع منهم الصغائر ، لكن ما لم نعرف أنه وقعت منه الكبيرة فلا نقول أنه ممكن أنه عمل كبيرة لأن هذا ينافي محبتهم وتوليهم واعتقاد أنهم خير هذه الأمة .
(مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ) الكبائر والصغائر قسمان للإثم وللذنوب .
وتقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر هو الذي عليه الجمهور جمهور أهل العلم لقول الله جل وعلا ?إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا? فقالوا بمفهوم وجود الكبائر أنها توجد صغائر ، ولقوله تعالى ?إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ? وهذا في الصغائر ، والأحاديث كثيرة في ذكر تكفير الصلاة لما دون الكبائر إلى غير ذلك ، ذكرنا لكم فيما مضى ضابط الكبيرة وضابط الصغيرة فلا نعيده .
قال (بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ)
الذنوب جائزة عليهم ، جائز أن يعملوا الكبائر ، جائز أن يعملوا الصغائر .(33/203)
قال شيخ الإسلام هنا كلمة مهمة قال (فِي الْجُمْلَةِ) وهذا هو الذي ذكرت لكم أن معناه أن لا يحدد جواز ذلك على واحد منهم ، نقول في الجملة يعني لا نقول فلان من الصحابة يجوز عليه كذا وكذا بل نقول هم - الصحابة - في المجموع يجوز عليهم الذنوب ، وهذه الذنوب التي تجوز عليهم
(لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ)
قال شيخ الإسلام (لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ) يعني من الحسنات لأن الله جل وعلا قال ?إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ? وقد قال عليه الصلاة والسلام في حق عثمان لما جهز جيش العسرة (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) كما هو في الترمذي وغيره وقد قال أيضا عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف المتفق على صحته يعني أن أهل العلم صححوه (إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) والأحاديث في ذلك كثيرة .
قال (لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا صَدَرَ مِنهُم) عبر شيخ الإسلام هنا بقوله (مَا يُوجِبُ) الوجوب هنا هو إيجاب من الله جل وعلا على نفسه بفضله ووعده لأن الله أوجب على نفسه وأحق على نفسه أنه يغفر لمن مات لا يشرك بالله شيئا، أوجب على نفسه وأحق على نفسه أنه جل وعلا يغفر لمن أتى بالحسنات ولمن أتبع السيئة بالحسنة فقال ?إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ? ومن تاب تاب الله عليه ، هذا بوعده الصادق .
وهذا الوعد الصادق بعض أهل العلم يعبر عنه بالحرام وبعضهم يعبر عنه بالإيجاب ، وقد قال شيخ الإسلام في موضع حين كلامه على حديث (أسألك بحق السائلين عليك) حديث أبي سعيد الخدري المعروف (وبحق ممشاي هذا) قال (هو حق أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم) .(33/204)
إذن قوله (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ) يعني بالوجود هنا وجوب الفضل ، والله جل وعلا يحرم على نفسه ما شاء ويوجب على نفسه ما يشاء ، ليس العبد هو الذي يوجب ولكن لما أخبر الله بوعده الصادق أن هذا سيكون ووعده لا يتخلف يكون إيجابا من الله جل وعلا على نفسه .
قال (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ) فالله جل وعلا قال ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? ورضاه عنهم معناه أنه يعفى عنهم سيئات ما قد يكونون عملوه .
قال (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ)
تكفير أو محو السيئات له أسباب عشرة معلومة دلت عليها نصوص ثلاثة من العبد وهي:
1 - الحسنات الماحية .
2 - والتوبة .
3 - والاستغفار .
وثلاثة من المؤمنين وهي :
1 - الصلاة .
2 - والدعاء .
3 - والاستغفار .
أو نقول بدل الصلاة (القرب التي يهديها المؤمنون لمن توفاهم) وفي الدعاء والاستغفار ، وأربعة
......
لا ما هو بواحد ، الدعاء قد يكون غير الاستغفار ، الاستغفار بعض الدعاء الاستغفار يمحو به ، (استغفروا لأخيكم اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) قال (أو ولد صالح يدعو له) الاستغفار بعض الدعاء ، الدعاء أعم .
......
نعم صلاة الجنازة هي الدعاء .
وأربعة من الله جل جلاله ، إذا قلنا الدعاء يدخل فيه الشفاعة ، إذا قلنا الدعاء من المؤمنين يدخل في الشفاعة في الدنيا وفي الآخرة ويدخل فيها أيضا شفاعة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وأربعة هي :
1 - المصائب التي تحصل للعبد في الدنيا فإنها كفارات .
2 - ما يعذب به العبد في القبر .(33/205)
3 - ما يحصل للعبد من مصاعب في عرصات يوم القيامة .
4 - والأخير هو مغفرة الله للعبد بدون سبب .
هذه عشرة ذكرها بعض أهل العلم ، والمقصود من ذكرها أن هذه العشرة للصحابة منها أوفر النصيب إذا كانت هذه للغيرة متصورة فهي للصحابة من جميع الأمة ، الصحابة فيما بينهم ومن غير الصحابة لهم من وقت الصحابة إلى يومنا هذا ، ولهذا قال شيخ الإسلام (لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ) فلهم من ذلك الحسنات التي عملوها هم مقامهم جهادهم إلى آخره ، تقربهم إلى ربهم جل وعلا كذلك الحسنات التي تصلهم من المؤمنين هذه لهم ما ليس لمن بعدهم .
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ
إلى آخر الكلام ، التتمة إن شاء الله في المرة القادمة ...
ما حكم تخصيص آل البيت بلفظ (عليهم السلام) ؟
التخصيص بالسلام أو بالصلاة (عليهم الصلاة والسلام) أو (عليهم السلام) هذا ليس من طريقة أهل السنة والجماعة .(33/206)
والصلاة والسلام لغير الأنبياء تجوز إذا كانت أحيانا أما إذا كانت شعارا دائما لا يجوز ، لأن الشعار بالصلاة أو الشعار بالتسليم إنما هو للأنبياء ، وأما إذا كان أحيانا فقد كان النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إذا أتاه قوم بصدقات أموالهم قال عليه الصلاة والسلام (اللهم صل عليهم) فأتاه ابن أبي أوفى بصدقة فقال (اللهم صل على آل أبي أوفى) وبوب عليه البخاري كما هو معروف (هل يصلَّى على غير النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) والتحقيق أنه يسوغ أحيانا (اللهم صل على أبي بكر) يسوغ أحيانا (عليه السلام) يسوغ أحيانا ، كذلك لفظ (رضوان الله عليه) أو (رضي الله عنه) في حق غير الصحابة ، الصحابة رضي الله عنهم بقوله جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? وبقوله ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ? إلى غير ذلك من الآيات ، فغيرهم لا يجعل له شعرا ، يذكر مثلا الإمام أحمد دائما يقال رضي الله عنه ، الشافعي رضي الله عنه ويجعل هذا شعارا دائما يلتزم في حق من هو من غير الصحابة ، إنما إذا قيل بعض الأحيان بما لا يكون شعارا فإنه لا بأس به لأنه دعاء .
يقول لدينا بعض الطلبة ينكرون أنهم من الرافضة أو الشيعة مع أن بعضهم بحراني والآخر يقال له .. ، فهل نأخذ بظاهر حديثهم أنهم ليسوا من الشيعة ، وكيف نتحقق من أنهم متبرئون من هذا المذهب ؟
ذكرنا مرارا أن الرافضة أو الشيعة عندنا إو في دار الإسلام لهم حكم المنافقين ، يعني يقبل منهم ظاهرهم وتوكل سرائرهم إلى الله جل وعلا ومن أظهر منهم بدعة فيعامل على أنه مبتدع ، إذا أظهر هذا الذي يعني لا نعامله باسمه ابتداء أو نعرف بلده فنعامله على أساس أنه رافضي أو شيعي ابتداء ، لا ، لهم حكم المنافق ، يعني يعامل ظاهرا معاملة المسلم .
انتهى الشريط الرابع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية(33/207)
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الخامس و العشرون
ذكرنا مرارا أن الرافضة أو الشيعة عندنا أو في دار الإسلام لهم حكم المنافقين ، يعني يقبل منهم ظاهرهم وتُوكَلْ سرائرهم إلى الله جل وعلا .
ومن أظهر منهم بدعة فيعامل على أنه مبتدع ، إذا أظهر هذا الذي - يعني لا نعامله باسمه ابتداء أو نعرف بلده فنعامله على أساس أنه رافضي أو شيعي ابتداء - لا لهم حكم المنافق ، يعني يعامل ظاهرا معاملة المسلم .
فإن أظهر لك بدعة أو صرح بأنه تبع لهذا المذهب فتعامله على أنه من أهل هذه الفئة أو تلك النِّحْلَة
هل النواصب موجودون الآن ، وإن كانوا موجودين فأين يوجدون ؟
النواصب ذكرنا لكم أنه ليس ثَمَّ طائفة يُقال لهم الناصبة ، وإنما من سبَّ الصحابة وتبرأ من الآل يقال لهم ناصبة ، فلهذا الخوارج يدخلون في أنهم نواصب .
لماذا لا يقال إن خديجة أفضل من عائشة في الآخرة لما نُصَّ عليه الحديث أنها ومريم بنت عمران سيدتا نساء أهل الجنة ؟
هو طبعا الجهات مختلفة فيدخل التفضيل فنختلف أيضاً كما اختلف الأولون .
هل يكفر من سب الصحابة ؟
هذه تأتينا في آخر البحث ، حكم سب الصحابة وحكم سب الزوجات في آخر البحث .
ما صحة ما ينسب للشيخ عبدالعزيز من أنه يكفر الروافض في بلادنا ؟(33/208)
الروافض أصناف وطوائف ، فالرافضة الإمامية الغلاة الذين يُعرفون اليوم بهذا المذهب من حيث العموم يُكَفَّرون لأنهم يعتقدون أن أئمتهم آلهة يُدعَون ويُرجَون ، ويعتقدون جواز مناداة علي والاستغاثة به رضي الله عنه ومناداة الأئمة ولهم معتقدات كثيرة بها نقول من اعتقد ذلك الاعتقاد فهو كافر ، هذا من جهة الجنس لكن من جهة المعين في دار الإسلام ما يُحكم على المعين منهم بالكفر بل يُحكم عليه بظاهره مثل ما ذكرت لكم ، يُحكم عليه ظاهرا بالإسلام وتُوكَل سرائرهم إلى الله جل وعلا ، فمن أظهر منهم من المعينين بدعة حكم عليه بدعة حكم عليه بالبدعة ، من أظهر من المعينين شركا حكم عليه بالشرك ، من أظهر ردة حكم عليه بالردة ، وهكذا ، ولا تؤخذ الطائفة بفعل الواحد في دار الإسلام وهذا الذي عملته العلماء والقضاة في أزمنة الولايات الإسلامية من ولاية العباسيين وقبلهم الأمويين ومن بعدهم إلى زمننا هذا من جهة الفئات التي يحكم عليها بأنها كافرة كعقيدة عامة بفئة ، إذا أتى على المعين لا ، يعاملون كطائفة بأنهم منافقون ويقال الطائفة هذه حكمها كذا ، ولكن المعين يعامل على الإسلام ظاهرا حتى يظهر منه ما يخالف ذلك الأصل ، في الرياض معروف في زمن أئمة الدعوة والمشايخ إلى وقتنا هذا معروف أن الذين يبيعون الذهب هم من الرافضة ، بعضهم من شيعة القطيف ... وكانوا يأتون يصلون مع الناس وإذا مات الواحد منهم صُلِّيَ عليه ، لكن يجتنب الشيخ أو إمام المسجد إذا عرف أنه رافضي يجتنب الصلاة عليه تعزيرا له ، ولكن يجعل المسلمين يصلون عليه ويُدفن في مقابر المسلمين ، هذا عمل أئمة الدعوة رحمهم الله معهم .
ما وجه الجميع بين قولك أنه لا يجوز الدوام في الصلاة على الصحابة والسلام عليهم مع أننا نسلم على أنفسنا وعلى عباد الله الصالحين خمس مرات ؟(33/209)
هذا استشكال في غير مكانه لأن المقصود من ذلك فيما لم يرد به الدليل ، وهذا السلام على أنفسنا وعلى عباد الله الصالحين هذا ليس خاصا بهم ، بل لو قال شيئا أبلغ من ذلك من أن الناس أجمعوا يعني المسلمين أجمعوا على أنه يقال صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه ، فنُدرج الآل والصحب في الصلاة جميعا فهذا أبلغ ، هذا مما أجازه أهل العلم ، أما كلامنا السالف أن يُجعل على فئة شعارا ، يقال فلان عليه السلام مثل ما عند الزيدية أو عند الشيعة : جعفر عليه السلام ، علي عليه السلام الحسين عليه السلام ، الكاظم عليه السلام وهكذا .
هل ما يكتب في كتب التاريخ كتاريخ ابن جرير والبداية والنهاية وغيرها مما ذُكِرَ من الأحداث مما جرى بين الصحابة يشمل عدم الإمساك عما شجر بينهم ؟
الكتب ، كتب التاريخ على قسمين :
" منها ما هو بالإسناد ، ما كان بالإسناد فالقاعدة عند أهل العلم أن العالم إذا ذكر إسناده فقد تبرأ من العُهدة ، يذكر لك الإسناد وهذا الإسناد فيه رواية فلان المعروف بأنه كذاب ، انتهى من العُهدة ما دام ذكر لك الرجال وكان أمينا معك فذكر الرجال فقد تبرأ من العُهدة يعني عهدة ما ذُكر في الرواية .
" وأما الكتب التي ليس فيها إسناد كالبداية والنهاية وغير ذلك ففيها من التفصيل ما هو مهم في فهم ما جرى ، فالإمساك عما شجر بينهم يعني من الاختلاف ، أما إذا كان فيه بيان الحق أو بيان وإيضاح لما حصل فإنه قد يكون ذلك فيه مساعدة على الإمساك لأنك إذا عرفت الوِجهة أمسكت وأما إذا لم تعرف الوِجهة وِجهة هؤلاء ووِجهة هؤلاء لا يقتنع المرء بالإمساك فيكون وسيلة من وسائل الإمساك .
والتاريخ يُتَجَوَّزُ فيه ما لا يُتَجَوَّزُ في غيره .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :(33/210)
فهذا الدرس بداية لدروس هذا العام الذي أسأل الله جل وعلا فيه أن يكون عملنا فيه صالحا وعلمنا فيه نافعا وأن يجعلنا من المقبلين على الحق المتواصين به الذين يريدون وجه الله جل جلاله في كل أعمالهم .
ولا يخفى أن العلم هو أشرف مطلوب وأن السعي فيه سعي في أشرف المطالب وأعظمها فنَفَسُ طالب العلم عبادة وحركاته إذا كانت فيه في عبادة وذلك إذا كان مخلصا لله جل وعلا فيه ، فإن الملائكة كما جاء في الحديث الصحيح (تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) .
فأعظم المطالب لمن عقل : العلم ، العلم بالله جل وعلا وبكتابه وبرسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وبسنة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، هذا هو أشرف المطالب وأعظمها .
فمن كان من الموفقين وُفِقَ إلى هذا الأمر العظيم وهو أن يطلب العلم لله جل جلاله وأن يخلص فيه القصد له سبحانه وتعالى .
وقد قال العلماء (أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون العلم لأن العمل يكون بعد العلم ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ? .
والعلم بلا إله إلا الله هو علم بالشريعة ، والشريعة تضم الاعتقاد والأحكام .
لهذا في إقبالنا على هذه الدروس نُكرر الوصية بالجد في طلب العلم ونكرر التحذير أن لا تتوالى الأيام وتنقضي الأعمار والناس إما في غفلة عن هذا العلم وإما أن يكونوا يطلبونه على غير وجهه.
والعلم سهل ميسور لأن الله جل وعلا سهَّلَه فقال سبحانه ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ? وتيسير القرآن للذكر يشمل تلاوته وتدبره والعلم بما فيه .(33/211)
فالعلم الشرعي سهل ميسور ، فإذا نظرت إلى العلوم الأخرى التي وُرِثت من الأمم المختلفة من حصاد العقول أو حصاد التفكير في الروحانيات كما يزعمون وجدت أنها مغلقة إلا بمجاهدة عظيمة ، أما هذا العلم بالكتاب والسنة فهو سهل ميسور ولكن لمن أنعم الله جل وعلا عليه بالنية الصالحة وبالإقبال عليه والثبات عليه والحرص على ما ينفعه .
وكما هو معلوم أن العلم له خطوات وله طرائق من فاتته فاته تحصيل العلم على وجهه .
ومن تأمل في طريقة السلف وجد ذلك ظاهرا بينا ، فإنهم يطلبون العلم شيئا فشيئا ، وإذا كتبوا رحمهم الله إذا كتبوا الأحاديث فإنهم يتفقهون فيها وينظرون فيها نظر المتأمل ونظر الذي يستنبط العلم أو يكتب العلم بعد معرفة دليله .
فالأصل في التعلم أن يكون بالأدلة ، يعني أن يطلب طالبُ العلم القرآنَ ويتفقه في القرآن ، و أن يطلب الحديث ويتفقه في الحديث ، هذا هو الأصل .
وأهل العلم مَشوا على هذا نحو ثلاثة قرون من الزمان وصار المتميز منهم يكون فقيها بالكتاب والسنة بعد مدة من الزمن طويلة لأن التفقه في النصوص ابتداء هو الأصل ولكن يَطْلُبُ طَالِبَ علمٍ مُجِدٍ ويَطْلُبُ معلما محيطا بنصوص الكتاب والسنة وبالعام والخاص والناسخ والمنسوخ وكلام الناس في ذلك .
ولهذا ترى في هذا الزمن هناك من يقرر العلم لكن لو أتي له بتفسير القرآن أو بتفسير السنة فإنه قد لا يُخْرِجُ نفسه من كثير من الإشكالات وذلك لأن الفقه في النصوص يطلب علما واسعا .
ولهذا لما فتر الزمان وضعفت همة طلاب العلم عن الاستقصاء وعن طلب الحديث ولقاء العلماء والرحلة في ذلك خفف أهل العلم على المحصلين فصنفوا لهم الكتب المختصرة في التفسير وفي الأحكام في الفقه وفي العلوم المساعدة بخلاف الأصل الذي درج عليه الأولون .
وهذا منهم رحمهم الله تعالى لأجل تيسير العلم على الناس لأن الناس ضعفوا عن حمل العلم كما حمله السلف الصالح .(33/212)
ولهذا تجد أن فقهاء الإسلام في الصحابة والتابعين كثير ثم فيمن بعدهم أقل ثم فيمن بعدهم أقل وهكذا ، وهذا لصعوبة العلم من جهة أنه يَطلب توسعا في النظر وتوسعا في أخذه .
هو سهل من جهة استقباله ميسر لمن أقبل عليه لكنه كثير المسائل كثير التفصيلات .
نظر أهل العلم بعد ثلاثة قرون فوضعوا الكتب المختصرة في فنون شتى ، ومن أهم ذلك العقيدة والفقه وأدلة الأحكام .
فالسلف لم يجعلوا العقيدة على شكل مختصرات بل كانوا يجعلونها في كتب مبسوطة كما ترى في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وفي كتاب التوحيد لابن خزيمة وفي كتاب التوحيد من صحيح البخاري والسنة من سنن أبي داود والسنة من ابن ماجه وهكذا في كتب كثيرة ، والإيمان والشريعة والتوحيد ونحو ذلك من الكتب والقدر وغيرها .
فكانت كتبهم فيها البسط لأنها تليق بمكانتهم وبمن يتلقى لكن صارت حاجة المتعلمين إلى المختصرات لتضبط الأصول فصار الأمر بعد ذلك تسهيلا أن يُبْدَأَ بالمختصر الذي فيه فقه النصوص يعني الذي كتب فيه مصنفه ما يعلمه من فقه النصوص ومما قرره أئمة الإسلام .
فكُتِبَت المختصرات في العقيدة وفي الفقه وجُمِعت أدلة الأحكام وكتبت المختصرات في العلوم المساعدة كأصول الفقه والنحو ومصطلح الحديث ونحو ذلك .
هذا كله تيسيرا ، هذا كله لأجل التيسير ومخالف للأصل ولكن هكذا لما ضعف الحفظ وضعفت همة الناس كان لزاما أن يُحفظ الدين بوضع هذه الكتب .
وإذا تأملت وجدت أن أكثر الذين يرومون طلب العلم على طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم من التوسع في فهم معاني نصوص القرآن بمطالعة كلام السلف عليها وكذلك في تتبع الأحاديث وأخذ الفقه منها تجد أن الأمر يطول عليهم جدا وربما التبست عليهم المسائل .
لا شك أن هذا هو الأصل ولكن ذاك أصل إذا شابهت طريقتنا واستعداداتنا استعدادات السلف وطلاب العلم في ذلك الزمان .(33/213)
لكن أهل العلم بعد القرون الأُول اختلفوا فيما يعلمون الطلاب عن تلك الطريقة الأولى ، وسلكوا عليها إلى زماننا هذا في العناية بالمختصرات وطلب الدليل بعد تقرير المسألة .
أما طريقة السلف فالدليل أولا ثم الاستنباط ، لكن طريقة المتأخرين المسألة ثم دليلها وهذا لأجل أن تكون المسألة التي هي حصيلة فهم ذلك العالم بنصوص كثيرة وقد يكون بعضها يحتاج إلى أن يوفَّق بينه وبين بعض آخر من النصوص بضرب من استعمال أصول الفقه وأوجه الدلالة المختلفة وقد يكون بالنظر إلى فهم الصحابة وقد يكون بالنظر إلى فهم اللغة ونحو ذلك فجعلوا المسألة أمامك بخلاصة ما أدى إليه اجتهاد ذلك المصنف ثم الدليل عليها .
هذا صار فيه مشاكل منه من جهة أن المتعصبين للآراء والمذاهب أصبح كلّ يدلي بتأصيله في المسألة ويكون الدليل على وفق ما يفهم من يقدِّم ما يفهم من يتعصب له ، وهذا لا شك أنه سبّب ثغرة في هذه الطريقة في العلم من جهة التعبد لأن الأصل الذي كان عليه السلف أن يأخذ بفقه النص من الكتاب والسنة وهو يأخذ على الفقه على جهة التعبد كما جاء (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) فهو في تعبد لأنه يطلب علم الكتاب والسنة .
بعد ذلك لما شاعت الأمور المختلفة كما ذكرنا صار العيب في شيء واحد وهو أن تُصنف المصنفات على جهة التعصب ، هناك كتب مختصرة في الفقه كانت على جهة التعصب أو على جهة نصرة مذهب معين ومنها ما هو لتقرير مذهب ، يعني أن يُنظر في هذا الكتاب المؤلَّف على اجتهاد إمام من الأئمة كما صُنفت المختصرات الكثيرة ، لكن منها ما هو على غير هذه الجهة بل على جهة نُصرة المذهب لا بتقريره للمتعلم .
لهذا كان هناك ضرورة للأخذ بما درج عليه الأئمة من فهم العلم على طريق تلك الكتب وبالأخذ عنها وكان هناك ضرورة أيضا أن الأخذ ذاك لأجل التصور لا لأجل التعصب .(33/214)
فهاتان مسألتان مقترنتان مهمتان ، أن هذه المختصرات تؤخذ على طريق التفقه والفهم والعلم ، ثم الأدلة عليها يهتم بها طالب العلم ولا تؤخذ على جهة التعصب لأن أصل التعبد في العلم أن تتعبد بفهم نصوص الكتاب والسنة .
من الذي يُفهمُك النصوص ؟
أهل العلم ، فأهل العلم وسائل ، أدوات لإفهام ما دلت عليه النصوص لأنهم أمضوا أعمارهم وأتعبوا أفهامهم في فقه النص ، في فقه ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فهم أدوات للفهم فهم يشرحون ليُفهِموا الشريعة .
فإذن أهل العلم على هذه المثابة فلا يُتعصب لقول وإنما يُتعصب لدليل ذلك القول .
إذا كانت المسألة اجتهادية فلك أن تثق بقول أوثق العلماء لديك إذا التبَسَت .
وهذا طبعا لا يصلح للمبتدئ في طلب العلم وإنما المبتدئ في طلب العلم يجتهد في تصوير المسائل وفي النظر فيها يعني في أن يفهم الصور صورة المسألة في العقيدة في الحديث في الفقه في العلوم المساعدة يفهم الصورة ثم الحكم عليه ، فالحكم حكم تلك الصورة ثم الدليل على ذلك الحكم .
هذه الثلاث المراتب المهمة : تحقيق الصورة ثم الحكم ثم الدليل .
واجْتَهِد أن لا تُدخل رأسَك إلا صورة صحيحة ثم بعد الصورة أن يكون الحكم منطبقا على تلك الصورة ثم أن يكون الدليل مع وجه الاستدلال لتلك الصورة .
هذا هو العلم الثلاث مراتب هذه : صورة واضحة ، إذا خالفت أن تكون الصورة واضحة معناه دخلت وفيه تشويش ، تقرأها بسرعة أو تسمعها ولا تجتهد أن تفهمها مئة في المئة تُدخلها الذهن على أن تكون واضحة لا لبس فيها ، هذا إذا احتجتها بعد فترة تكون مشوشة في ذهنك وإذا كانت مشوشة ما حصلت العلم .(33/215)
يأتي ما ينبني على تلك فيكون مشوشا ، يأتي ما يشابهها فيكون مشوشا وهكذا وأنا أرى من جهة الشباب في كثير مما يتعاطون من المسائل التي يلتبس فيها أو ما يوردون من الأسئلة التي فيها إشكالات إنما جاء من جهة أن فهمه لأصل المسألة أو لذلك الباب ليس مُقَعَّداً ، فهمه كان على شيء من التشويش وهذا لا ينبغي بل هو مضر بذهن طالب العلم . هذا ما يتعلق بالمسائل .
الجهة الثانية فهم الأبواب وهذا من أهم ما يكون في الذهن وما يرتبط العلم به لأن الأبواب مُقَعَّدَة ، كل باب له قاعدة ينبني عليها ذلك الباب أو له قواعد ينبني عليها ذلك الباب .
فمثلا الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم لو ما علمت تفاصيله لكن هو مبني على قاعدة إذا ضبطت القاعدة وتصورتها في الذهن تماما فلو أُورِدَت إشكالات في هذا الباب في باب الصحابة والكلام عليهم رضوان الله عليهم أجمعين لن يكون هناك مدخل للشبهة ، سوف تكون شبهة أو إيراد يحتاج إلى جواب لكن التقعيد الذي أخذته عن أهل العلم لا يهتز .
وهذا هو المهم في طالب العلم أن يكون الباب عنده مُقَعَّدَا لا يهتم بكثرة المسائل والصور إنما أن تكون قواعد الباب محكمة يعني أن ينظر في الباب مرة مرتين ثلاث حتى يتصور هذا الباب بُنِيَ على أي شيء ، بعد ذلك صوره إذا زادت أو المسائل إذا كثرت فهذا من ازدياد العلم لكن مع إحكام الأساس .
فصار عندنا إذن جهتان :
- الجهة الأولى جهة التقعيد تقعيد الأبواب وهذا من أهم المهمات .
- والجهة الثانية تقعيد المسائل .(33/216)
لهذا تجد أن أهل العلم لو استفتيت أو سألت أو أوردت على بعض أهل العلم حديثا مثلا فيه إشكال أو يصادم تقعيدا في باب أو أوردت آية ما فهمتها أو احتج بها بعض أهل العلم أو أوردها بعضهم في استدلال له مما يصادم ما تعلم من تحقيق العلم في باب من الأبواب ، قد لا يكون عند العالم اطلاع على هذه المسألة أو هذا الإيراد أو على هذا الاستدلال لكن يقول يكون عنده من فهم ذلك الباب وتقعيده ما يظل ثابتا على ذلك التأصيل ويقول هذا يُبحث عنه يُنظر لعله كذا لعلها توجَّه بكذا لعل المراد كذا أو المقصود كذا .
هذا هو حقيقة العلم ليست حقيقة العلم بأن تظل وراء المسائل بدون تأصيلات للباب في تقعيده وللمسائل في تصويرها لأن الإيرادات على القواعد كثيرة تختلف ما بين فن وفن لكن إحكام تقعيد الأبواب هذا مهما ورد عليك من الإيرادات والإشكالات وأنت تقرأ في كلام بعض أهل العلم فإنه يظل معك الأصل سليما.
وإذا ضبطت القواعد وتأصيلات المسائل فلو قرأت في الكتب المطولة في الحديث ، في شروح الحديث كفتح الباري أو في الفقه كالمغني والمجموع فإنه لن يضرك ذاك ، لم ؟
لأن التقعيد والتأصيل سليم ، فلو جاء ما جاء من الصور أو من المذاهب المختلفة أو من الاستدلالات أو الأقوال أو عشرة أقوال أو اثنا عشر قولا أو أربعين من الأقوال فإنك لن تلتبس عليك المسألة لأن التقعيد موجود عندك أما إذا لم يكن أو كان مهتزا فإنك تضيع ، لهذا أجد أن كثيرا من الإخوان الشباب طلبة العلم يوردون إشكالات وتستغرب أنه يورد الكثير من الإشكالات
لم ؟
لأن كثرة إيراد الإشكالات يدل على أن التأصيل غير جيد ، أو التقعيد فهم الباب غير جيد ، فمنهم من أورد إشكالات كثيرة على أبواب من كتاب التوحيد بل منهم من أورد إشكالات على تأصيل المسائل في التوحيد أصلا ، فجاء من قال أتى بأقوال ويستدل لها بما يرى بما يخالف ما هو مقرر في التوحيد والعقيدة ، هذا يدل على عدم الإحكام .(33/217)
ورود الدليل بما يخالف ما قعده الأئمة هذا تنظر إليه أولا في (كيف نفهمه) لكن لا يهتز ما عندك من التأصيل ، كيف تفهمه ؟ ما وجهه ؟ نذهب نبحث نسأل أهل العلم أو نبحث في الكتب ، تجد مخرجه خاصة في المسائل يعني في التقعيدات ، تقعيدات الأبواب في التوحيد والعقيدة وفي الفقه ، أما في المسائل يعني في الحكم على المسألة هذا نعم تختلف باختلاف ما جاءت به الأدلة .
فإذن هذان نوعان مهمان الأول في تقعيد الأبواب ، تتأمل تجلس تتأمل مع نفسك تتأمل حتى تحكم تقعيد الباب ، ثم تصوير المسائل ، والتقعيد يكون بعد التصوير في الواقع ، لأنك إذا قرأت مسألة مسألتين ثلاث فهمتها مع عالم يأتي التقعيد بعد ذلك تضبط ذلك الباب .
إذا ضبطت التقعيد تنتقل من مختصر إلى ما هو أطول منه تكبر عندك أوراق الشجرة أو تعظم عندك فروع الشجرة ، تتفرع تتفرع لكن الجذع الأصلي عندك محكم .
كثرة المسائل بحسب استعداد الذهن ، من الناس من يكون حافظا ذهنه مستعد لأن يقبل مئة صورة مئتين ثلاث مئة صورة في الباب الواحد ، منهم من لا يكون كذلك يكون أقل .
لكن المهم في طلب العلم أن تكون القاعدة سليمة ، أما المشوش فهذا لا يسمى طالب علم اللي دائما مشوش لابد أن يبدأ من جديد .
أيضا مما ينبغي طرحه في ابتداء هذه الدروس كوصية في العلم والتعلم أن يكون نظرك في العلم مستمراً حتى تحكم العلم أعني بذلك أن بعض العلوم لا تفقهها وتفهمها إلا إذا كنت لها دون غيرها
مثلا التوحيد والعقيدة هذه تحكمها وتقوى فيها إذا كنت لها دائما تبحث فيها دائما تبحث فيها شيء من عمرك حتى تحكم قواعدها جميعا وتضبط ذلك ، تكون عندك القاعدة ، بعد هذا لو انتقلت إلى علم آخر يعني من حيث الاستيعاب وكثرة البحث فيه يكون تأصيل هذه قد استقام.(33/218)
مثلا في العلوم المساعدة النحو ، النحو من العلوم التي لا تُطلب مع مشاركة شيء آخر ، يريد ذلك العلم طالبَ علم متفرغ له فترة من الزمن حتى تحكمه ، سنة إذا ضبطته جدا انتهى خلاص بعد ذلك يكون تفريعات مسائل وقراءات تكون سهلة تستلذ لها كما تقرأ كلاما صحفيا أو نحو ذلك لأن التقعيد مشى عندك لكن هذا ما يصلح بالمخالطة .
أقول هذا لأن بعض طلبة العلم يضع له جدولا يقول مثلا يوم السبت يكون لي كذا وكذا وكذا ، يوم الأحد أقرأ في كذا وكذا يوم الاثنين أقرأ في كذا يجعل له جدولا وإذا به يقرأ في تسعة أنواع من العلوم أو ثمانية أنواع من العلوم وهذا غير صحيح ، هذا يكون بعد التأصيل والتقعيد ، يكون استزادة من المعارف والعلوم نعم يصلح ، لكن في البداية وهو لم يحكم علما تختلط عليه العلوم يدخل عليه ما ورد في التفسير من مثلا الخلافات النحوية على ما في النحو على ما في أصول الفقه على ما في مصطلح الحديث ، ما في العقيدة ، التوحيد يدخل مثلا على ما في الفقه وهكذا تختلط معه .
لكن الذهن خاصة في ثلاثة علوم التوحيد العقيدة والفقه والنحو ، هذه العلوم الثلاثة ما تقبل الشركة ، أما غيرها فيمكن أن يؤخذ على مر الأيام والليالي بحسب ما جربت يعني شيئا فشيئا ، التفسير تأخذه شيئا فشيئا ، الحديث شيئا فشيئا حسب ما تقرأ تستفيد ، وكذلك العلوم الُأخر .
نعم سم الله .
العقيدة الواسطية بقي لنا فيها ربما أربع جلسات يعني أربعة دروس ...
الكلام في الصحابة بعضه متصل ببعض ما تركناه منه جُمَل تقرؤنها أنتم إن شاء الله .
موقف
أهل السنة والجماعة
من كرامات الأولياء(33/219)
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية رحمه الله تعالى :
(وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
هذا المبحث مبحث الكلام على كرامات الأولياء يُذكرُ في كتب الاعتقاد لمخالفة المعتزلة والعقلانيين فيه .
فكرامات الأولياء يُنكرها أهل الاعتزال ومن شابههم ، وأهل السنة يُقِرُّون بها ويصدقون بها لما جاء من الأدلة في ذلك .
فوضَعَ أهل السنة بحث كرامات الأولياء في كتب العقيدة لمخالفة أهل السنة للفرق الضالة في ذلك.
وسبب الضلال في هذا الباب عند أهل الاعتزال وغيرهم ومنشؤه أنهم أصَّلُوا أصلا في آيات وبراهين الأنبياء .
لأن آية النبي وبرهان نبوته قائم على خرقه للعادة .
فما أجرى الله من الآيات على يد الأنبياء والرسل كعصا موسى عليه السلام وكمسح عيسى عليه السلام للمريض والأكمه والأبرص ونحو ذلك وكدخول إبراهيم عليه السلام النار ونحو ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صدق الأنبياء العمدة فيه في ذلك عندهم عند المعتزلة ومن شابههم أنها أمور خارقة للعادة .
قالوا فإذا كان ذلك خارقا للعادة فمعناه أن الآية قامت للنبي في نبوته .(33/220)
فإذا كان هناك خوارق للعادة أُخَر يجوز أن تقع لغيرهم من السحرة والكهنة أو من الأولياء فإن النبوة تكون مشتبهة وليس لها دليل واضح لأن عمدة الدليل عندهم على خرق العادة ، وكرامات الأولياء خوارق للعادات وسحر الساحر خوارق للعادات وهكذا .
لهذا لا يصدقون بكرامات الأولياء ولا بالخواق التي تكون على أيدي مُمَخرِقين لأن ذلك عندهم يجعل حجة النبي غير قائمة كما ذكرت لك .
هذا أصل شبهتهم وأصل ضلالهم في هذا الباب .
فخالفهم أهل السنة في التأصيل وفي التفريع :
- خالفهم في التأصيل من أن خرق العادة الذي ذكروه لا يُفهم على ما فهموه
- ومن حيث التفريع فإن النصوص ثبتت في كرامات الأولياء والأدلة عليها كثيرة جدا في الكتاب والسنة وفيما وقع وتواتر ، فمن حيث التفريع أيضا تُثبَت لمجيء الأدلة عليها في الكتاب والسنة وقيام الدليل القطعي العقلي من حيث التواتر بحصول ذلك في الأمم المختلفة .
قال هنا رحمه الله (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)
قبل أن نتكلم على الكرامات والأولياء والولي هذه الكلمة مهم أن تُفهَمَ فهما صحيحا وهي (خَوَارِقِ الْعَادَاتِ) ما المراد بذلك ؟
وهذا اللفظ مُخْتَرَع اخترعه المعتزلة وليس في نصوص الكتاب والسنة هذا الاسم (خارق للعادة) ولهذا يجب أن يُفهم بما لا يعارض النصوص .
المصطلحات لا بأس بإحداثها لكن تُقَيَّد بما دلت عليه النصوص .
لهذا نقول في قولهم (خارق العادة) هذا (العادة) هذه عادة من ؟
فإذا فصّلنا في (العادة) هذه عادة مَنْ اتضح الفرق العظيم بين آيات الأنبياء وبراهين صدق الأنبياء وما بين كرامات الأولياء وما بين خوارق السحرة والكهنة ونحو ذلك .(33/221)
" فآيات الأنبياء وبراهين الأنبياء خارقة لعادة الخلق جميعا ومن أعظمهم في ذلك الجن والإنس جميعا ولهذا قال جل وعلا ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا? فعصا موسى عليه السلام بانقلابها حية تسعى تلقف ما يأفك أولئك السحرة هذه خارقة للعادة .
عادة من ؟
عادة المخلوقات جميعا ، عادة الجن والإنس والملائكة إلى غيرهم ، لا يمكن أن يأتي أحد بمثل هذا إلا الله جل وعلا لأن في ذلك تحويلا وخلقا وهذا إنما هو لله ، إحياء الميت ، إبراء الأكمه والأبرص بمسحة هذا ليس في عادة الإنس ولو اجتمعت أطباؤهم وليس في عادة الجن ولو اجتمعت حكماؤهم وأطباؤهم وليس في عادة أحد .
فإذن آيات وبراهين الأنبياء خارقة لعادة المخلوقات أو تقول خارقة لعادة الجن والإنس جميعا .
" وكرامات الأولياء خارقة للعادة ، لكن عادة من ؟
هل هي عادة الجن والإنس جميعا ؟
لا ، لو كانت عادة الجن والإنس جميعا لاشتبه ذلك بالنبوة لكن هي خارقة لعادة الناس في زمانهم.
ولهذا نقول كرامات الأولياء قد تكون من جنس آيات الأنبياء لكن يختلف خرق العادة في هذا وهذا ، ويختلف أيضا جنس الآية بين هذه وهذه .
قد تشترك معها ، مثل أن إبراهيم عليه السلام دخل النار فكانت بردا وسلاما عليه ، كذلك أحد الصحابة في اليمامة دخل النار فلم تحرقه ، فالنار هذه والنار هذه جنس لكن هذا من كونه من جنس تلك النار يعني نار إبرهيم والنار التي أججوها لهذا تختلف ، وأيضا سلامة إبراهيم تختلف عن سلامة هذا ، وآية إبراهيم في ذلك في تحديهم يختلف عما وقع للصحابي في ذلك .
هناك بعض آيات الأنبياء قد تكون من جنس ما حصل لكن لا تساويها في العِظَم وفي التحدي بها وفي إضطرار الناس على أن ذلك لا يكون إلا من عند الله جل جلاله .(33/222)
فإذن نقول كرامة الولي خارقة للعادة كما قال شيخ الإسلام هنا لكن هي عادة الناس في زمانهم ، ليست عادة الناس في كل زمان .
قد يكون يتقدم الزمان ويكون يُفعل بمثل ما فعل .
مثل مثلا منهم من انتقل إلى مكانه إلى مكان آخر في مدة وجيزة ، هذه كرامة ، في ساعة انتقل من الرياض إلى مكة في ذلك الزمن هي كرامة لأنها ليست من عادة الناس .
إذن من الذي جعل ذلك للولي ؟
الله جل وعلا فصارت كرامة له ، حصلت في هذا الزمان .
خوارق السحرة والكهنة ونحوهم هي خوارق لمن ليس منهم ، ليست للناس لكن خارقة لعادة من ليس ساحرا ، خارقة لعادة من ليس كاهنا فصارت أظهر لأن الشياطين تساعدهم والسحرة والكهنة كل منهم يُمِدُّه شيطان .
فإذن صار هذا المُسمى (خارق للعادة) اصطلاح جديد يجب أن يُفهم على ما يتفق مع ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة .
فالقرآن العظيم خارق للعادة ، عادة من ؟
عادة الثقلين بل وجميع المخلوقات والملائكة لهذا قال جل وعلا ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ? وقال جل وعلا ?قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ? فالآيات هذه من الله جل وعلا .
فإذن التأصيل الذي تأصل به الضُلاّل من المعتزلة وغيرهم في هذا الباب بما نفوا به كرامات الأولياء مبني على مقدمة غلط ، لفظ اخترعوه ثم فهموه غلطا ونتج عن ذلك أن قيدوه ببعض الأحوال وهذا من جراء عدم استيعاب فهم نصوص الشريعة .
قال (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
قوله (التَّصْدِيقُ) فيه الإقرار بحصول ذلك ، قد يحصل له وقد لا يحصل له لكن من حيث إيمانه بوقوع الكرامات للأولياء هو مؤمن بذلك مصدق ليس في شك من ذلك .
لم ؟
لأنه قد جاء في النصوص في الكتاب والسنة .(33/223)
فالتصديق بما دلت عليه النصوص واجب من الواجبات لذلك كان من أصولهم التصديق بكرامات الأولياء .
وقوله (كَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ) هذه فيها كلمتان :
- (كَرَامَاتَ) وهي جمع كرامة
- و (أَوْلِيَاءِ) وهو جمع ولي .
والولي له معنى في اللغة وهو المحب الناصر ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ? الولي هو الناصر .
والوَلاية المحبة والنصرة ?هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ? الوَلاية - بالفتح فتح الواو - المحبة والنصرة ، أما الوِلاية بالكسر فهذه هي الإمارة ، هذا في اللغة ، فالولي هو المحب الناصر تقول هذا وليي يعني محب لي وناصر لي ، ومنه قول الله جل وعلا ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ?.
أما في الاصطلاح فالولي هو (كل مؤمن تقي ليس بنبي) ، الولي عند أهل السنة كلُ مؤمن تقي ليس بنبي .
اشتمل التعريف على أن الولي من جهة الاسم الاصطلاحي لا يدخل فيه الأنبياء أما من جهة الأصل فإن الأنبياء أولياء بمعنى أنهم مؤمنون أتقياء لكن إذا قيل هنا كرامات الأولياء فنعني بهم كرامات المؤمنين الأتقياء الذين ليسوا بأنبياء ، فلا تدخل في بحثنا براهين الأنبياء وآيات الأنبياء وما يحصل على أيديهم من خوارق العادات لا يدخل في هذا البحث لأن الولي هنا لفظ اصطلاحي يُعنى به كل مؤمن تقي ليس بنبي .
قالوا (كل مؤمن تقي) لأن الله جل وعلا قال في سورة يونس ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? فالله جل وعلا جعل الأولياء هم المؤمنون الأتقياء ..1 فالتعريف مأخوذ من الآية بظهور ووضوح .(33/224)
إذا تأملت ذلك فالتعريف نفهم منه أن الوَلاية تتبعض لأن الإيمان والتقوى في أهله يتبعض .
فكل مؤمن تقي ليس بنبي ولي .
والإيمان يتبعض والتقوى تتبعض فينتج من ذلك أن الوَلاية تتبعض .
لكن اسم الولي يطلق على من كَمَّلَ الإيمان والتقوى .
فقولهم (كل مؤمن تقي) يعني من كَمَّلَ الإيمان والتقوى واجتهد في ذلك ، وهذا هو الذي يطلق عليه الولي ، وقد يكون هناك كرامات لمن لم يكمل الإيمان والتقوى بحسب ما يناسبه .
هذا تعريف الولي ، هناك مباحث متصلة بذلك نتركها .
أما الكرمات فهي جمع كرامة وهي في الأصل نعمة خاصة ، يعني في اللغة الكرامة هي النعمة الخاصة ، ولهذا قال جل وعلا ?فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ? ?فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ? هذا الإكرام نعمة خاصة ، إنعام خاص مزيد على الإنعام العام .
أما في الاصطلاح فالكرامة عندهم هي - أعني تعريفها - أمر خارق للعادة جرى على يدَيْ ولي.
هذا تعريف الكرامة أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي .
وقولهم (خارق للعادة) هذا يُقَيد بأنه عادة الناس في زمانهم وليس هو عادة الجن والإنس ، بل قد تفعل الجن بأصحابها ، تفعل شياطين الجن بأوليائها كما يُفعل أو كما يحصل للولي .
فقد تجد مثلا من حيث الإمكان هذا وهذا هذا يمضي على الماء يمشي عليه وكأنه جَدَدٌ من الأرض يبس وذاك الآخر يمشي على الماء وكأنه جَدَدٌ من الأرض يبس ، وهذا يكون وليا وذاك يكون مُمَخْرِقا يعني خدمه شيطان .
ولهذا قال من قال من السلف (لا تغتر بهم وإن مشوا على الماء أو طاروا في الهواء حتى يكونوا على الكتاب والسنة) لا بد من شاهدين : شاهد من الكتاب والسنة يعني من حيث التزام هذا بالكتاب والسنة .
أهل البدع والضلال قد يحصل لهم شيء من الخوارق ، ولهذا نقول الخارق ليس هو ميزان للولاية ، بل الميزان أن يكون هذا الخارق جرى على يدي مؤمن تقي .(33/225)
قلنا الكرامة أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي ، والولي هو المؤمن التقي ، فخرج بذلك ما يجري من خوارق العادات على يدي من ليس بمؤمن تقي من أصحاب الفسق والفجور والبدع المضلة ونحو ذلك .
وهذا فيصل مهم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيما يحصل لهم من خوارق العادات .
قال شيخ الإسلام هنا رحمه الله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)
قوله (يُجْرِي اللهُ) هذا فيه أن الذي حَصَّلَ لهم الكرامة أو الذي أَنْعَمَ عليهم بالكرامة هو الله جل وعلا ، فليس باختياره أن تحصل أو لا تحصل بل الله جل وعلا هو الذي ينعم عليه بذلك (يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) ينعم عليه بذلك قد يكون لحاجته وقد يكون تفضل من غير احتياج :
- من جهة حاجته كما حصل أن أحد الصحابة مات فرسه فدعا الله فقام حيا - الفرس - حتى أوصله إلى أهله لأنه مات في مكان ليس فيه أحد يخشى معه بهذا الهلاك فدعا الله فأحياه له فلما وصل إلى بيته ودخل الدار خر الفرس ميتا مرة أخرى ،رؤية عمر لسارية وللجيش وسماع سارية لعمر هذا من جهة الحاجة .
- وقد يكون من غير حاجة ينعم الله جل وعلا عليهم ابتداء ، سفيان الثوري والحسن البصري كان هناك من يطلبهم من السلطان سلطان زمانهم فدخل الشُرَطُ ينظرون في المنزل ويفتشون وكان الحسن جالسا في صحن الدار وسفيان أيضا كان جالسا في صحن داره ولم ير الشُرَطُ الحسن ولا سفيان ، هذا من جهة إكرامه ، إنعام ، ليس هو بحاجة يعني يحتاج إلى ذلك أو هو وقع في نفسه أنه محتاج لكن إنعام من الله جل وعلا وإكرام .
ولهذا قال العلماء إن الكرامة لا تدل على رفعة من حصلت له .
وهذا من أصول أهل السنة في باب الكرامات أن الكرامة لا تدل على رفعة من حصلت له وأن من لم تحصل له أضعف ممن حصلت له ، وذلك لأن أكثر الصحابة ما حصلت لهم كرامات ، والكرامات في التابعين أكثر وهكذا .(33/226)
وقد قال بعض أئمة أهل العلم إن كثرة الكرامات فيما بعد القرون المفضلة راجعة إلى ضعف الإيمان لأن منهم من لو لم تحصل له كرامة لشك في الله أو لشك في الرسالة لأنه جاهد نفسه في الإيمان والتقوى فلو حرم الكرامة لحصل له شك ، وقد يكون ذلك من جهة ذنبه أو من جهة ضعف إيمانه ، فحصول الكرامة لمن حصلت له إنعام وإكرام من الله جل وعلا وإجراء على يدي ذلك الولي أو من حصلت له الكرامة ، وليس بدال على أنه أفضل ممن لم تحصل له .
قال (مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ)
هذه الكلمة من شيخ الإسلام (أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) هذا ذكر لنوعي الكرمات .
الكرامات نوعان :
- كرامات من جهة العلم والكشف .
- وكرامة من جهة القدرة والتأثير .
" الكشف والعلم قد يكون - هذا أحد نوعي الكرامة - :
قد يكون من جهة كشف المعلوم العقلي .
وقد يكون من جهة كشف الحجاب والغطاء عن البصر .
وقد يكون من جهة كشف الحجاب والغطاء عن السمع .(33/227)
مثال البصر ما حصل لعمر رضي الله عنه حيث كان يخطب في المدينة فرأى سارية ورأى جيش الفُرس فقال (يا سارية الجبل الجبل) في حديث حسَّنَه وقواه الحافظ ابن حجر وغيره خلافا لمن ضعفه ، فهذا كشف من جهة عمر كشف بصري ، انكشف عنه الغطاء لأن البصر له حجاب فإذا انكشف رأى شيئا لم يره بحجابه الموجود له كما قال جل وعلا ?فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ? إذا انكشف الغطاء عن البصر بالموت رأى أشياء بروحه بعينيه رأى أشياء لم يكن يراها في الدنيا : رأى الملائكة ورأى من يخاطبه ورأى أشياء لا يراها في حياته ، هذا كشف الغطاء ، فهنا الكشف هنا التعبير بالكشف لقول الله جل وعلا ?فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ? فالكشف له أصله في الشرع ، عمر رضي الله عنه انكشف عنه غطاء البصر ، وسارية رضي الله عنه انكشف عنه غطاء السمع فسمع كلام عمر وعمر في المدينة وسارية في مكانه من بلاد فارس فانكشف عنه غطاء السمع فسمع كلام عمر يُدَوِّي هذا إكرام من الله جل جلاله ، فلزموا الجبل ونجوا .
أيضا من الكشف البصري أبو بكر رضي الله عنه رأى في بطن زوجته فقال (فيها أنثى) فلما ولدت بعد مدة كانت كذلك ، فهذا من الكشف كشف البصر .
أيضا الكشوف العلمية حيث يُكْشَفُ له وينكشف له من العلوم ما لا يكون بقدرة غيره هذا إكرام من الله جل وعلا للعبد .
ولهذا نقول إن هذا النوع ، نوع العلم والكشف من الكرامات مرتبط بكلمات الله جل وعلا الكونية وكلمات الله جل وعلا الشرعية :
- ارتباطه بكلمات الله جل وعلا الكونية راجع إلى الكشف البصري والسمعي ونحو ذلك .
- وارتباطه بكلمات الله جل وعلا الشرعية راجع إلى العلم فيعلم منها ما لا يعلم غيره فينكشف له من العلم بالنصوص ما ليس لغيره ويوفق حتى يكون ذلك كرامة له ، هذا نوع .(33/228)
" النوع الثاني من الكرامات قوله (وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) يعني أن يقدر على ما لا يقدر عليه غيره أو يؤثر بما لا يستطيع أن يؤثر غيره ، يعني يكون عنده قدرة زائدة ليست في مقدور أهل زمانه .
مثل ما حصل لسعد حيث يَبَسَ الماء ومر الجيش هذا نوع من القدرة ، مثل إحياء الفرس للصحابي هذا نوع من القدرة والتأثير .
والقدرة في قوله (وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ) هو يقدر بما يُجْرِي الله على يديه وإلا فليس بوسعه أن يقدر لأنه خارج عن مقدوره لكن الله جل وعلا يعطيه قدرة خاصة من جهة الإكرام فصارت القدرة كرامة .
والتأثير قد يكون تأثيرا في الكون في الكونيات وقد يكون تأثيرا في الشرعيات ، صار عندنا هنا في القدرة والتأثير صار عندنا قسمان :
- قدرة وتأثير في الكونيات .
- وقدرة وتأثير في الشرعيات .
وهذا أيضا نؤمن به ونصدق :
- فمن جهة الكونيات كما مثلنا لكم
- ومن جهة الشرعيات ما جعل الله جل وعلا لبعض الناس من الكرامة في التأثير في الناس فيؤثر فيهم ويُقبل فيكون قوله فيهم مسموعا وإفهامه لهم مؤثرا وتكون دعوته لهم نافعة ووعظه لهم نافعا ، وقد ذكر أهل العلم عن بعض الوعاظ من العلماء أنه ربما أسلم على يديه في المجلس الواحد كذا وكذا من جراء وعظه وتاب على يديه عشرة آلاف كما ذكروا في بعض مجالس ابن الجوزي رحمه الله ، هذا نوع من الكرامة في التأثير ، تأثير مرتبط بالشرع ، تأثير في الشرعيات يعني أثَّر بالشرع بالالتزام بالشرع ونحو ذلك ، أثَّر في فهم الشرعيات ، أو تأثير في الكونيات بالإقدار على ما لا يقدر عليه غيره .
هذا خلاصة البحث في هذا التقسيم وهذه الجمل لها تفصيلات وتقسيمات تطلب من مظانها المطولة
إذا تقرر ذلك فبحث الكرامات بحث مهم ، وذكرت لكم أن المعتزلة ينفون الكرامات ولا يصدقون بكرامات الأولياء ، وأهل السنة يصدقون بكرامات الأولياء والأشاعرة يصدقون أيضا بكرامات الأولياء .(33/229)
وهناك فرق بين قول أهل السنة وقول الأشاعرة :
- فأهل السنة يصدقون بكرامات الأولياء وما يُجْرِي الله على أيديهم من خوارق العادات بالقيد الذي ذكرنا من أن كرامة الولي لا تبلغ آية النبي .
- والأشاعرة يقولون كرامة الولي تساوي آية النبي والفرق بينهما أن كرامة الولي ليست مقرونة بدعوى النبوة وآية النبي أو كرامة النبي أو البرهان الذي يعطيه الله جل وعلا للأنبياء والرسل هذه مقرونة بدعوى النبوة .
فالفرق بينهما عند الأشاعرة من جهة اقتران الكرامة أو الخارق للعادة بدعوى النبوة ، فإن كان مع الخارق للعادة دعوى النبوة صارت آية وبرهانا ومعجزة وإن خلت من دعوى النبوة صارت كرامة.
وهذا يخالف مذهبنا وطريقتنا وقول أئمة أهل السنة في أن كرامات الأولياء لا تبلغ آيات الأنبياء .
ولهذا نقول إن آيات الأنبياء وبراهين الأنبياء خارقة لجنس أو خارقة لمقدور جنس المخلوقات الجن والإنس والملائكة إلى آخره ، أما كرامة الولي فهي محدودة ، خارقة لعادة ناس زمانهم .
هذا فرق مهم ، بالمناسبة ابن حزم مع المعتزلة في مذهبه يعني ينكر الكرامات .
خلاصة القول في مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء :
أن كرامات الأولياء لا تتساوى .
وعدم تساويها ليس لأجل تفاضل الإيمان ، فقد يعطى الأكمل في الولاية من الكرامة ما هو أقل مما يعطى الأقل منه إيماناً وقد يعطى من عليه بعض المعصية أو من عصى شيء من الكرامة ولا يعطاها المؤمن التقي المسدد لأجل حاجة ذاك إلى ما يقوي إيمانه ولطف الله جل وعلا به وعدم حاجة ذاك .
من أصول أهل السنة في هذا أن أهل البدع والمحدثات والعصيان والكبائر ليسوا بأهل للكرامة فلا يُجرى على أيديهم خوارق للعادات .(33/230)
وهذا يعني أن ما يحصل لأهل البدع من خوارق العادات إنما هو من الشياطين أو من الاحتيال ، يحتالون ، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذُكِرَت له الرفاعية ، طائفة صوفية منسوبة إلى أحمد الرفاعي المعروفة في الشام أنهم من آياتهم التي تدل على أنهم أولياء أنهم يدخلون النار ولا تحرقهم فقال شيخ الإسلام ابن تيمية إن هناك زيتا يباع في المشرق إذا اطلي به الجسد لم تصل النار إلى الجسد فإن كانوا صادقين فليغتسلوا قبل أن يدخلوا النار ، يغتسلوا اغتسالا جيدا قبل أن يدخلوا النار ، فأبوا أن يفعلوا ذلك ، هذا من جهة الاحتيال .
من جهة أخرى قد يكون من جهة الشياطين كمن يدخل السكين في بطنه أو يأكل الأفعى ولا تصيبه ونحو ذلك ، هذا من جهة تصوير الشياطين .
فإذن التقعيد أن أهل البدع ما يحصل لهم من الكرامات ليست هي كرامات وإنما هي خوارق شيطانية إلا في حالة واحدة :
وهي حالة قتال أهل البدع للكفار والمشركين فهذه حالة مستثناة عند أهل السنة وهي أن أهل البدع إذا قاتلوا المشركين والكفار فقد يُكرمون وقد تكون لهم كرامات .
وهذه الكرامات ليست إكراما لأشخاصهم لأنهم أهل بدع وعصيان وضلالات ولكن إكرام لما حملوه من أصل الدين من أصل الإسلام ، لهذا قال شيخ الإسلام في كتاب النبوات وفي غيره إن أهل البدع يُعطون كرامات إذا كانوا في جهاد للمشركين إما جهاد لسان أو جهاد سنان :
- ففي جهاد السنان يعطى المبتدع كرامة لكن لا يدل على أن ما عليه من مخالفة الكتاب والسنة وأخذ البدع والعصيان أنه حق بل لأجل أن يفوق ما معه من أصل دين الإسلام على ما مع أولئك من الكفر والضلال .
فإذن يكون إعطاء المبتدع في حال القتال الكرامة لأجل إظهار أن الله جل وعلا أيد من على الإسلام ولو كان مبتدعا على من هو على الكفر .(33/231)
ويمثَّل لذلك بعدة أمثلة قاتل المبتدعة من هذه الأمة المشركين والملحدين في قديم الزمان وفي حديثه وهذا لأجل ما معهم من أصل الدين في مواجهة الكافر المشرك أو الملحد أيَّدهم الله جل وعلا بالكرامات لبيان أن هذا الدين أعظم مما هم عليه لأجل التصديق بهذا الدين
- المواجهة بالبيان والجهاد باللسان أيد الله جل وعلا وأكرم بعض المبتدعة من هذه الأمة ، بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة في حجاجهم ومواجهتهم لطوائف الضلال من التناسخية في الهند والحُلولية واليهود والنصارى وأصحاب الملل المختلفة فيؤيَّدون حال الحجاج .
فإذن في حال الجهاد المسألة تختلف فقد يعطى المبتدع الكرامة لا لذاته ولكن لنصرة ما معه من أصل الدين كأنه في مقام الجهاد الله جل وعلا أكرمه لأجل ما معه من أصل الديانة .
وهذا فرق مهم ، وكثير ممن خاض في الزمن الأخير وفيما حصل للأفغان من أمور قالوا إنها كرامات من شاهدها قال إنها كرامات وتُنوقلت وهناك من يكذب يقول هؤلاء مبتدعة والمبتدع لا يحصل له كرامة أصلا وهناك من يقول هي كرامات وهذا يدل على أنهم عند الله جل وعلا لهم مكانة الأولياء ونحو ذلك .
وبهذا التفصيل يُفهم الفرق بين حال الكرامة في الجهاد وحال الكرامة في غير الجهاد فإنه في الجهاد ليست دليلا على أن المجاهد ولي بل قد يكون غير ذلك كما هو الواقع فإن الحال في أولئك كثير منهم مبتدعة وكثير منهم عندهم شركيات وخرافات فما حصل لهم من الكرامات فيما نَقَلَ النقلة قد يكون ، وذلك لأجل تأييد ما هم عليه من دين الإسلام على ما عليه أولئك الكفرة من الإلحاد والظلم العظيم .
قال (والْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ)
يعني التصديق بالمأثور عن سالف الأمة .
(فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا)(33/232)
سورة الكهف فيها قصة أصحاب الكهف وأن الله جل وعلا أنامهم في الكهف ?ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا? ومن العادة أن الإنسان لا ينام هذه النومة الطويلة ويسلم فيها والله جل وعلا جعل ذلك كرامة لهم .
قال (فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ فِرَقٍ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
يعني أن الكرامات لا تزال تحصل في هذه الأمة وذلك إلى يوم القيامة ، ويقصد بيوم القيامة يعني ما قبل قيام الساعة يعني قبل هبوب الريح التي تقبض أنفاس المؤمنين لأن الكرامات مرتبطة بأهل الإيمان ويبقى الناس مدة طويلة لا يقال في الأرض الله الله كما جاء في صحيح مسلم يعني لا أحد يعظم الله فيقول للآخر اتق الله اتق الله ، بل يتهارجون فيها كما تتهارج الحمر .
هذا خلاصة بحث كرامات الأولياء وهو بحث مهم والتوسع فيه له مجال كبير .
شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم لهم في مؤلفاتهم الكلام الكثير عن ذلك لكن أصول هذا الباب ذكرته لك .
نكتفي بهذا القدر ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ...
ما حكم من عَمَّمَ وقال إن الخوارق هي خوارق للعادات الطبيعية ؟
هي في عادة الإنس فيما يَجْري لهم عادة ، عادة أهل الزمان في ما يجري لهم عادة .(33/233)
العادات الطبيعية قد يكون شيء من جهة القدرة من جهة الكشف هذه ليس لها دخل - الطبيعة - فيها ، يعني ينظر هكذا فيرى ما يفعله الناس ، يُكشِف عما في قلبه يرى فلان ويعرف ما يدور في نفسه ، ولهذا تجد أنهم يذكرون الكلام على الفراسة (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) يذكرون الكلام على الفراسة وأنواع الفراسة وأصناف ذلك في مبحث الكرامات لأن لها صلة بمبحث الكرامات لأن الفراسة كشف ونعني بالفراسة الفراسة الإيمانية هي كشف كما أن الكرامة كشف فهي في الواقع كرامة ، وأما الفراسة الرياضية وأشباه ذلك فهذا يحصل بالتعلم وليس من جهة الإكرام .
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم السداد في القول والعمل وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يجعل أعمالنا جميعا خالصة لوجهه وأن يجعلنا في كل حركاتنا وسكناتنا ناصرين هذه الدعوة التي هي دعوة التوحيد الخالص التي بُعث بها المرسلون جميعا .
وما من شك أن الأزمنة تحتاج في إقرار الحق ودفع ضده إلى جهاد ومجاهده ، وكل ذلك لا بد من القيام به ، وإذا أتيح باب من أبواب الخير أو باب من أبواب المجاهدة في الصلاح والخير فإن العبد إذا أحسن نيته لله جل وعلا ورغب في الخير وصَدَقَ مع الله جل وعلا في تعامله واجتهد أن يكون كما أمر الله جل وعلا فإنه على باب من أبواب الفلاح والهدى لأن الله جل وعلا أمر بالجهاد ، والجهاد يكون بالقرآن قبل أن يكون بالسنان كما قال جل وعلا ?فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا? يعني جاهدهم بهذا القرآن .(33/234)
والجهاد بالقرآن وبالعلم وبالدعوة يحتاج إلى صبر ومصابرة ويحتاج إلى طول عناء وسؤال للثبات ، ولهذا كثيرون ممن راموا طريق العلم تركوه لأن العلم طويل ، فتجد أنه طلبه بعض السنين ثم تركه لأجل طوله ، والأمور كلها تحتاج إلى مجاهدة ومنها طريق العلم .
ومن الأبواب التي يحصل بها الخير في طريق طلب العلم والدعوة أن يتعاون الجميع لأن الدعوة إلى الخير والدعوة إلى هذه العقيدة الصافية الصحيحة التي نُدَرِّسُ كتابا من كتبها وهو العقيدة الواسطية إن إقرار ذلك ونشره في الناس وتعليم الجاهل وبثه في المساجد وغير ذلك لا شك أنه من المهمات ويجب أن يتعاون طلبة العلم والدعاة إلى الخير وأهل العلم وكل منتسب إلى الخير يتعاونون في ذلك جميعا لأن الله جل وعلا أمر بذلك في قوله سبحانه ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? وفي قوله جل وعلا ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? لهذا ربما ما حضر الدرس الماضي كثير منكم فابتدأنا بهذه الوصية العامة التي نرجو أن تكون على البال وفي القلوب وأن لا يترك بعضنا بعضا وأن يساعد بعضنا بعضا في الخير والصلاح والهدى .
وقد كنا شرحنا في الدرس الماضي جملة من كلام شيخ الإسلام ذكر فيها أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة في الأولياء وقد رُغِبَ أن يُكَرَّرَ ذلك لأن الحضور في الدرس الماضي كان نصف تقريبا الحضور اليوم وكثير من الإخوان ما حضروا فنستأذن الاخوة الذين حضروا الدرس الماضي وربما يكون فيه زيادة على ما ذُكر إن شاء الله تعالى وفي التكرار إن شاء الله تثبيت .(33/235)
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
كرامات الأولياء البحث فيها جاء فرعا عن الكلام في دلائل النبوة وآيات الأنبياء وبراهين الأنبياء.
فالله جل وعلا أيد كل نبي بآية وببرهان وهي التي سماها بعض المتأخرين المعجزات ، والتسمية الشرعية لها الآيات والبراهين والبينات ?قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ? قال ?فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ?
انتهى الشريط الخامس و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السادس والعشرون
فالله جل وعلا أيد كل نبي بآية وببرهان وهي التي سماها بعض المتأخرين المعجزات والتسمية الشرعية لها الآيات والبراهين والبينات ?قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ? قال ?فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ? وقال جل وعلا ?فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ? وقال سبحانه ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ? .(33/236)
ويلحق بذلك ما هو أثر في الآية والبرهان وهو ما جاء في بعض الآيات أنه السلطان قال ?فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ? والآيات لا يستملكها البشر وإنما هي عند الله جل وعلا كما قال جل وعلا ?إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ? .
والآيات جمع الآية وهي الدليل الواضح البيِّن على المراد حيث لا يتخلف عنه .
آيات الأنبياء وبراهين الأنبياء ودلائل صدقهم هذه خارقة للعادة .
ولفظ (الخارق للعادة) هذا كما ذكرنا استعمله المعتزلة والمتكلمون ، فجعلوا الدليل على كون الآية والبرهان حجة للرسول ومعجزة للرسول أن فيها خرقا للعادة ، وخرق العادة قالوا لا يكون إلا لله جل وعلا .
أصّل المبتدعة هذا التأصيل فلهذا أنكر طوائف : كالجهمية والمعتزلة وبعض الفقهاء ، أنكروا كرامات الأولياء لأن كرامات الأولياء عندهم أمور خارقة للعادة ، فالخارق للعادة هو ما يحصل بما لا يكون فيه إمكان للبشر أن يفعلوه ، فصار خارقا للعادة ، فأنكروا كرامات الأولياء لأن الكرامة شيء خارق للعادة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله هنا قال :
(وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ)
فسبب ضلال من ضلال من ضلَّ في هذا الباب وهو باب كرامات الأولياء أنهم جعلوا إثبات كرامات الأولياء بما جاءت به النصوص ، جعلوا ذلك يطعن في دليل النبوة .
قالوا : ولو أثبتنا كرامة للولي لاشتبه ذلك بمعجزة النبي ، ومعجزة النبي قامت على خرق العادة فلهذا لا يمكن أن يكون للولي كرامة تُخْرَقُ بها العادة .
أهل السنة رضي الله عنهم وأرضاهم من الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم خالفوا المبتدعة في الأصل وهو أن مبنى آيات الأنبياء على خرق العادة .
قالوا : ومبنى آيات الأنبياء على أنَّ آية النبي ليست في إمكان المخلوقات بل لا يمكن أن يأتي بهذه الآية إلا الله جل جلاله سبحانه وتعالى .(33/237)
فهي خارقة للعادة ولكن كلمة (العادة) هذه وكلمة (خرق العادة) كلمة محدثة لم تأت في النصوص وإذا كان كذلك وجب تقييدها بما جاءت به النصوص .
فالعادة هنا التي تخرقها آيات الأنبياء هي عادة الجن والإنس والمخلوقات .
فالعادة في آيات الأنبياء غير العادة في كرامات الأولياء ، غير العادة في مخاريق السحرة والكهنة ، لأن الساحر والكاهن والمشعوذ والبطَّال يأتون بخوارق للعادات ، لكن عادة من ؟
هذه هي نكتة هذا الباب وهو مبني - يعني باب كرامات الأولياء والكلام على السحرة وإثبات ما جاء في النصوص في ذلك والرد على أهل البدع - مبني على هذا التأصيل الذي ذكرته .
لهذا نقول إن أهل السنة أثبتوا آيات الأنبياء وذلك بأنها خارقة لعادة المخلوقات ، يعني لا يمكن أن يكون مخلوق يأتي بمثل تلك الآية ، لا يمكن لمخلوق أن يقلب عصا حيةً لأن هذا من جهة الخلق ، فيقلب العصا حية وتكون حية فعلا ، ليست من جهة التمويه ولكن تكون فعلا حية ، أو يجعل البحر رهوا ، أو يجعل البحر يبساً ، أو يجعل فرق البحر فرقتين هذه كذا كالطود العظيم وتلك كذا كالطود العظيم ?فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ? هذا ليس في وسع أي مخلوق بل هو لله جل وعلا ، كذلك آية عيسى عليه السلام ، كذلك آية سليمان عليه السلام ، وآية عيسى أنه يُبرئ الأكمه والأبرص بمسحة ويحيي الموتى وهذا لا يمكن إلا لله جل وعلا .
ولهذا نقول عُمدة هذا الفصل أو هذا الباب في فهمه أن خرق العادة هنا يختلف .(33/238)
فإذا قلنا بهذا اللفظ المحدث واستعملناه فلا بد أن نفهم أنه مقيد بالسياق الذي يجيء فيه ، فإذا جاء في سياق ذكر آيات الأنبياء كانت العادة التي تُخرق في آيات الأنبياء هي عادة المخلوقات جميعا ، قال جل وعلا في القرآن ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ? فهنا وقع طلب المعارضة باجتماع الجن والإنس جميعا وهما الثقلان المكلفان قال ?لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ? يعني قد يأتون بشيء يسمونه قرآنا أو يسمونه مصحفا أو يسمونه كتابا من عند الله لكن لا يكون مثل القرآن فيكون كذبا .
مثل ما يدعي الدُّروز أن عندهم مصحفا خاصا بهم وصحف خاصة - وعندي من مصحفهم نسخة - شاكلوا به القرآن وأخذوا بعض الآيات ووسموه بأشياء وجعلوا له فواصل ونحو ذلك ، لكنه بارد وليس فيه تحريك لا للنفس ولا للقلب ولا السلطان بل هو سَمِجٌ لا تمضي فيه حتى تكرهه ، وكذلك بعض من ادَّعى معارضة القرآن ، فإذن المقصود هنا أن خرق العادة في آيات الأنبياء بعادة الجن والإنس أو تقول عادة المخلوقات يعني تُدْخِل فيهم الملائكة إلا بأمر الله جل وعلا .
هذا التأصيل لا بد منه .
هنا خرق العادة في كرامات الأولياء غير خرق العادة في آيات الأنبياء لهذا نقول ، مَبْنَى هذا الباب أن أهل السنة خالفوا المبتدعة في تأصيل هذا الباب وفي فروعه :
في التأصيل بما ذكرنا
وفي الفروع بالقول بأن كرامات الأولياء حق ، وأن سحر الساحر حق ،وأن السحر يُمرِضُ حقيقة ويقتل حقيقة وهو موجود على الحقيقة ،وأن مَخْرَقَة الكهنة والمشعوذين أن هذه هي مَخْرَقَة فعلا وحاصلة حقيقة ليست فقط تمويها لكنها تحصل حقيقة ، بأن يأتي بشيء بدل شيء ويخفي شيئا ويظهر شيئا، وهذه خارقة للعادة .
ولكن العادة التي خُرِقَتْ بكرامات الأولياء هي عادة الناس في ذلك الزمان .
والعادة التي خُرِقَتْ بمخرقة السحرة هي عادة أهل ذلك البلد ممن ليس بساحر .(33/239)
هذه هي القيود في هذا الباب .
قال رحمه الله (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
التصديق يعني اعتقاد أنها حق من حيث الوقوع ومن حيث الجنس ، لا من حيث الشيء المعين الذي يحصل لأفراد الأمة ، ما جاءت به النصوص من الكرامات نقول هو كرامة ونصدق بذلك لأن التصديق بالنصوص واجب .
قال (بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ) والأولياء جمع ولي ، والولي في اللغة هو المحب الناصر كما قال جل وعلا ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ? يعني بعضهم يحب بعضا وينصر بعضا ، وقال جل وعلا ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ? فالولي هو الناصر والمحب ، هذا في اللغة .
أما في الاصطلاح فأهل السنة إذا قالوا الولي فيريدون به (كل مؤمن تقي ليس بنبي) .
قولهم كل مؤمن تقي في التعريف لأن الله جل وعلا وصف الأولياء بأنهم المؤمنون الأتقياء قال سبحانه ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? لكن اسم الولي عندهم يصدُقُ على من كَمَّلَ الإيمان والتقوى بحسب استطاعته .
قد يكون عنده بعض الذنوب لكن هو مجتهد في الإيمان والتقوى على الكمال .
قد ينقص طبعا عن ذلك لأن الناس ليس فيهم من ليس له ذنب .
(كل مؤمن تقي ليس بنبي) أخرج الأنبياء عن اسم الولي ، فإذا قيل في اصطلاح أهل السنة الولي وكرامات الأولياء فلا يدخل فيها الأنبياء مع أن النبي في اللغة والرسول في اللغة ولي لأنه محب ناصر لله جل جلاله ، والله جل وعلا (من عادى لي وليا فقد آذنته في بالحرب) لكن من حيث الإصطلاح لا يطلق على الأنبياء .(33/240)
أما الوَلايَة - بفتح الواو - فهي المحبة والنصرة ، وهذه لكل مؤمن تقي لكن تختلف درجاتها .
فكل مؤمن تقي له نصيب من الوَلاية .
ولا يقال لمن كان عنده بعض الإيمان والتقوى إنه ولي في الاصطلاح لكن له ولاية بقدر ما فيه من الإيمان والتقوى لأن الله جل وعلا علق ذلك بوصف الإيمان والتقوى فقال جل وعلا ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? قوله ?الَّذِينَ آمَنُواْ? هذا يفيد استمرار الإيمان وكماله ?وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? كذلك .
أما الوَلايَة فهو من عنده إيمان وتقوى .
فكل مؤمن له وَلاية بحسبه ، يعني أنه يحب الله وينصر الله جل وعلا بحسب إيمانه وتقواه وكذلك الله جل وعلا يحبه وينصره بقدر إيمانه وتقواه .
فالوَلاية ، وَلاية العبد لربه ، ووَلاية الله جل وعلا لعبده متبعضة لأنها مبنية على وصفين كل منهما متبعض ، قال جل وعلا ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? والإيمان عند أهل السنة يتبعض والتقوى عند أهل السنة تتبعض فنتج من ذلك أن الوَلاية تتبعض أيضا .
فليست الوَلاية شيئا واحدا عند أهل السنة إما أن يأتي وإما أن يذهب ، لكن صار اسم الولي لمن كمَّلَ الإيمان والتقوى بحسب استطاعته .
أما الكرامات فهي جمع الكرامة ، والكرامة في اللغة هي النعمة الخاصة أو الإنعام الخاص كما قال جل و ?فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ? الإكرام عُطِفَ عليه الإنعام والعطف يقتضي التغاير في الصفات أو في الذوات .
لهذا نقول الكرامة شيء خاص على الإنعام ، هي إنعام لكن إنعام خاص ، في اللغة .
أما في الاصطلاح فالكرامة هي أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي ولهذا قال شيخ الإسلام هنا
(َوما يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)(33/241)
عبر بـ (ما يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) لأن الكرامة تجري على يدي الولي .
وقال (مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ) لأن الكرامة خارق للعادة .
فالكرامة إذن أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي .
(خارق للعادة) عادة من ؟
ذكرنا لكم التفصيل في ذلك :
فإذا قلنا آيات الأنبياء خارقة للعادة نقول عادة كذا أو يكون مُستحضرا .
وكرامات الأولياء خارقة للعادة نقول عادة الإنس أو عادة الناس جميعا أو أهل هذا البلد جميعا ، وهذا ليدل على أنه ليس باستطاعته هو أن يأتي بذلك وإنما هي من عند الله جل وعلا .
قبل أن نأتي لتفصيل الكلام فيها على كلام شيخ الإسلام نقول الناس فيها - في الكرامات - لهم أقوال المشهور منها ثلاثة أقوال :
- الأول قول أهل السنة وهذا ما ندرسُهُ ونوضِحُهُ على كلام شيخ الإسلام إن شاء الله تعالى.
- والقول الثاني قول المعتزلة والجهمية ومن حذا حذوهم من الفقهاء كابن حزم ونحوه ، وهؤلاء ينفون كرامات الأولياء أصلا للشَُبهة التي ذكرت في أول الكلام .
- والقول الثالث قول الأشاعرة وهو أن كرامة الولي ثابتة وقد تكون مساويةً لآيات الأنبياء .
وأهل السنة يثبتون الكرامة لكن يقولون لا تساوي آيات الأنبياء ، لا تبلغها ، لأن آيات الأنبياء خارقة لعادة الجن والإنس جميعا وأما كرامات الأولياء فتخرق عادة الناس أو ناس جهة معينة .
قال رحمه الله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ)
قوله (فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ) هذا نوع من أنواع الكرامة ، فإن الكرامة لها نوعان :
- إما أن تكون في علمٍ .
- وإما أن تكون في قدرة .
والعلم كشفٌ ، يعلم الشيء بشيء يكون في رُوعِهِ أو يعلمه بإبصاره أو يعلمه بسمعه .
يسمع ما لا يسمع غيره ، يبصر ما لا يبصر غيره ، يعلم ما لا يعلمه غيره .
هذا في أنواع العلوم والمكاشفات .(33/242)
من جهة البصر ينكشف له ما لا ينكشف لغيره كما حصل لعمر رضي الله عنه فإنه انكشف له حال سارية وحال الجبل فقال (يا سارية) وهو في المدينة (يا سارية الجبل الجبلَ) يعني الزم الجبل لأنه انكشف له حال المسلمين وموقع المسلمين وحال الفرس وموقع الفرس فنادى ، فانكشف لعمر الوضع ، والصورة اتضحت أمامه فرأى ما لم يره الناس .
هذه كرامة من جهة الكشف البصري .
سارية سمع ، وكان سماعه من جهة الكشف السمعي أو من جهة الكرامة في السمع .
وهذا لا يكون بالعادة ، ولكن عندنا مثلا في هذا الزمان يكون بالهاتف مثلا أو لا ؟
قد يكون هناك تسليط صور بأقمار صناعية أو نحو ذلك فيرون المكان ويكون مراقب ويتصل بالهاتف ويقول انتبه تحرك كذا كما هو في الجيوش الحديثة .
ولهذا أهل السنة من القديم قيَّدُوا الكرامة بتقييد عظيم في نفسه وبيَّنَ ما ظهر في الأزمنة المختلفة أنه تقييد حق في نفسه ، وهو أنهم قيدوه بما هو خارق للعادة ، عادة الناس في زمانهم ، لا يمكن لأحد أن يتصور ذلك ، فصار كرامة .
هنا العلم والمكاشفة لها ارتباط بكلمات الله جل وعلا لأن حصول الانكشاف قد يكون متعلقا بكلمات الله الكونية وقد يكون متعلقا بكلمات الله الشرعية :
فمثلا تعلقه بكلمات الله الكونية مثل ما حصل لعمر رضي الله عنه ، ومثل ما حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث نظر في بطن امرأته وكانت حبلى فقال فيها أنثى ، فولدت بعد فترة فصار أنثى ، ومثل ما يحصل من هذا الجنس من جهة المكاشفة .
هذه مرتبطة بكلمات الله الكونية ، يعني أنه انكشف له شيء راجع إلى كلمات الله الكونية لأنه نظر إلى كوَّنه الله جل وعلا أو سمع ما كوَّنه الله جل وعلا .(33/243)
من جهة الكلمات الشرعية ينكشف له العلم بالشرعيات ما لا ينكشف لغيره ، ولهذا تجد أن أكثر العصاة لا ينكشف لهم العلم الشرعي ، وكلما كان العبد أتقى لربه جل وعلا وأحرص على طاعته وأكثر استغفارا من الذنب وأكثر الإنابة إلى ربه جل وعلا كلما كان انكشاف العلم له أكثر .
وبالمناسبة هناك استدلال يخطئ فيه كثيرون وهو أنهم يستدلون بقوله تعالى في سورة البقرة ?وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ? على أن التقوى مؤثرة في تحصيل العلم .
وهذا الاستدلال ليس بصحيح لأن قوله جل وعلا ?وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ? هذا عطْف ، عَطَفَ ?يُعَلِّمُكُمُ? على التقوى، فليس العلم مُرَتَبَاً في الآية على التقوى .
لهذا قال كثيرون من أهل العلم هنا لا ارتباط بين هذا وهذا لأنه لو كان العلم أثر للتقوى لكانت مجزومة (واتقوا الله يعلمْكم الله) لأنه يكون بجواب الأمر كما في قوله ?أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ? وهو معروف في النحو .
فقوله ?واتقوا الله? هذا يَحْسُنُ الوقف عليها ثم تبتدئ فتقول ?وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? يعني بما كان قبل ذلك في الآية من الكلام على كتابة الدين وأحكام الشهادة ونحو ذلك .
النوع الثاني من أنواع الكرامات ما يكون في القدرة والتأثير .
يعني يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، يؤثر بما لا يستطيعه غيره بالقيد الذي أسلفنا ، القيد الذي سلف .(33/244)
فمثلا في القدرة ، يقدر على ما لا يقدر عليه غيره كما حصل لأحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه لمَّا مات فرسه وكان في خلاة من الأرض دعا الله أن يحيي له الفرس فأحيا الله له الفرس ، دعا الله أن يحيي له الفرس حتى يرجع إلى بيته وإلا سينقطع وستصيبه هلكة فأحيا الله له الفرس ، فوصل إلى داره واستقبله ابنه ، فلما استقبله ونزل من فرسه قال يا بني اذهب بالفرس بعيدا فإنه عارِيَّةْ ، قال فذهب به الولد فلما أبعد به سقط ميتا .
هذا نوع من القدرة ، قُدْرَةٌ هذه راجعة إلى كلمات الله الكونية فإن الله جل وعلا أكرمه بأن أحيا له ميتا أحيا له نفسا ميتة ، مثل ما حصل لسعد رضي الله عنه حينما مرَّ بالجيش على الماء ، دعا الله أن ييبَسَ لهم الماء فيبِسَ الماء فمر عليه الجيش بخيولهم وبأسلحتهم ومن هم عليه إلى ماءٍ يابس وكأنهم في أرض صلبة ، هذا نوع راجع إلى القدرة .
هل هو قَدِرَ أو جرت على يديه القدرة ؟
الجواب جرت على يديه كرامة له ، لهذا تنتبه لقوله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) .
والغلاة جعلوا ذلك من قدرة الولي ، فغلوا في الأولياء جعلوهم يستحقون شيئا من ما لله جل وعلا.
(أَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) التأثير أن يؤثر في غيره .
قد يؤثر في الذوات مثل ما أثر سعد في الماء ، وقد يؤثر في الأزمنة مثل ما حصل لخُبيب بأنه يأتيه عنب في غير وقته وتأتيه الفاكهة في غير وقتها ، هذا تأثير راجع إلى قدرة لكن تأثير في الزمان .
مثل ما حصل ليوشع بن نون حيث حُبِسَتْ له الشمس فنادى الشمس فقال ، أو خاطب الشمس فقال (أنتِ مأمورة وأنا مأمور اللهم فاحبسها علينا) فظلت الشمس وكانت قريبة من الغروب ظلت زمانا طويلا حتى صار ذلك فتحا .
وهذه آية ليوشع لأنه على أحد الأقوال أنه كان نبيا من الأنبياء ولأن هذه خارجة على قدرة البشر.
المقصود التأثير بنوع التمثيل ، فالتأثيرات تختلف :(33/245)
تأثير في الأزمنة وتأثير في الذوات وأحيانا يكون تأثيرا في الأمكنة وتأثير في الحواس ، مثل ما حصل أن جند الحجاج بن يوسف أو شُرَط الحجاج بن يوسف دخلوا على الحسن البصري فدعا الله جل وعلا أن لا يبصروه فمروا وهو محتذ بفناء داره رحمه الله فنظروا ونظروا فلم يجدوا أحدا في الدار وهو ينظر إليهم وهم يتحركون بين يديه ، هذه كرامة ?وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? .
فالمقصود من هذا أن التأثير فيما مثَّلْنَا به راجع إلى التأثير في الكونيات .
هناك نوع من التأثير والقدرة راجع إلى الكلمات الشرعية ، يعني مرتبط بالدين .
الكلمات الشرعية يعني القرآن ، السنة ، الدين ، الدعوة ونحو ذلك .
فيقدر في هذه الأمور على ما لا يقدر عليه غيره ، يُكْرَمْ .
تجد من أهل العلم من عاش زمانا قصيرا لكنه صنف من المصنفات وقَدِرَ على ما لم يقدر عليه علماء زمانه بمجموعهم ، أو أثر في الناس من جهة الدعوة أو من جهة إصلاحهم ووعظهم تأثيرا بالغا فدخل إلى قلوبهم فأَثَّرَ في الشرعيات وأُكْرِمَ بأن يُؤَثِرْ .
كما ذكر عن ابن الجوزي وغيره أنه كان يتوب على يديه في المجلس الواحد أحيانا نحو عشرة آلاف وكان مجلسه في مسجده يحضره الآلاف المؤلفة ، وكما قيل إنه أسلم في يوم وفاة الإمام أحمد بن حنبل كذا وكذا من اليهود والنصارى في بغداد ونحو ذلك .
هذا تأثر في الشرعيات ، يعني أَثَّرُوا حتى جعلوا الشرعيات مقبولة واستسلم لها الناس .
ولهذا يقول أهل العلم إنَّ كرامات الأولياء مرتبطة بكلمات الله الكونية وكلمات الله الشرعية ، وتفصيل المقام في ذلك بما ذكرته لك .
قال (والْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ)
وقصة أصحاب الكهف واضحة (وَغَيْرِهَا) كما في قصة مريم ، لأن مريم ولية من أولياء الله جل وعلا لأنه ليس في النساء نبية وإنما الرسالة والنبوة في الرجال .(33/246)
(وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ فِرَقٍ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
وهذا الأمثلة عليه واضحه وكثيرة .
بقي هنا تتمات لهذا المبحث .
فأهل السنة يعتقدون أن الولي تابع للنبي ، وأنهم لا يُفَضِّلُونَ أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء ويقولون نبي واحد أفضل من جميع الأولياء كما قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته .
وأول من أحدث القول بِخَتْمْ الوِلاية وباحتمال أن يَفْضُلَ الولي على النبي فيما يُذْكَرْ عنه الحكيم الترمذي .
الحكيم الترمذي صاحب كتاب نوادر الأصول له كتاب سماه (ختم الوَلاية) وعنى بها (ختم الأولياء) ذكر فيه أصولا في هذا الباب ، وكان سببا لضلال جهلة المتصوفة والاتحادية في هذا الباب .
فقالوا إن الولاية تُخْتَمْ كما تُخْتَمْ النبوة ، وأنه يمكن أن يكون الولي أفضل من النبي .
وقد تبنى هذا والعياذ بالله ، تبناه ابن عربي الحاتمي المعروف صاحب كتاب (الفتوحات المكية وفُصُوصْ الحِكَمْ) ذكره في كتابه الفُصُوصْ ، وذكر أن خاتم الأولياء - قالوا يعني نفسه - أفضل من خاتِم الأنبياء .
ولهذا كفَّرَهُ العلماء بذلك وحكموا عليه بالزندقة بل قالوا وأي كفر أعظم من هذا حيث قال هو:
إن النبي عليه الصلاة والسلام مثَّلَ لبناء الأنبياء بأنه لم يبق فيه إلا لبنة فكان هو عليه الصلاة والسلام تلك اللبنة .
قال وخاتم الأولياء يَنْظُرُ نفسه في موضع لبنتين ، لَبِنَة في الظاهر و لَبِنَة في الباطن .
فلبنة الظاهر تتابع رسم الشريعة ، ولبنة الباطن تَسْتَقِي من المَعْدِنْ الذي يَسْتَقِي منه المَلَكْ الذي أوصل الخبر إلى النبي .
وقد ألَّفَ هو كتاباً فيه الأحاديث التي يرويها عن ربنا جل وعلا مباشرة ، وهو مطبوع سمَّاه الأربعين عن رب العالمين ، فكانت جهة التفضيل هي هذه .(33/247)
ولذلك تجد أن هؤلاء يرون أنه سقطت عنهم التكاليف لأنهم خوطبوا بما لم يخاطب به غيرهم ، لكن في الظاهر يتبعون ، لكن في الباطن هم معذورون أو لهم شريعتهم الخاصة .
وهذا لا شك أنه زندقة وهو الذي ذكره إمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام ، هو هذا المعنى ، وكان كثيرا في نجد وما حولها وفي الحجاز وفي البلاد الإسلامية الأخرى إلى يومنا هذا من أن من الناس من يعتقد أنه يَسَعُهُ الخروج عن شريعة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما وَسِعَ الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام ، يعنون به هؤلاء الذين يقولون بختم الولاية .....1
مبتدعا مقيما على بدعته ولا صاحب كبائر ، بل الولي هو الذي يتابع الكتاب والسنة ولا يُغْتَرْ بما يجري لهم من الخوارق يعني بأهل البدع والمعاصي أنهم قد يحصل لهم خوارق فلا يُغْتَرْ بهم ، فليس برهان الولاية ، أو كون هذا وليا ، ليس برهان ذلك أنه جرى له خارق للعادة ، بل برهان ذلك أنه تابع القرآن والسنة وأمَّر السنة على نفسه ظاهرا وباطنا بقدر الإستطاعة .
ولهذا قالوا تحصل مخاريق من الشياطين والجن ليغووا الناس بهذا حتى يذهبوا عن السنة .
وهذا هو الذي حصل فإنه في الفرق المختلفة الذين ضلوا في هذا الباب أغوتهم الشياطين وجعلت لهم كرامات ، أو جعلت لهم ما يشبه الكرامات فاغتر الناس وقالوا هذه كرامات وهي في الواقع من جهة الشياطين ، وقد تأتي بصورته وقد يكون هو في أكثر من محل في نفس الوقت مثل ما يقال فلان رُئي بدمشق يوم العيد - عيد الأضحى - ورئي بمنى يرمي الجمرة ذلك اليوم ، وفلان رحمه الله خطب الجمعة في سبعة مساجد ، شهد الناس بأنه خطب هنا وخطب هنا وخطب هنا وخطب هنا ، ويقول الشعراني عن هذا الذي خطب في أكثر من موضع يقول : وكان رحمه الله يتلو آيات ليست في القرآن .(33/248)
وهذا ضلال فوق الضلال ، يتلو آيات ليست في القرآن لأنهم يعتقدون أنه يصل إلى أن يكلمه الله جل وعلا فأعطاه آيات ليست في القرآن .
وهذا لا شك أنه كفر وزندقة وخروج عن الملة ، فالكرامة لا يُؤتاها إلا المتابعين للكتاب والسنة المؤمنون الأتقياء .
هل يحصل لأهل البدع كرامات ؟
نقول ما يحصل لأهل البدع والضلال والعصيان من خوارق للعادات هي من جهة الشياطين لتغوي الناس ، بل قد يحصل لأحد الأولياء أن الشياطين تتمثل به في أكثر من مكان حتى تُضِل الناس ، مثلما قال شيخ الإسلام عن نفسه ، قال : وكانت الشياطين تتمثل بي فتأتي إلى أصحابي كما حصل مرة أنهم وقعوا في شدة وكانوا في مكان بعيد عني فرأوني أنظر إليهم فاستغاثوا بي ، فأغاثهم ، يعني زال ما بهم من الشدة ، قال : فلما رجعوا أخبروني وشكروني على ذلك فقلت لهم لم أبرح دمشق وإنما كان الذي رأيتم شيطانا تمثَّل في صورتي ، فإِيَاكُم .
يحصل هذا كثيرا ، ولهذا نقول الشيطان إذا كان يتمثل في صورة العبد الصالح فقد يتمثل في صورة المبتدع ليضل الناس أكثر فلهذا يقول أهل العلم الخوارق ثلاثة أنواع :
- النوع الأول : ما يحصل للأنبياء وهذه آيات وبراهين .
- والنوع الثاني : ما يحصل للأولياء وهذه كرامات .
- والنوع الثالث : ما يحصل لأهل العصيان والمبتدعة وأهل الضلال أو السحرة أو الممخرقين وهذه خوارق شيطانية .
لأن كل واحدة لها اسم يجمعها اسم الخارق للعادة ، لكن ما يحصل على يدي المبتدعة وأهل العصيان يسمى خارقا شيطانيا .
وأوضح ذلك شيخ الإسلام بتفصيل في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .
المبتدعة قد تحصل لهم كرامات في حال واحدة ، وهي حال جهاد من ليس من أهل الإسلام ، إذا جاهدوا النصارى أو جاهدوا أهل الإلحاد والزندقة أو جاهدوا المشركين فقد يعطي الله جل وعلا الجيش الذي قاتل أولئك الملحدين أو اليهود أو النصارى ، يعطيهم بعض الكرامات ولو كانوا مبتدعة .(33/249)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وذلك لما معهم من أصل الدين الذي هو دين الحق وهو الإسلام ليظهر على ما مع أولئك من الشرك والدين الذي هو باطل أو أبطله الله جل وعلا .
ومثَّلْتُ على ذلك بما حصل وما جرى فيه النقاش كثيرا في وقت من الأوقات بالكرامات التي نُقِلَتْ عن الأفغان وما حصل لهم في ذلك ، ومنهم من ينفي ومنهم من يُثْبِتْ [5] ومنهم من يقول - يعني من إخواننا - من يقول إنهم مبتدعة والمبتدعة لا يُعْطَون كرامات ، بعضهم مشركين ، يعني عندهم شرك أصغر ، وبعضهم يكون عنده أعظم من ذلك ، فنقول :
القاعدة في ذلك أن المبتدع ، ومن عنده شرك أصغر ، ونحو ذلك قد يعطى كرامة كما حصل ، فلا نثبت أنها كرامة مطلقا ، ولا نقول ليست بكرامة بل نقول قد تكون كرامة وذلك كما عليه التأصيل عندنا أن ذلك لتأييد ما معهم من أصل الدين والإسلام ليظهر على ما عليه أهل الإلحاد وتقوم حجة الله جل وعلا أو تظهر حجة من حجج الله على الناس .
كذلك في المناظرات ، في المجاهدة بالقرآن فإن الله جل وعلا يؤيد ربما المعتزلي بكرامة ، يؤيد الأشعري بكرامة ، يؤيد المبتدع بكرامة إذا كان يُحاجْ أهل الإلحاد أو النصارى أو الفرق التناسخية أو أهل الملل الباطلة ليظهر أن ما معه من أصل الدين خير .
ولهذا ذكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله أن كثيراً من المبتدعة دعوا إلى الدين وأَدْخَلُوا في الدين طوائف من المشركين ، ومن عبدة الأوثان ومن أهل الديانات كاليهودية والنصرانية ، وأهل الملل الباطلة كمِلِلْ أهل الهند والفرس ونحو ذلك ، فكان ما حصل لهم من الإسلام الذي فيه بدع وخرافات وفيه ضلال عن السنة خير لهم من بقائهم على مِلَلْ الكفر والضلال .
وهذا لا شك أنه صواب كما قال رحمه الله تعالى لأن هذا يكون مسلما مبتدعا ، يكون مسلما ضالا ، لكن لو ترك وحاله الأولى لكان مشركا كافرا زنديقا ، لو مات على تلك الحال كان من أهل النار إن قامت عليه الحجة .(33/250)
من المباحث أيضا المتعلقة بهذا الباب مبحث الفراسة ، والفراسة ثلاثة أنواع :
- فراسة إيمانية .
- وفراسة طبيعية .
- وفراسة رياضية .
o يُعْنَى بالطبيعية ما يحصل من دِلالة تقاسيم الوجه على خُلُقِ صاحبه ، أو ما يُسْتَدَلُ به في سِعَةِ أو عِظَمِ صدره خِلْقَةً على أنه واسع البال ، لا يضيق سريعا ، على أنه حليم ، ومثل ما يُسْتَدَلُ بكبر الرأس على كبر العقل أو المخ ، ومثل ما يُسْتَدَلُ بصغر الرأس على البلادة ، أو حدة العينين على قوة في الذكاء ، و برود العينين على فتور الذهن .
هذه أشياء طبيعية خَلْقِيَّة تكلم فيها الناس ، وصُنِّفَ فيها مصنفات ، والشافعي رحمه الله تعالى دَرَسْ من هذا شيئا ، وكان رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة وعفا عنه ورفع درجته في العليين كان لما درس هذا في الصغر كان يؤثر عليه وغلب عليه كما ذكروا في ترجمته حتى أتى له الربيع تلميذه مرة أتى له فقال له اذهب فاشتر لنا باقلاء وخضراً - يعني مأكولات أشياء للبيت - فذهب فاشتراها .
قال ما صفة البائع ؟
فقال الربيع كان أعرج أعور . - أعرج يتكسب وأعور هذا خلقة الله جل وعلا - .
قال اصرفه عني ، تصدق به .
غَلَبَ عليه هذا .
كان مما يقول الشافعي رحمه الله : ذهبت إلى اليمن لطلب كتب الفراسة - وَوَلِيَ إِمْرَةً لأحد البلاد في اليمن فترة من الزمن -
ويقول : لما طلبت هذه الكتب فكان من الصفات في الكتب أن الرجل إذا كان من العرب وكان أشقر الشعر أزرق العينين فهي أخبث صفة .
قال : فبينا أنا سائر في تهامة وآواني الليل إلى مكان ، يقول : فإذا بنار فأتيتها فإذا برجل فلما رأيت صورته كرهته فكان أزرق العينين وكان شعره أشقر .
وقلت : هذه أخبث صفة في كتب الفراسة ، فقال : فرحب بي أعظم ترحيب ،وأنزلني
وقال : انزل عندنا وعشاءك عندنا وما تريد ؟(33/251)
يقول : وأخذ دابتي بنفسه بيده فقال هيا اذهب ، ووضع لي مكانا وأتى لي بالعشاء وأخذ الدابة وأعلفها وسهر علي وعلى دابتي ذلك الليل كله .
فقلت : يا خسارة ما أنفقت على هذه الكتب طيلة مسيري ومكثي في اليمن .
قال : فلما أتى الصباح قلت له لقد أسديت لنا يا فلان معروفا وإذا أتيت مكة فسل عن محمد بن إدريس حتى نكافئك .
فقال ذلك الرجل : ما رأيت رجلا مثلك قط ، أُكْرِمُ دابتك وأكرمك وأسهر عليك الليل وتقول إذا أتيتُ مكة اطلب فلانا ؟ انقد لي خمسة دنانير
يقول : وليس معي إلا خمسة دنانير وكان هو في فعله لا يستحق إلا دينارا واحدا .
قال : فتمسكت بكتب الفراسة .
وأثرت هذه على الشافعي رحمه الله في أخبار من ذلك .
المقصود أن هذه تسمى فراسة خَلقية طبيعية ، يعني من الشكل يستدل بشيء ، وفي كتاب للرازي في هذا وكتب يستدلون بالخلق على الخُلق .
" النوع الثاني فراسة رياضية وهذه هي التي يتعلمها القضاة وكذا .
من نظرته لحركة الرجل ولكلامه ولهيئته يعلم تصرفه يعلم هل هو مُحق أم مُبطل ونحو ذلك .
" وهناك فراسة أخرى ثالثة وهي فراسة إيمانية ، هذه الفراسة الإيمانية هي التي جاء فيها الحديث الذي في الترمذي وغيره عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) هذه فراسة إيمانة ليست من جهة الفراسة الرياضية التي تُتَعلم بالرياضة بالتعود وبالخبرة ، وليست خلقية طبيعية ولكن هكذا يُقْذَفْ في رُوعه في نفسه أن هذا كذا وكذا ، وهذه من جنس الكرامات بل هي كرامة ، ولهذا أهل العلم يبحثون الفراسة إذا بحثوا الكرامة ، فمبحث الفراسة في كتب العقيدة بعد كرمات الأولياء لأن من أنواع الفراسة الفراسة الإيمانة وهي جزء أو نوع من أنواع الكرامة .
هذا بعض ما يتصل بهذا الموضوع والبحث لا شك أنه متشعب وألفت فيه كتب كثيرة ولكن هذه أصول المسائل في هذا الباب .
يقول : ما معنى آيات الله الكونية وآيات الله الشرعية ؟(33/252)
آيات الله الكونية المراد بها ما جعله الله جل وعلا آية دالة عليه في الكون المنظور مثل الشمس والقمر والليل والنهار ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ? هذه آيات كونية ، آية لأنها تدل دلالة ظاهرة وواضحة على الله جل وعلا فإن من تأمل في الليل والنهار كفاه برهانا على وجود الحق جل وعلا وتقدس وتعاظم ربنا ، الشمس والقمر وتسخير الشمس والقمر لأهل الأرض تجد أن ذلك من الآيات الدالة عليه .
أما آيات الله الشرعية فهي القرآن وكتب الله المنزلة ، هذه آيات الله الشرعية وهي الكلمات الشرعية .
قال ما الفرق بين الكرامة والمعجزة ؟
الكرامة ذكرناها ، المعجرة لفظ حادث ، المعجرة لفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلمات الصحابة ولا في التابعين ولا تبع التابعين ، وأول من استعمل لفظ المعجزة في آيات الأنبياء المعتزلة ، لم ؟
لأنهم بنوا آيات الأنبياء على العَجْزْ على عَجْزْ الناس عنها ولهذا أنكروا الكرامات ، ولفظ المعجزة ما جاء كما ذكرنا ولهذا ضَلَّ فيه من أحدثه لكن معناه بما تعورف عليه أنه هو معنى الآية والبرهان ، فإذا قيل معجزات الأنبياء يعني آيات الأنبياء براهين الأنبياء الدالة على صدقهم والبينات التي أيدهم الله جل وعلا بها ، لكن لفظ المعجزة مُحدث وينبغي أن يقيّد ويفهم أنه محدث وأن تقييده بما لا يضع التباسا في فهم آيات الأنبياء ودلائل الأنبياء .
ولمن تقع كل واحدة منهما ؟
الكرامة للولي وأما المعجزة وهي الآية والبرهان فهي للنبي .
وجاء في التاريخ أن صلة حصل له أشياء ..... حتى وصل .
هذه هي القصة التي ذكرتها .
هذا سؤال جيد يقول أَشْكَلَ علي إضافة العادة بالنسبة للنبي والولي إذ ما الفرق مثلا بين إحراق إبراهيم عليه السلام وبين إحراق أبي إدريس الخولاني ؟(33/253)
هذا الاستشكال أورده شيخ الإسلام في كتاب النبوات وقال الجنس مختلف ، النار التي أُجِّجَتْ لإبراهيم ليست هي النار التي أُجِّجَتْ لأبي إدريس الخولاني فمن حيث إن هذه نار وتلك نار نعم ، ولكن لا تساوي هذه تلك ولهذا قال أهل السنة إن كرامة الولي لا تساوي آية النبي ، والأشاعرة قالوا إن كرامة الولي تساوي آية النبي ولكن الفرق بينهما أن الولي لا يدعي النبوة والنبي يقول هو مرسل من عند الله جل وعلا .
قال من ذكر هذا الضابط في العادة بين الولي والنبي والساحر من أهل العلم وأين نجدها بالتفصيل ؟
المسألة مبحوثة في كتب كثيرة ولعل من أدق من تكلم عن هذا البحث شيخ الإسلام في كتاب النبوات فهو مُؤَصَل في بيان هذه المسألة .
يقول ذكرتم أن ظهور الكرامات لأهل البدع والمحدثات عند قتال أهل الكفر والشرك ، وضربتم مثالا بما ظهر من كرامات في الجهاد الأفغاني إن صح أنها كرامات ، ولا يفوتكم أن الجهاد الأفغاني شارك فيه سلفيون من شتى أنحاء العالم الإسلامي وكان لهم أمارة بكنر ، أفلا يصح أن تكون هذه الكرامات التي ظهرت ظهرت لأهل السنة منهم بعيدا عن القبوريين والخرافيين ؟
لا ، السلفيون ظهرت لهم كرامات والمبتدعة أيضا يقولون إنها ظهرت لهم أيضا كرامات ، لا نكذب بظهور الكرامات ولا نصدق ولكن نقول من ظهرت منهم هذا هو التأصيل حتى لا يَعْتَقِدْ أنهم ما دان أنه ظهرت له كرامة فإن معنى ذلك أنه على الحق ، نقول ظهور الكرامة وأنت مقيم على الشركيات الشرك الأصغر أو على البدع هذه تأييد لما معك من أصل الدين ، لأنك إذا كلمته في أصل الكرامة هو شهد شيئا خارقا للعادة ، وتأصيل أهل العلم على أنه لا يمنع من أن يكون مع أهل البدع كرامات لكن في حال مجاهدة الكفار والمشركين إما بالسنان أو باللسان كما ذكرت ذلك .(33/254)
قوله ?فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? يستعملها بعض العامة عند إرادته إخفاء نفسه عن الناس كما فعله بعضهم فهل ورد في ذلك شيء ؟ ثم أين نجد أسانيد القصص المذكورة في الكرمات ؟
أسانيد القصص هذه موجودة في عدد من الكتب منها كتاب الزهد للإمام أحمد ومنها كتاب كرامات الأولياء للالكائي وكتب التاريخ أيضا ومناقب الصحابة فيها من ذلك شيءٌ كثير .
ما هو الفرق بين خوارق العادات وخوارم المروءة ؟
خوارم المروءة الأشياء التي تقدح في العدالة وهي الخروج عن ما أوجبه الشرع وما هو معروف عند أهل العلم والتقوى والصلاح ، أما خوارق العادات فهذه راجعة إلى أنه شيء ما يستطيع أحد يعني من الحاضرين أن يفعله إلا بقيود .
سؤال غير وجيه في مسألة النار وأن النار التي دخل فيها أبو إدريس الخولاني من الشياطين ، هذا فيه نظر .
هل هناك فرق بين ابن عربي وابن العربي أم أنهما شخص واحد ؟
ابن العربي هذا فقيه مالكي معروف صاحب كتاب أحكام القرآن وصاحب كتاب عارضة الأحوذي ، صاحب شرح الموطأ ، عالم من علماء المالكية معروف لكنه كان قليل العناية بالسنة كما سمعت ذلك من سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله ، ولكنه كان فقيها مالكيا وعالما وعنده ما عند غيره من أهل العلم ، أما ابن عربي بحذف الألف واللام فأصله هو ابن العربي أيضا مثل الأول لأنه هو أندلسي كما أن الأول أندلسي والعربي اسم هناك في تلك الجهات يكثر التسمية به ، لكن لمَّا كان على تلك الزندقة والضلال فرق العلماء بينه وبين الأول بأن حذفوا منها الألف واللام لأن الألف واللام تشريف وتعريف فحذفت من ابن عربي لأنه لا يستحقها فقيل ابن عربي بالتنكير .
هل من كان من أهل الكبائر من المسلمين ثم تاب وأحسن هل يكون من أهل الكرامات ؟(33/255)
نعم يكون من أهل الكرامات ، صاحب الكبيرة أو الكبائر إذا تاب منها فالتوبة تجب ما قبلها بل قد يكون في حقه أن الله جل وعلا يبدل سيئاته حسنات ، هذا من اعظم فضل الله جل وعلا كما جاء ذلك في آخر سورة الفرقان ?فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ? فصاحب الكبائر إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا وأخلص لله جل وعلا فإنه قد تبدل سيئاته حسنات وهذا ليس للجميع ولكن لبعض التائبن ، لمن تاب توبة خاصة ، فيأتي العبد ويكون ليس له من الزمن في الإسلام إلا أو في السنة أو في الصَّلاح إلا فترة وجيزة ويكون أفضل ممن كان قبل ذلك لم ؟ لأنه وقع في قلبه من تعظيم الله جل وعلا وتوقيره واحتقار نفسه وعظم ذنبه الذي يتراءى بين عينيه ما يجعله أفضل من غيره فيبدل الله سيئاته حسنات وهذا من فضل الله جل وعلا على بعض عباده ، وفي هذا القدر كفاية وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العفو والعافية ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
صفات أهل السنة والجماعة
ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ،حَيثُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ".(33/256)
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ.
وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ.
وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ.
وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.
وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب المُخبت المنيب وأسأله جل وعلا أن يستعملنا فيما يحب ويرضى وأن يجنبنا طريق أهل الرَّدَى وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى .(33/257)
هذا الفصل فصل عام في بيان طريقة أهل السنة والجماعة ومنهاج أهل السنة والجماعة ، لأن أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الأثر وأهل الحديث وأتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم هؤلاء تميزوا عن غيرهم في الاعتقاد وتميزوا عن غيرهم في العمل وصاروا شامةً بين الناس فلهذا كانت طريقتهم في العمل وطريقتهم في تلقي النصوص وطريقتهم في التعامل مع آثار السلف الصالح مباينةً لطريقة المخالفين .
فذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأجزل له المثوبة هذا الفصل ليبين لنا طريقة أهل السنة والجماعة ومنهجهم في العمل وفي مصدر التلقي الذي اعتمدوه ، فقال رحمه الله تعالى :
(ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا)
قوله (ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) يعني بالطريقة هنا المنهج ، والنهج والمنهاج والسبيل لأن الطريقة تعم ذلك .
فالطريقة فهي الطريق المطروق فهو النهج والمنهج كما قال جل وعلا ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا? والمنهاج هو السبيل وهو الطريق ، فجعل الله جل وعلا لأصحاب نبيه عليه الصلاة والسلام ومن تبعهم طريقا مايزوا به غيرهم .
وأهل السنة والجماعة مر معنا في أول شرح هذه العقيدة المباركة معنى أهل السنة ومعنى الجماعة .
فمنهجهم (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا) واتباع الآثار أَفْهَمَ أنهم حين يتبعون اتبعوا عن علم وبصيرة لأن لفظ الاتباع يدل على متابعة عن علم وبصيرة ، فيختلف المتَّبِعُ عن المقلد .
فإن أهل السنة والجماعة طريقتهم هي الاتباع وليست طريقتهم هي التقليد .(33/258)
وفي أصول الدين منه ما لا يجوز التقليد فيه وهو القدر الواجب - يعني من العقيدة - ما لا يجوز التقليد فيه بل يجب أن يعتقد الحق فيه مع دليله ، ومنه ما يسوغ أن يتبع فيه قول عالم معتمد موثوق في دينه وسنته .
فإذن قوله (اتِّبَاعُ) نفهم منها أنهم علموا بذلك ، وإذا كانوا علموا فلا بد من وسيلة للعلم وهي كثرة ورودهم على سُنَن المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وكثرة قراءتهم في كتب الحديث وكتب السنة لأنه بذلك تعلم آثار المصطفى عليه الصلاة والسلام .
وال (آثَار) جمع الأثر وهو ما يُنْقَلُ من الخبر في الأقوال أو في الأعمال أو في الأحوال .
وعند أهل الاصطلاح الأثر يعم الحديث عن المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ والأقوال أو الأعمال للصحابة والأقوال أو الأعمال للتابعين فهذه هي الآثار ، ولهذا قيدها هنا بقوله (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا) فاتباع الآثار هذه سمة أهل السنة والجماعة ، يعني أنهم يحرصون على الاتباع ولا يُحَكِّمُون عقولهم ولا أهواءهم .
(رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) التعبير بالرسول أو النبي جائز ، قد يستعمل لفظ النبي وقد يستعمل لفظ الرسول لكن في بعض المواضع يحسن استعمال لفظ الرسول ومنه هذا الموضع .
فقوله (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) فيه التنبيه على أن هذه الآثار قد أُرْسِلَ بها من الله جل وعلا ، وهذا هو الذي يعتقده أهل السنة بأن السنة وحي من الله جل وعلا وليست اجتهادا منه عليه الصلاة والسلام بل هي وحي أوحاه الله جل وعلا إليه أن اعمل كذا واترك كذا وقد يكون هناك أشياء فيها اجتهاد لكن يكون مُقَرَّاً عليها وإلا لم تكن أثرا من آثاره عليه الصلاة والسلام .(33/259)
وهناك قسم ثالث وهو ما كان من الأمور الجِبِلِيَّة الطبيعية التي يعملها بمقتضى عادته عليه الصلاة والسلام من مثل طريقته في مشيته ومن مثل طريقته في نومته ونحو ذلك مما هو هيئة لم يأمر به ولم يحض عليه عليه الصلاة والسلام ، فهذا النوع يُتَّبَع أيضا ويكون الاتباع على جهة الاقتداء ليس لأنه سنة في نفسه ولكن يُؤْجر من فعل لأنه نوى الاقتداء .
فتلخص من ذلك أن هذا النوع الثالث وهو الأمور الجِبِلِيَّة الطبيعية مما فعل أو مما ترك عليه الصلاة والسلام فإن الاتباع فيها يكون بنية الاقتداء ، فإذا نوى الاقتداء أُجِرَ على هذه النية وإلا فإن الأمور الجبلية ليس مأجورا على أن يفعل مثلها إلا بنية الاقتداء فيؤجر على نية الاقتداء .
ولهذا قال العلماء في كتب الأصول إن هذه الأمور الجِبِلِيَّة يؤجر فيها بنية الاقتداء فيفعل - معنى نية الاقتداء - أن يفعل ما فعل عليه الصلاة والسلام لأجل أنه فعل وأن يترك ما ترك عليه الصلاة والسلام لأجل أنه ترك .
فمن اقتدى بالنبي عليه الصلاة والسلام في مشيته لأجل أنه مشى هكذا فإنه يؤجر على نيته وإلا فإن الأمور الجِبِلِيَّة نفسها ليست محل اتباع في نفسها ، وإنما الذي يُتَّبَع ما كان من قبيل السنة من قبيل التشريع .
وكل اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام فيه أجر في جميع الأحوال لكن منه ما يكون الأجر في اتباع العمل من حيث هو ، لأن العمل عبادة إما أن يكون واجبا أو سنة ، الترك إما أن يكون محرما أو مكروها ، ومنه ما يكون الأجر في أن يفعل على جهة الاقتداء وأن يترك على جهة الاقتداء .
قوله رحمه الله (بَاطِنًا وَظَاهِرًا) يعني به الإخلاص والمتابعة .
والاتباع لا بد فيه من الإخلاص وهو اتباع الآثار في الباطن ، ولا بد فيه من المتابعة للسنة وهو اتباع الآثار في الظاهر .(33/260)
فاتباع الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الباطن يقتضي أن تخلص لله جل وعلا وأن تخبت له وتنيب وأن تصحح عملك من الشوائب وأن تكون في أعمالك لله وحده دونما سواه ، وهذه حال المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ هو أكمل خلق الله جل وعلا توحيدا وإخلاصا لربه جل وعلا .
فإصلاح الباطن واتباع الآثار في الباطن هذا من طريقة أهل السنة ، ولهذا أعظم وصية يوصي بها أهل السنة من حولهم ومن معهم ومن وراءهم الوصية بإخلاص الدين لله جل وعلا .
هذه هي اتباع الآثار في الباطن .
واتباع الآثار في الظاهر بأن يعمل على نحو ما عمل عليه الصلاة والسلام فيكون في هيئته وعبادته وسلوكه وأخلاقه وفي ملابسه وفي أكله وفي نومته وفي أحواله على طريقة المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فأكملهم اتباعا من كان على اجتهاد في متابعة النبي عليه الصلاة والسلام فمن كان أكثر اتباعا كان أكمل .
قال (وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ)
هذه تميز بها أهل السنة والجماعة عن غيرهم ، لأن اتباع الكتاب والسنة هذه يدعيها الأكثرون ، كلُ يقول الكتاب والسنة ، لكن أي تلك الدعاوي صوابا ؟
هي قول من اتبع سبيل السابقين الأولين ، وهذا على نحو الكلمة التي هي مشهورة بأن يكون ذلك على منهاج السلف الصالح ، نفهم الكتاب والسنة على طريقة الصحابة رضوان الله عليهم ، على طريقة السلف الصالح .
وهذا القيد مهم لأنه يميز أهل السنة عن غيرهم أما الأخذ بالكتاب والسنة أو طريقتنا طريقة الكتاب والسنة ونحو ذلك فإنها يشترك فيها الأكثرون ، لكن نفهم الكتاب بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، نفهم السنة على طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، ولهذا لا بد من اتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .(33/261)
وتقييده بالسابقين الأولين لأنهم كانوا قبل حدوث الفتن ولم يحصل من أحد منهم افتتان رضي الله عنهم وأرضاهم ، لأن الله جل وعلا أحل عليهم رضوانه كما قال جل وعلا ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ? وقال جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? .
وقوله (السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ) من هم السابقون الأولون ؟
فيها خلاف بين أهل العلم :
- ومنهم من قال إن السابقين الأولين هم الذين صلَّوا إلى القبلتين .
- ومنهم من قال السابقون الأولون هم من أسلم قبل الحديبية .
- ومنهم من قال من أسلم قبل فتح مكة .
- ومنهم من قال هم أهل بدر من المهاجرين والأنصار .
والصواب في ذلك أن السابقين الأولين هم الذين أسلموا قبل صلح الحديبية وأما بعد ذلك فكثر الذين دخلوا في الإسلام وذلك لقول الله جل وعلا ?لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى? ، وأما الأقوال الأخرى فكلها فيه ما فيه .
قد رد شيخ الإسلام رحمه الله على تلك الأقوال في كتابه منهاج السنة وأظن قد عَرَضْنَا لبعضها في ما سبق في الكلام عن الصحابة .
(مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ) المهاجرون اسم لمن هاجر من مكة إلى المدينة ، والأنصار هم الذين ناصروا المهاجرين .
والأنصار إما من الأوس وإما من الخزرج .
وهذان الاسمان (المهاجرون والأنصار) اسمان شرعيان .(33/262)
الله جل وعلا هو الذي سمى هؤلاء المهاجرين وسمى من نصرهم الأنصار ، مثل ما ذكرنا في الآية في قول الله جل وعلا ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ? فهذا يدل على أن الأسماء التي في التعريف تجوز ، شرط أن لا يُتَعَصَّبَ لها من دون اسم الإسلام ومن الإيمان .
فإحداث الأسماء في الإسلام غير اسم الإسلام المسلم والمؤمن جائز بشرط أن لا يُتَعَصَّبَ له ، لأنه إذا يُتَعَصِّبَ للأسماء كانت جاهلية ....
انتهى الشريط السادس و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السابع والعشرون
وإحداث الأسماء في الإسلام غير اسم الإسلام المسلم والمؤمن جائز بشرط ألا يُتَعَصَّبَ له ، لأنه إذا تُعُصِب للأسماء كانت جاهلية .
يدل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نادى مهاجريٌ في خصومة بينه وبين الأنصار فقال)يا للمهاجرين(يندبهم لنصرته وقال الأنصاري)يا للأنصار(يندبهم لنصرته فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) استدل به أهل العلم على أن الأسماء التي للتعريف إذا تُعُصِب لها كانت جاهلية .
وهذا من جنس الأسماء المحدثة في الإسلام مثل حنبلي حنابلة شافعية ومالكية الحنفية والظاهرية ومن مثل المدارس السلوكية ونحو ذلك ، فهذه الأسماء إذا كانت للتعريف فلا بأس بها ، أما إذا تُعُصِب لها أو أُعتُقِد أن من هذا اسمه فهو على الحق و غيره على الباطل فإن هذا ليس من طريقة أهل السنة بل رَدُّوا ذلك ، حاشى التسمية بما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من اسم أهل السنة والجماعة ، أتباع السلف الصالح ، أهل الأثر ، أهل الحديث ونحو ذلك فإن هذه الأسماء نصرتُها والتعصب لها بمعنى التعصب لما اشتملت عليه من العقيدة الصحيحة هذا تعصبٌ لأصل الإسلام وليس تعصباً لمُحدث فإذا تعصب لعقيدة أولئك فقد تعصب للحق .(33/263)
أما إذا تعصب لاسمٍ دون ما تميز به ذلك الاسم فإن ذلك باطل ولا يجوز .
مثل ما يحصل في هذا الزمن في بعض البلاد الإسلامية من أنهم يتعصبون للأسماء هذه وقد لا يكونون من أهل الاعتقاد الصحيح على وجه الكمال ، مثل ما يتعصب في بعض البلاد أهل الحديث ضد السلفيين واسم أهل الحديث في الأصل بمعنى أهل السنة والجماعة واسم أتباع السلف الصالح بمعنى أهل السنة والجماعة فهما بمعنى واحد .
لكن في هذا الزمن حصل هناك التعصب لأسماء دون ما احتوت عليه الأسماء لأنها صارت لها ... أحوال أحزاب أو متنافس ونحو ذلك .
فالواجب أن تكون مثل هذه الأسماء للتعريف ، وأما الاجتماع فهو على العقيدة الصحيحة التي كان عليها أهل السنة والجماعة فهي التي يُتَعَصَبُ لها وهي التي تنصر ويُدافَع عنها ويُدافَع عن أسماء أصحابها و أهلها .
وإذا كان الدفاع أو التعصب لاسمٍ دون الحقيقة فإن هذا نوع من أنواع الجاهلية .
فهذه الأسماء المحدثة تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم و أيضاً غيره فالواجب أن يُعرَفَ شروط جواز التسمي بهذه الأسماء .
وإذا كان الاسمان الشرعيان الأولان المهاجرون والأنصار قد صارا نوعاً من الجاهلية لمَا تُعُصِبَ له مع أن الله هو الذي سماهم بذلك دل على أن التسمية بغير ذلك إذا تعصب له من باب أولى أن يكون نوعاً من أنواع الجاهلية .
قال هنا (وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، حَيثُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي)
هذا الأمر منه عليه الصلاة والسلام (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي) يدل على تعظيم سنة الخلفاء الراشدين وأهل العلم في فهم هذا على قولين :
" الأول أن سُنَة الخلفاء الراشدين ما أجمعوا عليه ، ما اجتمع عليه الأربعة .(33/264)
وهذا قول كثيرين من أهل العلم .
" والثاني أن سُنَة الخلفاء الراشدين هو ما سنه واحد منهم وقَبِلَهُ الصحابة في زمنه ، تكون سُنَة له أمضاها ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر باتباع سٌنَتِه وسُنَة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده .
وهذا القول الثاني هو الصواب لأن القول الأول وهو أن لا تُتَبَع إلا السُنَة التي اجتمعوا عليها يُفْضِي القول به إلى تعطيل هذا الأمر في زمن أبي بكر وفي زمن عمر وفي زمن عثمان حتى تنقضي الخلافة الراشدة ، وهذا لا شك أنه باطل لأن هذا الأمر واجبُ الامتثال منذ تولي أبي بكر الخلافة ، ففي عهد أبي بكر يجب اتباع سنة الخلفاء الراشدين وأبو بكر أولهم فتُتَبَع سنته .
و هذا الذي كان يفهمه الصحابة فيطيعون الخليفة فيما سنَّه لأن وصية النبي عليه الصلاة والسلام بذلك .
فلهذا أخذ أهل السنة بكثير من سُنَن الخلفاء و أقرُّوها وإن كانت لم تكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وخاصةً ما كان في زمن عمر وفي زمن عثمان رضي الله عنهما ، فإنه في زمن عمر عمل أشياء منها صلاة التراويح ومنها إحداث الدواوين ونحو ذلك وإن كانت هذه من قبيل المصالح المرسلة لكن هي داخلةٌ في سنة الخلفاء الراشدين ، كذلك ما كان في زمن عثمان رضي الله عنه من إحداث الأذان الأول في الجمعة و تزيين المساجد وجمع المصاحف على حرف واحد وإلغاء بقية الأحرف فهذه كلها سنن يلزمُ اتباعها و لا يجوز تعطيلها لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام .
قال في هذا الحديث (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)
إياكم يعني أحذركم محدثات الأمور ، والمحدثات في هذا المراد بها البدع ، لأن المحدثات قسمان :
" محدثات ليست من الدين يعني من أمر الدنيا هذه لا بأس بإحداثها كما أحدث عمر الدواوين وترتيب الأرزاق و نحو ذلك .(33/265)
" ومنها محدثات في الدين هذه هي التي تكون من البدع ، الشافعي رحمه الله أُثِرَ عنه أنه قال المحدثات قسمان .
قال (فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) ، وهذا العموم ظاهر ، فإن لفظ كل يدل على الظهور في العموم ، وهذا يرد على تقسيم من قَسَم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة فإن قوله عليه الصلاة والسلام كل بدعة ضلالة يدل على أنه ليس شيءٌ من البدع في الدين حسنة بل كلُ بدعةٍ ضلالة كما قال عليه الصلاة والسلام .
و البدعة في اللغة ما أُحدِثَ على غير مثالٍ سابق ومنه قول الله جل وعلا ?بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? يعني من أحدث السموات والأرض دون مثال سابق . ومنه قوله جل وعلا ?قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ? يعني لست بدعاً من الرسل جئت على غير رسل من قبلي بل سبقني رسل ولست برسولٍ مُبتدعٍ القول بالرسالة .
فهذا هو معنى البدعةِ في اللغة ومنه قول عمر رضي الله عنه لمَّا رآهم يصلون التراويح وقد اجتمعوا على إمام واحد و اكتظَ المسجد بذلك قال نعمة البدعة هذه ، يعني هذه البدعة اللغوية لأن هذا عُمِل على غير مثالٍ سابقٍ في عهده رضي الله عنه وليست بدعة في الشرع لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم لياليَ من رمضان واجتمع الناس معه كما روى ذلك أصحاب السنن .
و أما البدعة في الاصطلاح فإنها تُعَرَّفُ بتعاريف :
" منها ما كان على خلاف الدليل الشرعي
" وعُرّفَت بطريقة في الدين مخترعة تُضَاهى بها الطريقة الشرعية يُقصَدُ بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى ، كما هو تعريف الشاطبي في الاعتصام .
" ومن أهل العلم من عرف البدعة بقوله البدعة ما أُحْدِثَ على خلاف الحق المُتَلَقى عن رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في اعتقادٍ أو علمٍ او حالْ وجُعِلَ ذلك صراطاً مستقيماً وطريقاً قويماً .
هذه تعاريف مختلفة للبدعة وتعريف الشاطبي مشهور والتعريف الثالث أيضاً جيد .(33/266)
ويظهر لنا من تعريف الشاطبي للبدعة أن البدعة طريقة في الدين مخترعة :
فمعنى (الطريقة) أنها صارت مُلتَزَماً بها .
ومعنى كونها (مخترعة) أنها لم تكن في عهده عليه الصلاة والسلام ولا في عهد الخلفاء الراشدين.
و هذا القول يعطينا فرقاً مهماً بين البدعة ومخالفة السنة :
وهي أن البدعة مُلتَزَم بها ، وأما ما فُعِل على غير السنة ولم يُلْتَزَمْ به فإنه يقال خلاف السنة ، فإذا التزم به صار بدعة .
وهذا الفرق نبه العلماء على أنه فرق دقيق مهم بين البدعة ومخالفة السنة .
فالضابط بين العمل المبتدع وبين العمل المخالف للسنة أن يكون العمل هل هو الملتزم به أم غير ملتزم به ؟
فإذا عمل على خلاف السنة يتعبد بذلك مرة أو مرتين ما التزم به من جهة العدد أو من جهة الهيئة أو من جهة الزمن أو من جهة المكان فإنه يُقال خلاف السنة .
أما إذا عمل عملاً يريد به التقرب إلى الله جل وعلا والتزم به عدداً مخالفاً للسنة أو التزم به هيئةً مخالفةً للسنة أو التزم به زماناً مخالفاً للسنة أو التزم به مكاناً مخالفاً للسنة صار بدعةً .
هذه أربعة أشياء في العدد والهيئة والزمان والمكان .
فمن أخطأ السنة و تعبد ولم يلتزم يقال هذا خالف السنة ، و أما إذا التزم بطريقته وواظب عليها فإنه يقال هذا صاحب بدعة وهذا العمل بدعة .
مثال ما ذكرت مَن رَفَعَ يديه بعد الصلاة المكتوبة ليدعُوَ ، سلَمَ ثم رَفَعَ يديه بعد الصلاة المفروضة ليدعُوَ :(33/267)
نقولُ هذا الفعل منه خلاف السنة لأن السنة أنه بعد السلام يَشرَع في الأذكار وأما رفع اليدين بالدعاء بعد السلام فليس مشروعاً وليس من السنة ، فإذا رأيته يفعل ذلك تقول هذا خلاف السنة وسُنَةُ النبي عليه الصلاة والسلام أن يبتدئ بالأذكار بعد السلام ، فإن كان ملازماً لها كل بعد صلاة يفعل هذا الفعل صار بدعةًً ، أو يلتَزِم أن يسبح في وقت ما من اليوم عددا من التسبيح لا يتركه ، يجعل له بعد الصلاة مثلاً مائة تسبيحة ومائة تهليلة ومائة تكبيرة ومائة تحميدة هذا خلاف السنة لكن إن فعلها مرة أو نحو ذلك فهذا نقول خلاف السنة وقد يكون له حاجة في تكفير ذنب أو نحو ذلك هو أدرى به لكن إن التزمه صار بدعةً .
وقد ذكر ابن الحاج في المدخل أن أحد العلماء العُبَّادْ كان كثير الذكر ويَذكُرُ الله جل وعلا بعد الصلاة المكتوبة مائة تسبيحة ومائة تحميدة ومائة تكبيرة .
قال : فبينا هو نائم إذ رأى رؤيا كأنه - أنا سأستطرد هذا الاستطراد اسمحوا لنا لأجل إيضاح هذا المقام - يقول رأى في المنام أنه قد قامت الساعة وقد اجتمعت الملائكة لتُعطِيَ الناس أجورهم على أعمالهم فَصِيحَ أين أهل الذكر فقدموا وهو منهم - هذا الذي رأى المنام ، صاحب الذكر - منهم.
قال : فأعطوا الناس ومنعوا كثيرين .
قال : فتقدمت فقلت لقد كنت صاحب ذكر كنت أفعل كذا وكذا وكذا من الذكر .
فقالوا له :ليس لك عندنا شيء ،ليس ما فعلت على رسم صاحب الشريعة .
والتقييد بالأعداد مقصود شرعاً فلا بد من التَقَيُد هذه هي السنة ، فإذا تعدى الشرع وأراد أن يحوز فضلاً في شيء قد قُيِدَ بالشرع في وقته أو زمانه أو عدده أو مكانه فإن الزيادة تكون نوع من الإعتداء .
قال (تضاهى بها الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) قوله يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هذا ليكون هناك فرق بين البدعة والمصلحة المرسلة .(33/268)
لا بد من إيضاح المقام في الفرق ما بين البدعة والمصلحة المرسلة :
- والبدعة فهِمتَ معناها وتعريفها
- أمَا المصلحة المرسلة فهي مُختلفٌ فيها في التعريف :
فمِن أهل العلم من يعُدُ العبادات التي أحدثها الخلفاء الراشدون أو الأعمال يُعُدُّها من المصالح المرسلة .
ومنهم من يُقيِد المصلحة المرسلة بالدنيا .
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وعدد من المحققين على الأول يجعلون المصلحة المرسلة ما لم يقم المقتضي لفعله في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله عليه الصلاة والسلام .
يعني لم يقم المقتضي للفعل في عهده ثم فُعِلَ من العبادات .
فهذا يُعَدُ مصلحةً مرسلة ، مثل الأذان الأول ونحو ذلك فهي عند شيخ الإسلام من المصالح المرسلة يعني في عهده عليه الصلاة والسلام لم يُقُم المقتضي للفعل وإنما قام المقتضي للفعل بعد ذلك من أمور العبادات هذه عنده تدخل في المصلحة المرسلة ، وكذلك من أمور الدنيا ما قام المقتضي على فعلها أو لفعلها في عهده عليه الصلاة والسلام وقام بعد ذلك فتسمى مصلحةً مرسلة لأن الشارع أرسل العمل بها ولم يقيد العمل بما كان في وقته عليه الصلاة والسلام .
والثاني من الأقوال أن المصلحة المرسلة ما كان من أمر الدنيا وما كان فيه تيسير العمل وتيسير أمور الناس في دنياهم ، فتكون المصلحة المرسلة مفارقة للبدعة من جهتين :
- الجهة الأولى أن البدعة في الدين في العبادة وأما المصلحة المرسلة فهي في الدنيا .
- والثاني أن البدعة تقصد لذاتها كما قال لك الشاطبي في تعريفه يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد ، و أما المصلحة المرسلة فهي لأمر الدنيا لا يقصد بها المبالغة في التعبد ، والمصلحة المرسلة وسيلة لتحقيق كلي من كليات الشريعة وأما البدعة فتقصد لذاتها ليست وسيلة وإنما هي مقصودة ذاتاً .(33/269)
هذا هو الفرق بين البدعة و المصلحة المرسلة والذي يظهر لي ويترجح هو القول الثاني أما قول شيخ الإسلام ابن تيمية فكأنه لا ينضبط في بعض المسائل من المحدثات فيما يظهر لي .
وما أُحدِثَ في عهد الخلفاء الراشدين ندخله ضمن قول النبي عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي فهي سنة الخلفاء وليست مصلحة مرسلة ، و الخلاف من جهة اللفظ أما من جهة التطبيق فيتفق الجمهور مع قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
هناك تفصيلات متنوعة في البدعة وما يتعلق بها تطلب من مظانها .
قال (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ - جل جلاله -).
وكلام الله هو القرآن الذي هو صفته سبحانه وتعالى ليس مخلوقاً منه بدأ وإليه يعود .
قال (وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .
خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام فلا أحد يكون أحسن من هديه .
و الهدي ، هدي النبي عليه الصلاة والسلام ما كان من فعله و أقواله في العبادات أو في المعاملات أو في أحواله وسائرِ يومه .
وفي هذا الزمن أصبحوا يأخذون هدياً غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام ، ومنهم من هم ممن يُسَمَّونَ بالاسلاميين في الداخل وفي الخارج تنظر إلى حقيقة الحال فكأنهم يستنكفون من بعض هدي النبي عليه الصلاة والسلام أو يرون أنه لا يناسب العصر أو لا يناسب هذا الزمان والنبي عليه الصلاة والسلام بيَنَ لنا أن خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام فلا يكون هدي أحد مهما كان أكمل من هديه عليه الصلاة والسلام سواءً في الأكل أو في الشرب أو في الدخول والخروج أو في المعاشرة أو في الهيئات العامة أو في العبادة أو في النظر أو في الحكم أو في الوصية أو في التعامل أو في التواضع أو في الأخلاق أو غير ذلك فأكمل الهدي هديُ محمد عليه الصلاة والسلام وخير الهدي هديه عليه الصلاة والسلام .(33/270)
إذا اختلف الزمان وتغير فيبقى خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام ، إذا اختلفت العقول واختلفت الأنظار وتوسع الناس فيبقى خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام .
وهذه تحتاج إلى قوة قلب وأهل السنة والجماعة أتباع آثار السلف الصالح قويةٌ قلوبهم ولله الحمد بذلك وهم بين الناس كالشامة لأنهم على الأمر الأول وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام
قال (وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ)
وهذا ظاهر فإن لهم من العناية بالقرآن ومن تلاوته وتَدَارُسِهِ ما بَزُّوا به غيرهم ، وكذلك السنة ومعرفتها والنظر فيها والفقه فيها ما ليس عند غيرهم ، فهم أهل الكتاب والسنة لهم عناية بالقرآن من جهة تلاوته وتدبره وحفظه وتدارسه والقيام به والصلاة به ، وكذلك أهل سنة ينظرون في السنة ويكثرون الورود عليها و يتفقهون فيها .
قال (وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)
فأهل الكتاب والسنة ، أهل القرآن والسنة هؤلاء هم أهل السنة والجماعة وهم أهل الأثر إذا كانوا أهل الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح 1
والمقصود بالجماعة ما كان في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فإنهم كانوا مجتمعين وإنما حصل الخلاف بعدهم .
قال (لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ)
قد ذكرت لك في أول شرح الواسطية أن الجماعة والفرقة لفظان متقابلان .
والجماعة اختلف السلف في تفسيرها وكذلك الفرقة ، وجِماعُ أقوالهم أن الجماعة نوعان :
جماعةٌ في الأبدان الذي هو اجتماعُ في الأبدان .
وكذلك جماعة في الدين الذي هو اجتماع في الدين .(33/271)
فالله جل وعلا أمر بأن نجتمع في أبداننا وأن لا نتفرق قال ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ? وأمر كذلك بالاجتماع في الدين فقال جل وعلا ? شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا? تفرق في الدين وبعدٌ عن الاجتماع فيه وهذه صفة فرق الضلال ، صفة الثنتين والسبعين فرقة ،كذلك من لم يجتمع في الأبدان وفي الدين تفرق وسعى في التفريق في الأبدان وفي الدين فهو ليس على طريقة أهل الجماعة الذين ذكرهم شيخ الإسلام رحمه الله هنا .
وفصَلتُ لك ذلك مطولاً فلا نحتاج إلى إعادته لكن نكتته أو قاعدته :
أن الاجتماع نوعان ويقابله الفرقة نوعان ، فرقة في الأبدان وفرقة في الدين وكلٌ منهما تؤول إلى الأخرى :
فإن من سعى إلى الاجتماع في البدن يسعى إلى الاجتماع في الدين .
ومن سعى إلى الاجتماع في الدين سعى إلى الاجتماع في البدن .
وكلٌ منهما ملازمة للأخرى ، فلا يُتَصَور الاجتماع في الدين مع التفرق في الأبدان إلا تفَرُق أهل الضلالة ، فمن سعى في أن يجتمع الناس في الدين فقد سعى في أن يجتمع الناس في أبدانهم .
ولهذا من أعظم الفرية أن يقالَ عن من كان على طريقة السلف الصالح والداعين إلى الحق والهدى أنهم يسعون إلى التفريق ، لأنهم إذا دعوا إلى توحيدِ الله وإخلاص الدين له وإلى الاجتماع في الدين وأن لا نفرق بين أوامر الله جل وعلا فهم في الحقيقة دعوا إلى الاجتماع ، ومن دعا إلى الاجتماع في البدن فهو يدعو إلى الاجتماع في الدين ، وإنما يؤتى الناس من جهة عدم معرفة الضابط بين هذا وهذا .
وهذه من المسائل العظيمة لأن مسألة الجماعة والاجتماع من أعظم نعم الله جل وعلا على عباده إذا منَ عليهم بالاجتماع ونبذ الفرقة .(33/272)
وكلٌ منهما لها صلةٌ بصاحبتها ، فمن سعى في اجتماع الناس في الدين فقد سعى في اجتماع الناس في أبدانهم وكذلك مقابله من اجتمع لاجتماع الناس في الأبدان سعى لاجتماع الناس في الدين لأنه به يمكن أن يُرشَد الناس دون تفرق ، والفرقة عذاب كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن (الاجتماع رحمة والفرقة عذاب) يعني الاجتماع في البدن وفي الدين رحمة والفرقة في البدن وفي الدين عذاب يعذب الله جل وعلا به من شاء .
قال (وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ)
هذا من باب الأصل يقال هذه جماعة بني فلان لأنهم مجتمعون أما في الشرع فالجماعة أعم من ذلك.
قال (وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ)
الإجماع بعد الكتاب والسنة .
فأهلُ السنة والجماعة عندهم ثلاثةُ أشياء : الكتابُ والسنة على فهم السلف الصالح ، ثم الإجماع.
لكن الإجماع لم ينضبط فكثيرون ادَعوا الإجماع على أشياء لا يصح فيها الإجماع ، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله في مسائل ادُعِيَ فيها الإجماع من ادَّعى الإجماع فهو كاذب يعني في مسائل معينة وإلا ثمَ مسائل أٌجمِعَ عليها .
قال (وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ) لا شك أنَ الإجماع أصل من الأصول الثلاثة التي عليها أهل السنة والجماعة .
ودليلهُ قول الله جل وعلا ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا?
قال ?وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ? وهذا هو الإجماع .
وقد سُئُل الشافعي ، لما ذَكَرَ الإجماع في بعض كتبه .
قيل له : هذا اللفظ الذي أتيت به لا دليل عليه فاتنا بدليل عليه .(33/273)
قال : فقرأت القرآن متدبراً من أوله إذ عندي (يعني هذا حاصل كلامه) إذ عندي أنه لا بد من دليل عليه فنظر .
قال : حتى أتيت هذه الآية من سورة النساء وهي قوله تعالى ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى? فصارت هذه الآية دليلاً للإجماع .
ذكر بعد ذلك أن (َالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ)
والإجماع بحثٌ أصولي معروف في كتب الأصول ، و يٌتَصَوَر الإجماع ، إجماع أهل السنة في غير زمن السلف الصالح ، ولكنه لا ينضبط لأنه قد يكون ثمَ من يخالف في مكان من الأرض ، لكن بما اشتهر يكفي الإجماع .
والإجماعُ المقصود به إجماع من هم من أهل الفقهِ في الدين الذين يفقهون معاني الكتاب والسنة ، أما أهل الرواية وأهل الأثر من جهة معرفة الحديث ومخارجه ونحو ذلك فالأصوليون نصُّوا على أنه من كان من أهل الرواية ولم يكن من أهل الدراية فلا يُعتَد به في الإجماع فلو خالف لا يكون مخالفاً للإجماع .
ولهذا ذكر عدد من أهل السنة أن ثمَ مسائل انعقد الإجماع عليها ولا عبرة بخلاف الظاهرية فيها لأنهم لم يكونوا على طريقة الأئمة ، أئمة الحديث في الفقه كمالك والشافعي واحمد إذ هم أئمة الحديث وهم أئمة الفقه عند أهلِ السنة والجماعة .
فالإجماع ينضبط في عهد السلف الصالح ، وما بعده فيه عدم انضباط وكثرة اختلاف .
لكن المقصود به إجماع أهل الفقه والدراية بالكتاب والسنة .
ويٌتَصَوَر بعدهم أن يُجمِعوا إذا أجمع الفقهاء المعروفون بالكتاب والسنة ولم يُعرف مخالف لهم .
قال (وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ)(33/274)
لا شك أن هذه الأصول الثلاثة يوزن بها الناس وتوزن بها الفئات والطوائف والأشخاص .
كتاب ، قرآن وسنة من جهة العناية بها والاستدلال بها واعتماد ما دلت عليه وأنها تفيد العمل وتفيد العلم سواءً كانت متواترة أو كانت آحاداً .
فإفادة السنة للعلم يُشْتَرَط له ثبوت السنة فإذا ثبتت السنة أفادت العلم وأفادت العمل أيضاً بعد ذلك .
وأما ما ذكره بعض الأصوليين من المعتزلة وغيرهم من أتباع المذاهب من أنَ حديث الآحاد لا يفيد العلم وإنَما يفيد العلم الظني فهذا مخالفٌ لطريقة السلف الصالح .
بل نقول يفيد العلم ولا نقول يفيد العلم الظني أو العلم اليقيني .
لكن كثيرٌ من أهل العلم يُعَبِّر بأن حديث الآحاد يفيد العلم الظني ، وقد يفيد العلم اليقيني بشروطه وذلك إذا احتفت به القرائن أو كان مُخَرَّجَاً في الصحيحين ونحو ذلك ، أو تلقته الأمة بالقبول كما ذكر ذلك الحافظ في شرح النخبة حيث قال : وخبرُ الآحاد إذا احتفت به القرائن أفاد العلم اليقيني.
هناك لفظان وهما :
" قطعية الدلالة .
" وقطعية الثبوت .
- قطعية الثبوت : يعني أن يكون ثبوت السنة قطعيا أو ثبوت ما كان من القرآن قطعياً .
القرآن نقول ثابتٌ بالقطع إذا كان من الروايات المنقولة بالتواتر ، أما الرواية التي لم تُنقل بالتواتر يعني الروايات الشاذة ونحو ذلك فهذه عند أهل السنة والجماعة موقوفة على صحة السند ، فإذا صح السند إلى القارئ كالأعمش ونحو ذلك فإنها مُعْتَبَرَة إذا لم تخالف القراءة المتواترة ، وتفيد العلم وتفيد العمل .
بخلاف طريقة القراء فإن عندهم القراءات الشاذة هذه ليست معتمدة .
لكن طريقة أهل السنة أن القراءةَ إذا صحت ، إذا صحت القراءة ، صح سندها ولو لم تكن متواترة فإنها تفيد العلم والعمل .
والقطعية راجعة إلى ثبوت ذلك من جهة صحة الإسناد في الشاذ ، والتواتر معروف في القراءات العشر أو ما هو أكثر من ذلك .(33/275)
فالسنة تكون قطعيةً إذا كانت متواترة ، قطعية الثبوت إذا كانت متواترة ، أما إذا كانت غير متواترة فيقال إنها ظنية الثبوت .
وهذا اصطلاح يعني أن طريقة إثباتها لم تكن على وجه القطع بل مظنونة لأنها لم تُنقل بالتواتر .
يقابل ذلك قطعية الدِلالة بالكتاب والسنة وهذا نادر .
و أغلب النصوص ليست قطعية الدلالة - نصوص الأحكام - أغلب نصوص الأحكام ليست قطعية الدلالة بل فيها مجال للاجتهاد وأما الأخبار ، خبر عن الله جل وعلا أو عن صفاته أو عن الغيبيات أو عن قصص الأنبياء فهذه قطعية الدلالة من جهة حصول اليقين بما دلت عليه .
قد يكون هناك ألفاظ تحتمل كذا وكذا هذا يكون فيه مجال للفهم والدلالة .
أما الأحكام فإنها قد تكون نص من الكتاب أو السنة قطعي الدلالة وقد لا يكون .
وعندهم - عند الأصوليين - (ما نريد نستطرد في القطعي والظني في هذا المقام لكن كلمات تبحثونها) عند الأصوليين النص يكتسب القطعية إذا سلم من اثني عشر أمراً وهي موجودة في كتب الأصوليين .
المقصود أن هذه الأصول يزن بها أهل السنة والجماعة الناس .
أما القياس فلم يُذكَر لأن القياس مُختلف فيه .
القياس مُختلف فيه حتى عند السلف الصالح منهم من لم يقس ولم يرض بالقياس .
والقياس نوعان : قياس قواعد وقياس فروع .
" قياس القواعد الذي هو من جهة عموم المعنى ، هذا لا خلاف فيه بين السلف بل كان السلف يُعملونه كثيراً وهو من العلم النافع العظيم .
وهناك قياس فروع ، وقياس الفروع هو المعروف عند الأصوليين بالقياس وهو (إلحاق فرعٍ بأصل لعلةٍ جامعةٍ بينهما) - يقصدون بالفرع الحكم المسكوت عنه والأصل الحكم المنصوص عليه - ، وأما القياس قياس القواعد فهذا هو الذي يسمى عموم المعنى ، هو الذي تكلم عنه ابن القيم في أوائل معالم الموقعين عن رب العالمين وأطال الكلام فيه وفي تقريره ، وهو الذي يسمى تحقيق المناط ، وهو الذي يكون من الفقهاء في العبادات .(33/276)
بعض أهل العلم أو بعض طلاب العلم ما يفرق بين القياس وبين القواعد ، تجد أنه في باب العبادات يرى أنه ألحق شيئاً بشيء فقال هذا قياس والقياس في العبادات ممتنع .
هذا ليس بجيد بل الصحابة ألحقوا بعض العبادات ببعض من جهة عموم المعنى من جهة القياس قياس القواعد ، وهذا مقبول عندهم باضطراد .
وأما قياس الفروع فهذا هو الذي بينهم خلاف ، وما كان منه جلياً هذا اعتمده أئمة السنة كمالك والشافعي وأحمد و ما كان منه خفياً وعرضة للأخذ والرد .
على العموم ثمَ مباحث طويلة في ذلك لكن هذه أصول تَجْمَعْ لك هذا الموضوع في طريقة ومنهج أهل السنة والجماعة .
قال هنا كلمة ، قال (يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ) عني هذه الأصول لا يُوزَنُ بها ما له تعلق بالدنيا ، لأن هذا الأصل فيه التوسع ، أما ما له تعلق بالدين فيزنون الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
فأحوال الناس الأفراد والطوائف تُوزن وأقوالهم تُوزن بهذه النصوص فمن كان متبعاً طريقة السلف الصالح فهو على طريقة أهل السنة والجماعة .
فهذه الأصول توزن بها الأقوال والأعمال وتوزن بها المقاصد وتوزن بها النيات ويوزن بها ما ظهر وما بطن ، ولا شك أنه ميزانٌ عظيم لكن لا يحسن تطبيقه إلا الراسخون في العلم لأن تطبيقه يحتاج إلى دقة ، خاصةً في الأمور الباطنة أما الأعمال الظاهرة هذه قد يشترك فيه الكثيرون من جهة الوزن بهذه الأصول .
نكتفي بهذا القدر و نجيب على بعض الأسئلة .
......
نعم عند الحافظ ابن حجر هذه نص عليها في النخبة وشرحها يقول : و خبر الآحاد يفيد العلم اليقيني بشروطه ، ذكر في الشرح أنه من شروطه إذا احتفت به القرائن أو تلقتها الأمة بالقبول أو اتُفِقَ على تخريجه ونحوه .(33/277)
هل يلزم من قولنا نفهم الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح أن يصير كلامهم حجة دون نظرنا في دليلهم مثل مثلاً أن نأخذ أقوال الحسن البصري وميمون بن مهران في الإعتقاد و يصبح هو حجة ؟
لا شك أن كلام السلف منه ما هو مُتَّفَقْ عليه موافق للأصول ، أصول الشريعة ، وقواعد الشريعة ونصوص الكتاب والسنة ، فهذا تأخذ بفهمهم لأنه فهمٌ للنصوص ، وقد يكون في أقوالهم ما هو مُشْتَبِهْ فهذا لا بد أن ينظر في أقوال غيرهم ، فلا تأخذ الحجة بقول واحد من التابعين أو بفعله ، كذلك قول أحد الصحابة أو بفعله إلا إذا لم يعلم له مخالف ، أما إذا كان ثَّمَ مخالف فإنه لا يؤخذ بقوله بل ينظر في الدلائل وقد ذكرت هذا الضابط وصلته بالمحكم والمتشابه في أحد الدروس العامة وكان بعنوان (قواعد القواعد) ويَحسُن الرجوع إليه لأن فيه تأصيلات للمنهج .
ما هو العلم الظني والعلم اليقيني ؟
العلم الظني ما يكون العلم به راجح لكن لا تتيقنه ، بعبارة العصر ليس مائة في المائة أن الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال هذه ، لكن نقول تسعين في المائة وغالب الظن أنه قالها لأن الإسناد صحَّ ونحو ذلك ، هذا قصدهم بالعلم الظني ، والعلم اليقيني ما نقول مائة في المائة قاله ، يعبر عنه بعض العلماء بما يصح التطليق عليه ، إذا صح أنك تطلِق مثلاً يقول قائل زوجته طالق إن لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ، هذا يكون عنده يقين والظني ما لا يكون عنده بهذه المثابة ، لكن هذه كلها من أقوال الخلف أما السلف فليس عندهم مثل هذه الألفاظ .
ما الحكم في من زعم أن هنالك بدعةً حسنة وبدعةً سيئة ؟(33/278)
وأول من قال بتقسيم البدع فيما أعلم إلى حسنة وسيئة الفقيه أبو محمد العز بن عبدالسلام هو الذي قسمها وتتابع الناس على هذا ولا شك أن هذا من المحدثات ومن البدع لأن الصحابة رضوان الله عليهم نفوا البدع جميعاً وقوله عليه الصلاة والسلام (كل بدعةٍ ضلالة) ينفي ذلك ، وقد رد الأئمة على هذا القول .
يقول ذكر بعض المتكلمين - يقول القائل دكتور في جامعة الإمام - أنه ينبغي أن لا يفهم الإسلام من خلال دعوةٍ من الدعوات ، أو حركةٍ من الحركات ، كدعوة الوهابية أو دعوة الإخوان المسلمين أو غيرها من الدعوات ، فما رأيكم في هذا القول ؟
الجواب بما سمعتم ، يظهر أن الدعوات و الانتساب إلى الأسماء هذا يوزن بالأصول التي ذكرنا وكما قيل :
وليلى لا تقر لهم بذاك وكلٌ يدعي وصلاً بليلى
لا شك أنه من الشرف العظيم أن يرفع الإنسان نفسه بالانتساب إلى الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح ، لكن الكلام على البرهان هل هو متبعٌ لطريقتهم أم لا ، والدعوات منها دعواتٌ شهد الجميع بأنها على الحق والهدى وعلى طريقة السلف الصالح مثل دعوة الإمام المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله تعالى - فإنها بشهادة الخصوم أنها دعوةٌ لتحقيق توحيد الله جل وعلا وهي على ميراث النبوة ، على مثل ما دعا عليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، وهذا أمرٌ ظاهرٌ بين وقد اتبع فيها طريقة السلف الصالح في القول والعمل و الاعتقاد وفي العلاقات ونحو ذلك وجمع فيها بين الفقه والعلم والبصيرة رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، ولا يُعلم دعوة من وقته إلى هذا الزمن قاربت دعوته في الدعوة إلى ما دعا إليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، إلا من كان متأثراً بدعوته ، أما الدعوات الأخرى ففيها وفيها وأكثر أمورها على خلاف طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم .
هل يبدع المخالف لإجماع السلف ؟(33/279)
لا شك من خالف إجماع السلف فهو متوعَدْ ، هو يُبَدَع لأن الله جل وعلا قال ?وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا? .
ذكرت مما أُحدِثَ في زمن عثمان تزيين المصاحف ، هل هذا يعتبر سنة الخلفاء ولم يعارض ؟
أنا أظن يريد المساجد ، أنا ذكرت تزيين المساجد حيث هناك أحاديث في النهي عن تزيين المساجد ، نعم لاشك أنه هناك أحاديث في بيان أنه من أشراط الساعة تزيين المساجد و المباهاة في المساجد ونحو ذلك ، وقد قَرَّرَ أهل العلم أن ما جاء وصفه من الأعمال بأنه من أشراط الساعة فإنه لا يفيد ذماً أو مدحاً ، هذا من حيث التأصيل ، وتزويق المساجد سببٌ للإلهاء ، إلهاء المصلي ، حيث ينظر في الزخارف، ينظر في الكتابات ، ينظر في التخطيط فيلهيه عن صلاته ، هذا أمرٌ يُرغَب عنه وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام مرة فألهته عن صلاته ألهاه ما افترشه عن صلاته عليه الصلاة والسلام فأمر بإبعادها وأن يٌؤتى بامبجانية أبي جهم ، وقال إن خطوطها ألهتني عن صلاتي آنفا ، لهذا لم تزوق المساجد ، لكن في عهد عثمان جُصِّصَت يعني وضع لها الجِصْ ، تبييض فقط ، وما حصل تزيين المساجد بمعنى زخرفة المساجد إلا في عهد بني أمية في العهد الأخير عهد الوليد وما بعده ، وقد قال الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الناس إذا كانت مساكنهم على نحوٍ ما من التزيين وتبديجها و نحو ذلك فإنه ينبغي أن تكون المساجد على نحو المساكن حتى لا يَرْغَبْ الناس عن المساجد ويتعففوا من حضورها ، وهذا ظاهر لو تأملت في زمننا الحاضر لو جعلنا هذا المسجد على ما كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فرش بالحصباء - الحصب الحجارة - فإن كثيرين من أهل الترف قد لا يرغبون لأنهم يحتاجون إلى من يُرَغِبُهم ومع وجود هذه الآلات وهذه الفرش وهذا التيسير مع ذلك منهم من يكسل وهم الأكثرون ولهذا كان الفقهاء على بصيرة حينما قالوا تكون(33/280)
المساجد على نحو البيوت ، لا تزخرف زخرفة شديدة لكن من حيث الراحة تكون على نحو البيوت حتى يرغب الناس في المساجد ولا يرغبوا عنها .
يقول - هذا يتعلق بالشفاعة درس من السنة الماضية - يقول ذكر أهل السنة أن الشفاعات للرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثمان شفاعات خمسة منها ورد لها أدلة ولكن الثلاث الباقية ما هو دليلها حيث لم أجد لها أدلة والشفاعات هي : شفاعة في من تساوت حسناته وسيئاته وشفاعته في أهل المعاصي وغيرها ؟
ما أدري يعني يبدو اختلط عليه الأمر أو ما دقق ، على العموم دليل ما ذَكَر قوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، و قوله شفاعتي لأهل الكبائر يشمل من كان من أهل المعصية من أهل الكبيرة وكذلك من تساوت حسناته وسيئاته لأن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر كما قال جل وعلا ?إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ? فتُغفَر الصغيرة بشرط اجتناب الكبيرة ، والصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما إذا اجتُنبت الكبائر فـ (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) يدخل فيها الشفاعة لأهل الأعراف والشفاعة لأهل العصيان والشفاعة في قومٍ أمر بهم إلى النار أن يدخلوها أن لا يدخلوها وفي قومٍ دخلوا النار أن يخرجوا منها وهكذا ، والشفاعة لأهل الأعراف فيها بعض الأحاديث أيضاً الخاصة لكن نكتفي بهذا الحديث العام .
هذا يسأل عن نفس سؤال الأخ السابق عن زخرفة المساجد .
ما نقول بالزخرفة هي التي جاء فيها النهي - الزخرفة التي تلهي - أما تزيين المساجد بجعلها على نحو البيوت حتى يرى يرغب الناس فيها هذا من ما كان عليه الأمر الأول .
إذا نٌقِل الإجماع في العصور المتأخرة بعد القرون الثلاثة الأولى فهل يكون حجة لا يسع أحداً خلافه بحيث يصير إجماعاً قطعياً فإن كان كذلك فهذا لا ينضبط ؟
والإجماع عند المتأخرين لا ينضبط ولهذا قال الإمام أحمد من ادعى الإجماع فهو كاذب .(33/281)
هل الأحاديث الصحيحة الغير متواترة تعتبر العلم الظني أو العلم اليقيني ؟
ذكرنا الكلام عنه .
ما المقصود بالمصالح المرسلة ؟
ذكرناه .
هذا استفتاء في الجهاز الذي يقتل الحشرات الطائرة كالذباب والذي يعمل بالكهرباء يكثر في أماكن بيع الأطعمة ؟
ما عندي علم بجوابه كان في بالي أسأل المشايخ عنه من مدة لكن نسيت .
جاء كتاب من مَحَلَّهْ للمزني أنَ رجلاً قال ورب (يس) لا فعلت كذا ، فحنث ، قال المزني لا شيء عليه ومن قال يحنث فهو يقول إن القرآن مخلوق أو معناه، ما هي هذه العبارة ؟
(يس) - هذا إستشكالٌ جيد - (يس) حينما قال ورب (يس) هذه محتملة ، لأن (يس) قيل إنه من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى في أول سورة (يس) ?يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ? وكذلك (يس) اسم نبي من الأنبياء ?سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ? فمن أراد بقوله ورب (يس) النبي عليه الصلاة والسلام أو (يس) النبي فهذا أقسم بربوبية الله جل وعلا لمخلوق ، هذا واضح أنه حلف منعقد .(33/282)
المُزَنِي فيما نقل الأخ (ما أدري هل النقل دقيق أو لا) لكن في قوله ورب (يس) ، (يس) فُسِرت بأنه قرآن ، من أسماء القرآن ، كما هو معروف في الحروف المقطَّعة جميعاً (الم) من أسماء القرآن (ق) من أسماء القرآن منها (يس) هذه من أسماء القرآن ، وقوله ورب (يس) كأنه جُعِلَ هنا فَهِمْ منه أن الحالف برب (يس) حَلَفَ برب القرآن ، والقرآن ليس بمخلوق فكيف يكون له رب ، وهذا غير مفهوم عندي إذا كان على هذا النحو ، لأنه القرآن هو كلام الله جل وعلا وصفته وقول القائل ورب القرآن يحتمل أن يريد به الصفة ويحتمل أن يريد به - يعني القرآن الذي هو صفة الله جل وعلا - ويحتمل أن يريد أن القرآن مخلوق ، فيُمنَع منه لأجل هذا الإحتمال ،والأول أن يكون ورب القرآن يعني ورب الصفة بمعنى أنه جل وعلا صاحبها هذا جائز من جهة أنه ربٌ للصفة كقوله جل وعلا ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ? وهو رب العزة والعزة صفة من صفاته جل وعلا ، فيقال رب الرحمة بمعنى أنه جل وعلا صاحبها المتصف بها ، رب العزة بمعنى أنه جل وعلا المتصف بها .
رب القرآن بمعنى أنه المتصف به لكن مثل هذه الكلمة لا يسوغ أن تقال لأن هذه هي من كلمات من يقولون القرآن مخلوق ، فكأن المزني في وقته كان قول من يقول ورب (يس) رب القرآن ، يقولها من يعتقد أن القرآن مخلوق فلذلك نبه على ذلك رعاية للحال الذي كان في زمنه ، أما من جهة الأصل فإنه يقال رب القرآن بمعنى صاحبه أو بمعنى المتصف به الذي تكلم به جل وعلا ولكن هذا عند الإختيار لا يقال بل يُبتعد عنه لأن القرآن صفة الله جل وعلا والناس لا يعقلون من الربوبية إلا ربوبية المخلوق ، لا ربوبية الصفة بمعنى أنه المتصف بها .
ما هو اعتقاد الصوفية في المجانين ؟
اعتقاد الصوفية في المجانين ، واحد من الإخوان من السودان ولا من ... يجاوبنا ، هم يقولون :
عزيزاً على أبوابه يسجد العقل مجانين إلا أن سر جنونهم
لماذا جُنَّ ؟(33/283)
لأن عقله انصرف عن الفاني إلى الباقي ، فهو فيما يرى الفاني أنه مجنون لكن عقله مع الباقي جل وعلا ، ولهذا يعدونهم أولياء ، وعندهم أنَ المجنون يسمى مَجْذُوب يعني جُذِبَ عقله للحق جل وعلا فليس مجنوناً ولكنه جُذِبَ .
وهذا والعياذ بالله إعتقاد صار في كثيرين حتى الآن في كثير من البلاد في مصر و الشام وفي العراق وفي غيرها وفي السودان وفي أفريقيا يكثر وجود مثل هذا أنهم يعدون المجاذيب أولياء ، حتى ولو كانوا على أفحش الأمور ، ما دام أنه مجذوب فهو ولي .
وذكر الحافظ ابن حجر في كتاب (إنباء الغمر في التاريخ) أنَ أحد ولاة دمشق مر في موكبه - أحد السلاطين - مر في موكبه ، وكان ثم طريق ضيق بعض الشيء ، وكان أحد المجاذيب جالساً ، فلما مرَ الموكب قال هذا بصوتٍ مرتفع يا صاحب الرغيف ، فانذهل السلطان من هذه الكلمة والتفت إلى هذا المجذوب وأوقف المسير والتفت إليه ونزل وقال له ماذا تعني ؟
قال يا صاحب الرغيف ماذا فعل الرغيف البارحة ؟
كلمة جاءت هكذا ألقاها الشيطان في نفسه فانذهل ، هذا الوالي كان له قصة في الرغيف ما ادري خذا الرغيف عن أحد ، ما أدري وش قصة الرغيف هذه .
يقول فكان هذا المجذوب يدخل - يقول الحافظ ابن حجر - يدخل بيت السلطنة ويبصق في وجه السلطان والسلطان يتمسح ببصاقه .
هذا نوع من الاعتقاد الفاسد اللِي سبب انحراف في العقلية الإسلامية ، سبَب انحراف وصار هؤلاء هم الذين يتحكمون ويمشون ويعدون المجاذيب أولياء لله جل وعلا .
عصمة الأنبياء هل هي في كل شيء أم ماذا ؟(33/284)
مذاهب عند الناس ، لكن أهل السنة عندهم أن الأنبياء معصومون عن كبائر الذنوب وعن صغائر الذنوب التي لها صلةٌ بالتبليغ والرسالة وعمَا يشين من الذنوب الصغيرة فَيُجَوِزون لا يقولون إنها واقعة منهم ، يقولون قد يقع من الرسول أو من النبي بعض الذنوب الصغيرة لكن لا تكون لها مساس بالرسالة أو بالتبليغ أو بما يُشْتَرَطْ للنبوة ونحو ذلك ويؤيد ذلك قوله جل وعلا ، نقول ويدل على ذلك قوله جل وعلا ? إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ? فجعل له ذنباً والأشاعرة يقولون هم معصومون ، يقولون الأنبياء معصومون عن جميع الذنوب الكبيرة والصغيرة ، الأشاعرة يقولون حتى الأمراض يجوز عليهم اليسير منها وهذا ضلال واضح مصادم للنص ويقول صاحب عقيدتهم في منظومة له في عقائد الأشاعرة :
بغير نقصٍ كخفيفِ المرضِ وجائز في حقهم من عرضِ
يعني أنهم يجوز عليهم الأعراض منها الأمراض الخفيفة ، أين هم من قول النبي عليه الصلاة والسلام (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يُبتلى الرجل على قدر دينه) وقد دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه ، دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوعك وعكاً شديداً ، فقال يا رسول الله أئنك لتوعَكُ فقال أجل إني لأوعك كما يُوعك رجلان منكم) عليه الصلاة والسلام .
يقول قول فلان لفلان هذا الأمر من بركات مجيئك أو قدومك علينا هل في هذا اللفظ شيء ؟
البركة نوعان : بركة ذات وبركة عمل .
فبركة الذات للأنبياء وللرسل عليهم الصلاة والسلام .(33/285)
أما الصالحون فلهم بركة عمل يعني إذا عملوا خيراً ، دعوا إلى الله ، ذكَّروا ، وصلوا الصلة ، وصلوا الرحم ، أصلحوا ذات البين ، هذا يكون من بركات أعمالهم كما قال أحد الصحابة لمَا ضاع عقد عائشة - أظنه أسيد بن حضير - قال : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر يعني بركة العمل ، أما بركة الذات بمعنى يُتَمَسَح بهم ونحو ذلك فهذه ليست إلا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام .
كيف نرد على من قال إن عثمان رضي الله عنه أحرق الأحرف الستة مع أنَ الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما ثبت عند مسلم كان يطلب من الله أن يزيده من الأحرف حتى وصلت إلى سبعة أحرف إلى آخره ؟
هذا سؤالٌ معروف في القراءات ، والقراءة بالسبعة أحرف كانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام جائزة ، ليست واجبة أن تكون القراءة على سبعة أحرف ، وإنما نزل القرآن على سبعة أحرف توسعة من الله جل وعلا على هذه الأمة حتى تأتلف قلوبها ويأتلف العرب ويجتمعون على النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا كان على وجه الجواز ليس على وجه الوجوب ، فوقت الحاجة إليه انتهى فبقي ما تتحقق به مصلحة الإجتماع وهو أن يجتمعوا على حرفٍ واحد ، ولذلك عثمان أمرهم أن يكتبوا المصاحف على حرف قريش ، وكانت المصاحف غير منقوطة كما هو معلوم ، فبقيت بعض الأحرف السبعة فيما يحتمله رسم المصحف .1
قضايا كلية
ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ، وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.(33/286)
وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم علماً نافعاً وعملاً صالحاً وقلباً خاشعاً ، اللهم استعملنا فيما تحب وترضى ونعوذ بك من وجوه الردى .
هذه الجملة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذه العقيدة المباركة بيَّنَ فيها أصول مذهب أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي أنواع التعاملات مع الولاة ، ولاة الأمور الذين ولاهم الله جل وعلا على المسلمين .
وهذا الأصل وهو الأمر والنهي من الأحكام العملية ، وإدخاله في العقيدة جاء من جهة أن الفِرَقْ الضالة كالخوارج والرافضة والمعتزلة خالفوا في هذا الأصل وتركوا ما كانت عليه الجماعة الأولى ، فخالفت الخوارج طريقة الصحابة ، وخالفت الشيعة والرافضة طريقة الصحابة والتابعين في هذا الأصل وكذلك خالف المعتزلة أهل السنة في هذا الأصل .
فذَكَرَ شيخ الإسلام كغيره من أئمة الإسلام والسنة ، ذكروا مسألة الأمر والنهي لأنها من المسائل الكبيرة التي خالف فيها أهل السنة أهل الضلال .(33/287)
ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل العظيمة في الدين لأن الصلاح في الدين سببه الأمر والنهي والدعوة إلى الخير ، والفساد في الدين أو في حياة الناس سببه ترك ما توجبه الشريعة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لهذا صار من المسائل العظام وعده طائفة من أهل العلم من أصول الدين ومبانيه العظام .
قال شيخ الإسلام رحمه الله هنا: ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ - يعني ثم أهل السنة والجماعة مع هذه الأصول التي سلفت - يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ .
والأمر والنهي جاء في الكتاب وفي السنة في مواضع كثيرة منها قول الله جل وعلا ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ? ومنها قوله جل وعلا ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? ومنها قوله جل وعلا (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ومنها قول الله جل وعلا (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) والآيات في هذا الأصل كثيرة .(33/288)
ومن السنة قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وفيه أيضاً في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال (ما من نبي بعثه الله إلا كان له من أمته حواريون يستنون بسنته و يهدون بهديه ثم إنه تَخْلُفُ من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) وأيضاً كما جاء في السنن والمسند من حديث أبي بكر رضي الله عنه إذ خطب الناس فقال لهم (أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية فتضعونها في غير موضعها وهي قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? و إني سمعت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول : لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَ عن المنكر ولتأطرن السفيه أو قال على يد السفيه تأطرونه على الحق أطرا أو يوشك أن يعمهم الله بعقابٍ من عنده) أو كما جاء في الحديث . والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة يضيق المقام عن ذكرها وبسطها .
قد أجمعت الأمة أيضاً على هذا الأصل وهو وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذه الجملة لا شك أنها مهمة وتحتاج إلى تفصيل وبيان لأن شيخ الإسلام أجمل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله على ما توجبه الشريعة .
فهذه الكلمة هي التي فيها تفاصيل كثيرة ، تفاصيل أقوال أهل السنة وأهل العلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحن نذكر ذلك في مسائل حتى يكون أوضح للمقام .
" الأولى من تلك المسائل في تفسير كلمة المعروف والمنكر :
فإن المعروف في النصوص الذي جاء الأمر به هو ما عُرِفَ حسنه في الشرع .(33/289)
والمنكر ما عرف قبحه في الشرع .
وقال بعض أهل العلم المعروف إسمٌ جامع لكل ما يحبه الله جل وعلا ويرضاه من أمور الخير .
والمنكر إسمٌ جامع لكل ما يسخطه الله جل وعلا ويأباه من أمور الشر .
فدخل في المعروف الواجبات والمستحبات ، ودخل في المنكر المحرمات .
وأعظم المعروف توحيد الله جل جلاله ، وأبشع المنكر وأقبح المنكر وأردؤه الشرك بالله جل جلاله ولهذا قال أبو العالية في قول الله تعالى ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ? قال أمروا بتوحيد الله ونهوا عن الشرك .
وكل معروف في القرآن فهو التوحيد وكل منكر في القرآن فهو الشرك ، ذلك أن الطاعات وأبواب الخير كلها من فروع التوحيد ومن آثار التوحيد ، والمعاصي من آثار الشرك .
فلهذا أعظم ما يؤمر به التوحيد ويؤمر بفروعه ومسائله ومستلزماته من الطاعات وكذلك أعظم ما ينهى عنه وينكر الشرك بالله جل جلاله .
المعروف درجات والمنكر أيضاً درجات ولهذا كان من قواعد أهل السنة أن المعروف الذي يُطْلِبْ إذا تزاحم معروفان ما كان أعلى ، والمنكر الذي يُنْهى عنه إذا تزاحم منكران ما كان أعلى فتترك الأقل لما هو أعلى ، فتنكر الأعلى لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح ودرء المفاسد .
" المسألة الثانية حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفصيل الكلام على أحواله .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سمعت في النصوص مأمور به وهو واجب وهذا الوجوب هل هو وجوب عيني أم كفائي ؟
في المسألة تفصيل : وهو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب عيناً ، يجب على المعين إذا رآه كما جاء في الحديث (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع) الحديث ، فيجب على من رآه عيناً مع القدرة .
وإنكار المنكر له مراتبه هذه التي سيأتي بيانها ، و يجب إنكار المنكر على الأمة على وجه الكفاية.(33/290)
والمنكرات قسمان ، والواجبات قسمان :
واجبات يشترك في معرفتها الجميع ومنكرات يشترك في معرفة أنها منكرة جميع المسلمين .
مثاله في الواجبات : الصلاة والزكاة وصلة الأرحام وما شابه ذلك وقراءة القرآن .
ومثاله في المنكرات شرب الخمر والزنا والسرقة وأخذ الرشوة وشهادة الزور ونحو ذلك .
فهذا الذي يشترك في معرفته الجميع يجب الإنكار فيه على الجميع، لا يختص في الإنكار فيه لأهل العلم .
وأما ما كان من مسائل الإجتهاد ومن المسائل التي فيها أدلة وفيها بيان من أهل العلم لا يشترك في معرفتها الجميع وإنما تحتاج إلى بيان واستدلال ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا الخاصة أو إلا طلبة العلم وأهل العلم ، فهذه يُشْتَرَطُ فيها لمن أنكر العلم .
والمسائل التي يكون المورد فيها مورد اجتهاد فإن العلم فيها مَنُوطْ بأهل العلم الراسخين فيه .
وما كان من المسائل تتعلق بالفرد فإنه يكون الإنكار فيه بحسب علمه ، يعني إذا علم شيئاً أنكر بحسب العلم كما ذكر ذلك النووي وغيره .
فتفصيل المقام في هذا لا بد منه وهو أنه يُشْتَرَطُ لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العلم قبل الأمر والنهي ، لا يأمر ولا ينهى إلا عالم .
هناك مسائل العلم بها مشترك هذا يأمر بها كل أحد ، أي مسلم يجب عليه أن يأمر بالصلاة وأن ينهى عن الزنا لأن هذه مشتركة .
وأما المسائل الإجتهادية أو المسائل الخفية أو المسائل التي تحتاج إلى نظر ورعاية مصالح ونحو ذلك يعني من مسائل الإجتهاد فهذه لا بد فيها من علم ، لكن علم أهل العلم ، علم الراسخين فيه لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها .(33/291)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول (إنَ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب عليه أن يكون عالماً قبل أن يأمر وينهى وأن يكون متيقناً بحصول المصلحة في أمره ونهيه ودرء المفسدة ، فإن دخل في الأمر والنهي بظنٍ ولو كان ظناً راجحاً أثم لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
فهذه القاعدة أظنها مجمعاً عليها فيما ذكره شيخ الإسلام من أن الأمر والنهي المقصود منه تحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا كان الآمر والناهي على علمٍ بأن المصلحة من الأمر راجحة وأن المصلحة ستكون برجحان وأن المفسدة لن تكون عنده برجحان فإذا تيقن ذلك دخل في الأمر والنهي ولم يأثم ،وأما إذا كان مظنوناً يقول نقول هذا أو نعمل هذا العمل ننكر على فلان قد يكون معه مصلحة ، إذا قال ذلك يأثم لأنه لا بد فيه من التيقن لا بد فيه من العلم أما الظن فلا يُكتفى به.
فتحصل من هذه المسألة أن أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجملة واجب ، وقد يكون واجباً عينياً وقد يكون واجباً كفائياً إذا قام به طائفة من الناس كفى البقية ، والمسائل العامة العظيمة الأمر فيها والنهي يكون لأهل العلم لا يدخل فيه العامة أو من لم يكن راسخاً في العلم .
" المسألة الثالثة في قول شيخ الإسلام هنا على ما توجبه الشريعة :
فيه أن من أمر و نهى دون رعاية لأحكام الشريعة في الأمر والنهي فليس على طريقة أهل السنة فأهل السنة يأمرون وينهون على ما توجبه الشريعة لا على ما توجبه الأهواء أو الآراء فلا بد أن يكون عند الآمر والناهي معرفة بالحكم الشرعي ودليلاً يعتمده وإلا يكون أمر على غير ما توجبه الشريعة ، وهذا لأجل مخالفة الخوارج والرافضة والشيعة والمعتزلة في هذه المسألة .
وقوله على ما توجبه الشريعة أخرج طوائف :(33/292)
أخرج من ذكرنا لأن هؤلاء غلوا في الأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر حتى جعلوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على ولاة الجور و الولاة الذين يظلمون أو الفجار من الولاة ، جعلوا الخروج عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
انتهى الشريط السابع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثامن و العشرون
وقوله (عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) أخرج طوائف ، أخرج من ذكرنا لأن هؤلاء غلوا في الأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر حتى جعلوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على ولاة الجور والولاة الذين يظلمون أو الفجار من الولاة ، جعلوا الخروج عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذا من الغلو وهذا باطل مخالف لطريقة أهل السنة والجماعة .
ويقابل هؤلاء من ترك الأمر والنهي أصلاً كحال المتصوفة وحال الذين يرون القَدَرَ ماضياً في الناس فلا يحتاج إلى أمر ونهي .
وبسبب هؤلاء المتصوفة دخل أعداء الملة والدين وأعداء الإسلام بلاد الإسلام .
وقد يشابههم غيرهم ممن يتركون الأمر والنهي بحججٍ واهية .
فمن أسباب دخول الفرنجة ودخول الصليبين بلاد الإسلام كثرة المتصوفة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس ، فكثرة أولئك سببت دخول الصليبيين لأنهم أَقْعَدُوا الناس عن الأمر والنهي وأحبطوا في النفوس الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فعندنا طائفتان وأهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء .
قوم غلوا كالخوارج ومن شابههم ، وقوم جفوا وهم الصوفية ومن شابههم .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ يتطلب كما ذكرنا علماً و غَيْرَةً ، لابد أن يجتمع هذا وهذا .
فالعلم فات الخوارج والمعتزلة ومن شابههم ، والغَيْرَة على دين الله فاتت الصوفية ومن شابههم .(33/293)
فلا بد من علم صحيح ومن غَيْرَة فمن فاتته الغَيْرَة وكان عنده علم فإنه لن يأمر .
ومن كانت عنده غيرة وليس عنده علم بما توجبه الشريعة في الأمر والنهي أفسدته .
ومن جراء هذين الفريقين حصل الفساد وحصل إضعاف الشريعة في عصور الإسلام من أوائل الزمن إلى زمننا هذا .
فأناس دخلوا بغيرة دون علم ، وأناس علموا ولكن لم يغاروا على دين الله جل وعلا .
وهدى الله من تمسك بأصول أهل السنة فغاروا على حرمات الله وأمروا ونهوا لكن عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ فحققوا المصالح و درؤوا المفاسد .
" المسألة الرابعة في قوله عليه الصلاة والسلام (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)
هذا فيه الأمر بتغيير المنكر عند رؤيته (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) وفقه هذا الحديث مهم وذلك أن كلمة (رأى) فيه ، هذه جاءت بالشرط .
(من رأى منكم منكراً فليغيره) فعندنا :
" أولاً الشرط الذي جاء في الحديث وهو أنَّ شرط وجوب التغيير أن يكون ثَمَّ رؤية .
" والثاني المنكر .
" والثالث التغيير .
والمنكر تكلمنا عنه وهو ما عُلِم قُبحُه بالشرع ، أو أن مَثَارَتَهُ كانت بالشرع لا بمقتضى الهوى أو مقتضى ما يكون عن اجتهاد ناقصي العلم .
أولاً قوله (من رأى منكم منكراً) رأى هنا هي البصرية وليست العلمية ، ليس معنى رأى هنا عَلِمَ وإنما معناه رؤية البصر لأنه عداها إلى مفعول واحد .
فرأى إذا تعدت في النحو إلى مفعول واحد كانت رؤيةً بصرية (من رأى منكم منكراً) .
فتفسيرها بعَلِمَ ليس بصحيح .
فالرؤية هنا التي عُلِقَ عليها وجوب الإنكار هي الرؤية البصرية ،فيجب أن تنكر باليد فإن لم تستطع فباللسان إذا رأيت المنكر بعبينيك مع شرط القدرة .
أما إذا لم تره ولكن سمعته سماعاً محققاً كأن سمعت امراة تصرخ أو سمعت بسماع محقق رجل يراود امرأة أو سمعت سماعاً محققاً ملاهي ونحو ذلك فهذه وإن لم ترها تلحق بالرؤية .(33/294)
ألحقها أهل العلم بالرؤية لأنها متيقنة بحاسة السمع كتيقن المرئي بحاسة الرؤية .
وأما غير ذلك مما يُخبَرُ يه المرء فليس المجال فيه مجال إنكار ، وإنما يجب الإنكار على من رأى أو سمع سماعاً محققاً أما من أُخْبِرْ فمجاله مجال النصيحة .
والنصيحة غير الإنكار ، النصيحة باب والإنكار فصل منه .
يعني أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب من أبواب النصيحة .
النصيحة عامة ومن النصيحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فالنصيحة أوسع .
والأمر والنهي ما كان نصيحةٌ لها شروطها ولها أحوالها بما جاء في الشريعة .
والنصيحة هذه عامة كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، ثلاثاً ، قلنا لمن يا رسول الله - يعني - قال الصحابة لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم)
فالنصيحة عامة ، الدين كله نصيحة .
والنصيحة هذه لأئمة المسلمين ولعامتهم تشمل الأمر والنهي .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعض النصيحة لكن له شروط خاصة فهو كالمخصص من العام .
والتخصيص من العموم بشروطه ، هذا له أحكامه المعروفة .
فإذن ليست كل أحكام النصيحة جارية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليست كل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جارية على النصيحة بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصيحة لعباد الله ولأئمة المسلمين ولعامتهم ولكن بشروطه الشرعية .
o ومن الفروق بينهما أن النصيحة الأصل فيها السر .
النصيحة تكون سراً وتكون مُجملةً بدون تحديد ، هذا الأصل فيها كما قرَّره أهل العلم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون في بعض أحواله سراً ولكن الأصل فيه أن يكون علناً .
o الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون إذا رُؤِي المنكر أو سُمِع سماعاً محققاً ، والنصيحة تكون بأوسع من ذلك فيما إذا رُؤي أو سُمٍع أو أُبلِغتَهُ ، أو بلغك أنه حصل كذا وكذا .(33/295)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون فيما إذا حصل المنكر أمامك ، أما إذا حصل في غيبة عنك فإنه نعود إلى الأصل العام وهو النصيحة لأن النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام قيَّد وجوب الإنكار بقوله (من رأى منكم منكراً) ، فمن رأى وجب عليه ومن لم يرى بل سمع أو قيل له فلان حصل منه كذا وكذا أو الأمر الفلاني حصل فيه كذا وكذا فالمجال فيه مجال نصيحة .
o من الفروق أيضاً أن النصيحة تحتاج إلى تثبت واستفصال والأمر والنهي بما حصل أمامك فإنك متيقن منه ، يعني أن النصيحة لمن يحتاج النصيحة تكون بما علمته وتثبت منه وأما الأمر والنهي فهو لا بد فيه من اليقين كما قال شيخ الإسلام وغيره .
o من الفروق بينهما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعلق بالمنكر ، أن النهي عن المنكر يعني في حديث أبي سعيد هذا (من رأى منكم منكراً فليغيره) هذا متعلق بالمنكر ، وأما النصيحة فهي متعلقة بمن ينتفع من الأمر أو النهي عن المنكر .
فحديث أبي سعيد متعلق بالمنكر وليس فيه ذكر لفاعل المنكر ، قال (من رأى منكم منكراً فليغيره) ، يعني ليغير المنكر ، أما الواقع في المنكر فهذا يختلف الحال فيه .
مقامه يحتاج إلى تفصيل :
الحال الأولى أن يكون المُنكِر للذي رآه من أهل الحسبة ، يعني من نواب الوالي في الإنكار ، فهؤلاء حالهم غير حال عامة الناس ، فهذا لَهُ أن يعاقبه بتخويل السلطان لَهْ ، بتخويل ولي الأمر لَهْ ، لَهُ أن يعاقب برؤية المنكر ، إذا رأى الفاعل للمنكر له أن يعاقب بحسب ما جُعِل له من السلطة في ذلك.
أما عامة الناس ، يعني غير أهل الحسبة يعني مثل ما نقول الآن غير رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير الهئية ، فهؤلاء في حقهم لا بد أن يُفَرِّقُوا بين المنكر وبين فاعل المنكر .(33/296)
المنكر يجب إنكاره وفاعله - يعني من قام به المنكر - فهذا المقام فيه مقام نصيحة ?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? .
مثال ذلك إذا رأيت مع أحد المسلمين رأيت معه خمراً أو رأيت معه أمراً منكراً أو رأيته يمارس أمراً منكراً ، فإنكار المنكر بإزالته ، بتغييره باليد إن أمكن أو باللسان ، أما صاحب المنكر الواقع فيه فهذا تستعمل معه الرفق والأناة وما هو أنفع وأصلح له .
ولهذا قال العلماء إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُشترَطُ له ثلاثة شروط :
2 الأول قبل أن يأمر وينهى ، وذلك الشرط هو العلم .
2 والثاني حين يأمر وحين ينهى ، وذلك الشرط هو الرفق .
2 والثالث بعد أن يأمر وبعد أن ينهى وهو الصبر .
فثّمَّ ثلاثة شروط :
علم قبل ورفق مقارن وصبر بعده كما قال ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? فلا بد من الصبر بعد الأمر والنهي ، لأن الآمر والناهي يخالف ما يشتهيه الخلق ، أكثر الناس ولو كانوا من المسلمين تبع لأهوائهم ، فيحتاج من يأمر وينهى إلى الصبر ، ولا بد من رفق مقارِن فهذا رفق بمن عمل المُنْكَرْ .
والإنكار للمُنْكِرِ نفسه هذا لا بد فيه من قوة (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) ما يكون فيه مثل ما يقول أهل العصر مجاملة في المُنْكَرِ نفسه .
أما فيمن فعله فهذا تُهادِيْهْ وتدعوه بالتي هي أحسن .
رأيت معه شيء تكسر المنكر الذي معه أو تُقَطِعُهُ أو تحجز بينه وبينه بحسب ما تقتضيه المصلحة .
إذا كان كذلك فتعلق المُنْكَرْ بفاعل المُنْكَرْ يحتاج أيضاً إلى تفصيل :
ذلك أن المُنْكَرَ مع فاعله تارة يكون منفكاً وتارةً يكون ملازماً :(33/297)
فإن كان منفكاً بمعنى أن المعصية منفكة عن فاعلها أو المنكر منفك عن فاعله ، مثل ان تدخل على أحد - نسأل الله لنا وللمسلمين العافية والسلامة والهداية - تدخل على أحد فتجد أمامه كأس خمر أو تجد انه يسرق أو تجد أن أمامه صورة عارية ينظر إليها ونحو ذلك ، فهذه الجهة فيها منفكة لأن كاس الخمر منفصل عن من يريد أن يشربه .
الصورة العارية منفصلة عن من يريد أن يشاهدها .
والمال الذي يريد أن يسرقه منفصل عنه .
فهذا إنكار المنكر بأن تغير هذا الذي بين يديه - يعني المنكر - بيدك فإن لم تستطع فبلسانك بمعنى تحجزه عن ذلك باللسان ، أو تكسره بيدك إن كان ذلك بالامكان .
من كان مُريداً لإتيان هذا المنكر فهنا إذا كان منفكاً يكون معه النصيحة والرفق والأناة .
فالمُنْكَرُ نفسه لا تكن رفيقاً به ، وأما من وقع فيه فلا بد فيه من الرفق لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نُزِعَ من شيء إلا شانه) .
هذا بحسب تحقيق المصلحة فإن كانت المصلحة هنا هي أن تكون رفيقاً في إنكار المنكر ورفيقاً أيضاً في تعليم أو دعوة أو نصيحة من فعل هذا المنكر أو من يريد أن يواقعه فإن تحقيق المصلحة ودرء المفسدة في هذا المقام لابد منها ، ولكن الأصل أن الإنكار يكون بقوة إلا إذا كان ثَمَّ مفسدة ستكون فإنك تكون رفيقاً في الأمر والنهي وفي إنكار المنكر ، والإنكار على من واقعه .(33/298)
الحالة الثانية أن يكون المنكر ملازماً لصاحب المنكر مثل أن يكون حالقاً للحيته أو أن يكون مسبلاً لإزاره أو أن يكون لابساً لذهبٍ أو أن يكون سكراناً أو ما شابه ذلك ، فهذه فيها اختلاط المنكر بفاعله ، لا تستطيع أن تغير فتجعل الحليق ملتحياً ولا أن تجعل المسبل مُشَمِّراً ، هذا ليس مستطيع ، فيكون هنا الإنكار باللسان (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه) يكون الإنكار باليد لأهل الإختصاص ، لمن له ولاية أو باللسان ، هذا ما يكون هناك فرق بين الفاعل والمنكر ، فيكون هنا الرفق والأناة في الأمر والنهي .
في قوله عليه الصلاة والسلام هنا (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) عرفنا معنى رأى وأن الرؤية هنا بالبصر أو بالسماع المحقق ، أما إذا سمعت قيل قال هذا لا بد فيه من التثبت ثم النصيحة ، والنصيحة تكون سراً والأمر والنهي يكون بحسب الحال التي ذكرتها .
قال (فليغيره بيده) بل قبل (فليغيره بيده) (منكراً) هنا المنكر المراد هنا فيه ما عُلِم كما ذكرنا ما عُلِمَتْ نكارَتُهُ بالشريعة ، وهذا يدخل في صورتين :
" الصورة الأولى ما كان مُجمعاً عليه .
" والصورة الثانية ما كان مُختَلَفاً فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف ، فهذا يُنكَر .
ما أُجْمِعَ عليه ينكر وما اختُلٍف فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف أيضاً تنكره .
ما أُجْمِعَ عليه واضح مثل إنكار الزنا والسرقة والرشوة إلى آخره .
وما اختُلِف فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف هذا أيضاً يجب إنكاره .
وما اختُلِف فيه والخلاف فيه قوي هذا لا يُنْكَرْ ، بل لا يجوز إنكاره ولكن يُنَاَظُر فيه ويُجَادَلُ فيه ويبحث فيه .(33/299)
مثال ما كان الخلاف فيه ضعيفاً النبيذ الذي تبيحه بعض الحنفية ويبيحه بعض الأوائل أو العصير الذي اشتد وصار مسكراً يعني جلس ثلاثة أيام في حر ، هذا يكون مسكراً ، طائفة من أهل العلم يبيحونه ، أو إباحة الفوائد الربوية ، يعني إباحة الفوائد البنكية والعملات والفائدة أو المنفعة من وراء القرض أو تفصيل أنواع القروض بقروضٍ صناعية وقروضٍ استهلاكية ونحو ذلك ، هذه فيها خلاف .
ولكن الخلاف فيها عندنا ضعيف لأنه ليس حجة لمن خالف في هذه المسائل حجة واضحة فهذه تُنكَرْ ، تُلْحَقْ بالمسائل المجمع عليها ، ولا تدخل في قول من قال (لا إنكار في مسائل الخلاف) .
أما ما كان الخلاف فيه قوياً فهذا لا يُنكَرْ ، مثل قراءة الفاتحة في الصلاة ، فمن تركها مثلاً هذا الخلاف فيه قوي ، هل تجب في الصلاة على المأموم أم لا تجب ، يتحملها الإمام ، هذا الخلاف فيها قوي معروف ، مثل زكاة الحل ومثل إعفاء اللحية بعدم أخذ شيء منها أو بما زاد عن القبضة ونحو ذلك من المسائل .
هذه المسائل فيها خلاف ، واختلف فيها العلماء ومذاهب الأئمة فيها معروفة ونحو ذلك .
هذه المسائل الخلاف فيها قوي ، الباب فيها باب دعوة ومجادلة لا باب إنكار .
وبهذه المناسبة نُفَصِّل القول في مسألة من يقول (لا إنكار في مسائل الخلاف) ، وبما ذكرت يتبين لك أن هذا القول على إطلاقه غلط ، بل الصواب فيه أن تُفَصِّل القول في مسائل الخلاف ، وذلك أن نقول مسائل الخلاف تنقسم قسمين :
- مسائل الخلاف فيها ضعيف فهذه يُنكر فيها .
- ومسائل الخلاف فيها قوي فهذه لا إنكار في مسائل الخلاف فيها .
ولهذا قيَّد طائفة من أهل العلم قول من قال (لا إنكار في مسائل الخلاف) بما إذا كان الخلاف قوياً ، أما إذا كان الخلاف ضعيفاً فإنه يُنكَر ، وتشابهها عبارة قول من قال (لا إنكار في مسائل الإجتهاد) هذه غير مسائل الخلاف لأن مسائل الإجتهاد غير مسائل الخلاف .(33/300)
مسائل الإجتهاد التي اجتهد فيها أهل العلم في نازلة من النوازل .
نازلة من النوازل نزلت فاجتهد فيها العلماء ، قال طائفة كذا وقال طائفة كذا .
فمسائل الإجتهاد ما يكون الإجتهاد فيها في إلحاق النازلة بالنص ، ومسائل الخلاف ما كان الإجتهاد فيها راجعاً إلى فهم النص .
فإذا كان الفهم راجعاً إلى النص في مثل المسائل التي ذكرت لكم فهذه تسمى مسائل الخلاف .
لا إنكار في مسائل الخلاف التي خلافها قوي .
وأما مسائل الإجتهاد في إنكار فيها مطلقاً بدون تفصيل ، لأنه اجتهد ، ما دام أنه اجتهد في النازلة ليلحقها بالنصوص ولا نَصَّ فيها ، فهذه لا يُثَرِّبُ أحد المجتهدين على الآخر ولا ينكر عليه إلا إذا كان اجتهاده في مقابلة النص أو في مصادمة القواعد الشرعية على ما هو معلوم في أصول الفقه .
(فليغيره بيد) هنا أوجب تغيير المنكر ، وإيجابه هنا كما ذكرنا مشروط بـ :
1- علمه بأن هذا منكر .
2 - وأن المصلحة مُتَيَقَنَة ، يعني بشروطه .
إذا غلب على ظنه أن الإنكار لا ينفع ، مثلاً يغلب على ظنه أنه إذا أنكر على ....1
ولن يحصل ثَمَّ فائدة منه ، فهل يجب الإنكار أم لا يجب ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
- قالت طائفة يجب الإنكار لأنه هو الأصل ولا دليل يُخرِجْ هذه المسألة عن ذلك ، وهذا أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله وهو قول الأكثر من أهل العلم .
- والقول الثاني أن الرائي للمنكر إذا غلب على ظنه عدم الانتفاع بإنكاره فإنه يُسْتَحَبُ له أن يُنْكِر ولا يجب ، ومال إلى هذا فيما يُفْهَمُ من كلامه شيخ الإسلام ابن تيمية ، واسْتُدِلَ بهذا بل ذكر شيخ الإسلام دليلاً على ذلك بقوله جل وعلا ?فَذَكِّر إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى? قال معنى الآية إن نفعت الذكرى فذكر ، فأوجب التذكير ويدخل فيه الأمر والنهي إذا غلب على ظنه الانتفاع .
مفهوم الآية أنه إذا لم يغلب على ظنه الانتفاع فإنه لا يجب عليه ، ويكون الحال إذاً على الإستحباب .(33/301)
وهذا القول أظهر عندي وأصح وهو قول جماعة كثير من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم ويؤيده أن الصحابة رضوان الله عليهم دخلوا على ولاة بني أمية ودخلوا على بعض الأمراء في زمنهم فوجدوا عندهم منكرات فلم يُنْكِرُوا ، حُمِلَ على أنه غلب على ظنهم عدم الإنتفاع لأنه أولى من أن يُحْمَلَ على أنهم تركوا واجباً .
وإذا قلنا أنه لا يجب يبقى الاستحباب حمايةً للشريعة وصيانةً لهذا الواجب الشرعي وكما جاء في الحديث (إن بني إسرائيل أول ما دخلهم النقص كان الرجل يلقى الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وقعيده وشريبه) يعني أنه يأمره مرة و يترك ذلك فيبقى هذا على جهة الإستحباب دائماً إذا غلب على الظن أنه لا ينتفع في إنكار المنكر .
مثل ما ترى اليوم من وجود النساء كاشفات الوجه في المستشفيات أو في بعض الأسواق أو في المطارات أو في السيارات فإن هذا مُنْكَرْ لكن يغلب على الظن أن بعض ألئك النسوة لا ينتفعن بالإنكار.
فمن غلب على ظنه أن المرأة التي رآها على ذلك أنها لا تنتفع بالإنكار ، فإنه لا يجب عليه الإنكار ، بمعنى لا نُؤَثِمُهُ إن ترك .
وعمل أكثر أهل العلم على هذا ، ولكن قول أكثر أهل العلم كما ذكرنا هو بالإيجاب مطلقاً ، وتأثيم المسلمين فيه حرج سيما مع ظهور الدليل في قوله ?فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى? وما ذكرنا من عمل الصحابة وأهل العلم .
(فليغيره) هنا التغيير - أنا أطلت في شرح هذا الحديث لأن شيخ الإسلام في قوله (عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) يستحضر هذه المسائل كما فصلها في كتابه منهاج السنة وفي غيره من كتبه رحمه الله - .
(عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) هذه كلمة عظيمة تَمَيَّزَ بها أهل السنة عن غيرهم فلا بد من تفصيل المقام في ذلك .
......(33/302)
لا ، فرق بين هذا وهذا ، وذاك تَيَقُنٌ بأن المصلحة راجحة ، ولا يكفي أن يغلب على ظنه حصول المصلحة ، بل لا بد أن يتيقن أن المصلحة راجحة وأن المفسدة زائلة أو مهملة .
وتعلمون القاعدة المعروفة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) هذه لها ضابط :
وضابطها أن المصلحة والمفسدة إذا استوت عندك فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
إذا استوت هذه مصلحة وهذه مفسدة أو تقاربت فهنا نقول درء المفاسد مقدم .
وأما إذا كانت المصلحة راجحة والمفسدة قليلة مرجوحة ، ضعيفة ، فهنا لا نقول درء الفاسد مقدم على جلب المصالح ، بل تحصيل المصلحة راجح لأنه ما من مصلحة يُراد تحصيلها إلا وتكون مُخالِفَة لأهواء الخلق ، فلا بد أن يكون ثَمَّ نوع مفسدة ، مثل تأمر واحد يزعل عليك صحيح إنه بينفذ أو يَزُول المنكر لكن هو بيزعل وبيغضب أو نحو ذلك ، لكن لن تكون فتنة أو قطيعة رحم أو يكون هناك فساد أو اختلاف في القلوب لكن مجرد إنه يغضب أو يزعل أو نحو ذلك أو يتكلم عليك ، هذه نعم مفاسد لكنها لا تُقابَلُ بالمصلحة الراجحة .
فقول من يقول من أهل العلم وهي قاعدة صحيحة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فيما إذا تقاربت المصلحة والمفسدة أو تساوت المفسدة والمصلحة .
أما إذا كانت المصلحة راجحة بيقين والمفسدة مرجوحة وضعيفة جداً بيقين فإن هذا لا يُقال فيه (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) لأنه ما من مصلحةٍ يراد تحقيقها إلا ولا بد يحصل شيء من مفسدة بتحقيقها لأن الشريعة لم تأت على موافقة أهواء الخلق .
قوله (فليغيره) هذا اللفظ لا يساوي فليزله .
التغيير في الشرع لا يساوي الإزالة ، يدل عليه أنه قال (فإن لم يستطع) يعني أن يغير بيده (فليغيره بلسانه) .
(فإن لم يستطع فبلسانه) يعني فليغير المنكر بلسانه ، ومعلوم أن تغيير المنكر باللسان قد يكون معه إزالة وقد لا يكون .
قال (فإن لم يستطع فبقلبه) يعني فليغير المنكر بقلبه .(33/303)
فالتغيير قد يكون بإزالة وقد لا يكون ، وهذا من توسعة الله جل وعلا على هذه الأمة .
فيجب التغيير ولكن الإزالة لا تجب إلا إذا كانت مُستطاعة .
فقوله (فليغيره بيده) التغيير باليد يكون بإزالته ، والتغيير باللسان يكون بالإنكار ويُسمَّى مُغَيِّراً .
فمن أنكر منكراً بلسانه يكون قد غَيَّرْ .
والأمة إذا كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتغير المنكر باللسان لا تقره ولا تسكت على المنكر فإنها تكون مُغَيِّرَةً لا يلحقها الوعيد الذي جاء في قول الله جل وعلا ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ? إذا غَيَّرْ باللسان وذكر المنكر ونهى عنه فإن هذا يكفي ويحصل به التغيير إلا إذا استطاع اليد فإنه يكون مخاطباً بتغييره باليد .
من الأحكام التي في الحديث أن التغيير بالقلب له ضابط وهو أن يكره هذا المُنكر بقلبه ولا يرضى فعله ويترك المكان الذي فيه المنكر إن استطاع ، أو كانت المصلحة في ترك المكان .
فإذن التغيير بالقلب لا بد فيه :
o من كراهة المنكر ، هذا واحد ، البغض بغض المنكر .
o الثاني لا يرضى به وأن يمقته ، لا يرضى بحصوله .
o الثالث أن يفارق المكان إن كانت مفارقته راجحة من حيث المصلحة .
هذا بعض ما يتعلق بالأحكام المهمة في الحديث .
" المسألة الخامسة وهي مسألة مهمة تتعلق بالفرق بين نصيحة الولاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للولاة ، بل لعامة الناس .
النصيحة كما ذكرنا الأصل فيها أن تكون سراً والمنكر الأصل فيه أن يكون علناً .(33/304)
وقد جاء في بيان هذا الأصل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْدِهِ علانية ، وليأخذ بيده ، وليخلو به ، فإن قبل منه فذاك وإلا يكون قد أدَّى الذي عليه) وهذا الحديث إسناده قوي ، ولم يُصِبْ من ضعَّف إسناده وله شواهد كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ، ويؤيده ما جاء في صحيح البخاري (من أنهم أرادوا أن يُنْكِرَ أسامة بن زيد على عثمان ، فأسامة بن زيد لم يفعل وقال أما إني قد بذلته له سراً لا أكون فاتح باب شر) وهذا موافق لهذا الأصل وهو أنه ما يقع في ولاية السلطان في ولاية الوالي من مخالفات للشرع فهذا بابه النصيحة ، لأنها ما تعلقت به من جهة رؤيةٍ لفعله أو سماعٍ محقق له .
أما من رأى السلطان بنفسه يفعل منكراً فإنه مثل غيره يأمره وينهاه .
وأمر ونهي السلطان يكون عنده لا يكون بعيداً عنه لما جاء في الحديث (أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطانٍ جائر فأمره ونهاه فقتله)
فأمر ونهي السلطان يكون فيما رأيته منه بنفسك أو سمعته منه سماعاً محققاً ، سمعته منه بأذنك فتُنْكِر بحسب الإستطاعة ، بحسب القدرة بحسب ما يتيسر علناً أو غيرها .
أما النصيحة فهي ما يجري في ولايته .
وأهل العلم فرقوا في هذا المقام بما ذكرت لك، بين النصيحة بما يقع في الولاية وبين ما يكون منكراً يفعله السلطان بحضرة الناس .
وكثير من الحوادث والأدلة والأحاديث أنكر فيها الصحابة وأنكر فيها التابعون على ذوي السلطان علناً ، وكلها إذا تأملتها بدون استثناء يكون فيها الأمر أن المنكر فعله بحضرتهم ، رأوه منه أو سمعوه سماعاً محققاً منه .
مثل ما أنكر الرجل على مروان في تقديمه خطبة العيد على الصلاة ، فهذا شيء سُمِعَ منه ، ولو كان السلطان إذا فعل مُنْكَراً فإنه يُنْكَرْ عليه ، ولا يقال هنا سراً بل يُنْكَرْ عليه ولو كان بحضرة الناس بشرط أن يُؤمَنَ أن يكون ثمَّ فساد أعظم منه من مقتلة أو فتنة عظيمة أو نحو ذلك .(33/305)
وكذلك ما حصل من الإنكار على عمر في لبسه الثوبين .
وكذلك ما حصل من الإنكار على معاوية ، وأشباه ذلك كثير .
فإن باب النصيحة غير باب الإنكار .
باب الإنكار يكون برؤيةٍ ، سواء كانت رؤية المنكر من السلطان أم من عامة الناس .
إذا رأيته بنفسك .
أما باب النصيحة فما يقع في الولاية ، وتأمل في ذلك النصوص جميعاً ، وقد تأملتها رعايةً لتحقيق المقام في هذه المسألة المهمة وبراءةً للذمة ، ووجدت أن هذا الذي ذكرت لك مُنْضَبِطْ كما قال أهل العلم ، كما ذكر ذلك مُحَقَقَاً ابن رجب في شرحه لحديث (من رأى منكم منكراً) وكما ذكره ابن النَّحاس في كتابه (تنبيه الغافلين) بل قد قال ابن عباس رضي الله عنهما (لا تأمر السلطان ولا تنهاه عن منكر إلا فيما بينك وبينه) رواه عنه عبدالرزاق بإسناد صحيح .
وكلام السلف إذا تأملته يدور على هذا الفرق ما بين النصيحة وما بين الإنكار .
فباب الإنكار شيء وباب النصيحة شيء .
الإنكار بقيده برؤيةٍ ممن فعل أو سماع محقق ، وتلحظ أن الإنكار يكون بحسب التفصيل الذي ذكرنا من انفكاك المعصية أو ملازمتها .
" المسألة السادسة في هذا الباب المهم أن الأمر والنهي يجب على العين أو على الكفاية بشرط أن يأمن أن يُؤْذَى أذىً لا يناسبه .
يأمن أن يُقْتَل أو يأمن أن يُضْرَبْ أو يُجْلَدْ أو يُسْجَنْ ، فإن خاف على نفسه القتل أو السجن أو خاف على نفسه قطع الرِزق ونحو ذلك فإنه لا يجب عليه ، يبقى باب بالاستحباب وهذا نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى (يُشْتَرَط في الوجوب أن يأمن على نفسه ، فإن خشي فتنةً فإنه لا يجب عليه بل يُسْتَحَب إن قوي على البلاء) وليس كل أحد يقوى على البلاء .
وليس من الإيذاء الذي يُسْقِطُ وجوب الأمر والنهي السب أو الشتم أو إشاعة الإشاعات الباطلة على الآمر الناهي ، هذا لا يعذر به .(33/306)
يجب عليه أن يأمر وينهى ولو قيل في عرضه ما قيل ، إلا إذا كان ثَمَّ إيذاء لا يتحمله في نفسه أو في رزقه أو ما شابه ذلك .
" المسألة السابعة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يحصل في هذه الأزمان في بعض البلاد من قتلٍ أو تفجيرٍ أو نحو ذلك ، أو خروج على ولاة الكفر أو على الدول الكافرة هذه المسألة مهمة.
ومسألة الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نعلم فيها أن الخروج على أئمة المسلمين ما دام أن أصل الإسلام باقي لم يرتد عن الإسلام فإنه لا يجوز الخروج عليهم ولا الإعانة بالخروج عليهم ولا التثبيط عنهم .
هذا أصل عند أهل السنة والجماعة كما هو معلوم ويأتي تفصيله في الجملة التي تأتي بعدها .
وأما دول الكفر أو ولاة الكفر فإن الخروج عليهم جائز ، لكن جوازه مع القدرة وتحصيل المصلحة ودرء المفسدة .
والمصلحة والمفسدة في ذلك مَنُوطَةٌ بقول الراسخين في العلم كما ذكرنا في أول الكلام ، ليست منوطة باجتهاد المجتهد .
ولهذا ذكرنا لكم من كلام شيخ الإسلام أنَّ من دَخَلَ في هذا الأمر غير مُتَيِقِّنٍ أن المصلحة ستكون وتزول ويكون بعد المنكر خير فإنه لا يجوز له ذلك .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن مراتب إنكار المُنْكَر أربعة :
" الأولى منها أن يُنْكِر المُنْكَر فيزول و يَخْلُفُهُ الخير ، وهذه مشروعة وهي المطلوب الأعظم .
" المرتبة الثانية منها أن يُنْكِر المُنْكَر ويَخِفْ ، يقل المُنْكَر و لا يزول ، لكن يقل .
" والثالثة أن يزول المُنْكَر ويحصل منكر آخر مساوٍ له .
" والرابعة أن يزول المُنْكَر ويحصل منكر أنكر منه .
الأولى والثانية شرعيتان والثالثة محل اجتهاد والرابعة لا تجوز باتفاق .(33/307)
فما يحصل من أمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتفجيرٍ ونحوه في بعض البلاد هذا في عمل أصحابه يقولون : إنه فيه تحقيق مصلحة ، و هذا فيه إنكار منكر ، ولا يشترط في إنكار المنكر عندهم الشروط التي ذكرنا ، فيقولون فيه تحقيق مصلحة وفيه درء مفاسد ونحو ذلك .
فنقول هنا إن قاعدة أهل السنة أن تحصيل المصلحة في هذه المسائل ودرء المفسدة منُوطةٌ باجتهاد أهل العلم ، لأن هذه مسائل متعلقة بالعامة ، وهي إنكار سيسبب قتلاً ويسبب أذىً على غيره ، والمنكر إذا كان إنكاره يسبب أذىً على غيره لم يَجُزْ أن يِنْكِرَهُ إلا برضى الآخرين لأنه قد تعلق بهم
وأما إذا كان الإنكار ، إذا أنكر سيناله الأذى على نفسه فقط ، مثل من يقوم إلى سلطانٍ جائر فيأمره وينهاه ، فيقتله ، فنقول لا بأس إذا رضيت بذلك لنفسك فلا بأس بذلك ، وهذا خير الشهداء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام .
أما إذا أنكر سيُؤْذى غيره من النساء أو ستنتهك أعراض أو سيُؤْذى غيره من الناس ويُسْجَن فيكون هناك بلاء فإنه لا يجوز الإنكار باتفاق أهل العلم .
فإذا كان الإنكار بمثل هذه المسائل فإنه لا يجوز باتفاق أهل العلم لأنه قد تعدى الضرر ، وإذا تعدى الضرر فإنه لا يجوز إنكاره بمثل هذه التي فيها الإنكار بأبلغ ما يكون من أنواع الإنكار باليد .
فتحصَّلْنَا من ذلك أنَّ المصلحة والمفسدة منوطة بفهم بأهل العلم ، وأنَّ أهل العلم هم الذين يقدرون المصالح والمفاسد .
فلا يجوز لأحد أن يدخل في مثل هذه المسائل أصلاً إلا بفتوىً من أهل العلم ، وأهل العلم لا يُفتون في هذه الأمور بالجواز لأن تحريمها معلومٌ من أصول الشريعة لتَعَدِّي الضرر ولأن مفسدتها أعظم بكثير من المصالح التي تظن .
بل كثير من أبواب الخير وكثير من الأذى نال بسبب عمل من لم يأمر وينهى عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ ، والعباد يُؤاخذون بذنوبهم .(33/308)
المقام يحتاج إلى أيضاً تفصيلات في هذه المسائل لكن لعلنا نكتفي بذلك ، وتنظرون كتب أهل العلم في هذا وتجمعون الضوابط ، لأن من نفائس العلم معرفة الضوابط ، ضابط هذا الحكم ، لا تكن تأخذ المسائل بإجمال ، أو تكن عاطفتك في بعض المسائل غالبة على علمك .
لا بد أن يكون هناك غيرة وعلم متوازنة خاصة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يتحقق طريق ونهج أهل السنة والجماعة فيما ذكر شيخ الإسلام هنا في قوله (ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) .
نكتفي بهذا القدر وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الفقه في الدين والانتفاع بكلام أهل العلم .
قال ذكرتم أثناء الشرح انه لا يُنْكَر على المجتهد ، فهل إذا اجتهد أي أحد لا ينكر عليه ؟
لا ، المجتهد المراد أنه لا يُنْكَر عليه الذي هو من أهل العلم ممن يجوز له الاجتهاد ، أما إذا اجتهد جاهل أو شبيه الجاهل أو من ليس من أهل الاجتهاد فلا يجوز له أن يجتهد أصلاً فيُنْكَر عليه اجتهاده في مقابلة اجتهاد أهل العلم .
......
لا هذا غير صحيح إلا إذا أراد بمسائل الاجتهاد ما يدخل في فهم النصوص ، هذا يرجع إلى الأول .
ما رأيك في هذه القواعد في إقامة الحجة في التكفير والتبديع ؟(33/309)
ما أَحَبِذْ سؤال عن الرأي لأن الرأي مذموم ، ويُسْأَل عن هذه القواعد هل هي صحيحة أم لا حسب ما يقتضيه العلم ، أما الآراء لا يُسأَل الواحد عن رأيه ، أنا رأيي لنفسي ، لكن للناس ما نذكُرُ لهم إلا ما يقتضيه العلم الذي عليه كلام أهله أو ما بيَّنَهُ أهل العلم من دلالات النصوص ، أما الرأي ما يذكر العالم رأيه ، يذكر فقهه في النصوص ، فهمه لكلام أهل العلم ، نعم ، لأن العلماء إنما هم أدوات ، العلماء وسطاء في إيصال معاني النصوص للناس ، هذه وظيفة العالم وهي خير وظيفة وأعظم وظيفة أن تُبَيِّنَ للناس معاني الكتاب والسنة ، ليس مكان العالم عندنا أن يذكر آراءَهُ ، الرأي لا قيمة له ، إلا أن يُعْمِلَ فهمه في فقه النصوص ويستنير بأقوال أهل العلم نعم ، أما الرأي المجرد والاستحسان وأرى كذا وهذا أحسن ، ترجيحات ونحو ذلك فهذا لا قيمة لها ، العلم قال الله وقال رسوله ، قال اصحابة هم أولو العرفان ، مثل ما قال ابن القيم أيضاً رحمه الله :
من رابع و الحق ذو تبيان و العلم أقسامٌ ثلاثٌ ما لها
وكذلك الأسماء للديان علمٌ بأوصاف الإله ونعته
و جزاؤه يوم المعاد الثاني و الأمر والنهي الذي هو دينه
جاءت عن المبعوث بالفرقآن والكل في القرآن والسنن التي
بسواهما إلا من الهذيان والله ما قال امرؤٌ متحذلقٌ
أعظم ما ينعم الله جل وعلا به على طالب العلم أن يعتني بكلام أهل العلم في فهمهم للنصوص ، يعتني بتصوير المسائل ، وفهمها ، وأحكام أهل العلم ، ويربط ذلك دائماً بالنص ، هذه من أعظم ما يكون من الفوائد .
المقصود قال هذه القواعد لإقامة الحجة في التكفير والتبديع :
- أولاً قولٌ وفعلٌ كفر ويكفر صاحبه من غير إقامة حجة مثل سب الله وسب الرسول .
- قولٌ وفعلٌ كفر ولا يكفر صاحبه إلا بعد إقامة الحجة عليه ، وإنما يبدع مثل تأويل الصفات .
- قول وفعل لازمه البدعة ولا يبدع صاحبه إلا بعد إقامة الحجة عليه مثل الموالد .(33/310)
- خلاف أفهام مبني على الأدلة مثل صلاة التراويح وغيرها ليس فيه تبديع ولا تكفير .
مثل هذا التفصيل أو مثل هذا التقعيد لا يَحْسُنْ أن يخوض فيه طلاب العلم في أجناسه ، بسبب أن مثل هذه التقعيدات سواءً فيما ذكر أو في غيرها تكون مبنية على الواقع ، والتقعيد أعمْ من رؤية الواقع ، يعني بعض المُقَعِّدِين ينظر إلى الواقع فيستخلص الأحوال ويقسمها بحسب ما عنده من الرأي أو ما عند طائفته من الرأي ، ثم بعد ذلك يقَسِّم على حسب الواقع الذي في زمنه ، مثل من يشاهد في زمن معين الحال كذا وكذا وكذا يقول نقسمهم حتى يكون رأيه صواباً ، هذا ليس مقتضى العلم ، مقتضى العلم أن تنظر إلى ما دلت عليه النصوص وكلام أهل العلم قبل حصول هذا الواقع المعين ثم تنزل كلام أهل العلم في فهمهم للنصوص على الواقع ، لا أن تجعل الواقع هو الأصل ثم تحمل الكلام والتقسيمات عليه ، هذا لا يسوغ لأنه تَعَدٍ ، ولهذا نقول نفهم كلام أهل العلم وتقعيداتهم وننزله على الواقع ، أما كثرة التقسيمات فيما ذكر فلا أفهم أنها قواعد .
يقول عند النظر إلى بعض الدول الإسلامية نجد أن الأحداث التي تصلنا عن طريق الوسائل الإعلامية ، أن هناك من الجماعات الإسلامية من يتبنى منهج العنف ، أو قَصْدْ العنف بالسلاح والتفجير فهل صحيح أن هذه الأفعال تتبناها الجماعات الإسلامية ؟ وإذا كان صحيحاً فهل يصح أن تطلق على هذه الجماعة جماعة إسلامية ؟(33/311)
هو الجماعة الإسلامية بحسب الاسم ، هم يسمون أنفسهم الجماعة الإسلامية ، مثل ما في مصر أو غيرها ، أو الجبهة مثلاً في الجزائر أو نحو ذلك ، هذه أسماء لم يطلقها الناس عليهم وإنما هم سمَّوا أنفسهم بتلك الأسماء ، و يُنْظَر في تلك الأفعال بحسب الأحكام الشرعية ، هم عندهم مخالفات في فهم مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، البحث معهم في الأمر والنهي وأصوله الشرعية وكلام أهل السنة فيه والمصلحة والمفسدة والقواعد المرعية في ذلك والرجوع إلى الراسخين في العلم فيه .
يقول كيف الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام (أفضل كلمة حق قيلت عند سلطان جائر أو كما قال) وبين دخول بعض الصحابة على حكام بني أمية وعدم إنكارهم عليهم ؟(33/312)
ولاة بني أمية - أحسن من أن يقال حكام ، نقول الولاة - ، ولاة بني أمية فيهم معاوية رضي الله عنه وأرضاه وهو ملكٌ خليفة وخير ملوك الأرض ، والصحابة رضوان الله عليهم خالطوا ، والولاة في الزمن الماضي وفي كل زمن لا شك أنهم عندهم حماية بولايتهم ، معاوية رضي الله عنه كان شديداً في أمر الولاية ، كان لا يتكلم الصحابة في حضرته لأنه كان له حق في ذلك ، وكان لا يرضى أن يتكلم أحد إلا بإذنه ، ومن الحوادث التي كانت في ذلك ذكرها المؤرخون وهي ثابتة أن أحد الصحابة كان في الكوفية ، أظنه حجر بن عدي ، أو عدي بن حجر (كيف وحجرٌ على الطريق) أظنه حجر بن عدي ، تكلم هو ومعه أصحابه في أمير الكوفة وأنكروا عليه مرة وهو يتكلم ونالوا منه فأمر معاوية أن يُبعثوا إليه ، وكان حجر هذا أحد الصحابة وأحد الفقهاء أو العباد منهم فأتى إلى الشام وهو في سبعة عشر نفراً من أصحابه ، فلما كانوا على مقربة من دمشق أرسل لهم معاوية جنداً من جنده فقتلوهم جميعاً ، ولما كانت بيعة يزيد بن معاوية قال للصحابة ، قال لأنس وابن عمر فيما أحسب أو لغيرهما ، قال إن أردتما الكلام فتقدما فإذا تكلمت فلا يتكلمن أحد بعدي ، فقالا ليس عندنا كلام ، فقام على المنبر معاوية رضي الله عنه وقال أيها الناس إني عقدت البيعة وولاية العهد لابني يزيد بن معاوية فقوموا فبايعوه ، وهؤلاء صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حاضرون ، يعني ينبئ بذلك على أنهم مقرون بذلك ، فقام الناس فبايعوا فما استطاع الصحابة أن يتكلموا في ذلك وإلا فيزيد ليس بذي حق في ولاية العهد ، ونحو ذلك لما جاء الأحنف بن قيس إلى معاوية رضي الله عنه وكان في مجلسه وقد غصَّ المجلس بالناس ، ومعروف أن الأحنف رئيس قبيلة وكان حكيماً من حكماء العرب ، فصاح معاوية فقال يا أحنف ما تقول في بيعتنا ليزيد ، الأحنف أُحْرِجْ فأسر لمعاوية بينه وبينه فقال يا أمير المؤمنين ، فيما بينه وبينه ، الناس لا(33/313)
يسمعون ، نخاف الله إن كذبنا ونخافك إن صدقنا ، نخاف الله إن كذبنا وقلنا إنه أهل ونخافك إن صدقنا فقلنا ليس بأهل ، هذا بينه وبينه ، معاوية رضي الله عنه استغل هذا فصاح في الناس قائلاً جزاك الله خيراً عن الطاعة يا أحنف ، أوهم أنه يقول إنها نعم البيعة ، ومضت المسألة .
فمسائل الولاة وما يتعلق بها وأمراء المؤمنين في الزمن الأول إلى الزمن الحاضر ينبغي لطلبة العلم أن يعتنوا بها وأن يقرؤوا التاريخ حتى يكون عندهم فقه كيف عامل العلماء الولاة في كل زمن و ما الذي يحصل من الولاة ونحو ذلك حتى تحصل المصالح وتُدْرَءْ المفاسد ، لأن تحصيل المصالح ودرء المفاسد أمر عظيم وقاعدة من قواعد الشريعة ولها ولا بد من رعاية و النظر في سبر الأولين ، فالصحابة رضوان الله عليهم خالطوا ولاة بني أمية ولم ينكروا عليهم إما لظنهم بأن الإنكار لا ينفع أو لخوفهم أو لضعفهم أو نحو ذلك مما يُوَجَّه به فعله ، قد تكون هناك مسائل إجتهادية بعضهم يراها منكراً وهي مسألة إجتهادية ، والمسائل الإجتهادية لولي الأمر أن يجتهد فيها أو الوالي أن يجتهد فيها ولا تكون من باب الإنكار .
أرجو التفريق بين المصالح والمفاسد والانتفاع وعدم الانتفاع ؟
المصلحة معروفة والمفسدة معروفة .
المصالح جمع مصلحة ، والمصلحة هي ما أُمِرَ به في الشرع وكان فيه أداء حق الله أو أداء حق العباد.
والمصالح راجعة إلى تحصيل حق الله جل وعلا أو تحصيل حق العباد أو هما معاً .
والمفاسد ضدها ، ما كان فيه تعطيل لحق الله جل وعلا أو تعطيل لحق العباد أو جرأة على حق الله أو على حق العباد .
فهذا وهذا متقابلان ، المصلحة تقابلها المفسدة .
الانتفاع وعدم الانتفاع يعني يغلب على ظنه أن ينتفع المُنْكَر عليه بالانكار ، يعني يستجيب ، ينتفع ، قلبه يصلح ، ينتهي عن المنكر ونحو ذلك .(33/314)
عدم الانتفاع يغلب على ظنه أنه سمع هذا الكلام مراراً ، يعرف أن هذه محرمة ، يعرف أنه لا يجوز يفعل هذا الفعل ولن يتأثر ، قلت له أو ما قلت واحد عنده لكثرة ما ورد عليه ، مثل ما يحصل الآن مثل الإنكار على حالق اللحية يعرفون حلق اللحية محرم أو على تارك صلاة الجماعة يعرفون أن ترك صلاة الجماعة محرم وبعضهم يكون مُسْتَمْرِئْ لذلك ، أو مثل كشف بعض النساء خاصةً من ليست من أهل هذه البلاد ، تكشف وجهها ونحو ذلك ، عندها الأمر سيان ، فمثل هذه هي التي يقال فيها ينتفع بمعنى يستفيد فيترك يُحَصِّلْ الخير ويترك الشر ، أو لا ينتفع بمعنى أن واحد عنده هذا أو هذا.
يقول ما الضابط في الخلاف الضعيف والقوي وقد يكون الخلاف عند شخص قوي وعند آخر ضعيفاً ؟
إذا كان الخلاف عندك قوياً فلا تُنْكِر وإذا كان الخلاف عندك ضعيفاً فأنْكِرْ ، فبحسب ظن المكلف ، بحسب ما بينه وبين ربه جل وعلا ، يعني هذا بشرط أن يكون متأهلاً للنظر في المسائل الخلافية .
نخشى الإطالة عليكم ، نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.
وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ :"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.(33/315)
وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا"، وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا.
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا الفصل الذي ابتدأه شيخ الإسلام بالكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما تلا ذلك من المسائل شمل قسمين من الأقسام التي يُدْخِلُها جَمْعٌ من أهل السنة في العقيدة .
وهذان القسمان هنا هما :
- منهج التعامل
- والثاني الأخلاق
أو ما يسمى المنهج بعامة ، حيث إنهم خالفوا طُرُقَ أهل الضلال في سلوكهم في أنفسهم وفي سلوكهم مع غيرهم فاتبعوا في ذلك نصوص الكتاب السنة واقتفوا أثر الرعيل الأول .(33/316)
وهذا هو الذي سمَّاهُ بعض المعاصرين المواجهة ، فكلمة التعامل أو طريقة المواجهة أو طريقة الدعوة أو الأخلاق وما شابه هذه الألفاظ وما دلَّ عليها من المعاني هذه كلها داخلة في عقيدة أهل السنة.
فالعقيدة كما مر معك من أول الكتاب إلى هذا الموطن اشتملت على مباحث متنوعة :
منها مباحث أصلية في شرح أركان الإيمان الستة .
ومنا متممات لذلك كما مر معنا .
ومنها الكلام على منهج التلقي والاحتجاج بما يكون وهو الذي مرَّ معنا في الفصل السابق حيث تكلم عن النصوص والتسليم لها والإجماع وحجية ذلك ، وما ينضبط به الأمر وما يتصل بهذه المسائل .
في هذا الفصل يتكلم الإمام رحمه الله تعالى عن أصول مسائل التعامل وهي من عقيدة أهل السنة والجماعة ، فعقيدة أهل السنة والجماعة أَتْباعْ السلف الصالح فيها طريقتهم في التعامل مع الخلق ، مع المسلمين ومع منافقين ومع الكافرين ، وكذلك في أصناف المسلمين تعاملهم مع ولاتهم ، تعاملهم مع علمائهم ، تعاملهم مع خاصة المسلمين و أتقيائهم ، وتعاملهم مع بقية أهل الإسلام من المطيعين ، وتعاملهم مع عصاة أهل الإسلام .
فهذه الأنواع من أصناف الناس كلها لأهل السنة والجماعة ضوابط في مواجهتهم وأمرهم ونهيهم وما ينضبط به الأمر ، لأن هذه المسائل دخل فيها أهل الابتداع وأهل الضلال من الخوارج والمعتزلة والرافضة ومن شابههم من الفرق القديمة والحديثة ، دخلوا فيها بأهوائهم ، فكان من مميزات أهل السنة والجماعة أن لهم منهجاً واضحاً في التعامل مع الخَلْقْ ، التعامل مع الناس ، وهذا من صلب العقيدة ، ودليل ذلك ظاهر في كتب أهل السنة القديمة والحديثة والمتوسطة ككتاب شيخ الإسلام العقيدة الواسطية وغيره .(33/317)
فإذن هذه المسائل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحج مع الأمراء والجهاد مع الأمراء والجُمَعْ والجماعات مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً والمحافظة على الجُمَعْ والجماعات والدَّيْنُونَةْ للأمة بالنصيحة وما شابه ذلك هذه كلها منهج لأهل السنة والجماعة تميزوا به عن غيرهم .
ومسائل الأمر والنهي سبق تفصيلها فيما مضى .
وذكر بعدها ما يتعلق بالأمراء وولاة الأمر
قال (وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا)
هذه هي السُنَّةُ الماضية فإنَّ فالنبي عليه الصلاة والسلام روي عنه كما في السنن أنه قال (الحج والجهاد ماضيان مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً) وفي إسناده بحث ، وأجمع أهل السنة على هذا الأصل لمَّا قَرَّ القرار وأنه لا يجوز الخروج على الولاة ولا يجوز التخلف عن حضور الجماعات معهم ولو أخَّرُوا الصلاة قال فيها عليه الصلاة والسلام (صل الصلاة لميقاتها وصلها معهم فإنها لك نافلة) وكذلك الجهاد معهم لأن بر الأمير أو فجور الأمير هذا يرجع إلى نفسه .
وقد قال ابن المبارك رحمه الله تعالى :
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبلٌ
في الأبيات المشهورة عنه .
وقال الحسن رضي الله عنه ورحمه ، الحسن البصري ، قال (إن ما يصلحون أكثر مما يفسدون)
وهذا الأصل عام عند أهل السنة والجماعة في كل أمير ووالٍ ما دام أنه لم يخرج عن الإسلام ، فإذا خرج عن الإسلام وكفر بالله جل وعلا كان البحث بحثاً آخر ، لكن ما دام أنَّ اسم الإسلام باقٍ عليه ولو كان معه ليس إلا القدر الذي يصح معه بقاؤه على الإسلام فإن الحج ماضٍ معه والجهاد ماض معه والجمعة ماضية معه والجماعات كذلك والأعياد ، وذلك سواءٌ أكان صالحاً أم طالحاً ، فاسقاً معلناً بالفسق أم مستتراً بالفسق ، الأمر عندهم واحد في ذلك .(33/318)
والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة جداً في أن طاعة ولاة الأمور واجبة والخروج عليهم محرم والصلاة معهم وإقامة الحج والجهاد هذا من طريق أهل السنة فقد روى البخاري في صحيحه أن ابن عمر كان مُفْتِياً في الحج من جهة أمير المؤمنين من ولاة بني أمية ، وكان الذي في إمرة الحج الحجاج بن يوسف الظالم المبين ، وكان ابن عمر يدخل عليه ويستشيره ويكون معه وإياه بحث في أمور الحج والفتوى ، روى البخاري في صحيحه (أن ابن عمر في الحج كان يصلي خلف الحجاج وكان يقول للحجاج اقعد ، قال الحجاج في هذه الساعة ، قال نعم سنة أبي القاسم صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
فالصلاة خلف الضال وخلف المفسد وخلف المُقَتِّل لأولياء الله كالحجاج ونحو ذلك هذا من سمة أهل السنة فلا يتخلفون عن الاجتماع العام في الصلاة وما شابهها لأجل ظلم الأمير أو لأجل فسقه في نفسه أو في الأمة أو ظلمه في نفسه أو ظلمه الأمة أو تقتيله للصالحين أو للناس وما شابه ذلك ، فإن بقاء الهيبة وبقاء اتباع الأمر فيه من المصالح عند أهل السنة والجماعة ما هو راجح على مصلحة ترك الظالم والبراءة منه والبعد عنه .
لا يُتَابَع في ظلمه ولكن يُتَعَاوَن معه على ما أمر الله جل وعلا من البر والتقوى ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? .
والسلف رضوان الله عليهم كان لهم في مسألة الخروج على الإمام في أول الأمر كان لبعضهم اجتهاد خالف فيه النصوص .
وهذا الاجتهاد منه لا يُتَّبَع فيه بل ينسب إليه وليس طريقاً لأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ، بل يقال هكذا فَعَلَ الصحابي مثلاً فلان أو هكذا فعل التابعي فلان أو هكذا فعل تبع التابعي فلان فيما خرجوا به على الوالي لتأويلٍ نظروا فيه .
والذين يخرجون على الولاة بالسيف قسمان :(33/319)
القسم الأول البغاة : وهم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ ، لهم تأويل إمَّا في المال أو لهم تأويل في الدين ونحو ذلك فهؤلاء يُسَمَون البغاة كما قال الفقهاء في تعريف البغاة في قتال أهل البغي قالوا (وهم الذين خرجوا على الإمام بتأويل سائغ) ، فإن كانوا خرجوا بتأويل غير سائغ فهم المحاربون الذين جاء فيهم حد الحرابة .
والصنف الثاني من الذين يخرجون على الولاة الخوارج الذين يتبعون عقيدة الخوارج الأُول ، فليس كل من خرج على الإمام الحق ، على ولي الأمر المسلم خارجياً بل قد يكون باغياً له تأويله ويُقاتَل حتى يفيء إلى أمر الله جل وعلا ، وقد يكون خارجياً ، والخارجي له أحكام الخوارج المعروفة وهم الذين يخرجون على الإمام لأجل معتقداتهم في ذلك .
والنصوص الدالة على وجوب السمع والطاعة كثيرةٌ معروفة مشهورة كقول الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً? ، وكما ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام قال (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني) ، وثبت عنه أيضاً عليه الصلاة والسلام أنه قال (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) وهذا فيه عموم ، قال أهل السنة إن هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات .(33/320)
من رأى من أميره شيئاً يكرهه من الأقوال المخالفة للحق أو الأعمال المخالفة للحق أو الاعتقادات المخالفة للحق فسلك سبيل المبتدعة ، فإنه يجب الصبر ولا يجوز نزع اليد من الطاعة كما فعل الإمام أحمد مع ولاة بني العباس مع أنهم كانوا في شر مقالة أخذوا الناس بها ودعوا الناس إليها ، وقتلوا وحبسوا فيها من حبسوا فكانت طريقة الإمام أحمد أنه لم ينزع يداً من طاعة بل نهى ابن نصر الخزاعي في طريقته ورغبته في الخروج على الوالي حتى قُتِلَ الخزاعي في ذلك ، ولما قيل للامام أحمد في ذلك ما هو معلوم ، قيل له (ألا ترى ما الناس فيه ألا ترى هذه الفتنة - يعني فتنة الإبتلاء بخلق القرآن ، وفتنة الناس فيه - ألا ترى هذه الفتنة ، قال هذه فتنة خاصة وإذا وقع السيف وسالت الدماء صارت فتنة عامة ، إياكم والدماء ، إياكم والدماء ، إياكم والدماء) وجعل ينفض يديه كالكاره لذلك أشد الكراهية .
وقوله عليه الصلاة والسلام هنا (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) كما هو معلوم في الأصول أن كلمة شيئاً نكرة جاءت في سياق الشرط فتعم الأشياء التي تُكْرَه ، ولهذا جاء في حديث آخر في الصحيح (أطع الأمير وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) وذلك لأن ضرره يكون محدوداً أو الفتنة التي تحصل به أو الظلم الذي يحصل منه يكون محدوداً ، أما إذا عمّ َونُزِعَت اليد من الطاعة فإنه يكون ذلك مُسبباً لأنواع من الفساد .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له ، قال (ولم تخرج طائفة على ولاة الأمر إلا وكان ما أفسدوه بالخروج عليه أعظم مما ظنوه من الصلاح) وهذا جَرَّبَهُ من جَرَّبَهُ في عصر التابعين ومن بعدهم فما نفع .
ولهذا ذكر بعضهم كالحافظ ابن حجر أن الخروج على الوالي كان فيه قولان عند السلف ، ثم استقر - هذا تعبير الحافظ ابن حجر - قال ، ثم استقر أمر أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز الخروج على الولاة وذكروا ذلك في عقائدهم .(33/321)
وهذا الذي قاله من أنه ثَمَّ قولان فيه للسلف ، هذا ليس بجيد بل السلف متتابعون على النهي عن الخروج ، لكن فعل بعضهم ما فعل من الخروج وهذا يُنْسَبُ إليه ولا يعد قولاً لأنه مخالف للنص ، فالنصوص كثيرة في ذلك ، كما أنه لا يجوز أن ننسِبَ إلى من أحدث قولاً في العقائد ولو كان من التابعين أن يقول هذا قول للسلف ، فكذلك في مسائل الإمامة لا يسوغ أن نقول هذا قول للسلف لأن من أحدث القول بالقدر كان من التابعين ، ومن أحدث القول بالإرجاء كان من التابعين ، من جهة لُقِيِه للصحابة ، لكن رُدَّ ذلك ، رُدَّتْ تلك الأقوال عليه ولم يُسِغْ أحد أن يقول قائل (كان ثم قولان للسلف في مسألة كذا) فكذلك مسائل الإمامة أمر السلف فيها واحد ومن تابعهم ، وإنما حصل الاشتباه من جهة وقوع بعض الأفعال من التابعين أو تبع التابعين أو غيرهم في ذلك ، والنصوص مجتمعة عليهم لا حظ لهم منها .
(وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ) الجهاد مضى مع كل الولاة .
أهل الحديث والسنة لم يتخلفوا عن الجهاد في أي فترة من فترات تاريخ الإسلام ما دام أن الوالي الذي أمر بالجهاد مسلم .
انتهى الشريط الثامن و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط التاسع والعشرون
أهل الحديث والسنة لم يتخلفوا عن الجهاد في أي فترة من فترات تاريخ الإسلام ما دام أن الوالي الذي أمر بالجهاد مسلم ، أو حثَّ عليه ، أو كان الجهاد في زمنه ، فهم لا يتخلفون عن الجهاد أو يقولون لا جهاد اليوم لأجل أن الوالي فيه كذا أو أن ولي الأمر فيه كذا من الظلم والطغيان ونحو ذلك كما كان من بعض ولاة بني أمية وبعض ولاة بني العباس فمن بعدهم .
كذلك الجُمَعْ والجماعات ماضين مع الأئمة .(33/322)
وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيكون أمراء كما جاء في صحيح مسلم وغيره قال (سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، قالوا فما تأمرنا ؟ قال صلوا الصلاة لوقتها ثم صلوها معهم فإنها لكم نافلة (وقد ذكر ابن عبدالبر في التمهيد أن بعض ولاة بني أمية كانوا يحبسون الناس في صلاة الجمعة فلا يخرجون إلى صلاة الجمعة إلا قريب العصر وكان الصحابة في الناس وكان التابعون وسادات التابعين وعلماء التابعين في الناس وكان الشُرَطُ يقفون على الرؤوس أن لا يصلي أحد قبل إتيان الأمير فكانوا يَلْقَونَ من ذلك عنةً وشدة ، قال ابن عبدالبر فكان بعضهم يصلي إيماءً خشيةً من ذهاب الوقت) .
فكانت المسائل هذه في الزمن الأول شديدة ، في مسائل الصلاة و العبادة وكان الأمر ما يراه الأمراء في ذلك الزمان ومع ذلك كانت طريقة أهل السنة واحدة لأن النصوص دلَّت على شيء عام ونهت عن شيء محدد فلزموا ذلك ولم يختلفوا فيه مع تغير الأحوال في الأزمنة المختلفة .
قال (مَعَ الأُمَرَاءِ) والأمير يشمل ولي الأمر ويشمل الأمير الذي جعله ولي الأمر أميراً سواءً كانت إمارة حَضَرْ أو إمارة سفر .
فالأمير هو من جُعِل يأمر على من عنده ، فهذا إذا كان أميراً بالولاية العامة أو كان أميراً بالولاية الخاصة فإنه ينعقد له الأمر براً كان أم فاجراً .
وقد صلى ابن مسعود رضي الله عنه وغير ابن مسعود مع بعض ولاة الكوفة بعثمان وكان منهم من يشرب الخمر فكان يصلي بهم الفجر أربعاً ونحو ذلك كما هو معلوم .
المقصود من ذلك أنَّ بِرَّ الأمير أو فجوره هذه ليس لها نظر من جهة الطاعة ، طاعة الأمير ، فيطاع سواءً كان صالحاً أو فاسداً ، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوامٍ لا خلاق لهم) .
والإمارة أو الولاية أو الإمامة هذه تنعقد عند أهل السنة والجماعة بواحد من أمور :(33/323)
الأول ببيعة أهل الحل والعقد له واختيارهم له - اختيارهم له ثم بيعتهم له - وهي التي يسميها أهل العلم ولاية الإختيار ، وهذه هي أفضل أنواع الولاية لو حصلت لا يُعْدَلُ عنها إلى غيرها ، ولاية الإختيار ، أن لا يكون على الأمة إلا من يُختَارْ لها .
وولاية الإختيار هذه منها ولاية أبي بكر رضي الله عنه ، ولاية عمر ، ولاية عثمان ، الخلفاء الراشدين وكذلك ولاية معاوية بن أبي سفيان لما تنازل له الحسن بالخلافة فإنها كانت ولاية إختيار ، ثم بعد ذلك لم يَصِرْ ولاية إختيار إلا في أزمنة محدودة وفي أمكنة متفرقة ليست عامة ولا ظاهرة .
النوع الثاني ولاية الإجبار ، وولاية الإجبار تُسمَّى أيضاً ولاية التغلب ، وهي أن يغلب أحدٌ على المسلمين بسيفه وسنانه ويدعو الناس إلى بيعته فإنه هنا تلزم بيعته لأنه غَلَبَ .
وهذه تسمى ولاية تَغَلُبْ كما في شرح الطحاوية وفي غيرها وفي كتب الفقه .
هذا النوع ولاية التغلب تلزم به الطاعة وجميع حقوق الإمامة ، لكن هذا ليس هو الأصل وليس مُختاراً بل هذا لدرء الفتنة والالتزام بالنصوص فإن النصوص أوجبت طاعة الأمير وعدم الخروج عليه ، وهذا غلب على الناس ودعا الناس إلى طاعته فلا يجوز أن يُتخلَّفَ عن مبايعته .
مما حصل في أنواع الوِلاية في زمن الخلفاء أن أبابكر رضي الله عنه وَلِيَ بنص من رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وبالاجتماع عليه ، وعمر وَلِيَ بنص من أبي بكر رضي الله عنه ثم بالاجتماع عليه وعثمان رضي الله عنه وَلِيَ بجعل عمر الولاية في ستة نفر ، اختاروا عثماناً من بينهم ثم بايعه الناس وعليٌ رضي الله عنه لم يجتمع الناس عليه وإنما بايعه من كان في المدينة وبايعه غيرهم .(33/324)
هذا فيه أن الولاية الشرعية تحصل بالتنصيص عليه من الوالي قبله ، وهو الذي أخذه معاوية رضي الله عنه حين عقد بيعة ليزيد بن معاوية في حياته ولايةً للعهد ، ولما عقد البيعة ليزيد ولايةً للعهد لَزِمَتْ ذلك في حياته واستمرت بعده .
فولاية التنصيص هذه إن كان بعدها اختيار من أهل الحل والعقد صارت ولاية إختيار ، وإن كانت من جهة الغلبة أنه لا يستطيع أحد أن يخالف وإلا لفُعِلَ به وفعل صارت ولاية تغلب .
ولهذا يعدون ولاية يزيد بن معاوية من ولاية التغلب لا من ولاية الاختيار بخلاف معاوية رضي الله عنه فإنه خير ملوك المسلمين وولايته كانت بالاختيار لأن الحسن رضي الله عنه تنازل له عن الخلافة وعن إمرة المؤمنين فاجتمع الناس على معاوية سنة واحد وأربعين وسمي ذلك العام عام الاجتماع أو عام الجماعة .
المقصود من ذلك أن حصول الولاية الشرعية يكون بأحد هذه الأشياء .
ولاية الاختيار وولاية الإجبار ، أو ولاية التغلب فيها أفضل وفيها جائز :
أما الأفضل فأن تجتمع في الوالي ، أن تجتمع في ولي الأمر ، في الإمام الشروط الشرعية التي جاءت في الأحاديث ، من مثل أن يكون قُرشياً عالماً وأن يكون سليماً من خوارم المروءة أو نواقض العدالة أو سالماً من الفسق يعني صالحاً ونحو ذلك من الشروط المعتبرة العامة التي تكلم عليها الفقهاء .
هذه في ولاية الإختيار .
يشترط في الوالي أن يكون قُرشياً ، في أي ولاية ؟
في ولاية الاختيار .
أما ولاية التغلب فإنما هي لدرء الفتنة فيُقَرُ الوالي ولو كان عبداً حبشياً كما جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (اسمع وأطع ولو كان عبداً حبشياً مُجَدَّعْ الأطراف كأن رأسه زُبيبَةْ)
وهذا في ولاية التغلب .(33/325)
والرواية الثانية - هذه وإن كان هذه عامة - والرواية الثانية قال (وإن تَأَمَرَ - فيها - وإن تأمر عليكم عبد حبشي) وفي رواية (وإن أُمِرَ عليكم حبشي) وهذه كلها فيها بيان أن فقد الشروط المعتبرة : الأئمة القرشية ونحوها هذه إنما ، يعني إجتماع هذه الشروط يكون في ولاية الإختيار أما في ولاية التغلب فلا يُنظَر إلى هذه الشروط لأن المسألة مسألة غلبة بالسيف .
فينبغي تحرير هذا المقام وظهور الفرق بين ولاية الإختيار وولاية التغلب وكلٌ منهما ولايةٌ شرعية عند أهل السنة والجماعة يجب معها حقوق الأمير كاملةً .
النصوص أوجبت طاعة ولاة الأمر كما جاء في قول الله جل وعلا ?أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ? قال ابن القيم رحمه الله وغيره طاعة ولاة الأمر تبع لطاعة الله ورسوله ليست استقلالية لأنهم ليست جهات شرعية وإنما الشرع يُؤخذ من الله جل وعلا ومن رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وأما ولاة الأمور فطاعتهم تبع لطاعة الله وطاعة رسوله فليس لهم الحق في أن يُحِلُّوا حلالاً ولا أن يُحرِّموا حرماً ولا أن يأمروا بما لم يبحه الله جلَّ وعلا ، فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
يعني أن طاعة ولاة الأمور طاعةٌ واجبة في غير المعصية .
هذا الذي دلت عليه النصوص أن الأمير يطاع في غير المعصية ، والنصوص ما فرَّقت بين ولاة العدل وولاة الجور فإنها عامة في كل أمير وَلِي .
وهكذا عقائد أهل السنة يطلقون ويقولون براً كان أم فاجراً ويرون حقوقه كاملة سواءً كان براً أو فاجراً وذلك يعني سواءً كان عادلاً أم ظالماً ، فالنصوص أوجبت الطاعة وحرَّمت الخروج وحرَّمت طاعة الأمير في المعصية لأن حق الله جل وعلا أوجب فإذا أمر بمعصية فلا يطاع .
نفهم من ذلك أن أهل السنة والجماعة قالوا إن طاعة الأمراء تكون في أربعة أشياء من الحكم التكليفي :(33/326)
تكون في الواجبات ، وفي المستحبات ، وفي المباحات ، وفي المكروهات .
وهذه الأربعة جاريةٌ أيضاً في حق ولاية الوالد على ابنه فإنه يُطاع في الواجب ويُطاع في المستحب ويُطاع في المباح وُيطاع في المكروه ، إذا قال لك افعل كذا وهو مكروه فإن طاعته واجبة وفعل المكروه لا إثم فيه فيُرجَّح جانب الواجب لأنه أرجح من جهة الحكم .
يبقى الحكم التكليفي الخامس وهو ما نُهِيَ عنه نهي تحريم فإنه لا يُطاع فيه إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
بعض أهل العلم فرَّقَ وقال الولاة قسمان :
ولاة عدل وولاة جور .
- ولاة العدل يطاعون في غير المعصية .
- وأما ولاة الجور فلا يُطاعون إلا فيما يُعلم أنه طاعة ، أما ما لا يُعلم أنه طاعة فإنهم لا يطاعون فيه ، لأنه لا يُؤمَن أن يأمُر العبد بمعصية ،فلا بد أن تعلم أن هذا طاعة حتى تطيع .
وهذا القول فيه مخالفة للنصوص ، وهو موجود في بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وشيخ الإسلام حين ذكر هذا الكلام أراد به مَنْعَهُ حين مُنِعَ من القول بعقائد السلف الصالح ، ومَنْعْ شيخ الإسلام رحمه الله إذ ذاك فيه معصية إذ لا أحد في وقته قام بنشر عقيدة السلف الصالح إلا هو ، فلو مُنِع هو - هذا بحسب كلام شيخ الإسلام - فلو مُنِع هو واستجاب للمنع مطلقاً فإنه يكون انطفاء لعقيدة السلف الصالح ، وقد رأى في وقته أنه لا أحد يقول بعقيدة السلف الصالح وينشرها بين الناس .
فلهذا ذكر شيخ الإسلام هذا التفريق وهو من اجتهاداته وأكثر أهل العلم على خلافه .(33/327)
وشيخ الإسلام معذور فيما قال لأنه رأى ما تشتد الحاجة إليه في وقته بل هو من الضروريات ، أعظم من حاجة الناس إلى الأكل والشرب والمسكن والملبس أن يُبَيَّن لهم عقيدة السلف الصالح وليس ثَمَ من يقوم بها في وقته بل منذ انتهاء القرن الرابع الهجري لا أحد يقوم بعقيدة السلف الصالح بظهور وتفصيل إلا ما كان من أفراد ليس لهم جُهدُ وجهاد ، لكن - يعني أفراد قليلين لهم تصنيفات وكذا لكن ليسوا بمرتبة شيخ الإسلام في الظهور والبيان - والنبي عليه الصلاة والسلام وعد هذه الأمة بأنه لا يزال طائفة منها ظاهرة على الحق .
هذا التفريق بين الطاعة ، طاعةٌ للإمام العدل في غير المعصية ، طاعة للإمام الجور والظلم فيما يُعْلًم أنه طاعة ، هذا التفريق غير صحيح لأنه مخالف للنصوص ، إلا في حالة واحدة ، بل نقول إلا في حالة معينة وهي انه ليس ثَمَّ من يقوم بتبيين الناس الواجب عليهم من جهة الإعتقاد ومن جهة العبادة .
إذا كان ليس ثَمَّ من يقوم بتبيين ما يصحح للناس عقيدتها وعبادتها فإنه يقال إنه لا يطاع في ذلك لأن طاعته في ترك بيان العقيدة المتعيَّنَة على هذا الفرد أو بيان العبادات المتعينة على هذا الفرد هذه معصية ، رجع الأمر إلى الحال الأولى ، فصارت المسألة أن ما دلت عليه النصوص أن الولاة يطاعون في غير المعصية في الأحكام الأربعة التكليفية وإذا أمروا بمعصية فلا يطاعون .
قال في وصف أهل السنة والجماعة (وَيُحَافِظُونَ عَلَى الجُمَعِ الْجَمَاعَاتِ)
وهذا الوصف لهم منهج ، من منهجهم وطريقتهم وسلوكهم أنهم يحافظون على الجُمَعِ والجماعات مخالفين في ذلك طوائف الضلال .
" فأول الطوائف التي خالفوها بهذا الوصف طائفة المنافقين ، فإن المنافقين لا يحضرون الجماعات ولا يحضرون الجُمَع إلا ما اشتهوا .
" والطائفة الثانية التي خالفوها الروافض الذين يقولون لا جمعة ولا جماعة إلا مع الإمام المعصوم.(33/328)
" والطائفة الثالثة التي خالفوها الخوارج لأن الخوارج لا يصلون إلا خلف من كان على مثل عقيدتهم.
" والطائفة الرابعة الذين لا يصلُّون إلا خلف من يعلمون عقيدته في الباطن .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع (ومن قال لا أصلي الجماعة ولا الجمعة ولا العيد إلا خلف من أعلم عقيدته في الباطن فإنه مبتدع مخالف لقول الأئمة الأربعة ولسلف الأمة) .
وهذا موجود في الزمن الأول وموجود في هذا الزمن ممن يُسَمَّون جماعة الوقف الذين يجعلون الناس لا تُعْلَمُ عقائدهم - يعني مستورون - إلا من ظهر أنه موحد أو ظهر أنه مشرك ، ومن لم يظهر توحيده أو شركه فهذا موقوف أمره فلا يُصلَّى خلفه حتى تُعْلَمَ عقيدته في الباطن .
هذا قولٌ مُبتَدَع مخالف لطريقة أهل السنة فإن أهل السنة والجماعة يجعلون الأصل في المسلم الإسلام ، ما دام أنه لم يظهر منه مُكفِّر ولم يظهر منه مخرج من الملة فإن الأصل فيه الإسلام ، فلا نشترط في الذي يصلي أن تُعلَمَ عقيدته الباطنة ، ونقول هذا ما ندري عنه فلا نصلي خلفه حتى نعلم حاله في الباطن واعتقاده في الباطن .
هذا باطل لأنه نصلي ونحافظ على الجُمَعِ والجماعات ، وقد صلى أئمة السلف خلف الجهمية في الجُمَع ، وصلوا خلف بعض المعتزلة وصلوا الجمع والجماعة خلف بعض غلاة المرجئة ونحو ذلك كما ذكره الأئمة عنهم ، منهم ابن تيميه وغيره ، ذَكَرَ ذلك عن السلف .
وهذا القدر متفق عليه بين السلف لأنهم يصلون خلف الإمام الذي يصلي بالناس الجمع والجماعة ، وإنما تنازع السلف في مسألة هل تعاد الصلاة أم لا ؟
هذه مسألة أخرى .
يعني الصلاة خلفهم تصلي ، خلف من يصلي بالناس ما تفارق الجماعة والجمعة .
لكن هل تعاد الصلاة خلف من ظهر منه عقيدة مكفرة كالجهمية والمعتزلة أم لا تعيد الصلاة ؟
على قولين عند الإمام أحمد وعند غيره معروفة في الفقه .(33/329)
لكن من جهة الأفضلية إذا كان ثَمَّ من سيتقدم بدون ولاية للصلاة ، ثَمَّ من يتقدم وهو لا تُعلم عقيدته وهناك من يُعلم أنه صحيح العقيدة متابع لطريق السلف موحد فإنه يُقدَّم على من تُجهل عقيدته ، لأنه لا يجوز الصلاة خلف مبتدع إذا كان المجال مجال اختيار ، أما إذا كان في المسألة إمامة بولاية - يعني الإمام اللي امعينه - هو الإمام فإنك تصلي وراءه محافظة على الجمع والجماعة والعيد
.......
هذه مسألة إجتهاد ، عُرِض علينا أسئلة في هذا من مثل بعض مناطق أفريقيا ونحو ذلك ، يكون الكثرة الكاثرة لا يكفرون بالطاغوت ، فهذا ما العمل فيه ؟
هل يُحافظ على الصلاة أم تُترك الصلاة معهم ؟
الظاهر من الحال أنهم إن تمكنوا من مسجدٍ يؤمون فيه بعضاً 1
لكن في منطقة أكثرهم مثل ما نقول مشركون والغالب فيهم أنهم لم يحققوا ولم يكفروا بالطاغوت ثُمَ يعني يصلي وله صلاته ولذاك صلاته ، وارتباط صلاة الإمام بالمأموم فيها خلاف كما هو معروف والصواب أن المأموم له صلاته والإمام له صلاته ، وقد سُئل في ذلك سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز فقال اجتهدوا في الأمر .. تجدون يعني مكان تصلون فيه إماماً مسجد لكم فإذا ما وجدتم صلُّوا خلفهم وصلاتكم لله مقبولة إن شاء الله .
......
هذه مسائل عملية يختلف فيها الوضع لأنه بعض الأحيان يكون هناك حرج شديد في هذه المسألة ، لأنه يعلمون أن هذا يحضر الموالد التي يذبح بها لغير الله ، يحضر الذبح لغير الله ولا يُغيِر أو إذا عُرِضَت مسائل التوحيد كان من المنفرين عنها ، هذا ما كفر بالطاغوت ، وهذا مشرك من جنس المشركين ، بل قد يكون إذا كان من العلماء أو من القراء أشد فتنة وأعظم شركاً من العامة ، فهذا هو الذي يحصل فيه إشكال .
على العموم إذا عَرَضْ من ذلك شيء فيحصل فيه استفتاء للمفتين فيُجابون بالصواب إن شاء الله .
قال (وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ) .(33/330)
الجُمَلْ الأُوَلْ هذه في منهج التعامل مع ولاة الأمور ومع من يلي الإمامة ، وأولها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العصاة ، مع المبتدعة وغيرهم ، ذكرنا أمورها .
ننبه هنا على كلمة انتشرت في هذا الزمن وهي قول بعضهم (إننا نحتاج في هذا الزمن إلى عقيدة سلفية ومواجهة عصرية) ويقول (العقيدة على عقائد السلف والمواجهة تكون مواجهة تناسب العصر) وهذه الكلمة قالها بعض الإخوان المعاصرين وهي غلط على السلف الصالح وعلى عقيدة السلف الصالح لأن كلمة مواجهة عصرية هذه كلمة مجملة .
ماذا يراد بكون المواجهة عصرية ؟
إن كان المراد بالوسائل ، يعني مثلاً بالشريط وبالردود وبالدعوة وبالمكاتب التي تُفتح ونحو ذلك فهذا صحيح ، هذه وسائل قد يتوسع الناس فيها .
أما إذا كان المراد بعصرية المواجهة أن تُحدث أنواع من الإنكار ليست على عقيدة السلف أو أن يُواجَهْ الولاة بطرق جديدة ليست على منهج السلف فإن هذا مخالف لمنهج السلف .
والعقيدة منها المواجهة ، مثل هذه الألفاظ ، العقيدة منها المواجهة ، عقيدة أهل السنة والجماعة أحد أجزائها طريقة المواجهة ، طريقة التعامل مع العصاة مع المبتدعة مع الولاة مع العلماء مع الناس مع أئمة الصلاة ونحو ذلك كما مرّّ عليك في هذا الموضع .
فالواجب إذاً أن يقال عقيدة سلفية ، لأن عقائد السلف شملت جميع ما نخالف به عقائد أهل الضلال وأهل البدع فلا حاجة إلى شيء عصري في المواجهة يخالف طرق الأولين .(33/331)
لأن قول القائل مواجهة عصرية هذه قد تدخل فيها صور جديدة في هذا الزمان مما يحدثه بعض المجتهدين وبعض الناس في هذا الأمر فيكونون غالطين على السلف غالطين على الأئمة ، بل الواجب أن تكون العقيدة التي منها مسائل الإيمان ، منها مسائل القدر منها مسائل الصفات الأركان كلها والكلام في الصحابة وأمهات المؤمنين والكلام في كرامات الأولياء والكلام في بقية المسائل العلمية ، وكذلك في مسائل منهج التلقي الكتاب والسنة والإجماع ونبذ العقل وكذلك في مسائل المواجهة والتعامل وكذلك في مسائل الأخلاق ، هذه خمسة أشياء عند أهل السنة والجماعة لا بد من رعايتها ، وإخراج المواجهة من عقيدة السلف الصالح هذا لم يسبق إليه أحد قبل هذا الزمان فيكون من جملة المحدثات .
قال (وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ) .
هذا لقول النبي عليه الصلاة والسلام (الدين النصيحة) وقوله يدينون يعني يتعبدون .
الدينونة تعبد ، دان بكذا يعني تعبَّد بكذا ، فهم يتعبدون بالنصيحة للأمة ، يعني يتقربون إلى الله جل وعلا بنُصح الأمة كما جاء في حديث تميم الداري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) .
2 النصيحة لله بإخلاص الدين له .
2 والنصيحة للنبي عليه الصلاة والسلام بمتابعة سنته وترك البدع .
2 والنصيحة لكتاب الله بتلاوته وتحكيمه وتحليل حلاله وتحريم حرامه .
2 والنصيحة لأئمة المسلمين بطاعتهم في غير المعصية وفي ترك الخروج عليهم .
2 والنصيحة لعامة المسلمين في السعي في إرشادهم للحق والهدى ومحبة الخير لهم والسعي فيما يصلحهم والتعاون معهم على البر والتقوى .(33/332)
فكلمة النصيحة هذه كلمة جامعة تشمل أصول الدين وتشمل فروعه ، تشمل التوحيد وتشمل المعاملات ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (الدين النصيحة) فجعل الدين محصور في النصيحة لأن حقيقة النُصْحْ إخلاص القول والعمل لله جل وعلا .
و إخلاص القول والعمل لله جل وعلا يتضمن أن يخلص المتابعة ، ويخلص اتباع الكتاب ، ويكون دائماً بالطاعة ودائماً بمحبة الخير للأمة .
فالنصح مثل ما قالوا إن النصح هو خالص الشيء ، هذا شيء نصيح يعني خالص لم تشبه شائبة .
والنصيحة للأمة أن تحب لهم الخير بأن لا يشوب تلك المحبة شائبة .
وقد قال هنا (وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) .
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً يعني المؤمن كامل الإيمان للمؤمن مطلقاً كالبنيان يشد بعضه بعضاً .
والمؤمن الأولى المراد بها كامل الإيمان .
والمؤمن الثانية المراد بها من معه مطلق الاسم لا الاسم المطلق .
فالأولى المراد بها الإيمان المطلق ، والثانية المراد بها مطلق الإيمان .
المؤمن كامل الإيمان للمؤمن من معه أصل الإيمان كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، ولذلك كَمَلَتْ الإيمان يدينون بالنصيحة للأمة ويسعون في ذلك ويرشدونها ويصبرون على ما أصابها ولو سبوهم وآذوهم ولمزوهم بما يلمزون به فإنهم يحبونهم وينصحون لهم ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره (وددت لو أن الخلق أطاعوا الله وقُرِّضَ جسمي بالمقاريض) يعني بالمقصات الكبار هذه قُطِّع قُطِّع والناس أطاعوا الله لكان الأمر هيناً .
وهذا من عِظم محبته لهم ، وقد قال أيضاً فيما رُوِيَ عنه رحمه الله أنه كان يدعو في سجوده بقوله (يا رب - هذا الإمام أحمد - إن جعلت أحداً من خلقك فداءً لعصاة أمة محمد عليه الصلاة والسلام فاجعلني ذلك الرجل)(33/333)
وهذا أعظم ما يكون من المحبة للخلق والنصح لهم ، فإنه يود أنهم جميعهم دخلوا الجنة ولو كان هو أصابه ما أصابه .
و هذا من شدة المحبة التي تغلب على النفس وهذه هي المرادة هنا .
فالمؤمن كامل الإيمان يحب الخير لإخوانه ويصبر على ما جاء منهم و لا يكون كما يقال أنانياً أو محتكراً الخير لنفسه بل يحب لأخيه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث الآخر الصحيح (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والمراد هنا لا يؤمن أحدكم الإيمان الكامل ، لأن محبة الخير لإخوانك المؤمنين هذه من كمالات الإيمان ، واجبة أو مستحبة بحسب الحال ، لكنها من كمالات الإيمان ليست شرطاً في صحته .
قال (وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ")
قال (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني الذين كَمُل إيمانهم في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد .
أما ناقصوا الإيمان فإنهم ليسوا بمثل هذه المثابة ، ناقص الإيمان يكون عنده بغض لأخيه المؤمن ، ويكون عنده كراهية له وسعي ربما فيما يضره وأحقاد عليه ونحو ذلك .
لكن كامل الإيمان هو مع إخوانه في تواده وتراحمه وتعاطفه كمثل الجسد الواحد لأنهم شيءٌ واحد.
قال (وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ)
إلى آخره ، هذه في الأخلاق وهو القسم الأخير من العقيدة .
الأخلاق عند أهل السنة والجماعة أو أخلاق أتباع السلف الصالح نرجئ الكلام عليها إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى .
......
ما تفسير الكفر البواح الذي قال عنه الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (إلا أن تروا كفراً بواحاً) ؟
الكفر البواح هو الظاهر الغالب ، البواح ما يجمع صفتين : الظهور والغلبة .
يعني غلب وظهر .(33/334)
إذا رُؤي كفراً ظاهراً غالباً فإنه هنا يصبح الخروج مأذوناً فيه .
......
هو إذا قلنا إذا قال العلماء على روايتين أو على قولين وش يكون ؟
القول الأول بالإعادة والقول الثاني بعدم الإعادة .
لقد قلت أنه لم يكن هناك علماء يبينون الحق ومذهب أهل السنة في زمن شيخ الإسلام وهذا في نظري غير صحيح ، وذلك لوجود كثير من مشايخ شيخ الإسلام وتلاميذه ؟
هو يعني الكلام اللي ذكره صواب ، بقوله يعني من قال لم يكن هناك علماء يبينون الحق ومذهب أهل السنة في زمن شيخ الإسلام ، يعني بهذا اللفظ الاعتراض عليه صحيح ، لكن لو تأمل كلمتي أنا قلت لم يكن هناك من يُظهرون ، تذكرون هذه ، كررتها كذا مرة ، في ظهورهم ، كان هناك من قبله علماء صنفوا لكن لم يكونوا في ظهورهم بالحق وإظهارهم له بمثابة شيخ الإسلام ابن تيمية ، أما أنه هناك علماء ، فهناك علماء .
شيخ الإسلام ابن تيمية نشأ على غير مذهب السلف ، نشأ مبتدعاً ،لم يكن على طريقة السلف الصالح بل نشأ على غير طريقة السلف الصالح ، ومشايخه لم يكونوا على طريقة السلف الصالح ، يعني أكثر مشايخه إلا نُدَّر منهم .
هذه ذكرها عن نفسه قال في موضع في الفتاوى (وأما أنا فقد كنت في الأصلين على غير طريقة السلف الصالح) هذه موجودة النص في الفتاوى ، شيخ الإسلام إنما هداه الله جل وعلا لذلك متأخراً يعني بعد سنة تسعين ، ستمائة وتسعين ، يعني وعمره جاوز الثلاثين أو هو حول الثلاثين ، لم ينشأ على العقيدة الصحيحة ، ولذلك رأى الغربة ، وأكثر مشايخه من الحنابلة على طريقة السلف لكنهم في الصفات يفوضون ، في الصفات عندهم يفهمون مذهب أحمد أنه التفويض .
وهذا باطل .
فشيخ الإسلام كان يواجه أشياء عظيمة في زمنه رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة وجزاه عنا خير الجزاء .
ما هي أفضل الكتب التي تنصحون بقراءتها التي تتحدث عن طاعة ولي الأمر ؟(33/335)
كتب العقيدة بعامة كلها فيها هذا المذهب وهناك مصنفات مستقلة في ذلك يعني بين رسائل مختصرة ومطولة لكن كتأصيل هي في كتب العقيدة ، في شرح الطحاوية بحثٌ جيد وكذلك في لوامع الأنوار للسفاريني أيضاً كذلك جمع النصوص فيه وفي كلام شيخ الإسلام ابن القيم من ذلك الكلام الجميل المفيد .
بعض الناس يعتبر إنكار بعض المشايخ لبعض المنكرات الظاهرة في المجتمع كالربا وبعض المظاهر المخالفة لأصول الدين ، فيعتبرون من تكلم في ذلك وأنكره خارجاً عن الطاعة ، فما رأي فضيلتكم في ذلك ، أرجو الإجابة لأني محتار ؟
ما انحيره إن شاء الله ، مع الإجتهاد في طلب الحق ما في حيرة .(33/336)
إنكار المنكرات في المجتمع من الربا أو انتشار الفساد فيما يتعلق بالنساء أو نحو ذلك من المنكرات هذا إنكاره واجب شرعي لأن الله جل وعلا أوجب على هذه الأمة إنكار المنكر فقال جل وعلا ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ? وأمر بذلك فقال ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? فإنكار المنكرات التي تكون في المجتمعات هذا واجب شرعي على أهل العلم وعلى من يُوَجِّهْ الناس ، لكن إيجاب إنكار المنكر هذا واجب مستقل ، وإيجاب الطريقة في إنكاره هذا واجب مستقل ، فهناك واجبان : واجب الإنكار وواجب الطريقة ، مثل ما مرَّ معنا في كلام شيخ الإسلام قال (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَة)ُ ، يعني ليس المقصود الأمر والنهي هذا الواجب فقط بل الواجب أن يكون الأمر والنهي على ما توجب الشريعة ، فمثل هذه المعاصي والذنوب من الكبائر وغيرها ، الطريقة الشرعية فيها أنه يُنهى عن المنكر بدون نَظَرٍ إلى الواقع فيه ، فيقال الربا محرم ، يذكر الربا كحكم شرعي ، هذا هو الذي يجب شرعاً ، وما عدا ذلك من الأساليب وغير ذلك ، هذه هي التي يكون فيها النظر هل هي أساليب موافقة لطريقة أهل السنة أم غير موافقة ، لأن بعضهم يتخذ أساليب غير مأذون بها شرعاً مثل تحديد الواقع في المنكر ، يقول مثلاً المُنْكَر الفلاني وقع في هذه الجهة ، وقع مثلاً في الوزارة الفلانية أو وقع في المؤسسة الفلانية ، ويعدُّ هذا التشخيص من الإنكار للمنكر بطريقة شرعية ، وهذا غلط ، النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا بلغه شيء وأراد إنكاره كما جاء في عدة أحاديث كان يقول (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوام يشترطون(33/337)
شروطاً ليست في كتاب الله) ونحو ذلك ، وهذه هي طريقة أهل العلم والدين من قديم الزمن ، يعني في عهد أئمة الدعوة إلى وقتنا هذا ، هذه هي طريقة السلف الصالح ، لأنهم ينهون عن المنكر النهي العام بسماع الناس عامة ، لكن لا يحددون من الذي أتى بالمنكر أو من الواقع فيه بل ينهون عنه لأن الحديث فيه من رأى منكم منكراً فليغيره بيده والآية فيها ?كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? فثم واجبان : واجب الإنكار هذا متعين فلو تركت الأمة الإنكار لكانت أمة ملعونة كما لعن الله جل وعلا بني إسرائيل .
والواجب الثاني أن يكون إنكار المنكر من الخطيب أو من الداعية أو من الشاب في بيته أو في سوقه أو في أي مكان ، أن يكون الإنكار بطريقة شرعية .
إذا اشتبه عليه وهي من المسائل المشكلة في بعض المسائل ، ما هي الطريقة التي يسلم بها من الإثم ، لا بد من الإستفتاء .
وقد ذكرت لك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الدرس الماضي أنه كان يقول (إن الآمر والناهي إذا أمر ونهي وقد غلب على ظنه أن المصلحة راجحة وأن المفسدة مرجوحة فإنه يأثم) ، إذا غلب على ظنه بإنكاره أن المصلحة راجحة والمفسدة مرجوحة يأثم ، لم ؟(33/338)
(قال لأنه لا بد من اليقين) ما يُكتفى بغلبة الظن في هذا (لأنه لا بد من اليقين بتحصيل المصالح وبدرء المفاسد) تعلم أن المصلحة راجحة بيقين ، أما اتقول والله يمكن خل انسويها والله يمكن لعلها تنفع ، هذا تأثم به ، لأنك لا تدري ربما يحدث شيء أعظم مما نهيت عنه ، ودرء المفاسد كما هو معلوم مقدم على جلب المصالح ، فتترك الأمر حتى تتيقن أن فعلك فيه تحصيل المصلحة ودرء المفسدة ، فإذن تحصيل هذا الكلام لأن الناس في هذه المسألة ، يعني الشباب ما فهموا كلام المحققين من أهل العلم فظنوا أن إنكار المنكر في الدعوة أو في الخطب أو في المجالس ونحو ذلك أن هذا مخالف لطريقة السلف ، بل هذا غلط كبير على منهج السلف ، بل يجب إنكار المنكر لكن يجب أن يكون بالطريقة الشرعية ، هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة .
فمن أوجب إنكار المنكر على أي طريقة هذا مخالف لطريقة أهل السنة .
ومن قال لا تنكر بل الإنكار على أهل العلم فقط في كل المسائل هذا غلط .
والصواب التفصيل :
فما كان من العلم - كما ذكرنا لكم في الدرس الماضي - ما كان من العلم مما يشترك فيه الناس هذا الإنكار ، إنكار المنكر والدعوة إليه واجب على من علمه .
وما كان خاصاً أو ما يتعلق بمصلحة عامة في الأمة فهذا مختص بالراسخين في العلم .
قال لقد قلت إن تحديد الجهة أو الوزارة التي فعلت المنكر لا يجوز وقد أنكرت ما قال عبدالفتاح الحائك في مجلة الشرق الأوسط ، كيف أجمع بين ذلك ؟
هذا يعني السائل يعني كأنه رابح شيء فاحتج بشيء وهو من عدم فهمه لما قلت ، النبي عليه الصلاة والسلام قال (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) .(33/339)
هذا مقال نُشِر في جريدة باسمه ، فإذا نَشَرَ أحد مقالا له باسمه فقد أعلن المنكر مع التعيين ، فهنا الذي فعل المنكر مُعَيَّنْ ، وانتشر في الناس ، فهذا يجب أن يُرد عليه بمثل طريقته ، هذه طريقة إنكار المنكر ، أما ما حصل في وزارة لا يعلمه أحد ، مثلاً حصل في جهة وخطوط السعودية شيء أو حصل في شركة الإسمنت شيء ، الناس ما يعلمون عنه ، عَلِمَهُ الموظف اللي فيه أو أحد الشباب اللي فيه فأتاني بالخطاب قال اقرأ هذا لأن فيه لا بد ننكر هذا المنكر باسم الذي فعله المدير الفلاني أمر بهذا الأمر ونحو ذلك مما هو في الجهة تلك ، فهذا نقول نعم هنا لا يجوز إنكاره إلا إذا شهره هو ، نشر في جريدة فلان بأي جهة سواءً كان كبيراً في المسؤولية أو صغيراً ، وزير أو غيره ، نشر منكراً في جريدة من الجرائد فهنا يُرد عليه بمثل طريقته ، لأن هذا هو ما يجب شرعاً (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) فيُرَدْ عليه ، أما إذا كان شيئاً خفياً ، ما علمه إلا طائفة وما استعلم به فإن هذا ، أو كان ما تعرف الجهة التي له ، أو كان ما يتعلق بمصلحة عامة بالأمة ونحو ذلك هذا إنما يكون فيه الأمر بتحديد المنكر دون فاعله مثل ما قال عليه الصلاة والسلام (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوامٍ يشترطون) لأن الذي علم بهذا المنكر من ذلك الذي فعل فئة من المسلمين وليس كل المسلمين ، أما عبدالفتاح الحائك في مجلة الشرق الأوسط فهذا نشر تلك المقالة الكفرية على العامة وأعلن توبته وبعد ذلك بأسابيع .
هذا يسأل عن الجزائر ، يقول هل الثوار الذين في الجزائر هل يعتبرون من الخوارج ؟(33/340)
لا يعتبرون من الخوارج لأن دولتهم هناك دولة غير مسلمة ، فليسوا من الخوارج ولا من البغاة ، وإنما الكلام معهم في مسألة هل هذا فيه مصلحة أم لا ، هل فعلهم هذا فيه تحقيق للمصلحة التي يرجونها شرعاً أم لا ، والواقع أنهم دخلوا في هذا الأمر دون علم شرعي ، ولذلك صار ما صار من مفاسد ، لكن البغاة والخوارج لا تقال إلا لمن خرج على ولي الأمر المسلم .
.......
هذا سؤال جيد جداً ، يقول ما صحة تسمية الولاة الآن بولاة الأمر ، وما الدليل على وِلايتهم مع تعددهم في العالم وعدم توحيد المسلمين جميعاً على وليٍ أمرٍ واحد ؟
سؤال جيد من حيث إثارة الموضوع وهو اشتبه عليه مسألتين :
مسألة أولى متفق عليها ، وهي تسمية هؤلاء ولاة أمر - يعني المسلم الذي يلي أمر المسلمين يسمى ولي أمر باتفاق سواءً كان بلد أو بلدين أو عشر أو عشرين أو مائة لا خلاف في ذلك - وإنما خالف بعضهم في تسميته إماماً ، وإنعقاد البيعة للامام المتعدد ، يعني عندهم أن الإمامة إنما تُعْقَدُ لمن اجتمع عليه المسلمون جميعاً ، هذا لفظ الإمام وهو الذي تجب له البيعة عندهم ، هذه شبهة عند بعض طلبة العلم أو بعض الشباب ، عندهم هناك تفريق بين ولاة الأمر والأئمة ، فعندهم ولي الأمر تجب له الطاعة ولكن ما تجب له بيعة حتى يجتمع المسلمون على والي واحد .(33/341)
وهذا القول مجانب للصواب ثَمَّ المجانبة وذلك أن المسلمين أجمعوا بلا نكير ولا اختلاف على انعقاد الإمامة الشرعية لإمامين هما إمام بني العباس في بغداد ، وإمام بني أمية في الأندلس ، ومضت الأمة على ذلك قروناً ، وكل واحد من هذين الإمامين العلماء وأئمة السنة في بلده يقول هذا الإمام الذي تجب بيعته ويحرم الخروج عليه ، وهذا إجماع منهم على أن البيعة لا يشترط لها الخلافة الراشدة العامة بل البيعة منوطة بمن وَلِيَ الأمر لأن البيعة تتجزأ حسب البلد ، بحسب الوالي كما جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال (من بايع أميراً فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه) من بايع أميراً سواء بايع هذا الأمير على جهاد أو بايعه على إمارة عامة أو إمارة خاصة ، فهذه تنعقد البيعة ، فالبيعة مرتبطة بولاية الأمر وليست مرتبطة بالإمامة العظمى ، لذلك بعضهم يقول (الإمامة العظمى هي المعتبرة عند أهل السنة والجماعة) وهذا غلط كبير على معتقد أهل السنة والجماعة لإجماع أهل السنة في الأندلس على بيعة بني أمية في الأندلس ولإجماع أهل السنة في الشرق على بيعة المسلمين لولاة بني العباس ، وهاتان دولتان مسلمتان .(33/342)
لمَّا تعددت الطوائف أيضاً ، صارت الدول - يعني دول القرن الرابع الهجري والخامس - صارت دويلات مختلفة ، أيضاً ما نُزِعَ اسم الإمامة وأُنيط بإمام عام عند أهل السنة والجماعة ، فهذا البحث مهم ومن ظن أن الإمامة إنما تكون لمن أجمع عليه المسلمون في زمن ، فلم ينظر إلى وجود إمام بني العباس وإمام بني أمية وإجماع أهل السنة على أن كل منهما له إمامته الشرعية فقامت دولتان ، وتعلمون أن دولة بني أمية بالاندلس كانت قبل خروج العباسيين على بني أمية فخرج العباسيون على بني أمية فأخذوا من البلاد التي يليها الأمويون بعضاً فأقاموا فيها حكم العباسيين وما لم يستطيعوا بقيت فيه ولاية الأمويين ، اللي هي الأندلس والمغرب ، ثم المغرب دخل في العباسيين بعد فترة لكن الأندلس بقي في ذلك حتى سقط الأندلس وهو عند بني أمية ثم سقط بنو العباس ، ولاية بنو العباس وهم في بغداد ولا دخل لهم بالولاية في الأندلس ، فهذا إجماع مُتَيَقَنْ ولا أحد من أهل السنة قال إن ولاة بني أمية في الأندلس ليسوا بأئمة وليس لهم بيعة وكذلك ولاة بنو العاس ليسوا أئمة وليس لهم بيعة لوجود إمامين في ذلك الزمان ، هذا بحث .
والثاني في هذه المسألة أن هذا القول وهو أن البيعة لا تكون إلا مع الإمامة العظمى يلزمه أن البيعة قد ذهبت منذ أزمان وأن قول النبي عليه الصلاة والسلام (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) أن هذا مخصوص ببعض الأزمنة دون بعض ، وهذا تَحَكُمٌ في دلالة النص و تَحَكُمٌ أيضاً في كلام أهل السنة ، فالبيعة ليس لها زمن يحدها عند أهل السنة ، بل هي ماضية ولم يحدها أحد ، والقول بأن البيعة منوطة بالإمامة العظمى هذا يلزم منه هذين اللازمين الباطلين .(33/343)
وكما هو معلوم في بحث الجدل أن القول إذا لزم منه باطل فإنه يكون باطلاً ، ولذلك أهل السنة أبطلوا قول الجهمية بالحلول لأنه يكون يحل في الأشياء المستكرهة مع أن القائلين بالحلول لا يقولون بحلوله لكن قالوا يلزم منه ، أحياناً القائل بالقول لا يلتزم القول ، لا يلتزم يعني ما ينتج عن القول ، لا يلتزم لوازم القول ، يقول أنا ما ألتزم هذا ، ولهذا قال العلماء لازم المذهب ليس بمذهب ، لكن اللوازم الباطلة على القول تدل على أن القول باطل ، هذا الذي تجده ... في كتب أهل العلم .
......
إذا كان انتقاله انتقال سفر وإقامة فهذا تلزمه بيعة الأول لأنه هو مسافر وسيرجع ، وأما إذا كان انتقاله انتقال استيطان ، يعني ترك هذا الوطن واتخذ له وطناً آخر ، فما دام انه استوطن البلد الآخر فيلزمه أحكام ولي الأمر في ذلك البلد ، وكما تعلم أن الفقهاء قسموا الناس إلى ثلاثة أقسام :
مسافر ومقيم ومستوطن ، وبعضهم يقول مسافر ومقيم ويُدْخِل المستوطن في المقيم .
المستوطن مثلاً أنت ذهبت إلى بلد أخرى واستوطنت فيها ، .. تركت هذا البد لا تشتغل تبع المملكة ولا تشتغل تبع جهة فيها ونحو ذلك وإنما قلت أنا تركت هذه خلاص وسكنت في تلك البلد ، فهنا من حيث جريان الأحكام والسمع والطاعة بحسب البلد الذي ذهبت إليه ، من حيث عقد القلب ، ثمرة القلب وصفقة اليد إما بنفسك أو بواسطة أهل الحل والعقد هذه بحسب ما ترغب فيها أنت فإن رغبت في بقاء البيعة الأولى لأنها هي الأصل ولم تجدد بيعةً ثانية فأنت على الأولى ، وإذا جددت بيعة ثانية للوالي الآخر فأنت يلزمك ذلك الوالي ، وهي المسألة مسألة دين ماهي مسألة أهواء (من مات ولي في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) يعني على كبيرة من الكبائر ، وإذا كان على كبيرة من الكبائر فهو ايش ؟(33/344)
صغائره لا تُكَفَّر ?إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ? الصلاة إلى الصلاة غير مكفرات لما بينهما إذا مات وليس في عنقه بيعة ، والصيام إلى الصيام غير مكفر لما بينهما فالمسألة عظيمة لأنها دين و يعني التساهل في هذا الأمر بآراء أو بأقوال أو بحديث مجالس أو بسوالف شباب يعني من الإستهانة بشيء من عقائد أهل السنة والله المستعان .
ما رأيكم في قول (لقد تحدث القرآن) كما هو دارج على ألسنة كثير من المتكلمين ؟
تحدث القرآن ، قال القرآن ونحو هذه كلها من الألفاظ المحدثة والألفاظ الثقافية التي لا يجوز استعمالها لأن الذي تحدث وجعل هذا القرآن حديثاً هو الله جل وعلا ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا? القرآن لا يتحدث هو ، ليس بمخلوق ، إنما القرآن كلام الله جل وعلا فالذي يتحدث هو الله جل وعلا ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ? .
......
يقول ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ? ، لكن يعني أنا يظهر لي أن كلمة يقص غير قال ، تحدث ، يقص بما فيه من القصص ، لكن تحدث وقال الآن ما عندي جواب على هذه الآية تبيلها تأمل إن شاء الله .
هل تعتبر النصيحة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ؟
ما ادري هذا ما حضر الدرس الماضي أو لا .
هل يأمر الفُسَّاقْ بالمعروف وينهون عن المنكر ؟
نعم ، الفاسق يجب عليه أن يأمر وينهى مثل المطيع ، وكونه فاسقاً لا يعني أن يترك الواجب لأن الواجبات متداخلة فيجب عليه أن يأمر ويجب عليه أن ينهى ، فإذا كان يفعل المعصية ما يترك الواجب عليه لأجل أنه واقع في معصية فيجتمع عليه مخالفات ، ولهذا قال الإمام مالك (لو لم يأمر بالمعروف إلا من فعله ولم ينهى عن المنكر إلا من تركه لما وجدت آمراً ناهياً) يعني لكثرة المعصية في الناس والمخالفة .(33/345)
هنا هذا سؤال أيضاً عن ولاة الأمر ، إذا قلنا ولاة الأمر يُعنى بهم - يعني في بحثنا هذا ، الدرس هذا - نعني بهم الأمراء ، مثل ما قال شيخ الإسلام هنا (مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا) أما كلمة ولي الأمر وأولي الأمر في النصوص فإنها في الأصل للأمراء لأنهم علماء ، ولما صار الأمراء غير والعلماء غير من عهد بني أمية قسم أهل العلم ذلك وذكروا في تفسير قول الله تعالى ?وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ? قالوا هم العلماء والأمراء يعني كُلٌ فيما تجب طاعته فيه ، فالعلماء فيما أوجب الله جل وعلا طاعتهم فيه من العلم والدين والأمراء فيما يتعلق بدنيا الناس والحفاظ على ثغورهم وإقامة الحدود والفرائض الشرعية ونحو ذلك .
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.
وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا"، وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا.(33/346)
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي"، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ، وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ، وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ".
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم(33/347)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه خاتمة هذه الرسالة المباركة التي سُمِّيت بالعقيدة الواسطية وفيها بيان أخلاق أهل السنة والجماعة .
وأهل السنة تميزوا عن غيرهم بأنهم أثَّرت فيهم المتابعة وأثَّرَ فيهم الاعتقاد فجعلهم أهل اتباع للنبي عليه الصلاة والسلام في المسائل العلمية وفي المسائل العملية .
وأهل البدع جعلوا المسائل العملية والأخلاق ، جعلوها في مرتبة ليست بمهمة أو يقولون إن هذه من قشور الدين .
وأهل السنة من جهة اعتنائهم وفقههم واتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام تابعوا في المسائل العلمية وفي المسائل العملية .
والمسائل العملية منها الأحكام الفروعية ومنها الأخلاق ، فلذلك هم في السلوك أهل اتباع لسبيل المؤمنين بطريقة المصطفى عليه الصلاة والسلام وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم من بعده .
والفِرَقْ المخالفة لطريقة أهل السنة في باب الأخلاق تنوعت :
منهم من لم يهتم بهذا أصلاً ، وإنما يهتمون بالأمور الكلية وأما إذا أتيت إلى سلوكهم وعملهم وأخلاقهم وديانتهم فإنهم لا يهتمون بذلك ، لا من جهة حقوق الله جل وعلا ، ولا من جهة حقوق الخلق ، من جهة الواجبات و المستحبات ، فيفرطون في ذلك وأخذوا الاعتقاد من جهة العقليات ، فصارت عندهم مباحث أشبه ما تكون بمباحث اللاهوت عند النصارى ، وليست بمباحث عقدية تؤثر في القلب عقداً فتستجيب لها الجوارح فعلاً وسلوكاً وحركة .
فالمتكلمون أقسى قلوباً مع أنهم يُثبتون وجود الله جل وعلا بما يثبتونه به ويثبتون البعث ويثبتون أشياء مما هي معلومة في العقيدة ويخالفون فيما يخالفون لكنهم ليسوا بذوي ذكاء في قلوبهم ، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في وصفهم ، أو في وصف أئمتهم (أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا ذكاءا ، وأوتوا علوماً ولم يؤتوا فُهُوما).(33/348)
وهذا واقع فإن كثيرين دخلوا في مباحث الاعتقاد من جهةٍ عقلية بحتة ولم يستفيدوا منها في تعظيم الله جل وعلا كما ينبغي له جل وعلا ولا في تعظيم رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ التعظيم الذي أذن الله به لرسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من جهة محبته وطاعته واتباع ما جاء به .
فهذه الفئة ، المتكلمون ومن شابههم ، هؤلاء لم يعتنوا أصلاً بالأخلاق ولا بالعمل ومثلهم الفلاسفة الإسلاميين كذلك لم يهتموا بالعمل ، وهؤلاء أصناف متنوعة .
يقابلهم جهة أخرى غلت في الأخلاق حتى جاوزت المأذون به وجاوزت السنة في ذلك وهم المتصوفة .
والصوفية فرقة نشأت في أواسط القرن الثاني للهجرة وكان لنشوئها سبب أو أسباب ومنها مخالطتهم للنصارى خارج الأمصار ، خارج البلاد - يعني البلد التي هي متأهلة بالسكان - خارج بغداد ، خارج دمشق ونحو ذلك .
كان النصارى يميلون إلى الرهبنة وينعزلون فخالطهم طائفة من جهلة المسلمين فقلَّدُوهم في ذلك حتى غلوا في هذا الجانب ، جانب الأخلاق ، فصاروا مخالفين لطريقة السلف الصالح فيه .
وهؤلاء الذين غلوا وهم الصوفية نُسِبوا إلى لُبْسِهِم الصوف تقليداً للنصارى وهناك أقوال أخر ، لكن هذا هو أظهرها .
ففي المقامات والأحوال لم يتابعوا ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام وإنما دخلوا بالذوق .
وهذا له سبب وذلك أن كتب اليونان لمَّا تُرجِمَتْ في أوائل القرن الثالث وقَدِمَتْ بلاد المسلمين ، كانت كتب ألئك فلسفية .
والفلسفة معناها طلب الحكمة .
والحكمة تارةً تكون في العقليات وتارةً تكون في الروحانيات .
والفلاسفة اليونان على هاتين الفرقتين :
- منهم من عُنُوا بالعقليات كأرسطو وأفلاطون وجماعة من كبارهم فحققوا المسائل الفلسفية بحسب ظنهم بطلب معرفة الأشياء الطبيعية على ما هي عليه ، وكذلك معرفة ما وراء الطبيعة على ما يظهر عليه البرهان العقلي عندهم .(33/349)
هذا ليس مهماً عندنا في هذا الموضع لكن الذي يُهمنا هنا القسم الثاني وهم الفلاسفة الذين اعتنوا بطلب إصلاح النفس ، طلب الحكمة عن طريق إصلاح النفس .
قالوا طلب الحكمة لا يكون إلا عن طريق إصلاح النفس ، وإصلاح النفس بأن تتجرد من العلائق الأرضية وتنطلق في الأجواء السماوية ، وإذا كان كذلك فلا بد لها من رياضة ، وهذه الرياضة مُعْتَمِدَةْ عندهم على فصل الروح عن الجسد ، فلا ينظروا إلى الجسد البتة بل ينظروا إلى الروح فيُخَلِّصْ الروح من تعلقها بالجسد ، يعني من تعلقها بالأرض .
وهؤلاء الفلاسفة يُسمون أهل الإشراق أو أصحاب نظرية الفيض .
هؤلاء لهم كتب يمثلهم أفلوطين - غير أفلاطون - أفلوطين كان يعيش في الاسكندرية وصار صاحب نظرية الفيض .
والبحث في هذا متشعب ، المقصود أنها وصلت هذه الأقوال وهذه النظريات إلى المسلمين ، فتُرجمت كتب اليونان في العقليات وفي الروحانيات ، يعني في إصلاح العقل وفي إصلاح الروح .
وأنتم تعلمون أن المنطق يُعَرِّفُونَهُ بأنه قوانين تضبط العقل عن الخطأ .
وقوانين الروح عندهم تضبط الروح عن الدَنَسْ ، فدخلت هذه وهذه عن طريق الكتب التي تعتني بالعقليات نشَاَتْ الفلاسفة ، والفلاسفة غير المتكلمين .
نشأت الفلسفة وظهر الفلاسفة الذين اعتنوا بفلسفة الأوائل كالفارابي من المتقدمين وأشباهه وابن سينا ونحو هؤلاء .
والجهة الثانية الذين غلوا في إصلاح النفس ، والذين غلوا في إصلاح النفس تأثروا بالنصارى كما ذكرت لك وبالكتب الإشراقية هذه .
كتب نظرية الفيض التي تُرجمت عن اليونانية .
صار إذاً إصلاح النفس مخالفاً لطريقة السلف .(33/350)
فأهل السنة رأوا كلام الذين بدأ فيهم الزيغ فتكلموا في الأخلاق وفي إصلاح النفس بغير ما دلت عليه النصوص ، مثل جماعة ممن كانوا في عصر الإمام أحمد وقبله كان أفراداً وفي عصر الإمام أحمد وبعده كان هناك من يتكلم في هذه المسائل على غير طريقة السلف ، وصنفوا فيها مصنفات معروفة وموجودة ولهذا قابلهم السلف بتأصيل الأخلاق ومخالفة أهل الضلال فيها عن طريق كتب الزهد والرقائق .
فتصنيف كتب الزهد والرقائق كان مقصوداً لمخالفة هذه الطائفة التي غلت في الأخلاق ، غلت في السلوك فتركت طريق النبي عليه الصلاة والسلام ، وأيضاً الرد على الذين نظروا إلى الدنيا وأخذوا بالعقليات ونسوا يوم الحساب .
فهؤلاء وهؤلاء رَدَّ عليهم السلف بكتب الزهد والرقائق ، ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الزهد وما كان عليه أصحابه وما كان عليه الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه وهكذا .
فصار أهل السنة في باب إصلاح النفس مخالفين للجفاة الذين لم يعتنوا بإصلاح الأخلاق وللذين غلوا فابتدعوا طرقاً في إصلاح النفس والأخلاق .
كلمة الأخلاق هذه كلمة عامة والمقصود منها الصورة الباطنة لأن الخَلْقْ ، خَلَقَ يخلُقُ خلْقاً هو الإيجاد.
وهذا المخلوق له صورتان ، صورةٌ ظاهرة وهي الخَلْقْ ، خَلْقُهُ خِلْقَتُهُ وصورة باطنة وهي خُلُقُه .
ولهذا عظَّم النبي عليه الصلاة والسلام حسن الخلق في أحاديث كثيرة متعددة يأتي بعضها إن شاء الله تعالى .
قد قال الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام ?وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ? ، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة في حديثٍ طويل في سؤال بعضهم عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وسألوا عائشة عن خلُقُ ْالمصطفى عليه الصلاة والسلام فقالت (كان خلقه القرآن) .
فأهل السنة ذكروا في تصانيفهم ما يتعلق بالزهد والأخلاق وإصلاح العمل والصورة الباطنة .(33/351)
المتابعة الظاهرة وإصلاح الصورة الباطنة من مكارم الأخلاق ، ونهوا عن كل ما يخالف طريقة السلف في هذا الأمر ، ذلك لأن مسألة التربية ومسألة الأخلاق ومسألة إصلاح النفس قد تكون على غير طريقة السلف الصالح .
فلهذا ذكروا أصول ما هم عليه في باب إصلاح الخُلُق ، إصلاح الصورة الباطنة ، إصلاح النفس مما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الجملة .
المقصود في هذا البيان أن ذكر الأخلاق في كتب أهل السنة والجماعة مقصودٌ وهو من جملة ما تميزوا به عن غيرهم .
فغيرهم في هذا الباب ما بين جافٍ وغالٍ .
وإذا نظرت إلى تصانيف الغزالي مثلاً وجدت أنه غلا في هذا الباب فخالف طريقة أهل السنة ، ومشايخه أخف منه كمكي بن أبي طالب في كتاب (قوت القلوب) و القُشيري ونحو ذلك لكن عندهم أيضاً بلاء .
وهكذا كلما مضى الزمن وجدت أن المتأخرين في هذا الباب لسعة الانفراج يزيدون على من قبلهم انحرافا .
فمن المهم أن يُؤصل كلام أهل السنة في باب الأخلاق ، والكلام في الزهد والرقائق والخُلُقْ ليس أمراً ثانوياً كما يقوله من لم يفهم أو أمراً شكلياً أو قشور وليست بلُبَابْ .
الدين كله لُبَابْ وكله قولٌ ثقيل كما قال جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً? وقد سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن مسالةٍ فقال لا أدري .
فقال له السائل : إن هذه المسألة خفيفة .
فنهره وقال : ليس في العلم شيء خفيف العلم كله ثقيل قال الله جل وعلا ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً?
فنأمر بما أمرنا الله جل وعلا به وما أمرنا به المصطفى عليه الصلاة والسلام والكل حق وهدى نأخذه ونخالف بذلك أهل الضلال .(33/352)
فإذن الدعوة إلى هذه الأخلاق هذه من خصائص أهل السنة ومن أثر العقيدة على النفس ، ومن تَمَثَّلَ العقيدة الصحيحة فهو الصالح ، فالصالح من عباد الله هو الذي صَلُحَ باطنه وظاهره ، وصلاح باطنه بالاعتقاد الصحيح والأخلاق الفاضلة ، وظاهره بأن يكون مقيماً لحقوق الله ومقيماً لحقوق الخلق .
فالصالح عند أهل العلم هو القائم بحقوق الله القائم بحقوق الخلق ، فمن جمع القيام بهذا وهذا فهو صالح ، فمن فرط في شيء من هذين فهو ينقصه من الصلاح ويدخله شيء من ضده بحسب ما فرط وترك .
انتهى الشريط التاسع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثلاثون
فالصالح عند أهل العلم هو القائم بحقوق الله ، القائم بحقوق الخلق ، فمن جمع القيام في هذا وفي هذا فهو صالح ، ومن فرَّطَ في شيء من هذين فهو ينقصه من الصلاح ويدخله شيء من ضده بحسب ما فرَّطَ وترك .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هنا في وصف أهل السنة رحمهم الله تعالى وحشرنا معهم قال :
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ
يأمرون بهذه لأنه جاء الأمر بها .
والصبر عند البلاء هذا يشمل : صبر القلب وصبر الجوارح ، لأن الصبر في اللغة الحبس .
قُتِل فلانٌ صبراً يعني حبساً ، حُبِس ورُبِطَ بشيء حتى قتل ، يعني من غير قتال .
وهو في الشرع : حبس القلب عن التسخط وحبس اللسان عن التشكي وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك .
فإذا أتى بلاء فإنهم يصبرون .
إذا ابتلوا بشيء في أنفسهم أو في أهليهم أو في أولادهم من نقص في الأطراف أو نقص في الأموال أو ما شابه ذلك فإنهم يصبرون عند البلاء .
والصبر واجب من الواجبات وليس بمستحب .(33/353)
بل الصبر واجب ، واجبٌ أن لا يتسخط القلب ، يحبس القلب عن التسخط على فعل الله جل وعلا ، ويحبس اللسان عن شكوى الله جل وعلا إلى الخَلْقْ ويحبس الجوارح عن إظهار الجزع من لطم وشق وعويل وما شابه ذلك .
الصبر كما جاء في الحديث الصحيح الذي في مسلم وفي غيره قال عليه الصلاة والسلام (والصبر ضياء) وهذا من أعظم ما يكون عند الصابرين فإن الصبر حبس ولكنه يضيء القلب ويضيء الطريق
فالصبر واجب ، والأجر على البلاء هذا يكون بالصبر .
البلاء في نفسه مكفر للسيئات ، والصبر عليه يؤجر عليه العبد ، فصار البلاء في المؤمن له جهتان :
- جهة تكفيره للسيئات .
- وجهة إثابته على هذا البلاء .
البلاء يُكَفِّرْ ولكن الإثابة تكون على الصبر ، فإن فقد الصبر هل يقع التكفير أم لا ؟
خلافٌ بين أهل العلم والظاهر في ذلك أن الصبر لا يُشترط لتكفير السيئات بالمصيبة ، بل وقوع المصيبة بنفسها فيه تكفير للسيئات رحمة من الله جل وعلا كما قال جل وعلا ?وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ? وفي الصحيح (من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه)
فبالمصيبة يكون الخير للمسلم ، ولا شك إذا صبر عليها فإنه يُؤجرُ وتكفر عنه السيئات .
وتفاصيل الكلام على الصبر في كتاب التوحيد وفي مدارج السالكين في منزلة الصبر .
قال (وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ) الشكر عام يدخل فيه عبادات كثيرة .
والشكر مما يُؤمَرُ به العباد لأن الله جل وعلا أمر به في مثل قوله ?وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ? ?أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ? ?وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? ?كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ? ونحو ذلك من الآيات ، فالشكر مأمور به وهو واجب .
والشكر له أركان ثلاثة واجبة كلها :(33/354)
" الأول أن يقوم في القلب أنه من عند الله ، أنَّ النعمة من عند الله جل وعلا ، فيكون القلب منطوياً على أن الفضل من الله جل وعلا لا من غيره ?وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ? .
" والثاني التحدث بهذه النعمة .
" والثالث استعمالها فيما يُحِبُّ من أَنْعَمَ بها لا فيما يَسْخَط ويَكْرَهْ ، وإذا قلنا إستعمالها فيما يُحِب يشمل ما أَذِنَ به من جهة التغليب ، يعني يشمل المباح من جهة التغليب وإلا فالأولى أن يقال استعمالها فيما أَذِنَ به فيدخل فيه المباح لأن من استعمل نعم الله جل وعلا في الواجبات أو في المستحبات أو في المباحات فإنه شاكر بخلاف من استعملها في المحرمات .
والشكر كما هو معلوم له تعلق بالقلب وتعلق بالعمل .
الشكر يكون بالقلب وبالعمل جميعاً .
والعمل عمل اللسان وعمل الجوارح .
فصار الشكر إذاً متعلقاً بالقلب واللسان والجوارح جميعاً ، بخلاف الحمد .
الحمد ليس له تعلق بالعمل والشكر له تعلق بالعمل .
الحمد ثناء على من اتصف بالصفات الحسنة سواءٌ أكان مُنْعِماً أم غير مُنْعِم ، فليس الحمد في مقابلة النعمة ، بل الحمد في مقابلة الصفات الحسنة .
وأما الشكر فهو في مقابلة نعمة .
ولهذا قال هنا ((وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ)) فإذا أصاب العبد رخاء شكر .
يشكر بقلبه يعني ينسب النعمة لله .
ويشكر بلسانه بأن يتحدث بهذه النعمة ?وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ? ما يكتم نعمة الله عليه .
ويشكر بعمله بأن يستعملها في ما يحب المُنْعِم كما قال جل وعلا ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? .
فإذن صار الشكر غير الحمد ، الحمد ثناء والشكر فيه عمل .
الشكر على نعمة وأما الحمد على أوصاف الكمال ، فَتَحْمَدُ من لا تحب من جهة الإنصاف ، تثني عليه بما هو أهله .
والله جل وعلا هو المحمود بكل لسان سبحانه وتعالى .(33/355)
قال (وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ) والصبر والشكر هذان متقابلان كما جاء في الحديث (الإيمان نصفان نصفٌ صبر ونصفٌ شكر) لأن العبد ما يخلو في أي حال من حالاته :
إما أن يكون في شيء يستوجب شكراً لك .
أو في شيء يستوجب صبراً .
ولا يخلو من هذا وهذا جميعاً ، فلا بد من هذا وهذا فيكون إذاً متعبداً بالصبر وبالشكر .
قال (وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) الرضا هنا مقام من المقامات العظيمة للقلب ، والله جل وعلا رضي عنه عباده الصالحون ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ? فما يأتي من الله جل وعلا شيء إلا والمؤمن يعلم أنه خير له فيرضى ويُسَلِّم فيما يأتيه من الخيرات وما يأتيه من غيرها .
الشكر لا يمكن أن يكون إلا برضا ، فمرتبة الشكر أرفع لأن الرضا منطوٍ تحت الشكر .
فكل شاكرٍ راضٍ ، والراضي بالنعمة يشكرها .
وهنا في قوله (وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) تخصيص أحد وجهي الرضا وهو الرضا عن المصايب ، الرضا عن ما يصيب العبد .
والرضا مختلف عن الصبر ، الصبر حبس ، وأما الرضا فهو التسليم لهذه واستئناف القلب لها ورضاه عن هذه المصيبة أو رضاه عن من أتى بهذه المصيبة أو مُرْ القضاء .
ولهذا صار للرضا أحكام منها الرضا الواجب ومنها الرضا المستحب .
هل الرضا واجب أو الرضا مستحب ؟
هذه ذكرتها عدة مرات ، وتحقيق المقام في ذلك بأن الرضا تختلف جهته :
تارة يكون واجباً ، وتارة يكون مستحباً .
- فالرضا الواجب أن يكون النظر إلى جهة القضاء ، جهة فعل الله جل وعلا ، فإذا نظر العبد إلى فعل الله جل وعلا وجب عليه أن يرضى به وأن لا يَتَسَخَطَ فِعْلَ الله جل وعلا فهذا قَدْرٌ واجب .
- أما المقضي ، المصيبة في نفسها فهذه الرضا بها مستحب ، فإذا نظر إلى المصيبة وأنها شر بالنسبة إليه فقد لا يرضى بذلك من جهة فقد ولد أو فقد مال أو مرض أصابه لكن المستحب له أن يرضى بذلك .(33/356)
أمام من جهة فعل الله جل وعلا فيجب عليه أن يرضى وأن لا يتهم الله جل وعلا في فعله ولا في قضائه .
فالرضا بالقضاء واجب والرضا بالمقضي مستحب .
و هذا تحقيق القول في هذه المسألة التي اختلف فيها أهل العلم .
والصبر كما هو معلوم غير الرضا ، الرضا شيء والصبر شيءٌ آخر لأنه قد يصبر من لم يرض فإذا رضي عن الله جل وعلا ورضي بالمصيبة التي جاءته صار ذلك كمالاً في حقه وهو زيادة على الصبر
(وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) القضاء معروف وهو ما قدره الله جل وعلا ، سمي قضاءً لأنه سيقع لا محالة .
القدر قد يسمى قضاءً قبل أن يقع باعتباره نهايته وأنه سيقع لا محالة .
لهذا اختلف أهل العلم هل القدر والقضاء متفاوتان أم معناهما واحد ؟
فمنهم من قال معناهما واحد باعتبار أن القدر لا بد أن يقع فهو قضاء ولو قبل أن يحصل لأن ما قَدَّرَ الله جل وعلا كائن لا محالة .
ومنهم من فرَّقْ بين القدر والقضاء بأن القدر ما يسبق وقوع المقضي فإذا وقع المُقَدَّرْ وانتهى قُضِيَ وصار قضاءً .
والمعنيان متقاربان يؤولان إلى شيءٍ واحد .
قال (وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ) .
يدعون يعني يأمرون بذلك ويدعون الخلق إلى مكارم الأخلاق .
الأخلاق كما ذكرت لك هي الصورة الباطنة ، جمع خُلُقْ ، والخُلُقْ الصورة الباطنة للانسان يعني ما يكون عليه في الباطن ويفصح عنه الظاهر من إصلاح حاله مع ربه وإصلاح حاله مع الخَلْقْ .
فيدخل في الخُلُقْ الإخلاص ويدخل فيه مقامات الإيمان من الصبر والرضا واليقين والعلم والعفة والشجاعة ونحو ذلك .
ويدخل أيضاً في الخُلُقْ : الظاهر ، يعني ما فيه صلاح ما بينك وبين الخلق بأداء الأمانة وصدق الحديث ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وترك التعدي على الخَلْقْ والنَصَفَة من العالم ونحو ذلك .(33/357)
قال بعض أهل العلم عماد حسن الخُلُقْ وكَرَمْ الخُلُقْ أن تكون منصفاً الخَلْقْ على نفسك وأن تكون مع الخَلْقْ على نفسك .
يعني إذا كان بينك وبين الخَلْقْ معاملة فتكون معهم عليك ، وهذا يجعلك تأخذ لنفسك القَدْرْ الذي أُذن به ، ما تتجاوز .
فتكون معهم على نفسك كما جاء في الأثر وأنَّ من أخلاق أهل الإيمان (والنَصَفَةْ من العالم).
تنصفهم منك يعني تكون معهم على نفسك ولا تكون عليهم متسلطاً ، بل إذا اختلفت معهم كن معهم على نفسك فتكون مُثْبِتاً للحق راداً بما ليس بحق .
والمكارم جمع مَكْرُمَةْ وهي مأخوذة من الكرم .
والكرم في الأقوال والصفات والأعمال الكامل منها .
والكريم هو الذي فاق غيره في صفات الكمال المناسِبَة .
فكريم الرجال من فاق غيره في صفات الكمال ، هذا من جهة عموم اللغة .
عُرْفْ العرب يسمون الكريم الجواد ، يعني يقولون للجواد إنه كريم وذلك لأن من أعظم ما يحتاج إليه الناس في ذلك الزمن الأكل والشرب والإكرام بالضيافة ، وإلا فإن لفظة الكريم هو أن يفوق غيره في صفات الكمال .
يدخل فيه أن يفوق غيره في الجود وفي الإحسان وفي صدق الحديث وفي أداء الأمانة وفي البعد عن المظالم إلى آخر ذلك .
ولهذا وصف الله جل وعلا الملائكة بأنهم كرام ?كِرَامًا كَاتِبِينَ? ووصف الزرع بأنه كريم ?أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ? النبات كريم باعتبار أنه فاق غيره مما يُتصوَّر مما يخرج من الأرض ، يعني لو تصورت فاق غيره في الحسن والبهاء في صفاته ، فلو تأملت هذا النبات لوجدت له في صفاته عجباً .
فكما قيل في هذا إن الكريم الذي فاق جنسه أو تقول غيره في صفات الكمال المناسبة له .(33/358)
ومن أسماء الله جل وعلا الكريم لأنه جل وعلا فاق غيره في صفات الكمال ، فالخلق لهم صفات قد يشتركون فيها مع الله جل وعلا في أصل المعنى ، لهم منها ما يناسب ذاتهم الحقيرة الوضيعة ، لكن لله جل وعلا من هذه الصفات الكمال الأعظم المطلق الذي لا يعتريه نقص ولا يتطرق إليه عيب بوجهٍ من الوجوه .
فإذن مكارم الأخلاق يعني الأخلاق التي فاقت غيرها .
فالخلق الكريم هو الذي فاق غيره .
فأهل السنة يدعون في معاملتهم مع ربهم جل وعلا وفي تعاملهم مع الخَلْقْ إلى الخُلُقْ الذي فاق غيره
فإذا أنت كان عندك اختيار في ثلاثة أنواع من التصرفات مع الخَلْقْ ، فإذا تصرفت بأحسنها وأكملها وأرقها وأبلغها صلة بالخَلْقْ فإن هذا هو الخُلُقْ الكريم وهو الخُلُقْ الحسن كما جاء في الحديث الصحيح (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وفي رواية في الموطأ (إنما بعثت - أو نحوها - لأتمم حَسَنَ الأخلاق) فمكارم الأخلاق كانت موجودة فبُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق ، فيدخل في مكارم الأخلاق الصورة الباطنة من الإخلاص والأخلاق جميعاً الباطنة وكذلك الظاهرة في التعامل مع الخلق .
قال (وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ) يعني يأمرون بكل خلق حسن .
فكلما كان العبد أحسن خُلُقاً مع صحة العقيدة كلما كان أقرب إلى طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم .
وإذا تأملت طريقة الإمام أحمد وسفيان ووكيع ومالك والشافعي مع الناس وجدت عجباً ، فهم الخِيَرَةُ ، وإذا قرأت تراجمهم وجدت أنهم صَلُحُوا في عباداتهم وصَلُحُوا مع الخلق فأدَّوا ما يجب عليهم تجاه الله جل وعلا وتجاه عباده .
قال (وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ) محاسن الأعمال يعني في العمل الذي هو مع الله جل وعلا أو مع الخلق .
قال (وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا")(33/359)
ولهذا نقول من كَمَّلَ خُلُقَهُ الحسن ، من سعى في إكمال أخلاقه الظاهرة والباطنة فإنه يكون أكمل إيماناً ممن لم يُكَمِّلْ ذلك .
(أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) وهذا يدل على أن إصلاح الصورة الباطنة وإصلاح الظاهر من جهة التعامل مع الناس فإن هذا من حُسْنْ الخُلُقْ وهذا يدل على أن حسن الخُلُقْ من أعظم أعمال الإيمان ، ولهذا كتب فيه جماعة منهم البيهقي في كتابه شُعب الإيمان ، فهو مبني على ذِكْرِ شعب الإيمان وأكثرها من جهة الأخلاق .
قال (وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ)
يندبون أن يحضون ويأمرون بذلك على جهة الدعوة والحض والأمر بذلك ، يندبون ، يُرَغِّبُون في أن تصل من قطعك .
والذي يَصِلْ من قَطَعَهُ هو الواصل .
وأما الذي يَصِلْ من وصله وأما من قَطَعَهُ فإنه يقطعه فهذا قد عامل بالعدل ولم يَصِلْ كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال (ليس الواصل بالمكافئ) يعني اللي يعمل مثل ما يعمل .... ، يقول والله عمل معي جاني بجيه ، تكلم في طيب بتكلم فيه طيب تكلم فيني قبيح بتكلم فيه قبيح .
هذا يسمى مكافئ ، ترد الشيء بمثله قال (ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصلها) ، ولقد جاءه عليه الصلاة والسلام رجل فقال (يارسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيؤون إلي ، قال إن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ سفَّاً) - الرماد الحار في وجوههم - لأنك ... وقد قال جل وعلا ?وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى? وهذا في قصة أبي بكر مع قريبه الذي قطعه .(33/360)
والمقصود من ذلك أن صلة الرحم واجبة ?فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ? ، وصلة الرحم تكون بصلة من قطع ، وقد جاء في مسلم وفي غيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (يُغْفَرُ لكل مؤمن في يوم الاثنين من كل أسبوع ويوم الخميس إلا رجل كانت بينه وبين أخيه خصومة فيقال أركوا هذين حتى يصطلحا ، انْظِرُوا هذين حتى يصطلحا)فكل خير في الصلة وكل شر في القطيعة .
والوصل يكون صلة الرحم وصلة المسلم بعامة ، فتصل من قطعك ، ....1
وإعطاء المسلم أخاه المسلم حقه ليس مبنياً أن ذاك يعطيك حقك ، لا بل تعطيه حقه لأن الله أوجب ذلك ولو حَرَمَكَ حَقَكَ .
ولهذا العلماء ذكروا في كتب الفقه المسألة المعروفة بمسألة الظَفَرْ ، وهو ظَفَرُ صاحب الحق بحقه هل يجوز له أن يأخذه ؟
يعني مثلاً واحد خذ منك ألف ريال فوجدت عنده ، جيته في بيته ، وجدت على الكرسي أو كذا ألف ريال وهو خذها منك ... ونحو ذلك فهل تأخذ منه بمثل ما أخذ ؟ تقول تسرقها وتأخذها وتضعها في جيبك ؟
قال عليه الصلاة والسلام (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) فالأمانة تُؤدى وإذا ظفرت بمال لك فإن العلماء اختلفوا في ذلك تأخذه أو لا تأخذه على أقوال ، والتحقيق منها أن ما كانت دلائله ظاهرة بينة لا إشكال في ذلك جاز أخذه ، وأما إذا كان الأمر خفياً فإنه لا يجوز أخذه إلا عن طريق القاضي لأن الحقوق تقطع القطيعة وتُثَبِّتُ الصلة .
قال (وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ)
تعفو عن من ظلمك لأن العفو عن من ظَلَمْ هذا مُستحب .(33/361)
من أخذ بالقصاص فلا بأس ، هذا عدل ولكن الإحسان بالعفو عن من ظلمك ، كما قال جل وعلا ?وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ? وقال جل وعلا في آية الشورى ?وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ? وهذا هو الأفضل أن يصبر المرء وأن يعفو عن من ظلمه وأن يعفو عن من أساء إليه وهكذا كان عليه الصلاة والسلام .
(تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ) الظلم قد يكون في البدن وقد يكون في العرض وقد يكون في المال ونحو ذلك.
،وهنا مسألة ننبه إليها لأنها تتعلق بالعفو عن من ظلم ، بمن اغتاب إخوانه أو اغتاب أحداً من أصحابه أو أحبابه أو أحداً من المسلمين من أئمتهم أو عامتهم من أهل العلم أو من غيرهم فإنه يُستحب له ويتأكد عليه أن يطلب التحليل .
يطلب أن يُحَلَلَ ، وهذه من السنن المغفول عنها كما جاء في البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال (من كانت عنده مظلِمة لأخيه - مظلِمة بكسر اللام ليست مظلَمة - من كانت عنده مظلِمة لأخيه في مالٍ أو عرضٍ فليتحلل منه اليوم ، قبل أن يكون يومٌ لا درهم فيه ولا دينار)
فالمستحب أن تتحلل ممن ظلمته في عرضه أو في ماله ، فتقول لأخيك أنا أخطيت في حقك حللني .
ويستحب أن يعفو من طلب منه التحليل عن من ظلمه فلا يستفصل منه ، فيقول ماذا قلت ؟ إيش قلت في ؟ وش اللي تعديت ؟ وش اللي صاير منك ؟
فيستحب لمن أتاه قال له حللني أن يقول له حللك الله وأباحك مما عملت والله جل وعلا يتولى جزاء من عفا عن من ظلمه .
فهذه من صفات المؤمنين ، ومن مات من أموات أهل التوحيد ، أموات أهل الإيمان فتقول له ، تقول حلله الله ، اللهم حلله ، لعله ينجو بذلك أو يخف عليه الحساب ، والمؤمنون يحب بعضهم بعضاً وإن كان المؤمن قد يغلط وقد يعصي وقد يحصل منه لكن قلب المؤمن على إخوانه فلا يحب أن تكثر عليهم الذنوب .(33/362)
أحياناً يكون الظلم عظيماً ، ورد القول السيئ بمثله جائز لكن ليس هو الأفضل كما قال الله جل وعلا ?لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ? يعني من ظُلِمَ فإن الله جل وعلا أباح أن يُجْهَرَ له بالسيء من القول من جهة الجزاء .
لكن هل هو الأفضل ؟
لا ، الأفضل أن يعفو الرجل عن من ظلمه ، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (وما ازداد عبدٌ بعفوٍ إلا عزاً) فالذي يعفو لا يظن أنه ينقص بل هو يعتز يُظْهِرْ الله جل وعلا له مناراً لأنه تخلص من حظ نفسه وفعل ما ندبه الله جل وعلا إليه .
قال (وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ)
وبر الوالدين فرض وقطيعة الوالدين كبيرة من الكبائر قرنت بالشرك ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا? والآيات في ذلك معلومة
وَصِلَةِ الأَرْحَامِ
ذكرنا بعض ما فيها .
وَحُسْنِ الْجِوَارِ
حسن الجوار أن تحسن إلى جارك ، والإحسان إلى الجار يشمل مرتبتين :
المرتبة الأولى أن تؤدي له حقه .
والثانية أن تكف الأذى عنه .
والجوار - يعني الجيران - الذين لهم حق حسن الجوار على مراتب :
" أعظمهم حقاً الملاصق ، وهذا الجار الملاصق هذا أعظمهم حقاً ، وقد جاء في الندب إلى حسن الجوار معه أحاديث كثيرة حتى جاء فيها قوله عليه الصلاة والسلام (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، هذه المرتبة الأولى ، الملاصق القريب منك ، ملاصق هنا أو هنا أو هنا ، يعني من الجهات ، هذا له حق .
" والمرتبة الثانية الجار الجُنُبْ ، الجُنُبْ يعني البعيد .
ما حد الجُنُبْ ؟
اختلف فيه السلف وهو ما ذُكِرْ في آية النساء ?وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ? .
الجار الجُنُبْ البعيد .
ما حده ؟
قال بعضهم سبعة أبيات ، يعني بيت ، سبعة أبيات من كل جهة ، هذا يُعتبرُون جيران جنب أمر الله جل وعلا ووصى بهم .(33/363)
قال آخرون أربعون داراً ، وقد جاء فيها حديث ولكنه ضعيف ، أربعون داراً يعني من كل جهة ، كل الجهات ، أربعون داراً من هنا ومن هنا ومن هنا ، هؤلاء يدخلون في الجار الجُنُبْ ، جار بعيد
" والثالث من الجيران جيران البلد ، من يساكنك في البلد التي أنت فيها ، ولو كان في طرف البلد وأنت في طرف البلد فإنه يسمى جاراً كما قال جل وعلا ?ولا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً? فالذي يسكن معك في نفس البلد يعتبر جاراً ، فله حق الإحسان ، حسن الجوار ، لكن مراتب :
أولها أعظمها .
والثاني الجار الجنب متوسط وله حق عظيم أمر الله به .
والثالث من باب العموم وحسن الجوار للعامة .
القريب يعني المرتبة الأولى والثانية تنقسم أيضاً إلى مراتب بحسب الحق :
- إذا كان جاراً وصاحب رَحِمْ ومسلم صار له ثلاثة حقوق ، حق الجوار ، وحق الإسلام ، وحق الرَحِمْ .
- وإذا كان جاراً مسلماً ولي بذي رَحِمْ صار له حقان .
- وإذا كان جاراً وليس بمسلم ولا بذي رَحِمْ صار له حق الجوار .
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام يزور بعض جيرانه اليهود ويرسل لهم من بعض الطعام ونحو ذلك ، فهذا فيه حق الجوار .
قال (وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)
لعلنا نمر عن هذه وتفاصيلها معلومة لديكم تطلبونها ولا شك أنها من المهمات أن تتطلب ما به يكون عملك مع الخلق على بَيِّنَةْ .
ما الذي يفرق بين طالب العلم وبين غيره ؟
غير طالب العلم قد يعمل الشيء بمقتضى سماعه ، بمقتضى فعله ، بمقتضى طبيعته ، بمقتضى عادته ، لكن طالب العلم يعمل الشيء وهو يتعبد به ، يعرف أنه مأمور به ، وهو يتحرك يعمل يتذكر ما فيه من الدليل ، يتذكر ما فيه من الأمر، يتذكر ما فيه من كلام أهل العلم فيعمله .(33/364)
لا شك لا يستوي هذا وذاك ، فلهذا تَطْلُبُ مكارم الأخلاق وأنواع هذه الأخلاق مما في النفس - يعني في القلب - أو في الباطن ، ومما يكون في التعامل مع الخلق ، وأحكام ذلك وتفاصيل المقام فيها ، نمر على هذه .
قال (وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) اليتامى معروف أنهم هم من دون سن الإحتلام ممن مات من يعيلهم .
والمساكين ، يدخل فيه الفقراء ، من لم يجد حاجته .
وابن السيبل المنقطع .
وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ
المملوك هو الخادم يعني الرقيق ، العبد ، يُرْفَقْ به ولا يُكلف من العمل إلا ما يطيق ، يُعان عليه ويطعم مما يطعمه الإنسان ويكسى مما يكتسي منه ونحو ذلك .
وَيَنْهَوْنَ - هذا جانب المنهيات - وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ
الفخر والبغي متقاربان ، لكن الفخر يكون بذكر ما أنت عليه بحق ، يعني يكون فيك وتفخر بما أنت عليه بصدق .
والبغي فيه افتخار بالباطل ، شيء لست أنت عليه .
والفخر نوعان : منه ما هو مأذون به ومنه ما هو مذموم .
والمذموم هو الذي أراده شيخ الإسلام في هذا الموضع .
قال (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ) يعني الفخر المذموم ، وأما الفخر المحمود ، تَذْكُرُ ما أنت فيه على جهة بيان الأمر ، وذِكْرُ ذلك للناس كما قال عليه الصلاة والسلام (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقال سعد (أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله) ونحو ذلك مما يُذْكَرُ فيه الأعمال الصالحة على جهة بيانها للخلق .
هذا إذا لم يكن على جهة الاستطالة على الخلق والترفع عليهم بفساد الباطن فإنه يكون محموداً ولا يصير من الفخر المذموم .
و الضابط في الفرق بين الفخر المذموم والفخر المحمود ، أن الفخر المحمود أن يذكر شيئاً تحدثاً بنعمة الله عليه ، هذه هي الصورة الأولى .(33/365)
الثاني لأجل أن يُقتدى به ، يذكر ذلك ليشجع على العمل ، أنا فعلت كذا وكذا ليشجع الناس عليه ، لكن باطنه منطو على كراهة الفخر والإستطالة على الخلق ، فإذا ذكر ذلك لأجل التحدث بنعمة الله أو لدلالة الخلق على الفعل فإن هذا لا بأس به ، كما ذكر ذلك العلامة شمس الدين ابن القيم وغيره .
أما الفخر المذموم فهو أن يذكر ذلك استطالة على الخلق وترفعاً عليهم .
وجاء تعريف الكِبِرْ بأنه (بطر الحق وغمط الناس) رفض الحق وغمط الناس والإستطالة والله جل وعلا ?لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا? .
قال بعض أهل العلم الفخر بالاستطالة والترفع والإختيال ليس محموداً إلا بحالين :
الحال الأولى الجهاد ، والثانية الصدقة .
فالاختيال في الجهاد ، يمشي بين الصفوف مختالاً يقابل العدو باختيال ، هذا مأذون به كما جاء في الحديث (إن هذه مشية يُبْغِضُهَا الله إلا في هذا الموطن) ، يعني مشية الخيلاء .
وكذلك الصدقة ، الفخر بالصدقة والفرح بها وإظهارها هذا ممدوح عند طائفة من أهل العلم .
قال (وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ)
الاستطالة على الخلق مذمومة بل الواجب على العبد أن يلين مع الخلق وأن يعتبر نفسه إن لم يرحمه الله جل وعلا هو أهون الخلق ، فلهذا لا يستطيل وينصف من نفسه .
قال (وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا)
... سفساف الرذيل منها .
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
هذا فيه تنبيه على ما ذكرت لك أنهم في طريقتهم في باب الأخلاق إنما يتابعون فيه ما بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام ، وهذا يفارقوا به أهل الضلال من الجفاة والغلاة .(33/366)
قال بعد ذلك (لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي"، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ).
هذا المقطع فيه بحث أو عدة مباحث :
الأول أن حديث الافتراق المراد به أمة الإجابة لا أمة الدعوة ، فهذه الفرق ، الثنتين والسبعين فرقة ، هذه من أمة الإجابة ، وهم الفرق التي خالفت الجماعة الأولى ولم يحدث منها كفرقة مُكَفِرْ مخرج من الملة .
أخرج أهل السنة منها بالإجماع الجهمية ، لأن الجهمية الغلاة أتباع جهم الأوائل هؤلاء ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة أصلاً .
وأخرج طائفة من أهل العلم من المتقدمين و المتأخرين الرافضة الغلاة أيضاً من الثنتين والسبعين فرقة .
هذه الفرق الثنتين والسبعين ليست بكافرة خارجة عن الملة وقوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار) يعني متوعدة بالنار وليس محكوماً لها بالخلود في النار .
قال شيخ الإسلام وغيره من أئمة الإسلام ، قال (من ظن أن هذه الفرق خالدة مخلدة في النار كافرة فقد خالف إجماع السلف الصالح) والسلف الصالح لم يحكموا على هذه الفرق بأنهم كفار خارجون عن الملة .
ولهذا يغلط بعضهم فيقول (هذه الفرق النارية) ، هذه تسمية محدثة ، صحيح كلها في النار ، لكن كلمة النارية تحتمل أن تكون مخلدة في النار أو غير مخلدة ، وقد يكون ظاهر اللفظ أنهم مخلدون في النار ، ولهذا لا يصلح أن تقال هذه الكلمة ، بل يقال هذه الفرق في النار ، متوعدة بالنار ، خارجة عن طريق أهل السنة ، ضالة ونحو ذلك ، مبتدعة وبدعهم مختلفة متفاوتة .(33/367)
(كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) الجماعة من هي ، جاء تفسيرها في الحديث الآخر .
قال (هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي) (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ) المثلية هنا في العلميات وفي العمليات ، يعني من جهة الإعتقاد ومن جهة السلوك والعبادة .
قال (صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) فأهل السنة والجماعة فئة واحدة ، فرقة واحدة ، طائفة واحدة ، وهم أهل الحديث وهم أهل الأثر ، وهم أتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وهذا شبه إجماع من السلف على أن أهل السنة والجماعة هم أهل العلم ، أهل الحديث ، أهل الأثر ، وما شابه ذلك من الكلمات الدالة على المراد .
غلط طائفة من أهل العلم من الحنابلة وغيرهم فقالوا الفرقة الناجية عبارة عن ثلاث فئات :
" الأولى : أهل الحديث .
" والثانية : الأشاعرة .
" والثالثة : الماتريدية .
كما قاله السفَّاريني في لوامع الأنوار البهية وقاله غيره من المتأخرين ، قالوا (الذي يشمله هذا القول الفرقة الناجية أو أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث ، الأشاعرة ، الماتريدية) .
وهذا قولٌ باطل ، وغلط كبير لأن الأشاعرة والماتريدية من الفئات التي عليها الوعيد لمخالفتهم أهل السنة في :
1- أبواب التلقي 2 - منهج التلقي
3 - وتقديم النصوص على العقل لأنهم يقدمون العقل على النصوص
4 - كذلك في الصفات 5 - كذلك في الإيمان
6 - كذلك في القدر 7 - في مسائل أخر خالفوا أهل السنة
فليسوا من أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ، بل هم من المبتدعة الضُلال .
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ(33/368)
(الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ) ذكر هؤلاء الثلاثة لأجل آية النساء وهي قوله جل وعلا ?وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ? فالصديقون من أهل السنة والجماعة ، والشهداء الذين ماتوا على السنة ، على غير البدعة ، هؤلاء من أهل السنة والجماعة ، والصالحون القائمون بحقوق الله وحقوق الخلق هؤلاء من أهل السنة والجماعة .
وفي لفظ الصالحين ما يشمل القيام بحقوق الله ، ومن حقوق الله أن تكون في العلميات يعني في الأمور الإعتقادية على ما أمر الله جل وعلا به ، على ما جاء في النصوص ، فيخرج المبتدعة من وصف الصلاح ولو كانت جبهته فيها ... قد أثر فيها السجود ، أو كان يصوم النهار ويقوم الليل ، ما دام أنه على اعتقاد بدعي في الله جل وعلا فقلبه ليس بسليم .
فالعمل الصالح القليل مع اعتقاد سليم هذا أعظم ما يُتَقَرَبْ به إلى الله جل وعلا ، ولهذا جاء في أثر أبي الدرداء المعروف قال (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم ، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم ، ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادةً من المغترين) .
فالقصد القصد مع صلاح القلب في العقيدة ومتابعة السلف الصالح ونفي الزَغَلْ والدَغَلْ عنه وأن يحب لإخوانه المؤمنين ما يحبه لنفسه ، وأن يَسْلَمَ لسانه وتَسْلَمْ يده ويكون في عقيدته وفي عمله موافقاً للسلف الصالح هذا يزكو معه عمله ولو كان قليلاً ، والله جل وعلا أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، لكن مع بدعة ومع ضلال هذا لا شك أنه على خطر .
قال (وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى)
منهم يعني من أهل السنة أعلام الهدى ومصابيح الدجى .
يقصد بأعلام الهدى : الذين صاروا مُقْتَدىً بهم من الأئمة .(33/369)
ومصابيح الدجى : الذين يُؤْخذ قولهم ، فصارت أقوالهم محفوظة في الأمة ، فصاروا مصابيح في الظُلَمْ يُهتدى بأقوالهم ويُنظرُ في سيرهم فيقتفى أثرهم ، فلهم الأثر في الأمة بذلك .
قال (أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ)
يعني مما هو مُسَطَرْ في كتب أهل العلم ، في ذكر مناقب الشافعي ، مالك ، سفيان ابن عيينة ، سفيان الثوري ، ابن أبي حاتم أو أبو حاتم ، أبو زرعة إلى آخر الأئمة والحفاظ البخاري ، مسلم ، أبو داوود ، النسائي وأمثال هؤلاء الأعلام ، فهؤلاء هم أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة ، وهكذا أئمة السنة والإسلام ، فمن نظر في سيرهم حَقَرَ نفسه معهم ، والنظر في سير وسير أئمة أهل السنة يعطيك رغبة في الإقتداء بهم ، ويعطيك رغبة في أن تنهج على نهجهم ، ويقويك ولو لم تكن في هذا إلا واحداً .
إذا نظرت في سيرهم ولو خالفك كثيرون أو الأكثرون فإنك تكون على بردٍ ويقين لأنه سبقك أئمة سنة وحق وهدى وقالوا ما قالوا ، فتمسك بأقوالهم وآثارهم فإن فيها النجاة لأنهم تابعوا من قبلهم.
ومن خصائص أهل السنة أنهم لا يتكلمون إلا بما أثروه عن من قبلهم ، فطريقتهم طريقة مأثورة يأخذها الخالف عن السالف ، يأخذها المتأخر عن المتقدم ،ليس فيها ابتداء ولا استئناف وإنما هي منقولة بالإسناد ، هذا ينقل عن هذا عمله ، وهكذا حتى وصل إلينا الدين اليوم كما ترون غضاً طرياً كما علمه الصحابة والتابعون ، فليس شيء من الدين ذهب ، بل هو محفوظ .
قال (وَفِيهِمُ - يعني في أهل السنة - الأَبْدَالُ)
والأبدال جمع بدل وهو لفظ جاء في بعض الأحاديث ، لكن لم يصح حديث في الأبدال على الصحيح وإن كان بعض أهل العلم صحح في الأبدال بعض الأحاديث .
والأبدال هم أهل الحديث وأهل الأثر وأهل السنة ، إذا ذهبت منهم طائفة أبدل الله جل وعلا بهم طائفة أخرى .(33/370)
فمفهوم كلمة الأبدال هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة) فـ (لا تزال طائفة) هذه الطائفة هم الأبدال .
وقيد بعض أهل العلم الأبدال بأنهم بعض الطائفة المنصورة ، بعض الفرقة الناجية ، وهم الصديقون والصالحون ، هم الأولياء المتقون .
فلفظ البدل إما أن يكون عاماً في الطائفة المنصورة ، الفرقة الناجية .
وإما أن يكون مخصوصاً به أهل التُقَى والزَكَى وهم الأولياء والصديقون والصالحون .
هناك ألفاظ مقارنة أيضاً ظهرت في الأمة : الأقطاب ، الأوتاد ، الغوث ونحو ذلك ، وهذه كلها ألفاظ محدثة وإحداثها كان في أول الأمر ليس مراداً به ما تشتمل عليه من المعاني الباطلة ، ثم استخدمت في المعاني الباطلة فعبد غير الله واستغيث بغير الله بهذه الألفاظ ، القطب الأكبر والغوث الأكبر ونحو ذلك مما فيه توجيه للعامة بالشرك بالله جل جلاله وتقدست أسماؤه .
قال (وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ)
في قوله (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ) إخراج من كان من أئمة الدين لم يجمع عليه المسلمون في هدايته في أبواب السنة والاعتقاد .
فأئمة الدين كُثُرْ ، من أئمة الحديث ، كأصحاب الكتب الستة ومالك والشافعي وأحمد والسفيانان ووكيع والأوزاعي وحماد بن سلمة ، وأشباه هؤلاء الأئمة وابن شهاب إلى آخره ، فهؤلاء هم أئمة الدين ، شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمة هذه الدعوة من لدن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى وأبنائه وتلامذته ومن أخذ بدعوته وأخذ بطريقته إلى زماننا هذا .
هؤلاء أئمة الدين أجمع المسلمون على هدايتهم .(33/371)
المقصود بالمسلمين هنا يعني أجمع أهل الحق على هدايتهم ، وإلا فإن لفظ الإسلام من حيث هو ، لفظ المسلم المتصف بالإسلام ليس مراداً هنا ، لأن المعتزلة ابتَلَوا الإمام أحمد ، فالإمام أحمد ليس مُجمعاً عليه بين الفرق الثلاثة وسبعين وإنما هو مجمع عليه بالنسبة للفرقة الناجية ، كذلك الشافعي ، كذلك مالك ، فأهل الاعتزال وأهل الضلال لهم خلاف في ذلك ، وهم منتسبون إلى الإسلام وباقون على اسم الإسلام .
فعُلِمَ بذلك أن قوله (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ) المقصود هنا الخصوص لأن اللفظ العام قد يطلق ويراد به الخصوص ، هذا هو الظاهر .
قال (وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)
يعني أن الفرقة الناجية وأهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة ، هذه ألفاظ اختلفت ولكن المعنى واحد ، المسمى واحد ليس مختلفاً ، فأهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية وهم الطائفة المنصورة .
ولفظ الفرقة الناجية ما جاء في النصوص وإنما فُهِمَ من قوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار إلا واحدة) قيل لهذه الواحدة فرقة ناجية باعتبار الفهم ، وإلا لفظ فرقة ناجية لم يرد في النصوص وأما الذي ورد الطائفة المنصورة (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة) ، والمنصورة والناجية طائفة واحدة بإجماع السلف الصالح فمن بعدهم من أهل السنة والجماعة بلا خلاف بينهم في ذلك ، وإنما هذه عبارات متنوعة .
قيل لهم فرقة ناجية باعتبار الآخرة ، نجوا من النار .(33/372)
وقيل لهم طائفة منصورة باعتبار الدنيا والآخرة في أنهم نُصِرُوا في الدنيا وسينصرون في الآخرة ، قال جل وعلا ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ? فهم منصورون في الحياة الدنيا ومنصورون يوم يقوم الأشهاد ، وهم يوم القيامة ناجون .
فهذه أسماء اختلفت لكن المسمى واحد ، مثل أسماء السيف ، ومثل أسماء المطر ونحو ذلك ، تختلف الأسماء ، وأسماء الأسد ، باعتبار اختلاف الصفات .
سيف ، صام ، أبيض ، مُسْلِطْ ، مهند ، هو شيء واحد من جهة المسمى لكن صفته التي عُنِيَتْ بتغير الاسم هذا مختلف من جهة الصفة ، لكن من جهة المسمى واحد .
كذلك الأسد أسماؤه المختلفة المسمى واحد ، وهو الحيوان المعروف ، وكذلك المطر إذا قلت مطر أو قلت غيث أو قلت طل أو نحو ذلك هو ما ينزل من السماء لكن باختلاف صفته .
كذلك اسم الفرقة الناجية ، الطائفة المنصورة ، أهل السنة والجماعة ، أهل الحديث ، أهل الأثر ، أهل العلم ، كلهم شيء واحد يراد به من كان متبعاً في الاعتقاد ما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وخرج في صغير الأمر وفي كبيره عن قول المخالفين للجماعة الأولى .
قال في آخر هذه الرسالة العظيمة المختصرة الجامعة :
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ
وهذا فيه عدم التزكية للنفس فإن شيخ الإسلام مع ما قرَّرَ من هذه العقائد ، ومع ما هو معلوم من جهاده وعِظَمِ مقامه في هذا الدين ونشر اعتقاد السلف الصالح ، لكنه يرجو .
وهذا هو الواجب على المسلم ، الواجب على المؤمن الموحد يسعى في أسباب النجاة ، في أسباب الاعتقاد الصالح ويسأل الله جل وعلا أن يجعله من الطائفة المنصورة ومن الفرقة الناجية مع سعيه في أسباب ذلك ولا يزكي نفسه فإن الله جل وعلا أعلم بالمتقين ، قال ?فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى? .(33/373)
فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا منهم وأن يُلْزِمنا كلمتهم وأن يبصرنا بأقوالهم وأن يمن علينا بالاهتداء بهديهم .
اللهم نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلى وباسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت ، أن تميتنا على اعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم ، وأن لا تميتنا إلا وأنت راض عنا ، اللهم من كان منا مقصراً فاغفر له واهده سبيل الرشاد ومن كان منا عاصياً فاغفر له ذنبه ومُنَّ عليه بالتوبة النصوح ، ومن كان منا فيه قصور من جهة اعتقاده أو من جهة عمله اللهم فهيئ له أسباب كماله ، اللهم نسألك وأنت الكريم الجواد ألا تجعلنا من الخائبين ولا من الذين يكون آخر عملهم أقبح من أوله وأن تجعل آخر أعمالنا خيراً من أوائلها .
نسألك أن تمن علينا بتوبة نصوح من كل شيء لا يرضيك قبل الممات .
الله نسألك ثباتاً على الاعتقاد ومتابعةً لسلف هذه الأمة وأن تُخَلِصَ قلوبنا من الغش ، وأن تُخَلِصَ أعمالنا من الرياء وأن تجعلنا راغبين في الآخرة متجانبين عن دار الغرور .
قال رحمه الله تعالى (نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا)
الله لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، لا خير إلا خيرك ، لا حول لنا ولا قوة إلا بك ، نحمدك والحمد لك والفضل لك والنعمة لك على أن تفضلت علينا بسماع هذا العلم وبإفادته وبالبذل فيه فأنت ولي ذلك ، اللهم تقبل ذلك منا ، اللهم تقبله من القائل ، وتقبله من المستمع ، واغفر لشيخ الإسلام الذي أفادنا بذلك ، الله صل وسلم على معلم الناس الخير محمد بن عبدالله كِفَاءَ ما علم وكِفَاءَ ما أرشد , الله وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته .
اللهم وارض عن صحابة نبيك عليهم رضوانك اللهم ارض عنهم وأَرْضِي عنهم ، اللهم اغفر لإخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.(33/374)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
نترك إجابة الأسئلة للدرس القادم إن شاء الله .
وحبذا لو تكررون هذه الرسالة مع شرحها ، وأنفس الشروح لها فيما اطلعت ، كتاب التنبيهات السنية للشيخ عبدالعزيز بن رشيد رحمه الله تعالى .
كتاب نافع ، نافع للغاية ، جامع كل علم ، مسائله كلها فيها فائدة ، فيه من الضوابط والقواعد والإفادات الشيء الكثير .
وطالب العلم لا يترك الواسطية وشروحها بل دائماً يمر عليها مرة تلو أخرى .
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم القبول ، وأستودعكم الله .
انتهى الشريط الثلاثون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الفهرس
الصفحة العنوان
1 الشريط الأول
5 عقيدة الفرقة الناجية
26 الشريط الثاني
49 الشريط الثلث
74 الشريط الرابع
78 الجمع بين النفي والإثبات في وصفه تعالى
97 الشريط الخامس
106 الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته
121 إحاطة علمه بجميع مخلوقاته
124 الشريط السادس
132 إثبات السمع والبصر لله سبحانه
137 إثبات المشيئة والإرادة لله سبحانه
151 الشريط السابع
161 إثبات محبة الله ومودته لأوليائه على ما يليق بجلاله
174 الشريط الثامن
178 ذكر رضى الله وغضبه وسخطه وكراهيته وأنه متصف بذلك
195 ذكر مجيء الله لفصل القضاء بين عباده على ما يليق بجلاله
202 الشريط التاسع
210 إثبات الوجه لله سبحانه
218 إثبات اليدين لله تعالى
224 إثبات العينين لله تعالى
228 الشريط العاشر
233 إثبات السمع والبصر لله سبحانه
247 إثبات المكر والكيد لله تعالى على ما يليق به
249 وصف الله بالعفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة
251 الشريط الحادي عشر
257 إثبات الاسم لله ونفي المثيل عنه
265 نفي الشريك عن الله تعالى
275 إثبات استواء الله على عرشه
279 الشريط الثاني عشر
293 إثبات علو الله على مخلوقاته
298 إثبات معية الله لخلقه(33/375)
305 الشريط الثالث عشر
309 إثبات الكلام لله تعالى
320 إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى
331 إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
333 الشريط الرابع عشر
345 فصل في أسماء الله وصفاته في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
357 الشريط الخامس عشر
359 ثبوت النزول الإلهي إلى السماء الدنيا على ما يليق بجلاله
363 إثبات أن الله يفرح ويضحك ويعجب
376 إثبات الرجل والقدم لله سبحانه
379 إثبات النداء والصوت والكلام له سبحانه
387 الشريط السادس عشر
394 إثبات معية الله لخلقه وأنها لا تنافي علوه فوق عرشه
402 إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
405 موقف أهل السنة من الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية
408 مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة
417 الشريط السابع عشر
421 وجوب الإيمان بالاستواء والمعية وأنه لا تنافي بينهما
430 الشريط الثامن عشر
431 وجوب الإيما بقرب الله من خلقه وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته
444 وجوب الإيمان باليوم الآخر وما فيه
454 الشريط التاسع عشر
471 حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومكانه وصفاته
479 الصراط : معناه ومكانه وصفة مرور الناس عليه
481 الشريط العشرون
484 القنطرة بين الجنة والنار
487 شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم
493 إخراج الله بعض العصاة من النار برحمته وبغير شفاعة
498 شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم - 2 -
529 إخراج الله بعض العصاة من النار برحمته وبغير شفاعة - 2 -
512 الشريط الحادي والعشرون
513 الإيمان بالقدر ومراتب القدر
536 الشريط الثاني والعشرون
548 حقيقة الإيمان وحكم مرتكب الكبيرة
563 الشريط الثالث والعشرون
570 الواجب نحو الصحابة وذكر فضائلهم
589 الشريط الرابع والعشرون
595 منزلة أهل البيت النبوي عند أهل السنة والجماعة
605 تبرؤ أهل السنة والجماعة مما يقوله أهل البدع والضلالة في حق الصحابة وآل البيت
614 الشريط الخامس والعشرون(33/376)
624 موقف أهل السنة والجماعة من كرامات الأولياء
638 الشريط السادس والعشرون
654 صفات أهل السنة والجماعة
660 الشريط السابع والعشرون
678 قضايا كلية
684 الشريط الثامن والعشرون
706 الشريط التاسع والعشرون
728 الشريط الثلاثون
---
1 لم أجدها في المصحف
[1] هنا يوجد مسحٌ في الشريط
1 هنا يوجد مسح في الشريط
1 مسح في الشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 هنا مسح بالشريط وقد أكمله من قام بتسجيل هذه المادة بجزء من الشريط الحادي عشر من الدقيقة 25 إلى 44.02 قمت بوضعها في الشريط 11 ، وهذه هي نسخة دار ابن رجب
1 لم أجدها في المصحف وإنما وجدت ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ?
1 يوجد خنا مسح بالشريط
([3])وردت هذه الآية في القرآن في ستّ مواضع:
الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.
1 مسح بالشريط
([4])الأنعام:92، و155.
1 هنا مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 هنا أخطأ الشيخ وسيبين ذلك فيما بعد
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
[5]) هنا ينتصف الشريط .
1 يوجد مسح بالشريط
1 مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح(33/377)
شرح القواعد الأربع
لشيخ الإسلام الإمام المجدد
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله -
قال المؤلِّف رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مبارَكًا أينما كنت، وأن يجعلك ممّن إذا أُعطيَ شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنّ هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن هذه النبذة المختصرة -القواعد الأربع- من النّبذ المهمة, من مقال إمام هذه الدّعوة رحمه الله تعالى, وأهميتها تأتي بمعرفة مضادات تلك القواعد الأربع, وأن الإخلال بهذه القواعد الأربع, أو عدم ضبط تلك القواعد يقع معه لَبس عظيم في معرفة حال المشركين, وحال الموحّدين، والابتلاء وقع بحال أهل التوحيد، وبحال أهل الشرك، والله جل وعلا بالقرآن بَيَّن ما يجب من حقه في توحيده, وبين الشرك به, بيانا عظيما.
وهذه القواعد الأربع مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة ومن معرفة حال العرب كما سيأتي، فهي قواعد عظيمة تَعظِم من حفظها وعلم معناها ممن يكون عنده تردد في مسألة الحكم على أهل الإشراك وعلى وجوب إخلاص الدين لله جل وعلا وكيف يكون ذلك.(34/1)
إمام الدعوة رحمه الله كعادته في كثير من رسائله؛ يبتدؤها بدعاء لمن يقرأ تلك الرسالة أو إلى من وُجِّهت إليه, وهذا كما هو معلوم فيه التنبيه على أنَّ مبنى العلم ومبنى الدعوة الرحمة، الرحمة والتراحم بين المعلم والمتعلم، والرحمة والتراحم بين الداعية والمدعو؛ لأن الرحمة في ذلك هي سبب التواصل، قال جل وعلا?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ?[آل عمران:159], يعني فبِرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم, و(ما) في هذه الآية قيل لتأكيد الجملة, وهي التي تسمى الزائدة؛ لزيادة التأكيد، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) يعني فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، فالدعاء هذا ناتج عن الرحمة، وهكذا ينبغي على المعلم, وعلى الداعية, وعلى الآمر بالمعروف, وعلى الناهي عن المنكر أن يكون راحما بالخلق, أن يكون رحيما بهم, كما وصف الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]وقال?بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة:128], وقال ابن القيم رحمه الله في وصف حال الدَّاعي إلى الله مع أهل المعصية وأهل النفور عن الحق قال في ذلك:
واجعل في قلبك مقلتين كلاهما
من خشية الرحمان باكيتان
لو شاء ربُّك كنت أيضا مثلهم
فالقلب بين أصابع الرحمان
حتى حين توقع الحدود وتطبق؛ فهي تطبّق على وجه الرحمة لا على وجه الانتقام، رحمة بهذا الذي استحق تلك العقوبة أن تَسلَّط عليه إبليس والشيطان فجعله مستحقا لذلك, كالأسير من أحبابك إذا وقع أسيرا في يد العدو.(34/2)
فهذا التقديم بالدعاء من الإمام رحمه الله فيه التنبيه على ذلك, ودعا، وكان فيما دعا؛ أنّه سأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن إذا أُعطي شكر, وإذا أُبتلي صبر, وإذا أَذنب استغفر, وهؤلاء الثلاث عنوان السعادة. إذا أعطي شكر؛ لأن العطاء من الله جل وعلا نعمة, الله جل وعلا يحب الشاكرين من عباده, والشكر يكون بلسان المقال, ويكون بالعمل, ?أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ?[لقمان:114]، بالمقال وبالعمل, ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا?[سبإ:13], هذا من جهة العمل, ?وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِِِِِ?[البقرة:152] هذا من جهة القول والعمل، ولهذا اختلف الشكرُ عن الحمد؛ فالشكر يكون عن نعمة, وأما الحمدُ فقد يكون لنعمة أو في مقابل نعمة، أو لا يكون؛ يكون ثناء مبتدءا, والشكر يكون باللسان وبالعمل، وأما الحمدُ فيكون باللسان دون العمل؛ فيه فروق كثيرة معروفة عند أهل العلم، هذا مما ينبغي تدبّره، وهو أن العبد إذا أعطي عطاءً شكر عطاءَ الله جل وعلا، وشكرُ العطاء كما ذكرنا بالقول وبالعمل:
· أمّا بالقول بأن ينسب ذلك العطاء إلى من أعطاه، وأن يثنى عليه به, وأن لا يُلتفت فيه إلى غيره، ?وَمَا بكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ?[النحل:53]، ?يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83].
· ومن جهة أخرى؛ جهةُ العمل، يكون الشكر باستعمال النعم فيما يحب من أنعم بها وأداها.(34/3)
وهذا مما يحبه الله جل وعلا بل من عظيم ما يحب الله من العبادات أن يكون العبد شاكرا ولهذا قال?وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ?[سبإ:13], وقال سبحانه?ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا?[الإسراء:3]؛ يعني يا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا كان كثير الشكر لله جل وعلا، قال أهل التفسير: كان إذا أكل الأكلة شكر الله عليها، وإذا شرب الشربة شكر الله عليها, وإذا اكتسى شكر الله على ذلك. يعني أن نتبرأ من كل حول وقوة في ما جاءه من النعم أو ما يسره وأن يعترف بأنها من الله جل وعلا.(34/4)
وباب الشكر له صلة بالتوحيد, وكأن الإمام رحمه الله حين ذكر الشكر على العطاء, والصبر على البلاء, والاستغفار من الذنب, كأنه نظر إلى حال الموحِّد, خاطبه بما يجب عليه أن يكون معه دائما, فإن الموحِّد أنعم عليه بنعمة لا تعدلها نعمة؛ ألا وهي أن كان على الإسلام الصحيح، أن كان على التوحيد الخالص الذي وعد الله أهله بالسعادة في الدنيا والآخرة, ولابد للموحِّد من الابتلاء, فسأل اللهَ له أن إذا أبتلي صبر؛ والابتلاء قد يكون من جهة الأقوال التي توجَّه إليه، وقد يكون الابتلاء من جهة البدن، وقد يكون من جهة المال أو غيره, قال (وإذا أذنب استغفر)؛ لأن الموحّد لابد أن يكون معه شيء من الإعراض، و لابد أن يقع الذنب؛ إما من الصغائر، وإما من الكبائر، والله جل وعلا من أسمائه الغفور، ولا بد أن يظهر أثر ذلك الاسم في بريئته وملكوته، لهذا يحب اللهُ من عبده الموحد المخلص أن يكون دائم الاستغفار، ولا بد للموحّد من ذلك, والعبد إذا ترك عظيم الاستغفار جاءه بالكِبر، والكبر يحبط كثيرا من العمل، لهذا قال هنا (وإذا أذنب استغفر وهؤلاء الثلاث عنوان السعادة)، فإذن هذه متلازمة في حال كل موحّد؛ وهي الشكر على العطاء، والصبر على البلاء، والاستغفار من الذنب والعصيان، وكلّما عَظُم العبد معرفةٍ بربه كلما عظَّم هذه الثلاث، وكلما عظم التوحيد في القلب عظمت هذه الثلاث، حتى يسير العبدُ لا يرى سوى الله جل وعلا في استحقاق شيء من أعماله وتصرفاته، فإن غفل عن ذلك كان استغفاره استغفار الذي لا يستحق، لهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، وفي رواية في الصحيح «أنه كان يستغفر في المجلس الواحد سبعين مرة»، والموحد عليه خطر؛ خطر الغرور، الغرور لأنه من أهل التوحيد، أو من المحققين لاتباع السلف، أو ممن علم هذا العلم، ثم لا يكون في قلبه من الخضوع والذل الذي يحرمه الله منه، ما يكون ذلك سببا لقَبول هذه الوسيلة، وهي(34/5)
وسيلة التوحيد إلى الله جل جلاله، وشأن الله أعظم، وطلبَ من عباده شيئا قليلا، ولهذا عظم أمر التوحيد، وفَضُح جدا الشرك وما جر إليه.
?????
اعلم أرشدك الله لطاعته: أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصًا له الدين كما قال تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِِ?[الذاريات:56]. فإذا عرفت أنّ الله خلقك لعبادته فاعلم: أنّ العبادة لا تسمّى عبادة إلا مع التوحيد، كما أنّ الصلاة لا تسمّى صلاة إلى مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدتْ كالحدَث إذا دخل في الطهارة. فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك: معرفة ذلك، لعلّ الله أن يخلّصك من هذه الشَّبَكة، وهي الشرك بالله الذي قال الله فيه: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:116], وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه.(34/6)
هذه المقدمة مدخل لهذه القواعد، وأول ذلك (أن الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام)، وجعل الله جل وعلا إبراهيم حنيفا؛ يعني مائلا عن طريق الشرك إلى التوحيد الخالص، والحنيفية هي الملة التي مالت عن كل باطل إلى الحق، وابتعدت عن كل باطل إلى الحق، وهي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام كما قال جل وعلا?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا?[آل عمران:67], وقال جل وعلا ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?[النحل:120-121], حقيقة ملة إبراهيم هي تحقيق معنى لا إله إلا الله كما قال جل وعلا في سورة الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28], وهذه الكلمة هي كلمة لا إله إلا الله قال?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي?[الزخرف:26-27], هذه هي كلمة التوحيد؛ (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) هذا هو النصف الذي هو النفي في كلمة التوحيد؛ يعني قول (لا إله) معناه (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ), إلا الله يعني (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وجعلها كلمة في عقبه، وأعظم تفسير لكلمة التوحيد هو هذه الآية حيث قال (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)، ولهذا قال أهل العلم: إن كلمة التوحيد لا إله إلا الله فيها نفي، وفيها إثبات، والنفي للبراءة من كل معبود سوى الله جل وعلا، ومن عبادة كل ما سوى الله جل وعلا؛ لأن عبادة ما سوى الله جل وعلا باطلة, وإثبات العبادة(34/7)
لله جل وعلا وحده سبحانه, يعني إنزال العبودية الحقّة المستحقة في واحد وهو الله جل جلاله, هذه هي ملة إبراهيم، وهذه هي الحنيفية التي أمر الله جل وعلا نبيه بالاستمساك بها؛ ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا?[النحل:123], فملة إبراهيم هي التوحيد، وإذا عرفتَ هذا، فإنَّ العبادةَ لا تُقبل إلا بالتوحيد، وذلك من مثل الطهارة للصلاة، فإن التوحيد شرط قَبول العبادة؛ يعني الإخلاص، والطهارة شرط صحة الصلاة، فكما أنه لا تصح الصلاة إلا بالطهارة، فكذلك لا تصح عبادة أحد إلا إذا كان موحِّدا، ولو كان في جبهته أثر السجود، وكان صائما في النهار قائما في الليل فإن شرط قبول ذلك أن يكون موحدا مخلصا، قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66]، وقال جل وعلا في الكفار?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا?[الفرقان:23], فعظيم العبادة وكثرة العبادة إذا لم تكن مع الإخلاص فإنها غير مقبولة؛ كما أن الرّجل يصلي صلاة عظيمة يطيل فيها القيام، ويطيل فيها الركوع، ويطيل فيها السجود، ويحسِّنها جدًّا، وقد دخل فيها على غير طهارة هذه صلاة غير مقبولة بالإجماع؛ لأن الطهارة شرط صحة الصلاة؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: »لا يقبل اللهُ صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ«، »لا صلاة إلا بطُهور« وهذا شرط متفق عليه، وهذا تقريب لهذه المسألة العظيمة، وإلا فإن شرط الإخلاص والتوحيد لقَبول العبادة أعظم من شرط الطهارة لقَبول الصلاة؛ لأنه إذا صلى محدِثا متعمدا فإن في تكفيره خلاف بين أهل العلم، وأما إذا عبد اللهَ مشركا؛ فإنه بالإجماع ليس مقبول العبادة، وبالإجماع هو كافر لأنه أشرك(34/8)
بالله جل وعلا الشرك الأكبر الذي لا يقبل معه عمل.
إذا تقر ذلك فإن هذا الأصل يجعل المرء يخاف، ويفرح؛ يخاف من الشرك وأن يكون من أهله، ويفرح أن جعله الله جل وعلا من أهل التوحيد، فَرُحُه من أن جعله الله جل وعلا من أهل التوحيد يوجب شكر ذلك والمحافظة عليه، وخوفه وهربه من أن يكون من أهل الشرك أو أن يأتيه بعض الشرك يجعله دائما حذرا؛ أن يعْتَرِ عبادته, أو عقيدته, أو أقواله شيء من الشركيات؛ لأن الشركيات إذا كانت من الشرك الأكبر فإنها محبطة للعمل، وإذا كانت من الشرك الأصغر فإنها أعظم من البدع، والمعاصي المختلفة، يعني من حيث الجنس، وهذا لا شك يجعل المرء الخائف الرّاجي يعني الخائف الفرح -الفرِح بالتوحيد، الخائف من الشرك- يجعله يطلب هذه القواعد التي تجعله في يقين من أمره.(34/9)
والتوحيد والشرك في دعوة الإمام المصلح رحمه الله، ممن تأمله قد يكون معه شيء من التردد أو الشك في صحة ما جاء به الشيخ من جهة تقرير المسائل، ومن جهة الحكم على أهل الشرك والإشراك؛ لأن المسألة عظيمة أن يكون أحد ممن يقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويصلي، ويزكي، ويصوم، ويحج، ويتعبد، ويكون من أهل العبادات العظيمة، ومن أهل الصلاح كما يقول الناس، ثم يقال إن عمله الذي عمله من الشركيات، أو لما لم يكفر بالطاغوت، يجعل عمله هذا كَلاَ شيء, هذه عظيمة، وكيف تستقر في النفوس، -فربما حدث من جهة النظر- أنّ الذين يتعبدون بالعبادات العظيمة وهم واقعون في الشرك، ربما تعاظم بعض الناس أن يكونوا من المشركين، يعني أن يكون أولئك من المشركين، وهذه القواعد لتأصيل هذه المسألة العظيمة، وهي أن الأمر ينظر فيه إلى حق الله، وإنما أتى الخلل من جهة نظر الناس إلى حق المخلوق؛ إلى واقع المخلوق، لكن إذا نظروا إلى حق الله جل وعلا؛ الذي خلق الإنسان فسواه، وعدله، والذي خلق السماوات على هذا النحو العجيب، وهذه الأرض وأقام الدلائل على وحدانيته بربوبيته، وجعل ذلك في النفس، وفي الآفاق، وفيما حوله، يجعل أنه لا حجة لمشرك على الله جل وعلا، ولكن الله سبحانه وتعالى بعث الرسلَ رحمة؛ لإقامة الحجة ولإعلان.......([1])
?????
× القاعدة الأولى: أن تعلم أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بأنّ الله تعالى هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام، والدليل: قوله تعالى?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31].(34/10)
القاعدة الأولى أن توحيد الربوبية لا يُدخل أحدا في الإسلام، توحيد الربوبية ليس هو المطلوب، فإن معرفة العرب بأن الله جل وعلا هو الخالق، وهو الرزاق وحده، وهو المحيي وحده، وهو المميت وحده، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي إليه الأمر، وهو الذي يُنزل المطر، وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، هذا كله يقرون بأن الذي سخّر ذلك وخلقه هو الله جل وعلا، ومع ذلك ما نفعهم، ولم يجعلهم الله جل وعلا بذلك من أهل الإسلام، قال جل وعلا ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106], (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) يعني الإيمان بربوبيته، إلا وهم مشركون في عبادته فانظروا إلى حال كفار العرب مقرون بأفراد الربوبية؛ بأكثر أفراد الربوبية، كما قال جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]، (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) يعني الذي يفعل هذه الأشياء هو الله وحده، (فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) يعني أتقولون ذلك وتقرون بوحدانيته في الربوبية، فلا تتقونه في عبادته وحده، وترك الإشراك به، فأقام عليهم الحجة بما أقروا به على ما أنكروه، وهذه هي طريقة القرآن في إقامة الحجة على المشركين، فإن من براهين التوحيد، توحيد العبادة أن تقام الحجة بتوحيد الربوبية؛ لأن من كان هو الفاعل وحده؛ يعني هو الخالق وحده، والرزاق وحده، إلى آخر أفراد الربوبية؛ فإنه هو الذي يستحق العبادة دونما سواه، ولهذا قال سبحانه منكرا على المشركين ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:91]، وقال سبحانه ?قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ(34/11)
اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ?[النمل:59]، ووصف الذين جعلهم المشركون آلهة، بأنهم عاجزون، وليس لهم قدرة، وليس لهم خلق، وليس لهم صفات تجعل أولئك يتوجهون إليه ?وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ?[الحج:73], هذا مثل الذين توجهوا إليهم بالعبادة، وإقرار المشركين بالربوبية لم يدخلهم في الإسلام، نستنتج من ذلك أن إقرار من بعدهم بالربوبية لا يعني أنهم مؤمنون، فإذا أتى آتٍ وقال: أنا مؤمن بأن الله هو الرب، هو الخالق، وهو ربي، وهو الذي يرزقني، وهو الذي أحياني، وهو الذي يميتني، هذا لا يعد مؤمنا الإيمان الشرعي؛ يعني لا يعد مسلما حتى يأتي بالتوحيد، ولهذا غلط المتكلمون حينما عرفوا الإله بأنه القادر على الاختراع؛ قالوا: الإله هو القادر على الاختراع. فعندهم معنى لا إله إلا الله راجع إلى الربوبية, وهذا أعظم غلط على دين الإسلام؛ الذي غلط به المتكلمون على الدين، وعلى الملة، حيث جعلوا الابتلاء واقع في الربوبية، فإذا أيقن أن الموجب للأشياء والخالق لها هو الله، فإنه يكون عندهم مؤمنا مسلما، وهذا غير معنى الألوهية؛ لأن لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله جل وعلا، فمعناها راجع إلى العبودية لا إلى الربوبية، إذن مراد الشيخ من هذه القاعدة المهمة اليقينية -بأن هذه القاعدة يقينية من حال الكفار والمشركين- بأنهم مقرون بتوحيد الربوبية، ولم ينفعهم، ولم يدخلهم في الإسلام، ولم يجعل لهم حقا؛ لأنهم أشركوا مع الله جل وعلا آلهة أخرى، وعبدوا آلهتهم الباطلة، وقالوا?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5]، فإذا نظرنا في هذا الزمن، وفي زمن الشيخ، وما قبله، وما بعده، في أن هناك من يوقن بالربوبية، ولكنه يشرك بالعبادة، فإن ذلك لا ينفعه، كحال الأولين، أن القاعدة: أن مشركي العرب كانوا يوقنون بالربوبية.(34/12)
واليوم قد يأتي على بعض النفوس، بعض إذا سمع من يقول: إن شاء الله، أو سمع من يذكر الله جل وعلا, أو يقول عن الله هو ربه, وهو مولاه, أو نحو ذلك, ظنَّه مسلما, وقنع منه بذلك، وهذا لم يقع به الابتلاء أصلا، بل لابد أن يكون موحدا في عبادته, يعني نعبد الله بما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -, ويكون متبرِّئا خالصا من الشرك وأهله.
?????
× القاعدة الثانية: أنّهم يقولون: ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القُرْبة والشفاعة، فدليل القُربة قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ?[الزمر:3].
ودليل الشفاعة قوله تعالى: ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفيّة وشفاعة مثبَتة:
فالشفاعة المنفيّة ما كانت تٌطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلاّ الله، والدليل: قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[البقرة:254].
والشفاعة المثبَتة هي: التي تُطلب من الله، والشّافع مُكْرَمٌ بالشفاعة، والمشفوع له: من رضيَ اللهُ قوله وعمله بعد الإذن كما قال تعالى: ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?[البقرة:255].(34/13)
هذه القاعدة الثانية في بيان حال المشركين في عبادتهم؛ عبدوا آلهة مع الله جل وعلا ومن دونه، ماذا يقصدون بهذه العبادة؟ هل يقولون هي آلهة استقلالية؟ أم أنها وسائط؟ هذه القاعدة أفادت: بأنهم إنما كانوا يعبدون الله جل وعلا على جهة الوساطة، على جهة القربة، أو على جهة الشفاعة، يعني يقولون إن آلهتهم الباطلة تقربهم إلى الله، أو ترفع حوائجهم إلى الله، أو يقولون إنها تشفع لهم عند الله جل وعلا، يعني أن مشركي العرب لم يكونوا يطلبون من الآلهة استقلالا، وإنما كانوا يطلبون من الآلهة على وجه الوساطة، وهذه الوساطة من جهة القربة، ومن جهة الزلفى، والجهة الثانية جهة الشفاعة كما ذكر رحمه الله قال (فدليل القُربة قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]) قال (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) يعني آلهة, ما نعبدهم, يعني يقولون (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا)، وهذا حصر، ويسمى عند علماء البلاغة حصر القلب إضافي، (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) يعني ما نعبدهم لعلة من العلل إلا لأجل التقريب، فهم حصروا ما أرادوا في القربة من الله جل وعلا، فهم أرادوا ما عند الله جل وعلا، فإذن حين توجهوا إلى هذه الآلهة الباطلة، أرادوا ما عند الله، ولم يطلبوا منها استقلالا، وإنما أرادوها؛ زلفى وقربة إلى الله جل وعلا قال: ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] فأرادوا بذلك القربة.(34/14)
ودليل الشفاعة قوله جل وعلا ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ?[يونس:18]الآية, والشفاعة أن يطلبوا من الله جل وعلا لهم الحوائج؛ لأن معنى الشفاعة أن يضم المطلوب منه طلبه إلى الطالب فيرفعه إلى من عنده الأمر، هذا معنى الشفاعة فيقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فيعني يكونون طالبين لنا ما نريد, والله جل وعلا لا يردُّ شفاعتهم؛ لأنهم مقربون عنده، وأصل شرك العالَم كان في جميع الفئات والطوائف كان على أحد جهتين:
? أما الجهة الأولى، الشرك بالاعتقاد بروحانيات الكواكب، كما كان شرك قوم إبراهيم عليه السلام؛ فإن إبراهيم أتى إلى قومه يعبدون الأصنام التي هي مصوّرة على صور روحانية الكواكب؛ الكواكب الخاصة التي يعتقدون أن لها تأثيرا في الملكوت، عبدوا الأصنام أو الأوثان؛ لأن أرواح تلك الكواكب تحِلّ فيها؛ الشياطين تحل في تلك الأصنام والأوثان وتخاطبهم، وربما حصلت لهم بعض ما يريدون، فوقع الأمر بأن أشركوا، وزادوا في الشرك على اعتقاد أن الكواكب هي التي تفعل، وروحانية الكوكب هي التي تخاطب؛ قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي?[الأنعام:75-76], والعلماء اختلفوا هل كان ناظرا أو مناظرا؟ والصحيح الذي يضعف غيرُه؛ أن إبراهيم عليه السلام كان في قوله (هَذَا رَبِّي) كان مناظرا لا ناظرا.(34/15)
? والنوع الثاني من أنواع الشرك؛ شرك قوم نوح عليه السلام، وهو الشرك من جهة الاعتقاد بروحانية وأرواح الصالحين؛ قال تعالى ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا?[نوح:23] فثبت في صحيح البخاري؛ في حديث عطاء عن ابن عباس أنَّه قال هذه أسماء رجال صالحين كانت في قوم نوح، ووقع الشرك بهؤلاء الرِّجال لأنهم صالحون، العرب ورثوا الشرك بالصالحين؛ فعبدوا أصناما متعددة، وأوثانا؛ عبدوا اللاّت؛ واللاّت كان مكان, كان قبرا تحل فيه روحانية ذاك كما يعتقدون، ومثّلوا عليه صنما فصاروا يعبدونه، وهي شياطين تتلاعب بهم، وكذلك العُزّى؛ والعزّى شجرة، ومَناة صخرة، وكان عند الشجرة رجل صالح يتعبد، وكان عند مَناة صالح يتعبد، وجعلوا الصالحين وأرواح الصالحين، والاعتقاد فيهم، وجَعل أولئك أولياء، جعلوا ذلك سببا لكي يرفع أولئك الحوائج لهم إلى الله جل وعلا.
إذا تأملت حال العرب، وجدت أن الشرك حصل من العرب، كما أراد الشيخ رحمه تقريره في هذه القاعدة الثانية؛ أن الشرك حصل من العرب في أناس -كما سيأتي- صالحين، أو أن الشرك وقع من آلهة لأجل طلب القربة والشفاعة، لا لأجل أن هذه مستقلة لها شيء من الربوبية، أو لها شيء من الألوهية الاستقلالية، لا، ولكن لها ألوهية على جهة السبب، تُعبد لكن على أنها واسطة وليست آلهة مستقلة، ولهذا قال جل وعلا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5], فإنهم يعتقدون وسائل على جهة القربة والشفاعة.
الشفاعة في الكتاب والسنة (النصوص) نوعان شفاعة منفية وشفاعة مثبتة:(34/16)
· والشفاعة المنفية -كما ذكر الإمام رحمه الله- هي الشفاعة فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا؛ شفاعة في الآخرة ممن لا يملك ذلك, الشفاعة بمعنى طلب الدعاء؛ شفع يعني طلب، والشفاعة هي الطلب، والمطلوب منه إما أن يكون حيا حاضرا، وإما أن يكون ميتا؛ والحي الحاضر في الدنيا أو في عرصات القيامة جاءت الأدلة بجواز طلب الشفاعة منه، كما جاءت بذلك النصوص الكثيرة، أما الميّت فإنه ليس في دار أمل، وليس في دار طلب، وليس عند الله جل وعلا في المكان الذي يطلب فيعطى ما طَلَبَهُ، ولكن تطلب الشفاعة من الله جل وعلا، فالشفاعة المنفية هي التي نفاها الله جل وعلا في الكتاب كما في قوله جل وعلا ?مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ?[غافر:18], وكما قال ?وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ?[البقرة:254], وكما قال جل وعلا ?لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ?[الأنعام:51], ونحو ذلك من الآيات التي فيها نفي الشفاعة، هذه الشفاعة المنفية هي الشفاعة التي تكون من غير إذن الله، ولا رضاه، وتكون في طلبها ممن لم يُمكَّن من ذلك، طلب ذلك من ميت مهما كانت درجته، فإنه لم يُمكَّن من ذلك، لم يُمكَّن أن يطلب الشفاعة.
· ولهذا يكون طلب الشفاعة من الله جل وعلا، وهذه هي الشفاعة النافعة، الشفاعة المثبتة، وهذا استطراد من الشيخ رحمه الله، في بيان معنى الشفاعة الحقة، والرد على الذين تعلقوا بالشفاعة الباطلة، وتفصيلها معروف في موضعه من كتاب التوحيد، ومن كتب أهل السنة في الشفاعة.(34/17)
مُلخّص ذلك أن الشفاعة المثبتة هي التي توفرت فيها الشروط الشرعية، وأعظم هذه الشروط شرطا الإذن والرضا؛ الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، قال جل وعلا ?وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى?[النجم:26], وقال سبحانه ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?[البقرة:255], وقال جل وعلا ?وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى?[الأنبياء:28], وقال ?إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[الزخرف:76], فإذن الشفاعة المثبتة هي النافعة، لكن تنفع بشرطي الإذن والرضا، فالرضا عن الشافع، وأن يكون ممن شهد بالحق وهو يعلم، والرضا عن المشفوع له أن يكون من أهل التوحيد، ولهذا ثبت في الصحيح أن أبا هريرة - رضي الله عنه - سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله من أحق الناس بشفاعتك، أو قال من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال: «لقد علمتُ أنه لن يسألني أحد قبلك، لما أعلم من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» قال...... ([2]) معنى قوله (أسعد الناس) يعني سعيد الناس، فأفعل التفضيل هنا ليست على بابها في المفاضلة، وإنما هي بمعنى فعل كقوله جل وعلا ?أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً?[الفرقان:24]، والنار ليس فيها مقيل حسن.(34/18)
فإذن الشفاعة إنما هي لأهل الإخلاص، شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وشفاعة الملائكة، وشفاعة الصالحين، وشفاعة العلماء، يوم القيامة، إنما هي لأهل الإخلاص، وأهلُ الإخلاص يطلبونها من الله؛ فيقول المخلص: اللهم شفع فيّ رسولك - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، اللهم شفع فيّ ملائكتَك، اللهم شفع فيّ العلماءَ الصالحين، اللهم شفع فيّ عبادَك الذين تحبهم ويحبونك، ونحو ذلك من الألفاظ، فتطلب الشفاعة من الله جل وعلا، ولا تطلب الشفاعة من المخلوق، لما؟ لأن الشفاعة طلب؛ الشفاعة طلب الدعاء؛ إذا قال أستشفع، يعني أطلب منك الدعاء، أطلب منك رفع حاجتي، وإذا رجع أمر الشفاعة على الطلب صارت الشفاعة من أنواع الدعاء، فصارت دعوة غير الله شركا أكبر، لهذا نقول طلب الشفاعة من غير الله شرك أكبر، مما لا يقدر عليه إلا الله، يعني من الأموات ونحو ذلك فإن هذا شرك أكبر؛ لأنه دعاء والدعاء يجب أن يكون مخلصا فيه لله جل وعلا.
?????
× القاعدة الثالثة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على أُناسٍ متفرّقين في عباداتهم منهم مَن يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفرِّق بينهم، والدليل قوله تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ?[البقرة:193].
ودليل الشمس والقمر قوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ?[فصلت:37].
ودليل الملائكة قوله تعالى: ?وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا?[آل عمران:80].(34/19)
ودليل الأنبياء قوله تعالى: ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ?[المائدة:116].
ودليل الصالحين قوله تعالى: ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ... ?الآية[الإسراء:57].
ودليل الأحجار والأشجار قوله تعالى: ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20].
وحديث أبي واقدٍ الليثي - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين ونحنُ حدثاء عهدٍ بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط... الحديث.(34/20)
هذه القاعدة فيها مقدمة ونتيجة؛ أما المقدمة فهي راجعة إلى معرفة حال العرب بما أخبر الله جل وعلا عنهم في عباداتهم، وآلهة العرب التي كانوا يعبدونها، كانت متنوعة، فمنهم من كان يعبد الشمس والقمر، وذكر دليل ذلك، وهو قوله تعالى: ?لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ?[فصلت:37], وهذا النوع من العرب؛ طائفة كانت تعبد الشمس والقمر، ومن غير العرب أيضا، ومنهم من كان يعبد الشجر والحجر، ومنهم من كان يعبد الملائكة، كما قال جل وعلا ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ ([3])لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ?[سبإ:40-41], وكان من الناس؛ من العرب وغيرهم يشرك بالملائكة ومنهم من كان يشرك بالأنبياء، عيسى عليه السلام، قال جل وعلا في حقِّه ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ?[المائدة:116], فأُشرِكَ بعيسى عليه السلام، وأشرك بالصالحين قال جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا?[الأنبياء:101-102], وقد جاء في سبب نزولها، أنه لما نزل قول الله جل وعلا ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا?[الأنبياء:98], فرح العرب بذلك، وقالوا سنكون مع عيسى، وسنكون مع العزير، وسنكون مع... مع،(34/21)
ثم نزل قول الله جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا?[الأنبياء:101-102]. فتوجهوا للصالحين بالعبادات المختلفة للرجال من الأنبياء والرسل والصالحين، وتوجهوا أيضا للأشجار والأحجار ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20], توجهوا إلى الشياطين والجن؛ ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:6] هذه الأصناف عبادات العرب جاءت في القرآن، وحال العرب ظاهرة فيها، هل فرَّق الله جل وعلا بأمره لنبيه بين فئة وأخرى؛ فقال لهم: من عبد الأشجار والأحجار والأصنام والشمس والقمر قاتلوهم، وأما من جعل الصالحين والأنبياء شُفعاء، وجعل الصالحين والأنبياء قربة وزلفى إلى الله جل وعلا هؤلاء لا تقاتلونهم؟ لم يأتي هذا التفريق؛ بل جاء الأمر واحدا وحكم على الجميع بأنهم كفار ومشركون، وقوتلوا، وأمر الله جل وعلا بقتال جميع تلك الفئات، وجميع أولئك المشركين؛ جاء الأمر بقتالهم بدون تفريق ?وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً?[التوبة:36], وهذا عام في الجميع، وهذه هي النتيجة، وما قبلها مقدمة، وإذا كان كذلك, كان لا فرق أن يعبد نبيا، أو يعبد حجرا، أو شجرا، أو أن يعبد جنيا، أو أن يعبد ملَكا، فالحال واحدة.
فمن أتى في هذا الزمان، وفرّق، وقال الصالحون إنما هم أولياء، ولهم مقام عند الله، والأنبياء لهم مقام وجاه، فإذا استشفعنا بهم فإن لهم جاه عند الله جل وعلا.(34/22)
فنقول: وأي فرق بين عبادة هؤلاء الصالحين، والتوجه إليهم، وبين عبادة من عبد عيسى، أو عَبَدَ العُزير، أو عبد الصالحين الذين كانوا يُعبدون؟ أي فرق بين هذا وهذا؟ لاشك أن الحُكم على الجميع واحد، وهذه قاعدة يقينية من أنه لا فرق بين هذا وهذا؛ لأن المدار على عبودية القلب، إذا قام في القلب التنزيه والإفراد بالله جل وعلا، فسواء أكان المشرك به صالحا أو طالحا، كان نبيا أم لم يكن نبيا، كان شجرا أو كان ملكا، الأمر واحد؛ لأن القلب يجب أن تكون عبوديته لله وحده، وأن يكون دينه لله وحده ?أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ?[الزمر:3], ?قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي?[الزمر:14], وهذه العبودية من جهة العابد، لا ينظر فيها إلى من توجه إليه، فإن توجه لله الواحد الأحد فهو مخلص موحد، وإن توجه إلى غيره فإنه مشرك مهما كان ذلك الغير، ولهذا قال جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18] وقوله (أَحَدًا) يعمّ الجميع كما ذكرنا ذلك مرارا، وكقوله جل وعلا ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117], قال جل وعلا هنا ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ? لا برهان له به، هذه صفة من عبد غير الله جل وعلا؛ لأنه لا برهان له بما عبد، وليس لها مفهوم لأن هناك ما يُعبد وثَمَّ برهان عليه، بل كل من عبد غير الله، ودعا غير الله فإنه لا برهان له على أحقِّية ذلك الغير بالعبادة أو بالتوجه.(34/23)
فإذا نظرنا في هذا الزمن، الذين يعبدون الأولياء، ويعبدون القبور، والمشاهد، ويتوجهون إليها، والأنبياء، والرسل ويقولون مقامات ونحو ذلك للصحابة، أو في كل بلد ثَمَّ طريق ويتوجه الناس إليه، ويشركون به، يقولون هذه ليست عبادة المشركين الأولين، لما؟ قالوا: لأن هذه عبادة الصالحين، وأولئك إنما عبدوا الأصنام، عبدوا أحجار، كيف يكون ذلك، وقد قال جل وعلا في وصف أولئك المعبودين؛ ?أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ?[النحل:21], قال طائفة من المفسِّرين؛ كأبي الحيّان في تفسيره البحر المحيط، وقال غيره، إن هذه الآية فيمن يُبعث لأن الله قال ?أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ? والذي يوصف بأنه ميت من كان حيا قبل ذلك، والأصنام التي هي من الأحجار والأشجار ونحو ذلك، لا توصف بأنها أموات غير أحياء، وإنما الذي يوصف بذلك من كان تحله الحياة ثم صار ميتا، فإنه يقال أموات غير أحياء، وبين ذلك أكثر حين قال (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فإنها بحق من يبعث يوم القيامة للقاء الله جل وعلا.
فإذن هذا الذي يحتج به مشركوا هذا الزمان، ومشركوا زمان الشيخ رحمه الله، وهذا في كلِّ مكان، يقولون إنما توجهنا إلى الصالحين، وأولئك الأولون إنما توجهوا أيضا إلى الصالحين، قالوا نطلب الوساطة ما طلبنا منهم استقلالا، نقول والأولون أيضا طلبوا الواسطة والقربة والشفاعة، ولم يطلبوا الاستقلال، فالحال هي الحال، وإن تغيرت الأسماء، وتغيرت الدعاوي، فالحال هي الحال، وما أشبه الليلة بالبارحة.
?????(34/24)
× القاعدة الرابعة: أنّ مشركي زماننا أغلظ شركًا من الأوّلين، لأنّ الأوّلين يُشركون في الرخاء ويُخلصون في الشدّة، ومشركوا زماننا شركهم دائم؛ في الرخاء والشدّة. والدليل قوله تعالى: ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65].
هذه نتيجة، قاعدة، هي نتيجة لما سبق، يعني مرتبة على ما سبق، إذا تقرَّر أن المشركين في هذا الزمان من جنس المشركين في كل زمان، من جنس مشركي الجاهلية، وإن كانوا ينتسبون إلى الملة، والإسلام، ولهم صلوات، ولهم تعبدات، إذا كانوا من جِنسهم، والشرك الذي فعلوه هو الذي فعله الأولون، فربما زالت الحاجة، وهو الذي بيّنه الشيخ في هذه القاعدة؛ بأن مشركي هذا الزمان أغلظ شركا من مشركي أهل الجاهلية، لما؟ لأن الله جل وعلا وصف أهل الجاهلية بأنهم يُشركون في الرخاء، وأما في الشدة فإنهم يوحدون، قال جل وعلا ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ?[النحل:53]، إليه، يعني دون ما سواه ?فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53)ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54)لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ? قال جل وعلا -في بيان حالهم في البحر-?حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(22)فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ?[يونس:22-23], وقال جل وعلا ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ(34/25)
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65], وفي الآية الأخرى ?[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ([4]) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ?[لقمان.32], إذا تأملت الحال والحال، فأولئك يشركون في حال الرخاء، وأما إذا مستهم البأساء ومستهم الضراء؛ فإنهم يخلصون ويوحدون؛ دعوا الله مخلصين له الدين، أما مشركوا هذه الأزمنة؛ فإنهم إذا مسهم الضر فزعوا إلى العيدروس أو الحسين، أو البدوي، أو إلى المرغناني، أو إلى...أو إلى.....إلى آخر أنواع الناس، أو الموتى الذين يتوجهون إليهم، إذا مستهم الضراء فزَعوا إلى الأشجار وإلى أحجار ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه أعظم من شرك الأولين؛ لأنهم يشركون في الحالين، والمشركون الأولون يشركون في حالٍ واحدة، ويتذكرون في الحال الثانية، ولكن من يفقه هذا، ومن يفهم هذا ومن يشِفُّ عليه هذا الأمر حتى يكون يقينيا عنده, لا مراء فيه، ولا لف، لأن بعض الناس قد يقول هؤلاء يصلون، و يزكون، ويصومون، فكيف يكونون أغلظَ شركا من الأولين، نقول العمدة على أصل الدين؛ لأن هذه العبادات بلا توحيد لا تنفع، كما ذكرنا في أول الكلام، كما لا تنفع الصلاة بلا طهارة، فإذا كان هناك عبادات عظيمة ومع الشرك فإنها لا تنفع ولا تُقبل، فكيف إذا كان يشرك في حال الرّخاء وفي حال الشِّدة؟ وقد ذكر بعض العلماء، أنه لقِي رجلا من أهل الطائف، قبل انتشار الدعوة هناك ومعرفة الناس بالدعوة والتوحيد، فقال له هذا: هؤلاء أهل الطائف إذا جاءتهم شدة فزعوا إلى ابن عباس، ولا يعرفون الله، فقال الآخر له، معرفة ابن عباس تكفي، وهذا نوع من أنواع الشركيات التي تغلغلت في النفوس، نَسُوا معها الله جل وعلا في الرخاء، وفي الشدة، إلا ما نذر، وهذا كثير, كثير اليوم، فحرّك ترى،(34/26)
والناس في عجب في هذا الأمر، فالله جل وعلا أنعم علينا في هذه البلاد، أننا لا نرى ولا نسمع ما يقلقنا من هذه الأمور الشركية، والكفر الأكبر، والشرك الأكبر، بالله جل وعلا، ومن ذهب إلى البلاد التي تكثر فيها الشركيات؛ كبعض جهات مصر، وبعض جهات السُّودان، وأفريقيا، وبعض جهات الباكستان، والهند، ونحو ذلك، والعراق، وسوريا، ونحو ذلك، رأى عجبا، والناس يتوجهون إلى هذه الأضرحة، وإلى مدافن الأولياء، بل وغير الأولياء، ويعتقدون فيهم الاعتقادات، جعلوا لهم نصيبا من الإلهية، والله جل وعلا له الحق الأعظم في إخلاص الدين له، وأعظم ما يستحقه جل وعلا أن يُعبّد القلب له، وأن لا تكون ثَمّ عبادة إلا له سبحانه دونما سواه، كما قال جل وعلا ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، وقال جل وعلا في الحديث القدسي «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه»، فإذا كان هذا في الرياء، يقصد المرء بالعمل غير الله جل وعلا؛ يقصد رؤية فلان، فكيف بالتوجه بالعبادة لغير الله جل وعلا، كأن يدعو غير الله، وأن يستغيث بغير الله، أو أن ينذر لغير الله، أو أن يذبح لغير الله، أو أن يستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو أن يستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، التوجه إلى الموتى والاعتقاد فيهم، ويسمّون ذلك بالسر؛ يُقال روح هذا السيد فيها سر، لهذا يجعلون مكان الروح كلمة سر؛ فيقولون هذا له سر، وقدس الله سرّه؛ لأنهم يجعلون لأرواح أولئك أسرارا، وروحه ليس فيها سر، إلا سر صنعها وخلقها من الله جل وعلا، أما أنها تغيث من استغاث بها، أو تُعطي من طلب منها، فهذا كله ليس إلا لله جل وعلا، ?إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ?[البقرة:166],(34/27)
وقال جل وعلا -مخبرا على حال المشركين في النار- ?تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:97-98], قال العلماء ما سوَّوهم برب العالمين في أنهم يخلقون، ويرزقون، ويُحيون، ويُميتون، وإنما سوَّوهم برب العالمين في العبادة، بأن توجهوا لهم ببعض العبادة، فصاروا مسوِّين لهذه الآلهة الباطلة بالله جل وعلا في استحقاق العبادة، لأنهم عبدوا الله، وعبدوا غيره، فساوُوا الخلق بالخالق جل وعلا، وهذا أبشع ما يكون من الظلم، وأقبح ما يكون من الاعتداء على حق الله جل وعلا، إذ حقه سبحانه وتعالى إجلاله، وتعظيمه، وتوحيده، والإخلاص له، والاعتراف له بكل كمال، ووصفه جل وعلا بنعوت الجمال، والجلال، والكمال، وسَل رؤية النفس, وأنه ليس ثَم خير إلا منه سبحانه، وليس ثَم اندفاع شر إلا منه سبحانه، فنحن إنما نتقلب بفضل الله وبنعمته.
فهذا الأمر إنما يعود إلى أصل تلك الدعوات الثلاث.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أبتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
قام بتفريغ هذا الشريط سالم الجزائري
---
([1]) كلمة غير واضحة.
([2]) كلمة غير واضحة.
([3]) الشيخ حفظه الله قال (نحشرهم, نقول).
([4]) الشيخ قال وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله... ولعلها التي في سورة لقمان التي فيها وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين... الآية.(34/28)
شرح كِتَاب فَضْلِ الإِسْلاَمِ
لشيخ الإسلام الإمام المجدد
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله تعالى-
[(06) أشرطة مفرّغة]
أعدّ هذه المادة:
سالم الجزائري وأبو إسحاق سمير
بسم الله الرحمن الرحيم
.. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل العلم ومحصليه؛ الذين صحت نياتهم فيه، وصح فيه قصدهم، وأخذوا فيه بالطريق التي سلكها أئمة أهل العلم، وهذا الطريق هو الذي يصل من سلكه إلى مبتغاه، ويحقق العلم فيه من اقتفى سنن أهل العلم في طلبهم وسمتهم وهديهم وسلوكهم.
ثم إننا في فاتحة هذه الدورة العلمية أو هذه الدروس العلمية التابعة لهذا المسجد الذي حمل اسم شيخ الإسلام ومجدد الملة في زمانه تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني المتوفَّى سنة 728 هجري.
إن هذه الدروس لها من الفوائد التي حصلها من التزم بها فيما مضى ومن سيحصلها إن شاء الله من التزم بها فيما بقي ما يعين على أخذ العلم وسماعه والعناية به ودرسه في أيام قليلة وليالي يسيرة إذا نظر إليها الناظر؛ ولكن بالنظر على كثرة ما يُلقى فيها من العلم وتُشرح فيها من الكتب والمتون فإنّ فيها خيرا كثيرا.
نرجو من الله جل وعلا أنْ يكتب أجر من ألقى من جميع المشايخ، ومن استمع، ومن أَسْهَم في ذلك وأعان على نشر هذه الدروس العلمية ونظّم لها إنه سبحانه جواد كريم.
ثم إنّنا بين يدي شرح كتاب فضل الإسلام نقدم بمقدمة مهمة يحتاج إليها كل طالب للعلم ألا وهي:
أهمية العلم في دين الإنسان(35/1)
فالإسلام عظيم أن يكون المرء التزم به، وعظيم أن يكون المرء قد أجهد نفسه وجاهد نفسه في أن يكون على حقيقة الإسلام، ولكن لن يكون ذاك إلا بالعلم، فالعلم النافع به يصلح القلب وبه يصلح العمل، ولهذا قال الله جل وعلا ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي?[يوسف:108]، ومعنى (عَلَى بَصِيرَةٍ) يعني على علم؛ لأن البصيرة للقلب هي العلم الذي به يُبصر حقائق المعلومات ويدرك الصواب فيها، وقال الله جل وعلا ?أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ?[الأنعام:122]، وقد قال أهل العلم: إن هذا النور هو الإسلام الذي هو العلم النافع والعمل الصالح.
ولهذا لم يأمر الله جل وعلا نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته من بعده أن يزدادوا من شيء شيئا إلا أن يزدادوا من العلم، فقال جل وعلا في سورة طه ?وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا?[طه:114].
رفع الله أهل العلم على سائر المؤمنين لما حصلوه من العلم فقال جل وعلا ?يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ?[المجادلة:11]، فكل مؤمن يرفع الله جل وعلا بإيمانه، وكل صاحب علم صحيح من أهل الإيمان فإنه مرفوع على غيره درجات، وهذا من فضل الله جل وعلا على أهل العلم.(35/2)
وطالب العلم إذا سلك العلم إذا سلك هذا الطريق فإن الله يسهل له به طريقا إلى الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ»، وذلك أن طريق الجنة يكون بصحة الاعتقاد ويكون بصحة العمل، وصحة الاعتقاد لا تكون إلا بعلم، وصحة العمل لا تكون إلا بعلم، فـ(مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً) من علم التوحيد أو علم الفقه والحلال والحرام, (سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ)؛ لأن الجنة من أسباب دخولها صحة العمل وصحة الاعتقاد.
ومن فضل العلم أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء؛ لأنه سبَّح وهلل ومجد الله وعظم وأثنى عليه وسار في اتباعه لمحمد عليه الصلاة والسلام عن يقين وعلم ومعرفة، وهذا يكون به الكمال؛ كمال المخلوقات، فيكون أَوْلى المخلوقات بالفضل والرفعة والقربى من الله جل وعلا، لهذا تعرف الأشياء فضل طالب العلم وفضل العالم فيستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء.
ثم لأن كل هذه الأشياء التي جعلها الله جل وعلا غير مكلَّفة تعرف فضل العالم الذي يُعلِّم الناس الخير والذي يبث في الناس محبة الله جل وعلا، والعلم به وأسمائه وصفاته، وما يستحقه جل وعلا من التوحيد، وما يستحقه جل وعلا من التعظيم، وما يستحقه نبيه عليه الصلاة والسلام من المحبة والمتابعة والعلم بسنته والإقتداء به، فحينئذ يكون ممن ينشر في العالَم محبة الله جل جلاله والعلم به، وهذا شيء يبطل به العالم ما سواه من الكائنات، لهذا يستغفر له كل شيء رضا بما يصنع، حتى الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع؛ لعظيم عمله.(35/3)
لهذا إذا علمتَ بعض هذه الأشياء فإنك تُقبل إقبالا شديدا على العلم في حفظه وتدارسه وحضور حلق العلم ومعرفة ذلك؛ لأن هذا لا يرغب فيه إلا مؤمن صحيح الإيمان، ولا يرغب عنه إلا كل مفرق، وكل من جاهد نفسه في العلم فإنما يجاهد نفسه في صلاح قلبه وصلاح عمله، والعالم أو طالب العلم إذا أذنب فإنَّ استغفاره ليس كاستغفار سواه؛ لأنه إذا استغفر فيكون استغفاره عن علم وبينة، وعن معرفة بالله جل وعلا به وما يستحق، ومعرفة بقصور نفسه وما ارتكبه وما قصر فيه، لهذا كان سيد علماء هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فعلَّمه نبينا صلى الله عليه وسلم أن يدعو في صلاته بقوله «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم» فجعل هذا الدعاء لأبي بكرٍ الصديق وهو الأكمل علما وعملا وسلوكا وسابقة ومحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وخُلة، فجعل له هذا الدعاء الذي فيه أعظم الاستغفار والإنابة من جهة عِظَم الاعتراف بالذنب، (ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت)، وكل طالب علم وعالم بقدر معرفته بالله وعلمه بالله جل جلاله وعلمه بتفاصيل الشريعة وعلمه بتفاصيل حق الله في الاعتقاد فإنه يعظم عنده الذنب؛ بل تكون عنده بعض الأعمال مما يوجب الاستغفار ولو كانت عند غيره ليست مما يوجب الاستغفار.
ولهذا تعظم درجة طالب العلم والعالم بقدر ما اكتسبه من علم التوحيد وعلم العمل في عظم استغفاره وإنابته لله جل جلاله.
وفي هذا الزمن ربما ترون أن كثيرين أساؤوا ظنا بالعلم من جهة بل من جهات:
أساؤوا ظنا بالعلم في ظن بعضهم أن العلم لا فائدة مرجوَّة منه بقدر ما يبذل منه الباذل.
ومنهم من أساء ظنا بالعلم في أنه إذا تعلم فإنما سيكون في نهايته مثل غيره، ولن يكون من الأثر الشيء الكبير الذي يوازي تعبه في العلم.(35/4)
ومنهم من أساء الظن في العلم بأن الأهم هو الدعوة للناس والإرشاد والبذل ونحو ذلك، والعلم ليس في الأثر كأثر النشاط والدعوة ونحو ذلك.
ومنهم من أساء ظنا بالعلم في أن العلم لن يكون لأصحابه شأن، وأن الشأن يكون لغيرهم، إما من أهل الدنيا، وإما من أهل الاتجاهات المختلفة في هذه الحياة.
وهذا كله هذه الأشياء جميعا من سوء الظن بالشريعة؛ لأن العلم هو الشريعة.
والواجب على طالب العلم أن يحسن ظنه بالله جل وعلا، وأن يحسن ظنه في عمله للعلم، وأن يحسن ظنه بالعلم والعمل جميعا، وأن يقبل على ذلك.
ولقد أحسن ابن القيم رحمه الله :
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه
أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث ما لها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكلُّ في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقان
والله ما قال امرؤ متحذلق
بسواهما إلا من الهذيان
وقد قال أحد العلماء أيضا في منظومة له بل في شعر له:
لا تسيء بالعلم ظنا يا فتى إن سوء الظن بالعلم عطب
وهذا حق فإن جربنا ورأينا في أن كل من أساء ظنا بالعلم وتخلف عن سبيل حملة العلم ودرس ثم ترك ولم يستمر في العلم إلا كان أمره إلى غير كمال، فالعلم به كمال الروح، به كمال الاعتقاد، به كمال العمل، به كمال انشراح الصدر، به كمال رؤية الأشياء، به كمال الأمل في أن لا يتصرف شيئا إلا على وصف الشريعة.
وقد ذكر أهل العلم أنَّ من أسباب ضلال الضالين من هذه الأمة أنهم ضلوا لأنهم لم يكونوا على علم صحيح، فالعلم الصحيح سبب من أسباب وقاية الفتن ووقاية أسباب الضلال والافتراق، إلى غير ذلك من آثار ترك العلم.(35/5)
لهذا أوصيكم ونفسي بالمحافظة على العلم وعلى حمله وحفظه وتدارسه، وأن يتعاهد المرء ما درسه، وأن يقبل على ما لم يعلمه بأخذه من مشايخه الذين يوثق بهم في فهمهم للعلم وفي آدائهم له؛ لأن هذا به -إن شاء الله تعالى- صلاح النفس وصلاح العمل.
أسأل الله جل وعلا أن يزيدنا وإياكم من الهدى والعلم، وأن يجعلنا من عباده الصادقين المخلصين، وأن يغفر لنا ذنوبنا إنه سبحانه جواد كريم.
?????
[المتن]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب فضل الإسلام
قال رحمه الله تعالى:
باب: فضل الإسلام
وقول الله تعالى ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3].
وقوله تعالى?قُلْ يَا َيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ?[يونس:104]الآية.
وقوله تعالى? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[الحديد:28].(35/6)
وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».
وفيه أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وفيه تعليقاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».(35/7)
وعن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة َذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسُّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذَكَرَ الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مَثَلُه كمثل شجرة يبس ورقُها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريحُ فتحاتَّ عنها ورقُها، إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن هذه الشجرة ورقها، وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟ ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
[الشرح]
الحمد لله، وبعد:
هذه الرسالة رسالة فضل الإسلام للإمام المجدد شيخ الإسلام أبي عبد الله وأبي علي محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر والباعث للمسلمين فقههم ودينهم.
هذه الرسالة من الرسائل المهمة التي كتبها الإمام المجدد عليه رحمة الله، وسماها فضل الإسلام؛ لأنه أول باب لهذه الرسالة.
ووجه أهمية هذه الرسالة أن هذه الرسالة تُعتبر رسالة في المنهج الذي يتميز به حملة التوحيد و أتباع السلف الصالح بعامة، كما أنها تبين كثيرا من المباحث والمسائل المتصلة بالواقع العملي للدعوة ومخالطة المسلم المتبع لطريقة السلف للناس من جميع الاتجاهات ومن جميع الأفهام والأهواء.
ففيها بيان تفسير الإسلام.
وفيها بيان فضل الإسلام.
وفيها بيان البدع وأن البدع أشد من الكبائر.
وفيها بيان معالم الانتماء الحق، وإبطال أنواع الانتماء المحدَثة.
وفيها تفصيل المنهج من حيث الأولويات والاهتمام بالسنة ورد البدع.
وفيها ما يتصل ببحث الألقاب والشعارات التي قد نتسمى بها، أو قد يرفعها بعضهم، وبيان حكم ذلك.
وفيها بيان أن الإسلام واجب أن يُدخل فيه كلِّه، وأن لا يفرق بين أمر وأمر فيه من حيث وجوب الدخول فيه، والإيمان بذلك.(35/8)
فهي رسالة تعد رسالة منهج يميز المتبعين للسلف الصالح أهل التوحيد وحملة العقيدة، وقد ألفها الإمام المجدد رحمه الله لسد هذه الثغرة العملية التي أدركها من واقع معاشرته؛ بل من واقع قيادته للمؤمنين في الدعوة وفي العلم، حيث ظهر له ضرورة تبيين هذه المسائل؛ لكن على طريقته رحمه الله من أنه إنما يذكر الباب ويذكر تحته الآيات والأحاديث التي تدل على ذلك وبعض أقوال السلف، وهذه منهجية في التأليف اعتمدها في الأكثر من مؤلفاته رحمه الله تعالى.
ومن أوجه الاهتمام بهذه الرسالة فضل الإسلام أنها لم تُشرح من أبناء الشيخ رحمه الله ولا من تلامذته القريبين منه كما شرحت رسائل أخرى وبينت وفصلت؛ ككتاب التوحيد وغيره من الكتب والرسائل والنبذ التي كتبها عليه رحمة الله.
والحاجة في كل زمان قائمة في إلى هذه المعاني التي اشتملت عليها هذه الرسالة لهذا كانت العناية بها مهمة، ولقد سبق لي أنه من بضع سنين أن شرحت هذه الرسالة في مجالس كثيرة، واشتمل ذلك الشرح على إطناب في بعض الأبواب وعلى اختصار في بعضها.
ونرجوا إن شاء الله تعالى أن يكون هذا الشرح مشتملا على مقاصد الكتاب، وعلى إيضاحات مهمة تُفهِم مقصود المؤلف، وتُقرر المنهج السلفي ومنهج أهل التوحيد في هذه المسائل، وتُقرر ما يتميز به حملة السنة عن غيرهم في الاعتدال في القول، والاعتدال في العمل والنظرة الصحيحة للأمور وفق السنة لا وفق الأهواء المختلقة.
قال رحمه الله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين باب فضل الإسلام)، (باب فضل الإسلام) فضل الإسلام يريد به أمورا:
الأول: فضل الإسلام في نفسه على غيره من الملل، والإسلام يشمل الدين كله بمراتبه المختلفة: الإسلام والإيمان والإحسان. ويشمل أيضا الدين كله من جهة العقيدة والشريعة والسلوك والجزاء ونحو ذلك، فالإسلام في نفسه فَضَلَ غيرَه وصار مفضَّلا على غيره بتفضيل الله جل وعلا.(35/9)
الأمر الثاني: أن فضل الإسلام على أهله الذين اعتنقوه ودخلوا فيه واستقاموا عليه ظاهر في الدنيا والآخرة في النصوص، فيبين المؤلف بعضا من النصوص التي تدل على فضل الإسلام على أهل الإسلام، وآثار الإسلام المباركة على عباد الله المؤمنين.
الأمر الثالث: أنَّ الإسلام تحمله أُمَّة، وهذه الأمة لأجل حملها للإسلام صارت مفضَّلة على غيرها، وصارت خيرا من غيرها، كما قال تعالى ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ?[آل عمران:110]، سبك الآية: كنتم للناس خير أمة أخرجت. وذلك لفضل هذه الأمة في نفسها بما حملت من الدين، ولفضلها على غيرها من الأمم، ثم فيه فضل هذه الأمة الوسط من هذه الأمة على سائر فرق هذه الأمة، فأمة الإسلام افترقت إلى فرق كثيرة وكلها في النار إلا واحدة، وهذه الواحدة هي الجماعة، وهي التي أخذت بالدين الوسط؛ يعني الدين المتيقن منه العدل والخيار، قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا?[البقرة:143] ، يعني عدلا خيارا، عدلا خيارا:
لوسطيتها في العقيدة بين الغالين وبين الجافين.
ولوسطيتها في الأحكام بين الغالين والجافين.
ولوسطيتها في السلوك بين الغالين والجافين.
ولوسطيتها في أنواع التعامل في مع الخلق بين الغالين والجافين.
لهذا صارت هذه الأمة الوسط من أهل الإسلام صار لها من الفضل المزيد، فإذا كان لأهل الإسلام عامة كأمة فضل خاص -بينته الآيات والأحاديث-، فكذلك أحرى الناس بأخص الفضل وأعلى الفضل هم أهل التوحيد والسنة الذين أخذوا بطريقة الجماعة الأولى، لهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنتم موفُّون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها عند الله»، وهذا من فضل الله العظيم.(35/10)
لهذا بين رحمه الله في هذا الباب وفي هذا الكتاب بعامة ما يتصل بتقرير هذه المسائل وبيَّن أنواع الفضل في الدنيا والآخرة في العقيدة والشريعة وأهل الإسلام، وما يتميز به القرآن والسنة من الفضل على أهله المتمسكين بأنواع الفضل مما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله (وقول الله تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3]) وفي قوله (وقول الله تعالى) يصح فيها الوجهان:
بالجر عطفا على (فضلِ)؛ يعني (بابُ فضلِ الإسلام وباب قولِ الله تعالى).
والرفع ابتداء (وقولُ الله تعالى: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ?) على نحو ما مر بنا في شرح كتاب التوحيد.(35/11)
قوله جل وعلا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) هذه الآية نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم قائم في عرفة في يوم جمعة، بيَّن الله جل وعلا فيها أنه جل جلاله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، وإكمال الدين يعني أن هذا الدين وهو دين الإسلام بعقيدته وبشريعته وبمصارده من الكتاب والسنة وما دل عليه الكتاب والسنة من الأدلة أن هذا قد أكمله الله جل وعلا، فأكمل لنا الدين فلم يعد فيه زيادة لمستزيد، وهذا فضل الإسلام؛ أن غيره من الملل لم تكن كاملة بل كان الناس بعدها يحتاجون إلى أشياء فلا يجدونها، فجعل الله جل وعلا هذا الدين كاملا حتى لا يكون فيه زيادة لمستزيد، وقد كان من قبلنا دخلوا في كثير من البدع وكثير من السلوكات عن جهل منهم تارة وعن علم تارة؛ لكن في الإسلام وفي دلائله من الكتاب والسنة فيه من بيان الأصول التي تدل على كمال الدين، وعلى أنَّ أصول الدين وعقائد الملة أنها ظاهرة بينة واضحة ما تجعل أهل الإسلام في أمنة أن يكونوا ضالين عن الحق كما ضل من قبلنا، أو يكونوا زائغين عنه لعدم علمهم به، فالعلم به ظاهر وإكمال الله لهذا الدين بيِّن، فلذلك منَّ الله على الناس بهذا الإكمال حيث قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).
وقال (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) والنعمة نوعان:
¨ نعمة دينية.
¨ ونعمة دنيوية.
والإسلام له فضل في الجهتين.
فمن الجهة الدينية: الإسلام بمصادره من الكتاب والسنة فيه البيان لما يحتاجه الناس في أمر دينهم حيث لا يلتبس من أراد الحق، لا يلتبس الطريق على من أراد الحق.(35/12)
وفيه أيضا فضل على أهل الإسلام في النعمة الدنيوية؛ لأن الله جل وعلا وعد من تمسك بالإسلام أنه يكون في حياة طيبة، كما قال جل وعلا ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً?[النحل:97]، والحياة الطيبة تشمل الطمأنينة في هذه الدنيا وتشمل الأمن وتشمل ساعة الرضا وتشمل الرضا ونحو ذلك مما لا تكون الحياة الطيبة إلا به ولا يكون الاطمئنان والعيش الرغد إلا به، مهما كثر المال أو كثرت مخارج الدنيا فلا تستقيم إلا بالطمأنينة والرضا والأنس لله جل جلاله، وهذه كفلها الدين لأهله وأهل الإسلام.
قال (وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) والإسلام إذا رضيه الله جل وعلا لعباده دينا؛ معنى ذلك أنه سبحانه وتعالى يرضى عمن أخذ بهذا الإسلام، ويرضى عمن استقام على الإسلام ودخل فيه، وإذا كان كذلك فأهله مرضي عنهم، وإذا كانوا مرضيا عنهم من الله جل وعلا فهم إذن مخصوصون بتوفيق الله جل وعلا ومعيته الخاصة، قال سبحانه ? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، ومعية الله الخاصة هي لمن رضي عنه، فمن رضي عنه قولا عملا وذلك بتمسكه بالإسلام اعتقادا وعملا فإنه يحظى بالمحبة من الله جل جلاله والتوفيق والهدى، وهذه كلها فيها من الآثار في الدنيا والآخرة مما لا يدخل تحت حصره.
إذن دلت الآية كما هو مراد المؤلف رحمه الله أن الإسلام كمُل، وأن الله أتم دين النعمة الدنيوية والدينية، وأنه رضي الإسلام دينا، ورضي عن أهله الذين أخذوا به، وهذا من محبة الله جل وعلا للإسلام -لهذا الدين-، ومن فضل الدين على أهله أنه كان سببا في فضل الله جل وعلا ومحبته وإنعامه وإتمام الأمر لأهل الإسلام.(35/13)
وإذا تأملت في غيرنا فإنك ستجد أن الله جل وعلا لم يمنحهم من الفضل كمنا منح هذه الأمة، ولهذا وجب على المؤمن أن يتبين فضل الله جل وعلا عليه وأن لا يمنَّ على الله بعمله أو أن لا يمنَّ على الله جل وعلا بعبادته وبسلوكه، فإن الله جل وعلا هو صاحب المنة لو كانوا يعقلون.
وفي الآية من الفوائد:
¨ أنَّ قوله جل وعلا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أن الإكمال شمل الدين كله، والدين ينقسم بأحد الاعتبارات إلى عقيدة وشريعة، وإكمال الدين يعني إكمال العقيدة وإكمال الشريعة، والعقيدة لها وسائل لإثباتها والعلم بها، وإثبات الغاية إثبات للوسيلة، فإثبات كمال الغاية هو إثبات كمال الوسائل، ففي الآية دليل على أنَّ وسائل تقرير العقيدة والشريعة قد أكملها الله جل وعلا بما دل عليه في الكتاب والسنة من الأدلة النصية أو الأدلة الأخرى التي دل عليها الكتاب والسنة، فعقيدة الإسلام أكملها الله؛ فلا يمكن أن يكون في غير الكتاب والسنة من الدين ما هو أكمل مما فيهما، ولهذا بطل قول الفلاسفة وأهل الكلام وأهل الفرق بأكملها في أنهم راموا الكمال في طرق عقلية أو فلسفات كلامية، راموا الكمال فيها فأخذهم النقص، حتى قال قائلهم: طريقة السلف أسلم لكن طريقة الخلف أعلم وأحكم. ويريدون أيضا أكمل، وهذا دلت الآية على بطلانه؛ لأن إكمال الدين لا يكون بإكمال وسائل الإثبات، وإذا كانت وسائل الإثبات كاملة فإن الطرق المختلفة التي أحدثت وسائل أخرى أنها ظاهرة البطلان.(35/14)
¨ الفائدة الثانية: قوله جل وعلا (رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) في قوله (لَكُمْ) ما يدل على أن الإسلام الذي رضيه هو الإسلام الخاص الذي صار سمة هذه الأمة وإلا فكلمة الإسلام تشمل رسالة كل رسول؛ لأن كل رسول بعث بالإسلام؛ لكن في قوله (لَكُمْ) ما يدل على أن الإسلام الذي رضيه الله جل وعلا هو الإسلام الخاص الذي من لم يدخل فيه فإنه ليس بمسلم بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قبل ذلك فمن أسلم الإسلام الذي أمر به الرسول الذي جاء فإنه يكون مسلما مرضيا؛ ولكن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا إسلام إلا الإسلام الخاص، وهذا يشمل مراتب الدين الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان.
والدين هو كل ما يدين به الناس ويجعلونه إلفا لهم وديدنا لهم، وهو في أصله مأخوذ من الديدن، هذا ديدنه يعني هذا ما اعتاده والتزمه، دِنْتُه يعني التزمتُه، والدَّيْن سُمي بذلك لأنه ملتزم به، والدِّين كذلك هو الطريقة الملتزمة، فإذا اعتقد شيئا والتزمه صار له دينا، وإذا عمل بشيء وسلكه صار له دينا، حتى تصير الأنظمة التي تُلتزم في اللغة تسمى دينا كما قال الله جل وعلا في قصة يوسف عليه السلام ?مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ?[يوسف:76]، سمى طريقة الملك في الأحكام في مسألة السرقة وأنَّ الذي سرق يؤخذ أسيرا أو رقيقا عقابا له على سرقته، سماه الله جل وعلا دينا لأنه التزام لحكم في كل حال، لهذا صار الدين دين الملك في قصة يوسف هو ما التزمه الملك في رعيته حين ذاك من الشرائع.
إذا كانت الشريعة مخالفة لشريعة الإسلام يصح أن يُقال لغة: إن هذا دين كذا؛ لأنه يدان به ويلتزم.(35/15)
فإذن في قوله (رَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) أن كل التزام يلتزمه الناس في أمور العقائد أو في أمور الشرائع والأحكام والأقضية أو في أمور السلوك أو أمور الدعوة والمنهج، إذا التزموه ويكون ليس مدلولا عليه بنص القرآن أو نص السنة أو بما حكم به السلف أو أئمة الإسلام فإنه بدلالة الآية يمكن أن يقال إن الله لم يرضَهُ دينا؛ لأنه ما رضي دينا إلا دين الإسلام على النحو الذي أوضحنا.
قال رحمه الله بعدها (وقوله تعالى ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ?[يونس:104]) مناسبة الآية ودلالتها أنّ الإمام المصلح رحمه الله تعالى يريد أنَّ الدين والإسلام له فضل على أهله الذين اتضحت لهم به معالمه([1])، حيث إنهم يَسْلَمون من براثن الشهوات وبراثن الشبهات وهي أعظم، وإذا وردت الشكوك فإن صاحب الدين يسلم من التردد فيها، فيكون حينئذ عنده البصر النافذ والبصيرة التامة عند حلول الشبهات وعند حلول الشكوك، لهذا قال جل وعلا (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إذا وقعت الشكوك من أهل الشرك أو أهل البدع أو أهل الضلالات وأوقعوها لدى المؤمن وعرضوها عليه، فإن من فضل الإسلام على المؤمن على المسلم إذا علمه وتمسك به وصار له به النور في قلبه أنه لا يتأثر بتلك الشبه ولا يتأثر بتلك الشكوك كما كان إمامنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قويا فيما واجه به المشركين حيث قال لهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي)؛ يعني من دين الإسلام والتوحيد الذي جئتُ به (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ)، أعلن كلمة التوحيد لا إله إلا(35/16)
الله التي فيها النفي وفيها الإثبات.
وهذا من فضل الإسلام على أهله؛ أنَّ صاحب الإسلام الذي علم دين الإسلام بالأدلة، وعلم العقيدة، وتبين له التوحيد، واعتقد ذلك عن علم وبينة وبصيرة ويقين، أن الله جل وعلا يحميه عند حلول الشبهات وعند حلول الشكوك، فلا يتردد ولا يزيغ، ومن أعظم أسباب الزيغ أن تَرِد الشبهة فلا يجد ما يرد به تلك الشبهة؛ لكن كلما قوي الإيمان كلما قوي الإسلام والعلم بتفاصيل الإسلام بعقيدته وشريعته فإن المرء يكون قويا معتزا بالإسلام لا تؤثر فيه شبهة، وإذا عُرض له شك أو عَرض له عارض في شبهة أو شك أو ريب فإنه يرده بقوة.
وهذا من آثار وفضل الإسلام على أهل الإسلام؛ أن الله جل وعلا يثبتهم، وأن الله جل وعلا يثبت في قلوبهم النور، وأن الله جل وعلا لا يكلهم إلى أنفسهم بل يعينهم ويسددهم عند حلول الشبهات.
وهذا واقع فإنما صمد في كل زمن عند حلول الفتن أهل العلم بالإسلام وأهل العلم بالشريعة وأهل العلم بالعقيدة والسنة فإنهم صمدوا ونفعوا وكان لهم الأجر على أنفسهم وعلى الأمة في كل زمان ومكان.
ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: ولعلماء الحديث وحملته في كل زمان من العلم بالدين ومن القوة عند حلول الشبهات -يعني معنى كلامه- ومن القوة عند حلول الشبهات ما يَفْضُلون به غيرَهم، حتى إنك تجد عندهم من اليقين والعلم التام عند حلول الشبه على الإسلام والسنة ما يتعجَّب منه المرء؛ لكن هذا بفضل الله جل وعلا وبرحمته، وكذلك من كان معهم في حمل الحديث والسنة والعناية بذلك، فإن الله يقوي يقينهم ويُعْظِم معرفتهم وعلمهم حتى يكونوا ثابتين أقوياء عند حلول الشبهات وعند ورود الشكوك والريب. أو كما قال رحمه الله تعالى هذا معنى كلامه.(35/17)
فإذن دلت الآية على أن الإسلام له فضل على أهله؛ فضل عظيم، في أنَّ المسلم إذا استمسك بالتوحيد وأسلم الإسلام الكامل لله جل وعلا فإنه يقوى عزته ويقوى يقينه، فلا يلفته عن دينه لافت ولا يصرفه عن دينه صارف؛ بل يثبته الله جل وعلا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ثم قال (وقول الله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[الحديد:28]) في هذه الآية مناسبة عظيمة لفضل الإسلام، وهو أن الله جل وعلا خاطب المؤمنين بأنهم إن حققوا الإسلام بما يشمل المراتب الثلاث، إن حققوا الإسلام واتقوا الله وآمنوا برسوله فإن الله جل وعلا يتفضل عليهم لأجل هذا التمسك منهم ولأجل استعصامهم بالله جل وعلا واعتصامهم بحبله ودينه المتين، فإن الله جل وعلا يمن عليهم بثلاثة أنواع من الفضل:
الأول: أنه يؤتيهم كفلين من رحمته، وهذا كما قال هنا (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، و(كِفْلَيْنِ) يريد بها الحظين، يعني يؤتكم حظين عظيمين من رحمته، وهذان الحظان العظيمان تشمل الأجر بأن الله جل وعلا يضاعف الأجر للمؤمن، فكل مسلم يؤتيه الله جل وعلا أجره مرتين؛ يعني يضاعف له الأجر والثواب منَّةً من الله جل وعلا وتكرما،
وأيضا (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) يشمل الرحمة التي تقوم بها الحياة رحمة الدنيا وأيضا رحمة الآخرة، فلا أحد يسلك في الدنيا طريقا إلا وهو محتاج إلى رحمة الله جل وعلا، قال (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، وكذلك الآخرة لا أحد ينجو فيها إلا برحمة الله جل وعلا.
فإذن شملت الآية أن الله جل وعلا تفضل على أهل الإسلام أنه يؤتيهم كفلين من رحمته: رحمة الدنيا ورحمة الآخرة.(35/18)
الفضل الثاني: قال (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)، والنور الذي يمشون به هو نور العلم واليقين والبصيرة، وقد دارت تفاسير السلف على أن النور الذي يمشي به هو نور العلم واليقين والبصيرة، فإذا استقام المرء حقيقة على الإسلام وجاهد نفسه بتقوى الله والإيمان برسوله فإن الله جل وعلا يمنحه العلمَ بتهيئة سبله له وبمحبة أهله وسماع كلامهم، فيجعل له نور يمشي به.
وهاهنا وقفة بأن الله جل وعلا من أسمائه النور، والنور في أسمائه جل وعلا له أثر في الشريعة بأن الله جل وعلا جعل رسوله صلى الله عليه وسلم نورا، وجعل الكتاب الذي هو القرآن نورا، وجعل في قلوب المؤمنين أيضا بالعلم نورا، قال جل وعلا ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ?[المائدة:15]، والنور هنا:
في أحد التفسيرين هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه عطف عليه الكتاب.
أو على القول الثاني على أنه الكتاب؛ ولكن موّه وصفه.
والنور هذا الذي يقذفه الله جل وعلا في القلب، هذا لا يكون إلا لأهل الإسلام، وكل مؤمن به حظ من هذا النور؛ لكن إنما يعظم هذا النور بعظمة تحصيل الإسلام والاستقامة عليه عقيدة وشريعة، لهذا كلما قوي أخذ الإسلام كلما قوي العلم بالشريعة كلما قوي العلم بالاعتقاد كلما قوي العلم بالله جل وعلا كلما زاد هذا النور في القلب، وإذا زاد النور في القلب فإنه يُبصر به في الظلمات -ظلمات الشبهات، وظلمات المسائل التي قد ترد على الإنسان في حياته-.
وتسمية الله جل وعلا له نورا في قوله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) في قوله (بِهِ)؛ (تَمْشُونَ بِهِ) يعني تمشون بهذا النور في الظلمات، فإن هذه الحياة ما فيها من شبه وما فيها من شهوات وما فيها من صوارف أشبه ما تكون بالظلمة، لهذا يحتاج فيها إلى النور وكلما قوي النور قوي إبصار الطريق.(35/19)
ومن آثار ذلك أن أهل الإسلام المستمسكين به والمستمسكين بطريقة السلف والذين أخذوا بالإسلام والسنة على نحو ما سيوصف في هذا الكتاب بالأدلة، على أن كل من قرب منهم فإنه سيبصر من النور بقدر قربه منه، وكلما بعد منه كلما ضعف عنه النور، وله النور بقدر بعده عنه.
وقد نبه على ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد في أن من آثار النور الذي يقذفه الله جل وعلا في قلب أهل التوحيد والسنة أنَّ من قرب منهم صار له من النور بقدر قربه منه بحيث يؤثر به صواب الطريق، لهذا تجد العاصي من أهل التوحيد الذي لم يتعلم من العلم عنده من النور والبصيرة في كثير من المسائل -في العقيدة وفي التوحيد وفي السلوك- ما يبصر به طريق الظلمات؛ لأنه وإن لم يكمل عنده العلم، أو يكون على علم؛ لكن بقربه من هذا النور فإنه يحصل له ذلك.
وهذه قاعدة مهمة سبيل في المنهج في أن الالتحاق بأهل العلم والقرب من أهل الاستقامة على الإسلام والسنة وطريقة السلف الصالح، كلما قرب العبد منهم ومن طريقتهم كلما منحه الله جل وعلا النور الذي يبصر به ولا يضل به السبيل.(35/20)
أما الفضل الثالث: في هذه الآية في قوله (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن فضل الإسلام على أهله أنَّ الإسلام بتحقيقه سبب عظيم من أسباب المغفرة، فالله جل وعلا وعد كل مسلم ومسلمة، وعد كل مؤمن ومؤمنة أن يغفر الله جل وعلا لهم، قال سبحانه ?إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ? إلى قوله في آخر الآية ?وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا?[الأحزاب:35]، وكل موحِّد قد وعده الله جل وعلا بالمغفرة، فالمغفرة يحظى بها –مغفرة الذنب- أهل الإسلام، لهذا منَّ الله جل وعلا على أهل الإيمان وعلى أهل الإسلام بأن جعل الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما إذا اجتنب الكبائر، ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى عمرة، وكذلك الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، «من حج فلم رفث ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه» وهذا ونحوه من آثار مغفرة الله جل وعلا لعباده المؤمنين؛ لأنهم استقاموا على الإسلام فهذا من فضل الإسلام عليهم أن كان أصلهم للإسلام سببا من أسباب مغفرة ذنوبهم، فأعظم سبب وأعظم نتيجة للمغفرة أن يستقيم المرء على الإسلام، وكلما كان أقوى في الاستمساك بالإسلام والسنة والبعد على الشرك فإنه يكون أقوى في الإتيان بسبب المغفرة، لهذا جاء في الحديث أن الله جل وعلا بقول «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لم تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة»؛ يعني بملء الأرض خطايا فإن الله جل وعلا يأتي بقرابها مغفرة.
لهذا نقول: دلت الآية على أن المؤمن إذا اتقى الله وآمن برسوله وحقق ذلك الإسلام والتزم بالسنة بإيمانه برسوله حق الإيمان والاستقامة على سنته والإقتداء بهديه عليه الصلاة والسلام، والبعد عن كل ما يخالف سنته، فإنه موعود بهذه الفضائل الثلاث العظيمة:(35/21)
¨ أنه يؤتي أجره مرتين؛ بل يؤتي كفلين عظيمين وحظين كبيرين من رحمة الله جل وعلا لعبده.
¨ وأنه يجعل الله له نورا يمشي به ولا يلتبس عليه الطرق ولا يستدل عليه سبيل.
¨ وأن الله جل وعلا يجعل له في كل ذنب مغفرة ورحمة منه جل وعلا وفضلا وتكرما.
? هذه الآية قد ذكر فيها الكثير من المفسرين أنها نزلت بأهل الكتاب، وأن المراد بها أهل الكتاب؛ يعني من اليهود والنصارى، وأن هذه الأمة تدخل فيها؛ لأنها أحق بهذا الوصف وهو الإيمان والتقوى والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكن هذا فيه نظر هي جهتين:
الجهة الأولى: أن الله جل وعلا قال في آخر الآيات -في الآية التي بعدها- في سورة الحديد ? لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ?[الحديد:29]، وهذا يدل على أن المراد بقوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ?[الحديد:28] غير المراد بأهل الكتاب.
الثاني: أن أهل الكتاب وعدهم الله جل وعلا أنهم إذا آمنوا واتقوا وآمنوا برسوله وأحسنوا إسلامهم أن الله جل وعلا يؤتهم أجرهم مرتين، كما جاء في سورة القصص وكما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين..» وذكر منهم رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فهذا يؤتى أجره مرتين، فأهل الكتاب إذا استقاموا وآمنوا وأسلموا فإنه يؤتى أجره مرتين؛ لكنهم ليسوا هم المقصودين بهذه الآية.
? التنبيه الثاني: أن في قوله جل وعلا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) النور -كما ذكرتُ لك- يُعبَّر عنه بالتفسير بعدة تعبيرات؛ يعني من مواضعه من القرآن:
¨ تارة يقال النور هو القرآن.
¨ وتارة يقال النور الإسلام.
¨ وتارة يقال النور السنة(35/22)
ونحو ذلك، وكلها تفاسير صحيحة؛ لأن الجميع نور، كما وصف الله جل وعلا الإسلام بأنه نور، وأن القرآن نور، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم نور، إلى آخره.
إذا تبين هذا بعد هذه الآيات فيظهر مما سبق: أن الله جل وعلا إذْ جعل الإسلام مفضلا على غيره، وجعل أهله مفضلين على غيرهم، وجعل هذه الأمة مفضلة على غيرها، وهذا يعني أنَّ تبعة بهذا التفضيل عظيمة؛ لأنه كلما عظم الفضل كلما عظمت التبعة، لهذا قال الله جل وعلا في وصف هذه ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ?[آل عمران:110]، فالقرآن هو أفضل الكتب لأسباب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء والمرسلين لأسباب جاءت في الكتاب والسنة يعني أسباب هذا التفضيل، وهذه الأنة أفضل بنص الكتاب والسنة كما مر معنا.
إذا كان كذلك فإنه كلما زاد الفضل كلما زادت التبعة؛ لأن الله جل وعلا يؤاخذ الفاضل بما لا يؤاخذ به غيرَه، ويؤاخذ العالم بما لا يؤاخذ به من ليس بعالم.
فالأمور إذن بمقابلها، هذا يُعظم التبعة على كل رافع لراية السنة والتوحيد:
أن لا يتخلف على التمسك بذلك أولا.
ثم أن لا يَنْسِبَ- أو يَنْسُبَ كلاهما صحيح- إلى الإسلام والسنة ما ليس منه؛ لأنه إنما يصف الطريق التي وصفها الله جل وعلا ووصفها رسوله صلى الله عليه وسلم وبين الله جل وعلا فضلها، فإذا كان الله جل وعلا بين هذا الفضل العظيم فإنما يعرف الطريق بدلائله من الكتاب والسنة لا بالأهواء ولا بادعاء الداعين، وإنما كل أحد يصف ذلك بغير ما صف الله جل وعلا به الإسلام والسنة أو وصفها به رسوله صلى الله عليه وسلم أو أجمع عليها السلف الصالح فإنه حينئذٍ يكون معارَضا بما يقول.(35/23)
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ») هذا المثل يضربه عليه الصلاة والسلام لبيان أنَّ هذه الأمة جاءت متأخرة وعملت قليلا ولكنها حظيت بأجر كثير، فأعطى الله هذه الأمة قراطين من الأجر، وأعطى من قبلها قيراطا، قيراطا، مع قصر مدتها وقلة عملها، وهذا فيه فضل الله جل وعلا على أهل الإسلام فيما شرعه من شرائع وفيما اختصهم به من حيث الزمان ومن حيث.
قوله عليه الصلاة والسلام (مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ) يعني المثل من جهة الزمن -مدة العمل والأجر-، وعبّر عليه الصلاة والسلام بقوله (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ) والممثَّل به الله جل جلاله، حيث هو الذي تعبَّد عباده بالعبادات، وهو الذي يعطيهم الأجر، فعبّر بقوله (كَمَثَلِ رَجُلٍ) لأنه في القرآن تمثيل الحقوق بحق الله جل وعلا وحق عباده ونحو ذلك بالرجل ومن يعمل عنده، كقوله جل وعلا ?وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ?[النحل:76] ونحو ذلك من الآيات التي فيها هذا التمثيل؛ فالتمثيل تمثيل حال بحال، تمثيل عمل بعمل بما يقرب الأمر إلى سامعه.
الأمر الثاني عند قوله (اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ) الاستئجار هنا هل هو حقيقة بأن المثل مضروب على الاستئجار فعلا وأن ابن آدم استأجره الله جل وعلا، فجعل له أجرا على عمله؟ أو أن هذا للتقريب ليس على حقيقة الأجر؟(35/24)
المعتمد عند أهل السنة والجماعة في نظائره في الكتاب والسنة أنه على حقيقته، وأنه أجر على حقيقة الأجر، وهو ما يعطى من العِوَض لقاء عمل من الأعمال، والله جل وعلا يعطي عوضا لقاء عملٍ، والله سبحانه هو الذي سماه أجرا، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سماه أجرا، فلذلك هو أجر على الحقيقة أجر بمقابلة عمل، وليس التعبير بالأجر أنه تعبير على المجاز أو أنه تعبير على التمثيل، ليس كذلك؛ بل هو أجر على الحقيقة.
وهذا المثال فيه تقرير لذلك حيث قال (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ) ومثَّل بأنهم يعملون في زمن وأعطاهم أجرا قراطين قراطين في هذه الأمة وهذا هو حقيقة الأجر.
وهذا له فوائده الكثيرة في التفسير وفي فهم النصوص وفي مسائل عدَّة من مسائل الشريعة والعقيدة أيضا.
قال عليه الصلاة والسلام (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) مناسبة الحديث للباب أن هذه الأمة اختصها الله جل وعلا من بين الأمم بفضل زيادة الأجر، وهذا أحد أوجه تفضيل هذه الأمة على غيرها، وأحد أوجه فضل الإسلام على هذه الأمة، فهذا في زيادة الأجر.(35/25)
ومن أنواع الفضل الأخرى ما ذكر في الآية من قبل أن الله جل وعلا يجعل للمؤمنين نورا وأنه يغفر لهم وأيضا مما جاء من الفضل في النصوص غير ما ذُكر أنّ هذه الأمة لا تجتمع أبدا على ضلالة، والمقصود بها أمة المؤمنين المستمسكين بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تجتمع على ضلالة كما قال جل وعلا ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]، قال (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وسبيل المؤمنين هو سبيل هذه الأمة التي لم تفترق ولن تتفرق في دينها، وأما الذين تفرقوا في دينهم شيعا فهؤلاء ليسوا معدودين في الإجماع وقد جاء في الحديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» وهو مروي من طرق يحسنها -يعني بمجموعها- عدد من أهل العلم في السنن وفي غيرها.
ودلَّ هذا على أنَّ المسلم يمكن أن يعصِم نفسه من الضلال بأن يلتزم على ما أجمعت عليه الأمة، فمن التزم بالعقيدة بما أجمعت عليه الأمة عند حلول الأقوال المختلفة والأهواء المتباينة فإنه على سبيل نجاة لأنه أخذ بالجماعة وأخذ بما أجمعت عليه الأمة، وهذا مصدر نجاة بالاتفاق.
وأيضا من آثارها على المسلم أنَّ عدم اجتماع الأمة على ضلالة، وأن الأمة إنما تجتمع على حق وهدى لا على ضلالة أنه ييسر له سلوك سبيل الاستقامة مع من مشوا خلف طريق الجماعة قبل أن تفسد الجماعة؛ لأنَّ الطرق تباينت والأمة اختلفت فإذا أراد المرء الطريق الحق فإنه يبحث عن من تمسَّك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد؛ يعني بما كانت عليه الجماعة إذ لم تجتمع على ضلالة، إذ كان اجتماعها على حق وهدى.
فهذا إقتداء عملي باجتماع على حق وهدى كان في ما سلف، والله جل وعلا عصم هذه الأمة على أن تجتمع على ضلالة كما ذُكر.(35/26)
وفي الحديث أيضا من المناسبة قوله في آخره قال (ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) وهذا الفضل هو من الله جل وعلا، وإذا كان من الله جل وعلا فإن فضل الإسلام على أهله إنما هو من الله جل وعلا، وهذا يجعل المسلم دائم التعلق بالله جل وعلا معرفةً منه بفضل ربه عليه في دينه هداية وفي أجره عليه، فمن الذي هدى عباده للإسلام؟ هو الله جل وعلا، من الذي هداك للاستقامة على السنة؟ هو الله جل وعلا، من الذي تفضل عليك بالنور بعد ذلك؟ هو الله جل وعلا، من الذي تفضل بالحظين من الرحمة والكفلين من الأجر؟ هو الله جل وعلا، فحينئذٍ يكون الأمر من الله جل وعلا وإليه ابتداء وانتهاء، وهذا يجعل قلب المؤمن موطَّنا على محبة الله جل وعلا والذل له والاعتراف له جل وعلا بالفضل والإحسان دائما وأبدا.
وفي هذا القدر اليوم كفاية، ونلتقي إن شاء الله غدا، وقد يجري تعديل في الموعد كما بلغني الأخ سعد حسب ما يرتبون، فإن رتبوا أن يكون غدا بعد العصر مباشرة صار كذلك، أو إذا أرادوا أن نأخذ الفترة الثانية صار كذلك أيضا إن شاء الله تعالى .
ونسأل الله لكم جميعا الانتفاع بهذه الدروس العامة وأن ينفعني وإياكم بما سمعنا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
وفيه أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وفيه تعليقاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».(35/27)
وعن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة َذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسُّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذَكَرَ الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مَثَلُه كمثل شجرة يبس ورقُها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريحُ فتحاتَّ عنها ورقُها، إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن هذه الشجرة ورقها، وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟ ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا، واغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.
أما بعد:
قد مرّ معنا الكلام على الآيات التي ذكرها الإمام المجدد رحمه الله تعالى في صدر هذا الباب؛ بل وفي صدر هذا الكتاب، مما يدل على فضل الإسلام في نفسه وفضله على أهله وفضل هذه الأمة وما حبى جل وعلا هذه الأمة بعامة، وما ميز به شريعة الإسلام من الفضائل.(35/28)
وبعد ذلك قال (وفيه أيضاً) يعني في الصحيح (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ») قوله هنا (وفيه أيضاً) يعني في الصحيح، وهذا عطف على الكلام الذي سبق حيث قال فيما سبق (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) والعلماء يعبرون بقولهم (وفي الصحيح) خاصة المتأخرون منهم:
وتارة يعنون أنه يكون في الصحيحين معه.
وتارة يعنون أنه يكون في البخاري وهو الأكثر.
وتارة يعنون أنه في مسلم.
وربما عطفوا واحدا على واحد ويكون أحدهما البخاري والثاني مسلم.
ولذلك لا يشترط في العطف أن يكون مخرج الحديث واحدا؛ بل العطف على ظاهره أن المراد أن يكون الحديث مخرجا في الصحيح، إما أن يكون في البخاري أو في مسلم أو فيهما معا.
وقوله هنا عليه الصلاة والسلام (أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا) بيانه أن الله جل جلاله ابتلى الأمم من قبلنا في يوم يتخذونه عيدا، فأمرهم بيوم وأعماهم ذلك اليوم عليهم فاجتمعوا فيه؛ فاجتمعت اليهود وأجمعت على أن ذلك اليوم هو يوم السبت وأخطأوا في ذلك، ثم بعدهم النصارى أُمروا بيوم يتخذونه عيدا يكون عيد الأسبوع ويجتمعون فيه، فاجتمعوا على أن يكون يوم الأحد فأخطأوا في ذلك.
فأضل الله جل وعلا على الأمتين من قبلنا على اليوم الذي اختاره الله جل وعلا في علمه وهو يوم الجمعة.(35/29)
وفي هذا دليل على أن الأمم من قبلنا قد تجتمع على غلط وتجتمع على خطأ حتى قبل التحريف، وأنَّ الله جل وعلا يُضل أمما بمحض حكمته سبحانه وتعالى بما عملوه أو ليكون الفضل لغيرهم عليهم، وهذا من الابتلاء الذي ظهر به فضل هذه الأمة وسابقتها مع كونها أمة متأخرة في الزمان، وفيه إظهار فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث إنها لا تجتمع على ضلالة، فظهر بذلك فضل هذه الأمة لما فضَّلها الله جل وعلا بالإسلام من جهتين:
الجهة الأولى: أنه لم يترك اختيار اليوم بل أمرهم به معينا بخلاف من كان قبلنا.
الجهة الثانية: أن الله جل وعلا أنعم على هذه الأمة بأنها لا تجتمع على ضلالة، قد ذكرت لكم أمس أن هذا اللفظ (لا تجتمع أمتي على ضلالة) مروي من طرق يشد بعضها بعضا وهي ضعيفة الأسانيد وبعضها شديد الضعف؛ لكن يشهد بعضها لبعض مما جعل عددا من أهل العلم يعدونه في الأحاديث الحسنة، فهذه الأمة خُصت بعدم اجتماعها على ضلالة وبأن الله جل وعلا لم يَكِلْهَا إلى نفسها بل بيَّن لها الدين وأتم عليها النعمة كما قال جل وعلا?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3] ([2])، وكما سبق فإن دينا رضيه الله جل وعلا جملة وتفصيلا واجب على العباد أن يرضوه هم إذْ رضيه الله جل وعلا للعباد أن يدينوا به ويستسلموا له جل وعلا بهذا الدين.(35/30)
قال (أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ) وهذا فيه أن قوله (فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ) أنَّ لفظ الهداية يعمُّ ما كان على اجتهاد وما كان عن غير اجتهاد، فالله جل وعلا هدى هذه الأمة فيما أمرها به وفيما نهاها عنه؛ لأن هذا من الهداية العظيمة أن لا تُوكَل في أشياء كثيرة إلى أنفسها واجتهادها؛ بل هداها الله جل وعلا بتفاصيل الأحكام، وهذا من جملة ما يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام (َجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ) وفي قوله جل وعلا?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ?[الفاتحة:6] يعني طلبا للهداية لتفاصيل الاستقامة على الصراط علما وعملا اعتقادا وتصديقا.
قال بعدها عليه الصلاة والسلام (وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وذلك أن هذه الأمة؛ أمة محمد صلى الله عليه وسلم تكون سابقة يوم القيامة، فهذه الأمة متأخرة ولكنها يوم القيامة سابقة:
سبق الهلالُ البدرَ لكن لم يصر بالسبق بدرا(35/31)
قال (نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، (نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) يعني من جنس الأمم التي بُعثت إليها الرسول، فما من أمة إلا جاءها رسول كما قال جل وعلا ?وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ?[فاطر:24]، وقال جل وعلا ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ?[النحل:36]، فالأمم المتنوعة بُعثت إليها الرسل؛ لكن آخر أمة هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم توفي سبعين أمة من الأمم التي بعثت إليها الرسل في أجناسها، ولكن قد تبقى آثار الرسالة وآثار النبوة وقد لا تبقى بظلمٍ من العباد وبصنيع العباد في أنفسهم بأن لم يستجيبوا للرسول، فيوم القيامة يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد من قلة من استجاب له، وفي الحديث الصحيح «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرُها وأكرمها على الله».
وقوله (نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) يحتمل أمرين:
¨ الآخرون من الأمم التي بعثت إليها الرسل من أهل الدنيا.
¨ أو الآخرون يعني الأمة التي ستبقى إلى قيام الساعة، فهي آخرة يعني متأخرة على غيرها من الأمم؛ يعني من أهل الدنيا من جنس الأمم.
قال (وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني أنّ أول الأمم تحاسب هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الأمم تستريح من حصول الموقف هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول أمة تعبر الصراط هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن نبيها عليه الصلاة والسلام هو السابق إلى هذا كله، وقد قال عليه الصلاة والسلام «أنا أول من تُفتح له أبواب الجنة»، وأمته عليه الصلاة والسلام على أثره.(35/32)
وهذا من فضل الله جل وعلا على هذه الأمة أنهم متميزون في الدنيا مهديون معالون، وهم في الآخرة أيضا سابقون إلى الجنة وسابقون قبل ذلك إلى الاستراحة من هول الموقف.
إذا تبين هذا، فهذا الحديث فيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن الضلال قد يقع في الأمور الاجتهادية لقوله عليه الصلاة والسلام (أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا)، وقد لا يؤاخذ المجتهد؛ لكن يطلق عليه أنه أضلّ الصواب، وفي القرآن أيضا ما يدل على ذلك كقوله جل وعلا ?أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى?[البقرة:282]، وكقوله ?وَقَالُوا أءِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ?[السجدة:10] على أحد التفسيرين، وهذا يعني أنّ الضلال هو الذهاب عن وجه الصواب، وقد يكون مع الإثم إذا قصَّر في الاجتهاد، وقد لا يكون مع الإثم، فليس كل وصفٍ بالضلال يعد قدحا فيمن وُصف به، ولهذا طائفة من أهل العلم يعبِّرون -في المسائل التي يخطئ فيها من أخطأ- يعبرون بأنه ضل في ذلك أو هذا ضلال مبين و نحو ذلك، ولا يُعنى به أنه يأثم على ذلك، أو أنه سار في ذلك على وفق هواه أو ما أشبه ذلك، وإنما هي محتملة كما جاء في القرآن أنها ستكون في النسيان والترك الذي عن غير قصد، وتكون في الأمور الاجتهادية، وتكون أيضا فيما يتركه المرء عن تقصير في ابتغاء الحق والسعي إليه.
الفائدة الثانية: يوم الجمعة اختلف العلماء فيه: هل هو أول أيام الأسبوع أم هو آخرها؟
? وجمهور أهل العلم على أنَّ يوم الجمعة هو أول أيام الأسبوع، وأنّ السبت بعده، وأنّ الأحد بعده، واستدلوا لذلك بعدة أدلة:
منها هذا الحديث حيث قال (وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) في قوله (وَكَذَلِكَ).
وفي رواية أخرى لهذا الحديث «فنحن اليوم واليهود غدا والنصارى بعد غد».(35/33)
واستدلوا أيضا بذلك بأن يوم الجمعة هو يوم عيد، والعيد يكون أول الأيام ولا يكون آخرها، يكون افتتاح الأسبوع ولا يكون آخر الأسبوع.
? وطائفة من أهل العلم قالت: لا، يوم الجمعة هو آخر أيام الأسبوع في بحث يُطلب من مظانه، لكن الشاهد هنا أنه حتى على هذا القول الذي قال به طائفة من أنه آخر أيام الأسبوع فلا يُعارض أن يكون السبت بعده والأحد بعده باعتبار أنها ثلاثة أيام متوالية، فكان السبق لليوم الأول وهو يوم الجمعة، وبعده اليوم الثاني وهو يوم السبت، ثم يوم الأحد.
فعلى كلٍّ من القولين فإنّ يوم الجمعة يسبق يوم السبت والأحد.
الفائدة الثالثة: أنّ هذا الحديث -وهو موطن الشاهد للمصنف- فيه دليل على عناية الله جل وعلا في هذه الأمة، ورفقه بها، وعدم إضلاله لها؛ بل أعانها ومنَّ عليها حتى صارت سابقة للأمم في شعائرها في الدنيا وفي منزلتها وكذلك يوم القيامة، وهذا من جملة ما يؤكد فضل الإسلام على أهل الإسلام في أن المسلم إذا التزم وأطاع الله جل وعلا فإنه يهدى ويعان ولا يترك لنفسه، فكما أن هذه الأمة متميزة بأنواع التميز ومنها عدم إجماعها واجتماعها على ضلالة، فإنّ غيرها من الأمم قد ابتليت بأشياء كثيرة؛ ومما ابتليت به كما سيأتي الآصار والأغلال، ومما ابتليت به أنها حملت ما لا طاقة لها به، ومما ابتليت به كثير من الأحكام في الطهارة والصلاة وأشباه ذلك مما عجِزوا عنه حتى حرَّفوه وتنكبوا الطريق الذي رضيه الله جل وعلا لهم.
قال بعدها تعالى (وفيه تعليقاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ») يريد بقوله (وفيه) يعني في الصحيح الذي عناه بقوله في الحديث الذي قبله (وفيه أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).(35/34)
(وفيه تعليقاً) يعني في صحيح البخاري، (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ») وقد ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث معلقا في باب الدين يسر في كتاب الإيمان من أول صحيح البخاري.
وقول المصنف (وفيه تعليقاً) يعني أن البخاري رحمه الله تعالى لم يصل إسناده وإنما علقه، ولفظ التعليق من ألفاظ الاصطلاح، اصطلاح أهل الحديث يريدون به أن المُخْرِج للحديث -ليس المُخَرِّج- أن الراوي للحديث من أصحاب الكتب يَحذف ويُسقط ما بينه وبين من علق عنه من الإسناد، فيسقط عددا من الرجال، قد يسقط واحدا، وقد يسقط اثنين، وقد يسقط ثلاثة، وقد يسقط جميع الإسناد ويكثر منتهاه فيقول: وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم. وأشباه ذلك.(35/35)
لكن البخاري رحمه الله تعالى له طريقة التعاليق أنه إذا جزم بالتعلي؛ يعني ذكره بصيغة الجزم كقوله (قال) أو كقوله (عن) أو (حدث) أو أشباه ذلك مما فيه صيغة الجزم من بداية ما ذكر فإن هذا يدل على صحة إسناده عنده أو جودته عنده، لكنه تقاصر عن رتبة شرطه، والبخاري له شرط في الصحيح شديد ولهذا تقاصرت كثير من الأحاديث عنده عن شرطه فربما علق بصيغة الجزم، كما فصل في هذا الحديث أنه علقه بصيغة الجزم، وهو عن محمد بن إسحاق عن داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»، ومعلوم أن محمدا بن إسحاق وصفه جمع من أهل الحديث وخاصة المتأخرين بأنه يدلِّس وأنه قد يُسقط الواسطة بينه وبين شيخه، لكن داوود بن الحصين ثقة وهو شيخ ابن إسحاق هذا الإسناد وما دام أن البخاري علقه بصيغة الجزم فهذا يدل على صحة سماع محمد بن إسحاق لهذا الحديث عن داوود بن الحصين؛ لأنه من طريق أصحاب الصحيح أنه إذا صحّ عندهم التحديث في طريق من الطرق فإنهم لا يبالون أذكروا الإسناد وفيه التحديث أم ذكروه وليس فيه التحديث، وهذا مأخوذ من صحيح ابن حبان بالتنصيص -لأنه نص عليه في مقدمته- ومن صنيع البخاري ومسلم وأشباههما بالاستقراء حيث تستقيم هذه القاعدة فيما يذكرون، وهذا الحديث موصول عند البخاري في الأدب المفرد وفي كتبه وعند الإمام أحمد وجماعة وإسناده جيد والعلماء صحَّحوه وله شواهد مختلفة تدل عليه.
قال(أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)، (أَحَبُّ الدِّينِ)، (الدِّين) هنا ما المقصود به؟(35/36)
?هل الألف واللام فيه للجنس فيعنى فيه جميع الأديان؛ يعني أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة التي هي دين الإسلام ودين محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فيشمل حينئذ -إذا كانت الألف واللام للجنس- يشمل جميع الأديان السابقة، فيظهر بذلك فضل هذا الدين ومحبة الله جل وعلا له.
?الوجه الثاني: أن الألف واللام فيه هنا للعهد، والدين المعهود هو دين الإسلام، فمعنى هذا الحديث على هذا التوجيه: أحب الإسلام إلى الله الحنيفية السمحة؛ يعني أحب خصال الدين الذي هو الإسلام إلى الله جل وعلى الحنيفية السمحة، فخصال الدين متنوعة وأموره كثيرة وشرائعه متعددة، فأحبها إلى الله جل وعلا الحنيفية؛ يعني ما كان على وفق السنة وكان سمحا سهلا، فالله جل وعلا لم يجعل ما يحبه من شرائع الإسلام في الآصار الأغلال أو فيما هو شديد على العباد بل أحبه إليه جل وعلا هو ما كان سمحا وسهلا.
إذا تبين ذلك بحسب تفضيل أو توجيه كلمة (الدِّين) يختلف معنى (أَحَبُّ):
فعلى المعنى الأول هو أن الدين للجنس تكون (أَحَبُّ) أفعل بمعنى مفعول؛ يعني محبوب الدين إلى الله الحنيفية السمحة؛ لأن الأديان التي سبقت بعد مجيء الإسلام ليست محبوبة لله جل وعلا ولا يرتضي جل جلاله من أحد أن يدين بها؛ بل لابد أن يدين بالإسلام فإذا كان كذلك فلا تقدر أحب أنها أفعل على بابها؛ بل يكون معناها محبوب الدين عند الله أو إلى الله.(35/37)
وكون أفعل لا تكون على التفضيل هذا كثير في اللغة فإنها للتفضيل في أصلها؛ لكن قد تكون لغيره في مواضع كثيرة كقول الله جل وعلا ?أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا?[الفرقان:24] يعني خير مستقر من أهل النار لكن هل عند أهل النار خير؟ لا، (وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) يعني أحسن مقيلا من أهل النار، هل أهل النار يكون عندهم مقيل حسن؟ لا، فيكون إذن معنى قوله (وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) يعني حسن مقيلهم، وكذلك في قوله (أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ) هنا يعني محبوب الدين إلى الله الحنيفية السمحة التي هي الإسلام.
وعلى التوجيه الثاني: أن يكون الدين المقصود به الدين المعهود وهو الإسلام، فيكون (أَحَبُّ) على بابها يعني أحب خصال الإسلام وشرائع الإسلام إلى الله جل وعلا الحنيفية السمحة، وهذا هو الذي فهمه البخاري حيث أورد الحديث في كتاب الإيمان ليدل على يسر الدين أولا، وأن أيسر الدين أحبه إلى الله جل وعلا، وليدل على أن الأعمال من الإيمان كما هو معلوم في موضعه.
قوله (الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ) الحنيفية في الأصل هي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، وهي التي أوحي إلى محمد عليه الصلاة والسلام أن يتَّبع ملته كما قال جل وعلا ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:123].
و(الْحَنِيفِيَّةُ) مأخوذة من الحنف وهو الميل لأنها مالت عن جميع طرق الضلال إلى الطريق الذي رضيه الله جل وعلا، مالت عن الشرك إلى التوحيد، وقد يقال لها الملة العوجاء بمعنى الحنيفية التي فيها اعوجاج عن طريق الشرك يعني ميلا عن طريق الشرك إلى طريق التوحيد وعن أهل الشرك إلى أهل التوحيد.(35/38)
و(الْحَنِيفِيَّةُ) إذا كانت بمعنى الميل فإنها قد تكون في العقيدة والأصل والتوحيد وقد تكون في الشريعة؛ لأن العقيدة في باب العلم تحتاج إلى ميل من الغلط إلى الصواب، والشريعة في باب الأهواء والشهوات تحتاج إلى ميل عن طريق الشهوة إلى طريق الاتباع والاستقامة.
قال (السَّمْحَةُ)، و(السَّمْحَةُ) يعني الميسرة السهلة.
وفي هذا الحديث مما أراده المؤلف رحمه الله أن الله جل وعلا منّ على هذه الأمة وبأنه جعل دينها حنيفا سمحا سهلا بخلاف الأمم من قبلنا قد ابتلاها الله جل وعلا بالآصار والأغلال كما قال جل وعلا ?وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ?[الأعراف:157]، وقال جل وعلا ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78]، والله جل جلاله لما ابتلى الأمم من قبلنا بأنواع أحكام شديدة وصعبة فإنه جل وعلا خفف على هذه الأمة حتى صارت سمة هذه الأمة وسمة هذا الدين أنه سمة يسر وسهولة، وأن العبادات في هذه الأمة عبادات سهلة ميسرة، وصارت قاعدة من قواعد الشريعة أن الحرج مرفوع، وأنه لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، وأن المشقة تجلب التيسير، حتى اختص الله جل وعلا هذه الأمة بأنها لا تؤاخذ بما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم كما جاء في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال «إن الله تجاوز لأمتي» يعني خاصة هذه الأمة « تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» وهذا يدل على فضل الإسلام في نفسه؛ أن من دخله والتزم به فإنه يحصل على ذلك الفضل العظيم بالثواب والنور والجزاء وفي دخوله في هذه الأمة وأن يكون هو الخير، ومع ذلك أحكامه سهلة وأعماله سهلة ميسرة وسمحة؛ بل أحب خصال الإسلام إلى الله جل وعلا الحنيفية السمحة، فكلما كان العمل المشروع أسهل فيما أمر الله جل وعلا به فإنه يكون أحب(35/39)
إلى الله جل وعلا.
لكن هنا تنبيه: وهو أن مسألة السهولة واليسر هذه مما تختلف فيها الأفهام، فينبغي ضبطها -يعني السهولة واليُسر التي يحبها الله جل وعلا- بأنها على أحد وجهين:
الأول: أنها منصوصة في الشريعة -في القرآن أو في السنة-، فإن كان العمل سهلا ميسورا منصوصا في الشريعة فإن هذا محبوب إلى الله جل وعلا، مثاله الإفطار في السفر وقصر الصلاة في السفر لعلة السفر ولحكمة المشقة فإن الإفطار أفضل؛ لأنه أيسر وإن القصر أفضل لأنه أيسر ولن يشاد الدين أحد إلا وغلبه.
الوجه الثاني: أن يكون التيسير والسماحة التي حُكم بها قد قررها إمام أو عالم مجتهد؛ يصلح الاجتهاد من مثله، بتطبيق أصول وقواعد الشرع ومنها قاعدة المشقة تجلب التيسير أو الضرر يزال، أو نحو ذلك من القواعد، فإذا كان الحكم اليسير جاء عن اجتهاد صحيح في تطبيق قواعد رفع الحرج فإن هذا يكون من الدين الذي هو أحب إلى الله جل وعلا من غيره؛ يعني من التشديد، ولهذا كان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول في معرض كلام له: التشديد يحسنه كل أحد وإنما العلم الرخصة تأتيك من فقيه. وهذا صحيح إذا كانت الرخصة أتتك من فقيه بالنص وفقيه بالقواعد الشرعية فإن هذا مما يحبه الله جل وعلا ومما تميزت به وميز الله به هذه الأمة.(35/40)
إذا تبين ذلك فإن الناظر في أحكام الشريعة الإسلامية يجد أن أحكام الشريعة مبنية على السماحة واليسر والسهولة في الطهارة وفي أحكام المياه والآنية، في أحكام الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام والحج وفي المعاملات وفي الاجتماعيات إلى آخره، كل هذه مبنية على اليسر والسهولة، فكلما كان الأمر أيسر كلما كان أحب إلى الله جل وعلا، ومعنى ذلك أن العبد ينبغي له بل يحسن منه أن يحب الأيسر من الأمرين إذا عرضت له، وهكذا كان عليه الصلاة والسلام فإنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما عليه الصلاة والسلام ما لم يكن إثما، وهذا لأنه يحب ما يحبه الله جل وعلا وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.
إذا تبين هذا فإن مراد المؤلف رحمه الله في إيراد هذا الحديث ذكر ما خص الله جل وعلا به هذه الشريعة وهذه الأمة والمسلمين بعامة وكلّ مسلم بمفرده مِن أنه مع كونه منّ الله جل وعلا عليه بذلك الفضل العظيم الذي ذكر فإنما يحصل عليه بعمل يسير سهل وبأحكام ميسرة، وهذا مما يُرغِّب بالعقلاء جميعا بأن يدخلوا دين الإسلام، ويرغب أهل الإسلام في أن يلتزموا بأحكامه وشرائعه بأنه كلما زادوا التزاما وطاعة بالحنيفية السمحة كلما كان أجرهم أعظم وكلما كانت محبة الله جل وعلا لهم أبلغ.(35/41)
وهذا الذي ذكر يشمل يعني في السماحة واليسر يشمل الأحكام العملية ويشمل أيضا الأمور العلمية الاعتقادية، فإن اليسر والسهولة في الأمور العلمية الاعتقادية ظاهر؛ لأن الإسلام دين الفطرة، والإسلام ليس فيه تعقيدات كلامية ولا مباحث فلسفية لا يفهمه لها إلا خواص الناس، بل كل أحد يفهم الإسلام بعبارات سهلة إذا شرح له معنى التوحيد وبُينت له بعض الأحكام فإنه يفهم الإسلام، وأما ما أُحدث في هذه الأمة من الأقوال المتفرقة والتفصيلات مما يسمونه جليل الكلام ودقيق الكلام أو ما يسمونه بالفلسفة الإسلامية أو التعقيدات التي لا تصلح لجمهور الأمة، فإن هذا بلا شك مما يُجزم أنه ليس مما يحبه الله جل وعلا؛ لأن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، وهذه المسائل المعقدة التي لا يفهمها إلا الخواص بمقدمات كثيرة متنوعة هذه ليست مما يدخل في السماحة ولا في اليسر، ولذلك صار لا يعتقد تلك الاعتقادات على تفاصيلها التي يقول بها المتكلمة وأرباب البدع, لا يعتقدها إلا خواص العلماء؛ ولكن إذا سألت عامة الناس هل تعتقد كذا؟ لم يدر ما يقول أو أجابك بما في النص.
لهذا يخطىء بعضهم أنه يزعم أن أكثر الأمة اليوم وما قبل اليوم أنهم أشاعرة مثلا في الاعتقاد أو ماتريدية، أو أكثر الأمة على نحو كذا, هذا غلط؛ لأن هذه المذاهب إنما هي عند العلماء على تفاصيلها، والعامة أكثر ما تجد عندهم الفطرة، وأكثر ما تجد عندهم ما دل عليه الدليل إذا علموه، وأما تفاصيل المسائل العقدية الأشعرية أو الماتريدية وتفاصيل المسائل الكلامية أو المذهبية على أي مذهب، هذه تحتاج إلى تعليم, فإذا عُلِّمها لقنها وحفظها، وإذا لم يعلَّمْها فإنه يصر إلى ما سيسمعه في الكتاب أو في السنة وإلى ما يتلوه في القرآن وهذا مجرب ظاهر.(35/42)
لهذا نقول إن الذي يناسب الناس هو الحنيفية السمحة، الذي يناسب الناس في الدعوة وفي البيان إنما هو فطرة الإسلام والتوحيد الذي لا يلتبس بالأقوال والتفريعات الكلامية والفلسفية والخرافية التي لا يفهمها الناس إلا بتعليم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» إلى آخر الحديث.
وهذا مهم في المنهج؛ منهج الدعوة ومنهج العمل، في أنه يقرر في الدعوة ما بين العامة وما بين خصوص المنحرفين من علماء الفرق والذين درسوا على مذهب معين، فإن العامة قد لا تجد عندهم تلك الأقوال، وإن وجدت عندهم قولا لا تجد عندهم تفاصيل المذهب.
إذا سألت أحدا مثلا من عامة الناس في أي بلد مما إذا كان فيه مذهب أشعرية أو مذهب ماتريدية أو مذهب قدرية أو معتزلة أو إلى آخره, إذا سألته في مسائل القدر فإنه يجيبك بما تقتضيه الفطرة، بأن الإنسان مخير وأنه غير مجبور ولذلك يعمل؛ لأنه لم يعلم غير ذلك والفطرة تقتضي هذا، وإحساسه في داخله يقتضي ذلك.
كذلك إذا أتيت بمسائل الإيمان وسألت أحدا من عامة الناس ممن لم يعلم تفاصيل مذاهب المرجئة في الإيمان: هل العمل من الإيمان؟ يجيبك الجميع كما جُرِّب: نعم, العمل من الإيمان.
وكذلك إذا أتيت بمسائل الصفات: الله جل وعلا هل إستوى على الأرض؟ فإنه يقول: نعم, الله جل وعلا يقول ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]. إلا إذا عُلِّم التأويل، إلا إذا لُقِّن وحُرف، فإنه حين إذن ينتقل عن فطرته إلى شيء آخر.
ولهذا من المهم في منهج الدعوة أن يقرر للناس ما يستقيم مع فطرتهم، وما يسهل عليهم في الاعتقاد وفي العمل, فالحنيفية السمحة سمة الإسلام عقيدة وشريعة، وينبغي أن تكون سمة الدعاة إلى الإسلام عقيدة وشريعة.(35/43)
قال رحمه الله بعدها (وعن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة َذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسُّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذَكَرَ الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مَثَلُه كمثل شجرة يبس ورقُها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريحُ فتحاتَّ عنها ورقُها، إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن هذه الشجرة ورقُها، وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.)
هذا الأثر رواه عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد والإمام أحمد أيضا وأبو نعيم في الحلية، ووقع غلط في إسناده في الزهد لعبد الله بن المبارك يصحح من الحلية.
والمقصود من هذا الأثر أن منهج الصحابة رضوان الله عليهم هو الحثّ على لزوم السبيل والسنة، وبيان فضل الاستقامة على السبيل والسنة؛ ويعني بقول (عليكم بالسبيل والسنة) الزموا السبيل والسنة، والسبيل المراد به سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل صحابتهم رضي الله عنهم، وهو المذكور في قوله جل وعلا ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ?[الأنعام:153]، وهنا وحّد الصراط فقال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فجعله صراطا واحدا وهو السبيل الواحد، وهو الذي يجمع أمور الإسلام على تفاصيلها وأمور السنة على تفاصيلها، وأما السبل الأخرى والأهواء فعلى كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إلى دخوله، وهاهنا سؤال معروف وهو: أن الله جل وعلا قال في آخر سورة العنكبوت ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت:69]، فهنا جمع السبل، وفي آية الأنعام وحّد الصراط، وهنا في أثر أبيّ وفي غيره من الأحاديث والآثار يفرد السبيل، فهل يبين هذا تعارض؟(35/44)
الجواب: لا، الباب باب واحد؛ ولكن السبيل المقصود به سبيل الإسلام والسنة، وهذا في داخله فيه تفاصيل، ففيه سبيل الصلاة، وفيه سبيل الزكاة، وفيه سبيل الصلة، وفيه سبيل أعمال القلوب التي تُصلح القلب، وفيه سبيل كذا وكذا مما يحتاجه الناس تفصيلا في أمور دينهم ومما يكون عليه أحوالهم في العبادة العلمية والعملية وفي عمل القلب وعمل الجوارح.
فيكون إذن جَمْع السبل في قوله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) المقصود بها تفاصيل السبل وهي كلها سبيل واحد وصراط واحد دلّ عليه قوله ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ?[ الفاتحة:6]، ودل عليه قوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) ودل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» ودلَّ عليه أيضا قول الله جل وعلا ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا?[الأحزاب:21]، ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله إذ قال في تقرير هذا:
فلواحد كن واحدا في واحد أعني سبيل الحق والإيمان
(فلواحد) يعني لله المقصود والمعبود له وحده جل وعلا قصدا وإرادة وتوجيها ورغبا ورهبا, (لواحد) جل جلاله وتقدست أسماؤه، (كن واحدا) أنت في قصده وإرادتك وتوجِّه قلبك لا تتشعب عليك الأوهام في قلبك ولا في سلوكك؛ بل (كن واحدا) أنت, (في واحد) يعني في سبيل واحد، قال بعدها (أعني سبيل الحق والإيمان) وهو سبيل السلف الصالح.
وهذا مما يعد على كثير من الناس أن يضبط قلبه عليه، أو أن يُلزم نفسه به فإنه في الأول فلواحد قد يقصد الله جل وعلا بعلمه، وقد يأتي مرة أخرى ويقصد غير الله جل و علا إما الجاه وإما الدنيا وإما رؤية الناس ونحو ذلك من الرياء والسمعة، وقلَّ من يسلم من أنواع الشرك الخفي.(35/45)
قال(كن واحدا) يعني أنت لا تتشعَّب في قصدك وإرادتك، فاجمع قلبك وإرادتك -هي التي يسميها أهل السلوك الجمعية على الله جل وعلا- فاجمع قلبك وإرادتك في الله جل وعلا، ولا تلتفت عنه جل وعلا في قصدك وإرادتك إلى غيره واجعل الأمور التي معك وسائل لجمع قبلك على الله جل وعلا.
(في واحد) وهذا الابتلاء الثالث أنه ليس ثَم إلا سبيل واحد، وهذه صعبة إلا من وفقه الله جل وعلا، فكم من الناس أكثر من سبيل، في سبيل هنا وفي سبيل هناك إما من جهة الإتباع، وإما من جهة المنهج أو من جعة الاستقامة أو من جهة الاعتقاد ونحو ذلك:
فإن تنجو منها تنجو من ذي عظيمة وإلا فإنني لا إخالك ناجيا(35/46)
قال رضي الله عنه هنا(عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة ذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسَّه النار)، يريد بذلك أنَّ الفضائل التي جاءت في الأحاديث إنما يحظى بها من كان على السبيل والسنة، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «عينان لا تمسهما النار. عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرص في سبيل الله» فبين رضي الله عنه هنا([3]) أنه إنما يحظى بهذا الفضل من كان على السبيل والسنة قال (فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة ذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسَّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذَكَرَ الرحمن فاقشعر جلدُه من خشية الله إلا كان مَثَلُه كمثل شجرة يبس ورقُها) إلى آخره؛ يعني أن الذنوب تحاتت عنه، وهذا كما جاء في الحديث «لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها معفرة» فإن هذا فضل الذكر، وأنه من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. في يوم مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر, ومن قال: سبحان الله وبحمده... إلى آخر ما ورد في الأذكار, إذا ذكر الله جل وعلا بأنواع الأذكار من الأحق بالفضل العظيم الذي جاء فيها وهو الموعود به؟ هو من كان على سبيل وسنة، قال(ليس من عبدٍ على سبيل وسنة ذَكَر الرحمن...) إلى آخره؛ فإن هذا يدل على عظم شأن التزام المنهج الذي خص الله جل وعلا به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه جل وعلا جعل لكل نبي شِرعة ومنهاجا، والمنهج الذي خُص به عليه الصلاة السلام هو السبيل والسنة وهو الذي كان عليه صحابته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأتباع الصحابة وتابعوهم إلى يوم الدين.(35/47)
ولهذا لما اشتبهت الطرق واختلفت السبل وتنوَّعت الآراء والأفهام والأهواء من قديم، كان الناجي من رجع ببصره وبصيرته وقلبه إلى ما قبل حدوث تلك الفرق والأهواء، وهو الزمن الذي أجمع فيه المسلمون على العقيدة وعلى السبيل والسنة؛ وهو زمن الصحابة رضوان الله عليهم قبل حدوث الاختلاف، فإن الصحابة رضوان الله عليهم ليس فيهم من ابتدع بدعة، وليس فيهم من أحدث حدثا؛ بل إن من أحدث الحدث وابتدع البدع من أتى بعدهم، وإنما هم نجَّاهم الله جل وعلا فكانوا نجوما يهتدى بها.
لهذا نقول لك: إنَّ من الأمور المهمة التي تقرر فيها مثل هذا أن يحرص المؤمن على النجاة، فإنه ما استقام ولا جاهد نفسه، ولا ترك ما ترك من الشبهات والشهوات والرغبات واللذات فهي هذه الدنيا إلا وهو يريد وجه الله جل وعلا إلا وهو يريد النجاة إلا وهو يريد السلامة، فإذا كان يريد ذلك فليأخذ بالطريق المضمون وهو التزام السبيل والسنة؛ لأنها غير هذا الطريق من طرق الأهواء.
والسبيل والسنة هي الجماعة، ما هو السبيل والسنة؟ هو ما كانت عليه الجماعة، بهذا قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال:«هي الجماعة».
وقد سئل الإمام أحمد وجماعة أهل العلم سئلوا: من هي الجماعة قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ يعني أن أهل الحديث يعني زمنه هم أحق الناس بهذا الوصف؛ لأنهم لزموا ما كان عليه الصحابة قبل الاختلاف، ولزموا الأثر، ولم يأتوا بأصول ولا اجتهادات في الدين في العقيدة لا في أصول الشريعة ولا في التلقي والدليل؛ بل كانوا متبعين غير مبتدعين، لهذا قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم.
و الإمام الترمذي رحمه الله لما ذكر هذا الحديث, قال: الجماعة هم أهل العلم.
والعلم المحمود هو:
قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان(35/48)
العلم المحمود هو العلم النافع الذي يخالف الرأي؛ بل هو العلم الذي يكون مستندا على دليل وأثر.
وإذا كان كذلك فإنه يريد بهم من كان على هذا النهج، ولهذا أجمع العلماء على أن أئمة الإسلام يهتدى بهم؛ أعني أئمة أهل الحديث كمالك والشافعي وأحمد والبخاري رحمه الله وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة كالأوزاعي ونحوهم ونعيم والدارِمي ومن نحا ونحوهم ومن كتبوا عقيدة المسلمين ودونوها فأخذها العلماء من بعدهم.
والسبيل والسنة كما أنه يكون في المسائل العلمية فإنه يكون في المسائل العملية، فالبدع بأنواعها مبطلة؛ لأنها لم تكن على السبيل بالنسبة.
وكل صاحب بدعة أحدثها فيقال له: هل كان عليها الناس في زمن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هل كان عليها الناس في زمن الصحابة؟ فإنه سيجيب جزما لا، لكن سيقول: ولكن كذا وكذا. إذا لم يكن عليها الناس في ذلك الزمن، فنعلم أنها ليست على السبيل والسنة.
وتذكرون أن مما ذُكر في قصة اندلاع المحنة في زمن؛ أعني بعد زمن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، في الفتنة بخلق القرآن لما أتى أحد العلماء يناظر عند الخليفة المتوكل لما أتى يناظره -المتوكل أو الواثق- يناظر الداعية إلى البدعة إلى القول بخلق القرآن قال له يريد المناظرة،
قال له: أبدأ أو تبدأ؟
فقال له المبتدع: ابدأ أنت.
فقال: هذا الذي تدعو الناس إليه هل دعا إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس وابتلى الناس به؟
فقال المبتدع: أقلني. فأقاله.
ثم قال له: ارجع على السؤال –اشتبهت علي القصة بعض الشيء؛ لكن هذا مختصر سياقها- قال: هذا الذي تدعو الناس إليه هل دعا إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه؟ ثم قال: هل دعا إليه عمر ؟ ثم قال: هل دعا إليه عثمان؟ ثم قال: هل دعا إليه علي؟ رضي الله عنهم، ثم قال: هل دعا إليه الصحابة ؟
فكان الجواب: أنهم لم يدعوا إلى هذا.(35/49)
فقال هذا العالم للخليفة في زمنه قال: شيء لم يدع إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا صحابته، تدعو أنت الناس إليه؟
فلم يزل يردد هذه الكلمات حتى أمر برفع الفتنة؛ إلزام الناس بالقول بخلق القرآن وابتلائهم بذلك.
المقصود من هذا: أن هذا الأصل عظيم، ويُحرج كل من سلك سبيلا من سبل البدع في المسائل العلمية أو في المسائل العملية، هل كان عليه الزمن الأول؟ فإذا قال: لا، فيقال لسنا بحاجة إليه دعْنا مع ما كان عليه الناس في الزمن الأول فإنه كافٍ.
قال رضي الله عنه بعدها (وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة) وذلك:
¨ أنَّ الله جل وعلا يبارك في قليل العمل إذا كان على سبيل وسنة، إذا كان على وفق السنة فإن الله يحب العمل ويحب صاحبه ويثيبه ويبارك له وينمِّي له عمله.
¨ وأما إذا كان على غير سبيل وسنة فإنها حينئذ تكون محدثات وبدع، فيؤاخذ عليها ويكون عاصيا لله جل وعلا بها ومتبعا غير سبيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومتبعا غير سبيل المؤمنين، فيكون مهما عمل من الأعمال الكبيرة فإنها على غير هدى، والله جل وعلا لا يأجره على ما أفسد فيه، وإنما يأجر من أصاب في عمله.
وهذا منه رضي الله عنه دليل عظيم على وجوب التحري؛ تحري السنة في الأعمال، وعلى وجوب معرفة العلم بأنواعه في مسائل التوحيد وفي مسائل العمل؛ لأنه ما ضل من ضل في هذه الأمة إلا باتباعه غير السبيل والسنة في مسائل العقيدة وفي مسائل العمل.(35/50)
ومراد الإمام المصلح رحمه الله بإيراد هذا الأثر واختياره له في هذا الباب: أنَّ الإسلام الصحيح وهو السبيل في السنة والالتزام بما كان عليه السلف الصالح، والإسلام الذي هو في القرآن والسنة وكان عليه الصحابة أن الالتزام بذلك يبارك الله جل وعلا في العمل وإن كان قليلا، ويضاعف له العمل وإن كان قليلا، بهذا يضاعف الله جل وعلا الحسنة للمسلم بعشر أضعافها إلى سبعمائة ضعف؛ يعني إلى عشرين ضعفا وثلاثين ضعفا إلى مائة ضعف إلى مائتين إلى سبعمائة ضعف، أيضا إلى أضعاف كثيرة، قال العلماء: اختلف التضعيف في العمل باختلاف صواب العمل ويقين صاحبه في عقيدته. فإنه كلما كان أتبع ظاهرا وباطنا كلما كان التضعيف أكثر، فلا يستوي من اقتصد في سنة مع من خالف وأتى بعبادات كثيرة وجهاد عظيم لكنه على غير سبيل وسنة؛ لأن السبيل والسنة بها يضاعف الله جل وعلا أجور الأعمال إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فربما ترى هذا وهذا، هذا يعمل عملا قليلا وذاك يعمل عملا كثيرا؛ ولكن من عمل العمل القليل أعظم عند الله جل وعلا ممن عمل العمل الكثير؛ لأن ذلك صاحبه إخلاص ويقين وسنة وحسن قصد ورغب ورهب إلى آخر ما يضاعف الله جل وعلا به الأجور.
وقد سئل أبو بكر بن عياش شعبة القارئ المعروف عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه.
الصحابة هل هم مثل من بعدهم؟ أتى من بعدهم من هو متعبد عبادات كثيرة وعظيمة؛ لكن تختلف المنزلة عند الله؛ لأن التضعيف مختلف بأن ما في القلب يختلف، ولأن صواب العمل في ظاهره مختلف.
وقد سئل الحسن البصري رضي الله عنه أيضا وهو الزاهد العالم المعروف لم كان الصحابة أفضل مع أنَّ من التابعين من هم أكثر منهم عبادة؟ فقال رحمه الله: أولئك تعبدوا والآخرة في قلوبهم, وهؤلاء تعبدوا والدنيا في قلوبهم.(35/51)
وهذا صحيح، فإن الله جل وعلا لم يبتل الناس بكثرة العمل ولكن ابتلاهم بحسنه ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?([4]) صلاة الفجر ركعتان لكنها أفضل من صلاة الظهر، وهكذا فإن قلة العمل لا يدل على كونه مقبولا؛ بل قد يكون العمل القليل من صاحبه أعظم من العمل الكثير، وهذا هو الذي عليه قوله هنا (وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة).
قال بعدها (وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟ ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين). أبو الدرداء رضي الله عنه كان حكيم هذه الأمة، وكان كثير التفكر، كما قالت أم الدرداء عنه: كانت أكثر عبادة أبي الدرداء التفكر. والتفكر أمر عظيم لأنه يحدث في القلب والوجل والعلم واليقين، وهذه كلها عبادات مرضية عند الله جل وعلا، ومن تأمله وتفكره في ملكوت الله وفي الإسلام وثواب الأعمال والاستقامة على الكتاب والسنة أن قال (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟) يعني أنه يقول: إن العبد قد يكون ينام في الليل ويُفطر في النهار؛ يعني ليس يكثر صيام نفل ولا يكثر صلاة ليل؛ بل يستمتع بالليل نوما ويستمتع بالنهار إفطارا, فيما كتب الله جل وعلا له من النوافل، ولا يشق على نفسه في أنه مثلا يصوم يوما ويفطر يوما, بل يكفي أن يصوم مثلا ثلاثة أيام من كل شهر أو كل الاثنين والخميس أو علا ما جاء، وفي الليل يأخذ القليل ولا يطيل لكنه مع ذلك معه تقوى -خوف من الله جل وعلا-، ومعه يقين؛ إيمان صادق قوي كامل والتزام وعقيدة صحيحة متيقَّنة لا شبهة فيها ولا شك، قال: إن هذا أفضل ممن يأتي بأمثال الجبال عبادة ولكنه من المغترين بكثرة عبادته بأنواع العبادة، أو المغترين بجهاده أو بأمره بالمعروف أو بنهيه عن المنكر، ومعتزين ببذله أو بدعوته أو بحركته أو إلى(35/52)
آخره؛ لكنه ليس على سبيل وسنة، فإنه فاق الأول هذا الآخر، ولهذا قال (ولمثقال ذرة) يعني أقل القليل (من بر) يعني من عمل صالح متيقن على سبيل وسنة (مع تقوى) مع خوف من الله جل وعلا بأن الله جل وعلا يقول في وصف عباده وخاصة عباده ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ?[المؤمنون:60]، أثنى عليهم بذلك، يُعطون، يصلون القليل أو الكثير بحسب ما كتب الله لهم, يتصدقون, يدعون، يأمرون بالمعروف, ينهون عن المنكر, ينصحون؛ لكن قلوبهم وجلة أنهم إليه جل وعلا راجعون.
(مع تقوى ويقين)، اليقين: هو الصدق في الاعتقاد والصواب فيه، والقوة في الإيمان وعدم التردد والشبهة فيه.
قال (مثقال ذرة من بر) مع هذين الشطرين الخوف واليقين (أعظم وأفضل) شُوف (أعظم) أولا (أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين) وهذه الكلمة من فقه العظيم رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا كان طريق الصحابة رضوان الله عليهم على هذا.
لهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بأنه يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فليست العبرة بكثرة العبادة أو بكثرة الجهاد أو بكثرة كذا وكذا، أو بكثرة الدعوى, العبرة: هل هذا موافق للسبيل والسنة أم ليس بموافق؟ فإن كان غير موافق فإنه ولو كان أمثال الجبال فإنه لا نفع فيه، أو أن غيره أنفع منه.
هذا الأثر رواه الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم في حلية الأولياء بإسناد لا بأس به.
ويظهر بهذا فضل الإسلام الصحيح، وفضل السبيل والسنة، وفضل متابعة الجماعة الأولى، وأن أصحاب ذلك إذا التزموا فإن الله جل وعلا يبارك لهم في قليل أعمالهم ويُنميها لهم، ويكون عملهم أعظم وأرجح وأفضل ممن يكثر، ولكنه على غير السبيل.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
باب وجوب الدخول في الإسلام(35/53)
وقول الله تعالى ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85].
وقوله تعالى ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ?[آل عمران:19].
وقوله الله تعالى:?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ?[الأنعام:153]الآية. قال مجاهد: السبل: البدع والشبهات.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجاه، وفي لفظ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
وللبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قيل: مَنْ أَبَى؟ قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».
وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ» رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قوله (سنة الجاهلية): يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة، أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنية، أو غيرهما من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.
وفي الصحيح عن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإنْ استقمتم فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(35/54)
وعن محمد بن وضَّاح: أنه كان يدخل المسجد فيقف على الحِلَق فيقول: فذكره، وقال: أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود - رضي الله عنه -: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير؛ لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم).
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا بما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
اللهم هب لنا من لدنك سلطانا نصيرا، وهيئ لنا من أمرنا رشدا إنك راحم ودود.
وبعد:
فهذا هو الباب الثاني في كتاب فضل الإسلام للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى رحمة واسعة، قال فيه (باب وجوب الدخول في الإسلام) بعد أن بيّن رحمه الله في الباب الأول فضل الإسلام وما يحظى به أهله الذين التزموا به بمعناه العام والتزموا بأفراده واستقاموا على ذلك من الفضل العظيم في هذه الدنيا وفي الآخرة، بيّن أن هذا الإسلام الذي ذاك فضله ليس الدخول فيه اختياريا؛ بل يجب الدخول في الإسلام، وتارة إذا ذُكرت الفضائل فإنه قد يُظن أن المرء في خيرة من أمره؛ هل يدخل أو لا يدخل؟ هل يعمل أو لا يعمل؟ لأن ذكر الفضائل قد يُظن معه أن المسألة اختيارية.
والإسلام ليس الدخول فيه اختياريا، وإنما الفضل الذي سبق ذكره لا ينافي وجوب الدخول فيه، بل الإسلام واجب التزامه وواجب الدخول فيه، سواء أكان ذلك الدخول في الإسلام من ملل الكفر والوثنيات، أم الدخول في الإسلام كافة؛ أي في الدخول في جميع شرائع الإسلام وعقائد الإسلام على وجه التفصيل، فإن ذلك واجب، كما أن الدخول في أصله واجب فإن التزام فروعه واجب على العباد على التفصيل المذكور في كلام أهل العلم الوارد في النصوص.(35/55)
لهذا قال هنا (باب وجوب الدخول في الإسلام) والإسلام الذي يجب الدخول فيه هنا هو شريعة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، والنصوص يطلق فيها الإسلام ويراد به تارة الإسلام العام الذي يشمل دين جميع المرسلين؛ لأن كل نبي وكل رسول إنما جاء بدين الإسلام، وهذا هو الإسلام العام الذي لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما بهذا الإسلام العام، فأتباع نوح عليه السلام كانوا مسلمين الإسلام العام وإن كانت شريعتهم هي شريعة نوح عليه السلام، وأتباع إبراهيم عليه السلام هم على الإسلام العام؛ التوحيد والحنيفية وإن كانت الشرائع مختلفة، وكذلك دين موسى عليه السلام, ودين عيسى عليه السلام، كل ذلك كان على الإسلام العام وإن كانت الشرائع مختلفة، لهذا قال الله جل وعلا?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]؛ يعني لكل نبي جعل الله شرعة ومنهاجا؛ ولكن الدين واحد, وقد ثبت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال «الأنبياء إخوة لعَلاَّت الدين واحد والشرائع شتى» فدين كل نبي الإسلام، لم يأت نبي بغير دين الإسلام، ولهذا لا يصح أن يقال: إنه جاء من عند الله جل وعلا أديان مختلفة وديانات متعددة. فقول من يقول الديانات السماوية، هذا باطل، وقول من يقول: الديانات الإلهية. هذا باطل في الشرع؛ لأن الدين واحد، والله جل وعلا لم يأت من عنده إلا دين واحد وهو الإسلام، ولا يرضى عنده إلا الإسلام، فليس ثَم ديانات سماوية، وإنما هو دين واحد يجب على كل البشر قبل محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وبعده أن يدخلوا في الإسلام؛ لأن الله جل وعلا لا يرضى دينا إلا الإسلام، فقوله مثلا ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ?[آل عمران:19]، هذا عام يشمل جميع الأزمنة وجميع الفترات من لدن خلق الخليقة إلى أن يرث المخلوقات جل وعلا، فلا يقبل من أحد دينا إلا دين الإسلام.
ولهذا نقول: إن الإسلام يُطلق في النصوص ويراد به:(35/56)
¨ تارة الإسلام العام: وهو الدين الذي اجتمعت عليه المرسلون ورضيه الله جل وعلا لكل رسول.
¨ والثاني الإسلام الخاص: وهو الإسلام الذي بعث به محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهو الإسلام عقيدة وشريعة، أو الإسلام بمعناه وشرائعه وعقيدته التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام.
فالذي يشمل جميع ما جاءت به الرسل من الإسلام هو ما اجتمعت عليه في تفسير الإسلام والدعوة إليه، والعلماء جمعوا ذلك في عبارة عرَّفوا بها الإسلام كما ذكرها ابن جرير الطبري في التفسير، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان وفي غيره، وأيضا ذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وجماعة:
وهو أن الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
وهذه الجملة تنطبق على ديانة كل رسول؛ لأنها مشتملة:
أولا على التوحيد, الاستسلام لله بالتوحيد، أي أن الشرك باطل في كل ملة.
ثم الانقياد لله جل وعلا بالطاعة وترك اتباع الهوى في الأوامر والنواهي، والطاعة هنا تندرج في طاعة كل رسول خُوطب العبد بأن يتبعه بحسب الزمان والمكان.
والبراءة من الشرك وأهله، هذه فيها الكفر بالطاغوت، وبُغض الشرك، وبُغض أهل الشرك لما هم عليه من عبادة غير الله جل وعلا، كما قال جل وعلا ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36].
هذا يعم جميع المرسلين في الإتيان بالتوحيد والاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، فكل رسول أمر أن يعبد الله وحده لا شريك له.
والجملة الثانية وهي الانقياد له بالطاعة فيدل عليها الله جل وعلا ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[النساء:64].(35/57)
والجملة الثالثة وهي قوله والبراءة من الشرك وأهله هذه يدل عليها قوله تعالى ? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الممتحنة:4]الآية, قوله (فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني من المرسلين من كانوا على دينه الحنيفية دين الإسلام، (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ) يعني لأقوامهم، وهذا دليل على الجملة الثالثة من تعريف الإسلام العام.
وأعظم من خُصَّ بكمال هذه الجمل الثلاث هو محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وما مَنَّ الله عليه من الرسالة، فالإسلام الخاص له من هذه الثلاث أكمل ما أمر به نبي.
فمن جهة الاستسلام لله بالتوحيد فهذا أكمل ما جاء في دين محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ والانقياد للرسول بالطاعة أكمل ما جاء في دين محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
والبراءة من الشرك وأهله أكمل ما جاء في دين محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فصار له عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ من الأمر بهذا الإسلام أعظم ما لغيره من الأنبياء عليهم سلام الله أجمعين.
لهذا يدخل في قوله هنا (باب وجوب الدخول في الإسلام) يعني هذا الإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد فهذا واجب الدخول فيه، وأن يستسلم المرء لله جل وعلا بالتوحيد، وأن يترك البدع الشركية والمحدثات الوثنية وكل عقيدة فيها شرك وفيها كفر وفيها ضلال من جهة التشريك سواء أكان أكبر أم أصغر، هذا كله واجب للدخول في التوحيد وللاستسلام لله جل وعلا به؛ يعني بالتوحيد بجميع أنواعه -توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات-، والحذر من ضده والبعد عنه وهو الشرك بأنواعه.
كذلك الانقياد للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطاعة، كذلك البراءة من الشرك وأهله كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(35/58)
إذن مراد المؤلف هنا في قوله (باب وجوب الدخول في الإسلام) أنه يجب على الناس أن يدخلوا في الإسلام.
والإسلام هذا الذي يجب الدخول فيه كما ذكرنا لك صنفان: عقيدة وشريعة، وإذا كان كذلك فمسائل الإسلام متنوعة متعددة، كما قال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[البقرة:208]، يعني أدخلوا في الإسلام كله، وهذا يدل على وجوب الدخول في كل الإسلام وعدم التفريق بين أمر وأمر فيه من جهة قبوله واعتقاده.
إذا تبين هذا، فهذا الوجوب في قوله (وجوب الدخول في الإسلام) نوعان:
وجوب تركه كفر: لأن الإسلام منه ما إذا تُرك فهو كفر، كترك التوحيد أو أهل الشرك الأكبر، أو نحو ذلك من المكفرات.
والثاني وجوب تركه محرم على العبد: وهذا المحرم يكون: تارة يكون كبيرة وتارة يكون صغيرة. لهذا فكل عقيدة أو شريعة وكل أمر سواء أكان أمرا علميا أو أمرا عمليا، ويقابله النهي، واجب على العباد الدخول فيه، فمن تركه ترك الواجب، وهذا الترك قد يكون كفرا، وقد يكون محرما، وليس بكفر، بحسب نوع ما ترك من العقائد والشرائع.
قال رحمه الله تعالى(وقول الله تعالى ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]. وقوله تعالى: ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ?[آل عمران:19]).
(الدِّين) مرَّ معنا تفسير وهو أن الدِّين مأخوذ في اللغة من قولهم: دان بكذا؛ أي التزم به، ودَيْدَنُ المرء كذا إذا كان يتعاهد هذا الشيء ويلتزم به ويكون عادةً له، فبين العادة وبين الدين تلازم، وسبق أن ذكرته لكم في الباب الذي قبله.(35/59)
فإذن في قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً) يعني أن يجعل طاعته وعادته التي يتقرَّب بها في غير الإسلام فإن ذلك لن يقبل منه سواء أكان ذلك في أمور العقائد أم في أمور الشرائع, سواء أكان ذلك في الأمور العلمية أم في الأمور العملية, فإذا كان ثم التزام بشيء يتقرب به إلى الله فهذا صار دينا له، فيدخل حينئذ في عموم هذه مسائل العقيدة والتوحيد ويدخل فيه أيضا مسائل البدع العملية؛ لأن صاحب البدعة العملية قد اتخذ دينا التزمه؛ التزم دينا وجعل له عادة يتعبد بها، فإذا كانت ليست من الإسلام فإنها تدخل في عموم هذه الآية.
قال جل وعلا في سورة الشورى ? أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ?[الشورى:21] والدين في هذه الآية يدخل فيه المحدثات والبدع التي كما استدل بها أهل العلم يعني بالآية على رد المحدثات والبدع.
فإذن هذه الآية وهي قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) يدخل في الإسلام أو يُعنى بالإسلام الإسلام المعروف وهو دين الإسلام أصلا كأن يدين بدين اليهودية([5]) أو النصرانية بعد رسالة محمد عليه الصلاة والسلام أو يدين بدين البوذية أو بأي دين يتقرب به إلى الله جل وعلا، فهذا كله باطل وهو في الآخرة من الخاسرين، وأيضا يشمل بعموم لفظها أنه من ابتغى دينا يتدين به ويتقرب به إلى الله جل وعلا وهو ليس بالإسلام الذي جاء به محمدٌ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فإنه أيضا لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
وقوله (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الخسارة هنا بحسبها:
¨ قد تكون خسارة كبرى بأن يخسر الجنة ويدخل النار ويكون من المخلدين فيها.
¨ وقد تكون خسارة صغرى بأن يخسر الدخول في الجنة والسلامة من العذاب مطلقا؛ ولكن يعذب بقدر ما عنده من المخالفة إن لم يغفر الله جل وعلا له و يتجاوز.(35/60)
فإذن قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) هذا فيها شرط وجزاء، إذا ابتغى أحد غير الإسلام فإنه لن يقبل منه مهما كان تعبده، وليس الشأن في ذلك أن يكون متعبدا, باكيا, خاشعا, فإن الشأن هو في اتباع الطريق, في اتباع السبيل دون نظر إلى تعبد الشخص؛ تعبد الإنسان، لهذا وصف الله جل وعلا طائفة بأنهم يعملون ويتعبون ولكنهم في النار قال جل وعلا ?عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ?[الغاشية:3-8]، فهم عاملون و ناصبون ويتعبون ويعملون, ويتعبدون وربما بَكَوا من خشية الله, وربما أكثروا تخليص النفس من الشوائب؛ لكنهم كما وصف الله جل وعلا أنهم يصلون نارا حامية، وذلك لأن الشأن ليس هو في عمل العبد؛ ولكن الشأن هو في أن يكون عمله على وفق ما أمر الله جل وعلا به، فإذا ابتغى غير الإسلام دينا, ابتغى النصرانية, ولو كان فيها راهبا متعبدا خاشعا لكنه لم يبتغِ الإسلام ولم يستسلم لله بالتوحيد وابتغى غير ذلك فهو في الآخرة من الخاسرين المخلدين في النار ولن يقبل منه ذلك.
وهكذا أيضا في المعنى الأخص وهو من ابتغى عملا ليس هو من الأعمال التي أمر الله جل وعلا بها وجاءت بها السنة مثل المحدثات المختلفة والعقائد المتنوعة التي أُحدثت في هذه الأمة؛ عقائد المرجئة, عقائد الخوارج, عقائد القدرية, عقائد المعتزلة, الجهمية, الأشاعرة... إلى آخره، فهم يظنون أنهم محسنون وأنهم أكثر تنزيها؛ ولكن هل هذا عليه الدليل؟ هل هذا عليه نص الشرع؟ هل هذا هو الإسلام الذي جاء في النصوص؟ إذا لم يكن كذلك فإن من ابتغاه ولو رام ما رام تنزيها فإنه لن يقبل منه وسيخسر بحسب ما فعل.(35/61)
وكذلك أهل التعبدات المختلفة من الصوفية ونحوهم فإنهم وإن لبسوا الصوف وتبتلوا, وخرجوا وتعبدوا وأخذوا أنفسهم بالرياضات المختلفة لتصفو النفس وكثر تعلقهم بالله جل وعلا وتجردهم من الدنيا؛ لكنهم لما لم يكونوا على الإسلام الذي جاء به محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ولم يكن لهم فيما يفعلون أدلة فإنه لن يقبل منهم ذلك.
وكذلك أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهل الغيرة، إذا لم يكونوا على السبيل فإنه لن يقبل منهم ذلك, فالخوارج ما خرجت إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبسبب غلوهم فيه قتلوا عثمان رضي الله عنه.
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحا وقرآنا
حتى إن الذي قتل عليا رضي الله عنه وهو عبد الرحمن بن ملجم كان قتله تقربا من الله جل وعلا، لما أرادوا قتله قصاصا يعني قتل عبد الرحمن بن الملجم قصاصا قال: لا تباغتوني القتل -يعني مرة واحدة-؛ لكن قطِّعوا أطرافي شيئا فشيئا حتى أنظر إلى تعذيبي في الله جل وعلا. وقال فيه عمران بن حطان يمدحه لما هو عليه من الصلابة -كما يزعمون- في الدين قال في وصفه في أبيات معروفة وهي أبيات ضلال والعياذ بالله قال في مدح عبد الرحمن بن الملجم:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحتسبه لأوفى البرية عند الله ميزانا
وهذا سلكه أيضا طائفة من المعتزلة فغلوا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أدخلوا فيه الخروج عن الحكام وعلى الولاة.(35/62)
ولازالت الأمة منذ ظهور الخوارج إلى وقتنا الحاضر وهم يبتلون بمن يغلو في هذا الباب، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في عقيدته الواسطية فيما تميز به أهل السنة من الوسطية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال في وصفهم: هُم مَعَ هذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ. لأن هناك من الطوائف من أمرت ونهت على غير ما أوجبته الشريعة وإنما على نحو ما أملته عليه أهواؤهم.
المقصود من ذلك أن ابتغاء غير الإسلام دينا هذا يدخل فيه كل من ابتغى غير ما جاءت به الشريعة ودل عليه الدليل، وإذا كان كذلك فواجب إذن على المكلف أن يدخل في الإسلام وأن لا يدخل في فعل من الأفعال بأمر إلا وقد تبينت له حجته وخاصة وسائل العقائد ومسائل العمل والمنهج؛ لأن هذه هي التي تميز وليس فيها اجتهاد فيها؛ ولكن الاجتهاد يحصل في الأمور الفرعية كما هو معلوم، أما ما قعَّده أئمة أهل السنة والجماعة في كتب العقائد وبينوا فيه من سمات وصفات أهل السنة فإن ذلك ليس مجالا للاجتهاد بل واجب الإلزام به.
قال (وقوله تعالى ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ?[آل عمران:19]) وهذا ظاهر وهو في معنى الآية التي قبلها, الدِّين الذي يقبله الله جل وعلا هو الإسلام فقط، وأما غير الإسلام الذي عليه الدليل فإنه لا يقبله الله جل وعلا وليس دينا عنده، وإن كان العبد عده دينا.(35/63)
قال (وقول الله تعالى ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153] الآية، قال مجاهد: السبل: البدع والشبهات) هذه الآية فيها الدليل على أنَّ صراط الله جل وعلا واحد, قال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ)، ووجه الدلالة على الآية على الباب أن الله جل وعلا أمر بإتباع هذا الصراط بعد أن بيَّنه قال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) والإشارة (وَأَنَّ هَذَا)، هذه إشارة إلى أمر واضح بيّن يُعرَّف به لأن التعريف؛ تعريف الشيء يحتاج إلى عبارة تدل عليه، كأن إذا قيل عرف مثلا ما هو الهوى؟ يحتاج إلى عبارة تدل عليه, ما هو مثلا اللحم؟ ما هو الإنسان؟ ما هي الطائرة؟ ...إلى آخره، فالعبارة تعرف به، وأقصر تعبير باتفاق العقلاء يعرِّف بالشيء ويوضحه بحيث لا يلتبس أن يكون بيِّنا أمامك فتشير إليه، فإذا قيل مثلا ما الرسالة؟ فرفعت هذه، ما الظرف؟ إذا قيل ظرف فيه ورقة, إذا قيل هذا تُصور فصار واضحا، هذا؛ لأنه بين, أما إذا وصف بالعبارة فيحتاج إلى بيان كثير.
وهنا الله جل وعلا أشار إلى هذا الطريق الواضح فقال (وَأَنَّ هَذَا)، وهي إشارة إلى شيء يشاهد؛ يشاهده الناس, يشاهده الصحابة, يشاهده من كان في ذاك الزمان وفي كل زمان، (وَأَنَّ هَذَا) الإشارة إلى السبيل والسنة وما في القرآن والسنة دون غيرها, (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) إذن الإشارة لما كان في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان عليه هديُه، وكل ما لم يدخل في هذه الإشارة فيمكن أن تقول إنه خارج على الصراط المستقيم.(35/64)